[المجلس الأول في فضل شهر رمضَان]
صفحة 1 من اصل 1
[المجلس الأول في فضل شهر رمضَان]
[المجلس الأول في فضل شهر رمضَان]
الحمدُ للهِ الذي أنشأَ وبَرَا، وخلقَ الماءَ والثَّرى، وأبْدَعَ كلَّ شَيْء وذَرَا، لا يَغيب عن بصرِه صغيرُ النَّمْل في الليل إِذَا سَرى، ولا يَعْزُبُ عن علمه مثقالُ ذرةٍ في الأرض ولاَ في السَّماء، {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى - وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى - اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} خَلَقَ آدَمَ فابتلاه ثم اجْتَبَاهُ فتاب عليه وهَدَى، وبَعَثَ نُوحاً فصنَع الفُلْك بأمر الله وجَرَى، وَنَجَّى الخَليلَ من النَّارِ فصار حَرُّها بَرْداً وسلاماً عليه، فاعتبِروا بِمَا جَرَى، وآتَى مُوسى تسعَ آياتٍ فَمَا ادَّكر فِرْعَوْنُ وما ارْعَوَى، وأيَّد عيسى بآياتٍ تَبْهَرُ الوَرى، وأنْزلَ الكتابَ على محمد فيه البيِّنات والهُدَى، أحْمَدُه على نعمه التي لا تَزَالُ تَتْرَى، وأصلِّي وأسَلِّم على نبيِّه محمدٍ المبْعُوثِ في أُمِ القُرَى، صلَّى الله عليه وعلى صاحِبِهِ في الْغارِ أبي بكرٍ بلا مِرَا، وعلى عُمَرَ الملهَم في رأيه فهُو بِنُورِ الله يَرَى , وعلى عثمان زوج ابنته ما كان حديثاً يُفْتَرَى، وعلى ابن عمِّهِ عليٍّ بَحْرِ العلومِ وأسَدِ الشَّرى، وعلى بَقيَةِ آله وأصحابِه الذين انتَشَرَ فضلُهُمْ في الوَرَىَ، وسَلَّمَ تسليماً.
إخواني: لقد أظَلَّنَا شهرٌ " كريم " وموسمٌ " عظيم "، يُعَظِّمُ اللهُ فيه الأجرَ ويُجْزلُ المواهبَ، ويَفْتَحُ أبوابَ الخيرِ فيه لكلِ راغب، شَهْرُ الخَيْراتِ والبركاتِ، شَهْرُ المِنَح والْهِبَات، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} شهرٌ " مَحْفُوفٌ " بالرحمةِ والمغفرة والعتقِ من النارِ, أوله رحمة
وأوْسطُه مغفرةٌ وآخِرُه عِتق من النار، اشْتَهَرت بفضله الأخبار، وتواترت فيه الآثار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جَاءَ رمضانُ فُتِّحت أبوابُ الجنَّةِ وغُلِّقت أبوابُ النار وصُفِّدت الشَّياطينُ» (1) وإنما تُفْتَّحُ أبوابُ الجنة في هذا الشهرِ لِكَثْرَةِ الأعمالِ الصَالِحَةِ وتَرْغِيباً للعَاملِينْ، وتُغَلَّقُ أبوابُ النار لقلَّة المعاصِي من أهل الإِيْمان، وتُصَفَّدُ الشياطينُ فتُغَلُّ فلا يَخْلُصونُ إلى ما يخلصون إليه في غيره.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أُعْطِيَتْ أمَّتِي خمسَ خِصَال في رمضانَ لم تُعْطَهُنَّ أمَّةٌ من الأمَم قَبْلَها: خُلُوف فِم الصائِم أطيبُ عند الله من ريح المسْك، وتستغفرُ لهم الملائكةُ حَتى يُفطروا، ويُزَيِّنُ الله كلَّ يوم جنته ويقول: يوشك عبادي الصالحون أن يُلْقُواْ عنهم المؤونة والأذى ويصيروا إليك، وتُصفَّد فيه مَرَدَة الشياطين فلا يخلُصون إلى ما كانوا يخلُصون إليه في غيرهِ، ويُغْفَرُ لهم في آخر ليلة "، قِيْلَ: يا رسول الله أهِيَ ليلةُ القَدْرِ؟ قال: " لاَ ولكنَّ العاملَ إِنما يُوَفَّى أجْرَهُ إذا قضى عَمَلَه» (2) .
إخواني:
هذه الخصالُ الخَمسُ ادّخَرَها الله لكم وخصَّكم بها مِنْ بين سائِر الأمم، ومنَّ بها عليكم ليُتمِّمَ بها عليكُمُ النِّعَمَ، وكم لله منْ نعم وفضائلَ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}
* الخَصْلَةُ الأولى: «أن خُلُوف فَمِ الصائِم أطيبُ عند الله مِنْ ريحِ المسك» (3) والخلوف بضم الخاءِ أوْ فَتْحَها تَغَيُّرُ رائحةِ الفَم عندَ خلو المعدة من
_________
(1) متفق عليه.
(2) رواه أحمد والبزار والبيهقي وأبو الشيخ في كتاب الثواب، وإسناده ضعيف جداً لكن لبعضه شواهد.
(3) رواه البخاري ومسلم بدون تخصيص بهذه الأمة.
الطعام، وهي رائحةٌ مسْتَكْرَهَةٌ عندَ النَّاس لَكِنَّها عندَ اللهِ أطيبُ من رائحَةِ المِسْك؛ لأنَها نَاشِئَةٌ عن عبادة الله وَطَاعَتهِ، وكُلُّ ما نَشَأَ عن عبادته وطاعتهِ فهو محبوبٌ عِنْدَه سُبحانه يعوِّض عنه صاحِبَه ما هو خيرٌ وأفْضَلُ وأطيبُ، ألا تَرَوْنَ إلى الشهيدِ الذي قُتِل في سبيلِ اللهِ يُريد أنْ تكونَ كَلِمةُ اللهِ هي الْعُلْيَا يأتي يوم الْقِيَامَةِ وَجرْحُه يَثْعُبُ دماً لَوْنُهَ لونُ الدَّم وريحُهُ ريحُ المسك؟ وفي الحَجِّ يُبَاهِي اللهُ الملائكة بأهْل المَوْقِفِ فيقولُ سبحانَه: «انْظُرُوا إلى عبادِي هؤلاء جاءوني شُعثا غُبرا» (1) وإنما كانَ الشَّعَث محبوباً إلى اللهِ في هذا الْمَوْطِنِ لأنه ناشئ عَن طاعةِ اللهِ باجتنابِ مَحْظُوراتِ الإِحْرام وترك التَّرَفُّهِ.
* الْخَصلة الثانيةُ: «أن الملائكةَ تستغفرُ لَهُمْ حَتَّى يُفْطروا» ، وَالملائِكةُ عباد مكرَمون عند اللهِ لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فهم جَديْرُون بأن يستجيبَ الله دُعاءَهم للصائمينَ حيث أذِنَ لهم به، وإنما أذن الله لهم بالاستغفارِ للصائمين مِنْ هذه الأُمَّةِ تَنْويهاً بشأنِهم، ورفْعَةً لِذِكْرِهِمْ، وَبَياناً لفَضيلةِ صَوْمهم، والاستغفارُ طلبُ الْمغفِرةِ، وهِي سَتْرُ الذنوب في الدُّنْيَا والاخِرَةِ والتجاوزُ عنها، وهي من أعْلىَ المطالبِ وأسمى الغايات، فكل بني آدم خطاءون مُسْرفونَ على أنفسِهمْ مُضْطَرُّونَ إلَى مغفرة اللهِ عَزَّ وَجَل.
الخَصْلَةُ الثالثةُ: «أن الله يُزَيِّنُ كل يوم جنته ويقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى ويصيروا إليك» فيزين الله تعالى جنته كلَّ يومٍ تَهْيئَةً لعبادِهِ الصالحين وترغيبا في الوصولِ إليهَا، ويقولُ سبحانه: يوْشِك عبادِي الصالحون أنْ يُلْقُوا عَنْهُمُ المؤونةُ والأَذَى، يعني مؤونَة الدُّنْيَا وتَعَبها وأذاهَا، ويُشَمِّروا إلى الأعْمَالِ الصالحةِ الَّتِي فيها سعادتُهم في الدُّنْيَا والاخِرَةِ، والوصول إلى دار السلام والكرامة.
_________
(1) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه وهو صحيح بشواهده.
* الخَصْلَةُ الرابعة: «أن مَرَدةَ الشياطين يُصَفَّدون» (1) «بالسَّلاسِل والأغْلالِ» ، فلا يَصِلُون إِلى ما يُريدونَ من عبادِ اللهِ الصالِحِين من الإِضلاَلِ عن الحق والتَّثبِيطِ عن الخَيْر، وهَذَا مِنْ مَعُونةِ الله لهم أنْ حَبَسَ عنهم عَدُوَّهُمْ الَّذِي يَدْعو حزْبَه ليكونوا مِنْ أصحاب السَّعير، ولِذَلِكَ تَجدُ عنْدَ الصالِحِين من الرَّغْبةِ في الخَيْرِ والعُزُوْفِ عَن الشَّرِّ في هذا الشهرِ أكْثَرَ من غيره.
* الخَصْلَةُ الخامسةُ: «أن الله يغفرُ لأمةِ محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخرِ ليلةٍ منْ هذا الشهر» (2) إذا قَاموا بما يَنْبَغِي أن يقومُوا به في هذا الشهر المباركِ من الصيام والقيام تفضُّلاً منه سبحانه بتَوْفَيةِ أجورِهم عند انتهاء أعمالِهم، فإِن العاملَ يُوَفَّى أجْرَه عند انتهاءِ عمله) .
وَقَدْ تَفَضَّلَ سبحانه على عبادِهِ بهذا الأجْرِ مِنْ وجوهٍ ثلاثة:
* الوجه الأول: أنَّه شَرَع لهم من الأعْمال الصالحةِ ما يكون سبَبَاً لمغَفرةِ ذنوبهمْ ورفْعَةِ درجاتِهم، وَلَوْلاَ أنَّه شرع ذلك ما كان لَهُمْ أن يَتَعَبَّدُوا للهِ بها؛ إذ العبادةُ لا تُؤخذُ إِلاَّ من وحي الله على رُسُلِه، ولِذَلِكَ أنْكَرَ الله على مَنْ يُشَرِّعون مِنْ دُونِه، وجَعَلَ ذَلِكَ نَوْعاً مِنْ الشَّرْك فَقَالَ سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
* الوجه الثاني: أنَّه وفَّقَهم للعملِ الصالح وقد تَرَكَهُ كثيرٌ من النَّاسِ، وَلَوْلا مَعُونَةُ الله لَهُمْ وتَوْفِيْقُهُ ما قاموا به، فلِلَّهِ الفَضْلُ والمِنَّة بذلك.
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
_________
(1) رواه البخاري ومسلم بلفظ: صفدت الشياطين، وابن خزيمة بلفظ: الشياطين مردة الجن، وفي رواية للنسائي: مردة الشياطين. وكلهم من حديث أبي هريرة بدون تخصيص بهذه الأمة.
(2) روى نحوه البيهقي من حديث جابر، قال المنذري: وإسناده مقارب أصلح مما قبله يعني حديث أبي هريرة الذي في الأصل.
[الحجرات: 17] .
* الوجه الثالث: أنَّه تَفَضَّلَ بالأجرِ الكثيرِ، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعافٍ كثيرةٍ، فالْفَضلُ مِنَ الله بِالعَمَلِ والثَّوَابِ عليه، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
إخْوانِي:
بُلُوغُ رمضانَ نِعمةٌ كبيرةٌ عَلَى مَنْ بَلَغهُ وقَامَ بحَقِّه بالرِّجوع إلى ربه من مَعْصِيتهِ إلى طاعتِه، ومِنْ الْغَفْلةِ عنه إلى ذِكْرِهِ، ومِنَ الْبُعْدِ عنهُ إلى الإِنَابةِ إِلَيْهِ.
يَا ذَا الَّذِي مَا كفاهُ الذنبُ في رجبٍ ... حَتَّى عَصَى ربَّهُ في شهر شعبانِ
لَقَدْ أظلَّك شهرُ الصَّومِ بَعْدَهُمَا ... فَلاَ تُصَيِّرْهُ أَيْضاً شهرَ عصيانِ
وَاتْل القُرَان وَسَبِّحْ فيهِ مجتَهِداً ... فَإِنه شَهْرُ تسبِيحٍ وقرآنِ
كَمْ كنتَ تعرِف مَّمنْ صَام في سَلَفٍ ... مِنْ بين أهلٍ وجِيرانٍ وإخوانِ
أفناهمُ الموتُ واسْتبْقَاكَ بَعْدهمو ... حَيًّا فَمَا أقْرَبَ القاصِي من الدانِي
اللهُمَّ أيقِظْنا من رَقَدَات الغفلة، ووفْقنا للتَّزودِ من التَّقْوَى قَبْلَ النُّقْلة، وارزقْنَا اغْتِنَام الأوقاتِ في ذيِ المُهْلَة، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبِهِ أجمعين.
الحمدُ للهِ الذي أنشأَ وبَرَا، وخلقَ الماءَ والثَّرى، وأبْدَعَ كلَّ شَيْء وذَرَا، لا يَغيب عن بصرِه صغيرُ النَّمْل في الليل إِذَا سَرى، ولا يَعْزُبُ عن علمه مثقالُ ذرةٍ في الأرض ولاَ في السَّماء، {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى - وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى - اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} خَلَقَ آدَمَ فابتلاه ثم اجْتَبَاهُ فتاب عليه وهَدَى، وبَعَثَ نُوحاً فصنَع الفُلْك بأمر الله وجَرَى، وَنَجَّى الخَليلَ من النَّارِ فصار حَرُّها بَرْداً وسلاماً عليه، فاعتبِروا بِمَا جَرَى، وآتَى مُوسى تسعَ آياتٍ فَمَا ادَّكر فِرْعَوْنُ وما ارْعَوَى، وأيَّد عيسى بآياتٍ تَبْهَرُ الوَرى، وأنْزلَ الكتابَ على محمد فيه البيِّنات والهُدَى، أحْمَدُه على نعمه التي لا تَزَالُ تَتْرَى، وأصلِّي وأسَلِّم على نبيِّه محمدٍ المبْعُوثِ في أُمِ القُرَى، صلَّى الله عليه وعلى صاحِبِهِ في الْغارِ أبي بكرٍ بلا مِرَا، وعلى عُمَرَ الملهَم في رأيه فهُو بِنُورِ الله يَرَى , وعلى عثمان زوج ابنته ما كان حديثاً يُفْتَرَى، وعلى ابن عمِّهِ عليٍّ بَحْرِ العلومِ وأسَدِ الشَّرى، وعلى بَقيَةِ آله وأصحابِه الذين انتَشَرَ فضلُهُمْ في الوَرَىَ، وسَلَّمَ تسليماً.
إخواني: لقد أظَلَّنَا شهرٌ " كريم " وموسمٌ " عظيم "، يُعَظِّمُ اللهُ فيه الأجرَ ويُجْزلُ المواهبَ، ويَفْتَحُ أبوابَ الخيرِ فيه لكلِ راغب، شَهْرُ الخَيْراتِ والبركاتِ، شَهْرُ المِنَح والْهِبَات، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} شهرٌ " مَحْفُوفٌ " بالرحمةِ والمغفرة والعتقِ من النارِ, أوله رحمة
وأوْسطُه مغفرةٌ وآخِرُه عِتق من النار، اشْتَهَرت بفضله الأخبار، وتواترت فيه الآثار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جَاءَ رمضانُ فُتِّحت أبوابُ الجنَّةِ وغُلِّقت أبوابُ النار وصُفِّدت الشَّياطينُ» (1) وإنما تُفْتَّحُ أبوابُ الجنة في هذا الشهرِ لِكَثْرَةِ الأعمالِ الصَالِحَةِ وتَرْغِيباً للعَاملِينْ، وتُغَلَّقُ أبوابُ النار لقلَّة المعاصِي من أهل الإِيْمان، وتُصَفَّدُ الشياطينُ فتُغَلُّ فلا يَخْلُصونُ إلى ما يخلصون إليه في غيره.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أُعْطِيَتْ أمَّتِي خمسَ خِصَال في رمضانَ لم تُعْطَهُنَّ أمَّةٌ من الأمَم قَبْلَها: خُلُوف فِم الصائِم أطيبُ عند الله من ريح المسْك، وتستغفرُ لهم الملائكةُ حَتى يُفطروا، ويُزَيِّنُ الله كلَّ يوم جنته ويقول: يوشك عبادي الصالحون أن يُلْقُواْ عنهم المؤونة والأذى ويصيروا إليك، وتُصفَّد فيه مَرَدَة الشياطين فلا يخلُصون إلى ما كانوا يخلُصون إليه في غيرهِ، ويُغْفَرُ لهم في آخر ليلة "، قِيْلَ: يا رسول الله أهِيَ ليلةُ القَدْرِ؟ قال: " لاَ ولكنَّ العاملَ إِنما يُوَفَّى أجْرَهُ إذا قضى عَمَلَه» (2) .
إخواني:
هذه الخصالُ الخَمسُ ادّخَرَها الله لكم وخصَّكم بها مِنْ بين سائِر الأمم، ومنَّ بها عليكم ليُتمِّمَ بها عليكُمُ النِّعَمَ، وكم لله منْ نعم وفضائلَ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}
* الخَصْلَةُ الأولى: «أن خُلُوف فَمِ الصائِم أطيبُ عند الله مِنْ ريحِ المسك» (3) والخلوف بضم الخاءِ أوْ فَتْحَها تَغَيُّرُ رائحةِ الفَم عندَ خلو المعدة من
_________
(1) متفق عليه.
(2) رواه أحمد والبزار والبيهقي وأبو الشيخ في كتاب الثواب، وإسناده ضعيف جداً لكن لبعضه شواهد.
(3) رواه البخاري ومسلم بدون تخصيص بهذه الأمة.
الطعام، وهي رائحةٌ مسْتَكْرَهَةٌ عندَ النَّاس لَكِنَّها عندَ اللهِ أطيبُ من رائحَةِ المِسْك؛ لأنَها نَاشِئَةٌ عن عبادة الله وَطَاعَتهِ، وكُلُّ ما نَشَأَ عن عبادته وطاعتهِ فهو محبوبٌ عِنْدَه سُبحانه يعوِّض عنه صاحِبَه ما هو خيرٌ وأفْضَلُ وأطيبُ، ألا تَرَوْنَ إلى الشهيدِ الذي قُتِل في سبيلِ اللهِ يُريد أنْ تكونَ كَلِمةُ اللهِ هي الْعُلْيَا يأتي يوم الْقِيَامَةِ وَجرْحُه يَثْعُبُ دماً لَوْنُهَ لونُ الدَّم وريحُهُ ريحُ المسك؟ وفي الحَجِّ يُبَاهِي اللهُ الملائكة بأهْل المَوْقِفِ فيقولُ سبحانَه: «انْظُرُوا إلى عبادِي هؤلاء جاءوني شُعثا غُبرا» (1) وإنما كانَ الشَّعَث محبوباً إلى اللهِ في هذا الْمَوْطِنِ لأنه ناشئ عَن طاعةِ اللهِ باجتنابِ مَحْظُوراتِ الإِحْرام وترك التَّرَفُّهِ.
* الْخَصلة الثانيةُ: «أن الملائكةَ تستغفرُ لَهُمْ حَتَّى يُفْطروا» ، وَالملائِكةُ عباد مكرَمون عند اللهِ لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فهم جَديْرُون بأن يستجيبَ الله دُعاءَهم للصائمينَ حيث أذِنَ لهم به، وإنما أذن الله لهم بالاستغفارِ للصائمين مِنْ هذه الأُمَّةِ تَنْويهاً بشأنِهم، ورفْعَةً لِذِكْرِهِمْ، وَبَياناً لفَضيلةِ صَوْمهم، والاستغفارُ طلبُ الْمغفِرةِ، وهِي سَتْرُ الذنوب في الدُّنْيَا والاخِرَةِ والتجاوزُ عنها، وهي من أعْلىَ المطالبِ وأسمى الغايات، فكل بني آدم خطاءون مُسْرفونَ على أنفسِهمْ مُضْطَرُّونَ إلَى مغفرة اللهِ عَزَّ وَجَل.
الخَصْلَةُ الثالثةُ: «أن الله يُزَيِّنُ كل يوم جنته ويقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى ويصيروا إليك» فيزين الله تعالى جنته كلَّ يومٍ تَهْيئَةً لعبادِهِ الصالحين وترغيبا في الوصولِ إليهَا، ويقولُ سبحانه: يوْشِك عبادِي الصالحون أنْ يُلْقُوا عَنْهُمُ المؤونةُ والأَذَى، يعني مؤونَة الدُّنْيَا وتَعَبها وأذاهَا، ويُشَمِّروا إلى الأعْمَالِ الصالحةِ الَّتِي فيها سعادتُهم في الدُّنْيَا والاخِرَةِ، والوصول إلى دار السلام والكرامة.
_________
(1) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه وهو صحيح بشواهده.
* الخَصْلَةُ الرابعة: «أن مَرَدةَ الشياطين يُصَفَّدون» (1) «بالسَّلاسِل والأغْلالِ» ، فلا يَصِلُون إِلى ما يُريدونَ من عبادِ اللهِ الصالِحِين من الإِضلاَلِ عن الحق والتَّثبِيطِ عن الخَيْر، وهَذَا مِنْ مَعُونةِ الله لهم أنْ حَبَسَ عنهم عَدُوَّهُمْ الَّذِي يَدْعو حزْبَه ليكونوا مِنْ أصحاب السَّعير، ولِذَلِكَ تَجدُ عنْدَ الصالِحِين من الرَّغْبةِ في الخَيْرِ والعُزُوْفِ عَن الشَّرِّ في هذا الشهرِ أكْثَرَ من غيره.
* الخَصْلَةُ الخامسةُ: «أن الله يغفرُ لأمةِ محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخرِ ليلةٍ منْ هذا الشهر» (2) إذا قَاموا بما يَنْبَغِي أن يقومُوا به في هذا الشهر المباركِ من الصيام والقيام تفضُّلاً منه سبحانه بتَوْفَيةِ أجورِهم عند انتهاء أعمالِهم، فإِن العاملَ يُوَفَّى أجْرَه عند انتهاءِ عمله) .
وَقَدْ تَفَضَّلَ سبحانه على عبادِهِ بهذا الأجْرِ مِنْ وجوهٍ ثلاثة:
* الوجه الأول: أنَّه شَرَع لهم من الأعْمال الصالحةِ ما يكون سبَبَاً لمغَفرةِ ذنوبهمْ ورفْعَةِ درجاتِهم، وَلَوْلاَ أنَّه شرع ذلك ما كان لَهُمْ أن يَتَعَبَّدُوا للهِ بها؛ إذ العبادةُ لا تُؤخذُ إِلاَّ من وحي الله على رُسُلِه، ولِذَلِكَ أنْكَرَ الله على مَنْ يُشَرِّعون مِنْ دُونِه، وجَعَلَ ذَلِكَ نَوْعاً مِنْ الشَّرْك فَقَالَ سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
* الوجه الثاني: أنَّه وفَّقَهم للعملِ الصالح وقد تَرَكَهُ كثيرٌ من النَّاسِ، وَلَوْلا مَعُونَةُ الله لَهُمْ وتَوْفِيْقُهُ ما قاموا به، فلِلَّهِ الفَضْلُ والمِنَّة بذلك.
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
_________
(1) رواه البخاري ومسلم بلفظ: صفدت الشياطين، وابن خزيمة بلفظ: الشياطين مردة الجن، وفي رواية للنسائي: مردة الشياطين. وكلهم من حديث أبي هريرة بدون تخصيص بهذه الأمة.
(2) روى نحوه البيهقي من حديث جابر، قال المنذري: وإسناده مقارب أصلح مما قبله يعني حديث أبي هريرة الذي في الأصل.
[الحجرات: 17] .
* الوجه الثالث: أنَّه تَفَضَّلَ بالأجرِ الكثيرِ، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعافٍ كثيرةٍ، فالْفَضلُ مِنَ الله بِالعَمَلِ والثَّوَابِ عليه، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
إخْوانِي:
بُلُوغُ رمضانَ نِعمةٌ كبيرةٌ عَلَى مَنْ بَلَغهُ وقَامَ بحَقِّه بالرِّجوع إلى ربه من مَعْصِيتهِ إلى طاعتِه، ومِنْ الْغَفْلةِ عنه إلى ذِكْرِهِ، ومِنَ الْبُعْدِ عنهُ إلى الإِنَابةِ إِلَيْهِ.
يَا ذَا الَّذِي مَا كفاهُ الذنبُ في رجبٍ ... حَتَّى عَصَى ربَّهُ في شهر شعبانِ
لَقَدْ أظلَّك شهرُ الصَّومِ بَعْدَهُمَا ... فَلاَ تُصَيِّرْهُ أَيْضاً شهرَ عصيانِ
وَاتْل القُرَان وَسَبِّحْ فيهِ مجتَهِداً ... فَإِنه شَهْرُ تسبِيحٍ وقرآنِ
كَمْ كنتَ تعرِف مَّمنْ صَام في سَلَفٍ ... مِنْ بين أهلٍ وجِيرانٍ وإخوانِ
أفناهمُ الموتُ واسْتبْقَاكَ بَعْدهمو ... حَيًّا فَمَا أقْرَبَ القاصِي من الدانِي
اللهُمَّ أيقِظْنا من رَقَدَات الغفلة، ووفْقنا للتَّزودِ من التَّقْوَى قَبْلَ النُّقْلة، وارزقْنَا اغْتِنَام الأوقاتِ في ذيِ المُهْلَة، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبِهِ أجمعين.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
رد: [المجلس الأول في فضل شهر رمضَان]
إخْوانِي:
بُلُوغُ رمضانَ نِعمةٌ كبيرةٌ عَلَى مَنْ بَلَغهُ وقَامَ بحَقِّه بالرِّجوع إلى ربه من مَعْصِيتهِ إلى طاعتِه، ومِنْ الْغَفْلةِ عنه إلى ذِكْرِهِ، ومِنَ الْبُعْدِ عنهُ إلى الإِنَابةِ إِلَيْهِ.
يَا ذَا الَّذِي مَا كفاهُ الذنبُ في رجبٍ ... حَتَّى عَصَى ربَّهُ في شهر شعبانِ
لَقَدْ أظلَّك شهرُ الصَّومِ بَعْدَهُمَا ... فَلاَ تُصَيِّرْهُ أَيْضاً شهرَ عصيانِ
وَاتْل القُرَان وَسَبِّحْ فيهِ مجتَهِداً ... فَإِنه شَهْرُ تسبِيحٍ وقرآنِ
كَمْ كنتَ تعرِف مَّمنْ صَام في سَلَفٍ ... مِنْ بين أهلٍ وجِيرانٍ وإخوانِ
أفناهمُ الموتُ واسْتبْقَاكَ بَعْدهمو ... حَيًّا فَمَا أقْرَبَ القاصِي من الدانِي
اللهُمَّ أيقِظْنا من رَقَدَات الغفلة، ووفْقنا للتَّزودِ من التَّقْوَى قَبْلَ النُّقْلة، وارزقْنَا اغْتِنَام الأوقاتِ في ذيِ المُهْلَة، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبِهِ أجمعين.
بُلُوغُ رمضانَ نِعمةٌ كبيرةٌ عَلَى مَنْ بَلَغهُ وقَامَ بحَقِّه بالرِّجوع إلى ربه من مَعْصِيتهِ إلى طاعتِه، ومِنْ الْغَفْلةِ عنه إلى ذِكْرِهِ، ومِنَ الْبُعْدِ عنهُ إلى الإِنَابةِ إِلَيْهِ.
يَا ذَا الَّذِي مَا كفاهُ الذنبُ في رجبٍ ... حَتَّى عَصَى ربَّهُ في شهر شعبانِ
لَقَدْ أظلَّك شهرُ الصَّومِ بَعْدَهُمَا ... فَلاَ تُصَيِّرْهُ أَيْضاً شهرَ عصيانِ
وَاتْل القُرَان وَسَبِّحْ فيهِ مجتَهِداً ... فَإِنه شَهْرُ تسبِيحٍ وقرآنِ
كَمْ كنتَ تعرِف مَّمنْ صَام في سَلَفٍ ... مِنْ بين أهلٍ وجِيرانٍ وإخوانِ
أفناهمُ الموتُ واسْتبْقَاكَ بَعْدهمو ... حَيًّا فَمَا أقْرَبَ القاصِي من الدانِي
اللهُمَّ أيقِظْنا من رَقَدَات الغفلة، ووفْقنا للتَّزودِ من التَّقْوَى قَبْلَ النُّقْلة، وارزقْنَا اغْتِنَام الأوقاتِ في ذيِ المُهْلَة، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبِهِ أجمعين.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
مواضيع مماثلة
» رئيس المجلس الاسـلامي المركزي السويسري ” Nicolas Blancho “
» مناهل العرفان في علوم القرآن (1367)
» موضوعك الأول
» الباب الأول في حفظ اللسان
» صيد الافكار فى الادب والاخلاق والحكم والامثال
» مناهل العرفان في علوم القرآن (1367)
» موضوعك الأول
» الباب الأول في حفظ اللسان
» صيد الافكار فى الادب والاخلاق والحكم والامثال
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى