صيد الافكار فى الادب والاخلاق والحكم والامثال
صفحة 1 من اصل 1
صيد الافكار فى الادب والاخلاق والحكم والامثال
صيد الأفكار
في
الأدب والأخلاق والحِكم والأمثَال
تأليف:
القاضي حسين بن محمد المهدي
عضو المحكمة العليا للجمهورية اليمنية
راجعه
الأستاذ العلامة عبد الحميد محمد المهدي
__________
صيد الأفكار
في
الأدب والأخلاق والحِكم والأمثَال
الجزء الأول
تأليف:
القاضي حسين بن محمد المهدي
عضو المحكمة العليا للجمهورية اليمنية
راجعه
الأستاذ العلامة عبد الحميد محمد المهدي
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
سجل هذا الكتاب بوزارة الثقافة
بدار الكتاب برقم إيداع (449) لسنة2009م
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن أفصح الكلام, وأجمل ما نطق به اللسان, وأفضل ما انتظمته عقود البلاغة من البيان, وأنفس ما جرت به الأقلام حمد الله الواحد المنان, وإفراده بالتوحيد والتقديس على الدوام, والثناء عليه في كل آن, تنزه سبحانه وتعالى عن الشبه والنظير, لا إله إلا هو وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيءٍ قدير, ثم الصلاة والسلام على محمد عبد الله ورسوله المجتبى من ولد عدنان وعلى آله وصحبه الكرام الذين حملوا القرآن ونشروا الإسلام في سائر البلدان, وبعد:
فإن من محاسن العرب, وتمام الأدب حسن اختيار الكلمات الفصيحة, والمفردات البينة الصحيحة, والجمل الواضحات البليغة لغرض التعبير بها في الدلالة على المقصود الذي يسعى إليه, أو يراد الوقوف عليه, خاصةً فيما انتظم العرب في خطبهم وأشعارهم, وابتكروه في قصصهم وأمثالهم, فإنهم يغترفون من مفردات اللغة العربية أعذبها, ومن الجمل أروعها وأنسبها, ليصلوا بذلك إلى قلوب الناس وعقولهم, وليحركوا أحاسيسهم ومشاعرهم, وأطيب ذلك يبهج القلب, ويفرح النفس, ويمتع الضمير, ويسر الخاطر, لأنه يظهر العلم, ويحث على العمل, ويصف الجمال, ويرشد إلى الصواب, ويحذر من القبيح, ويبعد عن الكسل, ويدفع الهم والحزن, ويرشد إلى تزكية
النفس, وإرضاء الخالق, وإسعاد المخلوق, ويبصّر على حسن التعامل مع الناس, وكم دفع الشوق محباً لإسداء من يحب نصائح يعز نظيرها, فيسعد بها صغير القوم وكبيرها, وينتفع بها أميرها ووزيرها, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فإن قلتَ: أين أنت من ذلك, ولست من فرسان هذا الميدان وليس لك إن أردت سباحة هذا البحر يدان؟
قُلنا: نحن من أقل الناس بضاعة, وأضعفهم صناعة, غير أن ذلك لا يمنع العاقل من محاولة اكتساب الفضائل, والتشبه بالكرام, وأهل الفضائل من الأنام, وقديماً قيل:
فَتَشَبَّهوا إِن لَم تَكونوا مِثلَهُم ... إِنَّ التَشَبُّهَ بِالكِرامِ فلاحُ (1)
ولعله من خير الأعمال السعي إلى مناصحة الإخوان, والعمل على نفعهم, وإدخال السرور عليهم, ومن هذا القبيل ما جمعناه واخترناه في هذا الكتاب مما لذَ وطاب, وإن لم يكن لنا فيه أكثر من اختيار وجمع ما افترق مما تناسب واتسق من عيون شعر العرب وأمثالهم, وقصصهم وأخبارهم, ووصاياهم ومواعظهم وأذكارهم, وبيان ما يناسب ذلك, ويتفق معه من كلام الله العزيز الحكيم, أو حديث رسوله محمد عليه وآله أفضل الصلاة والتسليم, أو كلام الصحابة والآل الميامين, أو العلماء الأعلام والباحثين, وتحقيق ذلك, وابتكار بعض الأمثال, والسير على نفس المنوال الذي سلكوه,
__________
(1) - هذا البيت يروى لأبي الفتوح يحيى بن حبش الحكيم شهاب الدين السهروردي المتوفى سنة 587هـ, ويروى لعبد الغني النابلسي المتوفى سنة 1143هـ, ويروى أيضا لأبي عبد الله محمد بن محمد الحراق الحسيني, المتوفى سنة 1261هـ ولكن بلفظ: إن التشبه بالكرام رباح. والله أعلم.
مع الإشارة إلى كيفية الاستفادة من ذلك كله, فإن ذلك يكفي, فاختيار المرء كما قيل "قطعة من عقله تدل على تخلقه وفضله", فربَ علوم تنفع حاملها ودارسها ومعلمها, وأعمال ترفع من شأن صاحبها إذا أخلص لله في ذلك النية, فإن الله مولى كل خيرٍ وموليه, وخافض كل شيءٍ ومعليه, وهيهات أن يخفض المرء يتمه أو عدمه إذا رفعه الحق بإيمانه وعلمه, وفي الذكر الحكيم على ذلك دليل وبينات {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (1) , وفي الأمثال التي أوضحناها في كتابنا هذا مزيد بيّنة وبرهان, وفي أشعار العرب التي أوردناها حكمة وبيان, وما تحيى القلوب إلا بالإيمان, ولا تستيقظ إلا بنور الحكمة التي أرشد إليها القرآن, وإنما يسعد من الناس فلا يشقى من يطلب اكتساب ما لا ينفد ويبقى, وإذا كان الله جل وعلا قد أعلمنا بقوله: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، فإنه قد علمنا بأن الباقيات الصالحات خير وأبقى فقال: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} (2) , والعاقل إنما يملؤُ قلبه, ويمتع طرفه فيما يبقى أجره وذكره, ولم ينسَ نصيبه وحظه من الدنيا, ولعل من يعد عدّته ابتغاء تحصيل متعته يحتاج إلى جليس يواسيه ويسليه, واختيار سلاح ينفعه ولا يؤذيه, وسيجد المتتبع من فنون العلم التي أرشد إليها القرآن, وانتضته من العرب الفرسان خير سلاحٍ, فهو خير له من سلاح راج في الملا, وملئ به الفضاء, وشغل الناس به أوقاتهم, وأضاعوا فيه أعمارهم مما يجرح ويدمي, ويشوه النفس ويعمي,
__________
(1) - سورة المجادلة الآية (11) .
(2) - سورة الكهف الآية (46) .
وقديماً قيل: "رب سلاح يقول لحامله: ضعني, وكلمة تقول لصاحبها: دعني", وربما أدرك عقلاء الناس وأصحاب الرأي فيهم أنما المرء معتبر بأكبر ما ينسب إليه عمله وإيمانه, فإن حسنا كان من المتقين الأخيار, وإن فسدا كان من الفسدة الأشرار, ولهذا كان من الإحسان أن يحسن الإنسان اختيار جليسه, وأن يصطفي أنيسه, وربما يجد المتتبع لفنون الأدب في أشعار العرب وأمثالهم من الأخبار النافعة ما تستظرفه العقول, وتستملحه النفوس, وفيه من محاسن الإنشاء, ودقة المعنى ما يوافق الشرع, وينفع الخلق, ويهدي إلى قيد الشوارد, وحفظ الشواهد, والعمل بالمواعظ, والاستفادة من المناسبات, والحرص على الانتفاع بالأوقات, والتفكر في المخلوقات مما يشرق به الأمل ويحث على العمل, وينتفي به الملل, ويقرب من الله عز وجل, فالكيس من جعل دنياه سعادة, وأخرته فلاحاً وشهادة, وحَرِصَ وفيه بقية, أن تكون له نفس صالحة أبيّة تقية, ولله در القائل:
إِذا المَرءُ لَم يَحتَل وَقَد جَدَّ جَدُّهُ ... أَضاعَ وَقاسى أَمرُهُ وَهوَ مُدبِرُ
وَلكِن أَخو الحَزمِ الَّذي لَيسَ نازِلاً ... بِهِ الأَمرُ إِلا وَهوَ لِلأَمرِ مُبصِرُ (1)
ولن يضيع أوقات زمانه, ويتعالى بالزعامة, ويتدثر بما يورث الأسى والندامة, إلا من كان أشد حمقاً (2) من النعامة, وحسب الرجل اللبيب أن يشغل أوقاته فيما ينفع ويفيد, أو يبصّر أخاه بالرأي السديد, ويدله على واضح الطريق, أو يرشده إلى اكتساب بضاعة يجيد فيها الصناعة.
__________
(1) - القائل لهذين البيتين: تأبط شرا.
(2) - الحمق: هو السفه وقلة الرأي, وإنما قلنا: أشد حمقاً من النعامة, لأن النعامة تترك بيضها يداس وتحضن بيض غيرها.
ولم يزل الأدب من بين علوم العرب في المقام الأعلى, والمحل الأسمى ثماره بالخير يانعة مادته وصياغته في جميع الصور التي تمثل نتاجه, وتزخر بها أمواجه, وتجوب بها مفاوزه وفجاجه, سواءً كان ذلك مما يتمثل في تصوير إحساسات وخلجات نفس تجاه عظمة الله جل وعلا, وما أودعه الكون بما فيه من جمال وأسرار هي آية لأولي العقول والأبصار, أم حيال آلام الإنسانية في هذه الحياة وآمالها الخيرة في هذا الاتجاه, أم أن ذلك كان تعبيراً عن أفكار ترشد الفرد أو المجتمع أو الإنسانية بأسرها إلى مفاوز الخير والصلاح والنجاح والفلاح, أو تبعدها عن طرق الشر بأشكاله المختلفة, ويستوي أن يكون ذلك الإنتاج الأدبي قد جاء في شكل شعرٍ منظوم, أو مثل سائرٍ مفهوم, أو قصةٍ أو فلسفةٍ تكشف عن واقع, أو توصل إلى حقيقة, حتى وإن كان ذلك تصويراً لنماذج من حالات الإنسان ومواقفه المختلفة, أو غير ذلك, فإننا قد حاولنا أن نودع شيئاً من ذلك فيما ضمّنَّاه في فصول كتابنا هذا, كل فصل حوى لوناً مما تقر به عين الناظر, ويسلو به خاطره, وتطيب حاله في سفره وحضره مما سجعت به بلابل أقلام العرب, وتداوله الثقات الأعلام من الباحثين الكرام, فأضاءت به الأيام من غير استقصاءٍ لكلامهم أو تطويلٍ في نقل أبحاثهم أو إيجاز يخل بكلامهم, وإن لم نشأ التوسع في ذلك فلكي لا يدرك القارئ الملل, إذ لو أردنا التوسع والاستقصاء لكان كل فصل في مادته التي يحوي مما يحتاج إلى كتاب, بل إلى كتب, وليس من المرغوب والمحبب للنفس أن يتعمق الإنسان فيما لا طائل تحته,
حتى لا يضلل القارئ في متاهات الفلسفة, ومعمعات الأفكار المجردة, ولا أن يستقصي بالتتبع والتحليل لكل ما يجد لما في ذلك من الإرهاق, والإضاعة للوقت, لأنه إذا أدرك الإنسان ما ينفع ويفيد فقد أفاد, ولذلك اكتفينا بما رأينا فيه البلاغ والوصول إلى ما نريده من المناصحة للإخوان بالشكل الذي يجذب القارئ ولا ينفره, وعلى نحو يرسم في ذهنه, ويسجل في وعيه وإدراكه فائدةً تكسبه خيراً أو تدفع عنه شراً في دنياه أو أخرته, ولنا أمل أن يجد كل ذلك طريقه إلى قلوب القراء لامتلاكه من البيان عنصره وأساسه, فعنصر المادة والصياغة في الأدب مقومان من مقوماته, وهما له كالروح والجسد للإنسان, وفي تلازمهما شرف الحياة, ولعل القارئ سيجدهما في كتابنا هذا برهاناً على ما قصدناه, وعوناً على ما أردناه, والله نسأل أن ينفع بذلك فهو ولي ذلك والقادر عليه.
في
الأدب والأخلاق والحِكم والأمثَال
تأليف:
القاضي حسين بن محمد المهدي
عضو المحكمة العليا للجمهورية اليمنية
راجعه
الأستاذ العلامة عبد الحميد محمد المهدي
__________
صيد الأفكار
في
الأدب والأخلاق والحِكم والأمثَال
الجزء الأول
تأليف:
القاضي حسين بن محمد المهدي
عضو المحكمة العليا للجمهورية اليمنية
راجعه
الأستاذ العلامة عبد الحميد محمد المهدي
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
سجل هذا الكتاب بوزارة الثقافة
بدار الكتاب برقم إيداع (449) لسنة2009م
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن أفصح الكلام, وأجمل ما نطق به اللسان, وأفضل ما انتظمته عقود البلاغة من البيان, وأنفس ما جرت به الأقلام حمد الله الواحد المنان, وإفراده بالتوحيد والتقديس على الدوام, والثناء عليه في كل آن, تنزه سبحانه وتعالى عن الشبه والنظير, لا إله إلا هو وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيءٍ قدير, ثم الصلاة والسلام على محمد عبد الله ورسوله المجتبى من ولد عدنان وعلى آله وصحبه الكرام الذين حملوا القرآن ونشروا الإسلام في سائر البلدان, وبعد:
فإن من محاسن العرب, وتمام الأدب حسن اختيار الكلمات الفصيحة, والمفردات البينة الصحيحة, والجمل الواضحات البليغة لغرض التعبير بها في الدلالة على المقصود الذي يسعى إليه, أو يراد الوقوف عليه, خاصةً فيما انتظم العرب في خطبهم وأشعارهم, وابتكروه في قصصهم وأمثالهم, فإنهم يغترفون من مفردات اللغة العربية أعذبها, ومن الجمل أروعها وأنسبها, ليصلوا بذلك إلى قلوب الناس وعقولهم, وليحركوا أحاسيسهم ومشاعرهم, وأطيب ذلك يبهج القلب, ويفرح النفس, ويمتع الضمير, ويسر الخاطر, لأنه يظهر العلم, ويحث على العمل, ويصف الجمال, ويرشد إلى الصواب, ويحذر من القبيح, ويبعد عن الكسل, ويدفع الهم والحزن, ويرشد إلى تزكية
النفس, وإرضاء الخالق, وإسعاد المخلوق, ويبصّر على حسن التعامل مع الناس, وكم دفع الشوق محباً لإسداء من يحب نصائح يعز نظيرها, فيسعد بها صغير القوم وكبيرها, وينتفع بها أميرها ووزيرها, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فإن قلتَ: أين أنت من ذلك, ولست من فرسان هذا الميدان وليس لك إن أردت سباحة هذا البحر يدان؟
قُلنا: نحن من أقل الناس بضاعة, وأضعفهم صناعة, غير أن ذلك لا يمنع العاقل من محاولة اكتساب الفضائل, والتشبه بالكرام, وأهل الفضائل من الأنام, وقديماً قيل:
فَتَشَبَّهوا إِن لَم تَكونوا مِثلَهُم ... إِنَّ التَشَبُّهَ بِالكِرامِ فلاحُ (1)
ولعله من خير الأعمال السعي إلى مناصحة الإخوان, والعمل على نفعهم, وإدخال السرور عليهم, ومن هذا القبيل ما جمعناه واخترناه في هذا الكتاب مما لذَ وطاب, وإن لم يكن لنا فيه أكثر من اختيار وجمع ما افترق مما تناسب واتسق من عيون شعر العرب وأمثالهم, وقصصهم وأخبارهم, ووصاياهم ومواعظهم وأذكارهم, وبيان ما يناسب ذلك, ويتفق معه من كلام الله العزيز الحكيم, أو حديث رسوله محمد عليه وآله أفضل الصلاة والتسليم, أو كلام الصحابة والآل الميامين, أو العلماء الأعلام والباحثين, وتحقيق ذلك, وابتكار بعض الأمثال, والسير على نفس المنوال الذي سلكوه,
__________
(1) - هذا البيت يروى لأبي الفتوح يحيى بن حبش الحكيم شهاب الدين السهروردي المتوفى سنة 587هـ, ويروى لعبد الغني النابلسي المتوفى سنة 1143هـ, ويروى أيضا لأبي عبد الله محمد بن محمد الحراق الحسيني, المتوفى سنة 1261هـ ولكن بلفظ: إن التشبه بالكرام رباح. والله أعلم.
مع الإشارة إلى كيفية الاستفادة من ذلك كله, فإن ذلك يكفي, فاختيار المرء كما قيل "قطعة من عقله تدل على تخلقه وفضله", فربَ علوم تنفع حاملها ودارسها ومعلمها, وأعمال ترفع من شأن صاحبها إذا أخلص لله في ذلك النية, فإن الله مولى كل خيرٍ وموليه, وخافض كل شيءٍ ومعليه, وهيهات أن يخفض المرء يتمه أو عدمه إذا رفعه الحق بإيمانه وعلمه, وفي الذكر الحكيم على ذلك دليل وبينات {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (1) , وفي الأمثال التي أوضحناها في كتابنا هذا مزيد بيّنة وبرهان, وفي أشعار العرب التي أوردناها حكمة وبيان, وما تحيى القلوب إلا بالإيمان, ولا تستيقظ إلا بنور الحكمة التي أرشد إليها القرآن, وإنما يسعد من الناس فلا يشقى من يطلب اكتساب ما لا ينفد ويبقى, وإذا كان الله جل وعلا قد أعلمنا بقوله: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، فإنه قد علمنا بأن الباقيات الصالحات خير وأبقى فقال: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} (2) , والعاقل إنما يملؤُ قلبه, ويمتع طرفه فيما يبقى أجره وذكره, ولم ينسَ نصيبه وحظه من الدنيا, ولعل من يعد عدّته ابتغاء تحصيل متعته يحتاج إلى جليس يواسيه ويسليه, واختيار سلاح ينفعه ولا يؤذيه, وسيجد المتتبع من فنون العلم التي أرشد إليها القرآن, وانتضته من العرب الفرسان خير سلاحٍ, فهو خير له من سلاح راج في الملا, وملئ به الفضاء, وشغل الناس به أوقاتهم, وأضاعوا فيه أعمارهم مما يجرح ويدمي, ويشوه النفس ويعمي,
__________
(1) - سورة المجادلة الآية (11) .
(2) - سورة الكهف الآية (46) .
وقديماً قيل: "رب سلاح يقول لحامله: ضعني, وكلمة تقول لصاحبها: دعني", وربما أدرك عقلاء الناس وأصحاب الرأي فيهم أنما المرء معتبر بأكبر ما ينسب إليه عمله وإيمانه, فإن حسنا كان من المتقين الأخيار, وإن فسدا كان من الفسدة الأشرار, ولهذا كان من الإحسان أن يحسن الإنسان اختيار جليسه, وأن يصطفي أنيسه, وربما يجد المتتبع لفنون الأدب في أشعار العرب وأمثالهم من الأخبار النافعة ما تستظرفه العقول, وتستملحه النفوس, وفيه من محاسن الإنشاء, ودقة المعنى ما يوافق الشرع, وينفع الخلق, ويهدي إلى قيد الشوارد, وحفظ الشواهد, والعمل بالمواعظ, والاستفادة من المناسبات, والحرص على الانتفاع بالأوقات, والتفكر في المخلوقات مما يشرق به الأمل ويحث على العمل, وينتفي به الملل, ويقرب من الله عز وجل, فالكيس من جعل دنياه سعادة, وأخرته فلاحاً وشهادة, وحَرِصَ وفيه بقية, أن تكون له نفس صالحة أبيّة تقية, ولله در القائل:
إِذا المَرءُ لَم يَحتَل وَقَد جَدَّ جَدُّهُ ... أَضاعَ وَقاسى أَمرُهُ وَهوَ مُدبِرُ
وَلكِن أَخو الحَزمِ الَّذي لَيسَ نازِلاً ... بِهِ الأَمرُ إِلا وَهوَ لِلأَمرِ مُبصِرُ (1)
ولن يضيع أوقات زمانه, ويتعالى بالزعامة, ويتدثر بما يورث الأسى والندامة, إلا من كان أشد حمقاً (2) من النعامة, وحسب الرجل اللبيب أن يشغل أوقاته فيما ينفع ويفيد, أو يبصّر أخاه بالرأي السديد, ويدله على واضح الطريق, أو يرشده إلى اكتساب بضاعة يجيد فيها الصناعة.
__________
(1) - القائل لهذين البيتين: تأبط شرا.
(2) - الحمق: هو السفه وقلة الرأي, وإنما قلنا: أشد حمقاً من النعامة, لأن النعامة تترك بيضها يداس وتحضن بيض غيرها.
ولم يزل الأدب من بين علوم العرب في المقام الأعلى, والمحل الأسمى ثماره بالخير يانعة مادته وصياغته في جميع الصور التي تمثل نتاجه, وتزخر بها أمواجه, وتجوب بها مفاوزه وفجاجه, سواءً كان ذلك مما يتمثل في تصوير إحساسات وخلجات نفس تجاه عظمة الله جل وعلا, وما أودعه الكون بما فيه من جمال وأسرار هي آية لأولي العقول والأبصار, أم حيال آلام الإنسانية في هذه الحياة وآمالها الخيرة في هذا الاتجاه, أم أن ذلك كان تعبيراً عن أفكار ترشد الفرد أو المجتمع أو الإنسانية بأسرها إلى مفاوز الخير والصلاح والنجاح والفلاح, أو تبعدها عن طرق الشر بأشكاله المختلفة, ويستوي أن يكون ذلك الإنتاج الأدبي قد جاء في شكل شعرٍ منظوم, أو مثل سائرٍ مفهوم, أو قصةٍ أو فلسفةٍ تكشف عن واقع, أو توصل إلى حقيقة, حتى وإن كان ذلك تصويراً لنماذج من حالات الإنسان ومواقفه المختلفة, أو غير ذلك, فإننا قد حاولنا أن نودع شيئاً من ذلك فيما ضمّنَّاه في فصول كتابنا هذا, كل فصل حوى لوناً مما تقر به عين الناظر, ويسلو به خاطره, وتطيب حاله في سفره وحضره مما سجعت به بلابل أقلام العرب, وتداوله الثقات الأعلام من الباحثين الكرام, فأضاءت به الأيام من غير استقصاءٍ لكلامهم أو تطويلٍ في نقل أبحاثهم أو إيجاز يخل بكلامهم, وإن لم نشأ التوسع في ذلك فلكي لا يدرك القارئ الملل, إذ لو أردنا التوسع والاستقصاء لكان كل فصل في مادته التي يحوي مما يحتاج إلى كتاب, بل إلى كتب, وليس من المرغوب والمحبب للنفس أن يتعمق الإنسان فيما لا طائل تحته,
حتى لا يضلل القارئ في متاهات الفلسفة, ومعمعات الأفكار المجردة, ولا أن يستقصي بالتتبع والتحليل لكل ما يجد لما في ذلك من الإرهاق, والإضاعة للوقت, لأنه إذا أدرك الإنسان ما ينفع ويفيد فقد أفاد, ولذلك اكتفينا بما رأينا فيه البلاغ والوصول إلى ما نريده من المناصحة للإخوان بالشكل الذي يجذب القارئ ولا ينفره, وعلى نحو يرسم في ذهنه, ويسجل في وعيه وإدراكه فائدةً تكسبه خيراً أو تدفع عنه شراً في دنياه أو أخرته, ولنا أمل أن يجد كل ذلك طريقه إلى قلوب القراء لامتلاكه من البيان عنصره وأساسه, فعنصر المادة والصياغة في الأدب مقومان من مقوماته, وهما له كالروح والجسد للإنسان, وفي تلازمهما شرف الحياة, ولعل القارئ سيجدهما في كتابنا هذا برهاناً على ما قصدناه, وعوناً على ما أردناه, والله نسأل أن ينفع بذلك فهو ولي ذلك والقادر عليه.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
الفصل الأول العِلْم
العلم هو إدراك الشيء بحقيقته (1)
العلم نور يدرك به الإنسان حقيقة الأشياء ويخرج به من ظلمات الجهل والعمى, ويصل به إلى الدرجات العلا, امتنَّ الله به على آدم عليه السلام حين علمه الأسماء, وأسجد له جميع الملائكة في الأرض والسماء, فما أعظمه من تكريم نكص عنه إبليس اللعين؛ فصار عدواً للناس أجمعين, لا يتقي شره, ولا يسلم ضره؛ إلا من لجأ إلى خالقه وقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, وأخذ من العلم ما ينفعه ويرفعه, ويمنع عنه شرور الشيطان ووسواسه, ويقيه مصرعه, وشكر لله نعمة السمع والبصر؛ فهما وسيلة إدراك العلم وتعلمه؛ قال جل وعلا: {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (2) . وقديماً قيل: العلم هو إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع سواءً كان ذلك الشيء من المحسوسات أو المغيبات, وهو حياة القلوب, وغذاء النفوس, ونور العقول والأبصار, وهو مقدمٌ على العمل, فمن استجلب الخير في جميع أحواله بالعلم وجمله بالعمل فقد ظفر بمراده, وأخذ من كل شيء بأسبابه, واستعد للسفر بعدته وزاده.
__________
(1) - المفردات في غريب القرآن تأليف أبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني تحقيق وضبط محمد خليل عيتاني, ص347 , الناشر: دار المعرفة بيروت الطبعة الثالثة 1422هـ2001م.
(2) - سورة النحل الآية (78) .
ويرحم الله القائل:
العلم مجلبة للخير أجمعه ... ودافع عن بنيه الشرَّ والوصبا (1)
فالإنسان يشبه الحيوان المفترس فإذا تعلم عمل ونفع وعقل وأفاد واستفاد, وقد جاء في محكم التنزيل: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} (2) . ورحم الله احمد شوقي (3) حيث يقول:
فَرُبَّ صَغيرِ قَومٍ عَلَّموهُ ... سَما وَحَمى المُسَوَّمَةَ العِرابا
وَكانَ لِقَومِهِ نَفعاً وَفَخراً ... وَلَو تَرَكوهُ كانَ أَذىً وَعابا
فَعَلِّم ما اِستَطَعتَ لَعَلَّ جيلاً ... سَيَأتي يُحدِثُ العَجَبَ العُجابا (4)
ويكفي في شرف العلم وفضله ما خاطب الله به محمداً عبد الله ورسوله وخاتم أنبيائه ورسله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (5) فرتب على العلم معرفته وتوحيده والعلم به, والمراد بالخطاب محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأمته.
__________
(1) - هذا بيت من قصيدة للعلامة يحيى بن محمد الهادي قاضي الشرع في جبل صبر في القرن الماضي, يحث فيها ولده على طلب العلم.
(2) - سورة العنكبوت الآية (43) .
(3) - أحمد شوقي: (1285-1351هـ/1868-1932م) أحمد بن علي بن أحمد شوقي. أشهر شعراء العصر الأخير، يلقب بأمير الشعراء، مولده ووفاته بالقاهرة، كتب عن نفسه: (سمعت أبي يردّ أصلنا إلى الأكراد فالعرب) نشأ في ظل البيت المالك بمصر، وتعلم في بعض المدارس الحكومية، وقضى سنتين في قسم الترجمة بمدرسة الحقوق، وأرسله الخديوي توفيق سنة 1887م إلى فرنسا، فتابع دراسة الحقوق في مونبلية، واطلع على الأدب الفرنسي وعاد سنة 1891م فعين رئيساً للقلم الإفرنجي في ديوان الخديوي عباس حلمي. وندب سنة 1896م لتمثيل الحكومة المصرية في مؤتمر المستشرقين بجينيف. عالج أكثر فنون الشعر: مديحاً، وغزلاً، ورثاءً، ووصفاً، ثم ارتفع محلقاً فتناول الأحداث الاجتماعية والسياسية في مصر والشرق والعالم الإسلامي وهو أول من جود القصص الشعري التمثيلي بالعربية وقد حاوله قبله أفراد، فنبذهم وتفرد. وأراد أن يجمع بين عنصري البيان: الشعر والنثر، فكتب نثراً مسجوعاً على نمط المقامات فلم يلق نجاحاً فعاد إلى الشعر.
(4) - انظر ديوان شوقي توثيق وتبويب وشرح وتعقيب العلامة الدكتور احمد محمد الحوفي عضو مجمع اللغة العربية وأستاذ الأدب العربي بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة ج1ص608, الناشر: نهضة مصر للطباعة والنشروالتوزيع القاهرة.
(5) - سورة محمد الآية (19) .
ومما يزيد العلم رفعة قوله تعالى: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} (1) , وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن العلماء ورثة الأنبياء) (2) , وفي حديث ابن مسعود: (أن من قرأ قول الحق تبارك وتعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (3) ، فإنه يجاء به يوم القيامة فيقول الله تعالى: عبدي عهد إليَّ عهداً وأنا أحق من وفَّى ادخلوا عبدي الجنة) (4) .
ومن أطرف ما قيل في المحاورة بين العلم والعقل قول بعض الشعراء:
علم العليم وعقل العاقل إختلفا ... من ذا الذي منهما قد أحرز الشرفا
فالعقل قال: أنا أحرزت غايته ... والعلم قال: أنا الرحمن بي عرفا
فأفصح العلم إفصاحاً وقال له: ... بأينا الله في فرقانه اتصفا
فبان للعقل أن العلم سيِّده ... فقبَّل العقل رأس العلم وانصرفا
__________
(1) - سورة طه الآية (114) .
(2) - رواه الإمام الحافظ أبو داود سليمان الاشعث السجستاني الأزدي, (202ـ275هـ) في سننه باب الحث على طلب العلم حديث (3641) , الناشر: دار بن حزم, الطبعة الاولى 1419هـ, 1998م, والإمام الحافظ أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (209- 279هـ) , في سننه باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة حديث (2686) , تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر (1357هـ - 1938م) . الناشر: المكتبة الإسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ, والإمام الحافظ ابن ماجه: محمد بن يزيد القزويني (207- 275هـ) , في سننه باب فضل العلماء حديث (223) , تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1395هـ-1975م, الناشر: دار احياء التراث العربي.
(3) - سورة آل عمران الآية (18) .
(4) - رواه الإمام الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني، (260-360هـ) في المعجم الكبير تحقيق حمدي السلفي، ج10ص199 حديث (10453) , الناشر دار إحياء التراث العربي.
والعلم زينٌ بين الأخلاء, وسلاح على الأعداء, وقد روى أبو طالب في أماليه (1) (حكاية) قال: حكى لنا أبو الحسن علي بن مهدي الطبراني أن الأصمعي روى عنه قال: رآني أعرابي فقال: يا أخ الحضر عليك بلزوم ما أنت فيه فإن العلم زين في المجالس, وحلية بين الاخوان, وصاحب في الغربة, ودليل على المروءة, ثم أنشأ يقول:
تَعَلَّم فَلَيسَ المَرءُ يولَدُ عالِماً ... وَلَيسَ أَخو عِلمٍ كَمَن هُوَ جاهِلُ
فَرُبَ كَبيرَ القَومِ لا عِلمَ عِندَهُ ... صَغيرٌ إِذا اِلتَفَّت عَلَيهِ الجَحافِلُ
وقديماً قيل:
العلم زين يا فتى ... والخط طوق من ذهب
بقاء العلم
إذا كان المال ينفد ويفنى؛ فإن العلم ينفع ويبقى, ولهذا فإن العقلاء من الناس يسعون لاكتسابه, ويعملون على احتساب ذخره وثوابه, قال الشاعر:
العِلمُ كَنزٌ وَذُخرٌ لا نَفادَ لَهُ ... نِعمَ القَرينُ إِذا ما صاحَبَ صُحبا
قَد يَجمَعُ المَرءُ مالاً ثُمَّ يُسلَبُهُ ... عَمّا قَليلٍ فَيَلقى الذُلَّ وَالحَرَبا
وَجامِعُ العِلمِ مَغبوطٌ بِهِ أَبَداً ... وَلا يُحاذِر مِنهُ الفَوتَ وَالسَلبا
يا جامِعَ العِلمِ نِعمَ الذخرُ َجمَعُهُ ... لا تَعدِلَنَّ بِهِ دُرّاً وَلا ذَهَبا (2)
__________
(1) - تيسير المطالب في أمالي السيد أبي طالب, تأليف القاضي العلامة احمد بن سعد المسوري ص110, الطبعة الأولى منشورات مكتبة الحياة, بيروت لبنان.
(2) - هذه الأبيات نسبت لأبي الأسود الدؤلي (1 ق. هـ-69هـ/605-688م) ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل الدؤلي الكناني. تابعي، واضع علم النحو، كان معدوداً من الفقهاء والأعيان والأمراء والشعراء والفرسان والحاضري الجواب. قيل أن الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) رسم له شيئاً من أصول النحو، فكتب فيه أبو الأسود، وفي صبح الأعشى أن أبا الأسود وضع الحركات والتنوين لا غير، سكن البصرة في خلافة عمر (رضي الله عنه) وولي إمارتها في أيام علي (رضي الله عنه) . ولم يزل في الإمارة إلا أن أستشهد الإمام علي (رضي الله عنه) ، وكان قد شهد معه (صفين) ولما تم الأمر لمعاوية قصده فبالغ معاوية في إكرامه، وهو في أكثر الأقوال أول من نقط المصحف، مات بالبصرة. وتنسب هذه الأبيات أيضاً لصالح بن عبد القدوس والله أعلم.
وقال بعض الفصحاء: "العلم كنز عظيم لا يفنى, والعقل ثوب جديد لا يبلى" (1) .
وفي الأمثال السائرة: "العلم خير ما وعيت, والشر أخبث ما أوعيت, وعلم بلا عمل كشجرة بلا ثمر".
وقديماً قيل: "منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا". (2)
وروي أن الإمام علي بن أبي طالب (3) كرم الله وجهه ورضي عنه قال: "بالعلم حياة القلوب من الخطايا, ونور الأبصار من العمى, وقوة الأبدان على البنيان, وبالعلم يطاع الله, وبالعلم يعرف الله ويوحّد, وبالعلم تفهم الأحكام, ويفصل به بين الحلال والحرام, يمنحه الله السعداء, ويحرم منه الأشقياء". (4)
__________
(1) - الفرائد والقلائد تأليف أبي الحسين محمد بن الحسن الأهوازي, دراسة وتحقيق د. احسان ذنون الثامري , ص12, الناشر: دار ابن حزم بيروت الطبعة الأولى 1427هـ2006م.
(2) - ورد في نهج البلاغة ونسب المثل في التمثيل والمحاضرة وفي محاضرات الأدباء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم, وفي أدب الدنيا والدين لابن مسعود.
(3) - أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين الإمام علي بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، أبو الحسن, (23ق. هـ-40هـ/600-660م) , ابن عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخوه وصهره, زوج فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيدة نساء العالمين, وأول الناس إسلاماً, ولد بمكة وربي في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يفارقه وشهد جميع المشاهد معه ما عدا غزوة تبوك فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استخلفه على المدنية, وكان له بلاء عظيم وأثر حسن, وكان اللواء بيده في أكثر المشاهد, وقد ولي الخلافة بعد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة (35هـ) , وأقام عاصمة خلافته بالكوفة ومكث فيها إلى أن قتله عبد الرحمن بن ملجم.
(4) - تيسير المطالب في أمالي السيد أبي طالب ص110.
وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إِذَا مَاتَ العَبدُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ) (1) وفي لفظ: (يَسْتَغفِرُ لَهُ) (2) .
العلم عون الدين
العلم عون الفتى على أمور دينه ودنياه, وقد جاء في شعر أحمد زكي أبو شادي:
العلم عون الدين في نور الحجى ... أهلوه أطهار به أبرار (3)
أما شبلي الملاط فهو يرى أن الدين مصباح الهدى وأن العلم ريحان الوجود حيث يقول:
الدين مصباح الهدى ومناره ... والعلم ريحان الوجود وغاره (4)
__________
(1) - أخرجه البخاري: الإمام الحافظ المحدث شيخ الحفاظ محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه المولود يوم الجمعة 13 شوال سنة (194هـ-810م) ، المتوفى سنة (256هـ-870م) , في الأدب المفرد الجامع للآداب النبوية حديث (38) ص34, الناشر: دار المعرفة بيروت لبنان الطبعة الثالثة 1424هـ2003م, وقال السيوطي ضعيف, وأورده العجلوني في كشف الخفاء وقال رواه أبو داود والترمذي والنسائي والبخاري في الادب المفرد عن ابي هريرة, وزاد بعضهم على ذلك أشياء وردت في احاديث, ونظم الجميع الجلال السيوطي بقوله:
إذا مات ابن آدم ليس يجري ... عليه من خصال غير عشر
علومٌ بثها ودعا نجلٍ ... وغرس النخل والصدقات تجري
وراثةُ مصحف ٍورباط ثغر ... وحفر البئر أو اجراء نهر
وبيت للغريب بناه يأوي ... إليه أو بناء محل ذكر
وتعليم لقرانٍ كريم ... فخذها من احاديث بحصر
(2) - كتاب العلوم الذي جمعه الامام محمد بن منصور بن يزيد المرادي الكوفي المسمى ابو جعفر احد الفقهاء المعمرين, قيل انه تعمر 150سنة, وقد تضمن كتاب العلوم هذا فقهاً كثيراً ورواية واسعة وغلب عليه اسم امالي احمد بن عيسى, والامام احمد بن عيسى هو الامام العالم الفاضل المعروف بفقيه آل محمد له فقه كثير ورواية واسعة تضمن جلها كتاب العلوم, توفي سنة247هـ, ج4ص358 , طبعة مكتبة المؤيد الطائف الطبعة الأولى.
(3) - ديوان الشفق الباكي, ص233, الناشر المطبعة السلفية مصر.
(4) - ديوان شبلي الملاط, ص88 , الناشر: دار الطباعة والنشر بيروت.
ومعلوم أن الدين لا يؤتى إلا بالعلم, ولهذا أخبر الله تعالى عن صحابة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم الذين أوتوا العلم فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (1) .
العلم يرفع الله به الوضيع
إن صلاح الإنسان وفلاحه, وفوزه ونجاحه واجتنابه للشبهات, وابتعاده عن المحرمات, وارتفاعه إلى أعلى الدرجات إنما يكون بالعلم, وإنما وصل من وصل إلى الفضاء وصنع الدبابات والطائرات والصواريخ العابرة للقارات بالعلم قال الشاعر:
العِلمُ يَنهَضُ بِالخَسيسِ إِلى العُلا ... وَالجَهلُ يَقعُدُ بِالفَتى المَنسوبِ
وَإِذا الفَتى نالَ العُلومِ بِفَهمِهِ ... وَأُعيَنَ بِالتَشذيبِ وَالتَهذيبِ
جَرَتِ الأُمورُ لَهُ فَبَرَّزَ سابِقاً ... في كُلِّ مَحضَرِ مَشهَدٍ وَمَغيبِ (2)
فالعلم عنوان المكارم والأخلاق, المرشد إلى كمال قدرة البديع الخلاق: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ
__________
(1) - سورة الروم الآية (56) .
(2) - ديوان دعبل الخزاعي ص52. دعبل الخزاعي (148 - 246 هـ / 765 - 860 م) دعبل بن علي بن رزين بن سليمان بن تميم بن نهشل الخزاعي، أبو علي. الشاعر المشهور, قال ابن حجر: كان جده رزين مولى عبد الله بن خلف الخزاعي والده طلحة الطلحات ويقال إنه من ولد بديل بن ورقاء الصحابي, وانظر لسان الميزان ج2ص430, وأصل كلمة دعبل: لقب وهو بكسر أوله وثالثه وسكون المهملة بينهما, وآخره لام وهو اسم الناقة الشارف ويقال أيضا للشيء القديم, وقال ابن حجر: أصله من الكوفة، ويقال انه من قرقيسيا وأقام ببغداد. في شعره جودة، كان صديق البحتري وصنّف كتاباً في طبقات الشعراء وكتاب الواحد في مثالب العرب ومناقبها, وله ديوان شعر مطبوع, طال عمره فكان يقول: لي خمسون سنة أحمل خشبتي على كتفي أدور على من يصلبني عليها فما أجد من يفعل ذلك, وكان طويلاً ضخماً. توفي ببلدة تدعا الطيب بين واسط وخوزستان.
وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} (1) .
العلم عنوان العز
العلم عنوان العز, ومعين البر, وباب العلا, ونور الحق, والخل الوافي, والصاحب الصديق الموصل إلى الجنة, ورحم الله الإمام الشافعي حيث يقول:
عِلمي مَعي حَيثُما يَمَّمتُ يَنفَعُني ... قَلبي وِعاءٌ لَهُ لا بَطنُ صُندوقِ
إِن كُنتُ في البَيتِ كانَ العِلمُ فيهِ مَعي ... أَو كُنتُ في السوقِ كانَ العِلمُ في السوقِ (2)
وقال آخر:
العِلْم يُحْي قُلوبَ الميِّتِين كما ... تَحْيا البلادُ إذا ما مَسَّها المَطَرُ
والعِلم يَجْلو العَمَى عن قَلْب صاحِبه ... كما يُجَلِّي سوادَ الظُّلْمة القمَر (3)
__________
(1) - سورة الرعد الآيات (19-22) .
(2) - ديوان الإمام الشافعي, طبعة مؤسسة الزعبي ودار الجيل, والشافعي (150-204هـ/767-819 م) هو الإمام محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي أبو عبد الله. أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة وإليه نسبة الشافعية كافة. ولد في غزة بفلسطين وحمل منها إلى مكة وهو ابن سنتين، وزار بغداد مرتين وقصد مصر سنة 199 فتوفي بها وقبره معروف في القاهرة. قال المبرد: كان الشافعي أشعر الناس وآدبهم وأعرفهم بالفقه والقراآت، وقال الإمام ابن حنبل: ما أحد ممن بيده محبرة أو ورق إلا وللشافعي في رقبته منّة. كان من أحذق قريش بالرمي، يصيب من العشرة عشرة، برع في ذلك أولاً كما برع في الشعر واللغة وأيام العرب ثم أقبل على الفقه والحديث وأفتى وهو ابن عشرين سنة, وانظر ديوان الإمام الشافعي جمع وتعليق الدكتور احمد احمد شتيوي, ص128, الناشر: دار الغد الجديدة المنصورة مصر الطبعة الأولى 1424هـ2003م.
(3) - العقد الفريد ج2ص183.
وإنما يخشى الله ويبتعد عن الكبرياء والرياء وظلم الأبرياء من عباد الله العلماء؛ قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} والمراد بالعلماء هنا علماء الشريعة والطبيعة وغير ذلك؛ لأنه جل شأنه ذكر العلماء بعد ذكر إنزال الماء من السماء, وإخراج الثمرات من الأرض, واختلاف ألوان الجبال والأحجار والناس والدواب والأنعام؛ فتأمل قول الحق تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (1) , فهؤلاء العلماء هم الذين ينبغي أن ينتظموا في سلك الإيمان والإيقان, فهم الذين يعلمون الخالق العظيم وقدرته, وشدة بطشه ونقمته, وقهره وعذابه وحلمه, وأنه على كل شيءٍ قدير, فهم يخشونه حق خشيته, ويعرفونه حق معرفته.
والعلم في ذاته غاية الغايات, ألا ترى أنه يرشدك إلى بارئك, ويدلك على ما ينجيك, ويطلق عقلك من عقال الأوهام, ويبعدك عن مشابهة الضالة من الأنعام, ويقاوم التعصب والتقليد والتقزم وحب الانتقام, ويجنبك الوقوع في المعاصي والآثام, ويوصلك إلى المعرفة الخالصة, والحق المجرد, فهو وسيلة سامية لغاية بالغة السمو.
__________
(1) - سورة فاطر الآيتان (27-28) .
فبغير العلم لا تستطيع أن تعالج مشاكل الحياة علاجاً سليماً محكماً, وبغير العلم لا تستطيع أن تحمي نفسك, أو تنقذها من التعالي على الناس والإساءة إليهم, أو تدفع عنها إيذاء المؤذين وعدوان المعتدين, فالعلم إذاً يجمع بين الحق والقوة, والسعادة والسيادة, والعظمة والسلطان.
فبالعلم استطاع الإنسان -في دفاعه عن نفسه- أن يستعمل اللسان والسنان, وبالعلم استطاع أن يسخر الماء والهواء والبحار والكهرباء حتى صار الإنسان بعلمه: كمن يضع في إصبعه خاتم سليمان, ولهذا أوجب الله على الناس سؤال العلماء فقال سبحانه: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (1) , فمن كمل دينه وتم عقله فقد تحلى بالمكارم, واتصف بالمحامد, وكان في صدره على ذلك أكبر شاهد, قال جل شأنه: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} (2) .
أشرف العلوم
إن أشرف العلوم هي العلوم الشرعية المتعلقة بمعرفة الحق سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله وعظيم حقه, وكذلك ما تعلق من العلوم بمعرفة الحلال والحرام والأوامر والنواهي, وما أتى من العلم لبيان شئون المعاد في يوم الحساب, يوم البعث والجزاء والجنة والنار, ثم يأتي بعد ذلك ما يتعلق بعلم الأبدان كالصحة والرياضة وبشئون الحياة وعمارتها وإدارتها. وقد جعل الإمام ابن القيم مبادئ العلم الشرعي وأقسامه ثلاثة, وذلك حيث يقول:
__________
(1) - سورة النحل الآية (43) .
(2) - سورة العنكبوت الآية (49) .
والعلم أقسام ثلاثٌ ما لها ... من رابع والحق ذو تبيانِ
علم بأوصاف الإله وفعله ... وكذلك الأسماء للرحمنِ
والأمر والنهي الذي هو دينه ... وجزاءه يوم المعاد الثاني
والكل في القرآن والسنن التي ... جاءت عن المبعوث بالقرآنِ
والله ما قال أمرء متحذلق ... بسواهما إلا من الهذيانِ (1)
وقال أبو حاتم رحمه الله: يجب على العاقل أن لا يطلب من العلم إلا أفضله لأن الازدياد من العلم آثر عند العاقل من الذكر بالعلم, والعلم زين في الرخاء, ومنجاة في الشدة, ومن تعلم ازداد. (2)
مبادئ العلوم
إن الطالب لأي علم ينبغي له معرفة حدّه -أي أصله- أو الوصف المحيط الكاشف عن حقيقته وماهيته, ومعرفة موضوعه, وثمرته -أي الفائدة المرجو الحصول عليها منه-, ونسبته إلى أي العلوم ومعرفة واضعه, وهل هو فرض عين أو فرض كفاية؟ وقد جاء في كلام بعض الشعراء الإشارة إلى ذلك:
إن مبادئ كل فن عشرة ... الحد والموضوع ثم الثمرة
وفضله ونسبه والواضع ... والاسم الاستمداد حكم الشارع
مسائل والبعض بالبعض اكتفى ... ومن درى الجميع حاز الشرفا
__________
(1) - انظر: شرح الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية لابن القيم , تحقيق الدكتور خليل هراس ج2ص240 , والموسوعة الشعرية للعلامة والأديب والواعظ الخطيب بدر بن عبد الله بن عبد الكريم الناصر, ص201. الناشر: دار العاصمة بالرياض الطبعة الأولى 1427هـ2006م.
(2) - روضة العقلاء ونزهة الفضلاء للإمام الحافظ أبي حاتم محمد بن حبان البستي المتوفى سنة 354هـ, تهذيب ابراهيم بن عبد الله الحازمي, الطبعة الثانية 1418هـ, ص36.
الجد في طلب العلم
من جد في طلب العلم ظفر به, ومن سعى للعمل به انتفع به, قال الشاعر:
بقدر الكد تكتسب المعالي ... ومن طلب العلا سهر الليالي
تروم العز ثم تنام ليلاً ... يغوص البحر من طلب اللآلي
ورحم الله شوقي حيث يقول:
أَيُّها الطالِبُ لِلعِلمِ اِستَمِع ... خَيرَ ما في طَلَبِ العِلمِ جُمِع
هُوَ إِن أوتيتَهُ أَسنى النِعَم ... هَل تَرى الجُهّالَ إِلاّ كَالنَعَم
اُطلُبِ العِلمَ لِذاتِ العِلمِ لا ... لِظُهورٍ باطِلٍ بَينَ المَلا
عِندَ أَهلِ العِلمِ لِلعِلمِ مَذاق ... فَإِذا فاتَكَ هَذا فَاِفتِراق
طَلَبُ المَحرومِ لِلعِلمِ سُدى ... لَيسَ لِلأَعمى عَلى الضَوءِ هُدى
فَإِذا فاتَكَ تَوفيقُ العَليم ... فَاِمتَنِع عَن كُلِّ تَحصيلٍ عَقيم
وَاِطلُبِ الرِزقَ هُنا أَو هَهُنا ... كَم مَعَ الجَهلِ يَسارٌ وَغِنى (1)
وله أيضاً:
ترك النفوس بلا علم ولا أدب ... ترك المريض بلا طب ولا آسي
وللشافعي رضي الله عنه:
أخي لن تنال العلم إلا بستةٍ ... سأنبيك عن تفصيلها ببيانِ
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة ... وصحبة أستاذ وطول زمانِ
__________
(1) - انظر: ديوان شوقي توثيق وتبويب وشرح وتعقيب الأستاذ الدكتور احمد محمد الحوفي عضو مجمع اللغة العربية وأستاذ الأدب العربي بكلية دار العلوم جامعة القاهرة, الناشر: نهضة مصر للطباعة والنشر القاهرة.
وقد أغفل الشافعي رحمه الله الصحة, وهي من آكد الأسباب المعينة على التحصيل والطلب وهذا مما لا يختلف فيه عالمان, ولا ينتطح فيه عنزان, والنصوص في هذا المعنى كثيرة معلومة, فليس الصحيح كالسقيم, وليس الأقطع والأشل كالذي يذهب ويجيء, فالموانع كثيرة, وعظم الجزاء مع عظم البلاء, ولبعض الشعراء:
بتسع ينال العلم: قوت وصحة ... وحرص وفكر ثاقب في التعلم
ودرس وحفظ للعلوم وهمة ... وشرخ شباب واجتهاد معلم (1)
وقال سفيان: أول العلم الإنصات, ثم الاستماع, ثم الحفظ, ثم العمل به, ثم النشر. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "لا تكون عالماً حتى تكون متعلماً, ولا تكون بالعلم عالماً حتى تكون به عاملاً". (2)
وقال الإمام الشافعي رحمه الله:
اِصبِر عَلى مُرِّ الجَفا مِن مُعَلِّمٍ ... فَإِنَّ رُسوبَ العِلمِ في نَفَراتِهِ
فَمَن لَم يَذُق مُرَّ التَعَلُّمِ ساعَةً ... تَجَرَّعَ ذُلَّ الجَهلِ طولَ حَياتِهِ
وَمَن فاتَهُ التَعليمُ وَقتَ شَبابِهِ ... فَكَبِّر عَلَيهِ أَربَعاً لِوَفاتِهِ (3)
فمن تواضع لمن يعلم الناس الخير ظفر بمراده, ومن تعالى وتكبّر هلك وعنه الخير أدبر, قال الشاعر:
اطلبِ العلمَ ولا تكسلْ فما ... أبعدَ الخيرَ على أهلِ الكسلْ
واحتفلْ للفقهِ في الدينِ ولا ... تشتغلْ عنهُ بمالٍ أوْ خَوَلْ
__________
(1) - الموسوعة الشعرية ص102.
(2) - روضة العقلاء ص33.
(3) - ديوان الشافعي ص29.
واهجرِ النومَ وحصِّلْهُ فَمَنْ.....يعرفِ المطلوبَ يحقرْ ما بذلْ
لا تقلْ قدْ ذهبَتْ أربابُهُ ... كلُّ مَنْ سارَ على الدربِ وصلْ (1)
أما الإمام علي رضي الله عنه فهو يرشد إلى تعلم أحسن العلوم فيقول:
ما حوى العلم جميعاً رجلٌ ... لا ولو مارسه ألف سنة
إنما العلم بعيدٌ غوره ... فخذوا من كل شيء أحسنه
أما ابن عباس فهو يقول:
ما أكثر العلم وما أوسعه ... من ذا الذي يقدر أن يجمعه
إن كنت لا بد له طالباً ... محاولاً فالتمس أنفعه (2)
ينال العلم بالتعلم في الصبا, وبالهمم العالية, فهو أرفع رتبة, وأجل مكتسب, وأسمى مفخر, فمن يشمر للبحث ينله, ومن يخطب الحسناء يصبر على البذل, فارحل لطلبه, وتغرب لنيله, ولا تكتفِ بمراجعة الكتاب, فإن ذلك لا يغني عن أخذ العلم مشافهةً من أولي الألباب, قال أبو حاتم:
يظن الغمر أن الكُتْب تكفي ... أخا فهم لإدراك العلوم
وما يدري الجهول بأن فيها ... غوامض حيرت عقل الفهيم
إذا رمت العلوم بغير شيخ ... ضللت عن الصرط المستقيم
وتلتبس الأمور عليك حتى ... تصير أضل من توما الحكيمِ (3)
__________
(1) - هذه الأبيات منسوبة لابن الوردي: عمر بن مظفر بن عمر بن محمد بن أبي الفوارس أبو حفص زين الدين بن الوردي المعري الكندي, المتوفى سنة 749هـ, شاعر أديب مؤرخ، ولد في معرة النعمان (بسورية) وولي القضاء بمنبج وتوفي بحلب, وتنسب إليه اللامية التي مطلعها:
اعتزلْ ذكرَ الأغاني والغزلْ ... وقلِ الفصلَ وجانبْ مَنْ هزلْ
(2) - جامع بيان العلم لابن عبد البر ج1ص106, الناشر: أم القرى للطباعة والنشر مصر, والموسوعة الشعرية ص104.
(3) - نسبت هذه الأبيات لأبي حاتم ولأبي حيان التوحيدي , وانظر: نفح الطيب للمقري ج2ص564 , وطبقات الشافعية للسبكي ج9ص286 , والموسوعة الشعرية ص115.
محبة العلم
حبّبْ إلى نفسك العلم حتى تألفه وتلزمه, ويكون لهوك ولذتك, وسلوتك وبلغتك, وقد قال ابن المقفع: أن العلم علمان: علم للمنافع وعلم لتزكية (1) العقول, وأفشى العلمين وأجداهما أن ينشط له صاحبه من غير أن يحرّض عليه علم المنافع, وللعلم الذي هو ذكاء العقول وصقالها (2) وجلاؤها فضيلة منزلةٍ عند أهل الفضل في الألباب. (3) وإنما يبلغ المرء مبلغ الفضل بالعلم والعمل, فالعلم زين لصاحبه في الرخاء ومنجاة له في الشدة.
تعظيم العلم
من عظم العلم عمل, ومن أهانه أهين وابتذل, وقد جاء في شعر القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني:
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت ولكن لأخدما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما (4)
__________
(1) - تزكية العقول: تنميتها والزيادة فيها.
(2) - صقال العقول: شحذها وتجليتها وكشف صك الجهالة عنها.
(3) - الآثار الكاملة لعبد الله بن المقفع حققها وشرحها وقدم لها الدكتور عمر الطباع, ص85, الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان, الطبعة الأولى 1418هـ1997م.
(4) - محاضرات الأدباء ومحاورة الشعراء والبلغاء للراغب الأصبهاني, تهذيب ابراهيم زيدان ص14, الناشر دار الآثار بيروت.
تكريم المعلم
إن إكرام المعلم, والإحسان إليه دليل على سمو النفس, وكرم الطبع, وإنما مثل المعلم مثل الطبيب يحتاج إلى إكرام ليتقن عمله, فالمعلم كالزارع الذي يبذر زرعاً ويتعهده بالماء لينمو ويحيى, إكرامه آية تدل على الفطنة والذكاء, قال الشاعر:
إن المعلم والطبيب كلاهما ... لا ينصحان إذا هما لم يكرما
فاصبر لدائك إن أهنت طبيبه ... واصبر لجهلك إن جفوت معلما
فالمعلم خير الآباء لأن حياة الروح بالعلم كما أن حياة الجسد بالروح, فالعلم مادة الروح الإنساني, كما أن النطفة مادة الجسد والروح الحيواني, والروح الإنساني أفضل الأرواح, قال الشاعر:
من علَّم الناس كان خير أبٍ ... ذاك أبو الروح لا أبو النطف (1)
وقد قيل للاسكندر: إنكَ تعظم معلمك أكثر من تعظيمك لأبيك, فقال: لأن أبي سبب حياتي الفانية, ومؤدبي ومعلمي سبب الحياة الباقية (2) .
وقد أشارت السنة النبوية إلى وجوب احترام من يعلم الناس الخير وأبانت حقه, من ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ) (3) , ويرحم الله شوقي حيث يقول:
__________
(1) - أدب الدنيا والدين لأبي الحسن محمد حبيب الماوردي, ص77 , طبعة دار الكتب العلمية, بيروت, الطبعة الأولى1411هـ , والموسوعة الشعرية ص124.
(2) - محاضرات الأدباء ص14.
(3) - انظر مسند الإمام الحافظ المحقق العلامة المحدث أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، (المتوفى سنة 241هـ) , تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرون, حديث (22807) عن عبادة بن الصامت, الناشر: مؤسسة الرسالة بيروت, الطبعة الثانية 1420هـ1999م.
قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا ... كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا
أَعَلِمتَ أَشرَفَ أَو أَجَلَّ مِنَ الَّذي ... يَبني وَيُنشِئُ أَنفُساً وَعُقولا
سُبحانَكَ اللَهُمَّ خَيرَ مُعَلِّمٍ ... عَلَّمتَ بِالقَلَمِ القُرونَ الأولى
أَخرَجتَ هَذا العَقلَ مِن ظُلُماتِهِ ... وَهَدَيتَهُ النورَ المُبينَ سَبيلا
وَطَبَعتَهُ بِيَدِ المُعَلِّمِ تارَةً ... صَدِئَ الحَديدُ وَتارَةً مَصقولا
أَرسَلتَ بِالتَوراةِ موسى مُرشِداً ... وَاِبنَ البَتولِ فَعَلِّمِ الإِنجيلا
وَفَجَرتَ يَنبوعَ البَيانِ مُحَمَّداً ... فَسَقى الحَديثَ وَناوَلَ التَنزيلا
عَلَّمتَ يوناناً وَمِصرَ فَزالَتا ... عَن كُلِّ شَمسٍ ما تُريدُ أُفولا
وَاليَومَ أَصبَحَتا بِحالِ طُفولَةٍ ... في العِلمِ تَلتَمِسانِهِ تَطفيلا
مِن مَشرِقِ الأَرضِ الشَموسُ تَظاهَرَت ... ما بالُ مَغرِبِها عَلَيهِ أُديلا
يا أَرضُ مُذ فَقَدَ المُعَلِّمُ نَفسَهُ ... بَينَ الشُموسِ وَبَينَ شَرقِكِ حيلا
ذَهَبَ الَّذينَ حَمَوا حَقيقَةَ عِلمِهِم ... وَاِستَعذَبوا فيها العَذابَ وَبيلا
في عالَمٍ صَحِبَ الحَياةَ مُقَيَّداً ... بِالفَردِ مَخزوماً بِهِ مَغلولا
صَرَعَتهُ دُنيا المُستَبِدِّ كَما هَوَت ... مِن ضَربَةِ الشَمسِ الرُؤوسُ ذُهولا
سُقراطُ أَعطى الكَأسَ وَهيَ مَنِيَّةٌ ... شَفَتَي مُحِبٍّ يَشتَهي التَقبيلا
عَرَضوا الحَياةَ عَلَيهِ وَهيَ غَباوَةٌ ... فَأَبى وَآثَرَ أَن يَموتَ نَبيلا
إِنَّ الشَجاعَةَ في القُلوبِ كَثيرَةٌ ... وَوَجَدتُ شُجعانَ العُقولِ قَليلا
إِنَّ الَّذي خَلَقَ الحَقيقَةَ عَلقَماً ... لَم يُخلِ مِن أَهلِ الحَقيقَةِ جيلا
وَلَرُبَّما قَتَلَ الغَرامُ رِجالَها ... قُتِلَ الغَرامُ كَمِ اِستَباحَ قَتيلا
أَوَكُلُّ مَن حامى عَنِ الحَقِّ اِقتَنى......عِندَ السَوادِ ضَغائِناً وَذُحولا (1)
ويقال للعالم الفطن: العالم النحرير, قالوا: أنه لنقاب -وهو الفطن الذكي-, وقالوا: أنه لعض -وهو العالم النحرير-. (2)
المعلم الذي لا يؤدي واجبه
إنما مثل المعلم غير المتأدب كمثل شجرة عارية لا تورق ولا تثمر قد انتصبت للناس في ملتقى الطرق تعترض الرائح وتصد سبيل الغادي, فلا الناس بظلها يستظلون ولا هم من شرها ناجون, فيجب على المعلم أن يعدَّ نفسه لتعليم الحكمة, والتحلي بالصبر والرحمة, حتى يؤدي واجبه, ويستطيع أداء رسالته:
فَهوَ الَّذي يَبني الطِباعَ قَويمَةً ... وَهوَ الَّذي يَبني النُفوسَ عُدولا
وَيُقيمُ مَنطِقَ كُلِّ أَعوَجِ مَنطِقٍ ... وَيُريهِ رَأياً في الأُمورِ أَصيلا
وَإِذا المُعَلِّمُ لَم يَكُن عَدلاً مَشى ... روحُ العَدالَةِ في الشَبابِ ضَئيلا
وَإِذا المُعَلِّمُ ساءَ لَحظَ بَصيرَةٍ ... جاءَت عَلى يَدِهِ البَصائِرُ حولا
وَإِذا أَتى الإِرشادُ مِن سَبَبِ الهَوى ... وَمِنَ الغُرورِ فَسَمِّهِ التَضليلا
وَإِذا أُصيبَ القَومُ في أَخلاقِهِم ... فَأَقِم عَلَيهِم مَأتَماً وَعَويلا
إِنّي لأَعذُرُكُم وَأَحسَبُ عِبئَكُم ... مِن بَينِ أَعباءِ الرِجالِ ثَقيلا
وَجَدَ المُساعِدَ غَيرُكُم وَحُرِمتُمُ ... في مِصرَ عَونَ الأُمَّهاتِ جَليلا
وَإِذا النِساءُ نَشَأنَ في أُمِّيَّةً ... رَضَعَ الرِجالُ جَهالَةً وَخُمولا (3)
__________
(1) - ديوان شوقي ج1ص497.
(2) - العقد الفريد للعلامة احمد بن محمد عبدربه الأندلسي ج3ص35, طبعة دار احياء التراث العربي بيروت لبنان.
(3) - ديوان شوقي ج1ص500.
المعلم الذي يخالف علمه عمله
إن من يعلم الناس يجب أن يكون قدوة فيه, وأن لا ينهى الناس عن شيء ويأتيه, قال الشاعر:
يا أَيُّها الرَجُلُ المُعَلِّمُ غَيرَهُ ... هَلا لِنَفسِكَ كانَ ذا التَعليمُ
تَصِفُ الدَّواءَ لِذي السَّقامِ وَذي الضَّنا ... كيما يَصحّ بِهِ وَأَنتَ سَقيمُ
وَتَراكَ تُصلِحُ بالرشادِ عُقولَنا ... أَبَداً وَأَنتَ مِن الرَّشادِ عَديمُ
فابدأ بِنَفسِكَ فانهَها عَن غَيِّها ... فَإِذا اِنتَهَت عَنهُ فأنتَ حَكيمُ
فَهُناكَ يُقبَلُ ما تَقولُ وَيَهتَدي ... بِالقَولِ منك وَينفَعُ التعليمُ
لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتأتيَ مِثلَهُ ... عارٌ عَلَيكَ إِذا فعلتَ عَظيمُ (1)
وقال آخر:
العلم للرجل اللبيب زيادة ... ونقيصة للأحمق الطياشِ
مثل النهار يزيد أبصار الورى ... نوراً ويعمي أعين الخفاشِ (2)
حق التعليم مكفول للصغير والكبير
طلب العلم وتعليمه مذهب الفاضل ودينه, فخذ الحكمة ممن تسمعها منه, فرب رمية من غير رامٍ, وحكمة من غير حكيم, وفي الحديث: (الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَيْثُمَا وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا) (3) .
__________
(1) - نسبت هذه الأبيات للمتوكل الليثي وهي في ديوانه, ونسبت لابي الأسود الدؤلي, وانظر: الموسوعة الشعرية ص125, والبيان والتبين للجاحظ, تحقيق عبد السلام هارون, ج1ص198, الناشر دار الخانجي بمصر 1367هـ , وجامع بيان العلم لابن عبد البر ج1ص196, والبصائر والذخائر لابي حيان التوحيدي ج5ص131 , والله سبحانه وتعالى أعلم.
(2) - ورد هذان البيتان منسوبة لهبة الله بن التلميذ, وانظر: معجم كنوز الأمثال والحكم العربية النثرية والشعرية للدكتور كمال خلايلي, ص93, الناشر: مكتبة لبنان ناشرون, طبعة 1998م.
(3) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة حديث (2687) , وابن ماجه في سننه باب الحكمة حديث (4169) .
قال البخاري في باب الاغتباط بالعلم والحكمة: وقد تعلَّم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في كبر سنهم, وروى بسنده عن عبد الله بن مسعود قال: قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا) (1) , وقد تعلم الصحابة وهم شيوخ وكهول واشتغلوا بالعلم فكانوا بحوراً, بل إنهم كانوا يسلمون شيوخاً وكهولاً وأحداثاً, ويتعلمون العلم والقران والسنن فصاروا أطواد الحكمة والفكر؛ وإن كان العلم في الصغر ارسخ أصولاً وأبسق فروعاً, وفي الأثر: "العلم في الصغر كالنقش في الحجر", وقد أخرجه الحافظ ابن حجر في تخريجه لمسند الفردوس بلفظ: (حفظ الغلام كالرسم في الحجر) وأسنده الديلمي عن ابن عباس، وإن كان بعض العلماء قد ضعفه، وقد قال ابن الجوزي رحمه الله: (أقوم التقويم ما كان في الصغر) ، فأما إذا ترك الولد وطبعه ومشى عليه ومرن كان رده صعباً، قال الشاعر:
إنَّ الغُصُونَ إذا قوَّمتها اعتَدَلَت ... ولا يَلِينَ إذا قَوَّمتَهُ الخُشُبُ
قد ينفعُ الأدَبُ الأحداثَ في مَهَلٍ ... وليس يَنفَعُ عند الكَبرَة الأدَبُ (2)
وقال آخر:
والطفل يحفظ ما يلقى إليه ولا ... ينساه إذ قلبه كالجوهر الصافي
فانقش على قلبه ما شئت من خبر ... فسوف يأتي به من حفظه وافي
__________
(1) - أخرجه البخاري صحيحه كتاب العلم باب إنفاق المال في حقه حديث (1320) .
(2) - انظر الطب الروحاني لابن الجوزي: أبو الفرج عبد الرحمن بن علي، تحقيق: أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، ص59, الناشر: مكتبة الثقافة الذهبية، القاهرة 1406هـ،
اما العلامة محمد بن محمد المنصور (1) فهو يقول:
رسم على الماء درس العلم في الكبر ... والنقش في حجر إن كان في الصغر
فاحذر ضياع الصبافي تافه وسفا ... هـ أو تكاسل فاخذر غاية الحذر
وإنما أرشد الشاعر إلى حفظ الصغير لأن مرحلة الصغر مرحلة تلقين لا فهم, فالطفل في غالب الأحوال يستطيع أن يحفظ الشيء الكثير وإن كان تفهمه لحقائق تلك المعارف والعلوم لا يزال محدوداً نظراً لصغر سنه, ولكنه لا ينسى ما حفظ, لصفاء ذهنه, ولكون ما يتلقنه أول ما يطرق ويثبت في صحائف فكره, فهو كالجوهر الصافي كما قال الشاعر, فالعاقل يحرص على تلقين الأطفال ما ينفعهم من أمور الدين والدنيا, ويبعدهم عن كل شيء يضرهم, وفي المثل السائر: "العلم في الصغر كالنقش على الحجر" وقد تقدم, ومن الخطورة بمكان أن يضلل الأطفال والصبيان في صغرهم, فالعقل يعجب للشروع, ولله در أبي العلاء المعري (2) حيث يقول:
وَالعَقلُ يَعجَبُ لِلشُروعِ تَمَجُّسٍ ... وَتَحَنُّفٍ وَتَهَوُّدٍ وَتَنَصُّرِ
فَاِحذَر وَلا تَدَعِ الأُمورَ مُضاعَةً ... وَاِنظُر بِقَلبِ مُفَكِّرٍ مُتَبَصِّرِ
__________
(1) - هو العلامة العابد الناسك الفاضل المجتهد/ محمد بن محمد المنصور الحسني اليماني من العلماء المعاصرين فيلسوف ومفكر اسلامي كبير وهو مرجع لعلماء الزيدية عرف بالاخلاق الكريمة والتواضع شغل عدة مناصب في الدولة اليمنية منها (وزير العدل-وعضوية المحكمة العليا- ونظارة الوصايا- وعضوية دار الافتاء التي لايزال فيها حتى كتابة هذه الاحرف) وله عدة ابحاث ومؤلفات مخطوطة وهو اديب كبير وشاعر فصيح له ديوان مطبوع اسماه لوامع من خواطر شواسع, وهذان البيتان من قصيدة له اسماها برق يماني مطلعها: (علمي بربي شامخ الاركان ... بالعقل اشهده وبالقرآن) ..
(2) - قال الذهبي -رحمه الله-: هو الشيخ العلامة, شيخ الآداب, أبو العلاء احمد بن عبد الله بن سليمان ... القحطاني ثم التنوخي, المعري, الأعمى, اللغوي, الشاعر, صاحب التصانيف السائرة, والمتهم في نحلته, ولد في سنة 363هـ, وضر بالجدري وله أربع سنين وأشهر, وقال ياقوت الحموي: عاش شيئاً وثمانين سنة, لم يأكل اللحم منها خمساً وأربعين سنة, انظر: اعلام النبلاء للذهبي (18/23) ومعجم الأدباء لياقوت الحموي (1/396) .
وفي الحديث: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ) (1) , وقديماً قيل: "من لم يتعلم في صغره غالباً ما يتقدم في كبره".
أما مرحلة الكبر فقد دل التتبع والاستقراء من قبل العلماء والباحثين أنها مرحلة تفهم لحقائق الأشياء أكثر منها مرحلة تلقين, والعاقل يحرص على تعلم العلم وتفهمه والعمل به كبيراً وصغيراً, فالعلم أفضل خلف, والعمل به أكمل شرف, وفي المثل: "لا سمير كالعلم ولا ظهير كالحلم".
فتعلم أخي العلم فإنه يصلح فاسدك, ويرغم حاسدك, ويقيم ميلك, ويصلح أملك, ويقرب عليك ما بعد, وعلِّمه الصغير ليكون في الكبر أميراً, وقد قال بعض الحكماء: "تعلم العلم فإنه يقومك ويسددك صغيرا, ويقدمك ويسودك كبيرا" وقيل: "تعلم العلم فإنه عز لا يبلى جديده, وكنز لا يفنى مديده, فمن لمن يعلم لم يسلم, فالفضل بالعقل والعلم والأدب لا بالأصل والحسب". (2)
ومما يرغب فيه جني ثمار العلم ممن تحب وممن لا يعجب, وقد قيل: لا يمنعك ضعة القائل عن الاستماع إليه, فرب فمٍ كريهٍ مج علماً ذكيا, وتبرٍ صافٍ في صخرٍ جاس, والجوهرة النفيسة لا يشينها سخافة غائصها, ولا دناءة بائعها, فاستكثر أخي العلم فإنه خفيف حمله, قال أبو نواس: ما رأيت شيئاً إلا قليله أخف من كثيره إلا العلم فإنه كلما كان أكثر كان أخف محمل,
__________
(1) - أخرجه البخاري في صحيحه باب ما قيل في أولاد المشركين حديث (1319) , ومسلم في صحيحه باب معنى كل مولود يولد على الفطرة حديث (2658) , واللفظ للبخاري.
(2) - انظر الفرائد والقلائد ص11.
وقيل: كل إناء يفرغ فيه شيء يضيق إلا القلب, فإنه كلما أفرغ فيه علم اتسع (1) , وقد جاء في محكم التنزيل: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (2) .
ترك المعاصي سبب في حفظ العلوم وجمعها
قال أبو حاتم: الواجب على العاقل مجانبة ما يدنس علمه من أسباب هذه الدنيا, مع القسط في لزوم العمل بما قدر عليه, فمن عجز عن العمل بما جمع من العلم؛ فلا يجب أن يعجز عن حفظه, وفي أمثال العرب: "عقرة العلم النسيان", وفي الذكر الحكيم: {سَنُقْرِؤُكَ فَلاَ تَنسَى} (3) , وجاء في شعر محمد بن بشير الخزاعي:
أما لو أعي كل ما أسمع ... وأحفظ من ذاك ما أجمع
ولم أستفد غير ما قد جمعت ... لقيل هو العالم المقنع (4)
ولكن نفسي إلى كل شيء ... من العلم تسمعه تنزع
وأحضر بالجهل في مجلسي ... وعلمي في الكتب مستودع
فلا أنا أحفظ ما قد جمعت ... ولا أنا من جمعه أشبع
ومن يك في علمه هكذا ... يكن دهره القهقرى يرجع
إذا لم تكن حافظاً واعياً ... فجمعك للعلم لا ينفع (5)
__________
(1) - محاضرات الأدباء ص22.
(2) - سورة الزمر الآيتان (17و18) .
(3) - سورة الأعلى الآية (6) .
(4) - مقنع كمقعد: أي رضي يقنع به.
(5) - انظر: روضة العقلاء ص35, ونسبت الأبيات أيضاً لمحمد بن يسير الرياشي, والله تعالى أعلم.
أما الإمام الشافعي فهو يقول:
شَكَوتُ إِلى وَكيعٍ سوءَ حِفظي ... فَأَرشَدَني إِلى تَركِ المَعاصي
وَأَخبَرَني بِأَنَّ العِلمَ نورٌ ... وَنورُ اللَهِ لا يُهدى لِعاصي (1)
العلم نور يدرك به الإنسان حقيقة الأشياء ويخرج به من ظلمات الجهل والعمى, ويصل به إلى الدرجات العلا, امتنَّ الله به على آدم عليه السلام حين علمه الأسماء, وأسجد له جميع الملائكة في الأرض والسماء, فما أعظمه من تكريم نكص عنه إبليس اللعين؛ فصار عدواً للناس أجمعين, لا يتقي شره, ولا يسلم ضره؛ إلا من لجأ إلى خالقه وقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, وأخذ من العلم ما ينفعه ويرفعه, ويمنع عنه شرور الشيطان ووسواسه, ويقيه مصرعه, وشكر لله نعمة السمع والبصر؛ فهما وسيلة إدراك العلم وتعلمه؛ قال جل وعلا: {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (2) . وقديماً قيل: العلم هو إدراك الشيء على ما هو عليه في الواقع سواءً كان ذلك الشيء من المحسوسات أو المغيبات, وهو حياة القلوب, وغذاء النفوس, ونور العقول والأبصار, وهو مقدمٌ على العمل, فمن استجلب الخير في جميع أحواله بالعلم وجمله بالعمل فقد ظفر بمراده, وأخذ من كل شيء بأسبابه, واستعد للسفر بعدته وزاده.
__________
(1) - المفردات في غريب القرآن تأليف أبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني تحقيق وضبط محمد خليل عيتاني, ص347 , الناشر: دار المعرفة بيروت الطبعة الثالثة 1422هـ2001م.
(2) - سورة النحل الآية (78) .
ويرحم الله القائل:
العلم مجلبة للخير أجمعه ... ودافع عن بنيه الشرَّ والوصبا (1)
فالإنسان يشبه الحيوان المفترس فإذا تعلم عمل ونفع وعقل وأفاد واستفاد, وقد جاء في محكم التنزيل: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} (2) . ورحم الله احمد شوقي (3) حيث يقول:
فَرُبَّ صَغيرِ قَومٍ عَلَّموهُ ... سَما وَحَمى المُسَوَّمَةَ العِرابا
وَكانَ لِقَومِهِ نَفعاً وَفَخراً ... وَلَو تَرَكوهُ كانَ أَذىً وَعابا
فَعَلِّم ما اِستَطَعتَ لَعَلَّ جيلاً ... سَيَأتي يُحدِثُ العَجَبَ العُجابا (4)
ويكفي في شرف العلم وفضله ما خاطب الله به محمداً عبد الله ورسوله وخاتم أنبيائه ورسله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (5) فرتب على العلم معرفته وتوحيده والعلم به, والمراد بالخطاب محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأمته.
__________
(1) - هذا بيت من قصيدة للعلامة يحيى بن محمد الهادي قاضي الشرع في جبل صبر في القرن الماضي, يحث فيها ولده على طلب العلم.
(2) - سورة العنكبوت الآية (43) .
(3) - أحمد شوقي: (1285-1351هـ/1868-1932م) أحمد بن علي بن أحمد شوقي. أشهر شعراء العصر الأخير، يلقب بأمير الشعراء، مولده ووفاته بالقاهرة، كتب عن نفسه: (سمعت أبي يردّ أصلنا إلى الأكراد فالعرب) نشأ في ظل البيت المالك بمصر، وتعلم في بعض المدارس الحكومية، وقضى سنتين في قسم الترجمة بمدرسة الحقوق، وأرسله الخديوي توفيق سنة 1887م إلى فرنسا، فتابع دراسة الحقوق في مونبلية، واطلع على الأدب الفرنسي وعاد سنة 1891م فعين رئيساً للقلم الإفرنجي في ديوان الخديوي عباس حلمي. وندب سنة 1896م لتمثيل الحكومة المصرية في مؤتمر المستشرقين بجينيف. عالج أكثر فنون الشعر: مديحاً، وغزلاً، ورثاءً، ووصفاً، ثم ارتفع محلقاً فتناول الأحداث الاجتماعية والسياسية في مصر والشرق والعالم الإسلامي وهو أول من جود القصص الشعري التمثيلي بالعربية وقد حاوله قبله أفراد، فنبذهم وتفرد. وأراد أن يجمع بين عنصري البيان: الشعر والنثر، فكتب نثراً مسجوعاً على نمط المقامات فلم يلق نجاحاً فعاد إلى الشعر.
(4) - انظر ديوان شوقي توثيق وتبويب وشرح وتعقيب العلامة الدكتور احمد محمد الحوفي عضو مجمع اللغة العربية وأستاذ الأدب العربي بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة ج1ص608, الناشر: نهضة مصر للطباعة والنشروالتوزيع القاهرة.
(5) - سورة محمد الآية (19) .
ومما يزيد العلم رفعة قوله تعالى: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} (1) , وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن العلماء ورثة الأنبياء) (2) , وفي حديث ابن مسعود: (أن من قرأ قول الحق تبارك وتعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (3) ، فإنه يجاء به يوم القيامة فيقول الله تعالى: عبدي عهد إليَّ عهداً وأنا أحق من وفَّى ادخلوا عبدي الجنة) (4) .
ومن أطرف ما قيل في المحاورة بين العلم والعقل قول بعض الشعراء:
علم العليم وعقل العاقل إختلفا ... من ذا الذي منهما قد أحرز الشرفا
فالعقل قال: أنا أحرزت غايته ... والعلم قال: أنا الرحمن بي عرفا
فأفصح العلم إفصاحاً وقال له: ... بأينا الله في فرقانه اتصفا
فبان للعقل أن العلم سيِّده ... فقبَّل العقل رأس العلم وانصرفا
__________
(1) - سورة طه الآية (114) .
(2) - رواه الإمام الحافظ أبو داود سليمان الاشعث السجستاني الأزدي, (202ـ275هـ) في سننه باب الحث على طلب العلم حديث (3641) , الناشر: دار بن حزم, الطبعة الاولى 1419هـ, 1998م, والإمام الحافظ أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (209- 279هـ) , في سننه باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة حديث (2686) , تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر (1357هـ - 1938م) . الناشر: المكتبة الإسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ, والإمام الحافظ ابن ماجه: محمد بن يزيد القزويني (207- 275هـ) , في سننه باب فضل العلماء حديث (223) , تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي 1395هـ-1975م, الناشر: دار احياء التراث العربي.
(3) - سورة آل عمران الآية (18) .
(4) - رواه الإمام الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني، (260-360هـ) في المعجم الكبير تحقيق حمدي السلفي، ج10ص199 حديث (10453) , الناشر دار إحياء التراث العربي.
والعلم زينٌ بين الأخلاء, وسلاح على الأعداء, وقد روى أبو طالب في أماليه (1) (حكاية) قال: حكى لنا أبو الحسن علي بن مهدي الطبراني أن الأصمعي روى عنه قال: رآني أعرابي فقال: يا أخ الحضر عليك بلزوم ما أنت فيه فإن العلم زين في المجالس, وحلية بين الاخوان, وصاحب في الغربة, ودليل على المروءة, ثم أنشأ يقول:
تَعَلَّم فَلَيسَ المَرءُ يولَدُ عالِماً ... وَلَيسَ أَخو عِلمٍ كَمَن هُوَ جاهِلُ
فَرُبَ كَبيرَ القَومِ لا عِلمَ عِندَهُ ... صَغيرٌ إِذا اِلتَفَّت عَلَيهِ الجَحافِلُ
وقديماً قيل:
العلم زين يا فتى ... والخط طوق من ذهب
بقاء العلم
إذا كان المال ينفد ويفنى؛ فإن العلم ينفع ويبقى, ولهذا فإن العقلاء من الناس يسعون لاكتسابه, ويعملون على احتساب ذخره وثوابه, قال الشاعر:
العِلمُ كَنزٌ وَذُخرٌ لا نَفادَ لَهُ ... نِعمَ القَرينُ إِذا ما صاحَبَ صُحبا
قَد يَجمَعُ المَرءُ مالاً ثُمَّ يُسلَبُهُ ... عَمّا قَليلٍ فَيَلقى الذُلَّ وَالحَرَبا
وَجامِعُ العِلمِ مَغبوطٌ بِهِ أَبَداً ... وَلا يُحاذِر مِنهُ الفَوتَ وَالسَلبا
يا جامِعَ العِلمِ نِعمَ الذخرُ َجمَعُهُ ... لا تَعدِلَنَّ بِهِ دُرّاً وَلا ذَهَبا (2)
__________
(1) - تيسير المطالب في أمالي السيد أبي طالب, تأليف القاضي العلامة احمد بن سعد المسوري ص110, الطبعة الأولى منشورات مكتبة الحياة, بيروت لبنان.
(2) - هذه الأبيات نسبت لأبي الأسود الدؤلي (1 ق. هـ-69هـ/605-688م) ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل الدؤلي الكناني. تابعي، واضع علم النحو، كان معدوداً من الفقهاء والأعيان والأمراء والشعراء والفرسان والحاضري الجواب. قيل أن الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) رسم له شيئاً من أصول النحو، فكتب فيه أبو الأسود، وفي صبح الأعشى أن أبا الأسود وضع الحركات والتنوين لا غير، سكن البصرة في خلافة عمر (رضي الله عنه) وولي إمارتها في أيام علي (رضي الله عنه) . ولم يزل في الإمارة إلا أن أستشهد الإمام علي (رضي الله عنه) ، وكان قد شهد معه (صفين) ولما تم الأمر لمعاوية قصده فبالغ معاوية في إكرامه، وهو في أكثر الأقوال أول من نقط المصحف، مات بالبصرة. وتنسب هذه الأبيات أيضاً لصالح بن عبد القدوس والله أعلم.
وقال بعض الفصحاء: "العلم كنز عظيم لا يفنى, والعقل ثوب جديد لا يبلى" (1) .
وفي الأمثال السائرة: "العلم خير ما وعيت, والشر أخبث ما أوعيت, وعلم بلا عمل كشجرة بلا ثمر".
وقديماً قيل: "منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا". (2)
وروي أن الإمام علي بن أبي طالب (3) كرم الله وجهه ورضي عنه قال: "بالعلم حياة القلوب من الخطايا, ونور الأبصار من العمى, وقوة الأبدان على البنيان, وبالعلم يطاع الله, وبالعلم يعرف الله ويوحّد, وبالعلم تفهم الأحكام, ويفصل به بين الحلال والحرام, يمنحه الله السعداء, ويحرم منه الأشقياء". (4)
__________
(1) - الفرائد والقلائد تأليف أبي الحسين محمد بن الحسن الأهوازي, دراسة وتحقيق د. احسان ذنون الثامري , ص12, الناشر: دار ابن حزم بيروت الطبعة الأولى 1427هـ2006م.
(2) - ورد في نهج البلاغة ونسب المثل في التمثيل والمحاضرة وفي محاضرات الأدباء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم, وفي أدب الدنيا والدين لابن مسعود.
(3) - أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين الإمام علي بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، أبو الحسن, (23ق. هـ-40هـ/600-660م) , ابن عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخوه وصهره, زوج فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيدة نساء العالمين, وأول الناس إسلاماً, ولد بمكة وربي في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يفارقه وشهد جميع المشاهد معه ما عدا غزوة تبوك فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استخلفه على المدنية, وكان له بلاء عظيم وأثر حسن, وكان اللواء بيده في أكثر المشاهد, وقد ولي الخلافة بعد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة (35هـ) , وأقام عاصمة خلافته بالكوفة ومكث فيها إلى أن قتله عبد الرحمن بن ملجم.
(4) - تيسير المطالب في أمالي السيد أبي طالب ص110.
وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إِذَا مَاتَ العَبدُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ) (1) وفي لفظ: (يَسْتَغفِرُ لَهُ) (2) .
العلم عون الدين
العلم عون الفتى على أمور دينه ودنياه, وقد جاء في شعر أحمد زكي أبو شادي:
العلم عون الدين في نور الحجى ... أهلوه أطهار به أبرار (3)
أما شبلي الملاط فهو يرى أن الدين مصباح الهدى وأن العلم ريحان الوجود حيث يقول:
الدين مصباح الهدى ومناره ... والعلم ريحان الوجود وغاره (4)
__________
(1) - أخرجه البخاري: الإمام الحافظ المحدث شيخ الحفاظ محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه المولود يوم الجمعة 13 شوال سنة (194هـ-810م) ، المتوفى سنة (256هـ-870م) , في الأدب المفرد الجامع للآداب النبوية حديث (38) ص34, الناشر: دار المعرفة بيروت لبنان الطبعة الثالثة 1424هـ2003م, وقال السيوطي ضعيف, وأورده العجلوني في كشف الخفاء وقال رواه أبو داود والترمذي والنسائي والبخاري في الادب المفرد عن ابي هريرة, وزاد بعضهم على ذلك أشياء وردت في احاديث, ونظم الجميع الجلال السيوطي بقوله:
إذا مات ابن آدم ليس يجري ... عليه من خصال غير عشر
علومٌ بثها ودعا نجلٍ ... وغرس النخل والصدقات تجري
وراثةُ مصحف ٍورباط ثغر ... وحفر البئر أو اجراء نهر
وبيت للغريب بناه يأوي ... إليه أو بناء محل ذكر
وتعليم لقرانٍ كريم ... فخذها من احاديث بحصر
(2) - كتاب العلوم الذي جمعه الامام محمد بن منصور بن يزيد المرادي الكوفي المسمى ابو جعفر احد الفقهاء المعمرين, قيل انه تعمر 150سنة, وقد تضمن كتاب العلوم هذا فقهاً كثيراً ورواية واسعة وغلب عليه اسم امالي احمد بن عيسى, والامام احمد بن عيسى هو الامام العالم الفاضل المعروف بفقيه آل محمد له فقه كثير ورواية واسعة تضمن جلها كتاب العلوم, توفي سنة247هـ, ج4ص358 , طبعة مكتبة المؤيد الطائف الطبعة الأولى.
(3) - ديوان الشفق الباكي, ص233, الناشر المطبعة السلفية مصر.
(4) - ديوان شبلي الملاط, ص88 , الناشر: دار الطباعة والنشر بيروت.
ومعلوم أن الدين لا يؤتى إلا بالعلم, ولهذا أخبر الله تعالى عن صحابة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم الذين أوتوا العلم فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (1) .
العلم يرفع الله به الوضيع
إن صلاح الإنسان وفلاحه, وفوزه ونجاحه واجتنابه للشبهات, وابتعاده عن المحرمات, وارتفاعه إلى أعلى الدرجات إنما يكون بالعلم, وإنما وصل من وصل إلى الفضاء وصنع الدبابات والطائرات والصواريخ العابرة للقارات بالعلم قال الشاعر:
العِلمُ يَنهَضُ بِالخَسيسِ إِلى العُلا ... وَالجَهلُ يَقعُدُ بِالفَتى المَنسوبِ
وَإِذا الفَتى نالَ العُلومِ بِفَهمِهِ ... وَأُعيَنَ بِالتَشذيبِ وَالتَهذيبِ
جَرَتِ الأُمورُ لَهُ فَبَرَّزَ سابِقاً ... في كُلِّ مَحضَرِ مَشهَدٍ وَمَغيبِ (2)
فالعلم عنوان المكارم والأخلاق, المرشد إلى كمال قدرة البديع الخلاق: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ
__________
(1) - سورة الروم الآية (56) .
(2) - ديوان دعبل الخزاعي ص52. دعبل الخزاعي (148 - 246 هـ / 765 - 860 م) دعبل بن علي بن رزين بن سليمان بن تميم بن نهشل الخزاعي، أبو علي. الشاعر المشهور, قال ابن حجر: كان جده رزين مولى عبد الله بن خلف الخزاعي والده طلحة الطلحات ويقال إنه من ولد بديل بن ورقاء الصحابي, وانظر لسان الميزان ج2ص430, وأصل كلمة دعبل: لقب وهو بكسر أوله وثالثه وسكون المهملة بينهما, وآخره لام وهو اسم الناقة الشارف ويقال أيضا للشيء القديم, وقال ابن حجر: أصله من الكوفة، ويقال انه من قرقيسيا وأقام ببغداد. في شعره جودة، كان صديق البحتري وصنّف كتاباً في طبقات الشعراء وكتاب الواحد في مثالب العرب ومناقبها, وله ديوان شعر مطبوع, طال عمره فكان يقول: لي خمسون سنة أحمل خشبتي على كتفي أدور على من يصلبني عليها فما أجد من يفعل ذلك, وكان طويلاً ضخماً. توفي ببلدة تدعا الطيب بين واسط وخوزستان.
وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} (1) .
العلم عنوان العز
العلم عنوان العز, ومعين البر, وباب العلا, ونور الحق, والخل الوافي, والصاحب الصديق الموصل إلى الجنة, ورحم الله الإمام الشافعي حيث يقول:
عِلمي مَعي حَيثُما يَمَّمتُ يَنفَعُني ... قَلبي وِعاءٌ لَهُ لا بَطنُ صُندوقِ
إِن كُنتُ في البَيتِ كانَ العِلمُ فيهِ مَعي ... أَو كُنتُ في السوقِ كانَ العِلمُ في السوقِ (2)
وقال آخر:
العِلْم يُحْي قُلوبَ الميِّتِين كما ... تَحْيا البلادُ إذا ما مَسَّها المَطَرُ
والعِلم يَجْلو العَمَى عن قَلْب صاحِبه ... كما يُجَلِّي سوادَ الظُّلْمة القمَر (3)
__________
(1) - سورة الرعد الآيات (19-22) .
(2) - ديوان الإمام الشافعي, طبعة مؤسسة الزعبي ودار الجيل, والشافعي (150-204هـ/767-819 م) هو الإمام محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي أبو عبد الله. أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة وإليه نسبة الشافعية كافة. ولد في غزة بفلسطين وحمل منها إلى مكة وهو ابن سنتين، وزار بغداد مرتين وقصد مصر سنة 199 فتوفي بها وقبره معروف في القاهرة. قال المبرد: كان الشافعي أشعر الناس وآدبهم وأعرفهم بالفقه والقراآت، وقال الإمام ابن حنبل: ما أحد ممن بيده محبرة أو ورق إلا وللشافعي في رقبته منّة. كان من أحذق قريش بالرمي، يصيب من العشرة عشرة، برع في ذلك أولاً كما برع في الشعر واللغة وأيام العرب ثم أقبل على الفقه والحديث وأفتى وهو ابن عشرين سنة, وانظر ديوان الإمام الشافعي جمع وتعليق الدكتور احمد احمد شتيوي, ص128, الناشر: دار الغد الجديدة المنصورة مصر الطبعة الأولى 1424هـ2003م.
(3) - العقد الفريد ج2ص183.
وإنما يخشى الله ويبتعد عن الكبرياء والرياء وظلم الأبرياء من عباد الله العلماء؛ قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} والمراد بالعلماء هنا علماء الشريعة والطبيعة وغير ذلك؛ لأنه جل شأنه ذكر العلماء بعد ذكر إنزال الماء من السماء, وإخراج الثمرات من الأرض, واختلاف ألوان الجبال والأحجار والناس والدواب والأنعام؛ فتأمل قول الحق تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (1) , فهؤلاء العلماء هم الذين ينبغي أن ينتظموا في سلك الإيمان والإيقان, فهم الذين يعلمون الخالق العظيم وقدرته, وشدة بطشه ونقمته, وقهره وعذابه وحلمه, وأنه على كل شيءٍ قدير, فهم يخشونه حق خشيته, ويعرفونه حق معرفته.
والعلم في ذاته غاية الغايات, ألا ترى أنه يرشدك إلى بارئك, ويدلك على ما ينجيك, ويطلق عقلك من عقال الأوهام, ويبعدك عن مشابهة الضالة من الأنعام, ويقاوم التعصب والتقليد والتقزم وحب الانتقام, ويجنبك الوقوع في المعاصي والآثام, ويوصلك إلى المعرفة الخالصة, والحق المجرد, فهو وسيلة سامية لغاية بالغة السمو.
__________
(1) - سورة فاطر الآيتان (27-28) .
فبغير العلم لا تستطيع أن تعالج مشاكل الحياة علاجاً سليماً محكماً, وبغير العلم لا تستطيع أن تحمي نفسك, أو تنقذها من التعالي على الناس والإساءة إليهم, أو تدفع عنها إيذاء المؤذين وعدوان المعتدين, فالعلم إذاً يجمع بين الحق والقوة, والسعادة والسيادة, والعظمة والسلطان.
فبالعلم استطاع الإنسان -في دفاعه عن نفسه- أن يستعمل اللسان والسنان, وبالعلم استطاع أن يسخر الماء والهواء والبحار والكهرباء حتى صار الإنسان بعلمه: كمن يضع في إصبعه خاتم سليمان, ولهذا أوجب الله على الناس سؤال العلماء فقال سبحانه: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (1) , فمن كمل دينه وتم عقله فقد تحلى بالمكارم, واتصف بالمحامد, وكان في صدره على ذلك أكبر شاهد, قال جل شأنه: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} (2) .
أشرف العلوم
إن أشرف العلوم هي العلوم الشرعية المتعلقة بمعرفة الحق سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله وعظيم حقه, وكذلك ما تعلق من العلوم بمعرفة الحلال والحرام والأوامر والنواهي, وما أتى من العلم لبيان شئون المعاد في يوم الحساب, يوم البعث والجزاء والجنة والنار, ثم يأتي بعد ذلك ما يتعلق بعلم الأبدان كالصحة والرياضة وبشئون الحياة وعمارتها وإدارتها. وقد جعل الإمام ابن القيم مبادئ العلم الشرعي وأقسامه ثلاثة, وذلك حيث يقول:
__________
(1) - سورة النحل الآية (43) .
(2) - سورة العنكبوت الآية (49) .
والعلم أقسام ثلاثٌ ما لها ... من رابع والحق ذو تبيانِ
علم بأوصاف الإله وفعله ... وكذلك الأسماء للرحمنِ
والأمر والنهي الذي هو دينه ... وجزاءه يوم المعاد الثاني
والكل في القرآن والسنن التي ... جاءت عن المبعوث بالقرآنِ
والله ما قال أمرء متحذلق ... بسواهما إلا من الهذيانِ (1)
وقال أبو حاتم رحمه الله: يجب على العاقل أن لا يطلب من العلم إلا أفضله لأن الازدياد من العلم آثر عند العاقل من الذكر بالعلم, والعلم زين في الرخاء, ومنجاة في الشدة, ومن تعلم ازداد. (2)
مبادئ العلوم
إن الطالب لأي علم ينبغي له معرفة حدّه -أي أصله- أو الوصف المحيط الكاشف عن حقيقته وماهيته, ومعرفة موضوعه, وثمرته -أي الفائدة المرجو الحصول عليها منه-, ونسبته إلى أي العلوم ومعرفة واضعه, وهل هو فرض عين أو فرض كفاية؟ وقد جاء في كلام بعض الشعراء الإشارة إلى ذلك:
إن مبادئ كل فن عشرة ... الحد والموضوع ثم الثمرة
وفضله ونسبه والواضع ... والاسم الاستمداد حكم الشارع
مسائل والبعض بالبعض اكتفى ... ومن درى الجميع حاز الشرفا
__________
(1) - انظر: شرح الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية لابن القيم , تحقيق الدكتور خليل هراس ج2ص240 , والموسوعة الشعرية للعلامة والأديب والواعظ الخطيب بدر بن عبد الله بن عبد الكريم الناصر, ص201. الناشر: دار العاصمة بالرياض الطبعة الأولى 1427هـ2006م.
(2) - روضة العقلاء ونزهة الفضلاء للإمام الحافظ أبي حاتم محمد بن حبان البستي المتوفى سنة 354هـ, تهذيب ابراهيم بن عبد الله الحازمي, الطبعة الثانية 1418هـ, ص36.
الجد في طلب العلم
من جد في طلب العلم ظفر به, ومن سعى للعمل به انتفع به, قال الشاعر:
بقدر الكد تكتسب المعالي ... ومن طلب العلا سهر الليالي
تروم العز ثم تنام ليلاً ... يغوص البحر من طلب اللآلي
ورحم الله شوقي حيث يقول:
أَيُّها الطالِبُ لِلعِلمِ اِستَمِع ... خَيرَ ما في طَلَبِ العِلمِ جُمِع
هُوَ إِن أوتيتَهُ أَسنى النِعَم ... هَل تَرى الجُهّالَ إِلاّ كَالنَعَم
اُطلُبِ العِلمَ لِذاتِ العِلمِ لا ... لِظُهورٍ باطِلٍ بَينَ المَلا
عِندَ أَهلِ العِلمِ لِلعِلمِ مَذاق ... فَإِذا فاتَكَ هَذا فَاِفتِراق
طَلَبُ المَحرومِ لِلعِلمِ سُدى ... لَيسَ لِلأَعمى عَلى الضَوءِ هُدى
فَإِذا فاتَكَ تَوفيقُ العَليم ... فَاِمتَنِع عَن كُلِّ تَحصيلٍ عَقيم
وَاِطلُبِ الرِزقَ هُنا أَو هَهُنا ... كَم مَعَ الجَهلِ يَسارٌ وَغِنى (1)
وله أيضاً:
ترك النفوس بلا علم ولا أدب ... ترك المريض بلا طب ولا آسي
وللشافعي رضي الله عنه:
أخي لن تنال العلم إلا بستةٍ ... سأنبيك عن تفصيلها ببيانِ
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة ... وصحبة أستاذ وطول زمانِ
__________
(1) - انظر: ديوان شوقي توثيق وتبويب وشرح وتعقيب الأستاذ الدكتور احمد محمد الحوفي عضو مجمع اللغة العربية وأستاذ الأدب العربي بكلية دار العلوم جامعة القاهرة, الناشر: نهضة مصر للطباعة والنشر القاهرة.
وقد أغفل الشافعي رحمه الله الصحة, وهي من آكد الأسباب المعينة على التحصيل والطلب وهذا مما لا يختلف فيه عالمان, ولا ينتطح فيه عنزان, والنصوص في هذا المعنى كثيرة معلومة, فليس الصحيح كالسقيم, وليس الأقطع والأشل كالذي يذهب ويجيء, فالموانع كثيرة, وعظم الجزاء مع عظم البلاء, ولبعض الشعراء:
بتسع ينال العلم: قوت وصحة ... وحرص وفكر ثاقب في التعلم
ودرس وحفظ للعلوم وهمة ... وشرخ شباب واجتهاد معلم (1)
وقال سفيان: أول العلم الإنصات, ثم الاستماع, ثم الحفظ, ثم العمل به, ثم النشر. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "لا تكون عالماً حتى تكون متعلماً, ولا تكون بالعلم عالماً حتى تكون به عاملاً". (2)
وقال الإمام الشافعي رحمه الله:
اِصبِر عَلى مُرِّ الجَفا مِن مُعَلِّمٍ ... فَإِنَّ رُسوبَ العِلمِ في نَفَراتِهِ
فَمَن لَم يَذُق مُرَّ التَعَلُّمِ ساعَةً ... تَجَرَّعَ ذُلَّ الجَهلِ طولَ حَياتِهِ
وَمَن فاتَهُ التَعليمُ وَقتَ شَبابِهِ ... فَكَبِّر عَلَيهِ أَربَعاً لِوَفاتِهِ (3)
فمن تواضع لمن يعلم الناس الخير ظفر بمراده, ومن تعالى وتكبّر هلك وعنه الخير أدبر, قال الشاعر:
اطلبِ العلمَ ولا تكسلْ فما ... أبعدَ الخيرَ على أهلِ الكسلْ
واحتفلْ للفقهِ في الدينِ ولا ... تشتغلْ عنهُ بمالٍ أوْ خَوَلْ
__________
(1) - الموسوعة الشعرية ص102.
(2) - روضة العقلاء ص33.
(3) - ديوان الشافعي ص29.
واهجرِ النومَ وحصِّلْهُ فَمَنْ.....يعرفِ المطلوبَ يحقرْ ما بذلْ
لا تقلْ قدْ ذهبَتْ أربابُهُ ... كلُّ مَنْ سارَ على الدربِ وصلْ (1)
أما الإمام علي رضي الله عنه فهو يرشد إلى تعلم أحسن العلوم فيقول:
ما حوى العلم جميعاً رجلٌ ... لا ولو مارسه ألف سنة
إنما العلم بعيدٌ غوره ... فخذوا من كل شيء أحسنه
أما ابن عباس فهو يقول:
ما أكثر العلم وما أوسعه ... من ذا الذي يقدر أن يجمعه
إن كنت لا بد له طالباً ... محاولاً فالتمس أنفعه (2)
ينال العلم بالتعلم في الصبا, وبالهمم العالية, فهو أرفع رتبة, وأجل مكتسب, وأسمى مفخر, فمن يشمر للبحث ينله, ومن يخطب الحسناء يصبر على البذل, فارحل لطلبه, وتغرب لنيله, ولا تكتفِ بمراجعة الكتاب, فإن ذلك لا يغني عن أخذ العلم مشافهةً من أولي الألباب, قال أبو حاتم:
يظن الغمر أن الكُتْب تكفي ... أخا فهم لإدراك العلوم
وما يدري الجهول بأن فيها ... غوامض حيرت عقل الفهيم
إذا رمت العلوم بغير شيخ ... ضللت عن الصرط المستقيم
وتلتبس الأمور عليك حتى ... تصير أضل من توما الحكيمِ (3)
__________
(1) - هذه الأبيات منسوبة لابن الوردي: عمر بن مظفر بن عمر بن محمد بن أبي الفوارس أبو حفص زين الدين بن الوردي المعري الكندي, المتوفى سنة 749هـ, شاعر أديب مؤرخ، ولد في معرة النعمان (بسورية) وولي القضاء بمنبج وتوفي بحلب, وتنسب إليه اللامية التي مطلعها:
اعتزلْ ذكرَ الأغاني والغزلْ ... وقلِ الفصلَ وجانبْ مَنْ هزلْ
(2) - جامع بيان العلم لابن عبد البر ج1ص106, الناشر: أم القرى للطباعة والنشر مصر, والموسوعة الشعرية ص104.
(3) - نسبت هذه الأبيات لأبي حاتم ولأبي حيان التوحيدي , وانظر: نفح الطيب للمقري ج2ص564 , وطبقات الشافعية للسبكي ج9ص286 , والموسوعة الشعرية ص115.
محبة العلم
حبّبْ إلى نفسك العلم حتى تألفه وتلزمه, ويكون لهوك ولذتك, وسلوتك وبلغتك, وقد قال ابن المقفع: أن العلم علمان: علم للمنافع وعلم لتزكية (1) العقول, وأفشى العلمين وأجداهما أن ينشط له صاحبه من غير أن يحرّض عليه علم المنافع, وللعلم الذي هو ذكاء العقول وصقالها (2) وجلاؤها فضيلة منزلةٍ عند أهل الفضل في الألباب. (3) وإنما يبلغ المرء مبلغ الفضل بالعلم والعمل, فالعلم زين لصاحبه في الرخاء ومنجاة له في الشدة.
تعظيم العلم
من عظم العلم عمل, ومن أهانه أهين وابتذل, وقد جاء في شعر القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني:
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت ولكن لأخدما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما (4)
__________
(1) - تزكية العقول: تنميتها والزيادة فيها.
(2) - صقال العقول: شحذها وتجليتها وكشف صك الجهالة عنها.
(3) - الآثار الكاملة لعبد الله بن المقفع حققها وشرحها وقدم لها الدكتور عمر الطباع, ص85, الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان, الطبعة الأولى 1418هـ1997م.
(4) - محاضرات الأدباء ومحاورة الشعراء والبلغاء للراغب الأصبهاني, تهذيب ابراهيم زيدان ص14, الناشر دار الآثار بيروت.
تكريم المعلم
إن إكرام المعلم, والإحسان إليه دليل على سمو النفس, وكرم الطبع, وإنما مثل المعلم مثل الطبيب يحتاج إلى إكرام ليتقن عمله, فالمعلم كالزارع الذي يبذر زرعاً ويتعهده بالماء لينمو ويحيى, إكرامه آية تدل على الفطنة والذكاء, قال الشاعر:
إن المعلم والطبيب كلاهما ... لا ينصحان إذا هما لم يكرما
فاصبر لدائك إن أهنت طبيبه ... واصبر لجهلك إن جفوت معلما
فالمعلم خير الآباء لأن حياة الروح بالعلم كما أن حياة الجسد بالروح, فالعلم مادة الروح الإنساني, كما أن النطفة مادة الجسد والروح الحيواني, والروح الإنساني أفضل الأرواح, قال الشاعر:
من علَّم الناس كان خير أبٍ ... ذاك أبو الروح لا أبو النطف (1)
وقد قيل للاسكندر: إنكَ تعظم معلمك أكثر من تعظيمك لأبيك, فقال: لأن أبي سبب حياتي الفانية, ومؤدبي ومعلمي سبب الحياة الباقية (2) .
وقد أشارت السنة النبوية إلى وجوب احترام من يعلم الناس الخير وأبانت حقه, من ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ) (3) , ويرحم الله شوقي حيث يقول:
__________
(1) - أدب الدنيا والدين لأبي الحسن محمد حبيب الماوردي, ص77 , طبعة دار الكتب العلمية, بيروت, الطبعة الأولى1411هـ , والموسوعة الشعرية ص124.
(2) - محاضرات الأدباء ص14.
(3) - انظر مسند الإمام الحافظ المحقق العلامة المحدث أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، (المتوفى سنة 241هـ) , تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرون, حديث (22807) عن عبادة بن الصامت, الناشر: مؤسسة الرسالة بيروت, الطبعة الثانية 1420هـ1999م.
قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا ... كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا
أَعَلِمتَ أَشرَفَ أَو أَجَلَّ مِنَ الَّذي ... يَبني وَيُنشِئُ أَنفُساً وَعُقولا
سُبحانَكَ اللَهُمَّ خَيرَ مُعَلِّمٍ ... عَلَّمتَ بِالقَلَمِ القُرونَ الأولى
أَخرَجتَ هَذا العَقلَ مِن ظُلُماتِهِ ... وَهَدَيتَهُ النورَ المُبينَ سَبيلا
وَطَبَعتَهُ بِيَدِ المُعَلِّمِ تارَةً ... صَدِئَ الحَديدُ وَتارَةً مَصقولا
أَرسَلتَ بِالتَوراةِ موسى مُرشِداً ... وَاِبنَ البَتولِ فَعَلِّمِ الإِنجيلا
وَفَجَرتَ يَنبوعَ البَيانِ مُحَمَّداً ... فَسَقى الحَديثَ وَناوَلَ التَنزيلا
عَلَّمتَ يوناناً وَمِصرَ فَزالَتا ... عَن كُلِّ شَمسٍ ما تُريدُ أُفولا
وَاليَومَ أَصبَحَتا بِحالِ طُفولَةٍ ... في العِلمِ تَلتَمِسانِهِ تَطفيلا
مِن مَشرِقِ الأَرضِ الشَموسُ تَظاهَرَت ... ما بالُ مَغرِبِها عَلَيهِ أُديلا
يا أَرضُ مُذ فَقَدَ المُعَلِّمُ نَفسَهُ ... بَينَ الشُموسِ وَبَينَ شَرقِكِ حيلا
ذَهَبَ الَّذينَ حَمَوا حَقيقَةَ عِلمِهِم ... وَاِستَعذَبوا فيها العَذابَ وَبيلا
في عالَمٍ صَحِبَ الحَياةَ مُقَيَّداً ... بِالفَردِ مَخزوماً بِهِ مَغلولا
صَرَعَتهُ دُنيا المُستَبِدِّ كَما هَوَت ... مِن ضَربَةِ الشَمسِ الرُؤوسُ ذُهولا
سُقراطُ أَعطى الكَأسَ وَهيَ مَنِيَّةٌ ... شَفَتَي مُحِبٍّ يَشتَهي التَقبيلا
عَرَضوا الحَياةَ عَلَيهِ وَهيَ غَباوَةٌ ... فَأَبى وَآثَرَ أَن يَموتَ نَبيلا
إِنَّ الشَجاعَةَ في القُلوبِ كَثيرَةٌ ... وَوَجَدتُ شُجعانَ العُقولِ قَليلا
إِنَّ الَّذي خَلَقَ الحَقيقَةَ عَلقَماً ... لَم يُخلِ مِن أَهلِ الحَقيقَةِ جيلا
وَلَرُبَّما قَتَلَ الغَرامُ رِجالَها ... قُتِلَ الغَرامُ كَمِ اِستَباحَ قَتيلا
أَوَكُلُّ مَن حامى عَنِ الحَقِّ اِقتَنى......عِندَ السَوادِ ضَغائِناً وَذُحولا (1)
ويقال للعالم الفطن: العالم النحرير, قالوا: أنه لنقاب -وهو الفطن الذكي-, وقالوا: أنه لعض -وهو العالم النحرير-. (2)
المعلم الذي لا يؤدي واجبه
إنما مثل المعلم غير المتأدب كمثل شجرة عارية لا تورق ولا تثمر قد انتصبت للناس في ملتقى الطرق تعترض الرائح وتصد سبيل الغادي, فلا الناس بظلها يستظلون ولا هم من شرها ناجون, فيجب على المعلم أن يعدَّ نفسه لتعليم الحكمة, والتحلي بالصبر والرحمة, حتى يؤدي واجبه, ويستطيع أداء رسالته:
فَهوَ الَّذي يَبني الطِباعَ قَويمَةً ... وَهوَ الَّذي يَبني النُفوسَ عُدولا
وَيُقيمُ مَنطِقَ كُلِّ أَعوَجِ مَنطِقٍ ... وَيُريهِ رَأياً في الأُمورِ أَصيلا
وَإِذا المُعَلِّمُ لَم يَكُن عَدلاً مَشى ... روحُ العَدالَةِ في الشَبابِ ضَئيلا
وَإِذا المُعَلِّمُ ساءَ لَحظَ بَصيرَةٍ ... جاءَت عَلى يَدِهِ البَصائِرُ حولا
وَإِذا أَتى الإِرشادُ مِن سَبَبِ الهَوى ... وَمِنَ الغُرورِ فَسَمِّهِ التَضليلا
وَإِذا أُصيبَ القَومُ في أَخلاقِهِم ... فَأَقِم عَلَيهِم مَأتَماً وَعَويلا
إِنّي لأَعذُرُكُم وَأَحسَبُ عِبئَكُم ... مِن بَينِ أَعباءِ الرِجالِ ثَقيلا
وَجَدَ المُساعِدَ غَيرُكُم وَحُرِمتُمُ ... في مِصرَ عَونَ الأُمَّهاتِ جَليلا
وَإِذا النِساءُ نَشَأنَ في أُمِّيَّةً ... رَضَعَ الرِجالُ جَهالَةً وَخُمولا (3)
__________
(1) - ديوان شوقي ج1ص497.
(2) - العقد الفريد للعلامة احمد بن محمد عبدربه الأندلسي ج3ص35, طبعة دار احياء التراث العربي بيروت لبنان.
(3) - ديوان شوقي ج1ص500.
المعلم الذي يخالف علمه عمله
إن من يعلم الناس يجب أن يكون قدوة فيه, وأن لا ينهى الناس عن شيء ويأتيه, قال الشاعر:
يا أَيُّها الرَجُلُ المُعَلِّمُ غَيرَهُ ... هَلا لِنَفسِكَ كانَ ذا التَعليمُ
تَصِفُ الدَّواءَ لِذي السَّقامِ وَذي الضَّنا ... كيما يَصحّ بِهِ وَأَنتَ سَقيمُ
وَتَراكَ تُصلِحُ بالرشادِ عُقولَنا ... أَبَداً وَأَنتَ مِن الرَّشادِ عَديمُ
فابدأ بِنَفسِكَ فانهَها عَن غَيِّها ... فَإِذا اِنتَهَت عَنهُ فأنتَ حَكيمُ
فَهُناكَ يُقبَلُ ما تَقولُ وَيَهتَدي ... بِالقَولِ منك وَينفَعُ التعليمُ
لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتأتيَ مِثلَهُ ... عارٌ عَلَيكَ إِذا فعلتَ عَظيمُ (1)
وقال آخر:
العلم للرجل اللبيب زيادة ... ونقيصة للأحمق الطياشِ
مثل النهار يزيد أبصار الورى ... نوراً ويعمي أعين الخفاشِ (2)
حق التعليم مكفول للصغير والكبير
طلب العلم وتعليمه مذهب الفاضل ودينه, فخذ الحكمة ممن تسمعها منه, فرب رمية من غير رامٍ, وحكمة من غير حكيم, وفي الحديث: (الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَيْثُمَا وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا) (3) .
__________
(1) - نسبت هذه الأبيات للمتوكل الليثي وهي في ديوانه, ونسبت لابي الأسود الدؤلي, وانظر: الموسوعة الشعرية ص125, والبيان والتبين للجاحظ, تحقيق عبد السلام هارون, ج1ص198, الناشر دار الخانجي بمصر 1367هـ , وجامع بيان العلم لابن عبد البر ج1ص196, والبصائر والذخائر لابي حيان التوحيدي ج5ص131 , والله سبحانه وتعالى أعلم.
(2) - ورد هذان البيتان منسوبة لهبة الله بن التلميذ, وانظر: معجم كنوز الأمثال والحكم العربية النثرية والشعرية للدكتور كمال خلايلي, ص93, الناشر: مكتبة لبنان ناشرون, طبعة 1998م.
(3) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة حديث (2687) , وابن ماجه في سننه باب الحكمة حديث (4169) .
قال البخاري في باب الاغتباط بالعلم والحكمة: وقد تعلَّم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في كبر سنهم, وروى بسنده عن عبد الله بن مسعود قال: قال الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا) (1) , وقد تعلم الصحابة وهم شيوخ وكهول واشتغلوا بالعلم فكانوا بحوراً, بل إنهم كانوا يسلمون شيوخاً وكهولاً وأحداثاً, ويتعلمون العلم والقران والسنن فصاروا أطواد الحكمة والفكر؛ وإن كان العلم في الصغر ارسخ أصولاً وأبسق فروعاً, وفي الأثر: "العلم في الصغر كالنقش في الحجر", وقد أخرجه الحافظ ابن حجر في تخريجه لمسند الفردوس بلفظ: (حفظ الغلام كالرسم في الحجر) وأسنده الديلمي عن ابن عباس، وإن كان بعض العلماء قد ضعفه، وقد قال ابن الجوزي رحمه الله: (أقوم التقويم ما كان في الصغر) ، فأما إذا ترك الولد وطبعه ومشى عليه ومرن كان رده صعباً، قال الشاعر:
إنَّ الغُصُونَ إذا قوَّمتها اعتَدَلَت ... ولا يَلِينَ إذا قَوَّمتَهُ الخُشُبُ
قد ينفعُ الأدَبُ الأحداثَ في مَهَلٍ ... وليس يَنفَعُ عند الكَبرَة الأدَبُ (2)
وقال آخر:
والطفل يحفظ ما يلقى إليه ولا ... ينساه إذ قلبه كالجوهر الصافي
فانقش على قلبه ما شئت من خبر ... فسوف يأتي به من حفظه وافي
__________
(1) - أخرجه البخاري صحيحه كتاب العلم باب إنفاق المال في حقه حديث (1320) .
(2) - انظر الطب الروحاني لابن الجوزي: أبو الفرج عبد الرحمن بن علي، تحقيق: أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، ص59, الناشر: مكتبة الثقافة الذهبية، القاهرة 1406هـ،
اما العلامة محمد بن محمد المنصور (1) فهو يقول:
رسم على الماء درس العلم في الكبر ... والنقش في حجر إن كان في الصغر
فاحذر ضياع الصبافي تافه وسفا ... هـ أو تكاسل فاخذر غاية الحذر
وإنما أرشد الشاعر إلى حفظ الصغير لأن مرحلة الصغر مرحلة تلقين لا فهم, فالطفل في غالب الأحوال يستطيع أن يحفظ الشيء الكثير وإن كان تفهمه لحقائق تلك المعارف والعلوم لا يزال محدوداً نظراً لصغر سنه, ولكنه لا ينسى ما حفظ, لصفاء ذهنه, ولكون ما يتلقنه أول ما يطرق ويثبت في صحائف فكره, فهو كالجوهر الصافي كما قال الشاعر, فالعاقل يحرص على تلقين الأطفال ما ينفعهم من أمور الدين والدنيا, ويبعدهم عن كل شيء يضرهم, وفي المثل السائر: "العلم في الصغر كالنقش على الحجر" وقد تقدم, ومن الخطورة بمكان أن يضلل الأطفال والصبيان في صغرهم, فالعقل يعجب للشروع, ولله در أبي العلاء المعري (2) حيث يقول:
وَالعَقلُ يَعجَبُ لِلشُروعِ تَمَجُّسٍ ... وَتَحَنُّفٍ وَتَهَوُّدٍ وَتَنَصُّرِ
فَاِحذَر وَلا تَدَعِ الأُمورَ مُضاعَةً ... وَاِنظُر بِقَلبِ مُفَكِّرٍ مُتَبَصِّرِ
__________
(1) - هو العلامة العابد الناسك الفاضل المجتهد/ محمد بن محمد المنصور الحسني اليماني من العلماء المعاصرين فيلسوف ومفكر اسلامي كبير وهو مرجع لعلماء الزيدية عرف بالاخلاق الكريمة والتواضع شغل عدة مناصب في الدولة اليمنية منها (وزير العدل-وعضوية المحكمة العليا- ونظارة الوصايا- وعضوية دار الافتاء التي لايزال فيها حتى كتابة هذه الاحرف) وله عدة ابحاث ومؤلفات مخطوطة وهو اديب كبير وشاعر فصيح له ديوان مطبوع اسماه لوامع من خواطر شواسع, وهذان البيتان من قصيدة له اسماها برق يماني مطلعها: (علمي بربي شامخ الاركان ... بالعقل اشهده وبالقرآن) ..
(2) - قال الذهبي -رحمه الله-: هو الشيخ العلامة, شيخ الآداب, أبو العلاء احمد بن عبد الله بن سليمان ... القحطاني ثم التنوخي, المعري, الأعمى, اللغوي, الشاعر, صاحب التصانيف السائرة, والمتهم في نحلته, ولد في سنة 363هـ, وضر بالجدري وله أربع سنين وأشهر, وقال ياقوت الحموي: عاش شيئاً وثمانين سنة, لم يأكل اللحم منها خمساً وأربعين سنة, انظر: اعلام النبلاء للذهبي (18/23) ومعجم الأدباء لياقوت الحموي (1/396) .
وفي الحديث: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ) (1) , وقديماً قيل: "من لم يتعلم في صغره غالباً ما يتقدم في كبره".
أما مرحلة الكبر فقد دل التتبع والاستقراء من قبل العلماء والباحثين أنها مرحلة تفهم لحقائق الأشياء أكثر منها مرحلة تلقين, والعاقل يحرص على تعلم العلم وتفهمه والعمل به كبيراً وصغيراً, فالعلم أفضل خلف, والعمل به أكمل شرف, وفي المثل: "لا سمير كالعلم ولا ظهير كالحلم".
فتعلم أخي العلم فإنه يصلح فاسدك, ويرغم حاسدك, ويقيم ميلك, ويصلح أملك, ويقرب عليك ما بعد, وعلِّمه الصغير ليكون في الكبر أميراً, وقد قال بعض الحكماء: "تعلم العلم فإنه يقومك ويسددك صغيرا, ويقدمك ويسودك كبيرا" وقيل: "تعلم العلم فإنه عز لا يبلى جديده, وكنز لا يفنى مديده, فمن لمن يعلم لم يسلم, فالفضل بالعقل والعلم والأدب لا بالأصل والحسب". (2)
ومما يرغب فيه جني ثمار العلم ممن تحب وممن لا يعجب, وقد قيل: لا يمنعك ضعة القائل عن الاستماع إليه, فرب فمٍ كريهٍ مج علماً ذكيا, وتبرٍ صافٍ في صخرٍ جاس, والجوهرة النفيسة لا يشينها سخافة غائصها, ولا دناءة بائعها, فاستكثر أخي العلم فإنه خفيف حمله, قال أبو نواس: ما رأيت شيئاً إلا قليله أخف من كثيره إلا العلم فإنه كلما كان أكثر كان أخف محمل,
__________
(1) - أخرجه البخاري في صحيحه باب ما قيل في أولاد المشركين حديث (1319) , ومسلم في صحيحه باب معنى كل مولود يولد على الفطرة حديث (2658) , واللفظ للبخاري.
(2) - انظر الفرائد والقلائد ص11.
وقيل: كل إناء يفرغ فيه شيء يضيق إلا القلب, فإنه كلما أفرغ فيه علم اتسع (1) , وقد جاء في محكم التنزيل: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (2) .
ترك المعاصي سبب في حفظ العلوم وجمعها
قال أبو حاتم: الواجب على العاقل مجانبة ما يدنس علمه من أسباب هذه الدنيا, مع القسط في لزوم العمل بما قدر عليه, فمن عجز عن العمل بما جمع من العلم؛ فلا يجب أن يعجز عن حفظه, وفي أمثال العرب: "عقرة العلم النسيان", وفي الذكر الحكيم: {سَنُقْرِؤُكَ فَلاَ تَنسَى} (3) , وجاء في شعر محمد بن بشير الخزاعي:
أما لو أعي كل ما أسمع ... وأحفظ من ذاك ما أجمع
ولم أستفد غير ما قد جمعت ... لقيل هو العالم المقنع (4)
ولكن نفسي إلى كل شيء ... من العلم تسمعه تنزع
وأحضر بالجهل في مجلسي ... وعلمي في الكتب مستودع
فلا أنا أحفظ ما قد جمعت ... ولا أنا من جمعه أشبع
ومن يك في علمه هكذا ... يكن دهره القهقرى يرجع
إذا لم تكن حافظاً واعياً ... فجمعك للعلم لا ينفع (5)
__________
(1) - محاضرات الأدباء ص22.
(2) - سورة الزمر الآيتان (17و18) .
(3) - سورة الأعلى الآية (6) .
(4) - مقنع كمقعد: أي رضي يقنع به.
(5) - انظر: روضة العقلاء ص35, ونسبت الأبيات أيضاً لمحمد بن يسير الرياشي, والله تعالى أعلم.
أما الإمام الشافعي فهو يقول:
شَكَوتُ إِلى وَكيعٍ سوءَ حِفظي ... فَأَرشَدَني إِلى تَركِ المَعاصي
وَأَخبَرَني بِأَنَّ العِلمَ نورٌ ... وَنورُ اللَهِ لا يُهدى لِعاصي (1)
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
إنفاق العلم وعدم جواز كتمه
إنفاق العلم وعدم جواز كتمه
في إنفاق العلم ونشره بقاؤه ونماؤه, وذخره وأجره, قال الشاعر:
العلم كنزٌ كلما أنفقته ينمو ... وإنما لم ترجُ انفاقاً فني
وفي الحديث: (مَنْ كَتَمَ عِلْمًا مِمَّا يَنْفَعُ اللَّهُ بِهِ فِي أَمْرِ النَّاسِ أَمْرِ الدِّينِ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ النَّارِ) (2) .
ولبعض الشعراء:
إذا العلم لم تعمل به كان حجة ... عليك ولم تعذر بما أنت جاهله
فإن كنت قد أوتيت علماً فإنما ... يصدق قول المرء ما هو فاعله (3)
وقال آخر:
وعالم بعلمه لم يعملن ... معذبٌ من قبل عباد الوثن
أما عبد الملك بن ادريس الجزيلي فهو يرى أن العلم لا ينفع صاحبه ما لم يفد عملاً وحسن تبصر وذلك حيث يقول:
والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد عملاً وحسن تبصرِ
سيان عندي علم من لم يستفد ... عملاً به وصلاة من لم يطهرِ
__________
(1) - ديوان الإمام الشافعي ص106.
(2) - أخرجه ابن ماجه في سننه باب من سئل عن علم فكتمه حديث (265) .
(3) - جامع بيان العلم لابن عبد البر ج2ص7 , والموسوعة الشعرية ص108.
فاعمل بعلمك توف نفسك وزنها.......لا ترض بالتضييع وزن المخسرِ
ويقول ابراهيم التنوخي:
وإذا الفتى قد نال علماً ثم لم ... يعمل به فكأنما لم يعلم
أما ابن عماد الاقفهسي فهو يرى أن من لم يعمل بعلمه خائب وذلك حيث يقول:
وإن علمت ولم تعمل على وجل ... فما ربحت فقل يا خيبة الأمل
ولله در القائل:
اعمل بعلمي وإن قصرت في عملي ... ينفعك علمي ولا يضرك تقصيري
القصة في الحديث النبوي
خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ بَعْضِ حُجَرِهِ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِحَلْقَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَدْعُونَ اللَّهَ وَالأُخْرَى يَتَعَلَّمُونَ وَيُعَلِّمُونَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: (كُلٌّ عَلَى خَيْرٍ هَؤُلاءِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَدْعُونَ اللَّهَ فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ وَهَؤُلاءِ يَتَعَلَّمُونَ وَإِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا, فَجَلَسَ مَعَهُمْ) (1) .
الجهل يضاد العلم
العلم حياة الأمة, والجهل حرمانها, فمن تعلم شفي ومن جهل عمي, وقديما قيل: " الجهل مطية من ركبها ذل, ومن صحبها ضل, وشر المصائب الجهل", ويرحم الله احمد شوقي حيث يقول:
هل علمتم أمةً في جهلها ... ظهرت في المجد حسناء الرداء
__________
(1) - رواه ابن ماجه في سننه باب فضل العلماء حديث (225) , والدارمي في سننه باب في فضل العلم حديث (357) .
وله أيضا:
إني نظرت إلى الشعوب فلم أجد ... كالجهل داءً للشعوب مبيدا
الجهل لا يلد الحياة مواته ... إلا كما تلد الرمام الدودا
أما جرد ابن عمرو فهو يقول:
رأيت العز في أدب وعلم ... وفي الجهل المذلة والهوان (1)
الجهل أنكى عدو, وأخبث صديق, والجهل داء قاتل, وشقاء حاصل, فإذا خيم على أمة فسدت, أو على أسرة مسخت, قال الشاعر:
إذا ما الجهل خيم في بلاد ... رأيت أسودها مسخت قرودا (2)
وقال الإمام ابن القيم:
والجهل داء قاتل وشفاؤه ... أمران في التركيب متفقانِ
نص من القرآن أو من سنة ... وطبيب ذاك العالم الرباني (3)
منازعة العلماء تنفي العقل وتثبت الجهل, وأجهل الناس من قل صوابه وكثر اعجابه, قال الشاعر:
أليس من البلوى بانك جاهل ... وأنك لا تدري بأنك لا تدري
إذا كنت لا تدري ولست كمن درا ... فكيف إذاً تدري بأنك لا تدري (4)
أما ابن دريد (5) فإنه يقول:
__________
(1) - أدب الدنيا والدين للماوردي ص266.
(2) - البيت هذا لمعروف للرصافي.
(3) - شرح الكافية ج2ص240 , والموسوعة الشعرية ص128.
(4) - العقد الفريد لابن عبدربه ج2ص151.
(5) - محمد بن الحسن بن دريد الأزدي القحطاني، أبو بكر, (223-321هـ/838-932م) , من أئمة اللغة والأدب، كانوا يقولون: ابن دريد أشعر العلماء وأعلم الشعراء، وهو صاحب المقصورة الدريدية، ولد في البصرة وانتقل إلى عمان فأقام اثني عشر عاما وعاد إلى البصرة ثم رحل إلى نواحي فارس فقلده آل ميكال ديوان فارس، ومدحهم بقصيدته المقصورة، ثم رجع إلى بغداد واتصل بالمقتدر العباسي فأجرى عليه في كل شهر خمسين دينارا فأقام إلى أن توفي, من كتبه (الاشتقاق-ط) في الأنساب، و (المقصور والممدود-ط) ، و (الجمهرة-ط) في اللغة، ثلاثة مجلدات، و (أدب الكاتب) ، و (الأمالي) .
جهلت فعاديت العلوم وأهلها ... كذاك يعادي العلم من هو جاهله
وقال آخر:
جهلت أمراً فأبديت النكير له ... والجاهلون لأهل العلم أعداء
وقديما قيل: "أربعة يقضى بها على أربعة: السعاية على الدناءة, والإساءة على الرداءة, والحلف على البخل, والسخف على الجهل, وأربعة لا تنفك عن أربعة: الجهول عن السقط, والغفول عن الغلط, والعجول عن الزلل, والملول عن العمل, وأربعة تدل على الجهل: صحبة الجهول, وكثرة الفضول, وإذاعة السر, وإثارة الشر". (1)
وقيل أيضاً: "ليس للمرء أن يفرح بحالة جليلة نالها بغير عقل, أو منزلة رفيعة حلها بغير فضل, فإن الجهل ينزله منها, ويزيله عنها, ويحطه إلى رتبته, ويرده إلى قيمته, بعد أن تظهر عيوبه, وتكثر ذنوبه, ويصير مادحه هاجياً, ويصبح وليه معادياً", وربما أقبلت الدنيا على الجاهل بالاتفاق, وأدبرت عن العاقل العالم مع الاستحقاق, فإذا أتتك منها سهمة مع جهل أو فاتتك فيها بغية مع عقل فلا يحملنك ذلك على الرغبة في الجهل, والزهد في العقل والعلم, فدولة الجاهل من الممكنات, ودولة العاقل من الواجبات, وليس ما أمكنه شيء من ذاته كمن استوجبه بآلته وأداته, فعداوة العاقل خير من صادقة الجاهل. (2)
__________
(1) - الفرائد والقلائد ص71.
(2) - الفرائد والقلائد ص13-14.
والجهل أضر الأصحاب, والذم أقبح الأثواب, والجاهل من جهله في إغواء, ومن هواه في إغراء, فقوله سقيم, وفعله ذميم, ودولة الجاهل عبرة للعاقل, وقديماً قيل: "عالم معاند خير من جاهل مساعد", و"الجهل بالفضائل من أقبح الرذائل".
والجهل يضع والعلم يرفع, قال الشاعر:
العلم يرفع بيت لا عماد له ... والجهل يهدم بيت العز والشرف (1)
ولله در القائل:
فيا عجباً لمن ربيت طفلاً ... ألقمه بأطراف البنان
أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني
أعلمه الفتوة كل وقت ... فلما طر شاربه جفاني
وكم علمته نظم القوافي ... فلما قال قافيةً هجاني (2)
الفتيا بغير علم إثم
جاء في محكم الذكر: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (3) , وجاء في السنة النبوية: (مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ) (4) , ولصفي الدين الحلي (5) :
__________
(1) - جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب تأليف السيد أحمد الهاشمي, ص700 , الناشر: مكتبة المعارف, بيروت, طبعة جديدة محققة ومنقحة أشرف على تصحيحها لجنة من الجامعيين, والموسوعة الشعرية ص128.
(2) - رويت هذه الأبيات لمعن بن أوس وللبيد وقيل غير ذلك , وانظر: الموسوعة الشعرية ص125, ومجمع الأمثال للميداني , وأدب الدنيا والدين.
(3) - سورة الأعراف الآية (33) .
(4) - أخرجه أبو داود سليمان الاشعث السجستاني الأزدي, في سننه باب التوقي في الفتيا حديث (3657) .
(5) - عبد العزيز بن سرايا بن علي بن أبي القاسم، السنبسي الطائي, شاعر عصره، ولد ونشأ في الحلة، بين الكوفة وبغداد، واشتغل بالتجارة فكان يرحل إلى الشام ومصر وماردين وغيرها في تجارته ويعود إلى العراق, انقطع مدة إلى أصحاب ماردين فَتَقَّرب من ملوك الدولة الأرتقية ومدحهم وأجزلوا له عطاياهم. ورحل إلى القاهرة، فمدح السلطان الملك الناصر وتوفي ببغداد, له (ديوان شعر) ، و (العاطل الحالي) : رسالة في الزجل والموالي، و (الأغلاطي) ، معجم للأغلاط اللغوية و (درر النحور) ، وهي قصائده المعروفة بالأرتقيات، و (صفوة الشعراء وخلاصة البلغاء) ، و (الخدمة الجليلة) ، رسالة في وصف الصيد بالبندق.
إِذا لَم تَكُن عالِماً بِالسُؤالِ ... فَتَركُ الجَوابِ لَهُ أَسلَمُ
فَإِن أَنتَ شَكَّكتَ فيما سُئِلـ ... ـتَ فَخيرُ جَوابِكَ لا أَعلَمُ
وقال آخر:
وَمَن كانَ يَهوى أَن يُرى مُتَصَدِّراً ... وَيَكرَهُ لا أَدري أَصيبَت مَقاتِلُه (1)
فمن عاش وعَقَل وعلم وعمل وترك آثاراً طيبة فقد أدركته السعادة قال الشاعر:
فمن عاش حتى ينفع الناس علمه ... فلا زال ممتداً له العيش والعمر
وما الخلد إلا للذين إذا انتهت ... حياتهم بالخير دام بها الذكر (2)
العليم الخبير في أسماء الله الحسنى
إن الله جل وعلا عليم محيط علمه بكل شيء، فهو الذي تفرد سبحانه بعلم الغيب والشهادة، وهو الذي يعلم غيب السماوات والأرض، وهو
__________
(1) - أورد هذا البيت الماوردي في أدب الدنيا والدين لأبي الحسن محمد حبيب الماوردي, ص42, طبعة دار الكتب العلمية , بيروت , الطبعة الأولى1411هـ, من غير ذكر لقائله.
(2) - ذكر هذين البيتين العلامة محمد بن سالم بن حسين الكدادي البيحاني في إصلاح المجتمع ص159 , الناشر: شركة ومكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر الطبعة الثانية 1375هـ1955م.
الذي يعلم الظواهر والبواطن، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا اصغر من ذلك ولا اكبر، فهو لا يغفل ولا ينسى.
فما علوم الخلائق بالنسبة إلى علم الخالق بشيء، ولا يمكن مقارنتها بعلمه بوجه من الوجوه فهو الذي علّمهم شيئاً يسيراً من العلم لم يكونوا يعلمونه، تفضل الله به عليهم، وفي محكم التنزيل: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (1) , فسبحانك ربنا لا نقول إلا كما قالت الملائكة: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (2) ، فهو الذي خلق الخلائق من العدم، وعلم الإنسان ما لم يكن يعلم، وخلق له ما لم يكن يعلم، فتبارك الذي علم بالقلم، وأمره بالقراءة باسم ربه الأكرم، فقال جل شأنه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ*عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (3) ، وفي سورة البقرة يقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (4) ، فعلمه سبحانه محيط بجميع العالم العلوي والسفلي وما فيه من المخلوقات ذواتها، وأوصافها وأفعالها، وجميع أمورها، فهو يعلم ما كان وما يكون في المستقبلات التي لا نهاية لها وما لم يكن لو كان كيف يكون، ويعلم أحوال المكلفين منذ إنشائهم، وبعد ما يميتهم، وبعد ما
__________
(1) - سورة الإسراء الآية (85) .
(2) - سورة البقرة الآية (32) .
(3) - سورة العلق الآية (1-5) .
(4) - سورة البقرة الآية (29) .
يحييهم، فأحاط بأعمالهم كلها خيرها وشرها، وجزاء تلك الأعمال وتفاصيل ذلك في دار القرار (1) ، سبحانه فهو يحيي الأرض بعد موتها: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2) .
وقال الحليمي في معنى العليم: انه المدرك لما يدركه المخلوقون بعقولهم وحواسهم ما لا يستطيعون إدراكه من غير أن يكون موصوفاً بعقل أو حس، وذلك راجع إلى انه لا يعزب ولا يغيب عنه شيء، ولا يعجزه إدراك شيء كما يعجز عن ذلك من لا عقل له أو حس له من المخلوقين، ومعنى ذلك انه لا يشبهم ولا يشبهونه.
وقال أبو سليمان الخطابي: العليم هو العالم بالسرائر والخفيات التي لا يدركه علم الخلق، وجاء على بناء فعيل للمبالغة في وصفه بكمال العلم (3) ، والنصوص في ذكر إحاطة علم الله وتفصيل دقائق معلوماته كثيرة جدا لا داعي لنقلها كونها معلومة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وانه لا يعزب عنه مثقال ذره في الأرض ولا في السماء، وانه الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن والسرائر والخفيات والأمور المتقدمة
__________
(1) - الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي ص37و38 , الجامع لأسماء الله الحسنى دراسة وتحقيق حامد احمد الطاهر, ص120 , الطبعة الأولى 1423هـ دار الفجر للتراث القاهرة.
(2) - سورة الحديد الآية (17) .
(3) - الأسماء والصفات تأليف العلامة أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى الخسروجردي البيهقي (384-458هـ) , ص (63) , منشورات محمد علي بيضون دار الكتب العلمية بيروت 1422هـ2001م, والجامع لأسماء الله الحسنى ص (119)
والمتأخرة (1) , فهو سبحانه عليم بالإسرار والإعلان، وبالواجبات والمستحيلات والممكنات وبالعالم السفلي وبالماضي والحاضر والمستقبل لا يخفى عليه شيء من الأشياء.
ويطلق عليه سبحانه وتعالى علام الغيوب, وعالم الغيب والشهادة، فهو العلام العالم، فقد ورد في محكم التنزيل: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} (2) ، وفي السنة النبوية من حديث أَبُي سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ: بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ صَلاتَهُ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: كَانَ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلاتَهُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (3) ، وفي وراية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ: أَبُو بَكْر الصديق رضي الله عنه: (يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِشَيْءٍ أَقُولُهُ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ, قَالَ: ٍقُلْ: اللَّهُمَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ, قَالَ: قُلْهُ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا
__________
(1) - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي ص (517) , الطبعة الثانية 1426هـ, الناشر: دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع.
(2) - سورة التوبة الآية (78) .
(3) - رواه الإمام الحافظ المحدث أبو الحسن مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري, (204 - 261هـ) , في صحيحه باب الدعاء في صلاة الليل والقيام حديث (770) . الناشر: دار بن رجب 1422هـ.
أَمْسَيْتَ وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ) (1) ، فقد ثبت تسمية الحق سبحانه وتعالى، ووصفه انه جل شأنه علام الغيوب بالقران، وفي السنة النبوية ورود اسم (العالم) كما هو مصرح به في الحديثين السالف بيانهما.
قال الحليمي في معنى العالم: إنه مدرك الأشياء على ما هي به، وإنما وجب أن يوصف عز اسمه بالعالم؛ لأنه قد ثبت أن ما عداه من الموجودات فعل له، وأنه لا يمكن أن يكون فعل إلا باختيار وإرادة والفعل على هذا الوجه لا يظهر إلا من عالم كما لا يظهر إلا من حي. (2)
وفي معنى العلام قال الحليمي: هو العالم بأصناف المعلومات على تفاوتها، فهو يعلم الموجود وعلم ما هو كائن، وانه إذا كان كيف يكون، ويعلم ما ليس بكائن. (3)
أما اسمه تعالى الخبير: فهو الذي أنتها علمه إلى الإحاطة ببواطن الأشياء وخفاياها كما أحاط بظاهرها، وقد تكرر هذا الاسم في القران الحكيم قال القرطبي وقد أجمعت عليه ألامه: ولا خلاف في إجرائه على العبد (4) ، وفي التنزيل حكاية عن لقمان عليه السلام: {يا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن
__________
(1) - سنن الترمذي للإمام الحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرَةَ الترمذي، المولود سنة 209هـ والمتوفي سنة 279هـ، باب ما جاء في الدعاء إذا أصبح وإذا أمسى حديث (3392) , وقال: هذا حديث حسن صحيح. الناشر المكتبة الإسلامية.
(2) - الأسماء والصفات للبيهقي ص (37) .
(3) - الأسماء والصفات للبيهقي ص (64) ، والجامع لأسماء الله الحسنى ص (206) .
(4) - الآسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى للإمام شمس الدين أبي عبد الله القرطبي تحقيق الشحات الطحان، ص (492) , الناشر: مكتبة فياض للتجارة والتوزيع, الطبعة الأولى، 1427هـ-2006م.
فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (1) ، وفي سورة فاطر يقول سبحانه: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} (2) ، ولا يخفى على اللطيف الخبير ما تحويه الضمائر وتخفيه الصدور.
علم الله جل وعلا علم تفرده به
أإن علم الحق سبحانه وتعالى ليس كعلم المخلوقين لأنه يشمل جميع المعلومات، ويحيط بجميع المخلوقات فلا يخلو عن علمه مكان ولازمان بخلاف علم العبد.
ب علم الله جل وعلا لا يتغير بتغير المعلومات، ولا يتأثر بتعاقب الأزمنة والأوقات.
ج علم الله سبحانه وتعالى غير مستفاد من الحواس ولا من الفكر بخلاف العبد.
د علم الله جل وعلا ضروري الثبوت ممتنع الزوال، لأنه جل وعلا كما اخبر عن نفسه: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ} (3) ، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} (4) ، وعلم العبد جائز الزوال.
هـ
و
__________
(1) - سورة لقمان الآية (16) .
(2) - سورة فاطر الآية (31) .
(3) - سورة البقرة (255) .
(4) - سورة مريم (64)
ي الحق سبحانه وتعالى لا يشغله علم عن علم بخلاف العبد.
أأ إن معلومات الحق سبحانه وتعالى غير متناهية بخلاف معلومات العبد.
ز إن الله جل وعلا لا تخفى عليه خافيه، ولا يعزب عن علمه قاصيه ولا دانيه (1) .
ثمرة معرفة اسم الله تعالى العليم الخبير
من عرف أن الله جل وعلا علام عالم عليم خبير بحاله وبشئون الحياة وما تؤل إليه وجب عليه الإيمان به سبحانه وتعالى وبصفاته وأسمائه، وبما اوجب الإيمان به وخشيته ومراقبته، وتوحيده والإيمان به، والخضوع له وطاعته، والشكر له على آلائه، والصبر على بلائه، والاعتذار إليه من قبيح الخطايا، وإفراده بالدعاء والتقرب إليه بالإعمال الصالحة، وان يكون العبد شديد البحث والفحص عن محاسن الأخلاق ومفاتيحها، وعدم اغترار الإنسان بعلمه وتدليس إبليس، والخوف من الله والحياء منه في جميع الأقوال والأعمال، لأنه يعلم السر وأخفى ويعلم ما تخفي الصدور، ووجب عليه الإيمان بما علم من صفات الله وأسمائه والعمل بأحكامه وحلاله وحرامه، والعلم بما افترضه الله وندب إليه رسوله، والسعي الحثيث إلى تعلم ما اوجب الله تعلمه، ومن ذلك ما ارشد إليه في محكم التنزيل من نحو قول سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (2) ،
__________
(1) - الجامع لأسماء الله الحسنى ص (207) .
(2) - سورة محمد الآية (19) .
وقوله جل شانه: {اعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (1) ، وقوله جل وعلا: {وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (2) ، وغير ذلك من الآيات والأحاديث التي تحث على التعلم والعلم والعمل والطاعة والإذعان، والتوجه في كل الأحوال إلى الله الملك الديان، ولله در القائل:
قَد كَفاني عِلمُ رَبّي ... مِن سُؤالي وَاِختِياري
فَدُعائي وَاِبتِهالي ... شاهِدٌ لي بِاِفتِقاري
فَلِهَذا السِرُّ أَدعو ... في يَساري وَعِساري
أَنا عَبدٌ صارَ فَخري ... ضِمنَ فَقري وَاِضطِراري
قَد كَفاني عِلمُ رَبّي ... مِن سُؤالي وَاِختِياري
يا إِلَهي وَمَليكي ... أَنتَ تَعلَمُ كَيفَ حالي
وَبِما قَد حَلَّ قَلبي ... مِن هُمومٍ وَاِشتِغالي
فَتَدارَكَني بِلُطفٍ ... مِنكَ يا مَولى المَوالي
يا كَريمَ الوَجهِ غِثني ... قَبلَ اَن يَفنى اِصطِباري
قَد كَفاني عِلمُ رَبّي ... مِن سُؤالي وَاِختِيارِ
يا سريعَ الغَوثِ غَوثاً ... مِنكَ يُدرُكُني سَريعا
يَهزِمُ العُسرَ وَيَأتي ... بِالَّذي أَرجو جَميعا
يا قَريباً يا مُجيباً ... يا عَليماً يا سَميعا
قَد تَحَقَّقَت بِعَجزي ... وَخُضوعي وَاِنكِساري
__________
(1) - سورة المائدة الآية (98) .
(2) - سورة البقرة الآية (223) .
قَد كَفاني عِلمُ رَبّي.....مِن سُؤالي وَاِختِياري
لَم أَزَل بِالبابِ واقِفْ ... فَأَدِم رَبّي وُقوفي
وَبِوادي الفَضلِ عاكِفْ ... فَأَدِم رَبّي عُكوفي
وَلِحُسنِ الظَنِّ لازِمْ ... وَهوَ خِلّي وَحَليفي
وَأَنيسي وَجَليسي ... طولَ لَيلي وَنَهاري
قَد كَفاني عِلمُ رَبّي ... مِن سُؤالي وَاِختِباري
حاجَةً في النَفسِ رَبّي ... فَاِقضِها يا خَيرَ قاضي
وَأَرِح سِرّي وَقَلبي ... مِن لَظاها وَالشَواظِ
في سُرورٍ وَحُبورِ ... وَإِذا ما كُنتُ راضي
فَالهَنا وَالبَسطُ حالي ... وَشِعاري وَدِثاري
قَد كَفاني عِلمُ رَبّي ... مِن سُؤالي وَاِختِياري (1)
والعاقل يعرف بان الله يعلم ويرى فهو يراقب الله في كل حركاته وسكناته وفي جميع أقواله وأفعاله، وهو يستشعر عظمة الله فيرجوه ويخافه ويفرده بالدعاء والاستغاثة ويطلب منه العون ويسأله من خير الدنيا والآخرة، فهو سبحانه بيده العطاء والمن، وفيه الرغبة ومنه الرهبة.
__________
(1) - هذه الأبيات للعلامة الحداد (1044-1132هـ/1634-1720م) عبد الله بن علوي بن محمد بن أحمد المهاجر بن عيسى الحسيني الحضرمي المعروف بالحداد أو الحدادي باعلوي. فاضل من أهل تريم (بحضرموت) مولده في (السير) من ضواحيها، ووفاته في (الحاوي) ودفن في تريم, كان كفيفاً، ذهب الجدري ببصره طفلاً، واضطهده اليافعيون حكام تريم فكان ذلك سبب انتقاله إلى الحاوي. له رسائل وكتب منها (عقيدة التوحيد) و (الدعوة التامة والتذكرة العامة) ، (تبصره الولي بطريقة السادة بني علوي) ، و (المسائل الصوفية) , وجمع تلميذه أحمد بن عبد الكريم الشجار الإحسائي، طائفة من كلامه في كتاب سماه (تثبيت الفؤاد) . وانظر ديوانه المسمى الدر المنظوم لذوي العقول والفهوم, ص256, الناشر: مؤسسة عبد الحفيظ البساط بيروت لبنان الطبعة الثانبة 1421هـ.
دعاء الله باسمه العالم العليم
دعاء الحق سبحانه وتعالى بصفة العلم مما صرحت به السنة النبوية كما في الأحاديث السالف بيانها ومن ذلك (اللَّهُمَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) ، وقد سار على ذلك العلماء والشعراء في أشعارهم وأذكارهم ودعائهم، وقد جاء في شعر السيد عبد الله الحداد:
يا رب يا عالم الحال ... إليك وجهت لآمال
فامنن علينا بالاقبال ... وكن لنا واصلح الحال
يا رب يا رب الارباب ... عبدك فقيرك على الباب
أتى وقد بت الاسباب ... مستدركاً بعد ما مال
يا واسع الجود جودك ... الخير خيرك وعندك
فوق الذي رام عبدك ... فادرك برحمتك الحال
يا موجد الخلق طرا ... وموسع الكل برا
أسألك اسبال سترا ... على القبائح والاخطال
يا من يرى سر قلبي ... حسبي اطلاعك حسبي
فامح بعفوك ذنبي ... واصلح قصودي والأعمال
رب عليك اعتمادي ... كما إليك استنادي
صدقا وأقصى مرادي ... رضاؤك الدائم الحال
رب يا رب إني ... أسألك العفو عني
ولم يخب فيك ظني ... يا مالك الملك يا وال
أشكو إليك وأبكي ... من شؤم ظلمي وإفكي
وسوء فعلي وتركي.......وشهوة القيل والقال
وحب دنيا ذميمه ... من كل خير عقيمه
فيها البلايا مقيمه ... وحشوها آفات واشغال
يا ويح نفسي الغويه ... من السبيل السويه
أضحت تروح عليه ... وقصدها الجاه والمال
يا رب قد غلبتني ... وبالاماني سبتني
وفي الحظوظ كبتني ... وقيدتني بالاكبال
قد استعنتك ربي ... على مداواة قلبي
وحل عقدة كربي ... فانظر إلى الغم ينجال
يا رب يا خير كافي ... احلل علينا العوافي
فليس شيء ثم خافي ... عليك تفصيل وإجمال
يا رب عبدك ببابك ... يخشي أليم عذابك
ويرتجي لثوابك ... وغيث رحمتك هطال
وقد أتاك بعذره ... وانكساره وفقره
فاهزم بيسرك عسره ... بمحض جودك والافضال
وامنن عليك بتوبه ... تغسله من كل حوبه
واعصمه من شر أو به ... لكل ما عنه قد حال
فأنت مولى الموالي ... المنفرد بالكمال
وبالعلى والتعالي ... علوت عن ضرب الامثال
جودك وفضلك يرجى......وبطشك وقهرك يخشى
وذكرك وشكرك لازم ... وحمدك والاجلال
يا رب أنت نصيري ... فلقني كل خير
واجعل جنانك مصيري ... واختم بالايمان الآجال
وصل في كل حالهْ ... علي مزيل الضلالهْ
من كلمته الغزاله ... محمد الهادي الدال
والحمد لله شكراً ... على نعم منه تترى
نحمده سراً وجهراً ... وبالغدو والآصال
فنسألك اللهم يا عالم الغيب والشهادة يا عليم يا خبير أن تصلى على محمد البشير النذير واسئلك ان ترزقني علمه واتباعه يالطيف ياخبير وان تعلمني والمؤمنين من العلم النافع ما لم نكن نعلم، وان تفهمنا من العلوم ما لم نكن نفهم، وان تتفضل علينا بتوفيقك للعمل بما نعلم، وان تشرفنا بمعرفة اسمك الأعظم انك على كل شيء قدير، وان ترزقنا ذكرك وشكرك ما أحييتنا، وان تصلحنا وتصلح بنا، وتنفعنا وتنفع بنا، انك أنت الله العليم الخبير العالم الأكرم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم انك حميد مجيد قريب مجيب.
في إنفاق العلم ونشره بقاؤه ونماؤه, وذخره وأجره, قال الشاعر:
العلم كنزٌ كلما أنفقته ينمو ... وإنما لم ترجُ انفاقاً فني
وفي الحديث: (مَنْ كَتَمَ عِلْمًا مِمَّا يَنْفَعُ اللَّهُ بِهِ فِي أَمْرِ النَّاسِ أَمْرِ الدِّينِ أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ النَّارِ) (2) .
ولبعض الشعراء:
إذا العلم لم تعمل به كان حجة ... عليك ولم تعذر بما أنت جاهله
فإن كنت قد أوتيت علماً فإنما ... يصدق قول المرء ما هو فاعله (3)
وقال آخر:
وعالم بعلمه لم يعملن ... معذبٌ من قبل عباد الوثن
أما عبد الملك بن ادريس الجزيلي فهو يرى أن العلم لا ينفع صاحبه ما لم يفد عملاً وحسن تبصر وذلك حيث يقول:
والعلم ليس بنافع أربابه ... ما لم يفد عملاً وحسن تبصرِ
سيان عندي علم من لم يستفد ... عملاً به وصلاة من لم يطهرِ
__________
(1) - ديوان الإمام الشافعي ص106.
(2) - أخرجه ابن ماجه في سننه باب من سئل عن علم فكتمه حديث (265) .
(3) - جامع بيان العلم لابن عبد البر ج2ص7 , والموسوعة الشعرية ص108.
فاعمل بعلمك توف نفسك وزنها.......لا ترض بالتضييع وزن المخسرِ
ويقول ابراهيم التنوخي:
وإذا الفتى قد نال علماً ثم لم ... يعمل به فكأنما لم يعلم
أما ابن عماد الاقفهسي فهو يرى أن من لم يعمل بعلمه خائب وذلك حيث يقول:
وإن علمت ولم تعمل على وجل ... فما ربحت فقل يا خيبة الأمل
ولله در القائل:
اعمل بعلمي وإن قصرت في عملي ... ينفعك علمي ولا يضرك تقصيري
القصة في الحديث النبوي
خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ بَعْضِ حُجَرِهِ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِحَلْقَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَدْعُونَ اللَّهَ وَالأُخْرَى يَتَعَلَّمُونَ وَيُعَلِّمُونَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: (كُلٌّ عَلَى خَيْرٍ هَؤُلاءِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَدْعُونَ اللَّهَ فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ وَهَؤُلاءِ يَتَعَلَّمُونَ وَإِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا, فَجَلَسَ مَعَهُمْ) (1) .
الجهل يضاد العلم
العلم حياة الأمة, والجهل حرمانها, فمن تعلم شفي ومن جهل عمي, وقديما قيل: " الجهل مطية من ركبها ذل, ومن صحبها ضل, وشر المصائب الجهل", ويرحم الله احمد شوقي حيث يقول:
هل علمتم أمةً في جهلها ... ظهرت في المجد حسناء الرداء
__________
(1) - رواه ابن ماجه في سننه باب فضل العلماء حديث (225) , والدارمي في سننه باب في فضل العلم حديث (357) .
وله أيضا:
إني نظرت إلى الشعوب فلم أجد ... كالجهل داءً للشعوب مبيدا
الجهل لا يلد الحياة مواته ... إلا كما تلد الرمام الدودا
أما جرد ابن عمرو فهو يقول:
رأيت العز في أدب وعلم ... وفي الجهل المذلة والهوان (1)
الجهل أنكى عدو, وأخبث صديق, والجهل داء قاتل, وشقاء حاصل, فإذا خيم على أمة فسدت, أو على أسرة مسخت, قال الشاعر:
إذا ما الجهل خيم في بلاد ... رأيت أسودها مسخت قرودا (2)
وقال الإمام ابن القيم:
والجهل داء قاتل وشفاؤه ... أمران في التركيب متفقانِ
نص من القرآن أو من سنة ... وطبيب ذاك العالم الرباني (3)
منازعة العلماء تنفي العقل وتثبت الجهل, وأجهل الناس من قل صوابه وكثر اعجابه, قال الشاعر:
أليس من البلوى بانك جاهل ... وأنك لا تدري بأنك لا تدري
إذا كنت لا تدري ولست كمن درا ... فكيف إذاً تدري بأنك لا تدري (4)
أما ابن دريد (5) فإنه يقول:
__________
(1) - أدب الدنيا والدين للماوردي ص266.
(2) - البيت هذا لمعروف للرصافي.
(3) - شرح الكافية ج2ص240 , والموسوعة الشعرية ص128.
(4) - العقد الفريد لابن عبدربه ج2ص151.
(5) - محمد بن الحسن بن دريد الأزدي القحطاني، أبو بكر, (223-321هـ/838-932م) , من أئمة اللغة والأدب، كانوا يقولون: ابن دريد أشعر العلماء وأعلم الشعراء، وهو صاحب المقصورة الدريدية، ولد في البصرة وانتقل إلى عمان فأقام اثني عشر عاما وعاد إلى البصرة ثم رحل إلى نواحي فارس فقلده آل ميكال ديوان فارس، ومدحهم بقصيدته المقصورة، ثم رجع إلى بغداد واتصل بالمقتدر العباسي فأجرى عليه في كل شهر خمسين دينارا فأقام إلى أن توفي, من كتبه (الاشتقاق-ط) في الأنساب، و (المقصور والممدود-ط) ، و (الجمهرة-ط) في اللغة، ثلاثة مجلدات، و (أدب الكاتب) ، و (الأمالي) .
جهلت فعاديت العلوم وأهلها ... كذاك يعادي العلم من هو جاهله
وقال آخر:
جهلت أمراً فأبديت النكير له ... والجاهلون لأهل العلم أعداء
وقديما قيل: "أربعة يقضى بها على أربعة: السعاية على الدناءة, والإساءة على الرداءة, والحلف على البخل, والسخف على الجهل, وأربعة لا تنفك عن أربعة: الجهول عن السقط, والغفول عن الغلط, والعجول عن الزلل, والملول عن العمل, وأربعة تدل على الجهل: صحبة الجهول, وكثرة الفضول, وإذاعة السر, وإثارة الشر". (1)
وقيل أيضاً: "ليس للمرء أن يفرح بحالة جليلة نالها بغير عقل, أو منزلة رفيعة حلها بغير فضل, فإن الجهل ينزله منها, ويزيله عنها, ويحطه إلى رتبته, ويرده إلى قيمته, بعد أن تظهر عيوبه, وتكثر ذنوبه, ويصير مادحه هاجياً, ويصبح وليه معادياً", وربما أقبلت الدنيا على الجاهل بالاتفاق, وأدبرت عن العاقل العالم مع الاستحقاق, فإذا أتتك منها سهمة مع جهل أو فاتتك فيها بغية مع عقل فلا يحملنك ذلك على الرغبة في الجهل, والزهد في العقل والعلم, فدولة الجاهل من الممكنات, ودولة العاقل من الواجبات, وليس ما أمكنه شيء من ذاته كمن استوجبه بآلته وأداته, فعداوة العاقل خير من صادقة الجاهل. (2)
__________
(1) - الفرائد والقلائد ص71.
(2) - الفرائد والقلائد ص13-14.
والجهل أضر الأصحاب, والذم أقبح الأثواب, والجاهل من جهله في إغواء, ومن هواه في إغراء, فقوله سقيم, وفعله ذميم, ودولة الجاهل عبرة للعاقل, وقديماً قيل: "عالم معاند خير من جاهل مساعد", و"الجهل بالفضائل من أقبح الرذائل".
والجهل يضع والعلم يرفع, قال الشاعر:
العلم يرفع بيت لا عماد له ... والجهل يهدم بيت العز والشرف (1)
ولله در القائل:
فيا عجباً لمن ربيت طفلاً ... ألقمه بأطراف البنان
أعلمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني
أعلمه الفتوة كل وقت ... فلما طر شاربه جفاني
وكم علمته نظم القوافي ... فلما قال قافيةً هجاني (2)
الفتيا بغير علم إثم
جاء في محكم الذكر: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (3) , وجاء في السنة النبوية: (مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ) (4) , ولصفي الدين الحلي (5) :
__________
(1) - جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب تأليف السيد أحمد الهاشمي, ص700 , الناشر: مكتبة المعارف, بيروت, طبعة جديدة محققة ومنقحة أشرف على تصحيحها لجنة من الجامعيين, والموسوعة الشعرية ص128.
(2) - رويت هذه الأبيات لمعن بن أوس وللبيد وقيل غير ذلك , وانظر: الموسوعة الشعرية ص125, ومجمع الأمثال للميداني , وأدب الدنيا والدين.
(3) - سورة الأعراف الآية (33) .
(4) - أخرجه أبو داود سليمان الاشعث السجستاني الأزدي, في سننه باب التوقي في الفتيا حديث (3657) .
(5) - عبد العزيز بن سرايا بن علي بن أبي القاسم، السنبسي الطائي, شاعر عصره، ولد ونشأ في الحلة، بين الكوفة وبغداد، واشتغل بالتجارة فكان يرحل إلى الشام ومصر وماردين وغيرها في تجارته ويعود إلى العراق, انقطع مدة إلى أصحاب ماردين فَتَقَّرب من ملوك الدولة الأرتقية ومدحهم وأجزلوا له عطاياهم. ورحل إلى القاهرة، فمدح السلطان الملك الناصر وتوفي ببغداد, له (ديوان شعر) ، و (العاطل الحالي) : رسالة في الزجل والموالي، و (الأغلاطي) ، معجم للأغلاط اللغوية و (درر النحور) ، وهي قصائده المعروفة بالأرتقيات، و (صفوة الشعراء وخلاصة البلغاء) ، و (الخدمة الجليلة) ، رسالة في وصف الصيد بالبندق.
إِذا لَم تَكُن عالِماً بِالسُؤالِ ... فَتَركُ الجَوابِ لَهُ أَسلَمُ
فَإِن أَنتَ شَكَّكتَ فيما سُئِلـ ... ـتَ فَخيرُ جَوابِكَ لا أَعلَمُ
وقال آخر:
وَمَن كانَ يَهوى أَن يُرى مُتَصَدِّراً ... وَيَكرَهُ لا أَدري أَصيبَت مَقاتِلُه (1)
فمن عاش وعَقَل وعلم وعمل وترك آثاراً طيبة فقد أدركته السعادة قال الشاعر:
فمن عاش حتى ينفع الناس علمه ... فلا زال ممتداً له العيش والعمر
وما الخلد إلا للذين إذا انتهت ... حياتهم بالخير دام بها الذكر (2)
العليم الخبير في أسماء الله الحسنى
إن الله جل وعلا عليم محيط علمه بكل شيء، فهو الذي تفرد سبحانه بعلم الغيب والشهادة، وهو الذي يعلم غيب السماوات والأرض، وهو
__________
(1) - أورد هذا البيت الماوردي في أدب الدنيا والدين لأبي الحسن محمد حبيب الماوردي, ص42, طبعة دار الكتب العلمية , بيروت , الطبعة الأولى1411هـ, من غير ذكر لقائله.
(2) - ذكر هذين البيتين العلامة محمد بن سالم بن حسين الكدادي البيحاني في إصلاح المجتمع ص159 , الناشر: شركة ومكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر الطبعة الثانية 1375هـ1955م.
الذي يعلم الظواهر والبواطن، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا اصغر من ذلك ولا اكبر، فهو لا يغفل ولا ينسى.
فما علوم الخلائق بالنسبة إلى علم الخالق بشيء، ولا يمكن مقارنتها بعلمه بوجه من الوجوه فهو الذي علّمهم شيئاً يسيراً من العلم لم يكونوا يعلمونه، تفضل الله به عليهم، وفي محكم التنزيل: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (1) , فسبحانك ربنا لا نقول إلا كما قالت الملائكة: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (2) ، فهو الذي خلق الخلائق من العدم، وعلم الإنسان ما لم يكن يعلم، وخلق له ما لم يكن يعلم، فتبارك الذي علم بالقلم، وأمره بالقراءة باسم ربه الأكرم، فقال جل شأنه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ*عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (3) ، وفي سورة البقرة يقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (4) ، فعلمه سبحانه محيط بجميع العالم العلوي والسفلي وما فيه من المخلوقات ذواتها، وأوصافها وأفعالها، وجميع أمورها، فهو يعلم ما كان وما يكون في المستقبلات التي لا نهاية لها وما لم يكن لو كان كيف يكون، ويعلم أحوال المكلفين منذ إنشائهم، وبعد ما يميتهم، وبعد ما
__________
(1) - سورة الإسراء الآية (85) .
(2) - سورة البقرة الآية (32) .
(3) - سورة العلق الآية (1-5) .
(4) - سورة البقرة الآية (29) .
يحييهم، فأحاط بأعمالهم كلها خيرها وشرها، وجزاء تلك الأعمال وتفاصيل ذلك في دار القرار (1) ، سبحانه فهو يحيي الأرض بعد موتها: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2) .
وقال الحليمي في معنى العليم: انه المدرك لما يدركه المخلوقون بعقولهم وحواسهم ما لا يستطيعون إدراكه من غير أن يكون موصوفاً بعقل أو حس، وذلك راجع إلى انه لا يعزب ولا يغيب عنه شيء، ولا يعجزه إدراك شيء كما يعجز عن ذلك من لا عقل له أو حس له من المخلوقين، ومعنى ذلك انه لا يشبهم ولا يشبهونه.
وقال أبو سليمان الخطابي: العليم هو العالم بالسرائر والخفيات التي لا يدركه علم الخلق، وجاء على بناء فعيل للمبالغة في وصفه بكمال العلم (3) ، والنصوص في ذكر إحاطة علم الله وتفصيل دقائق معلوماته كثيرة جدا لا داعي لنقلها كونها معلومة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وانه لا يعزب عنه مثقال ذره في الأرض ولا في السماء، وانه الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن والسرائر والخفيات والأمور المتقدمة
__________
(1) - الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي ص37و38 , الجامع لأسماء الله الحسنى دراسة وتحقيق حامد احمد الطاهر, ص120 , الطبعة الأولى 1423هـ دار الفجر للتراث القاهرة.
(2) - سورة الحديد الآية (17) .
(3) - الأسماء والصفات تأليف العلامة أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى الخسروجردي البيهقي (384-458هـ) , ص (63) , منشورات محمد علي بيضون دار الكتب العلمية بيروت 1422هـ2001م, والجامع لأسماء الله الحسنى ص (119)
والمتأخرة (1) , فهو سبحانه عليم بالإسرار والإعلان، وبالواجبات والمستحيلات والممكنات وبالعالم السفلي وبالماضي والحاضر والمستقبل لا يخفى عليه شيء من الأشياء.
ويطلق عليه سبحانه وتعالى علام الغيوب, وعالم الغيب والشهادة، فهو العلام العالم، فقد ورد في محكم التنزيل: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} (2) ، وفي السنة النبوية من حديث أَبُي سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: (سَأَلْتُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ: بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ صَلاتَهُ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: كَانَ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلاتَهُ: اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (3) ، وفي وراية عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ: أَبُو بَكْر الصديق رضي الله عنه: (يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِشَيْءٍ أَقُولُهُ إِذَا أَصْبَحْتُ وَإِذَا أَمْسَيْتُ, قَالَ: ٍقُلْ: اللَّهُمَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ, قَالَ: قُلْهُ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا
__________
(1) - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي ص (517) , الطبعة الثانية 1426هـ, الناشر: دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع.
(2) - سورة التوبة الآية (78) .
(3) - رواه الإمام الحافظ المحدث أبو الحسن مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري, (204 - 261هـ) , في صحيحه باب الدعاء في صلاة الليل والقيام حديث (770) . الناشر: دار بن رجب 1422هـ.
أَمْسَيْتَ وَإِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ) (1) ، فقد ثبت تسمية الحق سبحانه وتعالى، ووصفه انه جل شأنه علام الغيوب بالقران، وفي السنة النبوية ورود اسم (العالم) كما هو مصرح به في الحديثين السالف بيانهما.
قال الحليمي في معنى العالم: إنه مدرك الأشياء على ما هي به، وإنما وجب أن يوصف عز اسمه بالعالم؛ لأنه قد ثبت أن ما عداه من الموجودات فعل له، وأنه لا يمكن أن يكون فعل إلا باختيار وإرادة والفعل على هذا الوجه لا يظهر إلا من عالم كما لا يظهر إلا من حي. (2)
وفي معنى العلام قال الحليمي: هو العالم بأصناف المعلومات على تفاوتها، فهو يعلم الموجود وعلم ما هو كائن، وانه إذا كان كيف يكون، ويعلم ما ليس بكائن. (3)
أما اسمه تعالى الخبير: فهو الذي أنتها علمه إلى الإحاطة ببواطن الأشياء وخفاياها كما أحاط بظاهرها، وقد تكرر هذا الاسم في القران الحكيم قال القرطبي وقد أجمعت عليه ألامه: ولا خلاف في إجرائه على العبد (4) ، وفي التنزيل حكاية عن لقمان عليه السلام: {يا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن
__________
(1) - سنن الترمذي للإمام الحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرَةَ الترمذي، المولود سنة 209هـ والمتوفي سنة 279هـ، باب ما جاء في الدعاء إذا أصبح وإذا أمسى حديث (3392) , وقال: هذا حديث حسن صحيح. الناشر المكتبة الإسلامية.
(2) - الأسماء والصفات للبيهقي ص (37) .
(3) - الأسماء والصفات للبيهقي ص (64) ، والجامع لأسماء الله الحسنى ص (206) .
(4) - الآسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى للإمام شمس الدين أبي عبد الله القرطبي تحقيق الشحات الطحان، ص (492) , الناشر: مكتبة فياض للتجارة والتوزيع, الطبعة الأولى، 1427هـ-2006م.
فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (1) ، وفي سورة فاطر يقول سبحانه: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} (2) ، ولا يخفى على اللطيف الخبير ما تحويه الضمائر وتخفيه الصدور.
علم الله جل وعلا علم تفرده به
أإن علم الحق سبحانه وتعالى ليس كعلم المخلوقين لأنه يشمل جميع المعلومات، ويحيط بجميع المخلوقات فلا يخلو عن علمه مكان ولازمان بخلاف علم العبد.
ب علم الله جل وعلا لا يتغير بتغير المعلومات، ولا يتأثر بتعاقب الأزمنة والأوقات.
ج علم الله سبحانه وتعالى غير مستفاد من الحواس ولا من الفكر بخلاف العبد.
د علم الله جل وعلا ضروري الثبوت ممتنع الزوال، لأنه جل وعلا كما اخبر عن نفسه: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ} (3) ، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} (4) ، وعلم العبد جائز الزوال.
هـ
و
__________
(1) - سورة لقمان الآية (16) .
(2) - سورة فاطر الآية (31) .
(3) - سورة البقرة (255) .
(4) - سورة مريم (64)
ي الحق سبحانه وتعالى لا يشغله علم عن علم بخلاف العبد.
أأ إن معلومات الحق سبحانه وتعالى غير متناهية بخلاف معلومات العبد.
ز إن الله جل وعلا لا تخفى عليه خافيه، ولا يعزب عن علمه قاصيه ولا دانيه (1) .
ثمرة معرفة اسم الله تعالى العليم الخبير
من عرف أن الله جل وعلا علام عالم عليم خبير بحاله وبشئون الحياة وما تؤل إليه وجب عليه الإيمان به سبحانه وتعالى وبصفاته وأسمائه، وبما اوجب الإيمان به وخشيته ومراقبته، وتوحيده والإيمان به، والخضوع له وطاعته، والشكر له على آلائه، والصبر على بلائه، والاعتذار إليه من قبيح الخطايا، وإفراده بالدعاء والتقرب إليه بالإعمال الصالحة، وان يكون العبد شديد البحث والفحص عن محاسن الأخلاق ومفاتيحها، وعدم اغترار الإنسان بعلمه وتدليس إبليس، والخوف من الله والحياء منه في جميع الأقوال والأعمال، لأنه يعلم السر وأخفى ويعلم ما تخفي الصدور، ووجب عليه الإيمان بما علم من صفات الله وأسمائه والعمل بأحكامه وحلاله وحرامه، والعلم بما افترضه الله وندب إليه رسوله، والسعي الحثيث إلى تعلم ما اوجب الله تعلمه، ومن ذلك ما ارشد إليه في محكم التنزيل من نحو قول سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (2) ،
__________
(1) - الجامع لأسماء الله الحسنى ص (207) .
(2) - سورة محمد الآية (19) .
وقوله جل شانه: {اعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (1) ، وقوله جل وعلا: {وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (2) ، وغير ذلك من الآيات والأحاديث التي تحث على التعلم والعلم والعمل والطاعة والإذعان، والتوجه في كل الأحوال إلى الله الملك الديان، ولله در القائل:
قَد كَفاني عِلمُ رَبّي ... مِن سُؤالي وَاِختِياري
فَدُعائي وَاِبتِهالي ... شاهِدٌ لي بِاِفتِقاري
فَلِهَذا السِرُّ أَدعو ... في يَساري وَعِساري
أَنا عَبدٌ صارَ فَخري ... ضِمنَ فَقري وَاِضطِراري
قَد كَفاني عِلمُ رَبّي ... مِن سُؤالي وَاِختِياري
يا إِلَهي وَمَليكي ... أَنتَ تَعلَمُ كَيفَ حالي
وَبِما قَد حَلَّ قَلبي ... مِن هُمومٍ وَاِشتِغالي
فَتَدارَكَني بِلُطفٍ ... مِنكَ يا مَولى المَوالي
يا كَريمَ الوَجهِ غِثني ... قَبلَ اَن يَفنى اِصطِباري
قَد كَفاني عِلمُ رَبّي ... مِن سُؤالي وَاِختِيارِ
يا سريعَ الغَوثِ غَوثاً ... مِنكَ يُدرُكُني سَريعا
يَهزِمُ العُسرَ وَيَأتي ... بِالَّذي أَرجو جَميعا
يا قَريباً يا مُجيباً ... يا عَليماً يا سَميعا
قَد تَحَقَّقَت بِعَجزي ... وَخُضوعي وَاِنكِساري
__________
(1) - سورة المائدة الآية (98) .
(2) - سورة البقرة الآية (223) .
قَد كَفاني عِلمُ رَبّي.....مِن سُؤالي وَاِختِياري
لَم أَزَل بِالبابِ واقِفْ ... فَأَدِم رَبّي وُقوفي
وَبِوادي الفَضلِ عاكِفْ ... فَأَدِم رَبّي عُكوفي
وَلِحُسنِ الظَنِّ لازِمْ ... وَهوَ خِلّي وَحَليفي
وَأَنيسي وَجَليسي ... طولَ لَيلي وَنَهاري
قَد كَفاني عِلمُ رَبّي ... مِن سُؤالي وَاِختِباري
حاجَةً في النَفسِ رَبّي ... فَاِقضِها يا خَيرَ قاضي
وَأَرِح سِرّي وَقَلبي ... مِن لَظاها وَالشَواظِ
في سُرورٍ وَحُبورِ ... وَإِذا ما كُنتُ راضي
فَالهَنا وَالبَسطُ حالي ... وَشِعاري وَدِثاري
قَد كَفاني عِلمُ رَبّي ... مِن سُؤالي وَاِختِياري (1)
والعاقل يعرف بان الله يعلم ويرى فهو يراقب الله في كل حركاته وسكناته وفي جميع أقواله وأفعاله، وهو يستشعر عظمة الله فيرجوه ويخافه ويفرده بالدعاء والاستغاثة ويطلب منه العون ويسأله من خير الدنيا والآخرة، فهو سبحانه بيده العطاء والمن، وفيه الرغبة ومنه الرهبة.
__________
(1) - هذه الأبيات للعلامة الحداد (1044-1132هـ/1634-1720م) عبد الله بن علوي بن محمد بن أحمد المهاجر بن عيسى الحسيني الحضرمي المعروف بالحداد أو الحدادي باعلوي. فاضل من أهل تريم (بحضرموت) مولده في (السير) من ضواحيها، ووفاته في (الحاوي) ودفن في تريم, كان كفيفاً، ذهب الجدري ببصره طفلاً، واضطهده اليافعيون حكام تريم فكان ذلك سبب انتقاله إلى الحاوي. له رسائل وكتب منها (عقيدة التوحيد) و (الدعوة التامة والتذكرة العامة) ، (تبصره الولي بطريقة السادة بني علوي) ، و (المسائل الصوفية) , وجمع تلميذه أحمد بن عبد الكريم الشجار الإحسائي، طائفة من كلامه في كتاب سماه (تثبيت الفؤاد) . وانظر ديوانه المسمى الدر المنظوم لذوي العقول والفهوم, ص256, الناشر: مؤسسة عبد الحفيظ البساط بيروت لبنان الطبعة الثانبة 1421هـ.
دعاء الله باسمه العالم العليم
دعاء الحق سبحانه وتعالى بصفة العلم مما صرحت به السنة النبوية كما في الأحاديث السالف بيانها ومن ذلك (اللَّهُمَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) ، وقد سار على ذلك العلماء والشعراء في أشعارهم وأذكارهم ودعائهم، وقد جاء في شعر السيد عبد الله الحداد:
يا رب يا عالم الحال ... إليك وجهت لآمال
فامنن علينا بالاقبال ... وكن لنا واصلح الحال
يا رب يا رب الارباب ... عبدك فقيرك على الباب
أتى وقد بت الاسباب ... مستدركاً بعد ما مال
يا واسع الجود جودك ... الخير خيرك وعندك
فوق الذي رام عبدك ... فادرك برحمتك الحال
يا موجد الخلق طرا ... وموسع الكل برا
أسألك اسبال سترا ... على القبائح والاخطال
يا من يرى سر قلبي ... حسبي اطلاعك حسبي
فامح بعفوك ذنبي ... واصلح قصودي والأعمال
رب عليك اعتمادي ... كما إليك استنادي
صدقا وأقصى مرادي ... رضاؤك الدائم الحال
رب يا رب إني ... أسألك العفو عني
ولم يخب فيك ظني ... يا مالك الملك يا وال
أشكو إليك وأبكي ... من شؤم ظلمي وإفكي
وسوء فعلي وتركي.......وشهوة القيل والقال
وحب دنيا ذميمه ... من كل خير عقيمه
فيها البلايا مقيمه ... وحشوها آفات واشغال
يا ويح نفسي الغويه ... من السبيل السويه
أضحت تروح عليه ... وقصدها الجاه والمال
يا رب قد غلبتني ... وبالاماني سبتني
وفي الحظوظ كبتني ... وقيدتني بالاكبال
قد استعنتك ربي ... على مداواة قلبي
وحل عقدة كربي ... فانظر إلى الغم ينجال
يا رب يا خير كافي ... احلل علينا العوافي
فليس شيء ثم خافي ... عليك تفصيل وإجمال
يا رب عبدك ببابك ... يخشي أليم عذابك
ويرتجي لثوابك ... وغيث رحمتك هطال
وقد أتاك بعذره ... وانكساره وفقره
فاهزم بيسرك عسره ... بمحض جودك والافضال
وامنن عليك بتوبه ... تغسله من كل حوبه
واعصمه من شر أو به ... لكل ما عنه قد حال
فأنت مولى الموالي ... المنفرد بالكمال
وبالعلى والتعالي ... علوت عن ضرب الامثال
جودك وفضلك يرجى......وبطشك وقهرك يخشى
وذكرك وشكرك لازم ... وحمدك والاجلال
يا رب أنت نصيري ... فلقني كل خير
واجعل جنانك مصيري ... واختم بالايمان الآجال
وصل في كل حالهْ ... علي مزيل الضلالهْ
من كلمته الغزاله ... محمد الهادي الدال
والحمد لله شكراً ... على نعم منه تترى
نحمده سراً وجهراً ... وبالغدو والآصال
فنسألك اللهم يا عالم الغيب والشهادة يا عليم يا خبير أن تصلى على محمد البشير النذير واسئلك ان ترزقني علمه واتباعه يالطيف ياخبير وان تعلمني والمؤمنين من العلم النافع ما لم نكن نعلم، وان تفهمنا من العلوم ما لم نكن نفهم، وان تتفضل علينا بتوفيقك للعمل بما نعلم، وان تشرفنا بمعرفة اسمك الأعظم انك على كل شيء قدير، وان ترزقنا ذكرك وشكرك ما أحييتنا، وان تصلحنا وتصلح بنا، وتنفعنا وتنفع بنا، انك أنت الله العليم الخبير العالم الأكرم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم كما صليت على ابراهيم وعلى آل ابراهيم انك حميد مجيد قريب مجيب.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
الفصل الثاني العَقْل
العقل
العقل مناط التكليف؛ فهو هبة الله الخبير اللطيف, فأشرف ما في الإنسان عقله, وأفضل ما وهبه الله لعبده العقل, فبالعقل تحيى النفوس, وتنور القلوب, وتمضى الأمور, وتعمر الدنيا, ولو أن العقل كان شجرةً في هذه الحياة لطاب ثمارها, وفاح بالعبير أزهارها, يرحم الله المتنبي حيث يقول:
لَولا العُقولُ لَكانَ أَدنى ضَيغَمٍ ... أَدنى إِلى شَرَفٍ مِنَ الإِنسانِ (1)
وقال آخر:
يعد عظيم القدر من كان عاقلاً ... وإن لم يكن في عقله بحسيب
وإن حل أرضاً عاش فيها بعقله ... وما عاقل في بلدةٍ بغريب (2)
أما العلامة علي بن احمد خريصة اليمني فهو يقول:
إذا لم يكن عقل الفتى أكثر الفتى ... فأكثر ما فيه ولا شك قاتله
__________
(1) - انظر ديوان أبي الطيب المُتَنَبّي: (303-354هـ/915-965م) أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكوفي الكندي، أبو الطيب, الشاعر الحكيم، وأحد مفاخر الأدب العربي، له الأمثال السائرة والحكم البالغة والمعاني المبتكرة, ولد بالكوفة في محلة تسمى كندة وإليها نسبته، ونشأ بالشام، ثم تنقل في البادية يطلب الأدب وعلم العربية وأيام الناس, قال الشعر صبياً، وتنبأ في بادية السماوة (بين الكوفة والشام) فتبعه كثيرون، وقبل أن يستفحل أمره خرج إليه لؤلؤ أمير حمص ونائب الإخشيد فأسره وسجنه حتى تاب ورجع عن دعواه. وفد على سيف الدولة ابن حمدان صاحب حلب فمدحه وحظي عنده. ومضى إلى مصر فمدح كافور الإخشيدي وطلب منه أن يوليه، فلم يوله كافور، فغضب أبو الطيب وانصرف يهجوه. قصد العراق وفارس، فمدح عضد الدولة ابن بويه الديلمي في شيراز. عاد يريد بغداد فالكوفة، فعرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي في الطريق بجماعة من أصحابه، ومع المتنبي جماعة أيضاً، فاقتتل الفريقان، فقتل أبو الطيب وابنه محسّد وغلامه مفلح بالنعمانية بالقرب من دير العاقول في الجانب الغربي من سواد بغداد. وفاتك هذا هو خال ضبة بن يزيد الأسدي العيني، الذي هجاه المتنبي بقصيدته البائية المعروفة التي مطلعها:
ما أَنصَفَ القَومُ ضَبَّه ... وَأُمَّهُ الطُرطُبَّه
(2) - أورد هذين البيتين ابن أبي الدنيا في كتابه العقل وفضله ص29, الطبعة الأولى, من غير نسبة إلى قائل.
هل العقل إلا حجة مستنيرة......ونور هدى ما أن تضل دلائله
بحسبك أن العقل زين لأهله ... وإن ليس في الخيرات شيء يعادله (1)
وقد نسب إلى كسرى: من لم يكن العقل أكثر ما فيه قتله أكثر ما فيه, وكأن العلامة علي بن احمد خريصة رحمه الله عرف ذلك فنظمه كما هو ظاهر الأبيات السالف بيانها.
أما أبو العلاء المعري فهو يرى أن العقل قطبٌ وأمور الناس كافه كلها رحى تدور حوله, فبه تدبر كل الأمور, وقد أوجز ذلك بقوله:
اللب قطبٌ والأمور له رحىً ... فبه تدبر كلها وتدار (2)
فإذا كان العقل حجة فاسلك به المحجة, قال أبو حاتم: العقل دواء القلوب, ومطية المجتهدين, وبذر حراثة الآخرة, وتاج المؤمن في الدنيا, وعدته في وقوع النوائب, ومن عدم العقل لم يزده السلطان عزاً, ولا المال يرفعه قدراً, ولا عقل لمن أغفله عن أخراه ما يجد من لذة دنياه, فكما أن أشد الزمانة الجهل كذلك أشد الفاقة عدم العقل, فالواجب على المرء: أن يكون لرأيه مسعفاً, ولهواه مسوفاً, فإذا اشتبه عليه أمران اجتنب أقربهما من هواه, لأن في مجانبة الهوى إصلاح السرائر, وبالعقل تصلح الضمائر.
__________
(1) - وردت هذه الأبيات في مقدمة العلامة صلاح الهاشمي الجزء الثاني من كتاب الأحكام للهادي: وهو الإمام العلامة المجتهد الهادي إلى الحق: يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم, ولد بالمدينة سنة 245هـ، واستدعاه أهل اليمن فخرج إليهم سنة 280هـ, توفى بصعدة سنة 298. ومن مصنفاته: الأحكام, والفنون, والمنتخب, وغيرها, وإليه يعود الفضل في انتشار المذهب الزيدي في اليمن, الطبعة الأولى 1410هـ, ص4.
(2) - لزوم ما لا يلزم لأبي العلاء المعري ج1ص326, الطبعة الأولى.
قال معاوية بن أبي سفيان لرجل من العرب عُمّر دهراً: أخبرني بأحسن شيءٍ رأيته, قال: عقل طلب به مروءة مع تقوى الله وطلب الآخرة, وأنشد عبد العزيز بن سليمان الأبرش:
إذا تم عقل المرء تمت أموره ... وتمت أياديه وتم بناؤه
فإن لم يكن عقل تبين نقصه ... ولو كان ذا مالٍ كثير عطاؤه (1)
أما الإمام علي رضي الله عنه فهو يرى أن العقل أفضل ما قسم الله به للمرء حيث يقول:
وَأَفضَلُ قَسمِ اللَهِ لِلمَرءِ عَقلُهُ ... فَلَيسَ مِن الخَيراتِ شِيءٌ يُقارِبُه
يَعيشُ الفَتى في الناسِ بِالعَقلِ إِنَّهُ ... عَلى العَقلِ يِجري عَلمُهُ وَتَجارِبُه
يَزينُ الفَتى في الناسِ صِحَّةُ عَقلِهِ ... وَإِن كانَ مَحظوراً عَلَيهِ مَكاسِبُه
يَشينُ الفَتى في الناسِ قِلَّةُ عَقلِهِ ... وَإِن كَرُمَت أَعراقُهُ وَمَناسِبُه
وَمَن كانَ غَلّاباً بِعَقلٍ وَنَجدَةٍ ... فَذو الجَدِّ في أَمرِ المَعيشَةِ غالِبُه (2)
وقال أخر:
إن المكارم أبواب مصنفة ... فالعقل أولها والصمت ثانيها
والعلم ثالثها والحلم رابعها ... والجود خامسها والصدق ساديها
والصبر سابعها والشكر ثامنها ... واللين تاسعها والصدق عاشيها (3)
__________
(1) - روضة العقلاء ص20.
(2) - ديوان الإمام علي رضي الله عنه ص27, الناشر: دار الثقافة للجميع دمشق الطبعة الأولى 1424هـ2003م.
(3) - ساديها: لغة في سادسها, وكذلك عاشيها في البيت الذي بعده: عاشرها.
العقل والهوى متعاديان
إذا كان الهوى عدو العقل وآفته وجب على الإنسان أن يتجرد من الهوى, فالإنسان إذا اتبع الهوى نسي الله, وضل عن سبيل الرشاد, ولهذا قيل: "الهوى شريك العمى", و"كم من عقل أسير في يدي هوى أمير", ولهذا نهى الله عن الهوى فقال جل شأنه: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (1) , وفي الحديث: (ثَلاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ) (2) , قال الشاعر:
مَن أَجابَ الهَوى إِلى كُلِّ ما يَد ... عوهُ مِمّا يُضِلُّ ضَلَّ وَتاها
وقال آخر:
ضلال العقول في إتباع الهوى ... ولا حيلة في ضلال العقول
ومما نسب إلى الإمام احمد حميد الدين في جموح الهوى:
إن الهوى غير مدفوع ولو جمعت ... له القوى أو عليه شن غارات
وعارضه في ذلك العلامة يحيى بن محمد الهادي رحمه الله فقال:
إذا استعمر النفس جيش الهوى ... فعنها إلى الحشر لا ينسحب
وصارا معاً ضد جهد الحجى ... ومن غالب اثنين يوماً غلب
قلتُ: الظاهر أن من قدم هواه على عقله لم يصب رشداً في حياته, ولا أمناً بعد وفاته, وقد جاء في محكم التنزيل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (3) .
__________
(1) - سورة ص الآية (26) .
(2) - أخرجه الطبراني في الأوسط ج5ص328 حديث (5452) .
(3) - سورة النازعات الآيتان (40و41) .
جاء في كلام بعض الشعراء:
إذا أنت لم تعصي الهواء قادك الهـ ... ـوى إلى كل ما فيه عليك مقال
أما الإمام الشافعي رحمه الله فانه يرى الرشد في مخالفة الهوى وذلك حيث يقول:
إذا جال أمرك في معنيين ... ولم تدر حيث الخطأ والصواب
فجانب هواك فان الهوى ... يقود النفوس إلى ما يعاب
وإذا كان لكل نفس هوى وشهوه، فان العاقل يحترس من الهوى، وقد روي أن لقمان عليه السلام قال لابنه: (يا بني أول ما أحذرك من نفسك فان لكل نفس هوى وشهوه فان أعطيتها شهوتها تمادت وطلبت سواها فان الشهوة كامنة في القلب كمون النار في الحجر إن قدح أورى وإن ترك توارى) قال الشاعر:
إذا ما أجبت النفس في كل دعوة ... دعتك إلى الأمر القبيح المحرم (1)
ومما لا يغيب عن أذهان العقلاء أن من اتبع هواه افسد دينه ودنياه، فلا تدوم له سيادة ولا يستحق الريادة قال الشاعر:
واعلم بأنك لن تسود ولن ترى ... طرق الرشاد إذا اتبعت هواك
وقال آخر:
إذا شئت إتيان المحامد كلها ... ونيل الذي ترجوه من رحمة الرب
فخالف هوى النفس المسيئة انه ... لأعدى وادعى للردى من هوى الحب
هما سببا حتف الهوى غير ان في ... هوى الحب مهما عف بعداً عن الذنب
__________
(1) - مكاشفة القلوب المقرب إلى حضرة علام الغيوب، للشيخ الغزالي، ص (201) , طبعة المطبعة والمكتبة السعيدة بمصر.
ولله در القائل:
إنارة العقل مكسوف بطوع هوى ... وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا
فلا تغتر أخي بترفع بعض مطيعي الهوى في هذه الحياة فان الهوى يردي اللبيب، وقد نسب إلى الفضل بن العباس انه قال:
لقد ترفع الأيام من كان جاهلاً ... ويردي الهوى ذا الرأي وهو لبيب
وقد تحمد الناس الفتى وهو مخطئ ... ويعذل في الإحسان وهو مصيب (1)
قال القرطبي: وسئل ابن المقفع عن الهوى فقال: هوانٌ سرقت نونه فأخذه شاعر فنظمه وقال:
نون الهوان من الهوى مسروقة ... فإذا هويت فقد لقيت هوانا (2)
أما كثير عزة (3) فيقول:
وَفي الحِلمِ وَالإِسلامِ لِلمَرءِ وازِعٌ ... وَفي تَركِ طاعاتِ الفُؤادِ المُتَيَّمِ
بَصائِرُ رُشدٍ لِلفَتى مُستَبينَةٌ ... وَأَخلاقُ صِدقٍ عِلمُها بِالتَعَلُّمِ
__________
(1) - وردت هذه الأبيات في مكاشفة القلوب منسوبه للفضل بن العباس، ووردت ضمن أبيات للأخضر اللهبي مع اختلاف في بعض الألفاظ وهي ضمن ديوانه ورددت بلفظ:
وقد يحكم الأيام من كان جاهلاً ... ويردي الهوى ذا الرأي وهو لبيبُ
ويحمد في الأمر وهو مخطىء ... ويعذل في الإحسان وهو مصيب
(2) - انظر: الجامع لأحكام القران للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، ج16ص168, مطبعة دار الكتب المصرية, الطبعة الثانية 1954م-1373هـ، والتمثيل والمحاضرة للثعالبي ص103.
(3) - كثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن مليح من خزاعة وأمه جمعة بنت الأشيم الخزاعية, (40-105هـ/660-723م) , شاعر متيم مشهور، من أهل المدينة، أكثر إقامته بمصر ولد في آخر خلافة يزيد بن عبد الملك، وتوفي والده وهو صغير السن وكان منذ صغره سليط اللسان وكفله عمه بعد موت أبيه وكلفه رعي قطيع له من الإبل حتى يحميه من طيشه وملازمته سفهاء المدينة, واشتهر بحبه لعزة فعرف بها وعرفت به وهي: عزة بنت حُميل بن حفص من بني حاجب بن غفار كنانية النسب كناها كثير في شعره بأم عمرو ويسميها تارة الضميريّة وابنة الضمري نسبة إلى بني ضمرة, وسافر إلى مصر حيث دار عزة بعد زواجها وفيها صديقه عبد العزيز بن مروان الذي وجد عنده المكانة ويسر العيش, وتوفي في الحجاز هو وعكرمة مولى ابن عباس في نفس اليوم فقيل: مات اليوم أفقه الناس وأشعر الناس.
أما أبو العتاهية (1) فهو يقول:
خالِف هَواكَ إِذا دَعاكَ لِرَيبَةٍ ... فَلَرُبَّ خَيرٍ في مُخالَفَةِ الهَوى
ولله در ابن دريد حيث يقول:
آفة العقل الهوى فمن علا ... على هواه عقله فقد نجا (2)
فمن اتبع هواه ضل ومن نسي هفواته استعظم هفوات وسقطات غيره، ومن استغنى بعقله عن استشارة غيره زل، فلا تصاحب إلا عاقلاً تقيا، ولا تخالط إلا علماً ذكيا، ولا تودع سرك إلا مؤمناً وفيا، واسأل من الله الهداية يهدك، والعافية يعافك، ولا تبع الضلالة بالهدى، والبصر بالعمى تكن من أهل الشقى، وتخسر الدنيا والآخرة. ويرحم الله القائل:
عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى ... ومن يشتري دنياه بالدين أعجب
وما أعجب من هذا من باع دينه ... بدنيا سواه فهو من ذين أعجب
قال ابن المقفع: من قل كلامه حمد عقله, ومن حرم رزئ في دنياه وآخرته, ويقول أيضاً: الهم مرض العقل وآفة العقل العجب. (3)
وفي الأمثال السائرة: "العاقل من يرى مقر سهمه من رميته, وعقول الرجال تحت أسنة أقلامها".
__________
(1) - إسماعيل بن القاسم بن سويد العيني العنزي أبو إسحاق, (130-211هـ/747-826م) , شاعر مكثر، سريع الخاطر، في شعره إبداع، يعد من مقدمي المولدين، من طبقة بشار وأبي نواس وأمثالهما. كان يجيد القول في الزهد والمديح وأكثر أنواع الشعر في عصره. ولد ونشأ قرب الكوفة، وسكن بغداد. كان في بدء أمره يبيع الجرار ثم اتصل بالخلفاء وعلت مكانته عندهم. وهجر الشعر مدة، فبلغ ذلك الخليفة العباسي المهدي، فسجنه ثم أحضره إليه وهدده بالقتل إن لم يقل الشعر، فعاد إلى نظمه، فأطلقه. توفي في بغداد.
(2) - بهجة المجالس وأنس المجالس لابن عبد البر, تحقيق محمد الخولي ج2ص81, الناشر: دار الكتب العلمية 1981م, والموسوعة الشعرية ص (465) .
(3) - الآثار الكاملة ص181.
عداوة العاقل خير من صداقة الأحمق
من الأمور المسلم بها أن العاقل لا يقاتل بدون عدة, ولا يخاصم بغير حجة, ولا يصارع بغير قوة, ولا يتكل على الجاه أو المال ولو كان في تمام الحال, لأن المال يحل ويرتحل والعقل يقيم ولا يبرح.
قال شعبة: إني لأرى الرجل يجلس مع من هو أقل عقلاً فأمقته. (1)
ولا يكاد الإنسان يرى عاقلاً إلا موقراً للعلماء, ناصحاً للأقران, مواتياً للإخوان, متحرزاً من الأعداء غير حاسد للأصحاب, ولا مخادع لأولي الألباب, لا يتحرش بالأشرار, ولا ينقاد للهوى, ولا يجنح للغضب, ولا يرمح في الولاية, ولا يدل الصاحب على مسالك الغواية, فعداوة العاقل خير من صداقة الأحمق الغافل, ورحم الله دعبل الخزاعي حيث يقول:
عداوة العاقل خير إذا ... حصلتها من خلة الأحمق
لأن ذا العقل إذا لم يزع ... عن حلمه استحيى فلم يخرقِ
ولن ترى الأحمق يبقي على ... دين ولا ود ولا يتقي (2)
العقل مناط التدبر وطريق الهدى والرشاد
بالعقل تعمر القلوب, وتتحقق السعادة, وبه يكون الحظ, وتنتفي الفاقة, فهو مناط التكليف, ومحل تعقل آيات الله الخبير اللطيف وتدبر أحكامه قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ
__________
(1) - روضة العقلاء ص25.
(2) - ديوان دعبل الخزاعي ص141.
بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (1) , وقال جل شأنه: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (2) , إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على عظيم شرف العقل, الذي يقرب الإنسان من الخير ويحجزه عن الشر قال الشاعر:
لا ترى العاقل إلا خائفاً ... حذراً من يومه دون غده
وفي الأمثال السائرة: "العقل أحسن معقل, وشهادة العقول أصح من شهادة العدول, والعقل أحصن معقل, والعقل وزير الناصح".
قال أبو حاتم: الواجب على العاقل: أن يكون بما أحيا عقله من الحِكمة أكلف منه بما أحيا جسده من القوت, وقوت العقل الحِكم (3) , وهذا صحيح, فالذي لا يتدبر في العواقب, ولا يتعظ عند وقوع النوائب, ولا يؤدي حق الخالق؛ فقد أضاع حظه, وعرض للهلكة نفسه, أما إذا أعمل الإنسان عقله؛ فإنه لا يضل إذا كان مؤمناً, ولا يغتم إذا كان معدماً, لأن العاقل إذا تدبر أبصر, وإن كان معدما؛ فإنه يرجى له الغنى, ولا يوثق للمغرور ولا للجاهل المكثر بقاء ماله أو عزه, فإنه يعرض ذلك كله للذهاب والفساد.
__________
(1) - سورة البقرة الآية (164) .
(2) - سورة النحل الآية (12) .
(3) - روضة العقلاء ص19.
وجاء في الأمثال السائرة: "ليس للأمور بصاحب من لم ينظر في العواقب", وقيل: "العاقل من يرى مقر سهمه من رميته يضرب في النظر في العواقب", وقيل: "النظر في العواقب تلقيح للعقول". (1)
فالعاقل من ينظر بعقله, ويتدبر في أمره, ولا يفتتن بنظره, قال الشاعر:
لا تغْتَررْ بعيونٍ ينظرونَ بها ... فإنما هيَ أحداقٌ وأجفانٌ
كمْ مُقْلَةٍ ذهبتْ في الغيِّ مذهبها ... بنظرةٍ هي شانٌ أو لها شان
فانظرْ بعقلكَ إن العينَ كاذبةٌ ... واسمعْ بِحسّكَ إن السمعَ خوَّان
ولا تقُلْ: كل ذي عينٍ له نَظرٌ ... إن الرعاةَ تَرَى ما لا يرى الضان (2)
ويرحم الله القائل:
إِنَّ الشَجاعَةَ في القُلوبِ كَثيرَةٌ ... وَوَجَدتُ شُجعانَ العُقولِ قَليلا (3)
أما أبو الطيب المتنبي فهو يرى: أن الإنسان العاقل يعاني ويتعب فيقول:
ذو العَقلِ يَشقى في النَعيمِ بِعَقلِه ... وَأَخو الجَهالَةِ في الشَقاوَةِ يَنعَمُ
ولكننا نرى المتنبي يهجو من يصف العجز بأنه عقل فيقول:
يَرى الجُبَناءُ أَنَّ العَجزَ عَقلٌ ... وَتِلكَ خَديعَةُ الطَبعِ اللَئيمِ (4)
أما ابن الوردي فهو يقول في قبح تضييع العقل والاستسلام للرغبة والشهوة:
__________
(1) - مجمع الأمثال لأبي الفضل احمد بن محمد بن احمد بن ابراهيم النيسابوري الميداني, حققه وفصله وضبط غرائبه وعلق حواشيه محمد محيي الدين عبد الحميد ج2 ص200 وص273 , مطبعة السنة المحمدية.
(2) - هذه الأبيات تنسب لأحمد بن عبد الله بن هريرة القبيسي أبو العباس الأعمى التطيلي (485-525هـ/1092-1131م) شاعر أندلسي نشأ في إشبيلية, له (ديوان شعر-ط) .
(3) - انظر: ديوان احمد شوقي.
(4) - انظر: ديوان المتنبي.
واهجر الخمرةَ إنْ كنتَ فتىً ... كيفَ يسعى في جنونٍ مَنْ عقلْ
العقل نوعان: مطبوع ومسموع
يرى بعض العلماء أن العقل: اسم يقع على المعرفة بسلوك الصواب والعلم باجتناب الخطأ, فإذا كان المرء في أول درجته يسمى أديباً ثم أريباً ثم لبيباً ثم عاقلاً.
وقال أبو حاتم: العقل نوعان: مطبوع ومسموع, فالمطبوع منهما كالأرض, والمسموع كالبذر والماء. (1)
وإلى مثل ذلك ذهب الراغب في كتاب الذريعة في مكارم الشريعة.
وفي مفردات القرآن: العقل يقال للقوى المتهيئة لقبول العلم, ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة. (2)
وفي المختار: العقل: الحجر والنهى (3) , وسمي به لأنه ينهى عن القبيح.
أما الجرجاني: فهو يرى أن العقل: جوهر مجرد عن المادة في ذاته مقارن لها في فعله, وهي النفس الناطقة التي يسار إليها كل أحد بقول: أنا, والعقل: ما يعقل به حقائق الأشياء, قيل محله الرأس, وقيل محله القلب. (4)
ولبعض الشعراء:
رأيت العقل نوعين ... فمطبوع ومسموع
__________
(1) - روضة العقلاء ص19.
(2) - انظر: المفردات ص126 , والذريعة إلى مكارم الشريعة لأبي القاسم الحسن بن محمد بن المفضل الراغب الأصفهاني ص92, الناشر: دار الكتب العلمية بيروت, الطبعة الأولى 1400هـ1980م.
(3) - مختار الصحاح للشيخ الإمام محمد بن أبي بكر الرازي ص446 , الناشر: دار القلم لبنان.
(4) - التعريفات للعلامة علي محمد الشريف الجرجاني المتوفى 816هـ , ص28 , طبعة دار النفائس بيروت 2003م.
ولا ينفع مسموع.........إذا لم يكُ مطبوع
كما لا تنفع الشمس ... وضوء العين ممنوع
الإنكار على من لم يُعمِل عقله
مما لا شك فيه أن من تدبر عقل, ومن أعمل عقله أبصر, فالله قد وهب الناس عقولاً ليعملوها ولتكون أكثر خصال الخير فيهم لا أن يهملوها, ولهذا نرى الناس يلومون من لم يعمل عقله, وينكرون عليه, وجاء في محكم الذكر الإنكار على من يأمر الناس بالبر ولا يأتيه قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (1) , وحكا الله عن أهل النار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (2) , وجاء في كلام بعض الشعراء:
وإذا ضلَّتِ العُقول على عِلْـ ... ـمٍ فماذا تقوله الفُّصَحاءُ (3)
أما أبو يعقوب الخريمي (4) فهو يرى: أن تفرق الشمل بسبب عدم العقول أي أنه ينزل من لا يُعمِل عقله بمنزلة معدوم العقل فهو يقول:
كانوا بَني امّ ففرّق شملَهم ... عدمُ العُقول وَخفّة الأَحلامِ
__________
(1) - سورة البقرة الآية (44) .
(2) - سورة الملك الآية (10) .
(3) - هذا البيت ينسب لشرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حماد بن عبد الله الصنهاجي البوصيري المصري, (608-696هـ/1212-1296م) شاعر حسن الديباجة، مليح المعاني، نسبته إلى بوصير من أعمال بني سويف بمصر, أصله من المغرب من قلعة حماد من قبيل يعرفون ببني حبنون, ومولده في بهشيم من أعمال البهنساوية, ووفاته بالإسكندرية له (ديوان شعر-ط) ، وأشهر شعره البردة مطلعها: (أمن تذكّر جيران بذي سلم) شرحها وعارضها الكثيرون، والهمزية ومطلعها: (كيف ترقى رقيك الأنبياء) , وعارض (بانت سعاد) بقصيدة مطلعها: (إلى متى أنت باللذات مشغول) .
(4) - إسحاق بن حسان بن قوهي الصفدي أبو يعقوب الخريمي (166-212هـ/782-827م) , أبو يعقوب الصفدي أصلاً التركي جنساً الخريمي ولاءً والصفد كورة قصبتها سمرقند وقيل هما صفدان صفد سمرقند وصفد بخارى, شاعر مطبوع وصفه أبو حاتم السجستاني بأشعر المولدين, خرساني الأصل من أبناء الصفد ولد في الجزيرة الفراتية وسكن بغداد واتصل بخريم الناعم فنسب إليه أو كان اتصاله بابنه عثمان بن خريم. ثم اتصل بمحمد بن منصور بن زياد كاتب البرامكة ومدحه ورثاه بعد موته وأدركه الجاحظ وسمع منه, وعمي قبل وفاته, له (ديوان-ط) . وقد ورد البيت المستشهد به في ديوانه وفي محاضرة الادباء ص146.
ولبعض الحكماء: "من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه كان حتفه في أغلب خصال الشر عليه". (1)
إغفال العقل
إن طالب الفضل بغير عقل ولا بصر تائه, قال ابن المقفع: إغفال المرء لمسألة العقل "أشد الفاقة" فهو مقدم على المال والغنى, لأن العقل هو الحارس للمال, ولذا فهو يفضله, "لأنه يحرز الحظ, ويؤنس الغربة, وينفي الفاقة, ويعرف الفكرة, ويثمر المكسبة, ويطيّب الثمرة, ويوجه السوقة عند السلطان.. ويكسب الصديق, ويكفي العدو". (2)
قال الكميت بن زيد (3) :
وما غُبن الأقوام مثلَ عقولهم ... ولا مثلها كسباً أفاد كسوبُها
التجارب تزيد في العقل
إن تقلب أحوال الناس وخوض التجارب معهم مما يزيد في عقل الإنسان ويرشده إلى حسن التعامل معهم, قال الشاعر:
ألم ترى أن العقل زين لأهله ... ولكن تمام العقل طول التجارب (4)
أما الحارث بن كلدّة فهو يرى: أن من يتعظ بغيره سعيد, وأن في التجارب تحكيماً ومعتبراً, ولذلك فهو يقول:
__________
(1) - الذريعة إلى مكارم الشريعة ص93.
(2) - الآثار الكاملة ص29.
(3) - الكميت بن زيد بن خنيس الأسدي أبو المستهل (60-126هـ/680-744م) شاعر الهاشميين، من أهل الكوفة، شتهر في العصر الأموي، وكان عالماً بآداب العرب ولغاتها وأخبارها وأنسابها, ثقة في علمه، وهو من أصحاب الملحمات, أشهر قصائده (الهاشميات-ط) ترجمت إلى الألمانية.
(4) - أدب الدنيا والدين ص23.
إِنَّ السَعيدَ لَهُ في غَيرِهِ عِظَةٌ ... وَفي التَجارِبِ تَحكيمٌ وَمُعتَبَرُ
وفي أدب الدنيا والدين للماوردي:
إذا طال عمر المرء من غير آفة ... أفادت له الأيام في كرها عقلاً
ومن العقل التثبت في كل عمل قبل الدخول فيه, والعاقل لا يطول أمله لأن من قوي أمله ضعف عمله, ومن أتاه أجله لم ينفعه أمله, والعاقل بطبعه يتقرب من العقلاء, فقرب العاقل غنم لأشكاله, وعبرة لأضداده على الأحوال كلها.
الأدب النفسي ودوره في تنمية العقل
إن للأدب النفسي دور في تنمية العقل وإحلاله المرتبة التي يتفق له معها تبعات الوجود, فالعقل عنده طاقة كامنة مليئة بالاستعدادات قادرة على المنطق الصالح إذا أحياها الأدب, وأمدها بأسباب النماء والعطاء, وعن ذلك يقول ابن المقفع: فكما أن الحبة المدفونة في الأرض لا تقدر أن تخلع يبسها وتظهر قوتها وتطلع فوق الأرض بزهرتها إلا بمعونة الماء الذي يغور إليها في مستودعها فيذهب عنها أذى اليبس والموت, ويحدث لها بإذن الله القوة والحياة فذلك سليقة العقل مكنونة في مغرزها من القلب: لا قوة لها ولا حياة بها ولا منفعة عندها حتى يعملها الأدب الذي هو ثمارها وحياتها ولقاحها. (1)
__________
(1) - الآثار الكاملة ص26.
كمال العقل
إن العاقل من الناس من لا يفرح بحصول لذة ولا يكترث بفواتها أو بعدم نيلها والوصول إليها, لأنه يعلم أن كل ذلك مصيره إلى الزوال, وفي محكم التنزيل: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (1) .
وقد جاء في كلام بعض الشعراء:
ومن كملت فيه النهى (2) لا يسره ... نعيمٌ ولا يرتاع للحدثان
وللإمام علي رضي الله عنه:
إِذا أَكمَلَ الرَحمَنُ لِلمَرءِ عَقلَهُ ... فَقَد كُمُلَت أَخلاقُهُ وَمآرِبُه
ويرحم الله القائل:
أولست تأمر بالعفاف وبالتقى ... وإليه آل الأمر حين يؤلُ؟
فإن استطعت فخذ بعقلك فضلة ... إن العقول يرى لها تفضيلُ
فما أحوج العقلاء إلى التدبر في جميع الأشياء لأخذ العظة والاعتبار والعمل على هدى منهج الله العزيز الجبار, وما أروع قول الشاعر:
ولي في فناء الخلق أكبر عبرة ... لمن كان في بحر الحقيقة راقي
شخوص وأشكال تمر وتنقضي ... فتفنى جميعاً والمهيمن باقي
__________
(1) - سورة الحديد الآيات (22-24) .
(2) - النهى: اسم من أسماء العقل.
القصة
روي أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله استعمل رجلاً فقيل له: إنه حديث السن, ولا نراه يضبط عملك, فأخذ العهد منه وقال: ما أراك تضبط عملك لحداثتك, فقال الفتى:
وليس يزيد المرء جهلاً ولا عمى ... إذا كان ذا عقل حداثة سنه
فقال عمر رحمه الله: صدق ورد عليه العهد.
وسئل عبد الله بن المبارك رحمه الله: ما خير ما أعطي الرجل؟ فقال: غريزة عقل, قيل: فإن لم يكن؟ قال: أدب حسن؟ قيل: فإن لم يكن؟ قال: أخ صالح يستشيره, قيل فإن لم يكن؟ قال: صمت طويل, قيل: فإن لم يكن؟ قال: موت عاجل. (1)
وفي الحديث النبوي: (الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ) (2) .
العقل يرشد الى توحيد الله
كل انسان يدرك بعقله ان كل شيء له صانع يصنعه او علة توجده والعاقل يدرك ان في اختلاف النبات في الطعم واللون والغذاء رغم اتحاد التربة والماء اله خلق واحسن التقدير والتدبير والى ذلك يرشد الحكيم الخبير
__________
(1) - دليل السائلين جمعه أنس بن اسماعيل أبو داود ص435و436 , الطبعة الألى 1416هـ1996م.
(2) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء في صفة أواني الحوض حديث (2383) .
{وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (1) .
والانسان بفطرته اذا نظر الى الكون واستعرض مافيه من الكائنات, حصل له علم ضروري بان هذه الكائنات لم توجد صدفة بل لابد من موجد اوجدها. حتى وان كان اميا او اعرابيا فانه ييدرك ذلك بعقله وفطرته وفي نفح الطيب: قيل لأعرابي بم عرفت ربك فقال البعرة تدل على البعير والروث يدل على الحمير وآثار الأقدام تدل على المسير فسماء ذات أبراج وبحار ذات أمواج أما يدل ذلك على العليم القدير (2) فالعاقل يدرك ان في الكون دليل وبرهان على وجود الله وان في اختلاف الليل والنهار والشمس والقمر ايات تدل على وجود الله الحكيم الخبير السميع البصير, وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (3) . وقد ذهب كثير من العلماء الى القول بان فكرة الله او الدين على العموم انما هي فكرة فطرية وجدت في عقل الإنسان ولكن اوجدها فينا موجد وهو
__________
(1) - سورة الرعد الآية (4) .
(2) - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب لمؤلفه العلامة / أحمد بن محمد المقري التلمساني ج5/ص289. الناشر: دار صادر - بيروت، 1968 تحقيق: د. إحسان عباس.
(3) - سورة البقرة الآية (164) .
الله سبحانه وتعالى (1) ومن الايات التي تبهر الالباب ان القرآن يقرر بان الدين فطرة في الإنسان فطر الله الناس عليها وان اساسه الاعتقاد بخالق الكون, وانه واحد لاشريك له فاذا انفرد الإنسان بنفسه حكم بانه مخلوق لإله قادر حكيم خلقه وانعم عليه يدرك ذلك بعقله وفطرته قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) فتعرف على اسم الله الذي خلق لك عقلا تفكر به ولسان تتكلم به وعينا تبصر بها واذنا تسمع بها, واعلم ان لا اله الا الله ولا معبود بحق الا الله, ولا رازق الا الله, فاذا قلت لا اله الا الله اي لامعطي ولا مانع ولا رافع ولا خافض ولا معز ولا مذل ولا وهاب ولا مغني ولا مبد ولا معيد الا الله فكل الاسماء الحسنى اذا جمعت هي الله اي هو المعبود الحق, فتعرف عليه يغنيك ويهديك ويعافيك.
اسم الله دال على جميع الاسماء الحسنى
الله اسم دال على جميع اسمائه الحسنى وصفاته العليا التي هي صفات الكمال المنزهة عن الشبيه والمثال ورد في القرآن اسم الله الجامع لاسمائه الحسنى ووصف الله اسماءه بالحسنى قال تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا
__________
(1) - روح الدين الاسلامي ص80.
(2) - سورة الروم الآيتان (30-31) .
وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (1) وقال سبحانه: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى} (2) وورد في السنه النبوية: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) (3)
وقد علم من هذه النصوص ان الاسماء الحسنى تضاف الى اسم الله جل جلاله فهو الاسم الجامع فيقال: الرحمن الرحيم العزيز الغفار من اسماء الله ولا يقال: الله من اسماء الرحمن فعلم انه اسم الله مستلزم لجميع معاني الاسماء الحسنى, دال عليها بالاجماع, والاسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الالهية, التي اشتق (4) منها اسم الله واسم الله دال على كونه مألوها معبودا, تألهه الخلائق محبة وتعظيما وخضوعا, وفزعا اليه في الحوائج والنوائب (5) وقال الغزالي: اعلم أن هذا الإسم أعظم أسماء الله عز وجل التسعة والتسعين لأنه دال على الذات الجامعة لصفات الإلهية كلها حتى لا يشذ منها شيء وسائر الأسماء لا يدل آحادها إلا على آحاد المعاني من علم أو قدرة أو فعل أو غيره ولأنه أخص الأسماء إذ لا يطلقه أحد على غيره لا حقيقة ولا مجازا وسائر الأسماء قد يسمى به غيره كالقادر والعليم والرحيم وغيره فلهذين الوجهين يشبه أن يكون هذا الاسم أعظم هذه الأسماء (6) .
ثمرة معرفة اسم الله الجامع للاسماء الحسنى
اذا علم المكلف ان لا اله الا الله ولا معبود بحق الا الله ولا خالق ولا معطي الا الله فهو المانع الخافض الرافع, المعز المذل, العزيز الجبار, القهار المتكبر, وان (الله) علم على الذات الكاملة علم على الخالق, علم على البارئ, المصور, المسير, العزيز, الجبار, الكبير المتعال, وان اسماء الله الحسنى كلها جمعت في (الله) المتصف بصفات الوجود, وصفات الكمال, وصفات الوحدانية وجب عليه ان يؤمن به وحده لاشريك له وان يطيعه ويحبه فمن اطاع ولم يحب لم يعبد الله, فالعبادة هي الحب مع غاية الطاعة وان يردد كلمة التوحيد فهي افضل الذكر فهي كلمة التوحيد وشعار الإسلام فالاسلام كله والايمان كله والاحسان كله, جمع في هذه الكلمة فهي حصن الله ومن دخل حصنه امن من عذابه وقد جاء في الحديث القدسي: (لا إله إلا الله حصني فمن دخله أمن عذابي) (7) فهي افضل
__________
(1) - سورة الاعراف الآية (180) .
(2) - سورة طه الآية (3) .
(3) - البخاري في صحيحه حديث رقم (2531) .
(4) - اختلف العلماء حول حول اشتقاق هذا الاسم فقال ابن كثير لا يعرف لهذا الاسم من كلام العرب اشتقاق. نقله القرطبي عن جماعة من العلماء منهم الشافعي والخطابي, وامام الحرمين والغزالي, وغيرهم.. قال الخطابي: الا ترى انك تقول: (يالله) ولاتقول: "يا الرحمن" فلولا انه من اصل الكلمة- أي الالف واللام- لما جاز إدخال حرف النداء على الالف واللام , وقيل: إنه مشتق ... فقد يكون من:
أ- التأله من انه أله يأله إلاهّا وتألها كما روى عن ابن عباس أنه قرأ (ويذروك وآلهتك) قال عبادتك أي انه كان يُعبد ولا يَعبدُ.
ب- وقد يكون من (إلاه) مثل فعال فأدخلت الالف واللام للتعظيم وهذا قول الخليل.
ج- وقد يكون من (إلإله) وإدغمت اللام الأولى في الثانية بعد حذف الهمزة.
د- وقيل: هو من (وله) وهو ذهاب العقل والحيرة, فالله تعالى يحيرهم في حقائق صفاته.
هـ- وقال الرازي: أنه مشتق من (ألهت إلى فلان) أي (سكنت إليه) انتهى.
(5) - الجامع لاسماء الله الحسنى ص12.
(6) - المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى - للغزالي محمد بن محمد الغزالي أبو حامد, ص61 , الناشر: الجفان والجابي - قبرص الطبعة الأولى، 1407 - 1987 تحقيق: بسام عبد الوهاب الجابي.
(7) - مسند الشهاب للعلامة /محمد بن سلامة بن جعفر أبو عبد الله القضاعي, باب لا اله الا الله حديث رقم (1451) ج2/ص 323. الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت الطبعة الثانية، 1407 - 1986 تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي
كلمة تسعد بها وتفوز وهي افضل الدعاء وفي الحديث النبوي: (أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) (1) وهي افضل الذكر فقد ورد في الحديث النبوي أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (2) وفي الذكر الحكيم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (3) فاذا علم الإنسان انه لااله الا الله استغفر لذنبه ووحد الله ووحد وجهته الى الله فاستقام في اخلاقه وسلوكه وعبادته فهي كلمة التوحيد ونهاية العلم التوحيد, ونهاية العمل التقوى, وفي القرآن الحكيم وردت قصص للانبياء والمرسلين, وكلهم يقول لقومه ان اعبدوا الله مالكم من اله غيره فمن قالها موقنا من قلبه ظفر بمراده وسعد في حياته ومماته فانت حين تقولها عقب صلاة الفجر عشر مرات كانما اعتقت رقابا واحييت انفسا وكانت لك حرزا وحصنا وهي من احب الكلام الى الله ففي صحيح مسلم أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ أَرْبَعٌ (سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ) (4) .
__________
(1) - موطأ مالك حديث رقم (841)
(2) - سنن الترمذي حديث رقم (3305)
(3) - سورة محمد الآية (19) .
(4) - مسلم في صحيحه حديث رقم (3985) .
دعاء الله باسمه الجامع للاسماء الحسنى
ياالله يارحمن يارحيم ياسميع ياعليم يامن عُرف بالادله الداله من فطرة الارض والسماء وبالصفات الالهية والاسماء وبكتبه المنزلة ببديع الحكمة والوحدانية العظما يامن له الاسماء الحسنى والصفات العليا وقفت العقول بباب عظمتك فلم تحيط بك علما الا بماعلمتها من الصفات والاسماء فلك الحمد والمجد والثناء وقد قلت في محكم كتابك الله لااله الا هو له الاسماء الحسنى وقلتَ ولك العظمة والكبرياء قل ادعو الله او ادعو الرحمن اياما تدعدو فله الاسماء الحسنى وقلت وانت أهل المجد والثناء ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها وقلت ولك الاخرة والاولى هو الله الخالق البارء المصور له الاسماء الحسنى فاسالك باسمائك الحسنى وصفاتك العليا بجلالك وعظمتك يامن هو الله الذي لااله الا هو عالم الغيب والشهادة ان تصلى على محمد وعلى ال محمد كما صليت على ابراهيم وعلى ال ابراهيم في العالمين انك حميد مجيد وعلى اصحابه واتباعه ومن تحب من الانبياء والمرسلين والملائكة المقربين وصالح خلقك اجمعين واسألك يا الله يارحمن يارحيم باسمائك الحسنى ان تؤانسني بجلالك وتملأ قلبي من معرفتك واسمائك وان تصلح لي امور ديني ودنياي واخرتي وان تغفرلي ولوالدي وللمؤمنين واسألك الدرجات العلى من الجنة اللهم رحمتك ارجو فلاتكلني الى نفسي طرفة عين ياالله ياحي ياقيوم ياذى الجلال والاكرام استجب دعائي وحقق لي املي ورجائي ياكريم يارحيم وصلى اللهم على محمد النبي الامين وعلى اله وصحبه والتابعين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
العقل مناط التكليف؛ فهو هبة الله الخبير اللطيف, فأشرف ما في الإنسان عقله, وأفضل ما وهبه الله لعبده العقل, فبالعقل تحيى النفوس, وتنور القلوب, وتمضى الأمور, وتعمر الدنيا, ولو أن العقل كان شجرةً في هذه الحياة لطاب ثمارها, وفاح بالعبير أزهارها, يرحم الله المتنبي حيث يقول:
لَولا العُقولُ لَكانَ أَدنى ضَيغَمٍ ... أَدنى إِلى شَرَفٍ مِنَ الإِنسانِ (1)
وقال آخر:
يعد عظيم القدر من كان عاقلاً ... وإن لم يكن في عقله بحسيب
وإن حل أرضاً عاش فيها بعقله ... وما عاقل في بلدةٍ بغريب (2)
أما العلامة علي بن احمد خريصة اليمني فهو يقول:
إذا لم يكن عقل الفتى أكثر الفتى ... فأكثر ما فيه ولا شك قاتله
__________
(1) - انظر ديوان أبي الطيب المُتَنَبّي: (303-354هـ/915-965م) أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكوفي الكندي، أبو الطيب, الشاعر الحكيم، وأحد مفاخر الأدب العربي، له الأمثال السائرة والحكم البالغة والمعاني المبتكرة, ولد بالكوفة في محلة تسمى كندة وإليها نسبته، ونشأ بالشام، ثم تنقل في البادية يطلب الأدب وعلم العربية وأيام الناس, قال الشعر صبياً، وتنبأ في بادية السماوة (بين الكوفة والشام) فتبعه كثيرون، وقبل أن يستفحل أمره خرج إليه لؤلؤ أمير حمص ونائب الإخشيد فأسره وسجنه حتى تاب ورجع عن دعواه. وفد على سيف الدولة ابن حمدان صاحب حلب فمدحه وحظي عنده. ومضى إلى مصر فمدح كافور الإخشيدي وطلب منه أن يوليه، فلم يوله كافور، فغضب أبو الطيب وانصرف يهجوه. قصد العراق وفارس، فمدح عضد الدولة ابن بويه الديلمي في شيراز. عاد يريد بغداد فالكوفة، فعرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي في الطريق بجماعة من أصحابه، ومع المتنبي جماعة أيضاً، فاقتتل الفريقان، فقتل أبو الطيب وابنه محسّد وغلامه مفلح بالنعمانية بالقرب من دير العاقول في الجانب الغربي من سواد بغداد. وفاتك هذا هو خال ضبة بن يزيد الأسدي العيني، الذي هجاه المتنبي بقصيدته البائية المعروفة التي مطلعها:
ما أَنصَفَ القَومُ ضَبَّه ... وَأُمَّهُ الطُرطُبَّه
(2) - أورد هذين البيتين ابن أبي الدنيا في كتابه العقل وفضله ص29, الطبعة الأولى, من غير نسبة إلى قائل.
هل العقل إلا حجة مستنيرة......ونور هدى ما أن تضل دلائله
بحسبك أن العقل زين لأهله ... وإن ليس في الخيرات شيء يعادله (1)
وقد نسب إلى كسرى: من لم يكن العقل أكثر ما فيه قتله أكثر ما فيه, وكأن العلامة علي بن احمد خريصة رحمه الله عرف ذلك فنظمه كما هو ظاهر الأبيات السالف بيانها.
أما أبو العلاء المعري فهو يرى أن العقل قطبٌ وأمور الناس كافه كلها رحى تدور حوله, فبه تدبر كل الأمور, وقد أوجز ذلك بقوله:
اللب قطبٌ والأمور له رحىً ... فبه تدبر كلها وتدار (2)
فإذا كان العقل حجة فاسلك به المحجة, قال أبو حاتم: العقل دواء القلوب, ومطية المجتهدين, وبذر حراثة الآخرة, وتاج المؤمن في الدنيا, وعدته في وقوع النوائب, ومن عدم العقل لم يزده السلطان عزاً, ولا المال يرفعه قدراً, ولا عقل لمن أغفله عن أخراه ما يجد من لذة دنياه, فكما أن أشد الزمانة الجهل كذلك أشد الفاقة عدم العقل, فالواجب على المرء: أن يكون لرأيه مسعفاً, ولهواه مسوفاً, فإذا اشتبه عليه أمران اجتنب أقربهما من هواه, لأن في مجانبة الهوى إصلاح السرائر, وبالعقل تصلح الضمائر.
__________
(1) - وردت هذه الأبيات في مقدمة العلامة صلاح الهاشمي الجزء الثاني من كتاب الأحكام للهادي: وهو الإمام العلامة المجتهد الهادي إلى الحق: يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم, ولد بالمدينة سنة 245هـ، واستدعاه أهل اليمن فخرج إليهم سنة 280هـ, توفى بصعدة سنة 298. ومن مصنفاته: الأحكام, والفنون, والمنتخب, وغيرها, وإليه يعود الفضل في انتشار المذهب الزيدي في اليمن, الطبعة الأولى 1410هـ, ص4.
(2) - لزوم ما لا يلزم لأبي العلاء المعري ج1ص326, الطبعة الأولى.
قال معاوية بن أبي سفيان لرجل من العرب عُمّر دهراً: أخبرني بأحسن شيءٍ رأيته, قال: عقل طلب به مروءة مع تقوى الله وطلب الآخرة, وأنشد عبد العزيز بن سليمان الأبرش:
إذا تم عقل المرء تمت أموره ... وتمت أياديه وتم بناؤه
فإن لم يكن عقل تبين نقصه ... ولو كان ذا مالٍ كثير عطاؤه (1)
أما الإمام علي رضي الله عنه فهو يرى أن العقل أفضل ما قسم الله به للمرء حيث يقول:
وَأَفضَلُ قَسمِ اللَهِ لِلمَرءِ عَقلُهُ ... فَلَيسَ مِن الخَيراتِ شِيءٌ يُقارِبُه
يَعيشُ الفَتى في الناسِ بِالعَقلِ إِنَّهُ ... عَلى العَقلِ يِجري عَلمُهُ وَتَجارِبُه
يَزينُ الفَتى في الناسِ صِحَّةُ عَقلِهِ ... وَإِن كانَ مَحظوراً عَلَيهِ مَكاسِبُه
يَشينُ الفَتى في الناسِ قِلَّةُ عَقلِهِ ... وَإِن كَرُمَت أَعراقُهُ وَمَناسِبُه
وَمَن كانَ غَلّاباً بِعَقلٍ وَنَجدَةٍ ... فَذو الجَدِّ في أَمرِ المَعيشَةِ غالِبُه (2)
وقال أخر:
إن المكارم أبواب مصنفة ... فالعقل أولها والصمت ثانيها
والعلم ثالثها والحلم رابعها ... والجود خامسها والصدق ساديها
والصبر سابعها والشكر ثامنها ... واللين تاسعها والصدق عاشيها (3)
__________
(1) - روضة العقلاء ص20.
(2) - ديوان الإمام علي رضي الله عنه ص27, الناشر: دار الثقافة للجميع دمشق الطبعة الأولى 1424هـ2003م.
(3) - ساديها: لغة في سادسها, وكذلك عاشيها في البيت الذي بعده: عاشرها.
العقل والهوى متعاديان
إذا كان الهوى عدو العقل وآفته وجب على الإنسان أن يتجرد من الهوى, فالإنسان إذا اتبع الهوى نسي الله, وضل عن سبيل الرشاد, ولهذا قيل: "الهوى شريك العمى", و"كم من عقل أسير في يدي هوى أمير", ولهذا نهى الله عن الهوى فقال جل شأنه: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (1) , وفي الحديث: (ثَلاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ) (2) , قال الشاعر:
مَن أَجابَ الهَوى إِلى كُلِّ ما يَد ... عوهُ مِمّا يُضِلُّ ضَلَّ وَتاها
وقال آخر:
ضلال العقول في إتباع الهوى ... ولا حيلة في ضلال العقول
ومما نسب إلى الإمام احمد حميد الدين في جموح الهوى:
إن الهوى غير مدفوع ولو جمعت ... له القوى أو عليه شن غارات
وعارضه في ذلك العلامة يحيى بن محمد الهادي رحمه الله فقال:
إذا استعمر النفس جيش الهوى ... فعنها إلى الحشر لا ينسحب
وصارا معاً ضد جهد الحجى ... ومن غالب اثنين يوماً غلب
قلتُ: الظاهر أن من قدم هواه على عقله لم يصب رشداً في حياته, ولا أمناً بعد وفاته, وقد جاء في محكم التنزيل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (3) .
__________
(1) - سورة ص الآية (26) .
(2) - أخرجه الطبراني في الأوسط ج5ص328 حديث (5452) .
(3) - سورة النازعات الآيتان (40و41) .
جاء في كلام بعض الشعراء:
إذا أنت لم تعصي الهواء قادك الهـ ... ـوى إلى كل ما فيه عليك مقال
أما الإمام الشافعي رحمه الله فانه يرى الرشد في مخالفة الهوى وذلك حيث يقول:
إذا جال أمرك في معنيين ... ولم تدر حيث الخطأ والصواب
فجانب هواك فان الهوى ... يقود النفوس إلى ما يعاب
وإذا كان لكل نفس هوى وشهوه، فان العاقل يحترس من الهوى، وقد روي أن لقمان عليه السلام قال لابنه: (يا بني أول ما أحذرك من نفسك فان لكل نفس هوى وشهوه فان أعطيتها شهوتها تمادت وطلبت سواها فان الشهوة كامنة في القلب كمون النار في الحجر إن قدح أورى وإن ترك توارى) قال الشاعر:
إذا ما أجبت النفس في كل دعوة ... دعتك إلى الأمر القبيح المحرم (1)
ومما لا يغيب عن أذهان العقلاء أن من اتبع هواه افسد دينه ودنياه، فلا تدوم له سيادة ولا يستحق الريادة قال الشاعر:
واعلم بأنك لن تسود ولن ترى ... طرق الرشاد إذا اتبعت هواك
وقال آخر:
إذا شئت إتيان المحامد كلها ... ونيل الذي ترجوه من رحمة الرب
فخالف هوى النفس المسيئة انه ... لأعدى وادعى للردى من هوى الحب
هما سببا حتف الهوى غير ان في ... هوى الحب مهما عف بعداً عن الذنب
__________
(1) - مكاشفة القلوب المقرب إلى حضرة علام الغيوب، للشيخ الغزالي، ص (201) , طبعة المطبعة والمكتبة السعيدة بمصر.
ولله در القائل:
إنارة العقل مكسوف بطوع هوى ... وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا
فلا تغتر أخي بترفع بعض مطيعي الهوى في هذه الحياة فان الهوى يردي اللبيب، وقد نسب إلى الفضل بن العباس انه قال:
لقد ترفع الأيام من كان جاهلاً ... ويردي الهوى ذا الرأي وهو لبيب
وقد تحمد الناس الفتى وهو مخطئ ... ويعذل في الإحسان وهو مصيب (1)
قال القرطبي: وسئل ابن المقفع عن الهوى فقال: هوانٌ سرقت نونه فأخذه شاعر فنظمه وقال:
نون الهوان من الهوى مسروقة ... فإذا هويت فقد لقيت هوانا (2)
أما كثير عزة (3) فيقول:
وَفي الحِلمِ وَالإِسلامِ لِلمَرءِ وازِعٌ ... وَفي تَركِ طاعاتِ الفُؤادِ المُتَيَّمِ
بَصائِرُ رُشدٍ لِلفَتى مُستَبينَةٌ ... وَأَخلاقُ صِدقٍ عِلمُها بِالتَعَلُّمِ
__________
(1) - وردت هذه الأبيات في مكاشفة القلوب منسوبه للفضل بن العباس، ووردت ضمن أبيات للأخضر اللهبي مع اختلاف في بعض الألفاظ وهي ضمن ديوانه ورددت بلفظ:
وقد يحكم الأيام من كان جاهلاً ... ويردي الهوى ذا الرأي وهو لبيبُ
ويحمد في الأمر وهو مخطىء ... ويعذل في الإحسان وهو مصيب
(2) - انظر: الجامع لأحكام القران للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، ج16ص168, مطبعة دار الكتب المصرية, الطبعة الثانية 1954م-1373هـ، والتمثيل والمحاضرة للثعالبي ص103.
(3) - كثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن مليح من خزاعة وأمه جمعة بنت الأشيم الخزاعية, (40-105هـ/660-723م) , شاعر متيم مشهور، من أهل المدينة، أكثر إقامته بمصر ولد في آخر خلافة يزيد بن عبد الملك، وتوفي والده وهو صغير السن وكان منذ صغره سليط اللسان وكفله عمه بعد موت أبيه وكلفه رعي قطيع له من الإبل حتى يحميه من طيشه وملازمته سفهاء المدينة, واشتهر بحبه لعزة فعرف بها وعرفت به وهي: عزة بنت حُميل بن حفص من بني حاجب بن غفار كنانية النسب كناها كثير في شعره بأم عمرو ويسميها تارة الضميريّة وابنة الضمري نسبة إلى بني ضمرة, وسافر إلى مصر حيث دار عزة بعد زواجها وفيها صديقه عبد العزيز بن مروان الذي وجد عنده المكانة ويسر العيش, وتوفي في الحجاز هو وعكرمة مولى ابن عباس في نفس اليوم فقيل: مات اليوم أفقه الناس وأشعر الناس.
أما أبو العتاهية (1) فهو يقول:
خالِف هَواكَ إِذا دَعاكَ لِرَيبَةٍ ... فَلَرُبَّ خَيرٍ في مُخالَفَةِ الهَوى
ولله در ابن دريد حيث يقول:
آفة العقل الهوى فمن علا ... على هواه عقله فقد نجا (2)
فمن اتبع هواه ضل ومن نسي هفواته استعظم هفوات وسقطات غيره، ومن استغنى بعقله عن استشارة غيره زل، فلا تصاحب إلا عاقلاً تقيا، ولا تخالط إلا علماً ذكيا، ولا تودع سرك إلا مؤمناً وفيا، واسأل من الله الهداية يهدك، والعافية يعافك، ولا تبع الضلالة بالهدى، والبصر بالعمى تكن من أهل الشقى، وتخسر الدنيا والآخرة. ويرحم الله القائل:
عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى ... ومن يشتري دنياه بالدين أعجب
وما أعجب من هذا من باع دينه ... بدنيا سواه فهو من ذين أعجب
قال ابن المقفع: من قل كلامه حمد عقله, ومن حرم رزئ في دنياه وآخرته, ويقول أيضاً: الهم مرض العقل وآفة العقل العجب. (3)
وفي الأمثال السائرة: "العاقل من يرى مقر سهمه من رميته, وعقول الرجال تحت أسنة أقلامها".
__________
(1) - إسماعيل بن القاسم بن سويد العيني العنزي أبو إسحاق, (130-211هـ/747-826م) , شاعر مكثر، سريع الخاطر، في شعره إبداع، يعد من مقدمي المولدين، من طبقة بشار وأبي نواس وأمثالهما. كان يجيد القول في الزهد والمديح وأكثر أنواع الشعر في عصره. ولد ونشأ قرب الكوفة، وسكن بغداد. كان في بدء أمره يبيع الجرار ثم اتصل بالخلفاء وعلت مكانته عندهم. وهجر الشعر مدة، فبلغ ذلك الخليفة العباسي المهدي، فسجنه ثم أحضره إليه وهدده بالقتل إن لم يقل الشعر، فعاد إلى نظمه، فأطلقه. توفي في بغداد.
(2) - بهجة المجالس وأنس المجالس لابن عبد البر, تحقيق محمد الخولي ج2ص81, الناشر: دار الكتب العلمية 1981م, والموسوعة الشعرية ص (465) .
(3) - الآثار الكاملة ص181.
عداوة العاقل خير من صداقة الأحمق
من الأمور المسلم بها أن العاقل لا يقاتل بدون عدة, ولا يخاصم بغير حجة, ولا يصارع بغير قوة, ولا يتكل على الجاه أو المال ولو كان في تمام الحال, لأن المال يحل ويرتحل والعقل يقيم ولا يبرح.
قال شعبة: إني لأرى الرجل يجلس مع من هو أقل عقلاً فأمقته. (1)
ولا يكاد الإنسان يرى عاقلاً إلا موقراً للعلماء, ناصحاً للأقران, مواتياً للإخوان, متحرزاً من الأعداء غير حاسد للأصحاب, ولا مخادع لأولي الألباب, لا يتحرش بالأشرار, ولا ينقاد للهوى, ولا يجنح للغضب, ولا يرمح في الولاية, ولا يدل الصاحب على مسالك الغواية, فعداوة العاقل خير من صداقة الأحمق الغافل, ورحم الله دعبل الخزاعي حيث يقول:
عداوة العاقل خير إذا ... حصلتها من خلة الأحمق
لأن ذا العقل إذا لم يزع ... عن حلمه استحيى فلم يخرقِ
ولن ترى الأحمق يبقي على ... دين ولا ود ولا يتقي (2)
العقل مناط التدبر وطريق الهدى والرشاد
بالعقل تعمر القلوب, وتتحقق السعادة, وبه يكون الحظ, وتنتفي الفاقة, فهو مناط التكليف, ومحل تعقل آيات الله الخبير اللطيف وتدبر أحكامه قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ
__________
(1) - روضة العقلاء ص25.
(2) - ديوان دعبل الخزاعي ص141.
بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (1) , وقال جل شأنه: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (2) , إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على عظيم شرف العقل, الذي يقرب الإنسان من الخير ويحجزه عن الشر قال الشاعر:
لا ترى العاقل إلا خائفاً ... حذراً من يومه دون غده
وفي الأمثال السائرة: "العقل أحسن معقل, وشهادة العقول أصح من شهادة العدول, والعقل أحصن معقل, والعقل وزير الناصح".
قال أبو حاتم: الواجب على العاقل: أن يكون بما أحيا عقله من الحِكمة أكلف منه بما أحيا جسده من القوت, وقوت العقل الحِكم (3) , وهذا صحيح, فالذي لا يتدبر في العواقب, ولا يتعظ عند وقوع النوائب, ولا يؤدي حق الخالق؛ فقد أضاع حظه, وعرض للهلكة نفسه, أما إذا أعمل الإنسان عقله؛ فإنه لا يضل إذا كان مؤمناً, ولا يغتم إذا كان معدماً, لأن العاقل إذا تدبر أبصر, وإن كان معدما؛ فإنه يرجى له الغنى, ولا يوثق للمغرور ولا للجاهل المكثر بقاء ماله أو عزه, فإنه يعرض ذلك كله للذهاب والفساد.
__________
(1) - سورة البقرة الآية (164) .
(2) - سورة النحل الآية (12) .
(3) - روضة العقلاء ص19.
وجاء في الأمثال السائرة: "ليس للأمور بصاحب من لم ينظر في العواقب", وقيل: "العاقل من يرى مقر سهمه من رميته يضرب في النظر في العواقب", وقيل: "النظر في العواقب تلقيح للعقول". (1)
فالعاقل من ينظر بعقله, ويتدبر في أمره, ولا يفتتن بنظره, قال الشاعر:
لا تغْتَررْ بعيونٍ ينظرونَ بها ... فإنما هيَ أحداقٌ وأجفانٌ
كمْ مُقْلَةٍ ذهبتْ في الغيِّ مذهبها ... بنظرةٍ هي شانٌ أو لها شان
فانظرْ بعقلكَ إن العينَ كاذبةٌ ... واسمعْ بِحسّكَ إن السمعَ خوَّان
ولا تقُلْ: كل ذي عينٍ له نَظرٌ ... إن الرعاةَ تَرَى ما لا يرى الضان (2)
ويرحم الله القائل:
إِنَّ الشَجاعَةَ في القُلوبِ كَثيرَةٌ ... وَوَجَدتُ شُجعانَ العُقولِ قَليلا (3)
أما أبو الطيب المتنبي فهو يرى: أن الإنسان العاقل يعاني ويتعب فيقول:
ذو العَقلِ يَشقى في النَعيمِ بِعَقلِه ... وَأَخو الجَهالَةِ في الشَقاوَةِ يَنعَمُ
ولكننا نرى المتنبي يهجو من يصف العجز بأنه عقل فيقول:
يَرى الجُبَناءُ أَنَّ العَجزَ عَقلٌ ... وَتِلكَ خَديعَةُ الطَبعِ اللَئيمِ (4)
أما ابن الوردي فهو يقول في قبح تضييع العقل والاستسلام للرغبة والشهوة:
__________
(1) - مجمع الأمثال لأبي الفضل احمد بن محمد بن احمد بن ابراهيم النيسابوري الميداني, حققه وفصله وضبط غرائبه وعلق حواشيه محمد محيي الدين عبد الحميد ج2 ص200 وص273 , مطبعة السنة المحمدية.
(2) - هذه الأبيات تنسب لأحمد بن عبد الله بن هريرة القبيسي أبو العباس الأعمى التطيلي (485-525هـ/1092-1131م) شاعر أندلسي نشأ في إشبيلية, له (ديوان شعر-ط) .
(3) - انظر: ديوان احمد شوقي.
(4) - انظر: ديوان المتنبي.
واهجر الخمرةَ إنْ كنتَ فتىً ... كيفَ يسعى في جنونٍ مَنْ عقلْ
العقل نوعان: مطبوع ومسموع
يرى بعض العلماء أن العقل: اسم يقع على المعرفة بسلوك الصواب والعلم باجتناب الخطأ, فإذا كان المرء في أول درجته يسمى أديباً ثم أريباً ثم لبيباً ثم عاقلاً.
وقال أبو حاتم: العقل نوعان: مطبوع ومسموع, فالمطبوع منهما كالأرض, والمسموع كالبذر والماء. (1)
وإلى مثل ذلك ذهب الراغب في كتاب الذريعة في مكارم الشريعة.
وفي مفردات القرآن: العقل يقال للقوى المتهيئة لقبول العلم, ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة. (2)
وفي المختار: العقل: الحجر والنهى (3) , وسمي به لأنه ينهى عن القبيح.
أما الجرجاني: فهو يرى أن العقل: جوهر مجرد عن المادة في ذاته مقارن لها في فعله, وهي النفس الناطقة التي يسار إليها كل أحد بقول: أنا, والعقل: ما يعقل به حقائق الأشياء, قيل محله الرأس, وقيل محله القلب. (4)
ولبعض الشعراء:
رأيت العقل نوعين ... فمطبوع ومسموع
__________
(1) - روضة العقلاء ص19.
(2) - انظر: المفردات ص126 , والذريعة إلى مكارم الشريعة لأبي القاسم الحسن بن محمد بن المفضل الراغب الأصفهاني ص92, الناشر: دار الكتب العلمية بيروت, الطبعة الأولى 1400هـ1980م.
(3) - مختار الصحاح للشيخ الإمام محمد بن أبي بكر الرازي ص446 , الناشر: دار القلم لبنان.
(4) - التعريفات للعلامة علي محمد الشريف الجرجاني المتوفى 816هـ , ص28 , طبعة دار النفائس بيروت 2003م.
ولا ينفع مسموع.........إذا لم يكُ مطبوع
كما لا تنفع الشمس ... وضوء العين ممنوع
الإنكار على من لم يُعمِل عقله
مما لا شك فيه أن من تدبر عقل, ومن أعمل عقله أبصر, فالله قد وهب الناس عقولاً ليعملوها ولتكون أكثر خصال الخير فيهم لا أن يهملوها, ولهذا نرى الناس يلومون من لم يعمل عقله, وينكرون عليه, وجاء في محكم الذكر الإنكار على من يأمر الناس بالبر ولا يأتيه قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (1) , وحكا الله عن أهل النار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (2) , وجاء في كلام بعض الشعراء:
وإذا ضلَّتِ العُقول على عِلْـ ... ـمٍ فماذا تقوله الفُّصَحاءُ (3)
أما أبو يعقوب الخريمي (4) فهو يرى: أن تفرق الشمل بسبب عدم العقول أي أنه ينزل من لا يُعمِل عقله بمنزلة معدوم العقل فهو يقول:
كانوا بَني امّ ففرّق شملَهم ... عدمُ العُقول وَخفّة الأَحلامِ
__________
(1) - سورة البقرة الآية (44) .
(2) - سورة الملك الآية (10) .
(3) - هذا البيت ينسب لشرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حماد بن عبد الله الصنهاجي البوصيري المصري, (608-696هـ/1212-1296م) شاعر حسن الديباجة، مليح المعاني، نسبته إلى بوصير من أعمال بني سويف بمصر, أصله من المغرب من قلعة حماد من قبيل يعرفون ببني حبنون, ومولده في بهشيم من أعمال البهنساوية, ووفاته بالإسكندرية له (ديوان شعر-ط) ، وأشهر شعره البردة مطلعها: (أمن تذكّر جيران بذي سلم) شرحها وعارضها الكثيرون، والهمزية ومطلعها: (كيف ترقى رقيك الأنبياء) , وعارض (بانت سعاد) بقصيدة مطلعها: (إلى متى أنت باللذات مشغول) .
(4) - إسحاق بن حسان بن قوهي الصفدي أبو يعقوب الخريمي (166-212هـ/782-827م) , أبو يعقوب الصفدي أصلاً التركي جنساً الخريمي ولاءً والصفد كورة قصبتها سمرقند وقيل هما صفدان صفد سمرقند وصفد بخارى, شاعر مطبوع وصفه أبو حاتم السجستاني بأشعر المولدين, خرساني الأصل من أبناء الصفد ولد في الجزيرة الفراتية وسكن بغداد واتصل بخريم الناعم فنسب إليه أو كان اتصاله بابنه عثمان بن خريم. ثم اتصل بمحمد بن منصور بن زياد كاتب البرامكة ومدحه ورثاه بعد موته وأدركه الجاحظ وسمع منه, وعمي قبل وفاته, له (ديوان-ط) . وقد ورد البيت المستشهد به في ديوانه وفي محاضرة الادباء ص146.
ولبعض الحكماء: "من لم يكن عقله أغلب خصال الخير عليه كان حتفه في أغلب خصال الشر عليه". (1)
إغفال العقل
إن طالب الفضل بغير عقل ولا بصر تائه, قال ابن المقفع: إغفال المرء لمسألة العقل "أشد الفاقة" فهو مقدم على المال والغنى, لأن العقل هو الحارس للمال, ولذا فهو يفضله, "لأنه يحرز الحظ, ويؤنس الغربة, وينفي الفاقة, ويعرف الفكرة, ويثمر المكسبة, ويطيّب الثمرة, ويوجه السوقة عند السلطان.. ويكسب الصديق, ويكفي العدو". (2)
قال الكميت بن زيد (3) :
وما غُبن الأقوام مثلَ عقولهم ... ولا مثلها كسباً أفاد كسوبُها
التجارب تزيد في العقل
إن تقلب أحوال الناس وخوض التجارب معهم مما يزيد في عقل الإنسان ويرشده إلى حسن التعامل معهم, قال الشاعر:
ألم ترى أن العقل زين لأهله ... ولكن تمام العقل طول التجارب (4)
أما الحارث بن كلدّة فهو يرى: أن من يتعظ بغيره سعيد, وأن في التجارب تحكيماً ومعتبراً, ولذلك فهو يقول:
__________
(1) - الذريعة إلى مكارم الشريعة ص93.
(2) - الآثار الكاملة ص29.
(3) - الكميت بن زيد بن خنيس الأسدي أبو المستهل (60-126هـ/680-744م) شاعر الهاشميين، من أهل الكوفة، شتهر في العصر الأموي، وكان عالماً بآداب العرب ولغاتها وأخبارها وأنسابها, ثقة في علمه، وهو من أصحاب الملحمات, أشهر قصائده (الهاشميات-ط) ترجمت إلى الألمانية.
(4) - أدب الدنيا والدين ص23.
إِنَّ السَعيدَ لَهُ في غَيرِهِ عِظَةٌ ... وَفي التَجارِبِ تَحكيمٌ وَمُعتَبَرُ
وفي أدب الدنيا والدين للماوردي:
إذا طال عمر المرء من غير آفة ... أفادت له الأيام في كرها عقلاً
ومن العقل التثبت في كل عمل قبل الدخول فيه, والعاقل لا يطول أمله لأن من قوي أمله ضعف عمله, ومن أتاه أجله لم ينفعه أمله, والعاقل بطبعه يتقرب من العقلاء, فقرب العاقل غنم لأشكاله, وعبرة لأضداده على الأحوال كلها.
الأدب النفسي ودوره في تنمية العقل
إن للأدب النفسي دور في تنمية العقل وإحلاله المرتبة التي يتفق له معها تبعات الوجود, فالعقل عنده طاقة كامنة مليئة بالاستعدادات قادرة على المنطق الصالح إذا أحياها الأدب, وأمدها بأسباب النماء والعطاء, وعن ذلك يقول ابن المقفع: فكما أن الحبة المدفونة في الأرض لا تقدر أن تخلع يبسها وتظهر قوتها وتطلع فوق الأرض بزهرتها إلا بمعونة الماء الذي يغور إليها في مستودعها فيذهب عنها أذى اليبس والموت, ويحدث لها بإذن الله القوة والحياة فذلك سليقة العقل مكنونة في مغرزها من القلب: لا قوة لها ولا حياة بها ولا منفعة عندها حتى يعملها الأدب الذي هو ثمارها وحياتها ولقاحها. (1)
__________
(1) - الآثار الكاملة ص26.
كمال العقل
إن العاقل من الناس من لا يفرح بحصول لذة ولا يكترث بفواتها أو بعدم نيلها والوصول إليها, لأنه يعلم أن كل ذلك مصيره إلى الزوال, وفي محكم التنزيل: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (1) .
وقد جاء في كلام بعض الشعراء:
ومن كملت فيه النهى (2) لا يسره ... نعيمٌ ولا يرتاع للحدثان
وللإمام علي رضي الله عنه:
إِذا أَكمَلَ الرَحمَنُ لِلمَرءِ عَقلَهُ ... فَقَد كُمُلَت أَخلاقُهُ وَمآرِبُه
ويرحم الله القائل:
أولست تأمر بالعفاف وبالتقى ... وإليه آل الأمر حين يؤلُ؟
فإن استطعت فخذ بعقلك فضلة ... إن العقول يرى لها تفضيلُ
فما أحوج العقلاء إلى التدبر في جميع الأشياء لأخذ العظة والاعتبار والعمل على هدى منهج الله العزيز الجبار, وما أروع قول الشاعر:
ولي في فناء الخلق أكبر عبرة ... لمن كان في بحر الحقيقة راقي
شخوص وأشكال تمر وتنقضي ... فتفنى جميعاً والمهيمن باقي
__________
(1) - سورة الحديد الآيات (22-24) .
(2) - النهى: اسم من أسماء العقل.
القصة
روي أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله استعمل رجلاً فقيل له: إنه حديث السن, ولا نراه يضبط عملك, فأخذ العهد منه وقال: ما أراك تضبط عملك لحداثتك, فقال الفتى:
وليس يزيد المرء جهلاً ولا عمى ... إذا كان ذا عقل حداثة سنه
فقال عمر رحمه الله: صدق ورد عليه العهد.
وسئل عبد الله بن المبارك رحمه الله: ما خير ما أعطي الرجل؟ فقال: غريزة عقل, قيل: فإن لم يكن؟ قال: أدب حسن؟ قيل: فإن لم يكن؟ قال: أخ صالح يستشيره, قيل فإن لم يكن؟ قال: صمت طويل, قيل: فإن لم يكن؟ قال: موت عاجل. (1)
وفي الحديث النبوي: (الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ) (2) .
العقل يرشد الى توحيد الله
كل انسان يدرك بعقله ان كل شيء له صانع يصنعه او علة توجده والعاقل يدرك ان في اختلاف النبات في الطعم واللون والغذاء رغم اتحاد التربة والماء اله خلق واحسن التقدير والتدبير والى ذلك يرشد الحكيم الخبير
__________
(1) - دليل السائلين جمعه أنس بن اسماعيل أبو داود ص435و436 , الطبعة الألى 1416هـ1996م.
(2) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء في صفة أواني الحوض حديث (2383) .
{وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (1) .
والانسان بفطرته اذا نظر الى الكون واستعرض مافيه من الكائنات, حصل له علم ضروري بان هذه الكائنات لم توجد صدفة بل لابد من موجد اوجدها. حتى وان كان اميا او اعرابيا فانه ييدرك ذلك بعقله وفطرته وفي نفح الطيب: قيل لأعرابي بم عرفت ربك فقال البعرة تدل على البعير والروث يدل على الحمير وآثار الأقدام تدل على المسير فسماء ذات أبراج وبحار ذات أمواج أما يدل ذلك على العليم القدير (2) فالعاقل يدرك ان في الكون دليل وبرهان على وجود الله وان في اختلاف الليل والنهار والشمس والقمر ايات تدل على وجود الله الحكيم الخبير السميع البصير, وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (3) . وقد ذهب كثير من العلماء الى القول بان فكرة الله او الدين على العموم انما هي فكرة فطرية وجدت في عقل الإنسان ولكن اوجدها فينا موجد وهو
__________
(1) - سورة الرعد الآية (4) .
(2) - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب لمؤلفه العلامة / أحمد بن محمد المقري التلمساني ج5/ص289. الناشر: دار صادر - بيروت، 1968 تحقيق: د. إحسان عباس.
(3) - سورة البقرة الآية (164) .
الله سبحانه وتعالى (1) ومن الايات التي تبهر الالباب ان القرآن يقرر بان الدين فطرة في الإنسان فطر الله الناس عليها وان اساسه الاعتقاد بخالق الكون, وانه واحد لاشريك له فاذا انفرد الإنسان بنفسه حكم بانه مخلوق لإله قادر حكيم خلقه وانعم عليه يدرك ذلك بعقله وفطرته قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) فتعرف على اسم الله الذي خلق لك عقلا تفكر به ولسان تتكلم به وعينا تبصر بها واذنا تسمع بها, واعلم ان لا اله الا الله ولا معبود بحق الا الله, ولا رازق الا الله, فاذا قلت لا اله الا الله اي لامعطي ولا مانع ولا رافع ولا خافض ولا معز ولا مذل ولا وهاب ولا مغني ولا مبد ولا معيد الا الله فكل الاسماء الحسنى اذا جمعت هي الله اي هو المعبود الحق, فتعرف عليه يغنيك ويهديك ويعافيك.
اسم الله دال على جميع الاسماء الحسنى
الله اسم دال على جميع اسمائه الحسنى وصفاته العليا التي هي صفات الكمال المنزهة عن الشبيه والمثال ورد في القرآن اسم الله الجامع لاسمائه الحسنى ووصف الله اسماءه بالحسنى قال تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا
__________
(1) - روح الدين الاسلامي ص80.
(2) - سورة الروم الآيتان (30-31) .
وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (1) وقال سبحانه: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى} (2) وورد في السنه النبوية: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) (3)
وقد علم من هذه النصوص ان الاسماء الحسنى تضاف الى اسم الله جل جلاله فهو الاسم الجامع فيقال: الرحمن الرحيم العزيز الغفار من اسماء الله ولا يقال: الله من اسماء الرحمن فعلم انه اسم الله مستلزم لجميع معاني الاسماء الحسنى, دال عليها بالاجماع, والاسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الالهية, التي اشتق (4) منها اسم الله واسم الله دال على كونه مألوها معبودا, تألهه الخلائق محبة وتعظيما وخضوعا, وفزعا اليه في الحوائج والنوائب (5) وقال الغزالي: اعلم أن هذا الإسم أعظم أسماء الله عز وجل التسعة والتسعين لأنه دال على الذات الجامعة لصفات الإلهية كلها حتى لا يشذ منها شيء وسائر الأسماء لا يدل آحادها إلا على آحاد المعاني من علم أو قدرة أو فعل أو غيره ولأنه أخص الأسماء إذ لا يطلقه أحد على غيره لا حقيقة ولا مجازا وسائر الأسماء قد يسمى به غيره كالقادر والعليم والرحيم وغيره فلهذين الوجهين يشبه أن يكون هذا الاسم أعظم هذه الأسماء (6) .
ثمرة معرفة اسم الله الجامع للاسماء الحسنى
اذا علم المكلف ان لا اله الا الله ولا معبود بحق الا الله ولا خالق ولا معطي الا الله فهو المانع الخافض الرافع, المعز المذل, العزيز الجبار, القهار المتكبر, وان (الله) علم على الذات الكاملة علم على الخالق, علم على البارئ, المصور, المسير, العزيز, الجبار, الكبير المتعال, وان اسماء الله الحسنى كلها جمعت في (الله) المتصف بصفات الوجود, وصفات الكمال, وصفات الوحدانية وجب عليه ان يؤمن به وحده لاشريك له وان يطيعه ويحبه فمن اطاع ولم يحب لم يعبد الله, فالعبادة هي الحب مع غاية الطاعة وان يردد كلمة التوحيد فهي افضل الذكر فهي كلمة التوحيد وشعار الإسلام فالاسلام كله والايمان كله والاحسان كله, جمع في هذه الكلمة فهي حصن الله ومن دخل حصنه امن من عذابه وقد جاء في الحديث القدسي: (لا إله إلا الله حصني فمن دخله أمن عذابي) (7) فهي افضل
__________
(1) - سورة الاعراف الآية (180) .
(2) - سورة طه الآية (3) .
(3) - البخاري في صحيحه حديث رقم (2531) .
(4) - اختلف العلماء حول حول اشتقاق هذا الاسم فقال ابن كثير لا يعرف لهذا الاسم من كلام العرب اشتقاق. نقله القرطبي عن جماعة من العلماء منهم الشافعي والخطابي, وامام الحرمين والغزالي, وغيرهم.. قال الخطابي: الا ترى انك تقول: (يالله) ولاتقول: "يا الرحمن" فلولا انه من اصل الكلمة- أي الالف واللام- لما جاز إدخال حرف النداء على الالف واللام , وقيل: إنه مشتق ... فقد يكون من:
أ- التأله من انه أله يأله إلاهّا وتألها كما روى عن ابن عباس أنه قرأ (ويذروك وآلهتك) قال عبادتك أي انه كان يُعبد ولا يَعبدُ.
ب- وقد يكون من (إلاه) مثل فعال فأدخلت الالف واللام للتعظيم وهذا قول الخليل.
ج- وقد يكون من (إلإله) وإدغمت اللام الأولى في الثانية بعد حذف الهمزة.
د- وقيل: هو من (وله) وهو ذهاب العقل والحيرة, فالله تعالى يحيرهم في حقائق صفاته.
هـ- وقال الرازي: أنه مشتق من (ألهت إلى فلان) أي (سكنت إليه) انتهى.
(5) - الجامع لاسماء الله الحسنى ص12.
(6) - المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى - للغزالي محمد بن محمد الغزالي أبو حامد, ص61 , الناشر: الجفان والجابي - قبرص الطبعة الأولى، 1407 - 1987 تحقيق: بسام عبد الوهاب الجابي.
(7) - مسند الشهاب للعلامة /محمد بن سلامة بن جعفر أبو عبد الله القضاعي, باب لا اله الا الله حديث رقم (1451) ج2/ص 323. الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت الطبعة الثانية، 1407 - 1986 تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي
كلمة تسعد بها وتفوز وهي افضل الدعاء وفي الحديث النبوي: (أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) (1) وهي افضل الذكر فقد ورد في الحديث النبوي أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (2) وفي الذكر الحكيم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (3) فاذا علم الإنسان انه لااله الا الله استغفر لذنبه ووحد الله ووحد وجهته الى الله فاستقام في اخلاقه وسلوكه وعبادته فهي كلمة التوحيد ونهاية العلم التوحيد, ونهاية العمل التقوى, وفي القرآن الحكيم وردت قصص للانبياء والمرسلين, وكلهم يقول لقومه ان اعبدوا الله مالكم من اله غيره فمن قالها موقنا من قلبه ظفر بمراده وسعد في حياته ومماته فانت حين تقولها عقب صلاة الفجر عشر مرات كانما اعتقت رقابا واحييت انفسا وكانت لك حرزا وحصنا وهي من احب الكلام الى الله ففي صحيح مسلم أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ أَرْبَعٌ (سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ) (4) .
__________
(1) - موطأ مالك حديث رقم (841)
(2) - سنن الترمذي حديث رقم (3305)
(3) - سورة محمد الآية (19) .
(4) - مسلم في صحيحه حديث رقم (3985) .
دعاء الله باسمه الجامع للاسماء الحسنى
ياالله يارحمن يارحيم ياسميع ياعليم يامن عُرف بالادله الداله من فطرة الارض والسماء وبالصفات الالهية والاسماء وبكتبه المنزلة ببديع الحكمة والوحدانية العظما يامن له الاسماء الحسنى والصفات العليا وقفت العقول بباب عظمتك فلم تحيط بك علما الا بماعلمتها من الصفات والاسماء فلك الحمد والمجد والثناء وقد قلت في محكم كتابك الله لااله الا هو له الاسماء الحسنى وقلتَ ولك العظمة والكبرياء قل ادعو الله او ادعو الرحمن اياما تدعدو فله الاسماء الحسنى وقلت وانت أهل المجد والثناء ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها وقلت ولك الاخرة والاولى هو الله الخالق البارء المصور له الاسماء الحسنى فاسالك باسمائك الحسنى وصفاتك العليا بجلالك وعظمتك يامن هو الله الذي لااله الا هو عالم الغيب والشهادة ان تصلى على محمد وعلى ال محمد كما صليت على ابراهيم وعلى ال ابراهيم في العالمين انك حميد مجيد وعلى اصحابه واتباعه ومن تحب من الانبياء والمرسلين والملائكة المقربين وصالح خلقك اجمعين واسألك يا الله يارحمن يارحيم باسمائك الحسنى ان تؤانسني بجلالك وتملأ قلبي من معرفتك واسمائك وان تصلح لي امور ديني ودنياي واخرتي وان تغفرلي ولوالدي وللمؤمنين واسألك الدرجات العلى من الجنة اللهم رحمتك ارجو فلاتكلني الى نفسي طرفة عين ياالله ياحي ياقيوم ياذى الجلال والاكرام استجب دعائي وحقق لي املي ورجائي ياكريم يارحيم وصلى اللهم على محمد النبي الامين وعلى اله وصحبه والتابعين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
الفصل الثالث الإنسانية أصلها واحد
الإنسانية أصلها واحد
الأمر الذي لا مرية فيه أن أصل بني الإنسان واحد, وأن الإنسانية كلها وحدة واحدة, وإن تباينت مظاهرها في ألوانها وأجسادها وأشكالها, واختلفت ألسنتها وآراؤها ومذاهبها ومواطنها؛ فتلك نتيجة طبيعية لاختلاف البيئات, أو هي اعتبارات ومصطلحات لاتفاقات تعرض لجوهر الإنسان عند تكوينه واستكمال خلقه, وآية دالة على إحكام الله لخلقه, وفي الذكر الحكيم: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (1) , فالآية دالة على عظيم صنع الله وتصويره وتقديره وكبير إحسانه وإكرامه للإنسان بما ليس له مثيل, فتدبر قول الحق تبارك وتعالى مخاطباً ملائكته: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} (2) , فالإنسان العاقل يجب ألا يقابل هذا التكريم بالجحود؛ فيتعالى على غيره من بني الإنسان, فلا يجوز لصاحب وطن من الأوطان أو بلد من البلدان أو إقليم من الأقاليم أن يتعالى على غيره من بني الإنسان, إذ لو جاز ذلك لجاز للابن أن يتنكر لوالده, والأب لابنه, والأخ لأخيه, وأنى له ذلك وقد خلق الله الناس جميعاً من نفس واحدة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ
__________
(1) - سورة الروم الآية (22) .
(2) - سورة الحجر الآية (29) .
وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (1) , في هذه الآية خاطب الله جل وعلا الناس كافة بقوله يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي أنشأكم ورباكم بنعمه فاتقوه في أنفسكم، ولا تتعدوا حدوده فيما شرعه من الحقوق والآداب، مما فيه صلاح شأنكم، فإنه خلقكم من نفس واحدة، فكنتم جنساً واحداً تقوم مصلحته بتعاون أفراده وإتحادهم وحفظ بعضهم حقوق بعض، فتقوى الله فيها الشكر لربوبيته، وفيها ترقية لوحدتكم الإنسانية، فاتقوا الله في أمره ونهيه في حقوق الرحم التي هي أخص من حقوق الإنسانية، بأن تصلوا الرحم التي أمركم الله بوصلها، واحذروا ما نهاكم عنه من قطعها، لما في تقواه من الخير لكم الذي يذكركم به تساؤلكم فيما بينكم باسمه الكريم وحقه على عباده, وسلطانه الأعلى على قلوبهم وبحقوق الرحم، وفي هذا التساؤل من الاستعطاف والإيلاف ما يكفي للتعاطف والتراحم، فلا تفرطوا في هاتين الرابطتين بينكم رابطة الإيمان بالله وتعظيمه، ورابطة وشيجة الرحم، فإنكم إذا فرَّطتم في ذلك أفسدتم فطرتكم، فتفسد حينئذ البيوت والعشائر والقبائل، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} أي: مشرفاً على أعمالكم حفيظاً مطلعاً على جميع أحوالكم.
وللإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه:
الناسُ مِن جِهَةِ الأبَاءِ اَكفاءُ ... أَبوهُمُ آدَمُ وَالأُمُ حَوّاءُ
نَفسٌ كَنَفسٍ وَأَرواحٌ مُشاكَلَةٌ ... وَأَعظُمٍ خُلِقَت فيها وَأَعضاءُ
__________
(1) - سورة النساء الآية (1) .
وَإِنَّما أُمَّهاتُ الناسِ أَوعِيَةٌ.......مُستَودِعاتٌ وَلِلأَحسابِ آباءُ
فَإِن يَكُن لَهُمُ مِن أَصلِهِم شَرَفٌ ... يُفاخِرونَ بِهِ فَالطينُ وَالماءُ
ما الفَضلُ إِلا لأَهلِ العِلمِ إِنَّهُمُ ... عَلى الهُدى لِمَنِ اِستَهدى أَدِلاّءُ
وَقَدرُ كُلِّ اِمرِئٍ ما كاَن يُحسِنُهُ ... وَلِلرِجالِ عَلى الأَفعالِ اسماءُ
وَضِدُّ كُلِّ اِمرِئٍ ما كانَ يَجهَلُهُ ... وَالجاهِلونَ لأَهلِ العِلمِ أَعداءُ
وقال أخر:
لا تفخرن بأصلك ... ما الفخر إلا بفعلك
أصل الأنام ترابٌ ... مما تطأه بنعلك
فاعمل بجد وحزم ... ترقَ المعالي بسعيك
وجاء في محكم الذكر: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (1) , وجاء في السنة النبوية: (يا أَيُّها النَّاسُ، إنَّ ربَّكُمْ وَاحِدٌ وإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلا لا فَضلَ لعَرَبيٍّ على عَجَمِيٍّ، ولا لعَجَمِيٍّ على عَرَبيٍّ، ولا لأَحْمَرَ على أَسْوَدَ ولا لأَسْوَدَ على أَحْمَرَ إلاَّ بالتَّقْوى، أَبَلَّغْتُ؟ قَالُوا: بلّغَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم) (2) , وهذا الحديث يستفاد منه تحقيق مبدء المساواة, وأن عز الإنسان ورفعته إنما هو بإيمانه بالله وخشيته له.
وقد قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
__________
(1) - سورة الحجرات الآية (13) .
(2) - أخرجه الإمام أحمد في المسند حديث (23486) , طبعة بيت الأفكار الدولية لبنان 2004م, والحديث صحيح.
لَعَمرُكَ ما الإِنسانُ إِلا بِدينِهِ ... فَلا تَترُكِ التَقوى اِتِّكالاً عَلى النَسَب
فَقَد رَفَعَ الإِسلامُ سَلمانَ فارِسٍ ... وَقَد وَضَعَ الشِركُ الشَريفَ أَبا لَهَب
وجاء في شعر المتوكل الليثي (1) :
لَسنا وَإِن كَرُمَت أَوائِلُنا ... يَوماً عَلى الأَحسابِ نَتَّكِلُ
نَبني كَما كانَت أَوائِلُنا ... تَبني وَنَفعَلُ مِثلَ ما فَعَلوا (2)
ويرحم الله ابن دريد حيث يقول:
إِنَّما المَرءُ حَديثٌ بَعدَهُ ... فَكُن حَديثاً حَسَناً لِمَن وَعى
القصة
قال عبد الرحمن بن عوف المهاجري القرشي رضي الله عنه لما قدم المدينة قال: آخا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بيني وبين سعد بن الربيع الأنصاري رضي الله عنه فقال سعد: إني من أكثر الأنصار مالاً, فأقسم لك نصف مالي, وأنظر أي زوجتي هويت, نزلت لك عنها, فإذا حلت تزوجتها أنت, وقابل عبد الرحمن هذا الإيثار الكريم بعفاف كريم منه فقال: بارك الله لك في أهلك ومالك, دلني على السوق (3) , وقد حكى الله عن حال الأنصار مع المهاجرين ما يدل على عظيم منزلتهم قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4) .
الأمثال العربية
في الأمثال السائرة: "الشرف بالهمم العالية لا بالرمم البالية, ومن نهظ به أدبه لم يقعد به حسبه". وقال بعضهم:
نفس عصامٍ سودت عصاما ... وعلمته الكر والإقداما
وجعلته ملكاً هماماً
فصار مثلاً يضرب لمن شرف بنفسه, لا بآبائه وأسلافه, والعرب تقول لمن يفتخر بنفسه: (عصامي) , ولمن يفتخر بآبائه: (عظامي) نسبة إلى عظام الأموات من اجداده. قال الشاعر:
إذا ما الحي عاش بذكر ميت ... فذاك الميت حي وهو ميت
أما معروف الرصافي فهو يقول:
وشر العالمين ذوو خمول ... إذا فاخرتهم ذكروا الجدودا
وقال آخر:
قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه ... خلقٌ وجيب قميصه مرقوع
ومن أمثال العرب: "رضا الناس غاية لا تدرك (5) , ورضا الناس شيء لا ينال (6) ", وفي الحديث النبوي: (تَجِدُونَ النَّاسَ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لا يَجِدُ
__________
(1) - المتوكل بن عبد الله بن نهشل بن مسافع بن وهب بن عمرو بن لقيط بن يعمر بن عامر بن ليث, (ت 85هـ704م) , من شعراء الحماسة، وهو ليثي من ليث بن بكر، يكنى أبا جهمة من أهل الكوفة في عصر معاوية وابنه يزيد, ولقد اختار أبو تمام قطعتين من شعره إحداهما: ... نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
وقال الآمدي: هو صاحب البيت المشهور: ... لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
(2) - ذيل الأمالي لأبي علي بن إسماعيل بن القاسم القالي ج3ص117, منشورات دار الفرقان الجديدة بيروت 1400هـ1980م.
(3) - انظر: صحيح البخاري باب إخا النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث (3496) .
(4) - سورة الحشر (9) .
(5) - ورد هذا المثل في مجمع الأمثال للميداني, والعقد الفريد, ومحاضرات الأدباء.
(6) - ورد هذا المثل في البيان والتبيين للجاحظ.
الرَّجُلُ فِيهَا رَاحِلَةً) (1) , فاللبيب من الناس من يتعامل مع الناس بحزم, فإنه إن قصد بمؤاخاته للناس حصول رضاهم تعذر ذلك عليه وهو لا يزال بحاجة إلى الناس وهم لا يزالون بحاجة إليه, قال الشاعر:
وبالناس عاش الناس قدماً ولم يزل ... من الناس مرغوبٌ إليه وراغبُ (2)
أما بشار بن برد فهو يقول:
مَن راقَبَ الناسَ لَم يَظفَر بِحاجَتِهِ ... وَفازَ بِالطَيِّباتِ الفاتِكُ اللَهِجُ
وقال آخر:
الناسُ أَخلاقُهُم شَتّى وَإِن جُبِلوا ... عَلى تَشابُهِ أَرواح وَأَجسادِ (3)
وفي الأمثال السائرة: "الناس أجناس, والناس اخوان وشتى في الشيم" (4) . ويرحم الله شوقي حيث يقول:
وَالناسُ صِنفانِ مَوتى في حَياتِهُمُ ... وَآخَرونَ بِبَطنِ الأَرضِ أَحياءُ
تَأبى المَواهِبُ فَالأَحياءُ بَينَهُمُ ... لا يَستَوونَ وَلا الأَمواتُ أَكفاءُ
وقديماً قيل: "في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال" (5) , وقيل: "الناس أتباع من غلب (6) , والناس على دين ملوكهم", ويغفر الله لأبي العتاهية حيث يقول:
__________
(1) - أخرجه مسلم في صحيحه باب قوله صلى الله عليه وآله وسلم الناس كإبل مائة حديث (4620) .
(2) - هذا البيت لابن المولى المدني.
(3) - هذا البيت للخريمي.
(4) - ورد هذا المثل في مجمع الأمثال للميداني, والمستطرف.
(5) - ورد هذا المثل في نهج البلاغة ومجمع الأمثال للميداني.
(6) - ورد هذا المثل في مجمع الأمثال للميداني, والمستطرف.
ما الناسُ إِلاَّ مَعَ الدُنيا وَصاحِبِها ... فَكَيفَ ما اِنقَلَبَت يَوماً بِهِ اِنقَلَبوا
يُعَظِّمونَ أَخا الدُنيا وَإِن وَثَبَت ... يَوماً عَلَيهِ بِما لا يَشتَهي وَثَبوا
أما أسامة بن المنقذ فهو يقول:
والنّاسُ كالأشجار هَذي يُجتَنى ... منها الثِّمَارُ وذي وَقودُ النّارِ
وفي الأمثال العامة: "الناس عبيد الإحسان" (1) .
وفي الحديث النبوي: (جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا وَبُغْضِ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهَا) (2) .
وفي السنة النبوية من الحكم التي جرت مجرى الأمثال السائرة: (الناس سواسية كأسنان المشط) , (الناس معادن كمعادن الفضة) .
قال الشاعر:
وَالأَصلُ يَنبُتُ فرعه مُتَناثِلاً ... وَالكَفُّ لَيسَ بَنانُها بِسواءِ
وَالناسُ لَيسوا يَستَوونَ فَمِنهُم ... وَرِعٌ وَآخَرُ ذو نَدىً وَغِناءِ
وَالناسُ أَشباهٌ وَبَينَ حُلومِهِم ... بَونٌ كَذاكَ تَفاضُلُ الأَشياءِ (3)
أما محمود سامي البارودي فهو يقول:
والناسُ أَشْبَاهٌ ولَكِنْ فَرَّقَتْ ... ما بَيْنَهُمْ في الرُّتْبَةِ الآراءُ
وقال آخر:
__________
(1) - ورد هذا المثل في جمهرة الأمثال, وفي مجمع الأمثال للميداني.
(2) - أخرجه البيهقي في شعب الإيمان باب معاني المحبة حديث (446) .
(3) - هذه الأبيات تنسب لعدي بن الرقاع العاملي.
وَالناسُ بِالناسِ مِن حَضرٍ وَبادِيَةٍ ... بَعضٌ لِبَعضٍ وَإِن لَم يَشعُروا خَدَمُ
وَكُلُّ عُضوٍ لأَمرٍ ما يُمارِسُهُ ... لا مَشيَ لِلكَفِّ بَل تَمشي بِكَ القَدَمُ
فَاِذخَر لِنَفسِكَ خَيراً كَي تُسَرَّ بِهِ ... فَإِن فَعَلتَ وَإِلا عادَكَ النَدَمُ (1)
أما بهاء الدين زهير فهو يقول:
فَالناسُ بِالناسِ وَالدُنيا مُكافَأَةٌ ... وَالخَيرُ يُذكَرُ وَالأَخبارُ تَنتَقِلُ
الإسلام يدعو إلى الأخوة والتعاون
إن الدين الإسلامي هو الذي يدعو إلى الوحدة والمودة والإخاء، ويدعو المؤمنين جميعاً إلى التعاون على البر والتقوى وفي الذكر الحكيم: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) ، وجاء في الحديث النبوي ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا) (3) ، وجاء في حديث أخر: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (4) ، فلقد من الله على المؤمنين إذ جعلهم امة واحده فيما يقولون وما يفعلون، وما يأتون وما يذرون، فمعبودهم واحد، وعباداتهم
__________
(1) - هذه الأبيات تنسب لأبي العلاء المعري.
(2) - سورة المائدة (2) .
(3) - أخرجه البخاري في صحيحه باب تعاون المؤمنين حديث (5567) , مسلم صحيح في باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم حديث (4684) .
(4) - أخرجه مسلم في صحيحه باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم حديث (4685) .
واحدة قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (1) ، ويقول جل شأنه: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (2) .
والمؤمن ينزع العداوة من قلبه فهو يألف المؤمنين ويحبهم، ليس في قلبه عصبية قبلية ولا حمية جاهلية، قد غرس في قلبه الاخوة في الإيمان، فهو لا يفرق بين صغير ولا كبير، ولا بين متقدم وأخير، وذكر وأنثى، وحر ومولى، فهو يعمل بكلام المولى سبحانه وتعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (3) ، والمؤمن يدعو الله أن يذهب الغل من قلبه ويسأله المغفرة لإخوانه كما ورد ذلك في الذكر الحكيم: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (4) .
ولقد كان أول عمل بدء به رسول الله عليه وآله وسلم بعد هجرته إلى المدينة ودعوته إلى توحيد الله، وبناء المسجد هو المؤاخاة بين المسلمين من المهاجرين والأنصار، بين الفقراء والأغنياء، بين الضعفاء والأقوياء، حتى صارت هذه الوحدة أية تدل على علو شرف الإسلام وسمو مكانته، ... كما أن الإسلام ينهى عن التنازع والتفرق والشقاق فيقول جل شأنه:
__________
(1) - سورة الأنبياء (92) .
(2) - سورة المؤمنون (52) .
(3) - سورة التوبة (11) .
(4) - سورة الحشر (10) .
{وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (1) ، ولله در القائل:
كونُوا جميعَاً يا بَنِيَّ إِذا اعتَرى ... خَطْبٌ ولا تتفرقُوا آحادَا
تأبَى القِداحُ إِذا اجتمعْنَ تكسُّراً ... وإِذا افترقْنَ تكسَّرتْ أفرادَا (2)
فالأخوة عزة وقوة, وهي تمثل امتزاج روح بروح وتصالح قلب مع قلب, والإخوة في الله رباط إيماني يقوم على منهج رباني, فالمؤمن من استجاب لنداء ربه، وعمل بأمره: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (3) .
وأول عمل عمله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة هو بناء المسجد الذي يرمز إلى توحيد الله وتوحد المسلمين ثم آخا بين المهاجرين والأنصار بين الأغنياء والفقراء فكانت قوة ونعمة ووحدة وأخوة.
وفي الأمثال السائرة: "رب أخٍ لك لم تلده أمك", وقال الشاعر:
أَخاكَ أَخاكَ إِنَّ من لا أَخاً لَه ... كساعٍ الى الهيجا بغير سلاحِ
__________
(1) - سورة الأنفال (46) .
(2) - انظر: ديوان الطغرائي: (455-513هـ/1063-1120م) الحسين بن علي بن محمد بن عبد الصمد أبو إسماعيل مؤيد الدين الأصبهاني الطغرائي, شاعر، من الوزراء الكتاب، كان ينعت بالأستاذ، ولد بأصبهان، اتصل بالسلطان مسعود بن محمد السلجوقي (صاحب الموصل) فولاه وزارته. ثم اقتتل السلطان مسعود وأخ له اسمه السلطان محمود فظفر محمود وقبض على رجال مسعود وفي جملتهم الطغرائي، فأراد قتله ثم خاف عاقبة النقمة عليه، لما كان الطغرائي مشهوراً به من العلم والفضل، فأوعز إلى من أشاع اتهامه بالإلحاد والزندقة فتناقل الناس ذلك، فاتخذ السطان محمود حجة فقتله. ونسبة الطغرائي إلى كتابة الطغراء. وللمؤرخين ثناء عليه كثير. له (ديوان شعر - ط) ، وأشهر شعره (لامية العجم) ومطلعها: أصالة الرأي صانتني من الخطل. وله كتب منها (الإرشاد للأولاد) ، مختصرة في الإكسير.
(3) - سورة آل عمران (103) .
وقال آخر:
لعمرك ما مال الفتى بذخيرة ... ولكن اخوان الثقات الذخائر
وقيل: "القريب من قرب نفعه", وقيل: "يدك منك وإن كانت شلا", وإنما الناس جماعة واحدة خيرهم من جمعهم على البر والصدق والهدى".
قال الشاعر:
يُعرّفك الاخوان كل بنفسه ... وخير أخ ما عرفتك الشدائد
مبدأ الوحدة الإنسانية والمساواة البشرية
كان الإنسان موزعاً بين قبائل وأمم, وطبقات بعضها دون بعض, وقوميات ضيقة, وكان التفاوت بين هذه الطبقات تفاوتاً هائلاً, كتفاوت ما بين الإنسان والحيوان, وبين الحر والعبد, وبين العابد والمعبود, لم تكن هناك فكرة عن الوحدة والمساواة إطلاقاً, فأعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد قرون طويلة من الصمت المطبق, والظلام السائد, وذلك الإعلان الثائر, المدهش للعقول, القالب للأوضاع: (يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب إن أكرمكم عند الله أتقاكم وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى) . وهذا الإعلان يتضمن إعلانين هما الدعامتان اللتان يقوم عليهما الأمن والسلام, وعليهما قام السلام في كل زمان ومكان وهما: وحدة الربوبية ووحدة البشرية, فالإنسان أخو الإنسان من جهتين: الجهة الأولى -وهي الأساس- أن الرب واحد, والجهة
الثانية أن الأب واحد (1) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2) , {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (3) .
نجاح الأفراد والأمم وأثر الاتفاق والاختلاف على الأسرة الإنسانية
من الأمور التي يتفق عليها العقلاء من الناس أن الناس يتفاوتون في أقدارهم ومكانتهم, فمن الأفراد من يتمتع باحترام الناس وتقديرهم وتوقيرهم, يتعامل الناس معه باحترام وأدب ووقار, ومن الناس من لا يتبوء هذه المكانة ولا يكون الناس سعداء بالتعامل معه, وكذلك الأمم حالها كالأفراد, فمن الأمم أمة في الذروة من الاحترام تقول الكلمة فتدوي لكلمتها الدنيا, وتنحني لها الرؤس, ويخطب ودها وصدقاتها, ومن الأمم من لا يصوغ لها مركزها أن تتكلم كلمة ولو تكلمت كان كلامها موضع ضحك وسخرية.
ترى فما هو سر نجاح الأفراد والأمم مع أن أصل البشرية واحد والناس سواسية -وقد سبق بيان ذلك-؟
__________
(1) - انظر: السيرة النبوية كتبها العلامة الداعية الحكيم أبو الحسن علي الحسني الندوي, ص473 , الناشر: دار القلم دمشق, الطبعة الأولى 1422هـ2001م.
(2) - سورة النساء الآية (1) .
(3) - سورة الحجرات الآية (13) .
قلنا: هناك عوامل عدة لنجاح الأفراد ولنجاح الأمم, فالإنسان يعيش حياته بين دائرتين: دائرة هموم ودائرة تأثير, فدائرة الهموم: في الأمور التي تهمك لكنك قد لا تملك التأثير فيها, وأما دائرة التأثير: في الأشياء التي يمكنك أن تؤثر فيها إيجاباً أو سلباً, فإن الناجح من الناس تتسع دائرة تأثيره بصورة ملحوظة, فهو يسعى إلى التأثير في الأشياء بوجه حسن وهمة عالية, بتفكير سليم وخلق قويم وعمل مستديم.
فالعاقل يعرف أن كل شيء يصنع مرتان, يصنع أولاً في الذهن, ثم يصنع بعد ذلك في أرض الواقع, فأنت الذي تصنع الأمل وتستشرف المستقبل بناءً على تطلعاتك قبل حدوثها.
وهذا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان ينوه في بداية الدعوة عن إيمان وعزيمة وثبات ويقول: (ليبلغن هذا الأمر مبلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل يعز بعز الله في الإسلام ويذل به في الكفر) , وكان تميم الداري رضي الله عنه يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز ولقد أصاب من كان كافرا الذل والصغار والجزية (1) .
وقد يقول أحدنا: أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق عن الهوى فهو يخبر عن أمر أخبره الله تعالى به فهو متحقق الوقوع, فمن أين لنا أن نرسم الحياة كما نريد؟
__________
(1) - أخرجه الحاكم في المستدرك كتاب الفتن والملاحم حديث (8326) .
قلنا: هذا حق, وفي حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما يعلمنا الثبات والعزيمة على استشرف المستقبل وصناعة الأمل, بعزيمة وإرادة, فقد وعد الله سبحانه وتعالى المؤمنين كافة بالاستخلاف والتمكين والنصر, ... قال جل شأنه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) , وقال سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (2) , وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (3) .
وحينما أخذ المؤمنون بعزيمة أمور دينهم تحقق لهم الوعد وحصل لهم النصر والتمكين والعز بعد الذل والوحدة بعد الافتراق والغنى بعد الفقر, فمن منا عمل على اعزاز هذا الدين ولم يحصل له التمكين؟ ومن الذي اقتدى بالنبي الأمين صلى الله عليه وآله وسلم في سلوكه وأخلاقه ولم يظفر بمراده؟
فأنت أخي بحاجة إلى زاد من التقوى والأخلاق, أنت بحاجة إلى القدوة الحسنة والإتباع لنبيك صلى الله عليه وآله وسلم, أنت بحاجة إلى مواصلة العمل, بحاجة إلى العفو والتسامح حتى تكون قدوة في العفو والتسامح وتقديم الخير والإحسان إلى الناس, أنت بحاجة إلى الأخذ بسنن الله في هذا الكون الرحيب, فما أحوج الإنسان الذي يبحث عن الإحترام والنجاح والتقدير والسعادة والسيادة على الأرض إلى عون الله تعالى وتوفيقه.
ولله در الشاعر حيث يقول:
إِذا لَم يَكُن عَونٌ مِنَ اللَهِ للِفَتى ... فَأَكثَرُ ما يَجني عَلَيهِ اِجتِهادُهُ (4)
فإذا علمت وعملت عرفت أن الإنسان يجب عليه أن يرتب أولوياته ويسعى لتحقيق غاياته وأن يكون محسناً مع أهله وإخوانه, فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان خير الناس في تعامله وسلوكه مع أهله وإخوانه وجيرانه ومجتمعه وأمته, وكان أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس, ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقم البيت ويعقل البعير ويعلف ناضحه ويأكل مع الخادم ويعجن معها ويحمل بضاعته من السوق. (5) لم يكن مستبداً ولا غافلاً ولا فضاً غليظاً, وصدق الله حيث يقولل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (6) , وهو مع ذلك كله كان رؤوفاً رحيماً, لقد جاء في الحديث النبوي: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ, ثُمَّ خَرَجَ, فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ
__________
(1) - سورة النور الآية (55) .
(2) - سورة الأنبياء الآية (105) .
(3) - سورة محمد الآية (7) .
(4) - هذا البيت للإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
(5) - السيرة النبوية للندوي ص405.
(6) - سورة آل عمران الآية (159) .
الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ, فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ بِي, فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ فَسَقَى الْكَلْبَ, فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ, قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا, فَقَالَ: نَعَمْ فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ) (1) , وفي الذكر الحكيم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (2) .
فانظر أخي أين نحن من هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتأسي والاقتداء به؟ فكثير من الناس يرى غيره من بني الإنسان يتضور جوعاً أو يعتصر ألماً لمرض أو فقر أو جائحة نزلت به فهو يبحث عن وظيفة وعمل ويبحث عن من يساعده ويسعى لإنقاذه أو التعاون معه فلا يجد من ذلك الأخ نصرةً ولا عوناً, حتى وإن كان من جيرانه, فأين الأخوة الإيمانية والأخوة الإنسانية؟ فهل يستطيع عاقل أن يرى أخاً له من أمه وأبيه يتضور جوعاً ثم لا يعمل على مساعدته وإنقاذه وهو على ذلك قدير بل ربما كان متخماً ومنعماً يملك الثروة والسلطة فهو يملك الأموال الواسعة التي قد ينفقها ويصرفها في غير محلها وعلى غير مستحقها وربما بددها في أمور يسأله الله عنها, فكيف بك أخي إذا سعيت إلى تفريق إخوانك وتقطيع أرحامك مع أنك تقرأ في القرآن:
__________
(1) - أخرجه البخاري في صحيحه باب رحمة الناس والبهائم حديث (5550) .
(2) - سورة التوبة الآية (128) .
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1) , ولا تتدبر ما ورد في الفرقان: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (2) .
فإن كنت تريد السعادة في الدنيا والآخرة وتريد أن تنال الحسنى وزيادة فتأسى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم, ولقد مثلت حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعمالاً كثيرة متنوعة بحيث تكون فيها الإسوة الصالحة والمنهج الأعلى للحياة الإنسانية, لأنها جمعت بين الأخلاق العالية والعادات الحسنة والعواطف النبيلة والنوازع العظيمة, فإذا أردت السعادة والإحترام فتأسى به, فإن كنت غنياً مثرياً فاقتدِ بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان تاجراً يسير بسلعته بين الحجاز والشام, وحين ملك خزائن البحرين, وإن كنت فقيراً معدماً فلتكن أسوتك به وهو محصور في شعب أبي طالب, وحين قدم إلى المدينة مهاجراً وهو لا يحمل من حطام الدنيا شيئاً, وإن كنت ملكاً فاقتدِ بسنته وأعماله حين ملك أمر العرب وغلب على آفاقهم, ودان لطاعته عظماؤهم وذووا أحلامهم, لتكون عزيزاً محترماً, وإن كنت رعية ضعيفاً فلك برسول الله أسوة حسنة حينما كان محكوماً بمكة في نظام المشركين, وإن كنت فاتحاً غالباً فلك من حياته نصيب أيام ظفره بعدوه في بدر وحنين ومكة, وإن كنت منهزماً -لا قدر الله- فاعتبر به في يوم أحد وهو بين أصحابه القتلى ورفقائه المثخنين بالجراح, فلا تهن
__________
(1) - سورة الحجرات الآية (10) .
(2) - سورة محمد الآية (22) .
ولا تحزن, وإن كنت مُعلّماً فانظر إليه وهو يعلم أصحابه في صحن المسجد متواضعاً, وإن كنت واعظاً ناصحاً ومرشداً أميناً فاستمع إليه وهو يعظ الناس على أعواد المسجد النبوي, وإن أردت أن تقيم الحق وتصطع بالمعروف وأنت لا ناصر لك ولا معين فانظر إليه وهو ضعيف بمكة لا ناصر ينصره ولا معين يعينه إلا الله, ومع ذلك فهو يدعو إلى الحق ويعلن به, وإن هزمت عدوك وخضدت شوكته وقهرت عناده فظهر الحق على يديك وزهق الباطل واستتب لك الأمر فانظر إليه يوم فتح مكة وفتحها, وإن أردت أن تصلح أمور زراعتك وتقوم على ضياعك فانظر إليه صلى الله عليه وآله وسلم وقد ملك ضياع بني النظير وخيبر وفدك كيف دبر أمورها وأصلح شئونها وفوضها إلى من أحسن القيام عليها. (1)
وانظر بعينيك إلى الأفراد والأمم التي تتفق وتتآخى وتتعاون؛ كيف علت كلمتها وعظمت هيبتها, وتدبر القرآن الذي جاء فيه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (2) , وانظر بعينيك الأفراد والأمم الذين يختلفون ويتنافرون ويتنابزون ويتقاطعون ويستعلي بعضهم على بعض؛ كيف صار حالهم, وكيف تبدل عزهم إلى ذل, وغناهم إلى فقر, وجمعهم إلى شتات, وصدق الله حيث يقول: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (3) .
فهل آنَ لنا أن نسعى إلى إعمار الحياة بالحب والعمل, حب الفضيلة, لأنها تنعكس سروراً وطمئنينة, فحب الناس, حب الخير للجميع, حب التعاون على البر والتقوى, حب التضحية والفداء والإيثار, حب الإخاء, ففي الحديث النبوي: (لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) (4) .
أخي المحزون يا من مللت الحياة وسئمت العيش إن هناك فتحاً قريباً إن الله مقلب القلوب, ثق بالله, وانظر إلى الحياة بجمالها وجلالها, واعلم بأن وعد الله آتٍ قريب, أليس الصبح بقريب, وتدبر قول الحق تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (5) , وقوله جل شأنه: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (6) , فلا يهولنك تبجح غير المؤمنين بثروتهم أو بسلطانهم الذي اتاهم الله وما خولهم به من النعم فإن العزة والكرامة للمؤمنين من بني آدم فقوة الإيمان أسٌ للنجاح والظفر, وبالإيمان والعمل الصالح تنال الدرجات
__________
(1) - انظر في ذلك السيرة النبوية للندوي ص454و455.
(2) - سورة آل عمران الآية (103) .
(3) - سورة الأنفال الآية (46) .
(4) - أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الإيمان باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه حديث (12) .
(5) - سورة الأنفال الآية (24) .
(6) - سورة الحج الآية (40) .
العلا وصدق الله حيث يقول: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللهِ وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ} (1) .
مراحل نمو خَلق الإنسان تدل على أن الله وحده الخالق المنان
إن خلق الإنسان في أحسن تقويم وإحكام صنعته تدل على أن الله وحده لا شريك له الخالق العظيم قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (2) , إن هذه الآيات تدل بوضوح على أن الإنسان خلق من طين, فالنظفة في كل من الذكر والأنثى التي يتكون منها الجنين هي وليدة عملية التغذية التي يتغذى بها الإنسان, والمراد بالنظفة في الآية هي مجموع الخلايا الحية, التي تصدر من الرجل وتعوم في السائل الموجود داخل رحم المرأة ثم تتسابق لتنال خلية الأنثى الواحدة. وأحد هذه الحيوانات المنوية الذي يصل أولاً, يخرق بيضة الأنثى ويدخل فيها ويمتزج بها, وهذه أول عملية تكوين الجنين, ثم يخبر الله
__________
(1) - سورة آل عمران الآيات (196-198) .
(2) - سورة المؤمنون الآيات (12-14) .
تعالى بأنه يصير علقة وهي مجموعة الخلايا التي تنقسم إليها البويضة بعد تلقيحها, لقد نتأت على سطحها نتوأت تصلها بحائط الرحم, وسميت علقة لنها تعلق بجدار الرحم, على أن الجنين يصير بعد ذلك مستديراً بغير انتظام ومكوراً ويبقى كذلك عدة أسابيع وقد سماه الله مضغة -لكثرة الشبة بينه وبين قطعة اللحم الممضوغة- وهي في الاصطلاح الطبي عبارة عن نمو العلقة وتنوع خلاياها وتميز بعض أجزائها عن البعض الآخر وهنا يبدأ طور التكوين وتظهر آثار العظام في المضغة, وبعد أن تتكون العظام يبدأ اللحم في التكون بظهور العظلات وذلك بتكون الخلايا التي تحيط بالعظام وبينما تظهر العظام والعظلات تتكون بقية أعضاء الجسم. (1) {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} .
إن خلق الإنسان معجزة عظيمة وآية تدل على أنه الخالق الواحد سبحانه المستحق للعبادة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) , وهذا النص يقرر أن الله جل وعلا وحده الخالق للإنسان فكيف لا يكون وحده المعبود, فآية إثبات الخلق لله تعالى وحده تثب الألوهية لله سبحانه وتعالى. فقد نبه الحق سبحانه وتعالى بذلك على أنه وحده الخالق لكم ولآبائكم ومن تقدمكم, وإنه لم يشركه أحد في خلق
__________
(1) - انظر: الدكتور عفيف عبد الفتاح طبارة في كتابه: روح الدين الإسلامي, ص61 , نقلاً عن كتاب الإسلام والطب الحديث ص81.
(2) - سورة البقرة الآية (21) .من قبلكم, ولا في خلقكم, وخلقه تعالى لهم متضمن لكمال قدرته وإرادته وعلمه وحكمته وحياته, وذلك يستلزم لسائر صفات كماله, ونعوت جلاله فيتضمن ذلك إثبات صفاته وأفعاله ووحدانيته في صفاته فلا شبيه له فيها ولا في أفعاله فلا شريك له فيها. (1)
قال الشاعر:
انظر إلى الكون وهو في عدمٍ ... واطلب له الخالق الذي خلقه
تجد هناك الوجود منفرداً ... به تعالى مقال أهل ثقه
وتعرف الكل لا وجود لهم ... إلا به والعقول متفقه (2)
فإذا ضاقت عليك نفسك, أو ضاقت عليك الأرض بما رحبت, أو جفاك النوم في مرقدك, وصاحبك الأرق, وبارت حيلك, فارفع أكف الضراعة وابتهل لخالقك فهو يراك ويسمع دعاك.
قال الشاعر:
مهما رسمنا في جلالك أحرفاً ... قدسية تشدو بها الأرواح
فلأنت أعظم والمعاني كلها ... يا رب عند جلالكم تنداح (3)
__________
(1) - الجامع لأسماء الله الحسنى ص116.
(2) - تنسب هذه الأبيات لعبد الغني النابلسي (1050-1143هـ/1641-1730م) شاعر عالم بالدين والأدب مكثر من التصنيف، تصوف ولد ونشأ في دمشق ورحل إلى بغداد وعاد إلى سوريا وتنقل في فلسطين ولبنان وسافر إلى مصر والحجاز واستقر في دمشق وتوفي فيها. له مصنفات كثيرة جداً منها: (الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية-ط) و (تعطير الأنام في تعبير الأنام-ط) و (ذخائر المواريث في الدلالة على مواضع الأَحاديث-ط) ، و (علم الفلاحة-ط) ، و (قلائد المرجان في عقائد أهل الإيمان-خ) ، و (ديوان الدواوين-خ) مجموع شعره وله عدة دواوين.
(3) - ورد هذا البيتان في كتاب دع الحزن وابدأ الحياة تأليف عبد الله بن سعيد الزهراني , ص11 , الناشر: دار الطرفين للنشر والتوزيع الطائف.
وستجد الجواب من ربك العزيز الوهاب فاطر السموات والأرض, فابشر برحمته وحصول فرجه, فربك يخلق ما يشاء ويختار. قال الشاعر:
أقول لابني وقد قال الطبيب له ... لم يبق إلا رجاء الخالق الباري
رضيت باللَه مرجوّاً إذا اعترضت ... وساوس اليأس في ظني وأفكاري (1)
وقد جاء في محكم الذكر الحكيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (2) .
إن مما يطمئن الإنسان ويسعده أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقه وأنه سبحانه الخالق لكل شيء, وأن الذي يخلقه الله عز وجل يبقى رهن أمره فاطمئن, فكل من حولك وما حولك بيد الله عز وجل له الخلق والأمر {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (3) , قال الشاعر:
الحمد لله جلَّ الله من خالقٍ ... وهو العليم بنا ألفاتقُ الراتق
قد ضمّ شملي به إذ كنت في عدم ... لا علم عندي بمخلوقٍ ولا خالقِ
__________
(1) - ينسب هذان البيتان لعمارة اليمني.
(2) - سورة فاطر الآية (3) .
(3) - سورة الأعراف الآية (54) .
حتى إذا برزتْ بالكون أعيننا.........علمت بالكونِ قطعاً أنه الخالق (1)
الأمر الذي لا مرية فيه أن أصل بني الإنسان واحد, وأن الإنسانية كلها وحدة واحدة, وإن تباينت مظاهرها في ألوانها وأجسادها وأشكالها, واختلفت ألسنتها وآراؤها ومذاهبها ومواطنها؛ فتلك نتيجة طبيعية لاختلاف البيئات, أو هي اعتبارات ومصطلحات لاتفاقات تعرض لجوهر الإنسان عند تكوينه واستكمال خلقه, وآية دالة على إحكام الله لخلقه, وفي الذكر الحكيم: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (1) , فالآية دالة على عظيم صنع الله وتصويره وتقديره وكبير إحسانه وإكرامه للإنسان بما ليس له مثيل, فتدبر قول الحق تبارك وتعالى مخاطباً ملائكته: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} (2) , فالإنسان العاقل يجب ألا يقابل هذا التكريم بالجحود؛ فيتعالى على غيره من بني الإنسان, فلا يجوز لصاحب وطن من الأوطان أو بلد من البلدان أو إقليم من الأقاليم أن يتعالى على غيره من بني الإنسان, إذ لو جاز ذلك لجاز للابن أن يتنكر لوالده, والأب لابنه, والأخ لأخيه, وأنى له ذلك وقد خلق الله الناس جميعاً من نفس واحدة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ
__________
(1) - سورة الروم الآية (22) .
(2) - سورة الحجر الآية (29) .
وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (1) , في هذه الآية خاطب الله جل وعلا الناس كافة بقوله يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي أنشأكم ورباكم بنعمه فاتقوه في أنفسكم، ولا تتعدوا حدوده فيما شرعه من الحقوق والآداب، مما فيه صلاح شأنكم، فإنه خلقكم من نفس واحدة، فكنتم جنساً واحداً تقوم مصلحته بتعاون أفراده وإتحادهم وحفظ بعضهم حقوق بعض، فتقوى الله فيها الشكر لربوبيته، وفيها ترقية لوحدتكم الإنسانية، فاتقوا الله في أمره ونهيه في حقوق الرحم التي هي أخص من حقوق الإنسانية، بأن تصلوا الرحم التي أمركم الله بوصلها، واحذروا ما نهاكم عنه من قطعها، لما في تقواه من الخير لكم الذي يذكركم به تساؤلكم فيما بينكم باسمه الكريم وحقه على عباده, وسلطانه الأعلى على قلوبهم وبحقوق الرحم، وفي هذا التساؤل من الاستعطاف والإيلاف ما يكفي للتعاطف والتراحم، فلا تفرطوا في هاتين الرابطتين بينكم رابطة الإيمان بالله وتعظيمه، ورابطة وشيجة الرحم، فإنكم إذا فرَّطتم في ذلك أفسدتم فطرتكم، فتفسد حينئذ البيوت والعشائر والقبائل، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} أي: مشرفاً على أعمالكم حفيظاً مطلعاً على جميع أحوالكم.
وللإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه:
الناسُ مِن جِهَةِ الأبَاءِ اَكفاءُ ... أَبوهُمُ آدَمُ وَالأُمُ حَوّاءُ
نَفسٌ كَنَفسٍ وَأَرواحٌ مُشاكَلَةٌ ... وَأَعظُمٍ خُلِقَت فيها وَأَعضاءُ
__________
(1) - سورة النساء الآية (1) .
وَإِنَّما أُمَّهاتُ الناسِ أَوعِيَةٌ.......مُستَودِعاتٌ وَلِلأَحسابِ آباءُ
فَإِن يَكُن لَهُمُ مِن أَصلِهِم شَرَفٌ ... يُفاخِرونَ بِهِ فَالطينُ وَالماءُ
ما الفَضلُ إِلا لأَهلِ العِلمِ إِنَّهُمُ ... عَلى الهُدى لِمَنِ اِستَهدى أَدِلاّءُ
وَقَدرُ كُلِّ اِمرِئٍ ما كاَن يُحسِنُهُ ... وَلِلرِجالِ عَلى الأَفعالِ اسماءُ
وَضِدُّ كُلِّ اِمرِئٍ ما كانَ يَجهَلُهُ ... وَالجاهِلونَ لأَهلِ العِلمِ أَعداءُ
وقال أخر:
لا تفخرن بأصلك ... ما الفخر إلا بفعلك
أصل الأنام ترابٌ ... مما تطأه بنعلك
فاعمل بجد وحزم ... ترقَ المعالي بسعيك
وجاء في محكم الذكر: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (1) , وجاء في السنة النبوية: (يا أَيُّها النَّاسُ، إنَّ ربَّكُمْ وَاحِدٌ وإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلا لا فَضلَ لعَرَبيٍّ على عَجَمِيٍّ، ولا لعَجَمِيٍّ على عَرَبيٍّ، ولا لأَحْمَرَ على أَسْوَدَ ولا لأَسْوَدَ على أَحْمَرَ إلاَّ بالتَّقْوى، أَبَلَّغْتُ؟ قَالُوا: بلّغَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم) (2) , وهذا الحديث يستفاد منه تحقيق مبدء المساواة, وأن عز الإنسان ورفعته إنما هو بإيمانه بالله وخشيته له.
وقد قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
__________
(1) - سورة الحجرات الآية (13) .
(2) - أخرجه الإمام أحمد في المسند حديث (23486) , طبعة بيت الأفكار الدولية لبنان 2004م, والحديث صحيح.
لَعَمرُكَ ما الإِنسانُ إِلا بِدينِهِ ... فَلا تَترُكِ التَقوى اِتِّكالاً عَلى النَسَب
فَقَد رَفَعَ الإِسلامُ سَلمانَ فارِسٍ ... وَقَد وَضَعَ الشِركُ الشَريفَ أَبا لَهَب
وجاء في شعر المتوكل الليثي (1) :
لَسنا وَإِن كَرُمَت أَوائِلُنا ... يَوماً عَلى الأَحسابِ نَتَّكِلُ
نَبني كَما كانَت أَوائِلُنا ... تَبني وَنَفعَلُ مِثلَ ما فَعَلوا (2)
ويرحم الله ابن دريد حيث يقول:
إِنَّما المَرءُ حَديثٌ بَعدَهُ ... فَكُن حَديثاً حَسَناً لِمَن وَعى
القصة
قال عبد الرحمن بن عوف المهاجري القرشي رضي الله عنه لما قدم المدينة قال: آخا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بيني وبين سعد بن الربيع الأنصاري رضي الله عنه فقال سعد: إني من أكثر الأنصار مالاً, فأقسم لك نصف مالي, وأنظر أي زوجتي هويت, نزلت لك عنها, فإذا حلت تزوجتها أنت, وقابل عبد الرحمن هذا الإيثار الكريم بعفاف كريم منه فقال: بارك الله لك في أهلك ومالك, دلني على السوق (3) , وقد حكى الله عن حال الأنصار مع المهاجرين ما يدل على عظيم منزلتهم قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4) .
الأمثال العربية
في الأمثال السائرة: "الشرف بالهمم العالية لا بالرمم البالية, ومن نهظ به أدبه لم يقعد به حسبه". وقال بعضهم:
نفس عصامٍ سودت عصاما ... وعلمته الكر والإقداما
وجعلته ملكاً هماماً
فصار مثلاً يضرب لمن شرف بنفسه, لا بآبائه وأسلافه, والعرب تقول لمن يفتخر بنفسه: (عصامي) , ولمن يفتخر بآبائه: (عظامي) نسبة إلى عظام الأموات من اجداده. قال الشاعر:
إذا ما الحي عاش بذكر ميت ... فذاك الميت حي وهو ميت
أما معروف الرصافي فهو يقول:
وشر العالمين ذوو خمول ... إذا فاخرتهم ذكروا الجدودا
وقال آخر:
قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه ... خلقٌ وجيب قميصه مرقوع
ومن أمثال العرب: "رضا الناس غاية لا تدرك (5) , ورضا الناس شيء لا ينال (6) ", وفي الحديث النبوي: (تَجِدُونَ النَّاسَ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لا يَجِدُ
__________
(1) - المتوكل بن عبد الله بن نهشل بن مسافع بن وهب بن عمرو بن لقيط بن يعمر بن عامر بن ليث, (ت 85هـ704م) , من شعراء الحماسة، وهو ليثي من ليث بن بكر، يكنى أبا جهمة من أهل الكوفة في عصر معاوية وابنه يزيد, ولقد اختار أبو تمام قطعتين من شعره إحداهما: ... نبني كما كانت أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
وقال الآمدي: هو صاحب البيت المشهور: ... لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
(2) - ذيل الأمالي لأبي علي بن إسماعيل بن القاسم القالي ج3ص117, منشورات دار الفرقان الجديدة بيروت 1400هـ1980م.
(3) - انظر: صحيح البخاري باب إخا النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث (3496) .
(4) - سورة الحشر (9) .
(5) - ورد هذا المثل في مجمع الأمثال للميداني, والعقد الفريد, ومحاضرات الأدباء.
(6) - ورد هذا المثل في البيان والتبيين للجاحظ.
الرَّجُلُ فِيهَا رَاحِلَةً) (1) , فاللبيب من الناس من يتعامل مع الناس بحزم, فإنه إن قصد بمؤاخاته للناس حصول رضاهم تعذر ذلك عليه وهو لا يزال بحاجة إلى الناس وهم لا يزالون بحاجة إليه, قال الشاعر:
وبالناس عاش الناس قدماً ولم يزل ... من الناس مرغوبٌ إليه وراغبُ (2)
أما بشار بن برد فهو يقول:
مَن راقَبَ الناسَ لَم يَظفَر بِحاجَتِهِ ... وَفازَ بِالطَيِّباتِ الفاتِكُ اللَهِجُ
وقال آخر:
الناسُ أَخلاقُهُم شَتّى وَإِن جُبِلوا ... عَلى تَشابُهِ أَرواح وَأَجسادِ (3)
وفي الأمثال السائرة: "الناس أجناس, والناس اخوان وشتى في الشيم" (4) . ويرحم الله شوقي حيث يقول:
وَالناسُ صِنفانِ مَوتى في حَياتِهُمُ ... وَآخَرونَ بِبَطنِ الأَرضِ أَحياءُ
تَأبى المَواهِبُ فَالأَحياءُ بَينَهُمُ ... لا يَستَوونَ وَلا الأَمواتُ أَكفاءُ
وقديماً قيل: "في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال" (5) , وقيل: "الناس أتباع من غلب (6) , والناس على دين ملوكهم", ويغفر الله لأبي العتاهية حيث يقول:
__________
(1) - أخرجه مسلم في صحيحه باب قوله صلى الله عليه وآله وسلم الناس كإبل مائة حديث (4620) .
(2) - هذا البيت لابن المولى المدني.
(3) - هذا البيت للخريمي.
(4) - ورد هذا المثل في مجمع الأمثال للميداني, والمستطرف.
(5) - ورد هذا المثل في نهج البلاغة ومجمع الأمثال للميداني.
(6) - ورد هذا المثل في مجمع الأمثال للميداني, والمستطرف.
ما الناسُ إِلاَّ مَعَ الدُنيا وَصاحِبِها ... فَكَيفَ ما اِنقَلَبَت يَوماً بِهِ اِنقَلَبوا
يُعَظِّمونَ أَخا الدُنيا وَإِن وَثَبَت ... يَوماً عَلَيهِ بِما لا يَشتَهي وَثَبوا
أما أسامة بن المنقذ فهو يقول:
والنّاسُ كالأشجار هَذي يُجتَنى ... منها الثِّمَارُ وذي وَقودُ النّارِ
وفي الأمثال العامة: "الناس عبيد الإحسان" (1) .
وفي الحديث النبوي: (جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا وَبُغْضِ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهَا) (2) .
وفي السنة النبوية من الحكم التي جرت مجرى الأمثال السائرة: (الناس سواسية كأسنان المشط) , (الناس معادن كمعادن الفضة) .
قال الشاعر:
وَالأَصلُ يَنبُتُ فرعه مُتَناثِلاً ... وَالكَفُّ لَيسَ بَنانُها بِسواءِ
وَالناسُ لَيسوا يَستَوونَ فَمِنهُم ... وَرِعٌ وَآخَرُ ذو نَدىً وَغِناءِ
وَالناسُ أَشباهٌ وَبَينَ حُلومِهِم ... بَونٌ كَذاكَ تَفاضُلُ الأَشياءِ (3)
أما محمود سامي البارودي فهو يقول:
والناسُ أَشْبَاهٌ ولَكِنْ فَرَّقَتْ ... ما بَيْنَهُمْ في الرُّتْبَةِ الآراءُ
وقال آخر:
__________
(1) - ورد هذا المثل في جمهرة الأمثال, وفي مجمع الأمثال للميداني.
(2) - أخرجه البيهقي في شعب الإيمان باب معاني المحبة حديث (446) .
(3) - هذه الأبيات تنسب لعدي بن الرقاع العاملي.
وَالناسُ بِالناسِ مِن حَضرٍ وَبادِيَةٍ ... بَعضٌ لِبَعضٍ وَإِن لَم يَشعُروا خَدَمُ
وَكُلُّ عُضوٍ لأَمرٍ ما يُمارِسُهُ ... لا مَشيَ لِلكَفِّ بَل تَمشي بِكَ القَدَمُ
فَاِذخَر لِنَفسِكَ خَيراً كَي تُسَرَّ بِهِ ... فَإِن فَعَلتَ وَإِلا عادَكَ النَدَمُ (1)
أما بهاء الدين زهير فهو يقول:
فَالناسُ بِالناسِ وَالدُنيا مُكافَأَةٌ ... وَالخَيرُ يُذكَرُ وَالأَخبارُ تَنتَقِلُ
الإسلام يدعو إلى الأخوة والتعاون
إن الدين الإسلامي هو الذي يدعو إلى الوحدة والمودة والإخاء، ويدعو المؤمنين جميعاً إلى التعاون على البر والتقوى وفي الذكر الحكيم: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) ، وجاء في الحديث النبوي ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا) (3) ، وجاء في حديث أخر: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) (4) ، فلقد من الله على المؤمنين إذ جعلهم امة واحده فيما يقولون وما يفعلون، وما يأتون وما يذرون، فمعبودهم واحد، وعباداتهم
__________
(1) - هذه الأبيات تنسب لأبي العلاء المعري.
(2) - سورة المائدة (2) .
(3) - أخرجه البخاري في صحيحه باب تعاون المؤمنين حديث (5567) , مسلم صحيح في باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم حديث (4684) .
(4) - أخرجه مسلم في صحيحه باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم حديث (4685) .
واحدة قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (1) ، ويقول جل شأنه: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (2) .
والمؤمن ينزع العداوة من قلبه فهو يألف المؤمنين ويحبهم، ليس في قلبه عصبية قبلية ولا حمية جاهلية، قد غرس في قلبه الاخوة في الإيمان، فهو لا يفرق بين صغير ولا كبير، ولا بين متقدم وأخير، وذكر وأنثى، وحر ومولى، فهو يعمل بكلام المولى سبحانه وتعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (3) ، والمؤمن يدعو الله أن يذهب الغل من قلبه ويسأله المغفرة لإخوانه كما ورد ذلك في الذكر الحكيم: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (4) .
ولقد كان أول عمل بدء به رسول الله عليه وآله وسلم بعد هجرته إلى المدينة ودعوته إلى توحيد الله، وبناء المسجد هو المؤاخاة بين المسلمين من المهاجرين والأنصار، بين الفقراء والأغنياء، بين الضعفاء والأقوياء، حتى صارت هذه الوحدة أية تدل على علو شرف الإسلام وسمو مكانته، ... كما أن الإسلام ينهى عن التنازع والتفرق والشقاق فيقول جل شأنه:
__________
(1) - سورة الأنبياء (92) .
(2) - سورة المؤمنون (52) .
(3) - سورة التوبة (11) .
(4) - سورة الحشر (10) .
{وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (1) ، ولله در القائل:
كونُوا جميعَاً يا بَنِيَّ إِذا اعتَرى ... خَطْبٌ ولا تتفرقُوا آحادَا
تأبَى القِداحُ إِذا اجتمعْنَ تكسُّراً ... وإِذا افترقْنَ تكسَّرتْ أفرادَا (2)
فالأخوة عزة وقوة, وهي تمثل امتزاج روح بروح وتصالح قلب مع قلب, والإخوة في الله رباط إيماني يقوم على منهج رباني, فالمؤمن من استجاب لنداء ربه، وعمل بأمره: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (3) .
وأول عمل عمله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة هو بناء المسجد الذي يرمز إلى توحيد الله وتوحد المسلمين ثم آخا بين المهاجرين والأنصار بين الأغنياء والفقراء فكانت قوة ونعمة ووحدة وأخوة.
وفي الأمثال السائرة: "رب أخٍ لك لم تلده أمك", وقال الشاعر:
أَخاكَ أَخاكَ إِنَّ من لا أَخاً لَه ... كساعٍ الى الهيجا بغير سلاحِ
__________
(1) - سورة الأنفال (46) .
(2) - انظر: ديوان الطغرائي: (455-513هـ/1063-1120م) الحسين بن علي بن محمد بن عبد الصمد أبو إسماعيل مؤيد الدين الأصبهاني الطغرائي, شاعر، من الوزراء الكتاب، كان ينعت بالأستاذ، ولد بأصبهان، اتصل بالسلطان مسعود بن محمد السلجوقي (صاحب الموصل) فولاه وزارته. ثم اقتتل السلطان مسعود وأخ له اسمه السلطان محمود فظفر محمود وقبض على رجال مسعود وفي جملتهم الطغرائي، فأراد قتله ثم خاف عاقبة النقمة عليه، لما كان الطغرائي مشهوراً به من العلم والفضل، فأوعز إلى من أشاع اتهامه بالإلحاد والزندقة فتناقل الناس ذلك، فاتخذ السطان محمود حجة فقتله. ونسبة الطغرائي إلى كتابة الطغراء. وللمؤرخين ثناء عليه كثير. له (ديوان شعر - ط) ، وأشهر شعره (لامية العجم) ومطلعها: أصالة الرأي صانتني من الخطل. وله كتب منها (الإرشاد للأولاد) ، مختصرة في الإكسير.
(3) - سورة آل عمران (103) .
وقال آخر:
لعمرك ما مال الفتى بذخيرة ... ولكن اخوان الثقات الذخائر
وقيل: "القريب من قرب نفعه", وقيل: "يدك منك وإن كانت شلا", وإنما الناس جماعة واحدة خيرهم من جمعهم على البر والصدق والهدى".
قال الشاعر:
يُعرّفك الاخوان كل بنفسه ... وخير أخ ما عرفتك الشدائد
مبدأ الوحدة الإنسانية والمساواة البشرية
كان الإنسان موزعاً بين قبائل وأمم, وطبقات بعضها دون بعض, وقوميات ضيقة, وكان التفاوت بين هذه الطبقات تفاوتاً هائلاً, كتفاوت ما بين الإنسان والحيوان, وبين الحر والعبد, وبين العابد والمعبود, لم تكن هناك فكرة عن الوحدة والمساواة إطلاقاً, فأعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد قرون طويلة من الصمت المطبق, والظلام السائد, وذلك الإعلان الثائر, المدهش للعقول, القالب للأوضاع: (يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب إن أكرمكم عند الله أتقاكم وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى) . وهذا الإعلان يتضمن إعلانين هما الدعامتان اللتان يقوم عليهما الأمن والسلام, وعليهما قام السلام في كل زمان ومكان وهما: وحدة الربوبية ووحدة البشرية, فالإنسان أخو الإنسان من جهتين: الجهة الأولى -وهي الأساس- أن الرب واحد, والجهة
الثانية أن الأب واحد (1) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (2) , {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (3) .
نجاح الأفراد والأمم وأثر الاتفاق والاختلاف على الأسرة الإنسانية
من الأمور التي يتفق عليها العقلاء من الناس أن الناس يتفاوتون في أقدارهم ومكانتهم, فمن الأفراد من يتمتع باحترام الناس وتقديرهم وتوقيرهم, يتعامل الناس معه باحترام وأدب ووقار, ومن الناس من لا يتبوء هذه المكانة ولا يكون الناس سعداء بالتعامل معه, وكذلك الأمم حالها كالأفراد, فمن الأمم أمة في الذروة من الاحترام تقول الكلمة فتدوي لكلمتها الدنيا, وتنحني لها الرؤس, ويخطب ودها وصدقاتها, ومن الأمم من لا يصوغ لها مركزها أن تتكلم كلمة ولو تكلمت كان كلامها موضع ضحك وسخرية.
ترى فما هو سر نجاح الأفراد والأمم مع أن أصل البشرية واحد والناس سواسية -وقد سبق بيان ذلك-؟
__________
(1) - انظر: السيرة النبوية كتبها العلامة الداعية الحكيم أبو الحسن علي الحسني الندوي, ص473 , الناشر: دار القلم دمشق, الطبعة الأولى 1422هـ2001م.
(2) - سورة النساء الآية (1) .
(3) - سورة الحجرات الآية (13) .
قلنا: هناك عوامل عدة لنجاح الأفراد ولنجاح الأمم, فالإنسان يعيش حياته بين دائرتين: دائرة هموم ودائرة تأثير, فدائرة الهموم: في الأمور التي تهمك لكنك قد لا تملك التأثير فيها, وأما دائرة التأثير: في الأشياء التي يمكنك أن تؤثر فيها إيجاباً أو سلباً, فإن الناجح من الناس تتسع دائرة تأثيره بصورة ملحوظة, فهو يسعى إلى التأثير في الأشياء بوجه حسن وهمة عالية, بتفكير سليم وخلق قويم وعمل مستديم.
فالعاقل يعرف أن كل شيء يصنع مرتان, يصنع أولاً في الذهن, ثم يصنع بعد ذلك في أرض الواقع, فأنت الذي تصنع الأمل وتستشرف المستقبل بناءً على تطلعاتك قبل حدوثها.
وهذا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان ينوه في بداية الدعوة عن إيمان وعزيمة وثبات ويقول: (ليبلغن هذا الأمر مبلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل يعز بعز الله في الإسلام ويذل به في الكفر) , وكان تميم الداري رضي الله عنه يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز ولقد أصاب من كان كافرا الذل والصغار والجزية (1) .
وقد يقول أحدنا: أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق عن الهوى فهو يخبر عن أمر أخبره الله تعالى به فهو متحقق الوقوع, فمن أين لنا أن نرسم الحياة كما نريد؟
__________
(1) - أخرجه الحاكم في المستدرك كتاب الفتن والملاحم حديث (8326) .
قلنا: هذا حق, وفي حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما يعلمنا الثبات والعزيمة على استشرف المستقبل وصناعة الأمل, بعزيمة وإرادة, فقد وعد الله سبحانه وتعالى المؤمنين كافة بالاستخلاف والتمكين والنصر, ... قال جل شأنه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) , وقال سبحانه: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (2) , وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (3) .
وحينما أخذ المؤمنون بعزيمة أمور دينهم تحقق لهم الوعد وحصل لهم النصر والتمكين والعز بعد الذل والوحدة بعد الافتراق والغنى بعد الفقر, فمن منا عمل على اعزاز هذا الدين ولم يحصل له التمكين؟ ومن الذي اقتدى بالنبي الأمين صلى الله عليه وآله وسلم في سلوكه وأخلاقه ولم يظفر بمراده؟
فأنت أخي بحاجة إلى زاد من التقوى والأخلاق, أنت بحاجة إلى القدوة الحسنة والإتباع لنبيك صلى الله عليه وآله وسلم, أنت بحاجة إلى مواصلة العمل, بحاجة إلى العفو والتسامح حتى تكون قدوة في العفو والتسامح وتقديم الخير والإحسان إلى الناس, أنت بحاجة إلى الأخذ بسنن الله في هذا الكون الرحيب, فما أحوج الإنسان الذي يبحث عن الإحترام والنجاح والتقدير والسعادة والسيادة على الأرض إلى عون الله تعالى وتوفيقه.
ولله در الشاعر حيث يقول:
إِذا لَم يَكُن عَونٌ مِنَ اللَهِ للِفَتى ... فَأَكثَرُ ما يَجني عَلَيهِ اِجتِهادُهُ (4)
فإذا علمت وعملت عرفت أن الإنسان يجب عليه أن يرتب أولوياته ويسعى لتحقيق غاياته وأن يكون محسناً مع أهله وإخوانه, فهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان خير الناس في تعامله وسلوكه مع أهله وإخوانه وجيرانه ومجتمعه وأمته, وكان أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس, ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقم البيت ويعقل البعير ويعلف ناضحه ويأكل مع الخادم ويعجن معها ويحمل بضاعته من السوق. (5) لم يكن مستبداً ولا غافلاً ولا فضاً غليظاً, وصدق الله حيث يقولل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (6) , وهو مع ذلك كله كان رؤوفاً رحيماً, لقد جاء في الحديث النبوي: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ, ثُمَّ خَرَجَ, فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ
__________
(1) - سورة النور الآية (55) .
(2) - سورة الأنبياء الآية (105) .
(3) - سورة محمد الآية (7) .
(4) - هذا البيت للإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
(5) - السيرة النبوية للندوي ص405.
(6) - سورة آل عمران الآية (159) .
الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ, فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ بِي, فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ فَسَقَى الْكَلْبَ, فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ, قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا, فَقَالَ: نَعَمْ فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ) (1) , وفي الذكر الحكيم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (2) .
فانظر أخي أين نحن من هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتأسي والاقتداء به؟ فكثير من الناس يرى غيره من بني الإنسان يتضور جوعاً أو يعتصر ألماً لمرض أو فقر أو جائحة نزلت به فهو يبحث عن وظيفة وعمل ويبحث عن من يساعده ويسعى لإنقاذه أو التعاون معه فلا يجد من ذلك الأخ نصرةً ولا عوناً, حتى وإن كان من جيرانه, فأين الأخوة الإيمانية والأخوة الإنسانية؟ فهل يستطيع عاقل أن يرى أخاً له من أمه وأبيه يتضور جوعاً ثم لا يعمل على مساعدته وإنقاذه وهو على ذلك قدير بل ربما كان متخماً ومنعماً يملك الثروة والسلطة فهو يملك الأموال الواسعة التي قد ينفقها ويصرفها في غير محلها وعلى غير مستحقها وربما بددها في أمور يسأله الله عنها, فكيف بك أخي إذا سعيت إلى تفريق إخوانك وتقطيع أرحامك مع أنك تقرأ في القرآن:
__________
(1) - أخرجه البخاري في صحيحه باب رحمة الناس والبهائم حديث (5550) .
(2) - سورة التوبة الآية (128) .
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1) , ولا تتدبر ما ورد في الفرقان: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (2) .
فإن كنت تريد السعادة في الدنيا والآخرة وتريد أن تنال الحسنى وزيادة فتأسى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم, ولقد مثلت حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعمالاً كثيرة متنوعة بحيث تكون فيها الإسوة الصالحة والمنهج الأعلى للحياة الإنسانية, لأنها جمعت بين الأخلاق العالية والعادات الحسنة والعواطف النبيلة والنوازع العظيمة, فإذا أردت السعادة والإحترام فتأسى به, فإن كنت غنياً مثرياً فاقتدِ بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان تاجراً يسير بسلعته بين الحجاز والشام, وحين ملك خزائن البحرين, وإن كنت فقيراً معدماً فلتكن أسوتك به وهو محصور في شعب أبي طالب, وحين قدم إلى المدينة مهاجراً وهو لا يحمل من حطام الدنيا شيئاً, وإن كنت ملكاً فاقتدِ بسنته وأعماله حين ملك أمر العرب وغلب على آفاقهم, ودان لطاعته عظماؤهم وذووا أحلامهم, لتكون عزيزاً محترماً, وإن كنت رعية ضعيفاً فلك برسول الله أسوة حسنة حينما كان محكوماً بمكة في نظام المشركين, وإن كنت فاتحاً غالباً فلك من حياته نصيب أيام ظفره بعدوه في بدر وحنين ومكة, وإن كنت منهزماً -لا قدر الله- فاعتبر به في يوم أحد وهو بين أصحابه القتلى ورفقائه المثخنين بالجراح, فلا تهن
__________
(1) - سورة الحجرات الآية (10) .
(2) - سورة محمد الآية (22) .
ولا تحزن, وإن كنت مُعلّماً فانظر إليه وهو يعلم أصحابه في صحن المسجد متواضعاً, وإن كنت واعظاً ناصحاً ومرشداً أميناً فاستمع إليه وهو يعظ الناس على أعواد المسجد النبوي, وإن أردت أن تقيم الحق وتصطع بالمعروف وأنت لا ناصر لك ولا معين فانظر إليه وهو ضعيف بمكة لا ناصر ينصره ولا معين يعينه إلا الله, ومع ذلك فهو يدعو إلى الحق ويعلن به, وإن هزمت عدوك وخضدت شوكته وقهرت عناده فظهر الحق على يديك وزهق الباطل واستتب لك الأمر فانظر إليه يوم فتح مكة وفتحها, وإن أردت أن تصلح أمور زراعتك وتقوم على ضياعك فانظر إليه صلى الله عليه وآله وسلم وقد ملك ضياع بني النظير وخيبر وفدك كيف دبر أمورها وأصلح شئونها وفوضها إلى من أحسن القيام عليها. (1)
وانظر بعينيك إلى الأفراد والأمم التي تتفق وتتآخى وتتعاون؛ كيف علت كلمتها وعظمت هيبتها, وتدبر القرآن الذي جاء فيه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (2) , وانظر بعينيك الأفراد والأمم الذين يختلفون ويتنافرون ويتنابزون ويتقاطعون ويستعلي بعضهم على بعض؛ كيف صار حالهم, وكيف تبدل عزهم إلى ذل, وغناهم إلى فقر, وجمعهم إلى شتات, وصدق الله حيث يقول: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (3) .
فهل آنَ لنا أن نسعى إلى إعمار الحياة بالحب والعمل, حب الفضيلة, لأنها تنعكس سروراً وطمئنينة, فحب الناس, حب الخير للجميع, حب التعاون على البر والتقوى, حب التضحية والفداء والإيثار, حب الإخاء, ففي الحديث النبوي: (لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) (4) .
أخي المحزون يا من مللت الحياة وسئمت العيش إن هناك فتحاً قريباً إن الله مقلب القلوب, ثق بالله, وانظر إلى الحياة بجمالها وجلالها, واعلم بأن وعد الله آتٍ قريب, أليس الصبح بقريب, وتدبر قول الحق تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (5) , وقوله جل شأنه: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (6) , فلا يهولنك تبجح غير المؤمنين بثروتهم أو بسلطانهم الذي اتاهم الله وما خولهم به من النعم فإن العزة والكرامة للمؤمنين من بني آدم فقوة الإيمان أسٌ للنجاح والظفر, وبالإيمان والعمل الصالح تنال الدرجات
__________
(1) - انظر في ذلك السيرة النبوية للندوي ص454و455.
(2) - سورة آل عمران الآية (103) .
(3) - سورة الأنفال الآية (46) .
(4) - أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الإيمان باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه حديث (12) .
(5) - سورة الأنفال الآية (24) .
(6) - سورة الحج الآية (40) .
العلا وصدق الله حيث يقول: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللهِ وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ} (1) .
مراحل نمو خَلق الإنسان تدل على أن الله وحده الخالق المنان
إن خلق الإنسان في أحسن تقويم وإحكام صنعته تدل على أن الله وحده لا شريك له الخالق العظيم قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (2) , إن هذه الآيات تدل بوضوح على أن الإنسان خلق من طين, فالنظفة في كل من الذكر والأنثى التي يتكون منها الجنين هي وليدة عملية التغذية التي يتغذى بها الإنسان, والمراد بالنظفة في الآية هي مجموع الخلايا الحية, التي تصدر من الرجل وتعوم في السائل الموجود داخل رحم المرأة ثم تتسابق لتنال خلية الأنثى الواحدة. وأحد هذه الحيوانات المنوية الذي يصل أولاً, يخرق بيضة الأنثى ويدخل فيها ويمتزج بها, وهذه أول عملية تكوين الجنين, ثم يخبر الله
__________
(1) - سورة آل عمران الآيات (196-198) .
(2) - سورة المؤمنون الآيات (12-14) .
تعالى بأنه يصير علقة وهي مجموعة الخلايا التي تنقسم إليها البويضة بعد تلقيحها, لقد نتأت على سطحها نتوأت تصلها بحائط الرحم, وسميت علقة لنها تعلق بجدار الرحم, على أن الجنين يصير بعد ذلك مستديراً بغير انتظام ومكوراً ويبقى كذلك عدة أسابيع وقد سماه الله مضغة -لكثرة الشبة بينه وبين قطعة اللحم الممضوغة- وهي في الاصطلاح الطبي عبارة عن نمو العلقة وتنوع خلاياها وتميز بعض أجزائها عن البعض الآخر وهنا يبدأ طور التكوين وتظهر آثار العظام في المضغة, وبعد أن تتكون العظام يبدأ اللحم في التكون بظهور العظلات وذلك بتكون الخلايا التي تحيط بالعظام وبينما تظهر العظام والعظلات تتكون بقية أعضاء الجسم. (1) {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} .
إن خلق الإنسان معجزة عظيمة وآية تدل على أنه الخالق الواحد سبحانه المستحق للعبادة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) , وهذا النص يقرر أن الله جل وعلا وحده الخالق للإنسان فكيف لا يكون وحده المعبود, فآية إثبات الخلق لله تعالى وحده تثب الألوهية لله سبحانه وتعالى. فقد نبه الحق سبحانه وتعالى بذلك على أنه وحده الخالق لكم ولآبائكم ومن تقدمكم, وإنه لم يشركه أحد في خلق
__________
(1) - انظر: الدكتور عفيف عبد الفتاح طبارة في كتابه: روح الدين الإسلامي, ص61 , نقلاً عن كتاب الإسلام والطب الحديث ص81.
(2) - سورة البقرة الآية (21) .من قبلكم, ولا في خلقكم, وخلقه تعالى لهم متضمن لكمال قدرته وإرادته وعلمه وحكمته وحياته, وذلك يستلزم لسائر صفات كماله, ونعوت جلاله فيتضمن ذلك إثبات صفاته وأفعاله ووحدانيته في صفاته فلا شبيه له فيها ولا في أفعاله فلا شريك له فيها. (1)
قال الشاعر:
انظر إلى الكون وهو في عدمٍ ... واطلب له الخالق الذي خلقه
تجد هناك الوجود منفرداً ... به تعالى مقال أهل ثقه
وتعرف الكل لا وجود لهم ... إلا به والعقول متفقه (2)
فإذا ضاقت عليك نفسك, أو ضاقت عليك الأرض بما رحبت, أو جفاك النوم في مرقدك, وصاحبك الأرق, وبارت حيلك, فارفع أكف الضراعة وابتهل لخالقك فهو يراك ويسمع دعاك.
قال الشاعر:
مهما رسمنا في جلالك أحرفاً ... قدسية تشدو بها الأرواح
فلأنت أعظم والمعاني كلها ... يا رب عند جلالكم تنداح (3)
__________
(1) - الجامع لأسماء الله الحسنى ص116.
(2) - تنسب هذه الأبيات لعبد الغني النابلسي (1050-1143هـ/1641-1730م) شاعر عالم بالدين والأدب مكثر من التصنيف، تصوف ولد ونشأ في دمشق ورحل إلى بغداد وعاد إلى سوريا وتنقل في فلسطين ولبنان وسافر إلى مصر والحجاز واستقر في دمشق وتوفي فيها. له مصنفات كثيرة جداً منها: (الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية-ط) و (تعطير الأنام في تعبير الأنام-ط) و (ذخائر المواريث في الدلالة على مواضع الأَحاديث-ط) ، و (علم الفلاحة-ط) ، و (قلائد المرجان في عقائد أهل الإيمان-خ) ، و (ديوان الدواوين-خ) مجموع شعره وله عدة دواوين.
(3) - ورد هذا البيتان في كتاب دع الحزن وابدأ الحياة تأليف عبد الله بن سعيد الزهراني , ص11 , الناشر: دار الطرفين للنشر والتوزيع الطائف.
وستجد الجواب من ربك العزيز الوهاب فاطر السموات والأرض, فابشر برحمته وحصول فرجه, فربك يخلق ما يشاء ويختار. قال الشاعر:
أقول لابني وقد قال الطبيب له ... لم يبق إلا رجاء الخالق الباري
رضيت باللَه مرجوّاً إذا اعترضت ... وساوس اليأس في ظني وأفكاري (1)
وقد جاء في محكم الذكر الحكيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (2) .
إن مما يطمئن الإنسان ويسعده أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقه وأنه سبحانه الخالق لكل شيء, وأن الذي يخلقه الله عز وجل يبقى رهن أمره فاطمئن, فكل من حولك وما حولك بيد الله عز وجل له الخلق والأمر {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (3) , قال الشاعر:
الحمد لله جلَّ الله من خالقٍ ... وهو العليم بنا ألفاتقُ الراتق
قد ضمّ شملي به إذ كنت في عدم ... لا علم عندي بمخلوقٍ ولا خالقِ
__________
(1) - ينسب هذان البيتان لعمارة اليمني.
(2) - سورة فاطر الآية (3) .
(3) - سورة الأعراف الآية (54) .
حتى إذا برزتْ بالكون أعيننا.........علمت بالكونِ قطعاً أنه الخالق (1)
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
الخالق في أسماء الله الحسنى
الخالق في أسماء الله الحسنى
الخالق لكل شيء وموجده من العدم هو الله سبحانه وتعالى وما سواه مخلوق مربوب له, لا خالق غيره, وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (2) .
وقال القرطبي: الخالق نطق به التنزيل وتكرر في القرآن, وجاء في حديث أبي هريرة الذي خرجه الترمذي (الخالق) وعند غيره (الخلاق) عوضاً من الخالق, وكلاهما أجمعت عليه الأمة. (3)
وقال القحطاني: الخالق، البارئ، المصوِّر، الخلاق, الذي خلق جميع الموجودات وبرأها، وسواها بحكمته، وصورها بحمده وحكمته، وهو لم يزل، ولا يزال على هذا الوصف العظيم. (4)
وقد يرد الخلق في كلام العرب بمعنى الكذب, قال زهير:
فَلأَنتَ تَفري ما خَلَقتَ وَبَعضُ ... القَومِ يَخلُقُ ثُمَّ لا يَفري
__________
(1) - تنسب هذه الأبيات لمحيي الدين بن عربي. (560-640هـ/1164-1242م) محمد بن علي بن محمد بن عربي أَبوبكر الحاتمي الطائي الأندلسي المعروف بمحي الدين بن عربي. فيلسوف من أئمة المتكلمين في كل علم، ولد في مرسية بالأندلس وانتقل إلى اشبيلية وقام برحلة فزار الشام وبلاد الروم والعراق والحجاز، واستقر في دمشق ومات فيها, يقول الذهبي عنه: "قدوة القائلين بوحدة الوجود", له نحو أربعمائة كتاب ورسالة منها: (الفتوحات المكية) في التصوف, وعلم النفس، عشر مجلدات، (محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار) في الأدب، (ديوان شعر-ط) أكثره من التصوف، و (فصوص الحكم-ط) وغيرها الكثير الكثير.
(2) - سورة الحشر الآية (24) .
(3) - الآسنى في شرح اسماء الله الحسنى ص408.
(4) - شرح اسماء الله الحسنى ص86.
وقال الإقليشي: منع الشرع ما أطلقه العرب من هذا الاسم على المخلوق, وحجر أن يسمى موجود في الوجود خالقاً غير الله تعالى؛ لأنه مخترع الأعيان ومقدر الأشياء, فاتصاف العبد بالاختراع باطل قطعاً, واتصافه بالتقدير مجاز, لأن التقدير الذي يقدره العبد مخترع له في الوقت الذي يقدره فهو منسوب لله تعالى حقيقة وللعبد مجازاً. (1)
والخلاصة: أن الخلق بمعنى الإيجاد من العدم مختص به سبحانه وتعالى, ... أما الخلق بمعنى التجميع من شيء أوجده الله وتركيبه أو توظيفه ضمن النواميس التي قدرها الله تعالى وأوجدها وعلمها الإنسان وأذن الحق سبحانه وتعالى بإستعمالها وتوظيفها وتركيبها فهذا قد ينسب إلى الإنسان لا على سبيل الحقيقة والإيجاد من العدم، وذلك كصناعة السيارات مثلاً أو غير ذلك من الإلكترونيات، فإن الله خالق المواد والإنسان أبدع في تركيب وتوظيف هذه المواد، وكتركيب الكلمات ومنه قوله تعالى: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} (2) .
ثمرة معرفة اسم الله الخالق وحده لا شريك له
إذا عرف المكلف أن الله جل وعلا وحده لا شريك له خالق كل شيء وحده لا شريك له, وعرف أن السموات والأرض ومن فيهن والكون بما فيه مخلوق له سبحانه وتعالى؛ آمن به ووجب عليه أن يفرده بالعبادة, قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ
__________
(1) - الآسنى في شرح اسماء الله الحسنى ص408.
(2) - سورة العنكبوت الآية (17) .
الْعَالَمِينَ} (1) , وقال جل شأنه: {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (2) , وأن يشكره على نعمة الخلق فهو الذي أعطى كل مخلوق خصائصه في التصوير, وقدر رزقه, فبيد الخالق البارئ المصور كل شئون الخلق, يمنعهم ويعطيهم ويتفضل عليهم ويرحمهم.
ولهذا فإن المؤمن يعبد الله ويرجوه ويسأله الرحمه والفوز والفلاح, لأنه يعلم أن الله خالق كل شيء, فهو يعبد الله, ويرحم عباده, وإنما يرحم الله من عباده الرحماء, وفي الحديث النبوي: (إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِائَةَ رَحْمَةٍ كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَجَعَلَ مِنْهَا فِي الأَرْضِ رَحْمَةً فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا وَالْوَحْشُ وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ) (3) .
ولهذا فإن من عرف أن الله خالقه ورازقه, وأن مدار الدنيا, وكل نفع وضر, وإعطاء ومنع, وإحياء وإماته, ومجازات على الحسنات والسيئات؛ بيد الله؛ التزم طاعة خالقه وابتعد عن ظلم الناس, وعاش في سعادة, ومات على التوحيد, قال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ
__________
(1) - سورة الأعراف الآية (54) .
(2) - سورة الأنعام الآية (102) .
(3) - أخرجه مسلم في صحيحه باب في سعة رحمة الله تعالى حديث (4946) .
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ* وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (1) , وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} (2) .
دعاء الله باسمه الخالق
يا الله يا خالق يا رحمن يا رحيم خلقتني سوياً وخلقتني خَلقاً رضياً, فكن لي ولياً, وكن بي حفياً, فأنت الذي خلقتني من العدم, فاسبغ علي وعلى جميع المؤمنين جزيل النعم, واصرف عنا النقم, واجعلني والمؤمنين من الشاكرين لآلائك, المحبين لأوليائك, المتبعين لنبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم أنبيائك ورسلك, ونسألك اللهم يا خالق كل شيء, يا خالق السماوات والأرض, رب كل شيء ومليكه؛ الدرجات العلا من الجنة, وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(1) - سورة الملك الآيات (161-165) .
(2) - سورة الملك الآيات (1-3) .
الخالق لكل شيء وموجده من العدم هو الله سبحانه وتعالى وما سواه مخلوق مربوب له, لا خالق غيره, وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (2) .
وقال القرطبي: الخالق نطق به التنزيل وتكرر في القرآن, وجاء في حديث أبي هريرة الذي خرجه الترمذي (الخالق) وعند غيره (الخلاق) عوضاً من الخالق, وكلاهما أجمعت عليه الأمة. (3)
وقال القحطاني: الخالق، البارئ، المصوِّر، الخلاق, الذي خلق جميع الموجودات وبرأها، وسواها بحكمته، وصورها بحمده وحكمته، وهو لم يزل، ولا يزال على هذا الوصف العظيم. (4)
وقد يرد الخلق في كلام العرب بمعنى الكذب, قال زهير:
فَلأَنتَ تَفري ما خَلَقتَ وَبَعضُ ... القَومِ يَخلُقُ ثُمَّ لا يَفري
__________
(1) - تنسب هذه الأبيات لمحيي الدين بن عربي. (560-640هـ/1164-1242م) محمد بن علي بن محمد بن عربي أَبوبكر الحاتمي الطائي الأندلسي المعروف بمحي الدين بن عربي. فيلسوف من أئمة المتكلمين في كل علم، ولد في مرسية بالأندلس وانتقل إلى اشبيلية وقام برحلة فزار الشام وبلاد الروم والعراق والحجاز، واستقر في دمشق ومات فيها, يقول الذهبي عنه: "قدوة القائلين بوحدة الوجود", له نحو أربعمائة كتاب ورسالة منها: (الفتوحات المكية) في التصوف, وعلم النفس، عشر مجلدات، (محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار) في الأدب، (ديوان شعر-ط) أكثره من التصوف، و (فصوص الحكم-ط) وغيرها الكثير الكثير.
(2) - سورة الحشر الآية (24) .
(3) - الآسنى في شرح اسماء الله الحسنى ص408.
(4) - شرح اسماء الله الحسنى ص86.
وقال الإقليشي: منع الشرع ما أطلقه العرب من هذا الاسم على المخلوق, وحجر أن يسمى موجود في الوجود خالقاً غير الله تعالى؛ لأنه مخترع الأعيان ومقدر الأشياء, فاتصاف العبد بالاختراع باطل قطعاً, واتصافه بالتقدير مجاز, لأن التقدير الذي يقدره العبد مخترع له في الوقت الذي يقدره فهو منسوب لله تعالى حقيقة وللعبد مجازاً. (1)
والخلاصة: أن الخلق بمعنى الإيجاد من العدم مختص به سبحانه وتعالى, ... أما الخلق بمعنى التجميع من شيء أوجده الله وتركيبه أو توظيفه ضمن النواميس التي قدرها الله تعالى وأوجدها وعلمها الإنسان وأذن الحق سبحانه وتعالى بإستعمالها وتوظيفها وتركيبها فهذا قد ينسب إلى الإنسان لا على سبيل الحقيقة والإيجاد من العدم، وذلك كصناعة السيارات مثلاً أو غير ذلك من الإلكترونيات، فإن الله خالق المواد والإنسان أبدع في تركيب وتوظيف هذه المواد، وكتركيب الكلمات ومنه قوله تعالى: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} (2) .
ثمرة معرفة اسم الله الخالق وحده لا شريك له
إذا عرف المكلف أن الله جل وعلا وحده لا شريك له خالق كل شيء وحده لا شريك له, وعرف أن السموات والأرض ومن فيهن والكون بما فيه مخلوق له سبحانه وتعالى؛ آمن به ووجب عليه أن يفرده بالعبادة, قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ
__________
(1) - الآسنى في شرح اسماء الله الحسنى ص408.
(2) - سورة العنكبوت الآية (17) .
الْعَالَمِينَ} (1) , وقال جل شأنه: {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (2) , وأن يشكره على نعمة الخلق فهو الذي أعطى كل مخلوق خصائصه في التصوير, وقدر رزقه, فبيد الخالق البارئ المصور كل شئون الخلق, يمنعهم ويعطيهم ويتفضل عليهم ويرحمهم.
ولهذا فإن المؤمن يعبد الله ويرجوه ويسأله الرحمه والفوز والفلاح, لأنه يعلم أن الله خالق كل شيء, فهو يعبد الله, ويرحم عباده, وإنما يرحم الله من عباده الرحماء, وفي الحديث النبوي: (إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِائَةَ رَحْمَةٍ كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَجَعَلَ مِنْهَا فِي الأَرْضِ رَحْمَةً فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا وَالْوَحْشُ وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ) (3) .
ولهذا فإن من عرف أن الله خالقه ورازقه, وأن مدار الدنيا, وكل نفع وضر, وإعطاء ومنع, وإحياء وإماته, ومجازات على الحسنات والسيئات؛ بيد الله؛ التزم طاعة خالقه وابتعد عن ظلم الناس, وعاش في سعادة, ومات على التوحيد, قال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ
__________
(1) - سورة الأعراف الآية (54) .
(2) - سورة الأنعام الآية (102) .
(3) - أخرجه مسلم في صحيحه باب في سعة رحمة الله تعالى حديث (4946) .
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ* وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (1) , وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} (2) .
دعاء الله باسمه الخالق
يا الله يا خالق يا رحمن يا رحيم خلقتني سوياً وخلقتني خَلقاً رضياً, فكن لي ولياً, وكن بي حفياً, فأنت الذي خلقتني من العدم, فاسبغ علي وعلى جميع المؤمنين جزيل النعم, واصرف عنا النقم, واجعلني والمؤمنين من الشاكرين لآلائك, المحبين لأوليائك, المتبعين لنبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم أنبيائك ورسلك, ونسألك اللهم يا خالق كل شيء, يا خالق السماوات والأرض, رب كل شيء ومليكه؛ الدرجات العلا من الجنة, وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(1) - سورة الملك الآيات (161-165) .
(2) - سورة الملك الآيات (1-3) .
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
الفصل الرابع القلم
القلم
القلم صائغ الكلام, والمعبر عن أجمل البيان بما يخطه من أفصح الكلام, فيظهر ما في النفس من المعاني التي تشرق بها الآمال, وتتحقق بها الأعمال, فهو ترجمان القلب وبريد اللسان, وقد نسب إلى بعض ملوك اليونان أنه قال: "أمر الدنيا والدين تحت شيئين: قلم وسيف, والسيف تحت القلم" (1) , وبالقلم تحفظ العلوم وتعلّم, وتدون الأفكار وتنشر, ولولاه لما انتظم عقد البيان, ولما شاع العلم بين الأنام, فبه خطت المقادير, وأجريت التدابير, وهو أول ما خلق الله العزيز القدير, وفي الحديث الشريف: (إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ, قَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ) (2) , وأول ما نزل من القرآن الكريم قول العزيز الحكيم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (3) , وفي ذلك دليل وبرهان على عظيم تكريم الله تعالى للإنسان الذي علّمه بالقلم ما لم يكن يعلم, ألا ترى أن الحق سبحانه وتعالى أمر نبيه بالقراءة باسمه تبارك وتعالى, ثم ذكر التفضيل على عباده بخلقه إياهم, وما ندبهم له بذلك من البقاء الدائم والنعيم المتصل, لمن آمن به ووحده وصدّق نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ثم أتبع ذلك بذكر الإنعام عليهم بما
__________
(1) - انظر أدب الكتاب تأليف الإمام أبي بكر محمد بن يحيى بن عبد الله الصولي المتوفى سنة 335هـ شرح وتعليق احمد حسن لبج, ص36, الناشر: دار الكتب العلمية بيروت لبنان, الطبعة الأولى 1415هـ.
(2) - أخرجه أبو داود في سننه باب في القدر حديث (4078) .
(3) - سورة العلق الآيات (1-5) .
علمهم من الكتاب الذي به قوام أمر دينهم ودنياهم, واستقامة معائشهم وحفظها, ولولا أن من لا يحسن الكتابة يجد ممن يحسنها معونة وإبانة عنه, لما استقام له أمر, ولا تم له عزم, ولحل محل الصور الممثلة, والبهائم المهملة. ومعنى قوله (الذي علّم بالقلم) : الذي علّم الكتابة بالقلم. (1)
القلم تحيا به الأمم وتتعلّم
القلم به تحيا الأمم وتتعلّم فهو الذي يعبر به عمّا في الضمير, وهو طبيب المنطق وبريد القلب, قال عبد الحميد الكاتب: "القلم شجرة ثمرتها الألفاظ, والفكر بحر لؤلؤه الحكمة", وقال ابن المقفع: "القلم بريد القلب يخبر بالخبر وينظر بلا نظر", وقيل: "القلم سفير العقل, ورسوله الأنبل, ولسانه الأطول, وترجمانه الأفضل, والقلم أصم يسمع النجوى, وأخرس يفصح بالدعوى, وجاهل يعلم الفحوى", وقيل: "عقول الرجال تحت أقلامها, والقلم راقد في الأفئدة مستيقظ في الأفواه", وبمداد أقلام العلماء وسيوف الشجعان الحكماء من المجاهدين العظماء بنيت الممالك وأمن الناس من المهالك, ورحم الله من سجل بقلمه ما يدعو المسلمين إلى الاجتهاد والجهاد, فقال:
يا أيها المغمدان السيف والقلم ... متى يسح مداد منكما ودم (2)
__________
(1) - أدب الكتاب ص11.
(2) - هذا البيت للعلامة يحيى بن محمد بن الهادي قاضي الشرع في جبل صبر في عهد الإمام يحيى من قصيدة طويلة ضمن ديوانه المخطوط.
وقال آخر:
هَذا الزَمانُ تُناديكُم حَوادِثُهُ ... يا دَولَةَ السَيفِ كوني دَولَةَ القَلَمِ
فَالسَيفُ يَهدِمُ فَجراً ما بَنى سَحَراً ... وَكُلُّ بُنيانِ عِلمٍ غَيرُ مُنهَدِمِ (1)
دور القلم في سعادة الأمم وشقاؤها
للقلم دور في سعادة الأمم وشقاؤها, وله نصيب في مدحها وهجائها, فبه يتعلّم الجاهل, ويظفر العاقل, وقديماً قيل: "القلم لسان البصر يناجيه بما استتر عن الأسماع, إذا نسح حلله وأودعها حكمه", فهو أنف الضمير إذا رعف أعلن أسراره وأبان آثاره, وبنوء القلم تصوب الحكمة, وقال ابن أبي دؤاد: "القلم الدنيا والآخرة". (2) وفي الأمثال السائرة: "عقول الرجال تحت أسنة أقلامها", وقيل:"الأقلام مطايا الفطن".
ويرحم الله شوقي حيث يقول:
سُبحانَكَ اللَهُمَّ خَيرَ مُعَلِّمٍ ... عَلَّمتَ بِالقَلَمِ القُرونَ الأولى
أَخرَجتَ هَذا العَقلَ مِن ظُلُماتِهِ ... وَهَدَيتَهُ النورَ المُبينَ سَبيلا
وقال ابن أبي حصينة (3) :
جَزى اللَهُ خَيراً ظُهورَ الرِكاب ... وَأَحسَنَ عَنِيّ جَزاءَ القَلَم
__________
(1) - هذان البيتان لأحمد شوقي من قصيدة مطلعها:
الدَهرُ يَقظانُ وَالأَحداثُ لَم تَنَمِ ... فَما رُقادُكُمُ يا أَشرَفَ الأُمَمِ
(2) - أدب الكتاب ص63.
(3) - الحسن بن عبد الله بن أحمد بن عبد الجبار بن أبي حصينة أبو الفتح الشامي. (388-457هـ/998-1064م) شاعر من الأمراء ولد ونشأ في معرة النعمان بسورية انقطع إلى دولة بني مرداس في حلب فامتدح عطية بن صالح المرداسي فملكه ضيعة فأثرى, وأوفده ابن مرداس إلى الخليفة المستنصر العلوي بمصر رسولاً سنة 437هـفمدح المستنصر بقصيدة وأعقبها بثانية سنة 450هـ فمنحه المستنصر لقب الإمارة, ثم كتب له سجلاً بذلك فأصبح يحضر في زمرة الأمراء ويخاطب بالإماره وتوفي في سروج, له (ديوان شعر -ط) طبع بعناية المجمع العلمي بدمشق مصدراً بمقدمة من إملاء أبي العلاء المعري وقد قرئ عليه.
وقال أيضاً:
ما أَقبَحَ العِرضَ مَدنُوساً بِفاحِشَةٍ ... يَخُطُّها اللَوحُ أَو يَجري بِها القَلَمُ
وقال بعض الكتاب: " القلم الرديء كالولد العاق", وقالوا: "القلم أحد اللسانين, والعم أحد الأبوين, والتثبت أحد العفوين, والمطل أحد المنعين, وقلة العيال أحد اليسارين, والقناعة أحد الرزقين, والوعيد أحد الضربين, والرواية أحد الهاجيين, والهجر أحد الفراقين, واليأس أحد النجحين, والمزاح أحد السبابين", وقيل: "القلم لسان اليد", وقد فاخر صاحب سيف صاحب قلم, فقال صاحب القلم: انا أقتل بلا غرر وأنت تقتل على خطر, فقال صاحب السيف: القلم خادم السيف فإن بلغ مراده وإلا فإلى السيف معاده, أما سمعت قول أبي تمام (1) :
السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ ... في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ
أما الصنوبري (2) فهو يقول:
ما كنتُ أحسَبُ أنَّ الخِنجَرَ القَلَمُ ... مِنْ قبلِ هذا ولا أنَّ المِدادَ دَمُ
__________
(1) - حبيب بن أوس بن الحارث الطائي, (188-231هـ/803-845 م) , أحد أمراء البيان، ولد بجاسم (من قرى حوران بسورية) ورحل إلى مصر واستقدمه المعتصم إلى بغداد فأجازه وقدمه على شعراء وقته فأقام في العراق ثم ولي بريد الموصل فلم يتم سنتين حتى توفي بها, كان أسمر، طويلاً، فصيحاً، حلو الكلام، فيه تمتمة يسيرة، يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة من أراجيز العرب غير القصائد والمقاطيع, في شعره قوة وجزالة، له تصانيف، منها فحول الشعراء، وديوان الحماسة، ومختار أشعار القبائل، ونقائض جرير والأخطل، نُسِبَ إليه ولعله للأصمعي كما يرى الميمني, نشأ في دمشق وعمل حائكاً فيها ثمَّ انتقل إلى حمص وبدأ بها حياته الشعرية, وفي أخبار أبي تمام للصولي: أنه كان أجش الصوت يصطحب راوية له حسن الصوت فينشد شعره بين يدي الخلفاء والأمراء.
(2) - أحمد بن محمد بن الحسن بن مرار الضبي الحلبي الأنطاكي أبو بكر, المتوفى سنة 334 هـ945م, شاعر اقتصر في أكثر شعره على وصف الرياض والأزهار, وكان ممن يحضر مجالس سيف الدولة تنقل بين حلب ودمشق وجمع الصولي ديوانه في نحو 200ورقه وجمع الشيخ محمد راغب الطباخ ما وجده من شعره في كتاب سماه (الروضيات-ط) صغير, وفي كتاب (الديارات-ط) للشابشتي زيادات على ما في الروضيات.
حتَّى كتَبْتَ فما أبقَيْتَ جَارِحَةً........إِلاّ وَفيها عَلى مِقدارِاها أَلمُ
يا كاتِباً جَرَحَتْ روحي كَتَابَتُهُ ... والجُرْحُ في الرُّوحِ جرحٌ ليسً يَلتَئِمُ
اِذْهبْ فحَقُّ أميرٍ أنْتَ كاتِبُهُ ... أنْ لا يَقومَ لَهُ عُرْبٌ ولا عَجَمُ
وقال بشر بن الحارث (1) : "لسان الإنسان قلم ملكه الموكل به, وريقه مداده, وقرطاسه جلده, يملي عليه كتاباً إلى ربه, فلينظر الإنسان قبل فوت النظر ماذا يملي", وفي الذكر الحكيم: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (2) , وفي سورة ق: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (3) , وفي سورة عبس يقول المولى جل وعلا: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} (4) , فالسفرة الكتبة الواحد سافر والجمع سفرة مثل كافر وكفرة, ومعنى سافر كاتب يكتب في الأسفار واحدها سفرة وهي الصحف وسفر إذا كتب من سفر فهو سافر, ورحم الله القائل:
ونحن الكاتبون وقد أسأنا ... فهبنا للكرام الكاتبين
وبالقلم كتب القرآن وجمع, وبه حفظت الألسن والآثار, ووكدت العهود, وسيقت التواريخ, وبقيت الصكوك, وأمن الإنسان النسيان,
__________
(1) - بشر بن الحارث بن علي بن عبد الرحمن المروزي أبو نصر الحافي محدث ثقة توفى سنة 227هـ.
(2) - سورة الانفطار الآيات (10-13) .
(3) - الآيات (16-18) .
(4) - الآيتان (16-17) .
وقيدت الشهادات والأحكام, وأنزل الله تعالى في ذلك آية المداينة وهي أطول آية في القرآن. ولله در القائل:
إن الكتابة رأس كل صناعة ... وبها تتم جوامع الأعمال
فاحرص أخي على تعلّم القراءة والكتابة تظفر بالحسنى وزيادة, ودع عنك المفاخرة بالقلم وتعلم الهجاء والذم, ولطالما تفاخر الشعراء بالقلم ووصفوه بما توصلت إليه أفهامهم في مدائحهم وهجائهم, ومن ذلك قول الشاعر:
فلي قلم في رقمه سم أرقم ... تراه إذا أرسلته حيةً تسعى
يزيد سناء الشمس بالمدح بهجةً ... ويلبسها من هجوه خطةً شنعا (1)
وقال آخر:
لا تُهاوِن بِصَغيرٍ مِن عِدىً ... فَقَديماً كَسَرَ الرُمحُ القَلَم
وَتَرَقَّب مِن سَليلٍ صُنعَهُ ... فَمِنَ البَيعِ قِياضٌ وَسَلَم (2)
وقال أبو تمام:
لَكَ القَلَمُ الأَعلى الَّذي بِشَباتِهِ ... تُصابُ مِنَ الأَمرِ الكُلى وَالمَفاصِلُ
لُعابُ الأَفاعي القاتِلاتِ لُعابُهُ ... وَأَريُ الجَنى اِشتارَتهُ أَيدٍ عَواسِلُ
فَصيحٌ إِذا اِستَنطَقتَهُ وَهوَ راكِبٌ ... وَأَعجَمُ إِن خاطَبتَهُ وَهوَ راجِلُ
والعاقل إنما يكتب بقلمه ما ينفع ولا يضر, فهو لا يسجل لغو الحديث, ولا العمل الخسيس, ولا يكتسب به المآثم, ولا يستحل به المحارم, ولا يسجل به ما يوقع في المعاصي, ويحرض على الملاهي, ويرغب في الشقاء, ويجلب الفتنة, ويتسبب في الأذى, ويدعو إلى ظلم العباد, فما أحسن القلم الذي يقتصر في كتابته على الكلام الجميل, وما يدعو إلى طاعة الملك الجليل, ولله در القائل:
وَما مِن كاتِبٍ إِلا سَيفني ... وَيَبقي الدَهر ما كَتَبتَ يَداه
فَلا تَكتُب بِكفك غَير شَيءٍ ... يَسرك في القِيامة إِن تَراه (3)
وفي الذكر الحكيم: {ن~ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} (4) ,
القلم الالكتروني
لقد كان القرآن الكريم سباقاً إلى الإرشاد بحفظ حقوق العباد وإثباتها كتابةً بالخط المعتاد سواءً كان ذلك بالقلم التقليدي العادي أو بالقلم الإلكتروني, فقد صرح في سورة البقرة بما يفيد التوجيه إلى التوثيق بالكتابة
__________
(1) - هذان البيتان من قصيدة للأديب الكبير والشاعر القدير احمد بن محمد الأنسي مطلعها:
ألا حييّ ذاك الحي من ساكني صنعاء ... فكم أحسنوا بالنازلين بهم صُنعاً
وانظر نشر العرف لنبلاء اليمن بعد الألف للعلامة محمد بن محمد زبارة إعداد مركز الدراسات والبحوث اليمني, ص78.
(2) - هذان البيتان من قصيدة لأبي العلاء المعري مطلعها:
صاحِبُ الشُرطَةِ إِن أَنصَفَني ... فَهوَ خَيرٌ لِيَ مِن عَدلٍ ظَلَم
(3) - نسبت هذه الأبيات لأمين الجندي, وهو أمين بن خالد بن محمد بن أحمد الجندي (1180-1257هـ/1766-1841م) شاعر، من أعيان مدينة حمص، مولده ووفاته فيها، تردد كثيراً إلى دمشق فأخذ عن علمائها وعاشر أدباءها، ولما كانت سنة 1246 هـ قدم حمص عامل من قبل السلطان محمود العثماني فوشى إليه بعض أعوانه بأن أمين الجندي هجاه، فأمر بنفيه، وعلم الشيخ أمين بالأمر ففر إلى حماة، فأدركه أعوان العامل، فأمر بحبسه في إصطبل الدواب وحبس عنه الطعام والشراب إلا ما يسد به الرمق، فأقام أربعة أيام، وأغار على حمص بمئتي فارس فقتلوا العامل، وأفرج عن الشيخ أمين. له (ديوان شعر - ط) وفي شعره كثير من الموشحات وتواريخ الوفيات الشائعة في أيامه.
(4) - سورة القلم الآيتان (1و2) .
والإشهاد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ... الآية} (1) , والأمر بالكتابة دليل على مشروعيتها ويعم ذلك جميع أنواع الكتابة إذا استوفت شروطها وضوابطها؛ سواءً تمت بالقلم التقليدي بالكتابة المعروفة بخط اليد أو بالآلة الكاتبة أو أن هذه الكتابة تمت الكترونياً أو بأي وسيلة, فالنص يعمها جميعاً, فكلما يخط به ويسطر به معاني لأي لغة وبأي وسيلة فهو كتابة (2) , ومما يؤيد ذلك قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (3) أي كتاب, وقوله سبحانه وتعالى: {ن~ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (4) .
الكتابة الإلكترونية: ماهيتها وطبيعتها
يمكننا في هذه العجالة تعريف ماهية الكتابة الإلكترونية التي تدور عليها رحى المعاملات الإلكترونية في شتى المجالات في العالم المعاصر بالأتي:
((الكتابة الإلكترونية: طبيعتها وماهيتها)) هي عبارة عن المعلومات أو البيانات التي يتم إنشاؤها ومعالجتها وإرسالها أو تخزينها واسترجاعها بوسائل إلكترونية أو ضوئية أو بوسائل مشابهة, فهي: كل حروف أو أرقام أو رموز أو أي علامات أخرى تثبت على دعامة إلكترونية أو ضوئية أو أي وسيلة أخرى مشابهة وتعطي دلالة قابلة للإدراك, وسواءً كانت هذه المعلومات المستخدمة لغوية أو غير لغوية مقروءة أو مسموعة أو منظورة اشتملت على عقد أو وعد أو عهد أو إعلام أو التزام أو اتفاق أو قصص أو خبر ... إلخ, وسواء تم إنشاؤها أو تبادلها على شكل رقمي أو تماثلي.
لقد اخترنا في هذا التعريف لفظ (المعلومات أو البيانات التي يتم إنشاؤها ومعالجتها ... الخ) , ليشتمل اللفظ بعمومه كل المستندات والسجلات والرسائل ... إلخ التي يتم إنشاؤها ومعالجتها وتخزينها أو استرجاعها واستخراجها أو نقلها أو نسخها أو إبلاغها أو استلامها, وعلى مختلف الصور والأشكال التي تتم فيه بوسيلة إلكترونية على وسيط ملموس أو على أي وسيط آخر, وهذا التعريف هو ما تم استخلاصه من مجموع ما أفهمته طبيعة الكتابة الإلكترونية من خلال ما وقفنا عليه من المراجع العلمية, والتي لا تبدوا متباينة في معانيها كثيراً وإن اختلفت في بعض أشكالها في الجمل والألفاظ. (5)
أما فقهاء الشريعة الإسلامية فإن الكتابة في مصطلحهم: هي الخط الذي يعتمد عليه في توثيق الحقوق وما يتعلق بها للرجوع إليه عند الإثبات الممهور بتوقيع أو ختم أو بهما معاً (6) , وهذا التعريف بعمومه يشمل: الصك والحجة والمحضر والسجل والوثيقة والبصيرة والكتاب, ويشمل أيضا
__________
(1) - سورة البقرة الآية (282) . .
(2) - أحكام التعامل بالإنترنت -بحث من بحوثنا المنشورة على- مجلة التحكيم العدد (85) مارس2007م ص19 وما بعدها.
(3) - سورة يس الآية (12) .
(4) - سورة القلم الآية (1) .
(5) - لتفصيل أوسع انظر: القوة الثبوتية في المعاملات الالكترونية (بحث من بحوثنا) المنشور في مجلة التحكيم ومجلة البحوث القضائية.
(6) - انظر: وسائل الإثبات للدكتور محمد الزالمحررات الرسمية والعرفية والمحررات الإلكترونية والكتابة بالكمبيوتر والفاكس والتلفون, ويشمل جميع أنواع الكتابة التي عرفها الفقهاء. (1)
القوة الثبوتية للكتابة الالكترونية
من المسلَّم به أن التعرف على طبيعة وماهية الكتابة الإلكترونية التي تتم في أي تعامل أو عقد أو اتفاقية يتم إبرامها أو تنفيذها بشكل كلي أو جزئي بواسطة الوسائل الإلكترونية لا تكتسب القوة الثبوتية إلا بشروط خمسة:
الشرط الأول: الكتابة: لاعتبار أن الكتابة هي الأسلوب المعبر عن الإرادة وسبق تعريف الكتابة الإلكترونية.
الشرط الثاني: التوقيع: باعتبار أن التوقيع هو الشرط الجوهري في جميع المحررات فهو يثبت إقرار الموقع على ما هو مدون وموجود في المحرر, فلا ينتج المحرر الإلكتروني آثاره القانونية دون توقيع يميز هوية الموقع ويعبر عن موافقته عليه ضمن الشروط والضوابط التي تشترطها القوانين, وارتباط التوقيع بالموقع وحده دون غيره.
الشرط الثالث: التوثيق: فتوثيق التصرف الذي يتم عبر الوسائل الإلكترونية فيه حفظ لحقوق المتعاملين من إي اعتداء أو غش وهو أمر يستوجب القيام بتوثيق المحرر لدى جهة يتفق عليها وتكون معتمدة من قبل الحكومة وتعنى هذه الجهة بالتحقق من صحة المحرر الذي تم إصداره وتتبع
__________
(1) - أحكام التعامل بالإنترنت -بحث من بحوثنا المنشورة على- مجلة التحكيم العدد (85) مارس2007م ص21و22.حيلي ج2ص415 الطبعة الأولى, ومؤلفنا: عمدة المسير ج3ص9.
أي تغييرات أو أخطاء تحدث, وفي حالة إتمام توثيق المحرر الإلكتروني يتم منح صاحب المحرر رمز التعريف الشخصي الخاص به, ويتم إصدار هذا الرمز من قبل الجهة المختصة المرخص لها بتوثيق التوقيع الإلكتروني, إذ أنه يهدف التحقق من أن القيد إلكترونياً لم يتعرض لأي تعديل, ... ويعتبر هذا القيد موثوقاً من تأريخ التحقق منه, وتكون شهادة التوثيق التي تبين رمز التعريف معتمدة. (1)
وتباينت وجهات نظر المقننين في تحديد جهة التوثيق فهو في القانون المصري مخول تحديد ذلك لهيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات وفقاً لقانون تنظيم التوقيع الإلكتروني, وهو مناط في التشريع الأردني بمجلس الوزراء تحديد هذه الجهات, كما أسند قانون المعاملات والتجارة الإلكتروني لإمارة دبي التوثيق إلى رئيس الحكومة لإصدار قرار لتعيين مراقب لخدمات التصديق لغرض ترخيص وتصديق ومراقبة مزودي خدمات التصديق, وحدد المشرع التونسي الوكالة الوطنية للمصادقة الإلكترونية. (2)
__________
(1) - انظر: المواد (32-36) من قانون أنظمة الدفع والعمليات المالية والمصرفية الإلكترونية اليمني, الصادر بالقانون رقم (40) لسنة 2006م
(2) - انظر: المادة (19) وما بعدها من قانون تنظيم التوقيع الإلكتروني المصري, والمادة (2) من قانون المعاملات الإلكترونية الأردني, والمادة (2) من قانون المعاملات والتجارة الإلكترونية لإمارة دبي, والفصل الثامن إلى العاشر من قانون المبادلات والتجارة الإلكترونية التونسي.
الشرط الرابع: إمكانية الاحتفاظ بالمحرر الإلكتروني في شكله الأصلي المتفق عليه, دون أن يلحقه أي تغيير: وهو ما أفصحت عنه التشريعات الخاصة بالمعاملات الإلكترونية. (1)
الشرط الخامس: إمكانية استرجاع المحررات الإلكترونية المحفوظة, بحيث لا تتعرض للمحو, والمحو في اللغة: تعفية الأثر حتى لا يرى.
ويروى عن الأصمعي: لِمَ سمت العرب الشمال محوة؟ قال: لأنها تمحو السحاب ولا يرى شخصه, واستدعى أبو نواس (2) أن يكثر له المكاتب المحو في كتابه فقال:
كَثِّري المحوَ في الكِتابِ وَمُجّيـ ... ـهِ بِريقِ اللِسانِ لا بِالبَنانِ
وَأَمِرّي الحِزامَ بَينَ ثَنايا ... كِ العِذابِ المُفَلَّجاتِ الحِسانِ
إِنَّني كُلَّما مَرَرتُ بِسَطرٍ ... فيهِ مَحوٌ لَطَعتُهُ بِلِساني
فَأَرى ذاكَ قُبلَةً مِن بَعيدٍ ... أَسعَدَتني وَما بَرِحتُ مَكاني
__________
(1) - انظر: المادة (2) من قانون الأونستيرال النموذجي, والمادة ( من قانون المعاملات الإلكترونية الأردني, والمادة ( من قانون المعاملات والتجارة الإلكترونية لإمارة دبي, والمادة (9) من قانون التجارة البحريني, والمادة (11) من قانون أنظمة الدفع والعمليات المالية والمصرفية الإلكترونية اليمني.
(2) - الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن صباح الحكمي بالولاء. (146-198هـ/763-813م) , شاعر العراق في عصره. ولد في الأهواز من بلاد خوزستان ونشأ بالبصرة، ورحل إلى بغداد فاتصل فيها بالخلفاء من بني العباس، ومدح بعضهم، وخرج إلى دمشق، ومنها إلى مصر، فمدح أميرها، وعاد إلى بغداد فأقام بها إلى أن توفي فيها, كان جده مولى للجراح بن عبد الله الحكمي، أمير خراسان، فنسب إليه، وفي تاريخ ابن عساكر أن أباه من أهل دمشق، وفي تاريخ بغداد أنه من طيء من بني سعد العشيرة, هو أول من نهج للشعر طريقته الحضرية وأخرجه من اللهجة البدوية، وقد نظم في جميع أنواع الشعر، وأجود شعره خمرياته.
ومحوت الكتاب أمحوه محواً بالواو, وهي في لغة: محيت أمحي محياً, وفي أمثال العرب: "ما أنت إلا ممحياً كاتبا", فإذا أمرت قلت: امحُ, والواو أفصح وبها نزل القرآن: {يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (1) .
تسمية ما يكتب فيه عند العرب
تسمي العرب ما يكتب فيه القرطاس أو الصحيفة أو السفر, ويجمع القرطاس على قراطيس, والصحيفة على صحائف, والسفر على أسفار (2) , وقد نزل القرآن بجميعها, ففي سورة الأنعام يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} (3) , ويقول جل شأنه: {وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (4) .
وقد أكثر العرب من ذكر القراطيس في أخبارهم وأشعارهم ومن ذلك قول العباس بن الأحنف (5) :
__________
(1) - سورة الرعد الآية (39) .
(2) - أدب الكتاب ص104.
(3) - الآية (7) .
(4) - سورة الأنعام الآية (91) .
(5) - العبّاس بن الأحنف بن الأسود، الحنفي (نسبة إلى بني حنيفة) ، اليمامي، أبو الفضل, المتوفى (192هـ/807م) شاعر غَزِل رقيق، قال فيه البحتري: أغزل الناس، أصله من اليمامة بنجد، وكان أهله في البصرة وبها مات أبوه ونشأ ببغداد وتوفي بها، وقيل بالبصرة. خالف الشعراء في طرقهم فلم يمدح ولم يَهجُ بل كان شعره كله غزلاً وتشبيباً، وهو خال إبراهيم بن العباس الصولي، قال في البداية والنهاية: أصله من عرب خراسان ومنشأه ببغداد.
جاءَ الرَسولُ بِقُرطاسٍ فَشَوَّقَني ... مِنها فَأَحبَبتُ مِنهُ كُلَّ قُرطاسِ
فيهِ مُعاتَبَةٌ مِنها تُذَكِّرُني ... ما كانَ مِنها كَأَنّي غافِلٌ ناسِ
وقال آخر:
إن القراطيس من نفسي بمنزلة ... تكون كالسمع والعينين في الراسي
لولا القراطيس مات العاشقون معاً ... هذا بغم وهذكم بوسواسي
أما ابن مكنسة (1) فهو يقول:
أهلاً بها جنةً أَهْدَ ثمارَ نُهى ... وعرَّس الطَّرْفُ فيها أَيَّ تعريسِ
ما دار في خَلَدِي لولا كتابكُمُ ... أَنَّ البساتينَ تُهْدَى في القراطيس
وقال آخر:
وشق قرطاس من تهوى وكن حذرا ... يا رب ذي ضيعة من حفظ قرطاس
أما الأسفار فقد ورد ذكرها في كلام العزيز الجبار إخباراً عن أحوال من حمّلوا التوراة ثم لم يحملوها قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (2) , وفي ذلك عظة واعتبار, فمن ذا الذي يحب أن يكون مثل الحمار لا يعمل بما تحويه الأسفار؟!! فحظه من حملها مثل حظ الحمار.
__________
(1) - إسماعيل بن محمد، أبو طاهر المعروف بابن مكنسة (ت 510هـ1116) شاعر مكثر، من أهل الإسكندرية، أورد العماد الأصفهاني مختارات حسنة من شعره.
(2) - سورة الجمعة الآية (5) .
وقد ورد ذكر الأسفار في أخبار العرب وأشعارهم, في إقامتهم وأسفارهم, وفي مديحهم وفي هجائهم, وقد أحسن ابن الصباغ حيث يقول في مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:
أي الكتاب بفخره قد أنزلتِ ... وبمدحه قد نظمت أسفار
أما العلامة احمد بن حجر العسقلاني (1) فهو يقول:
سَلوا النجمَ يَشهَد أَنَّني بِتُّ ساهِداً ... وَإِلا الدُجى هَل طابَ لي فيهِ مضجعُ
أُطالِعُ أَسفارَ الحَديثِ تَشاغُلاً ... لأَقطَعَ أَسفاري بخُبرٍ يجمَّعُ
فليس للأسفار بعد الحفظ من فائدة غير دراستها والعمل بما فيها, ولقد كان ذلك دأب العلماء كما هو حال العلامة ابن حجر.
أما أحمد الكاشف (2) فهو يرى أن العلم ما دارت به الأيام لا ما حوته الكتب والأسفار فيقول:
والعلم ما دارت به الأيام لا ... ما جاء في كتب وفي أسفار
__________
(1) - أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني أبو الفضل شهاب الدين بن حجر, (773-852هـ/1371-1449م) , من أئمة العلم والتاريخ أصله من عسقلان (بفلسطين) ومولده ووفاته بالقاهرة، ولع بالأدب والشعر ثم أقبل على الحديث, ورحل إلى اليمن والحجاز وغيرهما لسماع الشيوخ، وعلت شهرته فقصده الناس للأخذ عنه وأصبح حافظ الإسلام في عصره, وكان فصيح اللسان، راوية للشعر، عارِفاً بأيام المتقدمين وأخبار المتأخرين صبيح الوجه، وولي قضاء مصر عدة مرات ثم اعتزل, تصانيفه كثيره جليلة منها: (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة-ط) ، و (لسان الميزان-ط) تراجم، و (ديوان شعر-خ) ، و (تهذيب التهذيب-ط) ، و (الإصابة في تمييز الصحابة-ط) وغيرها الكثير.
(2) - أحمد بن ذي الفقار بن عمر الكاشف, (1295-1367هـ/1878-1948م) , شاعر مصري، من أهل القرشية (من الغربية بمصر) ، مولده ووفاته فيها قوقازي الأصل, قال خليل مطران: الكاشف ناصح ملوك، وفارس هيجاء ومقرع أمم، ومرشد حيارى, له ديوان شعر-ط) .
والظاهر أن الأيام تعلّم وتفيد أن من لم يعمل بعلمه ويستفيد من الأسفار فإن الأسفار لا تفيده فهو كمثل الحمار, كما أعلم الحق سبحانه وتعالى بذلك.
أما الصحف فقد ورد ذكرها في القرآن الكريم في اخبار الله العلي العظيم الدالة على كمال حكمته وجليل قدرته وصدق نبوءة محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} (1) , وفي سورة طه: {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} (2) , وفي سورة التكوير النبأ اليقين: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} (3) .
ويغفر الله لابن الأحنف حيث يقول:
صَحائِفُ عِندي لِلعِتابِ طَوَيتُها ... سَتُنشَرُ يَوماً وَالعِتابُ يَطولُ
عِتابٌ لَعَمري لا بَنانٌ تَخُطُّهُ ... وَلَيسَ يُؤَدّيهِ إِلَيكِ رَسولُ
ولله در القائل:
يا حروفاً قد أضاءت في الصحف ... أخبرتني بأحاديث السلف
__________
(1) - الآيتان (18و19) .
(2) - الآية (133) .
(3) - الآيات (10-14) .
قدرها عندي لو تعلمه.........كل فضل وجلال وشرف (1)
أما أبو العلاء المعري فهو يقول:
وَجاءَت صَحائِفُ قَد ضُمِّنَت ... كَبائِرَ آثامِهِم وَاللِمَم
رَأَيتُ بَني الدَهرِ في غَفلَةٍ ... وَلَيسَت جَهالَتُهُم بِالأُمَم
فَنُسكُ أُناسٍ لِضَعفِ العُقولِ ... وَنُسكُ أُناسٍ لِبُعدِ الهِمَم
ويقول أبو فراس الحمداني (2) :
وَما هَذِهِ الأَيّامُ إِلا صَحائِفٌ ... لأَحرُفِها مِن كَفِّ كاتِبِها بَشرُ
أما عماد الدين الأصبهاني (3) فهو يقول:
وما هذه الأَيامُ إلاَّ صحائف ... يؤرَّخ فيها ثمَّ يُمحى ويُمحقُ
وعلى نفس المنوال سلك عمارة اليمني (4) حيث يقول:
__________
(1) - مقامات القرني العلامة والأديب الكبير صاحب القلم السيال واللسان العذب والكلام الطيب والعلم الغزير الدكتور عائض بن عبد الله القرني, ص215، طبعة مكتبة الصحافة الشارقه-الامارات مكتبة التابعين- القاهرة، الطبعة الثالثة 1423هـ-2002م.
(2) - الحارث بن سعيد بن حمدان التغلبي الربعي، أبو فراس (320-357 هـ/932-967م) شاعر أمير، فارس، ابن عم سيف الدولة. له وقائع كثيرة، قاتل بها بين يدي سيف الدولة، وكان سيف الدولة يحبه ويجله ويستصحبه في غزواته ويقدمه على سائر قومه، وقلده منبج وحران وأعمالها، فكان يسكن بمنبج ويتنقل في بلاد الشام, جرح في معركة مع الروم، فأسروه وبقي في القسطنطينية أعواماً، ثم فداه سيف الدولة بأموال عظيمة, قال الذهبي: كانت له منبج، وتملك حمص وسار ليتملك حلب فقتل في تدمر، وقال ابن خلّكان: مات قتيلاً في صدد (على مقربة من حمص) ، قتله رجال خاله سعد الدولة.
(3) - محمد بن محمد صفي الدين بن نفيس الدين حامد بن أله أبو عبد الله عماد الدين الأصبهاني (519-597هـ/1125-1201م) مؤرخ عالم بالأدب، من أكابر الكتاب، ولد في أصبهان، وقدم بغداد حدثاً، فتأدب وتفقه, واتصل بالوزير عون الدين "ابن هبيرة" فولاه نظر البصرة ثم نظر واسط، ومات الوزير، فضعف أمره، فرحل إلى دمشق, فاستخدم عند السلطان "نور الدين" في ديوان الإنشاء، وبعثه نور الدين رسولاً إلى بغداد أيام المستنجد ثم لحق بصلاح الدين بعد موت نور الدين, وكان معه في مكانة "وكيل وزارة" إذا انقطع (الفاضل) بمصر لمصالح صلاح الدين قام العماد مكانه, لما ماتَ صلاح الدين استوطن العماد دمشق ولزم مدرسته المعروفة بالعمادية وتوفي بها, له كتب كثيرة منها (خريدة القصر-ط) وغيره، وله (ديوان شعر) .
(4) - عمارة بن علي بن زيدان الحكمي المذحجي اليمني، أبو محمد، نجم الدين (ت 569هـ1174م) مؤرخ ثقة، وشاعر فقيه أديب، من أهل اليمن، ولد في تهامة ورحل إلى زبيد سنة 531هـ، وقدم مصر برسالة من القاسم بن هشام (أمير مكة) إلى الفائز الفاطمي سنة 550هـ في وزارة (طلائع بن رزيك) فأحسن الفاطميون إليه وبالغوا في إكرامه، فأقام عندهم، ومدحهم. ولم يزل موالياً لهم حتى دالت دولتهم وملك السلطان (صلاح الدين) الديار المصرية، فرثاهم عمارة واتفق مع سبعة من أعيان المصريين على الفتك بصلاح الدين، فعلم بهم فقبض عليهم وصلبهم بالقاهرة، وعمارة في جملتهم. له تصانيف، منها (أخبار اليمن- ط) ، و (أخبار الوزراء المصريين- ط) ، و (المفيد في أخبار زبيد) ، و (ديوان شعر-خ) .وما هذه الأعمار إلا صحائفٌ ... تؤرخ وقتاً ثم تُمحى وتُمحق
أما مطلق بن عبد الخالق (1) فهو يقول:
وما كنت أخشى الموت لولا صحيـ ... ـفة لو انقلبت بيضاء ساد سكون
وذهب كثير من الشعراء على اعتبار الحياة صحيفة يؤرخ فيها كل شيء, وهي كذلك, لا يدوم فيها نعيم, ولا تخلو من هم وغم, وإنما هي دار ابتلاء وامتحان, قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} (2) , فالعاقل لا يثق بها بل يثق بالله الواحد القهار, فهو يأخذ من وجهها الكظيم ابتسامة عريضة يسير فيها سيرة الحكماء الأعزة الكرام لأنه يعلم أن اليوم الذي يراك الناس فيه مخبراً غداً ستكون فيه خبراً من الأخبارِ, ويرحم الله القائل:
حُكمُ المَنِيَّةِ في البَرِيَّةِ جاري ... ما هَذِهِ الدُنيا بِدار قَرار
بَينا يَرى الإِنسان فيها مُخبِراً ... حَتّى يُرى خَبَراً مِنَ الأَخبارِ
طُبِعَت عَلى كدرٍ وَأَنتَ تُريدُها ... صَفواً مِنَ الأَقذاءِ وَالأَكدارِ
لَيسَ الزَمانَ وَإِن حرصت مُسالِماً ... خُلُق الزَمانِ عَداوَة الأَحرارِ
__________
(1) - مطلق بن عبد الخالق الناصري, شاعر فيه صوفية، وفي شعره فلسفة, من أهل الناصرة (بفلسطين) ولد وتعلم ابتدائياً بها، وأكمل تحصيله الثانوي في روضة المعارف بالقدس, وعمل في الصحافة محرراً ورئيساً للتحرير، وفي التدريس فكان مديراً لإحدى المدارس الوطنية بحيفا, توفي بحادث سيارة في حيفا, ودفن في بلده, له (الرحيل-ط) ديوان شعره جمع وطبع بعد وفاته.
(2) - سورة الإنسان الآية (2) .
فالعاقل لا يقتله اليأس فهو يستطيع أن ينهض بعد الكبوة وأن ينتصر بعد الإخفاق ويملأ صحيفته وأيامه وتأريخه بالأعمال الصالحة والخلق الكريم, فأصخ سمعك إلى التشجيع والحماسة التي يتحدث عنها الشابي (1) حيث يقول:
وقالتْ ليَ الأَرضُ لما سألتُ ... أيا أمُّ هل تكرهينَ البَشَرْ
أُباركُ في النَّاسِ أهلَ الطُّموحِ ... ومَن يَسْتَلِذُّ ركوبَ الخطرْ
وأَلعنُ مَنْ لا يماشي الزَّمانَ ... ويقنعُ بالعيشِ عيشِ الحجرْ
فضع نفسك في المحل الذي يحبه الله تعالى ويرضاه, وأهتم بنظافتك وعملك وتذكر أن الله جل وعلا يقول: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (2) , ويقول: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (3) .
ابتعد عن الذين يحبطون عزيمتك, ويفترون إصرارك فهم أعداؤك, وتأمل معي قول الحق تبارك وتعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (4) .
__________
(1) - أبو القاسم بن محمد بن أبي القاسم الشابي, شاعر تونسي في شعره نفحات أندلسية، ولد في قرية الشابية من ضواحي توزر عاصمة الواحات التونسية في الجنوب, قرأ العربية بالمعهد الزيتوني بتونس وتخرج من مدرسة الحقوق التونسية وعلت شهرته, ومات شاباً بمرض الصدر ودفن في روضة الشابي بقريته, له (ديوان شعر-ط) و (كتاب الخيال الشعري عند العرب) و (آثار الشلبي-ط) و (مذكرات-ط) .
(2) - سورة الأعراف الآية (31) .
(3) - سورة الأنعام الآية (38) .
(4) - سورة البقرة الآية (268) .
إن كلمات مفعمة بالتشجيع مصبوغة بالإصرار والتحدي قد تصنع في النفس ما لا تصنعه الملايين ولا القصور, وقد تبعث فيها من الأمل ما لا يقدر عليه الأطباء والعقاقير, تدبر قول الحق تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (1) , وتذكر أن كلما تحويه صحيفة أعمالك هو ما تسجله أنت بأعمالك وأفعالك, وفي الذكر الحكيم: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (2) .
فالله حفيظ لا ينسى كل أعمالك, وكل أقوالك, وكل مواقفك, وكل عطاءتك, وكل منعك, وكل الصراعات التي في ذهنك, فأعمالك كلها مسجلة, قال الله تعالى: {لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} (3) .
__________
(1) - سورة إبراهيم الآيتان (24و25) .
(2) - سورة الزلزلة الآيتان (7و .
(3) - سورة آل عمران الآية (181) .
القلم صائغ الكلام, والمعبر عن أجمل البيان بما يخطه من أفصح الكلام, فيظهر ما في النفس من المعاني التي تشرق بها الآمال, وتتحقق بها الأعمال, فهو ترجمان القلب وبريد اللسان, وقد نسب إلى بعض ملوك اليونان أنه قال: "أمر الدنيا والدين تحت شيئين: قلم وسيف, والسيف تحت القلم" (1) , وبالقلم تحفظ العلوم وتعلّم, وتدون الأفكار وتنشر, ولولاه لما انتظم عقد البيان, ولما شاع العلم بين الأنام, فبه خطت المقادير, وأجريت التدابير, وهو أول ما خلق الله العزيز القدير, وفي الحديث الشريف: (إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ, قَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ) (2) , وأول ما نزل من القرآن الكريم قول العزيز الحكيم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (3) , وفي ذلك دليل وبرهان على عظيم تكريم الله تعالى للإنسان الذي علّمه بالقلم ما لم يكن يعلم, ألا ترى أن الحق سبحانه وتعالى أمر نبيه بالقراءة باسمه تبارك وتعالى, ثم ذكر التفضيل على عباده بخلقه إياهم, وما ندبهم له بذلك من البقاء الدائم والنعيم المتصل, لمن آمن به ووحده وصدّق نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ثم أتبع ذلك بذكر الإنعام عليهم بما
__________
(1) - انظر أدب الكتاب تأليف الإمام أبي بكر محمد بن يحيى بن عبد الله الصولي المتوفى سنة 335هـ شرح وتعليق احمد حسن لبج, ص36, الناشر: دار الكتب العلمية بيروت لبنان, الطبعة الأولى 1415هـ.
(2) - أخرجه أبو داود في سننه باب في القدر حديث (4078) .
(3) - سورة العلق الآيات (1-5) .
علمهم من الكتاب الذي به قوام أمر دينهم ودنياهم, واستقامة معائشهم وحفظها, ولولا أن من لا يحسن الكتابة يجد ممن يحسنها معونة وإبانة عنه, لما استقام له أمر, ولا تم له عزم, ولحل محل الصور الممثلة, والبهائم المهملة. ومعنى قوله (الذي علّم بالقلم) : الذي علّم الكتابة بالقلم. (1)
القلم تحيا به الأمم وتتعلّم
القلم به تحيا الأمم وتتعلّم فهو الذي يعبر به عمّا في الضمير, وهو طبيب المنطق وبريد القلب, قال عبد الحميد الكاتب: "القلم شجرة ثمرتها الألفاظ, والفكر بحر لؤلؤه الحكمة", وقال ابن المقفع: "القلم بريد القلب يخبر بالخبر وينظر بلا نظر", وقيل: "القلم سفير العقل, ورسوله الأنبل, ولسانه الأطول, وترجمانه الأفضل, والقلم أصم يسمع النجوى, وأخرس يفصح بالدعوى, وجاهل يعلم الفحوى", وقيل: "عقول الرجال تحت أقلامها, والقلم راقد في الأفئدة مستيقظ في الأفواه", وبمداد أقلام العلماء وسيوف الشجعان الحكماء من المجاهدين العظماء بنيت الممالك وأمن الناس من المهالك, ورحم الله من سجل بقلمه ما يدعو المسلمين إلى الاجتهاد والجهاد, فقال:
يا أيها المغمدان السيف والقلم ... متى يسح مداد منكما ودم (2)
__________
(1) - أدب الكتاب ص11.
(2) - هذا البيت للعلامة يحيى بن محمد بن الهادي قاضي الشرع في جبل صبر في عهد الإمام يحيى من قصيدة طويلة ضمن ديوانه المخطوط.
وقال آخر:
هَذا الزَمانُ تُناديكُم حَوادِثُهُ ... يا دَولَةَ السَيفِ كوني دَولَةَ القَلَمِ
فَالسَيفُ يَهدِمُ فَجراً ما بَنى سَحَراً ... وَكُلُّ بُنيانِ عِلمٍ غَيرُ مُنهَدِمِ (1)
دور القلم في سعادة الأمم وشقاؤها
للقلم دور في سعادة الأمم وشقاؤها, وله نصيب في مدحها وهجائها, فبه يتعلّم الجاهل, ويظفر العاقل, وقديماً قيل: "القلم لسان البصر يناجيه بما استتر عن الأسماع, إذا نسح حلله وأودعها حكمه", فهو أنف الضمير إذا رعف أعلن أسراره وأبان آثاره, وبنوء القلم تصوب الحكمة, وقال ابن أبي دؤاد: "القلم الدنيا والآخرة". (2) وفي الأمثال السائرة: "عقول الرجال تحت أسنة أقلامها", وقيل:"الأقلام مطايا الفطن".
ويرحم الله شوقي حيث يقول:
سُبحانَكَ اللَهُمَّ خَيرَ مُعَلِّمٍ ... عَلَّمتَ بِالقَلَمِ القُرونَ الأولى
أَخرَجتَ هَذا العَقلَ مِن ظُلُماتِهِ ... وَهَدَيتَهُ النورَ المُبينَ سَبيلا
وقال ابن أبي حصينة (3) :
جَزى اللَهُ خَيراً ظُهورَ الرِكاب ... وَأَحسَنَ عَنِيّ جَزاءَ القَلَم
__________
(1) - هذان البيتان لأحمد شوقي من قصيدة مطلعها:
الدَهرُ يَقظانُ وَالأَحداثُ لَم تَنَمِ ... فَما رُقادُكُمُ يا أَشرَفَ الأُمَمِ
(2) - أدب الكتاب ص63.
(3) - الحسن بن عبد الله بن أحمد بن عبد الجبار بن أبي حصينة أبو الفتح الشامي. (388-457هـ/998-1064م) شاعر من الأمراء ولد ونشأ في معرة النعمان بسورية انقطع إلى دولة بني مرداس في حلب فامتدح عطية بن صالح المرداسي فملكه ضيعة فأثرى, وأوفده ابن مرداس إلى الخليفة المستنصر العلوي بمصر رسولاً سنة 437هـفمدح المستنصر بقصيدة وأعقبها بثانية سنة 450هـ فمنحه المستنصر لقب الإمارة, ثم كتب له سجلاً بذلك فأصبح يحضر في زمرة الأمراء ويخاطب بالإماره وتوفي في سروج, له (ديوان شعر -ط) طبع بعناية المجمع العلمي بدمشق مصدراً بمقدمة من إملاء أبي العلاء المعري وقد قرئ عليه.
وقال أيضاً:
ما أَقبَحَ العِرضَ مَدنُوساً بِفاحِشَةٍ ... يَخُطُّها اللَوحُ أَو يَجري بِها القَلَمُ
وقال بعض الكتاب: " القلم الرديء كالولد العاق", وقالوا: "القلم أحد اللسانين, والعم أحد الأبوين, والتثبت أحد العفوين, والمطل أحد المنعين, وقلة العيال أحد اليسارين, والقناعة أحد الرزقين, والوعيد أحد الضربين, والرواية أحد الهاجيين, والهجر أحد الفراقين, واليأس أحد النجحين, والمزاح أحد السبابين", وقيل: "القلم لسان اليد", وقد فاخر صاحب سيف صاحب قلم, فقال صاحب القلم: انا أقتل بلا غرر وأنت تقتل على خطر, فقال صاحب السيف: القلم خادم السيف فإن بلغ مراده وإلا فإلى السيف معاده, أما سمعت قول أبي تمام (1) :
السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ ... في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ
أما الصنوبري (2) فهو يقول:
ما كنتُ أحسَبُ أنَّ الخِنجَرَ القَلَمُ ... مِنْ قبلِ هذا ولا أنَّ المِدادَ دَمُ
__________
(1) - حبيب بن أوس بن الحارث الطائي, (188-231هـ/803-845 م) , أحد أمراء البيان، ولد بجاسم (من قرى حوران بسورية) ورحل إلى مصر واستقدمه المعتصم إلى بغداد فأجازه وقدمه على شعراء وقته فأقام في العراق ثم ولي بريد الموصل فلم يتم سنتين حتى توفي بها, كان أسمر، طويلاً، فصيحاً، حلو الكلام، فيه تمتمة يسيرة، يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة من أراجيز العرب غير القصائد والمقاطيع, في شعره قوة وجزالة، له تصانيف، منها فحول الشعراء، وديوان الحماسة، ومختار أشعار القبائل، ونقائض جرير والأخطل، نُسِبَ إليه ولعله للأصمعي كما يرى الميمني, نشأ في دمشق وعمل حائكاً فيها ثمَّ انتقل إلى حمص وبدأ بها حياته الشعرية, وفي أخبار أبي تمام للصولي: أنه كان أجش الصوت يصطحب راوية له حسن الصوت فينشد شعره بين يدي الخلفاء والأمراء.
(2) - أحمد بن محمد بن الحسن بن مرار الضبي الحلبي الأنطاكي أبو بكر, المتوفى سنة 334 هـ945م, شاعر اقتصر في أكثر شعره على وصف الرياض والأزهار, وكان ممن يحضر مجالس سيف الدولة تنقل بين حلب ودمشق وجمع الصولي ديوانه في نحو 200ورقه وجمع الشيخ محمد راغب الطباخ ما وجده من شعره في كتاب سماه (الروضيات-ط) صغير, وفي كتاب (الديارات-ط) للشابشتي زيادات على ما في الروضيات.
حتَّى كتَبْتَ فما أبقَيْتَ جَارِحَةً........إِلاّ وَفيها عَلى مِقدارِاها أَلمُ
يا كاتِباً جَرَحَتْ روحي كَتَابَتُهُ ... والجُرْحُ في الرُّوحِ جرحٌ ليسً يَلتَئِمُ
اِذْهبْ فحَقُّ أميرٍ أنْتَ كاتِبُهُ ... أنْ لا يَقومَ لَهُ عُرْبٌ ولا عَجَمُ
وقال بشر بن الحارث (1) : "لسان الإنسان قلم ملكه الموكل به, وريقه مداده, وقرطاسه جلده, يملي عليه كتاباً إلى ربه, فلينظر الإنسان قبل فوت النظر ماذا يملي", وفي الذكر الحكيم: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (2) , وفي سورة ق: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (3) , وفي سورة عبس يقول المولى جل وعلا: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} (4) , فالسفرة الكتبة الواحد سافر والجمع سفرة مثل كافر وكفرة, ومعنى سافر كاتب يكتب في الأسفار واحدها سفرة وهي الصحف وسفر إذا كتب من سفر فهو سافر, ورحم الله القائل:
ونحن الكاتبون وقد أسأنا ... فهبنا للكرام الكاتبين
وبالقلم كتب القرآن وجمع, وبه حفظت الألسن والآثار, ووكدت العهود, وسيقت التواريخ, وبقيت الصكوك, وأمن الإنسان النسيان,
__________
(1) - بشر بن الحارث بن علي بن عبد الرحمن المروزي أبو نصر الحافي محدث ثقة توفى سنة 227هـ.
(2) - سورة الانفطار الآيات (10-13) .
(3) - الآيات (16-18) .
(4) - الآيتان (16-17) .
وقيدت الشهادات والأحكام, وأنزل الله تعالى في ذلك آية المداينة وهي أطول آية في القرآن. ولله در القائل:
إن الكتابة رأس كل صناعة ... وبها تتم جوامع الأعمال
فاحرص أخي على تعلّم القراءة والكتابة تظفر بالحسنى وزيادة, ودع عنك المفاخرة بالقلم وتعلم الهجاء والذم, ولطالما تفاخر الشعراء بالقلم ووصفوه بما توصلت إليه أفهامهم في مدائحهم وهجائهم, ومن ذلك قول الشاعر:
فلي قلم في رقمه سم أرقم ... تراه إذا أرسلته حيةً تسعى
يزيد سناء الشمس بالمدح بهجةً ... ويلبسها من هجوه خطةً شنعا (1)
وقال آخر:
لا تُهاوِن بِصَغيرٍ مِن عِدىً ... فَقَديماً كَسَرَ الرُمحُ القَلَم
وَتَرَقَّب مِن سَليلٍ صُنعَهُ ... فَمِنَ البَيعِ قِياضٌ وَسَلَم (2)
وقال أبو تمام:
لَكَ القَلَمُ الأَعلى الَّذي بِشَباتِهِ ... تُصابُ مِنَ الأَمرِ الكُلى وَالمَفاصِلُ
لُعابُ الأَفاعي القاتِلاتِ لُعابُهُ ... وَأَريُ الجَنى اِشتارَتهُ أَيدٍ عَواسِلُ
فَصيحٌ إِذا اِستَنطَقتَهُ وَهوَ راكِبٌ ... وَأَعجَمُ إِن خاطَبتَهُ وَهوَ راجِلُ
والعاقل إنما يكتب بقلمه ما ينفع ولا يضر, فهو لا يسجل لغو الحديث, ولا العمل الخسيس, ولا يكتسب به المآثم, ولا يستحل به المحارم, ولا يسجل به ما يوقع في المعاصي, ويحرض على الملاهي, ويرغب في الشقاء, ويجلب الفتنة, ويتسبب في الأذى, ويدعو إلى ظلم العباد, فما أحسن القلم الذي يقتصر في كتابته على الكلام الجميل, وما يدعو إلى طاعة الملك الجليل, ولله در القائل:
وَما مِن كاتِبٍ إِلا سَيفني ... وَيَبقي الدَهر ما كَتَبتَ يَداه
فَلا تَكتُب بِكفك غَير شَيءٍ ... يَسرك في القِيامة إِن تَراه (3)
وفي الذكر الحكيم: {ن~ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} (4) ,
القلم الالكتروني
لقد كان القرآن الكريم سباقاً إلى الإرشاد بحفظ حقوق العباد وإثباتها كتابةً بالخط المعتاد سواءً كان ذلك بالقلم التقليدي العادي أو بالقلم الإلكتروني, فقد صرح في سورة البقرة بما يفيد التوجيه إلى التوثيق بالكتابة
__________
(1) - هذان البيتان من قصيدة للأديب الكبير والشاعر القدير احمد بن محمد الأنسي مطلعها:
ألا حييّ ذاك الحي من ساكني صنعاء ... فكم أحسنوا بالنازلين بهم صُنعاً
وانظر نشر العرف لنبلاء اليمن بعد الألف للعلامة محمد بن محمد زبارة إعداد مركز الدراسات والبحوث اليمني, ص78.
(2) - هذان البيتان من قصيدة لأبي العلاء المعري مطلعها:
صاحِبُ الشُرطَةِ إِن أَنصَفَني ... فَهوَ خَيرٌ لِيَ مِن عَدلٍ ظَلَم
(3) - نسبت هذه الأبيات لأمين الجندي, وهو أمين بن خالد بن محمد بن أحمد الجندي (1180-1257هـ/1766-1841م) شاعر، من أعيان مدينة حمص، مولده ووفاته فيها، تردد كثيراً إلى دمشق فأخذ عن علمائها وعاشر أدباءها، ولما كانت سنة 1246 هـ قدم حمص عامل من قبل السلطان محمود العثماني فوشى إليه بعض أعوانه بأن أمين الجندي هجاه، فأمر بنفيه، وعلم الشيخ أمين بالأمر ففر إلى حماة، فأدركه أعوان العامل، فأمر بحبسه في إصطبل الدواب وحبس عنه الطعام والشراب إلا ما يسد به الرمق، فأقام أربعة أيام، وأغار على حمص بمئتي فارس فقتلوا العامل، وأفرج عن الشيخ أمين. له (ديوان شعر - ط) وفي شعره كثير من الموشحات وتواريخ الوفيات الشائعة في أيامه.
(4) - سورة القلم الآيتان (1و2) .
والإشهاد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ... الآية} (1) , والأمر بالكتابة دليل على مشروعيتها ويعم ذلك جميع أنواع الكتابة إذا استوفت شروطها وضوابطها؛ سواءً تمت بالقلم التقليدي بالكتابة المعروفة بخط اليد أو بالآلة الكاتبة أو أن هذه الكتابة تمت الكترونياً أو بأي وسيلة, فالنص يعمها جميعاً, فكلما يخط به ويسطر به معاني لأي لغة وبأي وسيلة فهو كتابة (2) , ومما يؤيد ذلك قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (3) أي كتاب, وقوله سبحانه وتعالى: {ن~ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (4) .
الكتابة الإلكترونية: ماهيتها وطبيعتها
يمكننا في هذه العجالة تعريف ماهية الكتابة الإلكترونية التي تدور عليها رحى المعاملات الإلكترونية في شتى المجالات في العالم المعاصر بالأتي:
((الكتابة الإلكترونية: طبيعتها وماهيتها)) هي عبارة عن المعلومات أو البيانات التي يتم إنشاؤها ومعالجتها وإرسالها أو تخزينها واسترجاعها بوسائل إلكترونية أو ضوئية أو بوسائل مشابهة, فهي: كل حروف أو أرقام أو رموز أو أي علامات أخرى تثبت على دعامة إلكترونية أو ضوئية أو أي وسيلة أخرى مشابهة وتعطي دلالة قابلة للإدراك, وسواءً كانت هذه المعلومات المستخدمة لغوية أو غير لغوية مقروءة أو مسموعة أو منظورة اشتملت على عقد أو وعد أو عهد أو إعلام أو التزام أو اتفاق أو قصص أو خبر ... إلخ, وسواء تم إنشاؤها أو تبادلها على شكل رقمي أو تماثلي.
لقد اخترنا في هذا التعريف لفظ (المعلومات أو البيانات التي يتم إنشاؤها ومعالجتها ... الخ) , ليشتمل اللفظ بعمومه كل المستندات والسجلات والرسائل ... إلخ التي يتم إنشاؤها ومعالجتها وتخزينها أو استرجاعها واستخراجها أو نقلها أو نسخها أو إبلاغها أو استلامها, وعلى مختلف الصور والأشكال التي تتم فيه بوسيلة إلكترونية على وسيط ملموس أو على أي وسيط آخر, وهذا التعريف هو ما تم استخلاصه من مجموع ما أفهمته طبيعة الكتابة الإلكترونية من خلال ما وقفنا عليه من المراجع العلمية, والتي لا تبدوا متباينة في معانيها كثيراً وإن اختلفت في بعض أشكالها في الجمل والألفاظ. (5)
أما فقهاء الشريعة الإسلامية فإن الكتابة في مصطلحهم: هي الخط الذي يعتمد عليه في توثيق الحقوق وما يتعلق بها للرجوع إليه عند الإثبات الممهور بتوقيع أو ختم أو بهما معاً (6) , وهذا التعريف بعمومه يشمل: الصك والحجة والمحضر والسجل والوثيقة والبصيرة والكتاب, ويشمل أيضا
__________
(1) - سورة البقرة الآية (282) . .
(2) - أحكام التعامل بالإنترنت -بحث من بحوثنا المنشورة على- مجلة التحكيم العدد (85) مارس2007م ص19 وما بعدها.
(3) - سورة يس الآية (12) .
(4) - سورة القلم الآية (1) .
(5) - لتفصيل أوسع انظر: القوة الثبوتية في المعاملات الالكترونية (بحث من بحوثنا) المنشور في مجلة التحكيم ومجلة البحوث القضائية.
(6) - انظر: وسائل الإثبات للدكتور محمد الزالمحررات الرسمية والعرفية والمحررات الإلكترونية والكتابة بالكمبيوتر والفاكس والتلفون, ويشمل جميع أنواع الكتابة التي عرفها الفقهاء. (1)
القوة الثبوتية للكتابة الالكترونية
من المسلَّم به أن التعرف على طبيعة وماهية الكتابة الإلكترونية التي تتم في أي تعامل أو عقد أو اتفاقية يتم إبرامها أو تنفيذها بشكل كلي أو جزئي بواسطة الوسائل الإلكترونية لا تكتسب القوة الثبوتية إلا بشروط خمسة:
الشرط الأول: الكتابة: لاعتبار أن الكتابة هي الأسلوب المعبر عن الإرادة وسبق تعريف الكتابة الإلكترونية.
الشرط الثاني: التوقيع: باعتبار أن التوقيع هو الشرط الجوهري في جميع المحررات فهو يثبت إقرار الموقع على ما هو مدون وموجود في المحرر, فلا ينتج المحرر الإلكتروني آثاره القانونية دون توقيع يميز هوية الموقع ويعبر عن موافقته عليه ضمن الشروط والضوابط التي تشترطها القوانين, وارتباط التوقيع بالموقع وحده دون غيره.
الشرط الثالث: التوثيق: فتوثيق التصرف الذي يتم عبر الوسائل الإلكترونية فيه حفظ لحقوق المتعاملين من إي اعتداء أو غش وهو أمر يستوجب القيام بتوثيق المحرر لدى جهة يتفق عليها وتكون معتمدة من قبل الحكومة وتعنى هذه الجهة بالتحقق من صحة المحرر الذي تم إصداره وتتبع
__________
(1) - أحكام التعامل بالإنترنت -بحث من بحوثنا المنشورة على- مجلة التحكيم العدد (85) مارس2007م ص21و22.حيلي ج2ص415 الطبعة الأولى, ومؤلفنا: عمدة المسير ج3ص9.
أي تغييرات أو أخطاء تحدث, وفي حالة إتمام توثيق المحرر الإلكتروني يتم منح صاحب المحرر رمز التعريف الشخصي الخاص به, ويتم إصدار هذا الرمز من قبل الجهة المختصة المرخص لها بتوثيق التوقيع الإلكتروني, إذ أنه يهدف التحقق من أن القيد إلكترونياً لم يتعرض لأي تعديل, ... ويعتبر هذا القيد موثوقاً من تأريخ التحقق منه, وتكون شهادة التوثيق التي تبين رمز التعريف معتمدة. (1)
وتباينت وجهات نظر المقننين في تحديد جهة التوثيق فهو في القانون المصري مخول تحديد ذلك لهيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات وفقاً لقانون تنظيم التوقيع الإلكتروني, وهو مناط في التشريع الأردني بمجلس الوزراء تحديد هذه الجهات, كما أسند قانون المعاملات والتجارة الإلكتروني لإمارة دبي التوثيق إلى رئيس الحكومة لإصدار قرار لتعيين مراقب لخدمات التصديق لغرض ترخيص وتصديق ومراقبة مزودي خدمات التصديق, وحدد المشرع التونسي الوكالة الوطنية للمصادقة الإلكترونية. (2)
__________
(1) - انظر: المواد (32-36) من قانون أنظمة الدفع والعمليات المالية والمصرفية الإلكترونية اليمني, الصادر بالقانون رقم (40) لسنة 2006م
(2) - انظر: المادة (19) وما بعدها من قانون تنظيم التوقيع الإلكتروني المصري, والمادة (2) من قانون المعاملات الإلكترونية الأردني, والمادة (2) من قانون المعاملات والتجارة الإلكترونية لإمارة دبي, والفصل الثامن إلى العاشر من قانون المبادلات والتجارة الإلكترونية التونسي.
الشرط الرابع: إمكانية الاحتفاظ بالمحرر الإلكتروني في شكله الأصلي المتفق عليه, دون أن يلحقه أي تغيير: وهو ما أفصحت عنه التشريعات الخاصة بالمعاملات الإلكترونية. (1)
الشرط الخامس: إمكانية استرجاع المحررات الإلكترونية المحفوظة, بحيث لا تتعرض للمحو, والمحو في اللغة: تعفية الأثر حتى لا يرى.
ويروى عن الأصمعي: لِمَ سمت العرب الشمال محوة؟ قال: لأنها تمحو السحاب ولا يرى شخصه, واستدعى أبو نواس (2) أن يكثر له المكاتب المحو في كتابه فقال:
كَثِّري المحوَ في الكِتابِ وَمُجّيـ ... ـهِ بِريقِ اللِسانِ لا بِالبَنانِ
وَأَمِرّي الحِزامَ بَينَ ثَنايا ... كِ العِذابِ المُفَلَّجاتِ الحِسانِ
إِنَّني كُلَّما مَرَرتُ بِسَطرٍ ... فيهِ مَحوٌ لَطَعتُهُ بِلِساني
فَأَرى ذاكَ قُبلَةً مِن بَعيدٍ ... أَسعَدَتني وَما بَرِحتُ مَكاني
__________
(1) - انظر: المادة (2) من قانون الأونستيرال النموذجي, والمادة ( من قانون المعاملات الإلكترونية الأردني, والمادة ( من قانون المعاملات والتجارة الإلكترونية لإمارة دبي, والمادة (9) من قانون التجارة البحريني, والمادة (11) من قانون أنظمة الدفع والعمليات المالية والمصرفية الإلكترونية اليمني.
(2) - الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن صباح الحكمي بالولاء. (146-198هـ/763-813م) , شاعر العراق في عصره. ولد في الأهواز من بلاد خوزستان ونشأ بالبصرة، ورحل إلى بغداد فاتصل فيها بالخلفاء من بني العباس، ومدح بعضهم، وخرج إلى دمشق، ومنها إلى مصر، فمدح أميرها، وعاد إلى بغداد فأقام بها إلى أن توفي فيها, كان جده مولى للجراح بن عبد الله الحكمي، أمير خراسان، فنسب إليه، وفي تاريخ ابن عساكر أن أباه من أهل دمشق، وفي تاريخ بغداد أنه من طيء من بني سعد العشيرة, هو أول من نهج للشعر طريقته الحضرية وأخرجه من اللهجة البدوية، وقد نظم في جميع أنواع الشعر، وأجود شعره خمرياته.
ومحوت الكتاب أمحوه محواً بالواو, وهي في لغة: محيت أمحي محياً, وفي أمثال العرب: "ما أنت إلا ممحياً كاتبا", فإذا أمرت قلت: امحُ, والواو أفصح وبها نزل القرآن: {يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (1) .
تسمية ما يكتب فيه عند العرب
تسمي العرب ما يكتب فيه القرطاس أو الصحيفة أو السفر, ويجمع القرطاس على قراطيس, والصحيفة على صحائف, والسفر على أسفار (2) , وقد نزل القرآن بجميعها, ففي سورة الأنعام يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} (3) , ويقول جل شأنه: {وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (4) .
وقد أكثر العرب من ذكر القراطيس في أخبارهم وأشعارهم ومن ذلك قول العباس بن الأحنف (5) :
__________
(1) - سورة الرعد الآية (39) .
(2) - أدب الكتاب ص104.
(3) - الآية (7) .
(4) - سورة الأنعام الآية (91) .
(5) - العبّاس بن الأحنف بن الأسود، الحنفي (نسبة إلى بني حنيفة) ، اليمامي، أبو الفضل, المتوفى (192هـ/807م) شاعر غَزِل رقيق، قال فيه البحتري: أغزل الناس، أصله من اليمامة بنجد، وكان أهله في البصرة وبها مات أبوه ونشأ ببغداد وتوفي بها، وقيل بالبصرة. خالف الشعراء في طرقهم فلم يمدح ولم يَهجُ بل كان شعره كله غزلاً وتشبيباً، وهو خال إبراهيم بن العباس الصولي، قال في البداية والنهاية: أصله من عرب خراسان ومنشأه ببغداد.
جاءَ الرَسولُ بِقُرطاسٍ فَشَوَّقَني ... مِنها فَأَحبَبتُ مِنهُ كُلَّ قُرطاسِ
فيهِ مُعاتَبَةٌ مِنها تُذَكِّرُني ... ما كانَ مِنها كَأَنّي غافِلٌ ناسِ
وقال آخر:
إن القراطيس من نفسي بمنزلة ... تكون كالسمع والعينين في الراسي
لولا القراطيس مات العاشقون معاً ... هذا بغم وهذكم بوسواسي
أما ابن مكنسة (1) فهو يقول:
أهلاً بها جنةً أَهْدَ ثمارَ نُهى ... وعرَّس الطَّرْفُ فيها أَيَّ تعريسِ
ما دار في خَلَدِي لولا كتابكُمُ ... أَنَّ البساتينَ تُهْدَى في القراطيس
وقال آخر:
وشق قرطاس من تهوى وكن حذرا ... يا رب ذي ضيعة من حفظ قرطاس
أما الأسفار فقد ورد ذكرها في كلام العزيز الجبار إخباراً عن أحوال من حمّلوا التوراة ثم لم يحملوها قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (2) , وفي ذلك عظة واعتبار, فمن ذا الذي يحب أن يكون مثل الحمار لا يعمل بما تحويه الأسفار؟!! فحظه من حملها مثل حظ الحمار.
__________
(1) - إسماعيل بن محمد، أبو طاهر المعروف بابن مكنسة (ت 510هـ1116) شاعر مكثر، من أهل الإسكندرية، أورد العماد الأصفهاني مختارات حسنة من شعره.
(2) - سورة الجمعة الآية (5) .
وقد ورد ذكر الأسفار في أخبار العرب وأشعارهم, في إقامتهم وأسفارهم, وفي مديحهم وفي هجائهم, وقد أحسن ابن الصباغ حيث يقول في مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:
أي الكتاب بفخره قد أنزلتِ ... وبمدحه قد نظمت أسفار
أما العلامة احمد بن حجر العسقلاني (1) فهو يقول:
سَلوا النجمَ يَشهَد أَنَّني بِتُّ ساهِداً ... وَإِلا الدُجى هَل طابَ لي فيهِ مضجعُ
أُطالِعُ أَسفارَ الحَديثِ تَشاغُلاً ... لأَقطَعَ أَسفاري بخُبرٍ يجمَّعُ
فليس للأسفار بعد الحفظ من فائدة غير دراستها والعمل بما فيها, ولقد كان ذلك دأب العلماء كما هو حال العلامة ابن حجر.
أما أحمد الكاشف (2) فهو يرى أن العلم ما دارت به الأيام لا ما حوته الكتب والأسفار فيقول:
والعلم ما دارت به الأيام لا ... ما جاء في كتب وفي أسفار
__________
(1) - أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني أبو الفضل شهاب الدين بن حجر, (773-852هـ/1371-1449م) , من أئمة العلم والتاريخ أصله من عسقلان (بفلسطين) ومولده ووفاته بالقاهرة، ولع بالأدب والشعر ثم أقبل على الحديث, ورحل إلى اليمن والحجاز وغيرهما لسماع الشيوخ، وعلت شهرته فقصده الناس للأخذ عنه وأصبح حافظ الإسلام في عصره, وكان فصيح اللسان، راوية للشعر، عارِفاً بأيام المتقدمين وأخبار المتأخرين صبيح الوجه، وولي قضاء مصر عدة مرات ثم اعتزل, تصانيفه كثيره جليلة منها: (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة-ط) ، و (لسان الميزان-ط) تراجم، و (ديوان شعر-خ) ، و (تهذيب التهذيب-ط) ، و (الإصابة في تمييز الصحابة-ط) وغيرها الكثير.
(2) - أحمد بن ذي الفقار بن عمر الكاشف, (1295-1367هـ/1878-1948م) , شاعر مصري، من أهل القرشية (من الغربية بمصر) ، مولده ووفاته فيها قوقازي الأصل, قال خليل مطران: الكاشف ناصح ملوك، وفارس هيجاء ومقرع أمم، ومرشد حيارى, له ديوان شعر-ط) .
والظاهر أن الأيام تعلّم وتفيد أن من لم يعمل بعلمه ويستفيد من الأسفار فإن الأسفار لا تفيده فهو كمثل الحمار, كما أعلم الحق سبحانه وتعالى بذلك.
أما الصحف فقد ورد ذكرها في القرآن الكريم في اخبار الله العلي العظيم الدالة على كمال حكمته وجليل قدرته وصدق نبوءة محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} (1) , وفي سورة طه: {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} (2) , وفي سورة التكوير النبأ اليقين: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} (3) .
ويغفر الله لابن الأحنف حيث يقول:
صَحائِفُ عِندي لِلعِتابِ طَوَيتُها ... سَتُنشَرُ يَوماً وَالعِتابُ يَطولُ
عِتابٌ لَعَمري لا بَنانٌ تَخُطُّهُ ... وَلَيسَ يُؤَدّيهِ إِلَيكِ رَسولُ
ولله در القائل:
يا حروفاً قد أضاءت في الصحف ... أخبرتني بأحاديث السلف
__________
(1) - الآيتان (18و19) .
(2) - الآية (133) .
(3) - الآيات (10-14) .
قدرها عندي لو تعلمه.........كل فضل وجلال وشرف (1)
أما أبو العلاء المعري فهو يقول:
وَجاءَت صَحائِفُ قَد ضُمِّنَت ... كَبائِرَ آثامِهِم وَاللِمَم
رَأَيتُ بَني الدَهرِ في غَفلَةٍ ... وَلَيسَت جَهالَتُهُم بِالأُمَم
فَنُسكُ أُناسٍ لِضَعفِ العُقولِ ... وَنُسكُ أُناسٍ لِبُعدِ الهِمَم
ويقول أبو فراس الحمداني (2) :
وَما هَذِهِ الأَيّامُ إِلا صَحائِفٌ ... لأَحرُفِها مِن كَفِّ كاتِبِها بَشرُ
أما عماد الدين الأصبهاني (3) فهو يقول:
وما هذه الأَيامُ إلاَّ صحائف ... يؤرَّخ فيها ثمَّ يُمحى ويُمحقُ
وعلى نفس المنوال سلك عمارة اليمني (4) حيث يقول:
__________
(1) - مقامات القرني العلامة والأديب الكبير صاحب القلم السيال واللسان العذب والكلام الطيب والعلم الغزير الدكتور عائض بن عبد الله القرني, ص215، طبعة مكتبة الصحافة الشارقه-الامارات مكتبة التابعين- القاهرة، الطبعة الثالثة 1423هـ-2002م.
(2) - الحارث بن سعيد بن حمدان التغلبي الربعي، أبو فراس (320-357 هـ/932-967م) شاعر أمير، فارس، ابن عم سيف الدولة. له وقائع كثيرة، قاتل بها بين يدي سيف الدولة، وكان سيف الدولة يحبه ويجله ويستصحبه في غزواته ويقدمه على سائر قومه، وقلده منبج وحران وأعمالها، فكان يسكن بمنبج ويتنقل في بلاد الشام, جرح في معركة مع الروم، فأسروه وبقي في القسطنطينية أعواماً، ثم فداه سيف الدولة بأموال عظيمة, قال الذهبي: كانت له منبج، وتملك حمص وسار ليتملك حلب فقتل في تدمر، وقال ابن خلّكان: مات قتيلاً في صدد (على مقربة من حمص) ، قتله رجال خاله سعد الدولة.
(3) - محمد بن محمد صفي الدين بن نفيس الدين حامد بن أله أبو عبد الله عماد الدين الأصبهاني (519-597هـ/1125-1201م) مؤرخ عالم بالأدب، من أكابر الكتاب، ولد في أصبهان، وقدم بغداد حدثاً، فتأدب وتفقه, واتصل بالوزير عون الدين "ابن هبيرة" فولاه نظر البصرة ثم نظر واسط، ومات الوزير، فضعف أمره، فرحل إلى دمشق, فاستخدم عند السلطان "نور الدين" في ديوان الإنشاء، وبعثه نور الدين رسولاً إلى بغداد أيام المستنجد ثم لحق بصلاح الدين بعد موت نور الدين, وكان معه في مكانة "وكيل وزارة" إذا انقطع (الفاضل) بمصر لمصالح صلاح الدين قام العماد مكانه, لما ماتَ صلاح الدين استوطن العماد دمشق ولزم مدرسته المعروفة بالعمادية وتوفي بها, له كتب كثيرة منها (خريدة القصر-ط) وغيره، وله (ديوان شعر) .
(4) - عمارة بن علي بن زيدان الحكمي المذحجي اليمني، أبو محمد، نجم الدين (ت 569هـ1174م) مؤرخ ثقة، وشاعر فقيه أديب، من أهل اليمن، ولد في تهامة ورحل إلى زبيد سنة 531هـ، وقدم مصر برسالة من القاسم بن هشام (أمير مكة) إلى الفائز الفاطمي سنة 550هـ في وزارة (طلائع بن رزيك) فأحسن الفاطميون إليه وبالغوا في إكرامه، فأقام عندهم، ومدحهم. ولم يزل موالياً لهم حتى دالت دولتهم وملك السلطان (صلاح الدين) الديار المصرية، فرثاهم عمارة واتفق مع سبعة من أعيان المصريين على الفتك بصلاح الدين، فعلم بهم فقبض عليهم وصلبهم بالقاهرة، وعمارة في جملتهم. له تصانيف، منها (أخبار اليمن- ط) ، و (أخبار الوزراء المصريين- ط) ، و (المفيد في أخبار زبيد) ، و (ديوان شعر-خ) .وما هذه الأعمار إلا صحائفٌ ... تؤرخ وقتاً ثم تُمحى وتُمحق
أما مطلق بن عبد الخالق (1) فهو يقول:
وما كنت أخشى الموت لولا صحيـ ... ـفة لو انقلبت بيضاء ساد سكون
وذهب كثير من الشعراء على اعتبار الحياة صحيفة يؤرخ فيها كل شيء, وهي كذلك, لا يدوم فيها نعيم, ولا تخلو من هم وغم, وإنما هي دار ابتلاء وامتحان, قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} (2) , فالعاقل لا يثق بها بل يثق بالله الواحد القهار, فهو يأخذ من وجهها الكظيم ابتسامة عريضة يسير فيها سيرة الحكماء الأعزة الكرام لأنه يعلم أن اليوم الذي يراك الناس فيه مخبراً غداً ستكون فيه خبراً من الأخبارِ, ويرحم الله القائل:
حُكمُ المَنِيَّةِ في البَرِيَّةِ جاري ... ما هَذِهِ الدُنيا بِدار قَرار
بَينا يَرى الإِنسان فيها مُخبِراً ... حَتّى يُرى خَبَراً مِنَ الأَخبارِ
طُبِعَت عَلى كدرٍ وَأَنتَ تُريدُها ... صَفواً مِنَ الأَقذاءِ وَالأَكدارِ
لَيسَ الزَمانَ وَإِن حرصت مُسالِماً ... خُلُق الزَمانِ عَداوَة الأَحرارِ
__________
(1) - مطلق بن عبد الخالق الناصري, شاعر فيه صوفية، وفي شعره فلسفة, من أهل الناصرة (بفلسطين) ولد وتعلم ابتدائياً بها، وأكمل تحصيله الثانوي في روضة المعارف بالقدس, وعمل في الصحافة محرراً ورئيساً للتحرير، وفي التدريس فكان مديراً لإحدى المدارس الوطنية بحيفا, توفي بحادث سيارة في حيفا, ودفن في بلده, له (الرحيل-ط) ديوان شعره جمع وطبع بعد وفاته.
(2) - سورة الإنسان الآية (2) .
فالعاقل لا يقتله اليأس فهو يستطيع أن ينهض بعد الكبوة وأن ينتصر بعد الإخفاق ويملأ صحيفته وأيامه وتأريخه بالأعمال الصالحة والخلق الكريم, فأصخ سمعك إلى التشجيع والحماسة التي يتحدث عنها الشابي (1) حيث يقول:
وقالتْ ليَ الأَرضُ لما سألتُ ... أيا أمُّ هل تكرهينَ البَشَرْ
أُباركُ في النَّاسِ أهلَ الطُّموحِ ... ومَن يَسْتَلِذُّ ركوبَ الخطرْ
وأَلعنُ مَنْ لا يماشي الزَّمانَ ... ويقنعُ بالعيشِ عيشِ الحجرْ
فضع نفسك في المحل الذي يحبه الله تعالى ويرضاه, وأهتم بنظافتك وعملك وتذكر أن الله جل وعلا يقول: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (2) , ويقول: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (3) .
ابتعد عن الذين يحبطون عزيمتك, ويفترون إصرارك فهم أعداؤك, وتأمل معي قول الحق تبارك وتعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (4) .
__________
(1) - أبو القاسم بن محمد بن أبي القاسم الشابي, شاعر تونسي في شعره نفحات أندلسية، ولد في قرية الشابية من ضواحي توزر عاصمة الواحات التونسية في الجنوب, قرأ العربية بالمعهد الزيتوني بتونس وتخرج من مدرسة الحقوق التونسية وعلت شهرته, ومات شاباً بمرض الصدر ودفن في روضة الشابي بقريته, له (ديوان شعر-ط) و (كتاب الخيال الشعري عند العرب) و (آثار الشلبي-ط) و (مذكرات-ط) .
(2) - سورة الأعراف الآية (31) .
(3) - سورة الأنعام الآية (38) .
(4) - سورة البقرة الآية (268) .
إن كلمات مفعمة بالتشجيع مصبوغة بالإصرار والتحدي قد تصنع في النفس ما لا تصنعه الملايين ولا القصور, وقد تبعث فيها من الأمل ما لا يقدر عليه الأطباء والعقاقير, تدبر قول الحق تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (1) , وتذكر أن كلما تحويه صحيفة أعمالك هو ما تسجله أنت بأعمالك وأفعالك, وفي الذكر الحكيم: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (2) .
فالله حفيظ لا ينسى كل أعمالك, وكل أقوالك, وكل مواقفك, وكل عطاءتك, وكل منعك, وكل الصراعات التي في ذهنك, فأعمالك كلها مسجلة, قال الله تعالى: {لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} (3) .
__________
(1) - سورة إبراهيم الآيتان (24و25) .
(2) - سورة الزلزلة الآيتان (7و .
(3) - سورة آل عمران الآية (181) .
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
الكَتبُ إنشاؤه وزبره
الكَتبُ إنشاؤه وزبره
الكَتبُ في اللغة: ضم بعضه إلى بعض, يقال: كتبت الشيء يريدون ضممت بعضه إلى بعض, ويقال: كتبت الشيء كتباً وكتاباً وكتابة, ويقال أيضاً: أكتب فهو مكتب, واكتبت الرجل ما أراد أكتبه اكتاباً جمعته له
وأمليته عليه, ويقال: زبرت الكتاب إذا كتبته أزبره زبراً, وزبرت الكتاب كتبته. وروي أن شبل البرجمي رأى إبراهيم بن العباس وهو يكتب فقال:
ينظم اللؤلؤ المنثور منطقه ... وينظم الدر بالأقلام في الكتب (1)
أما إنشاء الكاتبُ الكتاب فهو ابتداء عمله, تقول العرب: أنشاء يفعل إنشاءً يقول كذا إذا ابتدأ, وإذا أمرت قلت: أنشئ الكتاب بإثبات الياء في الكلام والخط لأن هذه الياء هي همزة فذهبت للأمر منها الحركة (2) , وفي الذكر الحكيم: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (3) , {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى} (4) .
فالكتاب كنز الإفادة, وعنوان السعادة, به يبلغ الإنسان الكمال, وقد أحسن من قال:
مللت كل جليس كنت آلفه ... إلا الكتاب فلا يعدله إنسانُ
عاشرته فأراني كل مكرمة ... له عليَّ رعاه الله إحسانُ (5)
والكتاب إذا خان الصديق وفى, وإذا تكدر الزمان صفى, فجزاه الله أفضل الجزاء, فقد أغنانا الله به عن مجالسة الثقلاء والبخلاء, ولله در القائل:
أغلقت بيتي على نفسي ومكتبتي ... معي العلوم بها ذكر وآثار
جالست في البيت أهل العلم كلهمُ ... هم في الحقيقة إخوان وسمار
__________
(1) - أدب الكتاب ص85 و114.
(2) - أدب الكتاب ص119.
(3) - سورة يس الآية (79) .
(4) - سورة النجم الآية (47) .
(5) - مقامات القرني ص214.
كن حلس بيتك مثل السيف في كرم..........في غمده وهو للأعناق بتار (1)
السطر
السطر في اللغة هو الأثر المستطير على استواء جمعه أسطار وأسطر وسطور, ويقال للذي يصلح بها الورق: سطوره في دفاتره حتى لا تعوج سطوره (مسطره) (2) , وفي لسان العرب: السَّطْرُ والسَّطَرُ الصَّفُّ من الكتاب والشجر والنخل ونحوها (3) , وفي الذكر الحكيم: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ} (4) أي مكتتب قد سطر, وتقول: كل شيء مستطر أي مكتتب, قال تعالى: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} (5) .
قال الشاعر:
مُستَطارٌ أَنا مِن خَوفِ الرِدى ... كُلُّ شَيءٍ في كِتابٍ مُستَطَر
غَفَرَ اللَهُ لِعَبدٍ غافِلٍ ... هُوَ في أَعظَمِ جَهلٍ وَخَطَر
تَرَكَ الآجِلُ لَم يَحفِل بِهِ ... وَمِنَ العاجِلِ لَم يَقضِ الوَطَر
حَكَمَ الرَبُّ لِبَدرٍ فَاِستَوى ... وَهِلالٍ مُستَجِدٍّ فانَأطَر
تُظهِرُ الدينَ وَتُخفي غَيرَهُ ... إِنَّما شَأنُكَ مَكرٌ وَبَطَر (6)
__________
(1) - مقامات القرني ص216.
(2) - أدب الكتاب ص120.
(3) - لسان العرب ج4ص363.
(4) - سورة الطور الآيتان (1و2) .
(5) - سورة القمر الآية (53) .
(6) - تنسب هذا الأبيات لأبي العلاء المعري.
الكتاب عرضه وحفظه
عرض الكتاب يعني إمراره وتصفحه يقال عرضت الكتاب أعرضه عرضاً إذا أمررته على طرفك بعد فراغك منه لألا يقع فيه خطأ. (1) وقد يكون العرض على العين وعلى القلب, ومن ذلك قول ابن الأحنف:
عَرَضتُ عَلى قَلبي الفِراقَ فَقالَ لي ... مِنَ الآنَ فَاِيأَس لا أَغُرُّكَ مِن صَبرِ
إِذا صَدَّ مَن أَهوى وَأَسلَمَني العَزا ... فَفُرقَةُ مَن أَهَوى أَحَرُّ مِنَ الجَمرِ
أما عرض الكتاب على الإنسان في يوم القيام الذي ينبأ فيه بما قدم وأخر فهو يعني إبرازه وإظهاره, وفي الذكر الحكيم: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (2) .
فالله سبحانه وتعالى قد كتب الأعمال كلها وحفظها, فكل حركات الإنسان وسكناته مسجلة محفوظة مزبروة مرقومة, قال تعالى: {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} (3) أي مرقوم من الرقّم وهو الوشم, أو مرقوم من الرَقم, فكل مخالفة وصورتها, أو مرقّم يستحيل أن تنزع منه صفحة.
فكل شيء أحصاه الله وحفظه, فاعمل تجد حسناتك محفوظة, وسارع إلى الخير يبقى لك ذكره وأجره, فهو مسجل في كتاب حفظه الله لا يضيع ما فيه ولا يخطئ, وفي سورة يس الخبر اليقين: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا
__________
(1) - أدب الكتاب ص13.
(2) - سورة الكهف الآية (49) .
(3) - سورة المطففين الآية (9) .
قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (1) أي في كتاب مبين, وفي سورة النبأ: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} (2) , ويرحم الله شوقي حيث يقول:
إِنَّما الأَيّامُ وَالعَيشُ كِتاب ... كُلَّ يَومٍ فيهِ لِلعِبرَةِ باب
أما احمد بن علوان (3) فهو يقول:
أبواب أعمال سعيت لكسبها ... وجهلت ما أحصى عليك كتاب
أعقل أفق أنفق أنب لا تكتسب ... إلا المحاسن يجزك الوهاب
الحفيظ والمحصي من أسماء الله الحسنى
الحفيظ من أسماء الله الحسنى ورد ذكره في القرآن الكريم قال تعالى: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} (4) , وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} (5) .
__________
(1) - الآية (12) .
(2) - الآية (29) .
(3) - هذه البيت ينسب لأحمد بن علوان أبو العباس صفي الدين, (665هـ/1267م) صوفي يماني متأدب من قرية يفرس (كيفرك) من ضواحي مدينة تعز, قرأ شيئاً من النحو واللغة ونظم الشعر وعمل كاتباً في بعض الدواوين السلطانية كما كان أبوه قبله, وله ديوان شعر قال صاحب الطبقات موجود في أيدي الناس وعندى منه نسخة غالبه في التصوف وأورد نماذج منه (من كلام صفي الدين بن علوان -خ) . ألف كتباً ورسائل منها (الفتوح المصونة والأسرار المخزونة-خ) تصوف في مكتبة الكاف بجامع تريم و (البحر المشكل الغريب -خ) رسالة تصوفية في مكتبة الرياض.
(4) - سورة سبأ الآية (21) .
(5) - سورة الشورى الآية (6) .
وقد ورد في السنة النبوية: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) (1) , وجاء في رواية الترمذي تعداد أسماء الله الحسنى وعدَّ منها الحفيظ (2) .
والحفيظ له معنيان: أحدهما أنه يحفظ للعباد ما عملوا من خير وشر, وطاعة ومعصية, بحيث لا يفوتهم من ذلك مثقال ذرة, وحفظه لهذه الأعمال بمعنى ضبطه لها وإحصائه إياها, فهو المحيط علماً بجميع أعمالهم ظاهرها وباطنها, فهو قد كتبها في اللوح المحفوظ قبل أن يبرأها بل قبل أن يخلق السماوات والأرض, ووكل بها ملائكة حافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون, ويرحم الله ابن القيم حيث يقول:
وَهُوَ الحفِيظُ عَليهِمُ وَهُوَ الكَفِيـ ... ـلُ بِحِفظِهِم مِن كُلِّ أمرٍ عَانِ (3)
والمعنى الثاني من معنيي الحفيظ: أنه الحافظ لعباده من جميع ما يكرهون, وحفظه لخلقه عام وخاص: العام حفظه لجميع المخلوقات بتيسير لها ما يقيتها ويحفظ بنيتها فهي تمشي إلى هدايته وإلى مصالحها بإرشاده وهدايته العامة التي قال عنها: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (4) , أي هدى كل مخلوق لما قدر له وقضى له من ضروراته وحاجاته, كالهداية للمشرب والمأكل والمنكح والسعي في أسباب ذلك, والنوع الثاني حفظه الخاص
__________
(1) - صحيح البخاري باب ان لله مائة اسم إلا واحد حديث (6957) .
(2) - سنن الترمذي باب ما جاء في عقد التسبيح باليد حديث (3429) .
(3) - انظر شرح اسماء الله الحسنى وصفاته العليا للإمام أبي بكر البيهقي وشيخ الاسلام ابن تيمية والامام ابن القيم الجوزية والعلامة محمد بن صالح العثيمين, اعتنى به وخرج أحاديثه أبو عبد الرحمن عادل بن سعد, ج1ص125, الناشر: دار ابن الهيثم القاهرة 1426هـ2005م.
(4) - سورة طه الآية (50) .
لأوليائه حفظاً زائداً على ما تقدم يحفظهم عمّا يضر إيمانهم أو يزلزل إيقانهم من الفتن والشبهات والشهوات, ويحفظهم من أعدائهم وينصرهم عليهم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (1) , وهذا عام لدفع جميع ما يضرهم في دينهم ودنياهم, فعلى حسب ما عند العبد من إيمان تكون مدافعة الله عنه بلطفه. (2) وقد جاء في حديث ابن عباس: (يَا غُلامُ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ) (3) .
وقال الحليمي: الحفيظ: معناه الموثوق به من ترك التضييع.
وقال أبو سليمان: -فيما أخبرت عنه- الحفيظ هو الحافظ فعيل بمعنى فاعل كالقدير والعليم يحفظ السماوات والأرض ومن فيها لتبقى مدة بقائها فلا تزول ولا تندثر قال تعالى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} .
أما اسم الله الحافظ قال الحليمي: مَعْنَاهُ الصَّائِنُ عَبْدَهُ عَنْ أَسْبَابِ الْهَلَكَةِ فِي أُمُورِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ قَالَ: وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا) ، وَقَدْ قُرِئَ: (خَيْرٌ حِفْظًا) وَجَاءَ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَمَنْ حَفِظَ فَهُوَ حَافَظٌ وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) . (4)
__________
(1) - سورة الحج الآية (38) .
(2) - شرح أسماء الله الحسنى للقحطاني -بتصرف يسير- ص114.
(3) - رواه الطبراني في المعجم الكبير باب (3) ج (9) ص (331) حديث (11243) , والترمذي في سننه باب ما جاء في أواني الحوض حديث (2516) وقال: هذا حديث حسن صحيح, وصححه الألباني في صحيحه الجامع.
(4) - انظر الأسماء والصفات للبيهقي ص90.
وقال محمد راتب النابلسي: إن لاسم الله الحفيظ معنيان: الأول: حفيظ بمعنى عليم, فالله لا ينسى كل أعمالك وأقوالك وكل مواقفك, فكل ما أنت فيه محفوظ عند الله عز وجل, المعنى الثاني: الحفيظ أي ضد التضييع أي الله عز وجل لا يضيع المؤمن بل يحفظ له عمله ويكافؤه عليه في الدنيا والآخرة. (1)
أما اسم الله المحصي فقد ورد في القرآن الكريم: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} (2) , أي أحصى الله كل شيء عدداً فهو المحصي لكل شيء, وفي سورة مريم يقول سبحانه وتعالى: {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} (3) , وقال جل شأنه: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} (4) , وورد في السنة النبوية تعداد أسماء الله الحسنى وذكر منها المحصي كما في رواية الترمذي (5) .
قال الحليمي: وَمَعْنَاهُ الْعَالِمُ بِمَقَادِيرِ الْحَوَادِثِ مَا يُحِيطُ بِهِ مِنْهَا عُلُومُ الْعِبَادِ، وَمَا لا يُحِيطُ بِهِ مِنْهَا عُلُومُهُمْ، كَالأَنْفَاسِ وَالأَرْزَاقِ وَالطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي وَالْقُرَبِ، وَعَدَدِ الْقَطْرِ وَالرَّمْلِ وَالْحَصَا وَالنَّبَاتِ وَأَصْنَافِ الْحَيَوَانِ وَالْمَوَاتِ وَعَامَّةِ الْمَوْجُودَاتِ، وَمَا يَبْقَى مِنْهَا أَوْ يَضْمَحِلُّ وَيَفْنَى. (6)
__________
(1) - موسوعة أسماء الله الحسنى ج2ص60و61.
(2) - سورة الجن الآية (28) .
(3) - الآية (94) .
(4) - سورة النبأ الآية (29) .
(5) - سنن الترمذي باب ما جاء في عقد التسبيح باليد حديث (3429) .
(6) - انظر الأسماء والصفات للبيهقي ص60.
وقيل: المحصي هو المحيط بكل شيء جملةً وتفصيلاً لا تخفى عليه خافية لا في الأرض ولا في السماء. وقال بعض العلماء: المحصي هو الذي بالظاهر يراقب أنفساك وبالباطن يراقب حواسك. وقيل: المحصي هو الحافظ لأعداد طاعتك العالم بجميع حالتك. (1)
قلتُ: الظاهر أن إحصاء الله يستغرق إحصاء كل شيء, فكل الكون وما فيه أحصاه الله وأحصى جميع أعمال الخلائق وأنفاسهم, فهو العليم بدقائق الأمور وبأسرار المقدور, وهو المحيط بكل شيء, العالم بكل شيء لا تخفى عليه خافية, ليس كمثله شيء وهو اللطيف الخبير, أما الإنسان فهو عاجز بعلمه أن يحصي بعض المعلومات فضلاً عن إحصاء نعم الله جل وعلا, قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا} (2) .
ثمرة معرفة اسم الله الحفيظ الحافظ المحصي
إذا علم المكلف أن الله سبحانه وتعالى الحفيظ الحافظ لجميع الممكنات وأنه الذي يحفظ جميع الأشياء جملةً وتفصيلاً ويعلمها علماً لا زوال فيه ولا سهو ولا نسيان, وأنه الذي يحفظ الأرض والسماوات أن تزولا, {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ
__________
(1) - موسوعة أسماء الله الحسنى ج2ص90.
(2) - سورة إبراهيم الآية (34) .
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (1) , وأنه الذي يحفظ عباده ويكلأؤهم بالليل والنهار {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ} (2) , وأنه على كل شيء حفيظ, وأنه يحفظ أعمال العباد ويجازيهم عليها ... إلخ وأنه المحصي الذي يحصي الأعمال ويهيؤها بتفاصيلها ليوم الجزاء أيقن أن الله تعالى يحصي عليه كل حركاته وكل أنفاسه وكل أفعاله وكل ما تنطوي عليه نفسه من أمنيات, وجب عليه أن يؤمن بأن الله هو الحفيظ الحافظ المحصي, وسيرى عند ذلك من حفظ الله تعالى لقلبه ولدينه ما ينفعه الله به في الدنيا والآخرة, فمن عرف أن الله الحفيظ الحافظ المحصي حفظ قلبه ودينه عن سطوة الغضب والشهوة وخداع النفس وغرور الشيطان, وعمل صالحاً, لأن الله سبحانه وتعالى هو الحفيظ المحصي الذي يحفظ أعماله ويقوم بعناية الإنسان ورعايته وإثابته.
قال الشاعر:
خلقت فيهم عيوناً يبصرون بها ... وقد خلقت بهم للسمع أذانا
لو لم تكن أنت يا رباه حافظهم ... لم تشهد الأرض فوق الأرض إنسانا
وقال آخر:
غَدا ينادي المنادي ... وهم إليه وفود
كل عليه حَفيظ ... وَسائق وَشَهيد
وَحوله عَن يَمين ... وَعَن شمال قَعيد
__________
(1) - سورة البقرة الآية (255) .
(2) - سورة الأنبياء الآية (42) .
يا منكر البعث هَذا...........ما كنت منه تحيد (1)
أما أبو مسلم العماني فهو يقول:
وكيف أخاف الحادثات وإنما ... أمانك لي يا خالقي كان معقلا
وحفظك حرزي يا حفيظ وممنعي ... فلم أختشِ من حادث الدهر موجلا
ومن علم أن الله عليم حافظ محصي حفظ أوامر الله بالامتثال ونواهيه بالاجتناب وحدوده بعدم تعديها, وبذلك يحفظ الله تعالى الإنسان في نفسه ودينه وماله وولده وفي جميع ما آتاه الله من فضله, ولا يعني الوقوع في الأمراض والأوصاب والبلايا التي قد يتبلي الله تعالى الإنسان بها في نفسه أو ماله أو ولده عدم الحفظ لأن الله قد علم ذلك وأحصاه, وسيحفظ له ثواب ذلك ويلطف به ويرزقه الصبر والرضا ويجزيه الجزاء الأوفى {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (2) . ولقد أحسن من قال:
في كل بلوى تصيب العبد عافيةً ... إلا البلاء الذي يؤدي إلى النارِ
ذاك البلاء الذي ما فيه عافية ... من البلاء ولا ستر من العارِ
ومن عرف هذه الأسماء حفظ الود, وأحسن العهد, وأنجز الوعد, وشعر برقابة الله عليه, وكان قوياً يقول الحق فهو يراقب الله ويخشاه, غير مغتر بعلمه ولا بسلطانه ولا بتلبيس إبليس على نفسه أو على قومه, فهو يعلم أن الله معه يسمع ويرى فهو الذي يحفظه ويحاسبه في كل الأحوال, {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ
__________
(1) - هذه الأبيات تنسب للبرعي.
(2) - سورة الزمر الآية (10) .
اللهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (1) , فهو يدعو الله ويرجوه ويسأله أن يحفظ له دينه ودنياه, وفي الحديث أن النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ فَإِنَّهُ لا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ: بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ) (2) .
دعاء الله باسمه الحفيظ الحافظ المحصي
نسألك اللهم يا حفيظ يا حافظ يا محصي كما أحصيت أنفاسنا وأقوالنا وأفعالنا أن ترحمنا وتحفظنا وتتفضل بالقبول لكل أعمالنا, واحفظ يا الله قلوبنا وديننا من الزيغ والزلل, واحفظ اللهم علينا ما أوليتنا من المال والأهل والولد, واحفظ اللهم أسماعنا وأبصارنا, وفي السنة النبوية ان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يدعو بِهَؤُلَاءِ الدعوات (اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ وَمِنْ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا وَلا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا وَلا تَجْعَلْ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلا مَبْلَغَ عِلْمِنَا وَلا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لا يَرْحَمُنَا) (3) .
وصلَّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وسلم تسليماً كثيراً.
__________
(1) - سورة الرعد الآية (11) .
(2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب التعوذ عند المنام حديث (5845) .
(3) - أخرجه الترمذي باب ماجاء في عقد التسبيح باليد حديث (3424) .
الكَتبُ في اللغة: ضم بعضه إلى بعض, يقال: كتبت الشيء يريدون ضممت بعضه إلى بعض, ويقال: كتبت الشيء كتباً وكتاباً وكتابة, ويقال أيضاً: أكتب فهو مكتب, واكتبت الرجل ما أراد أكتبه اكتاباً جمعته له
وأمليته عليه, ويقال: زبرت الكتاب إذا كتبته أزبره زبراً, وزبرت الكتاب كتبته. وروي أن شبل البرجمي رأى إبراهيم بن العباس وهو يكتب فقال:
ينظم اللؤلؤ المنثور منطقه ... وينظم الدر بالأقلام في الكتب (1)
أما إنشاء الكاتبُ الكتاب فهو ابتداء عمله, تقول العرب: أنشاء يفعل إنشاءً يقول كذا إذا ابتدأ, وإذا أمرت قلت: أنشئ الكتاب بإثبات الياء في الكلام والخط لأن هذه الياء هي همزة فذهبت للأمر منها الحركة (2) , وفي الذكر الحكيم: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (3) , {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى} (4) .
فالكتاب كنز الإفادة, وعنوان السعادة, به يبلغ الإنسان الكمال, وقد أحسن من قال:
مللت كل جليس كنت آلفه ... إلا الكتاب فلا يعدله إنسانُ
عاشرته فأراني كل مكرمة ... له عليَّ رعاه الله إحسانُ (5)
والكتاب إذا خان الصديق وفى, وإذا تكدر الزمان صفى, فجزاه الله أفضل الجزاء, فقد أغنانا الله به عن مجالسة الثقلاء والبخلاء, ولله در القائل:
أغلقت بيتي على نفسي ومكتبتي ... معي العلوم بها ذكر وآثار
جالست في البيت أهل العلم كلهمُ ... هم في الحقيقة إخوان وسمار
__________
(1) - أدب الكتاب ص85 و114.
(2) - أدب الكتاب ص119.
(3) - سورة يس الآية (79) .
(4) - سورة النجم الآية (47) .
(5) - مقامات القرني ص214.
كن حلس بيتك مثل السيف في كرم..........في غمده وهو للأعناق بتار (1)
السطر
السطر في اللغة هو الأثر المستطير على استواء جمعه أسطار وأسطر وسطور, ويقال للذي يصلح بها الورق: سطوره في دفاتره حتى لا تعوج سطوره (مسطره) (2) , وفي لسان العرب: السَّطْرُ والسَّطَرُ الصَّفُّ من الكتاب والشجر والنخل ونحوها (3) , وفي الذكر الحكيم: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ} (4) أي مكتتب قد سطر, وتقول: كل شيء مستطر أي مكتتب, قال تعالى: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} (5) .
قال الشاعر:
مُستَطارٌ أَنا مِن خَوفِ الرِدى ... كُلُّ شَيءٍ في كِتابٍ مُستَطَر
غَفَرَ اللَهُ لِعَبدٍ غافِلٍ ... هُوَ في أَعظَمِ جَهلٍ وَخَطَر
تَرَكَ الآجِلُ لَم يَحفِل بِهِ ... وَمِنَ العاجِلِ لَم يَقضِ الوَطَر
حَكَمَ الرَبُّ لِبَدرٍ فَاِستَوى ... وَهِلالٍ مُستَجِدٍّ فانَأطَر
تُظهِرُ الدينَ وَتُخفي غَيرَهُ ... إِنَّما شَأنُكَ مَكرٌ وَبَطَر (6)
__________
(1) - مقامات القرني ص216.
(2) - أدب الكتاب ص120.
(3) - لسان العرب ج4ص363.
(4) - سورة الطور الآيتان (1و2) .
(5) - سورة القمر الآية (53) .
(6) - تنسب هذا الأبيات لأبي العلاء المعري.
الكتاب عرضه وحفظه
عرض الكتاب يعني إمراره وتصفحه يقال عرضت الكتاب أعرضه عرضاً إذا أمررته على طرفك بعد فراغك منه لألا يقع فيه خطأ. (1) وقد يكون العرض على العين وعلى القلب, ومن ذلك قول ابن الأحنف:
عَرَضتُ عَلى قَلبي الفِراقَ فَقالَ لي ... مِنَ الآنَ فَاِيأَس لا أَغُرُّكَ مِن صَبرِ
إِذا صَدَّ مَن أَهوى وَأَسلَمَني العَزا ... فَفُرقَةُ مَن أَهَوى أَحَرُّ مِنَ الجَمرِ
أما عرض الكتاب على الإنسان في يوم القيام الذي ينبأ فيه بما قدم وأخر فهو يعني إبرازه وإظهاره, وفي الذكر الحكيم: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (2) .
فالله سبحانه وتعالى قد كتب الأعمال كلها وحفظها, فكل حركات الإنسان وسكناته مسجلة محفوظة مزبروة مرقومة, قال تعالى: {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} (3) أي مرقوم من الرقّم وهو الوشم, أو مرقوم من الرَقم, فكل مخالفة وصورتها, أو مرقّم يستحيل أن تنزع منه صفحة.
فكل شيء أحصاه الله وحفظه, فاعمل تجد حسناتك محفوظة, وسارع إلى الخير يبقى لك ذكره وأجره, فهو مسجل في كتاب حفظه الله لا يضيع ما فيه ولا يخطئ, وفي سورة يس الخبر اليقين: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا
__________
(1) - أدب الكتاب ص13.
(2) - سورة الكهف الآية (49) .
(3) - سورة المطففين الآية (9) .
قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (1) أي في كتاب مبين, وفي سورة النبأ: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} (2) , ويرحم الله شوقي حيث يقول:
إِنَّما الأَيّامُ وَالعَيشُ كِتاب ... كُلَّ يَومٍ فيهِ لِلعِبرَةِ باب
أما احمد بن علوان (3) فهو يقول:
أبواب أعمال سعيت لكسبها ... وجهلت ما أحصى عليك كتاب
أعقل أفق أنفق أنب لا تكتسب ... إلا المحاسن يجزك الوهاب
الحفيظ والمحصي من أسماء الله الحسنى
الحفيظ من أسماء الله الحسنى ورد ذكره في القرآن الكريم قال تعالى: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} (4) , وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} (5) .
__________
(1) - الآية (12) .
(2) - الآية (29) .
(3) - هذه البيت ينسب لأحمد بن علوان أبو العباس صفي الدين, (665هـ/1267م) صوفي يماني متأدب من قرية يفرس (كيفرك) من ضواحي مدينة تعز, قرأ شيئاً من النحو واللغة ونظم الشعر وعمل كاتباً في بعض الدواوين السلطانية كما كان أبوه قبله, وله ديوان شعر قال صاحب الطبقات موجود في أيدي الناس وعندى منه نسخة غالبه في التصوف وأورد نماذج منه (من كلام صفي الدين بن علوان -خ) . ألف كتباً ورسائل منها (الفتوح المصونة والأسرار المخزونة-خ) تصوف في مكتبة الكاف بجامع تريم و (البحر المشكل الغريب -خ) رسالة تصوفية في مكتبة الرياض.
(4) - سورة سبأ الآية (21) .
(5) - سورة الشورى الآية (6) .
وقد ورد في السنة النبوية: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) (1) , وجاء في رواية الترمذي تعداد أسماء الله الحسنى وعدَّ منها الحفيظ (2) .
والحفيظ له معنيان: أحدهما أنه يحفظ للعباد ما عملوا من خير وشر, وطاعة ومعصية, بحيث لا يفوتهم من ذلك مثقال ذرة, وحفظه لهذه الأعمال بمعنى ضبطه لها وإحصائه إياها, فهو المحيط علماً بجميع أعمالهم ظاهرها وباطنها, فهو قد كتبها في اللوح المحفوظ قبل أن يبرأها بل قبل أن يخلق السماوات والأرض, ووكل بها ملائكة حافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون, ويرحم الله ابن القيم حيث يقول:
وَهُوَ الحفِيظُ عَليهِمُ وَهُوَ الكَفِيـ ... ـلُ بِحِفظِهِم مِن كُلِّ أمرٍ عَانِ (3)
والمعنى الثاني من معنيي الحفيظ: أنه الحافظ لعباده من جميع ما يكرهون, وحفظه لخلقه عام وخاص: العام حفظه لجميع المخلوقات بتيسير لها ما يقيتها ويحفظ بنيتها فهي تمشي إلى هدايته وإلى مصالحها بإرشاده وهدايته العامة التي قال عنها: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (4) , أي هدى كل مخلوق لما قدر له وقضى له من ضروراته وحاجاته, كالهداية للمشرب والمأكل والمنكح والسعي في أسباب ذلك, والنوع الثاني حفظه الخاص
__________
(1) - صحيح البخاري باب ان لله مائة اسم إلا واحد حديث (6957) .
(2) - سنن الترمذي باب ما جاء في عقد التسبيح باليد حديث (3429) .
(3) - انظر شرح اسماء الله الحسنى وصفاته العليا للإمام أبي بكر البيهقي وشيخ الاسلام ابن تيمية والامام ابن القيم الجوزية والعلامة محمد بن صالح العثيمين, اعتنى به وخرج أحاديثه أبو عبد الرحمن عادل بن سعد, ج1ص125, الناشر: دار ابن الهيثم القاهرة 1426هـ2005م.
(4) - سورة طه الآية (50) .
لأوليائه حفظاً زائداً على ما تقدم يحفظهم عمّا يضر إيمانهم أو يزلزل إيقانهم من الفتن والشبهات والشهوات, ويحفظهم من أعدائهم وينصرهم عليهم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (1) , وهذا عام لدفع جميع ما يضرهم في دينهم ودنياهم, فعلى حسب ما عند العبد من إيمان تكون مدافعة الله عنه بلطفه. (2) وقد جاء في حديث ابن عباس: (يَا غُلامُ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ) (3) .
وقال الحليمي: الحفيظ: معناه الموثوق به من ترك التضييع.
وقال أبو سليمان: -فيما أخبرت عنه- الحفيظ هو الحافظ فعيل بمعنى فاعل كالقدير والعليم يحفظ السماوات والأرض ومن فيها لتبقى مدة بقائها فلا تزول ولا تندثر قال تعالى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} .
أما اسم الله الحافظ قال الحليمي: مَعْنَاهُ الصَّائِنُ عَبْدَهُ عَنْ أَسْبَابِ الْهَلَكَةِ فِي أُمُورِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ قَالَ: وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ: (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا) ، وَقَدْ قُرِئَ: (خَيْرٌ حِفْظًا) وَجَاءَ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَمَنْ حَفِظَ فَهُوَ حَافَظٌ وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) . (4)
__________
(1) - سورة الحج الآية (38) .
(2) - شرح أسماء الله الحسنى للقحطاني -بتصرف يسير- ص114.
(3) - رواه الطبراني في المعجم الكبير باب (3) ج (9) ص (331) حديث (11243) , والترمذي في سننه باب ما جاء في أواني الحوض حديث (2516) وقال: هذا حديث حسن صحيح, وصححه الألباني في صحيحه الجامع.
(4) - انظر الأسماء والصفات للبيهقي ص90.
وقال محمد راتب النابلسي: إن لاسم الله الحفيظ معنيان: الأول: حفيظ بمعنى عليم, فالله لا ينسى كل أعمالك وأقوالك وكل مواقفك, فكل ما أنت فيه محفوظ عند الله عز وجل, المعنى الثاني: الحفيظ أي ضد التضييع أي الله عز وجل لا يضيع المؤمن بل يحفظ له عمله ويكافؤه عليه في الدنيا والآخرة. (1)
أما اسم الله المحصي فقد ورد في القرآن الكريم: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} (2) , أي أحصى الله كل شيء عدداً فهو المحصي لكل شيء, وفي سورة مريم يقول سبحانه وتعالى: {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} (3) , وقال جل شأنه: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} (4) , وورد في السنة النبوية تعداد أسماء الله الحسنى وذكر منها المحصي كما في رواية الترمذي (5) .
قال الحليمي: وَمَعْنَاهُ الْعَالِمُ بِمَقَادِيرِ الْحَوَادِثِ مَا يُحِيطُ بِهِ مِنْهَا عُلُومُ الْعِبَادِ، وَمَا لا يُحِيطُ بِهِ مِنْهَا عُلُومُهُمْ، كَالأَنْفَاسِ وَالأَرْزَاقِ وَالطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي وَالْقُرَبِ، وَعَدَدِ الْقَطْرِ وَالرَّمْلِ وَالْحَصَا وَالنَّبَاتِ وَأَصْنَافِ الْحَيَوَانِ وَالْمَوَاتِ وَعَامَّةِ الْمَوْجُودَاتِ، وَمَا يَبْقَى مِنْهَا أَوْ يَضْمَحِلُّ وَيَفْنَى. (6)
__________
(1) - موسوعة أسماء الله الحسنى ج2ص60و61.
(2) - سورة الجن الآية (28) .
(3) - الآية (94) .
(4) - سورة النبأ الآية (29) .
(5) - سنن الترمذي باب ما جاء في عقد التسبيح باليد حديث (3429) .
(6) - انظر الأسماء والصفات للبيهقي ص60.
وقيل: المحصي هو المحيط بكل شيء جملةً وتفصيلاً لا تخفى عليه خافية لا في الأرض ولا في السماء. وقال بعض العلماء: المحصي هو الذي بالظاهر يراقب أنفساك وبالباطن يراقب حواسك. وقيل: المحصي هو الحافظ لأعداد طاعتك العالم بجميع حالتك. (1)
قلتُ: الظاهر أن إحصاء الله يستغرق إحصاء كل شيء, فكل الكون وما فيه أحصاه الله وأحصى جميع أعمال الخلائق وأنفاسهم, فهو العليم بدقائق الأمور وبأسرار المقدور, وهو المحيط بكل شيء, العالم بكل شيء لا تخفى عليه خافية, ليس كمثله شيء وهو اللطيف الخبير, أما الإنسان فهو عاجز بعلمه أن يحصي بعض المعلومات فضلاً عن إحصاء نعم الله جل وعلا, قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا} (2) .
ثمرة معرفة اسم الله الحفيظ الحافظ المحصي
إذا علم المكلف أن الله سبحانه وتعالى الحفيظ الحافظ لجميع الممكنات وأنه الذي يحفظ جميع الأشياء جملةً وتفصيلاً ويعلمها علماً لا زوال فيه ولا سهو ولا نسيان, وأنه الذي يحفظ الأرض والسماوات أن تزولا, {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ
__________
(1) - موسوعة أسماء الله الحسنى ج2ص90.
(2) - سورة إبراهيم الآية (34) .
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (1) , وأنه الذي يحفظ عباده ويكلأؤهم بالليل والنهار {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ} (2) , وأنه على كل شيء حفيظ, وأنه يحفظ أعمال العباد ويجازيهم عليها ... إلخ وأنه المحصي الذي يحصي الأعمال ويهيؤها بتفاصيلها ليوم الجزاء أيقن أن الله تعالى يحصي عليه كل حركاته وكل أنفاسه وكل أفعاله وكل ما تنطوي عليه نفسه من أمنيات, وجب عليه أن يؤمن بأن الله هو الحفيظ الحافظ المحصي, وسيرى عند ذلك من حفظ الله تعالى لقلبه ولدينه ما ينفعه الله به في الدنيا والآخرة, فمن عرف أن الله الحفيظ الحافظ المحصي حفظ قلبه ودينه عن سطوة الغضب والشهوة وخداع النفس وغرور الشيطان, وعمل صالحاً, لأن الله سبحانه وتعالى هو الحفيظ المحصي الذي يحفظ أعماله ويقوم بعناية الإنسان ورعايته وإثابته.
قال الشاعر:
خلقت فيهم عيوناً يبصرون بها ... وقد خلقت بهم للسمع أذانا
لو لم تكن أنت يا رباه حافظهم ... لم تشهد الأرض فوق الأرض إنسانا
وقال آخر:
غَدا ينادي المنادي ... وهم إليه وفود
كل عليه حَفيظ ... وَسائق وَشَهيد
وَحوله عَن يَمين ... وَعَن شمال قَعيد
__________
(1) - سورة البقرة الآية (255) .
(2) - سورة الأنبياء الآية (42) .
يا منكر البعث هَذا...........ما كنت منه تحيد (1)
أما أبو مسلم العماني فهو يقول:
وكيف أخاف الحادثات وإنما ... أمانك لي يا خالقي كان معقلا
وحفظك حرزي يا حفيظ وممنعي ... فلم أختشِ من حادث الدهر موجلا
ومن علم أن الله عليم حافظ محصي حفظ أوامر الله بالامتثال ونواهيه بالاجتناب وحدوده بعدم تعديها, وبذلك يحفظ الله تعالى الإنسان في نفسه ودينه وماله وولده وفي جميع ما آتاه الله من فضله, ولا يعني الوقوع في الأمراض والأوصاب والبلايا التي قد يتبلي الله تعالى الإنسان بها في نفسه أو ماله أو ولده عدم الحفظ لأن الله قد علم ذلك وأحصاه, وسيحفظ له ثواب ذلك ويلطف به ويرزقه الصبر والرضا ويجزيه الجزاء الأوفى {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (2) . ولقد أحسن من قال:
في كل بلوى تصيب العبد عافيةً ... إلا البلاء الذي يؤدي إلى النارِ
ذاك البلاء الذي ما فيه عافية ... من البلاء ولا ستر من العارِ
ومن عرف هذه الأسماء حفظ الود, وأحسن العهد, وأنجز الوعد, وشعر برقابة الله عليه, وكان قوياً يقول الحق فهو يراقب الله ويخشاه, غير مغتر بعلمه ولا بسلطانه ولا بتلبيس إبليس على نفسه أو على قومه, فهو يعلم أن الله معه يسمع ويرى فهو الذي يحفظه ويحاسبه في كل الأحوال, {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ
__________
(1) - هذه الأبيات تنسب للبرعي.
(2) - سورة الزمر الآية (10) .
اللهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (1) , فهو يدعو الله ويرجوه ويسأله أن يحفظ له دينه ودنياه, وفي الحديث أن النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ: (إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ فَإِنَّهُ لا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ: بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ) (2) .
دعاء الله باسمه الحفيظ الحافظ المحصي
نسألك اللهم يا حفيظ يا حافظ يا محصي كما أحصيت أنفاسنا وأقوالنا وأفعالنا أن ترحمنا وتحفظنا وتتفضل بالقبول لكل أعمالنا, واحفظ يا الله قلوبنا وديننا من الزيغ والزلل, واحفظ اللهم علينا ما أوليتنا من المال والأهل والولد, واحفظ اللهم أسماعنا وأبصارنا, وفي السنة النبوية ان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يدعو بِهَؤُلَاءِ الدعوات (اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ وَمِنْ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا وَلا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا وَلا تَجْعَلْ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلا مَبْلَغَ عِلْمِنَا وَلا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لا يَرْحَمُنَا) (3) .
وصلَّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وسلم تسليماً كثيراً.
__________
(1) - سورة الرعد الآية (11) .
(2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب التعوذ عند المنام حديث (5845) .
(3) - أخرجه الترمذي باب ماجاء في عقد التسبيح باليد حديث (3424) .
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
الفصل الخامس الإيمان
الإيمان
الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالى فطرة في النفس الإنسانية, فمن تفكر بعقله في الكون آمن بالله ورأى من الآيات ما يبهر الألباب, وصدق بوجود الله الخالق الوهاب, وفي الذكر الحكيم: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (1) , فالقرآن يقرر بأن الدين فطرة في الإنسان فطر الناس عليها, أساسها الاعتقاد بخالق الكون, وأنه واحد لا شريك له, فإذا انفرد المرء بنفسه حكم بأنه مخلوق لإله قادر حكيم خلقه وأنعم عليه, قال الشاعر:
إذا المرء كانت له فكرة ... ففي كل شيء له عبرة (2)
وقال أبو نواس:
تأمل في خلال الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليكُ
عيون من لجين شاخصاتٌ ... بأحداق هي الذهب السبيكُ
على قضب الزبرجد شاهداتٌ ... بأن الله ليس له شريكُ
ويرحم الله أبا العتاهية حيث يقول:
أَلا إِنَّنا كُلَّنا بائِدُ ... وَأَيُّ بَني آدَمٍ خالِدُ
وَبَدؤُهُمُ كانَ مِن رَبِّهِم ... وَكُلٌّ إِلى رَبِّهِ عائِدُ
فَيا عَجَبا كَيفَ يُعصى الإِلَـ ... ـهُ أَم كَيفَ يَجحَدُهُ الجاحِدُ
__________
(1) - سورة الروم الآية (30) .
(2) - الموسوعة الشعرية ص34, وصيد الخاطر لابن الجوزي ص415.
وَلِلَّهِ في كُلِّ تَحريكَةٍ..........عَلَينا وَتَسكينَةٍ شاهِدُ
وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِدُ
والإيمان في اللغة: التصديق, وفي الاصطلاح: قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح, فهو التصديق بكل ما أخبر الله سبحانه وتعالى به في كتابه الكريم أو على لسان رسوله تصديقاً جازماً لا يخالطه شك ولا ريب, وفي الذكر الحكيم: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (1) , وقال سبحانه: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (2) .
وقال الشاعر:
إِيماننا باللَهِ بَينَ ثَلاثَةٍ ... عَمَلٍ وَقَولٍ واِعتِقادِ جَنانِ
وَيَزيدُ بِالتَقوى وَيَنقُصُ بِالرَدى ... وَكِلاهُما في القَلبِ يَعتَلِجانِ (3)
وقال ابن القيم:
وَاشهد عَلَيهِم أنَّ إِيمَانَ الوَرَى ... قَولٌ وفِعلٌ ثُمَّ عَقدُ جَنَانِ
وَيزِيدُ بالطَّاعَاتِ قَطعاً هَكَذَا ... بِالضِّدِّ يُمسِي وَهوَ ذُو نُقصَانِ
وَاللهُ مَا إيمَانُ عَاصِينَا كايـ ... ـمَانِ الأمِينِ مُنَزِّلِ القُرآنِ
كَلاَّ وَلاَ إيمَانُ مُؤمِنِنَا كايـ ... ـمَانِ الرَّسُولِ مُعَلِّمِ الإِيمَانِ
__________
(1) - سورة البقرة الآية (285) .
(2) - سورة البقرة الآية (136) .
(3) - هذان البيتان لعبد الله الاندلسي.
وجاء في الذكر الحكيم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (1) .
النجاة في الإيمان بالله
في الإيمان بالله النجاة من عذاب الله والفوز برضوان الله, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (2) , فمن آمن بالله سعد وطاب عيشه, وضاعف الله أجره وثوابه, وأمن العذاب, ونجى من الهلكة يوم الحساب, وكان في الناس حسن الأخلاق, قوي في إيمانه, مجتهد في عمله, محبوب في وطنه, يكرم الإنسان, ويألف الاخوان, وفي الحديث النبوي: (الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ) (3) .
الرفعة بالإيمان
إنما يتفاوت الناس في أقدارهم على مقدار إيمانهم وأعمالهم, وإنما الرفعة والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين, فقد جاء في الذكر الحكيم: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} (4) , فجدد أخي إيمانك بالله لترفع وتسعد فالإيمان إن لم يتجدّد يبلى ويخلق, ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (جَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ, قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ نُجَدِّدُ إِيمَانَنَا؟ قَالَ: أَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) (5) , وفي رواية: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب الخلق، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم) (6) , فثق أخي بالله يرفع الله مقامك, ويخفض من أراد هوانك, فالله مولى كل خيرٍ وموليه, وخافض كل شيءٍ ومعليه, وهيهات أن يخفض المرء يتمه أو عدمه إذا رفعه الحق بإيمانه وعمله وعلمه, وفي الذكر الحكيم على ذلك دليل وبينات: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (7) .
وقد جعل الله أمة محمد أمة مرحومة, يؤمنون بالله ويوحدونه, وأثنى عليهم الحق لإيمانهم بالله وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر, فقال سبحانه:
__________
(1) - سورة الأنفال الآيات (2-4) .
(2) - سورة الصف الآيات (10-13) .
(3) - أخرجه مسلم في صحيحه باب في الأمر بالقوة حديث (4816) .
(4) - سورة المنافقون الآية ( .
(5) - أخرجه احمد في المسند حديث (8353) .
(6) - أخرجه الحاكم في المستدرك باب الإيمان ليخلق حديث (5) ج1ص8.
(7) - سورة المجادلة الآية (11) .
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) , وفي الحديث النبوي: (الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ, وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ) (2) .
الإيمان بالقضاء والقدر
القدر نظام سماوي يجري وفق قانون رباني, فهو من جملة أركان الإيمان التي أخبر عنها الرسول عليه وآله والصلاة والسلام حينما سئل عن الإيمان ذكره من جملة أركانه فقال: (الإِيمَانِ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) (3) . قال الشاعر:
تَجري الأَمور عَلى حُكم القَضاء وَفي ... طيّ الحَوادِث مَحبوبٌ وَمَكروهُ
فَرُبّما سَرَّني ما بِتّ أَحذَرهُ ... وَرُبَّما ساءَني ما بتُّ أَرجوهُ (4)
وفي الأمثال السائرة: "لا ينفع حذر من قدر", وقيل: "إذا حل القدر بطل الحذر", ومعنى ذلك: أن الحذر لا يدفع المقدور عن صاحبه, فالمرء لا يملك أن يفر مما كتبه الله وقدره عليه, وهذا لا يعني ترك الأخذ بالأسباب,
__________
(1) - سورة آل عمران الآية (110) .
(2) - أخرجه مسلم في صحيحه باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها حديث (51) .
(3) - أخرجه مسلم في صحيحه باب بيان الإيمان والإسلام حديث (9) .
(4) - هذان البيتان لأمية بن عبد العزيز الأندلسي الداني، أبو الصلت (460-529هـ/ 1068-1134م) حكيم، أديب، من أهل دانية بالأندلس، ولد فيها، ورحل إلى المشرق، فأقام بمصر عشرين عاماً، سجن خلالها، ونفاه الأفضل شاهنشاه منها، فرحل إلى الإسكندرية، ثم انتقل إلى المهدية (من أعمال المغرب) فاتصل بأميرها يحيى بن تميم الصنهاجي، وابنه علي بن يحيى، فالحسن بن يحيى آخر ملوك الصنهاجيين بها، ومات فيها, وله شعر فيه رقة وجودة.، في المقتضب من تحفة القادم أنه من أهل إشبيلية، وأن له كتباً في الطب, من تصانيفه (الحديقة) على أسلوب يتيمة الدهر، و (رسالة العمل بالإسطرلاب) ، و (الوجيز) في علم الهيأة، و (الأدوية المفردة) ، و (تقويم الذهن-ط) في علم المنطق.
فهذا يعقوب عليه السلام يرشد أولاده: {يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (1) .
وفي الأمثال الشعبية: "انت تريد وأنا أريد والله يفعل ما يريد", وقيل: "العاجز عن التدبير يحيل على المقادير", قال الشاعر:
وعاجز الرأي مصباح لفرحته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
وفي أمثال العامة: "اللي من نصيبك لازم يصيبك, واللي مكتب على الجبين لازم تشوفه العين, والمكتوب ما منوش مهرب". (2)
فالإيمان بالقدر يجعل الحياة تعج بالأمل وتشرق بالأنوار وتهتف بالمعالي فيها معنى الحركة والإنجاز والأمل والتفاؤل الذي يجده الإنسان مبثوثاً في ثنايا القرآن حتى في لحظات انكسار المسلمين في غزوة أحد ووداع سبعين من أكابرهم وقادتهم ورجالهم في يوم رحيل الأبطال والشهداء يتنزل قول الله جل وعلا: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (3) , وفي لحظة صولة العدو وطيشه يأتي الأمل والتفاؤل ويتنزل قول الحق سبحانه وتعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (4) , وحتى في لحظة يأس الرسل وإحباطهم وفتور همتهم يأتي الأمل من جديد ليبدد هذا اليأس والإحباط فينجلي العمى ويأتي النصر الذي كتبه الله وقدره فيتنزل قول الحق تبارك وتعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (5) , وفي لحظة انتفاخ أهل الباطل وتطاولهم يأتي القدر الإلهي ليرد عليهم فيتنزل قول الحق سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ} (6) , فسبحان الله المتفضل على عباده, فقد جاء في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء) (7) .
والحق أن الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن ويقضي على التشاؤم والطيرة ويزيد الإنسان قوة وفتوة فيجعله كالجبل الذي لا تهزه ريح ولا يجحبه مطر, فالمؤمن بقدر الله يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطأه وما أخطأه لم يكن ليصيبه, وفي الحديث الشريف: (عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ) ( , وفي الذكر الحكيم: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (9) , {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (10) .
__________
(1) - سورة يوسف الآيتان (67و68) .
(2) - الأمثال الشعبية والعربية والعالمية لسامي محمد, ص86, الناشر العالمية للكتب والنشر الجيزة مصر, الطبعة الثانية 2006م.
(3) - سورة آل عمران الآية (139) .
(4) - سورة يونس الآية (1532
(5) - سورة يونس الآية (110) .
(6) - سورة الرعد الآية (17) .
(7) - أخرجه الحاكم في المستدرك كتاب التوبة والإنابة حديث (7603) .
( - أخرجه مسلم في صحيحه باب المؤمن أمره كله خير حديث (5318) .
(9) - سورة التوبة الآية (51) .
(10) - سورة الحديد الآيتان (22و23) .
وقال الشاعر:
واصبر على القدر المحتوم وارضَ به ... وإن أتاك بما لا تشتهي القدرُ
فما صفا لمرئٍ عيشٌ يسر به ... إلا سيتبع يوماً صفوه كدرُ
وقال الإمام الشافعي رحمه الله:
دَعِ الأَيّامَ تَفعَلُ ما تَشاءُ ... وَطِب نَفساً إِذا حَكَمَ القَضاءُ
وَلا تَجزَع لِحادِثَةِ اللَيالي ... فَما لِحَوادِثِ الدُنيا بَقاءُ
وَرِزقُكَ لَيسَ يُنقِصُهُ التَأَنّي ... وَلَيسَ يَزيدُ في الرِزقِ العَناءُ
وَلا حُزنٌ يَدومُ وَلا سُرورٌ ... وَلا بُؤسٌ عَلَيكَ وَلا رَخاءُ
وفي الذكر الحكيم: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) , وفي الأدعية المأثورة في دبر كل صلاة مكتوبة: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ, اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ) (2) , فالعاقل يؤمن بالقدر فهو لا يكثر الهم ولا يتطير أو يتلبس بالكدر, قال طرفة بن العبد (3) :
إذا ما أردت الأمر فامضِ لوجهه ... وخل الهوينا جانباً متأنيا
ذ
__________
(1) - سورة فاطر الآية (2) .
(2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب الذكر بعد الصلاة حديث (799) .
(3) - طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد، أبو عمرو، البكري الوائلي, شاعر جاهلي من الطبقة الأولى، كان هجاءاً غير فاحش القول، تفيض الحكمة على لسانه في أكثر شعره، ولد في بادية البحرين وتنقل في بقاع نجد, اتصل بالملك عمرو بن هند فجعله في ندمائه، ثم أرسله بكتاب إلى المكعبر عامله على البحرين وعُمان يأمره فيه بقتله، لأبيات بلغ الملك أن طرفة هجاه بها، فقتله المكعبر شاباً.
ولا يمنعنك الطير مما أردته...........فقد خط في الألواح ما كنت لاقيا (1)
وقال آخر:
طيرة الدهر لا ترد قضاءً ... فعذر الدهر لا تشبه بلوم (2)
وقوله: "طيرة الدهر" مصدر طيّر يتطيّر طيرة, والطيرة: اسم مصدر من تطيّر طيرة كما يقال: تخيّر خيرة, ولم يجئ في المصادر على هذه الزنة غيرهما, وأصله: التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما, وكان التطير يصدّ المتطير عن مقاصده فنفاه الشارع وأبطله وأخبر بأنه لا تأثير له في جلب نفع أو دفع ضر, وقد قال بعض العلماء: الطيرة من الشرك المنافي لكمال التوحيد الواجب, وهي من القاء الشيطان وتخويفه ووسوسته, وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ) رواه البخاري (3) , وزاد مسلم: (وَلاَ نَوْءَ وَلاَ غُولَ) (4) , وفي حديث ابن مسعود: (الطِّيَرَةُ شِرْكٌ الطِّيَرَةُ شِرْكٌ ثَلاثًا وَمَا مِنَّا إِلاَّ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ) رواه أبو داود والترمذي وصححه وجعل آخره من قول بن مسعود (5) , ولأحمد من حديث الفضل بن العباس رضي الله عنه: (إِنَّمَا الطِّيَرَةُ مَا أَمْضَاكَ أَوْ رَدَّكَ) (6) , وقال ضابئ بن الحارث (7) :
وَما عاجِلاتُ الطَيرِ تُدني مِنَ الفَتى ... رَشاداً وَلا عَن رَيثِهِنَّ يَخيبُ
وَرُبَّ أُمورٍ لا تَضيرُكَ ضَيرَةً ... وَلِلقَلبِ مِن مَخشاتِهِنَّ وَجيبُ
__________
(1) - ورد هذا البيت في الموسوعة الشعرية ص78 , منسوباً لطرفه بن العبد, وليس في ديوانه الذي بين أيدينا.
(2) - ورد هذا البيت في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج13ص142 , والموسوعة الشعرية ص77, غير منسوب لقائل بعينه.
(3) - صحيح البخاري باب لا عدوى حديث (5329) .
(4) - صحيح مسلم باب لا عدوى ولا طيرة ولا نوء ولا غول حديث (4116) .
(5) - سنن أبي داود باب في الطيرة حديث (3411) , وسنن الترمذي باب ما جاء في الطيرة حديث (1539) .
(6) - مسند أحمد حديث (1727) .
(7) - قال عنه الحافظ ابن حجر: له إدراك وجنى جناية في خلافة عثمان رضي الله عنه فحبسه فجاء ابنه عمير بن ضابئ فأراد الفتك بعثمان ثم جبن عنه, وفي ذلك يقول:
هَمَمْتُ ولمْ أَفعلْ وكِدْتُ وليتَني ... تركْتُ على عُثْمانَ تَبْكي حَلائِلُهْ
فلما قدم الحجاج الكوفة أمر بضرب عنقة, وانظر: الاصابة ج5ص102.
وفي سورة الأنعام يقول الكريم المنان: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ} (1) .
القدر في القرآن
عقيدة القدر في القرآن الحكيم تعلم المؤمنين أن لهذا الكون نظاماً محكماً, وسنناً مطردة, ارتبطت فيه الأسباب بالمسببات, وأن ليس في خلق الله خلل ولا مصادفات, ومن فائدة هذا الاعتقاد أن أهله يكونون أجدر الناس بالبحث في نظام الكائنات, وتعرف سنن الله في المخلوقات, وطلب الأشياء من أسبابها, والجري إليها في سننها, ودخول البيوت من أبوابها, قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} (2) , وقال جل شأنه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (3) , فلكل شيء من مخلوقات الله سنن ونواميس, ومقادير منتظمة, كسننه في حمل الإناث وعقمها, وزيادة الذرية ونقصها, قال تعالى: {اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (4) , والإنسان جزء من الوجود ينطبق عليه النظام الذي اقتضته حكمة بارئ الوجود
__________
(1) - الآية (17) .
(2) - سورة الفرقان الآية (2) .
(3) - سورة القمر الآية (49) .
(4) - سورة الرعد الآية ( .
ومربي كل موجود, قال تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ} (1) . فالقرآن حث على التدبر في مخلوقات الله وآياته.
وإذا تأملنا في كلمة المقدار والتقدير في القرآن وجدنا أنها ترد بمعنى: جعل الشيء بمقياس مخصوص أو وزن محدود أو وجه معين يجري على سنة معلومة, قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} (2) أي أنزلناه بمقدار معين.
قال الدكتور عفيف عبد الفتاح طبارة: إذا نظرنا إلى معنى لفظة القدر التي جاءت في القرآن في مواضع متعددة رأينا: القدر -بفتح الدال وسكونها- والمقدار والتقدير وردت بمعنى جعل الشيء بقياس مخصوص أو وزن محدود أو وجه معين يجري على سنة معلومة. (3)
فالإيمان بالقدر في القرآن الكريم يسوق معتقده دائماً إلى السعي والعمل, {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (4) , وهذا الاعتقاد تتبعه صفة الشجاعة والبسالة والجود والسخاء, والأخذ بالأسباب في جميع الأشياء, كيف لا والحق سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ
__________
(1) - سورة عبس الآيات (18-22) .
(2) - سورة المؤمنون الآية (18) .
(3) - قد أشار الدكتور عفيف عبد الفتاح طبارة أن من مراجعه في ما ذهب إليه في هذا مقالة للشيخ رشيد رضا في مجلة المنار ومقالة للشيخ محمد عبده في مجلة العروة الوثقى, وكلامه دقيق ووجيه, وانظر روح الدين الإسلامي ص153, أما صاحب المصباح المنير فقد ذكر أن: القدر -بالفتح لا غير-: القضاء الذي يقدره الله تعالى, انظر المصباح ص293.
(4) - سورة التغابن الآية (11) .
حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (1) , إن هذا الاعتقاد والإيمان بالقدر يشجع المؤمن على الترقي في حياته الدينية والدنيوية, فـ {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (2) .
فقانون القدر الذي أخبر الله تعالى عنه في كتابه يعلمنا أن من آمن وعمل صالحاً رفعه الله, {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} (3) , وقال جل شأنه: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} (4) .
قال أبو العلاء المعري:
اِنفَرَدَ اللَهُ بِسُلطانِهِ ... فَما لَهُ في كُلِّ حالٍ كِفاء
وله في إبداع الله وقدرته:
وَبَدائِعُ اللَهِ القَديرِ كَثيرَةٌ ... فَيَحورُ فيها لُبُّنا وَيَحارُ
وقال أيضاً في قدرة الله:
وَقُدرَةُ اللَهِ حَقٌّ لَيسَ يُعجِزُها ... حَشرٌ لِخَلقٍ وَلا بَعثٌ لأَمواتِ
ومن شعر الحكمة لأبي العلاء المعري في لزوم ما لا يلزم:
إِذا كُنتَ لا تَسطيعُ دَفعَ صَغيرَةٍ ... أَلَمَّت وَلا تَسطيعُ دَفعَ كَبيرِ
فَسَلِّم إِلى اللَهِ المَقاديرَ راضِياً ... وَلا تَسأَلَن بِالأَمرِ غَيرَ خَبيرِ
أما أبو نواس فإنه يقول في القضاء والقدر:
لَيسَ لِلإِنسانِ إِلاّ ... ما قَضى اللَهُ وَقَدَّر
لَيسَ لِلمَخلوقِ تَدبيـ ... ـرٌ بَلِ اللَهُ المُدَبِّر
__________
(1) - سورة الرعد الآية (11) .
(2) - سورة فصلت الآية (46) .
(3) - سورة الأنبياء الآية (94) .
(4) - سورة الأحزاب الآية (47) .
وكلام أبي نواس وما ورد في الأدب العربي على هذا المنوال لا يعني نفي ما وهب الله للإنسان من اختيار ولكنه يحث على التسليم لقدر الله تعالى باعتباره قضاء رباني لا مناص من التسليم والإيمان به فهو قانون إلهي لا يجوز الكفر به, فتدبير أمور الكون وتقديرها كلها لله وحده لا شريك له.
فالإيمان بالقدر لا يعني تعطيل المدارك والقوى التي أرشد الله إلى إعمالها والتفكر بها, ولا يعني الإيمان بالقدر الميل إلى الكسل وترك العمل, فإن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة, كما جاء في بعض كلام عمر رضي الله عنه, ولكن الإيمان بالقدر يتطلب النظر في نظام الكائنات, والتعرف على سنن الله في المخلوقات, وطلب الأشياء من أسبابها, والعزيمة والتوكل على الله, قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (1) , وقال سبحانه: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (2) , فمن آمن بالله ظفر بهداية الله قال تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) , {قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} (4) , وقال: {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (5) .
الرضا والتسليم دليل الإيمان
إن الرضا المطلق والقبول المحمود دليل صحة الإيمان, فالمؤمن يعلم أن من المنع عطاءً, ورب ضارة نافعة, أن الحياة المتدفقة بالآلام والمتاعب هي الحياة التي تفتق المواهب وتصنع الرجال, وأن ما من نازلة نزلت إلا ووراءها حكمة قد تدرك أو لا تدرك قدرها العليم الحكيم الذي قال في محكم الذكر الحكيم: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (6) , وهذا ابن عباس عندما فقد عينيه يقول:
إِن يأَخذِ اللَه مِن عَينيَّ نورهما ... فَفي لِساني وَقَلبي منهما نورُ
قَلبي ذَكي وَعَقلي غَيرُ ذي دَخَل ... وَفي فَمي صارِم كالسَيف مَسلولُ
فهو لم يتسخط ولم يفشل لأنه آمن بقول الحق عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (7) , وبحديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (واعلم أن ما أصابك لم يكن
__________
(1) - سورة الملك الآية (15) .
(2) - سورة البلد الآية (10) .
(3) - سورة التغابن الآية (11) .
(4) - سورة الرعد الآية (27) .
(5) - سورة المائدة الآية (16) .
(6) - سورة البقرة الآية (216) .
(7) - سورة البقرة الآية (155) .
ليخطئك وما أخطاك لم يكن ليصيبك) (1) , وصدق الله العظيم حيث يقول: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (2) .
قصة إيمان أهل الكهف في القرآن
لقد كان في قصة إيمان أهل الكهف وخبرهم ما يعمق الإيمان ويدعو إلى التفكر والاعتبار, قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً* هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً * وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ
__________
(1) - أخرجه الحاكم في المستدرك حديث (6304) .
(2) - سورة التوبة الآية (51) .
اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً * وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً * إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً * وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً * سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَداً * وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً *وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} (1) .
__________
(1) - سورة الكهف الآيات (9-26) .
الإيمان بالله يزيل الهم
الإيمان بالله يزيل الهم والغم من حياة الإنسان, فالمؤمن لا ييأس إن منعه الناس, ولا يجزع إن خانوه, لأنه يعتمد على مسبب الأسباب ومدبر الأمور, لسان حاله يقول:
واشدُدْ يَدْيكَ بحَبلِ الدِّينِ مُعتَصِماً ... فإنَّهُ الرُّكْنُ إنْ خانَتْكَ أركانُ (1)
عندما تؤمن بالله تعلم أن الله لا يأتي لحياتك إلا بما يصلحها فكل ما يصيبك بغير اختيارٍ لك فيه هو إصلاح من حيث تدري أو لا تدري فأنت صنعة الله ومن ذا الذي يتلف صنعته, عندما تؤمن بالله تعالى تهون عليك المصائب وتفرج عنك الكروب, ويزيل أساك وحزنك لأنك عندئذٍ تترك الأمور لرب الأمور, فتسعى في رزقك وأنت على يقين أن من وراء هذا السعي رزاقاً كريماً يهيب بك في كل لحظة أن تبخل عليه.
جاء في تفسير ابن كثير: أنه قد ورد في بعض الكتب الإلهية: يقول الله تعالى: "ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب, وتكفلت برزقك فلا تتعب, فاطلبني تجدني, فإن وجدتني وجدت كل شيءٍ, وإن فتك فاتك كل شيءٍ, وأنا أحب إليك من كل شيءٍ" (2) .
فعندما تؤمن بالله يخف حملك لأن هناك من يحمل عنك لأنه وليك وولي المؤمنين, قال تعالى: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (3) .
__________
(1) - هذا البيت ينسب لأبي الفتح البستي.
(2) - تفسير ابن كثير ج7ص426.
(3) - سورة البقرة الآية (257) .
من يؤمن بالله يهدي قلبه
لا يخدعنك الثراء الفاحش, ولا القصر المرصع المنيف, ولا المال المكدس الوافر, فكل هذه المظاهر لا تنفع قلباً ضعيف الإيمان بل على العكس قد
تزيده طمعاً وجشعاً, وإن بدا لك أنيق المظهر تغشى فمه ابتسامة عريضة وهو يركب سيارته الفاخرة إنه الرجل التعيس.
إن سر سعادة الإنسان هو رصيد ما في قلبه من إيمان قال تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) .
واسمع إلى تلك الكلمة الخالدة التي خرجت من قلب معمور بالإيمان إنه قلب الرجل الصالح إبراهيم بن أدهم رحمه الله: "لو علم الملوك ما نحن عليه -أي من حلاوة الإيمان- لقاتلونا عليه بالسيوف". (2)
الخلال الدنيئة ليست من صفات المؤمن
المؤمن لا يكون كاذباً, ولا حاقداً, ولا حاسداً, ولا شامتاً, ولا باغيا, ولا فاجراً, والمؤمن لا يغدر ولا يخون ولا يكذب, وقد جاء في الحديث النبوي: (يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ) (3) .
النفاق يضاد الإيمان
النفاق آفة وخساسة ومرض وتعاسة, والمنافق ذو وجهين ينطق بالإيمان ولا يعمل بالقرآن, والمنافق ماكر مخادع, إن حدث كذب, وإن وعد أخلف, وإن اؤتُمن خان, لا يؤمن بالله العظيم ولا يتبع رسوله الكريم, وفي الذكر الحكيم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (4) .
والنفاق يدل على إخفاء الشيء وإغماضه, ومنه النفق, وهو السرب في الأرض, والنفاق يعني اختلاف السر والعلن واختلاف القول والعمل, وهو نوعان: اعتقادي: وهو إظهار الإيمان وابطان الكفر, وعملي: وهو إظهار الإنسان غير حقيقته في الصلاح والعمل.
وجاء في الموسوعة الضدية: المنافق: هو الذي يظهر الإيمان بلسانه ويستر الكفر بقلبه, وقيل: هو الذي لا يطابق ظاهره باطنه, سواءً كان في باطنه ما يضاد ظاهر, أو كان باطنه خالياً عما يشعر به ظاهره. (5)
وفي القرآن الحكيم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} (6) , والمنافق يخادع ربه ويترك فرضه, يكره المؤمنين ويتبع الجاهلين, يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف, قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً * مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} (7) , وقال
__________
(1) - سورة التغابن الآية (11) .
(2) - انظر عيون الأمل لطه ياسين, ص98, الطبعة الأولى 1429هـ2008م, الناشر دار القلم دمشق.
(3) - أخرجه البيهقي في السنن الكبرى باب من كان منكشف ج10ص197 حديث (21349) .
(4) - سورة البقرة الآيات (8-10) .
(5) - الموسوعة العربية في الألفاظ الضدية والشذورات اللغوية لجامعه محمد بن محمد بن عبد الجبار بن محمد بن يحيى السماوي اليماني , ج3ص79 , الناشر: مركز الدراسات والبحوث اليمني صنعاء, طباعة دار الآداب بيروت, الطبعة الأولى 1410هـ1989م.
(6) - سورة النساء الآية (145) .
(7) - سورة النساء الآيتان (142و143) .
جل شأنه: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) .
وما أكثر ضرر النفاق على المجتمعات الإنسانية وأخطره على الأمة الإسلامية, فكم ديار خربت ودماء سفكت وأعراض هتكت بسبب نفاق ذوي الألسنة الثرثارة, والقلوب الخوارة, والشهوات القاهرة, والنفوس الفاجرة, والأفكار الخيالية, فلا تعجب بأجسامهم ولا تصغ إلى أخبارهم فأنت لا تعرف ما تحويه قلوبهم من الأحقاد والمكائد الشداد وبغض العباد, وفي محكم التنزيل: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (2) , ويرحم الله يوسف الدجوي حيث يقول:
لقد ظهرت حوادث لا تطاقُ ... وقوم ما لأكثرهم خلاقُ
فأموال تبعثر في فسادٍ ... وكم وسط النهارِ دمٌ يراقُ
وكم ظلمٍ تسربل ثوب عدل ... وكم ضغنٍ يغطيه النفاقُ
__________
(1) - سورة التوبة الآية (67) .
(2) - سورة المنافقون الآيات (1-4) .
وكم فضلٍ يداس ولا يراعى.....وكم جهلٍ يروجه الرفاقُ (1)
ويقول آخر:
حُكمٌ جرى سوقُ المنافقِ نافقٌ ... بنفاقهِ والبِرُّ أعظمُ كاسدِ
أما الشريف الرضي (2) فهو يقول:
أقمْ واحداً فرداً ودعْ عنك مرّةً ... نفاقَ فلانٍ أوْ خِداعَ فلانِ
ا
الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالى فطرة في النفس الإنسانية, فمن تفكر بعقله في الكون آمن بالله ورأى من الآيات ما يبهر الألباب, وصدق بوجود الله الخالق الوهاب, وفي الذكر الحكيم: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (1) , فالقرآن يقرر بأن الدين فطرة في الإنسان فطر الناس عليها, أساسها الاعتقاد بخالق الكون, وأنه واحد لا شريك له, فإذا انفرد المرء بنفسه حكم بأنه مخلوق لإله قادر حكيم خلقه وأنعم عليه, قال الشاعر:
إذا المرء كانت له فكرة ... ففي كل شيء له عبرة (2)
وقال أبو نواس:
تأمل في خلال الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليكُ
عيون من لجين شاخصاتٌ ... بأحداق هي الذهب السبيكُ
على قضب الزبرجد شاهداتٌ ... بأن الله ليس له شريكُ
ويرحم الله أبا العتاهية حيث يقول:
أَلا إِنَّنا كُلَّنا بائِدُ ... وَأَيُّ بَني آدَمٍ خالِدُ
وَبَدؤُهُمُ كانَ مِن رَبِّهِم ... وَكُلٌّ إِلى رَبِّهِ عائِدُ
فَيا عَجَبا كَيفَ يُعصى الإِلَـ ... ـهُ أَم كَيفَ يَجحَدُهُ الجاحِدُ
__________
(1) - سورة الروم الآية (30) .
(2) - الموسوعة الشعرية ص34, وصيد الخاطر لابن الجوزي ص415.
وَلِلَّهِ في كُلِّ تَحريكَةٍ..........عَلَينا وَتَسكينَةٍ شاهِدُ
وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِدُ
والإيمان في اللغة: التصديق, وفي الاصطلاح: قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالجوارح, فهو التصديق بكل ما أخبر الله سبحانه وتعالى به في كتابه الكريم أو على لسان رسوله تصديقاً جازماً لا يخالطه شك ولا ريب, وفي الذكر الحكيم: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (1) , وقال سبحانه: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (2) .
وقال الشاعر:
إِيماننا باللَهِ بَينَ ثَلاثَةٍ ... عَمَلٍ وَقَولٍ واِعتِقادِ جَنانِ
وَيَزيدُ بِالتَقوى وَيَنقُصُ بِالرَدى ... وَكِلاهُما في القَلبِ يَعتَلِجانِ (3)
وقال ابن القيم:
وَاشهد عَلَيهِم أنَّ إِيمَانَ الوَرَى ... قَولٌ وفِعلٌ ثُمَّ عَقدُ جَنَانِ
وَيزِيدُ بالطَّاعَاتِ قَطعاً هَكَذَا ... بِالضِّدِّ يُمسِي وَهوَ ذُو نُقصَانِ
وَاللهُ مَا إيمَانُ عَاصِينَا كايـ ... ـمَانِ الأمِينِ مُنَزِّلِ القُرآنِ
كَلاَّ وَلاَ إيمَانُ مُؤمِنِنَا كايـ ... ـمَانِ الرَّسُولِ مُعَلِّمِ الإِيمَانِ
__________
(1) - سورة البقرة الآية (285) .
(2) - سورة البقرة الآية (136) .
(3) - هذان البيتان لعبد الله الاندلسي.
وجاء في الذكر الحكيم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (1) .
النجاة في الإيمان بالله
في الإيمان بالله النجاة من عذاب الله والفوز برضوان الله, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (2) , فمن آمن بالله سعد وطاب عيشه, وضاعف الله أجره وثوابه, وأمن العذاب, ونجى من الهلكة يوم الحساب, وكان في الناس حسن الأخلاق, قوي في إيمانه, مجتهد في عمله, محبوب في وطنه, يكرم الإنسان, ويألف الاخوان, وفي الحديث النبوي: (الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ) (3) .
الرفعة بالإيمان
إنما يتفاوت الناس في أقدارهم على مقدار إيمانهم وأعمالهم, وإنما الرفعة والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين, فقد جاء في الذكر الحكيم: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} (4) , فجدد أخي إيمانك بالله لترفع وتسعد فالإيمان إن لم يتجدّد يبلى ويخلق, ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (جَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ, قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ نُجَدِّدُ إِيمَانَنَا؟ قَالَ: أَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) (5) , وفي رواية: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب الخلق، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم) (6) , فثق أخي بالله يرفع الله مقامك, ويخفض من أراد هوانك, فالله مولى كل خيرٍ وموليه, وخافض كل شيءٍ ومعليه, وهيهات أن يخفض المرء يتمه أو عدمه إذا رفعه الحق بإيمانه وعمله وعلمه, وفي الذكر الحكيم على ذلك دليل وبينات: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (7) .
وقد جعل الله أمة محمد أمة مرحومة, يؤمنون بالله ويوحدونه, وأثنى عليهم الحق لإيمانهم بالله وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر, فقال سبحانه:
__________
(1) - سورة الأنفال الآيات (2-4) .
(2) - سورة الصف الآيات (10-13) .
(3) - أخرجه مسلم في صحيحه باب في الأمر بالقوة حديث (4816) .
(4) - سورة المنافقون الآية ( .
(5) - أخرجه احمد في المسند حديث (8353) .
(6) - أخرجه الحاكم في المستدرك باب الإيمان ليخلق حديث (5) ج1ص8.
(7) - سورة المجادلة الآية (11) .
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) , وفي الحديث النبوي: (الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ, وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ) (2) .
الإيمان بالقضاء والقدر
القدر نظام سماوي يجري وفق قانون رباني, فهو من جملة أركان الإيمان التي أخبر عنها الرسول عليه وآله والصلاة والسلام حينما سئل عن الإيمان ذكره من جملة أركانه فقال: (الإِيمَانِ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) (3) . قال الشاعر:
تَجري الأَمور عَلى حُكم القَضاء وَفي ... طيّ الحَوادِث مَحبوبٌ وَمَكروهُ
فَرُبّما سَرَّني ما بِتّ أَحذَرهُ ... وَرُبَّما ساءَني ما بتُّ أَرجوهُ (4)
وفي الأمثال السائرة: "لا ينفع حذر من قدر", وقيل: "إذا حل القدر بطل الحذر", ومعنى ذلك: أن الحذر لا يدفع المقدور عن صاحبه, فالمرء لا يملك أن يفر مما كتبه الله وقدره عليه, وهذا لا يعني ترك الأخذ بالأسباب,
__________
(1) - سورة آل عمران الآية (110) .
(2) - أخرجه مسلم في صحيحه باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها حديث (51) .
(3) - أخرجه مسلم في صحيحه باب بيان الإيمان والإسلام حديث (9) .
(4) - هذان البيتان لأمية بن عبد العزيز الأندلسي الداني، أبو الصلت (460-529هـ/ 1068-1134م) حكيم، أديب، من أهل دانية بالأندلس، ولد فيها، ورحل إلى المشرق، فأقام بمصر عشرين عاماً، سجن خلالها، ونفاه الأفضل شاهنشاه منها، فرحل إلى الإسكندرية، ثم انتقل إلى المهدية (من أعمال المغرب) فاتصل بأميرها يحيى بن تميم الصنهاجي، وابنه علي بن يحيى، فالحسن بن يحيى آخر ملوك الصنهاجيين بها، ومات فيها, وله شعر فيه رقة وجودة.، في المقتضب من تحفة القادم أنه من أهل إشبيلية، وأن له كتباً في الطب, من تصانيفه (الحديقة) على أسلوب يتيمة الدهر، و (رسالة العمل بالإسطرلاب) ، و (الوجيز) في علم الهيأة، و (الأدوية المفردة) ، و (تقويم الذهن-ط) في علم المنطق.
فهذا يعقوب عليه السلام يرشد أولاده: {يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (1) .
وفي الأمثال الشعبية: "انت تريد وأنا أريد والله يفعل ما يريد", وقيل: "العاجز عن التدبير يحيل على المقادير", قال الشاعر:
وعاجز الرأي مصباح لفرحته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
وفي أمثال العامة: "اللي من نصيبك لازم يصيبك, واللي مكتب على الجبين لازم تشوفه العين, والمكتوب ما منوش مهرب". (2)
فالإيمان بالقدر يجعل الحياة تعج بالأمل وتشرق بالأنوار وتهتف بالمعالي فيها معنى الحركة والإنجاز والأمل والتفاؤل الذي يجده الإنسان مبثوثاً في ثنايا القرآن حتى في لحظات انكسار المسلمين في غزوة أحد ووداع سبعين من أكابرهم وقادتهم ورجالهم في يوم رحيل الأبطال والشهداء يتنزل قول الله جل وعلا: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (3) , وفي لحظة صولة العدو وطيشه يأتي الأمل والتفاؤل ويتنزل قول الحق سبحانه وتعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (4) , وحتى في لحظة يأس الرسل وإحباطهم وفتور همتهم يأتي الأمل من جديد ليبدد هذا اليأس والإحباط فينجلي العمى ويأتي النصر الذي كتبه الله وقدره فيتنزل قول الحق تبارك وتعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (5) , وفي لحظة انتفاخ أهل الباطل وتطاولهم يأتي القدر الإلهي ليرد عليهم فيتنزل قول الحق سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ} (6) , فسبحان الله المتفضل على عباده, فقد جاء في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء) (7) .
والحق أن الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن ويقضي على التشاؤم والطيرة ويزيد الإنسان قوة وفتوة فيجعله كالجبل الذي لا تهزه ريح ولا يجحبه مطر, فالمؤمن بقدر الله يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطأه وما أخطأه لم يكن ليصيبه, وفي الحديث الشريف: (عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ) ( , وفي الذكر الحكيم: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (9) , {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (10) .
__________
(1) - سورة يوسف الآيتان (67و68) .
(2) - الأمثال الشعبية والعربية والعالمية لسامي محمد, ص86, الناشر العالمية للكتب والنشر الجيزة مصر, الطبعة الثانية 2006م.
(3) - سورة آل عمران الآية (139) .
(4) - سورة يونس الآية (1532
(5) - سورة يونس الآية (110) .
(6) - سورة الرعد الآية (17) .
(7) - أخرجه الحاكم في المستدرك كتاب التوبة والإنابة حديث (7603) .
( - أخرجه مسلم في صحيحه باب المؤمن أمره كله خير حديث (5318) .
(9) - سورة التوبة الآية (51) .
(10) - سورة الحديد الآيتان (22و23) .
وقال الشاعر:
واصبر على القدر المحتوم وارضَ به ... وإن أتاك بما لا تشتهي القدرُ
فما صفا لمرئٍ عيشٌ يسر به ... إلا سيتبع يوماً صفوه كدرُ
وقال الإمام الشافعي رحمه الله:
دَعِ الأَيّامَ تَفعَلُ ما تَشاءُ ... وَطِب نَفساً إِذا حَكَمَ القَضاءُ
وَلا تَجزَع لِحادِثَةِ اللَيالي ... فَما لِحَوادِثِ الدُنيا بَقاءُ
وَرِزقُكَ لَيسَ يُنقِصُهُ التَأَنّي ... وَلَيسَ يَزيدُ في الرِزقِ العَناءُ
وَلا حُزنٌ يَدومُ وَلا سُرورٌ ... وَلا بُؤسٌ عَلَيكَ وَلا رَخاءُ
وفي الذكر الحكيم: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) , وفي الأدعية المأثورة في دبر كل صلاة مكتوبة: (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ, اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ) (2) , فالعاقل يؤمن بالقدر فهو لا يكثر الهم ولا يتطير أو يتلبس بالكدر, قال طرفة بن العبد (3) :
إذا ما أردت الأمر فامضِ لوجهه ... وخل الهوينا جانباً متأنيا
ذ
__________
(1) - سورة فاطر الآية (2) .
(2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب الذكر بعد الصلاة حديث (799) .
(3) - طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد، أبو عمرو، البكري الوائلي, شاعر جاهلي من الطبقة الأولى، كان هجاءاً غير فاحش القول، تفيض الحكمة على لسانه في أكثر شعره، ولد في بادية البحرين وتنقل في بقاع نجد, اتصل بالملك عمرو بن هند فجعله في ندمائه، ثم أرسله بكتاب إلى المكعبر عامله على البحرين وعُمان يأمره فيه بقتله، لأبيات بلغ الملك أن طرفة هجاه بها، فقتله المكعبر شاباً.
ولا يمنعنك الطير مما أردته...........فقد خط في الألواح ما كنت لاقيا (1)
وقال آخر:
طيرة الدهر لا ترد قضاءً ... فعذر الدهر لا تشبه بلوم (2)
وقوله: "طيرة الدهر" مصدر طيّر يتطيّر طيرة, والطيرة: اسم مصدر من تطيّر طيرة كما يقال: تخيّر خيرة, ولم يجئ في المصادر على هذه الزنة غيرهما, وأصله: التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما, وكان التطير يصدّ المتطير عن مقاصده فنفاه الشارع وأبطله وأخبر بأنه لا تأثير له في جلب نفع أو دفع ضر, وقد قال بعض العلماء: الطيرة من الشرك المنافي لكمال التوحيد الواجب, وهي من القاء الشيطان وتخويفه ووسوسته, وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ) رواه البخاري (3) , وزاد مسلم: (وَلاَ نَوْءَ وَلاَ غُولَ) (4) , وفي حديث ابن مسعود: (الطِّيَرَةُ شِرْكٌ الطِّيَرَةُ شِرْكٌ ثَلاثًا وَمَا مِنَّا إِلاَّ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ) رواه أبو داود والترمذي وصححه وجعل آخره من قول بن مسعود (5) , ولأحمد من حديث الفضل بن العباس رضي الله عنه: (إِنَّمَا الطِّيَرَةُ مَا أَمْضَاكَ أَوْ رَدَّكَ) (6) , وقال ضابئ بن الحارث (7) :
وَما عاجِلاتُ الطَيرِ تُدني مِنَ الفَتى ... رَشاداً وَلا عَن رَيثِهِنَّ يَخيبُ
وَرُبَّ أُمورٍ لا تَضيرُكَ ضَيرَةً ... وَلِلقَلبِ مِن مَخشاتِهِنَّ وَجيبُ
__________
(1) - ورد هذا البيت في الموسوعة الشعرية ص78 , منسوباً لطرفه بن العبد, وليس في ديوانه الذي بين أيدينا.
(2) - ورد هذا البيت في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج13ص142 , والموسوعة الشعرية ص77, غير منسوب لقائل بعينه.
(3) - صحيح البخاري باب لا عدوى حديث (5329) .
(4) - صحيح مسلم باب لا عدوى ولا طيرة ولا نوء ولا غول حديث (4116) .
(5) - سنن أبي داود باب في الطيرة حديث (3411) , وسنن الترمذي باب ما جاء في الطيرة حديث (1539) .
(6) - مسند أحمد حديث (1727) .
(7) - قال عنه الحافظ ابن حجر: له إدراك وجنى جناية في خلافة عثمان رضي الله عنه فحبسه فجاء ابنه عمير بن ضابئ فأراد الفتك بعثمان ثم جبن عنه, وفي ذلك يقول:
هَمَمْتُ ولمْ أَفعلْ وكِدْتُ وليتَني ... تركْتُ على عُثْمانَ تَبْكي حَلائِلُهْ
فلما قدم الحجاج الكوفة أمر بضرب عنقة, وانظر: الاصابة ج5ص102.
وفي سورة الأنعام يقول الكريم المنان: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ} (1) .
القدر في القرآن
عقيدة القدر في القرآن الحكيم تعلم المؤمنين أن لهذا الكون نظاماً محكماً, وسنناً مطردة, ارتبطت فيه الأسباب بالمسببات, وأن ليس في خلق الله خلل ولا مصادفات, ومن فائدة هذا الاعتقاد أن أهله يكونون أجدر الناس بالبحث في نظام الكائنات, وتعرف سنن الله في المخلوقات, وطلب الأشياء من أسبابها, والجري إليها في سننها, ودخول البيوت من أبوابها, قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} (2) , وقال جل شأنه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (3) , فلكل شيء من مخلوقات الله سنن ونواميس, ومقادير منتظمة, كسننه في حمل الإناث وعقمها, وزيادة الذرية ونقصها, قال تعالى: {اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (4) , والإنسان جزء من الوجود ينطبق عليه النظام الذي اقتضته حكمة بارئ الوجود
__________
(1) - الآية (17) .
(2) - سورة الفرقان الآية (2) .
(3) - سورة القمر الآية (49) .
(4) - سورة الرعد الآية ( .
ومربي كل موجود, قال تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ} (1) . فالقرآن حث على التدبر في مخلوقات الله وآياته.
وإذا تأملنا في كلمة المقدار والتقدير في القرآن وجدنا أنها ترد بمعنى: جعل الشيء بمقياس مخصوص أو وزن محدود أو وجه معين يجري على سنة معلومة, قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} (2) أي أنزلناه بمقدار معين.
قال الدكتور عفيف عبد الفتاح طبارة: إذا نظرنا إلى معنى لفظة القدر التي جاءت في القرآن في مواضع متعددة رأينا: القدر -بفتح الدال وسكونها- والمقدار والتقدير وردت بمعنى جعل الشيء بقياس مخصوص أو وزن محدود أو وجه معين يجري على سنة معلومة. (3)
فالإيمان بالقدر في القرآن الكريم يسوق معتقده دائماً إلى السعي والعمل, {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (4) , وهذا الاعتقاد تتبعه صفة الشجاعة والبسالة والجود والسخاء, والأخذ بالأسباب في جميع الأشياء, كيف لا والحق سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ
__________
(1) - سورة عبس الآيات (18-22) .
(2) - سورة المؤمنون الآية (18) .
(3) - قد أشار الدكتور عفيف عبد الفتاح طبارة أن من مراجعه في ما ذهب إليه في هذا مقالة للشيخ رشيد رضا في مجلة المنار ومقالة للشيخ محمد عبده في مجلة العروة الوثقى, وكلامه دقيق ووجيه, وانظر روح الدين الإسلامي ص153, أما صاحب المصباح المنير فقد ذكر أن: القدر -بالفتح لا غير-: القضاء الذي يقدره الله تعالى, انظر المصباح ص293.
(4) - سورة التغابن الآية (11) .
حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (1) , إن هذا الاعتقاد والإيمان بالقدر يشجع المؤمن على الترقي في حياته الدينية والدنيوية, فـ {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (2) .
فقانون القدر الذي أخبر الله تعالى عنه في كتابه يعلمنا أن من آمن وعمل صالحاً رفعه الله, {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} (3) , وقال جل شأنه: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} (4) .
قال أبو العلاء المعري:
اِنفَرَدَ اللَهُ بِسُلطانِهِ ... فَما لَهُ في كُلِّ حالٍ كِفاء
وله في إبداع الله وقدرته:
وَبَدائِعُ اللَهِ القَديرِ كَثيرَةٌ ... فَيَحورُ فيها لُبُّنا وَيَحارُ
وقال أيضاً في قدرة الله:
وَقُدرَةُ اللَهِ حَقٌّ لَيسَ يُعجِزُها ... حَشرٌ لِخَلقٍ وَلا بَعثٌ لأَمواتِ
ومن شعر الحكمة لأبي العلاء المعري في لزوم ما لا يلزم:
إِذا كُنتَ لا تَسطيعُ دَفعَ صَغيرَةٍ ... أَلَمَّت وَلا تَسطيعُ دَفعَ كَبيرِ
فَسَلِّم إِلى اللَهِ المَقاديرَ راضِياً ... وَلا تَسأَلَن بِالأَمرِ غَيرَ خَبيرِ
أما أبو نواس فإنه يقول في القضاء والقدر:
لَيسَ لِلإِنسانِ إِلاّ ... ما قَضى اللَهُ وَقَدَّر
لَيسَ لِلمَخلوقِ تَدبيـ ... ـرٌ بَلِ اللَهُ المُدَبِّر
__________
(1) - سورة الرعد الآية (11) .
(2) - سورة فصلت الآية (46) .
(3) - سورة الأنبياء الآية (94) .
(4) - سورة الأحزاب الآية (47) .
وكلام أبي نواس وما ورد في الأدب العربي على هذا المنوال لا يعني نفي ما وهب الله للإنسان من اختيار ولكنه يحث على التسليم لقدر الله تعالى باعتباره قضاء رباني لا مناص من التسليم والإيمان به فهو قانون إلهي لا يجوز الكفر به, فتدبير أمور الكون وتقديرها كلها لله وحده لا شريك له.
فالإيمان بالقدر لا يعني تعطيل المدارك والقوى التي أرشد الله إلى إعمالها والتفكر بها, ولا يعني الإيمان بالقدر الميل إلى الكسل وترك العمل, فإن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة, كما جاء في بعض كلام عمر رضي الله عنه, ولكن الإيمان بالقدر يتطلب النظر في نظام الكائنات, والتعرف على سنن الله في المخلوقات, وطلب الأشياء من أسبابها, والعزيمة والتوكل على الله, قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (1) , وقال سبحانه: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (2) , فمن آمن بالله ظفر بهداية الله قال تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) , {قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} (4) , وقال: {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (5) .
الرضا والتسليم دليل الإيمان
إن الرضا المطلق والقبول المحمود دليل صحة الإيمان, فالمؤمن يعلم أن من المنع عطاءً, ورب ضارة نافعة, أن الحياة المتدفقة بالآلام والمتاعب هي الحياة التي تفتق المواهب وتصنع الرجال, وأن ما من نازلة نزلت إلا ووراءها حكمة قد تدرك أو لا تدرك قدرها العليم الحكيم الذي قال في محكم الذكر الحكيم: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (6) , وهذا ابن عباس عندما فقد عينيه يقول:
إِن يأَخذِ اللَه مِن عَينيَّ نورهما ... فَفي لِساني وَقَلبي منهما نورُ
قَلبي ذَكي وَعَقلي غَيرُ ذي دَخَل ... وَفي فَمي صارِم كالسَيف مَسلولُ
فهو لم يتسخط ولم يفشل لأنه آمن بقول الحق عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (7) , وبحديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (واعلم أن ما أصابك لم يكن
__________
(1) - سورة الملك الآية (15) .
(2) - سورة البلد الآية (10) .
(3) - سورة التغابن الآية (11) .
(4) - سورة الرعد الآية (27) .
(5) - سورة المائدة الآية (16) .
(6) - سورة البقرة الآية (216) .
(7) - سورة البقرة الآية (155) .
ليخطئك وما أخطاك لم يكن ليصيبك) (1) , وصدق الله العظيم حيث يقول: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (2) .
قصة إيمان أهل الكهف في القرآن
لقد كان في قصة إيمان أهل الكهف وخبرهم ما يعمق الإيمان ويدعو إلى التفكر والاعتبار, قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً* هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً * وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ
__________
(1) - أخرجه الحاكم في المستدرك حديث (6304) .
(2) - سورة التوبة الآية (51) .
اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً * وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً * إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً * وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً * سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَداً * وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً *وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} (1) .
__________
(1) - سورة الكهف الآيات (9-26) .
الإيمان بالله يزيل الهم
الإيمان بالله يزيل الهم والغم من حياة الإنسان, فالمؤمن لا ييأس إن منعه الناس, ولا يجزع إن خانوه, لأنه يعتمد على مسبب الأسباب ومدبر الأمور, لسان حاله يقول:
واشدُدْ يَدْيكَ بحَبلِ الدِّينِ مُعتَصِماً ... فإنَّهُ الرُّكْنُ إنْ خانَتْكَ أركانُ (1)
عندما تؤمن بالله تعلم أن الله لا يأتي لحياتك إلا بما يصلحها فكل ما يصيبك بغير اختيارٍ لك فيه هو إصلاح من حيث تدري أو لا تدري فأنت صنعة الله ومن ذا الذي يتلف صنعته, عندما تؤمن بالله تعالى تهون عليك المصائب وتفرج عنك الكروب, ويزيل أساك وحزنك لأنك عندئذٍ تترك الأمور لرب الأمور, فتسعى في رزقك وأنت على يقين أن من وراء هذا السعي رزاقاً كريماً يهيب بك في كل لحظة أن تبخل عليه.
جاء في تفسير ابن كثير: أنه قد ورد في بعض الكتب الإلهية: يقول الله تعالى: "ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب, وتكفلت برزقك فلا تتعب, فاطلبني تجدني, فإن وجدتني وجدت كل شيءٍ, وإن فتك فاتك كل شيءٍ, وأنا أحب إليك من كل شيءٍ" (2) .
فعندما تؤمن بالله يخف حملك لأن هناك من يحمل عنك لأنه وليك وولي المؤمنين, قال تعالى: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (3) .
__________
(1) - هذا البيت ينسب لأبي الفتح البستي.
(2) - تفسير ابن كثير ج7ص426.
(3) - سورة البقرة الآية (257) .
من يؤمن بالله يهدي قلبه
لا يخدعنك الثراء الفاحش, ولا القصر المرصع المنيف, ولا المال المكدس الوافر, فكل هذه المظاهر لا تنفع قلباً ضعيف الإيمان بل على العكس قد
تزيده طمعاً وجشعاً, وإن بدا لك أنيق المظهر تغشى فمه ابتسامة عريضة وهو يركب سيارته الفاخرة إنه الرجل التعيس.
إن سر سعادة الإنسان هو رصيد ما في قلبه من إيمان قال تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) .
واسمع إلى تلك الكلمة الخالدة التي خرجت من قلب معمور بالإيمان إنه قلب الرجل الصالح إبراهيم بن أدهم رحمه الله: "لو علم الملوك ما نحن عليه -أي من حلاوة الإيمان- لقاتلونا عليه بالسيوف". (2)
الخلال الدنيئة ليست من صفات المؤمن
المؤمن لا يكون كاذباً, ولا حاقداً, ولا حاسداً, ولا شامتاً, ولا باغيا, ولا فاجراً, والمؤمن لا يغدر ولا يخون ولا يكذب, وقد جاء في الحديث النبوي: (يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ) (3) .
النفاق يضاد الإيمان
النفاق آفة وخساسة ومرض وتعاسة, والمنافق ذو وجهين ينطق بالإيمان ولا يعمل بالقرآن, والمنافق ماكر مخادع, إن حدث كذب, وإن وعد أخلف, وإن اؤتُمن خان, لا يؤمن بالله العظيم ولا يتبع رسوله الكريم, وفي الذكر الحكيم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (4) .
والنفاق يدل على إخفاء الشيء وإغماضه, ومنه النفق, وهو السرب في الأرض, والنفاق يعني اختلاف السر والعلن واختلاف القول والعمل, وهو نوعان: اعتقادي: وهو إظهار الإيمان وابطان الكفر, وعملي: وهو إظهار الإنسان غير حقيقته في الصلاح والعمل.
وجاء في الموسوعة الضدية: المنافق: هو الذي يظهر الإيمان بلسانه ويستر الكفر بقلبه, وقيل: هو الذي لا يطابق ظاهره باطنه, سواءً كان في باطنه ما يضاد ظاهر, أو كان باطنه خالياً عما يشعر به ظاهره. (5)
وفي القرآن الحكيم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} (6) , والمنافق يخادع ربه ويترك فرضه, يكره المؤمنين ويتبع الجاهلين, يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف, قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً * مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} (7) , وقال
__________
(1) - سورة التغابن الآية (11) .
(2) - انظر عيون الأمل لطه ياسين, ص98, الطبعة الأولى 1429هـ2008م, الناشر دار القلم دمشق.
(3) - أخرجه البيهقي في السنن الكبرى باب من كان منكشف ج10ص197 حديث (21349) .
(4) - سورة البقرة الآيات (8-10) .
(5) - الموسوعة العربية في الألفاظ الضدية والشذورات اللغوية لجامعه محمد بن محمد بن عبد الجبار بن محمد بن يحيى السماوي اليماني , ج3ص79 , الناشر: مركز الدراسات والبحوث اليمني صنعاء, طباعة دار الآداب بيروت, الطبعة الأولى 1410هـ1989م.
(6) - سورة النساء الآية (145) .
(7) - سورة النساء الآيتان (142و143) .
جل شأنه: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) .
وما أكثر ضرر النفاق على المجتمعات الإنسانية وأخطره على الأمة الإسلامية, فكم ديار خربت ودماء سفكت وأعراض هتكت بسبب نفاق ذوي الألسنة الثرثارة, والقلوب الخوارة, والشهوات القاهرة, والنفوس الفاجرة, والأفكار الخيالية, فلا تعجب بأجسامهم ولا تصغ إلى أخبارهم فأنت لا تعرف ما تحويه قلوبهم من الأحقاد والمكائد الشداد وبغض العباد, وفي محكم التنزيل: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ * وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (2) , ويرحم الله يوسف الدجوي حيث يقول:
لقد ظهرت حوادث لا تطاقُ ... وقوم ما لأكثرهم خلاقُ
فأموال تبعثر في فسادٍ ... وكم وسط النهارِ دمٌ يراقُ
وكم ظلمٍ تسربل ثوب عدل ... وكم ضغنٍ يغطيه النفاقُ
__________
(1) - سورة التوبة الآية (67) .
(2) - سورة المنافقون الآيات (1-4) .
وكم فضلٍ يداس ولا يراعى.....وكم جهلٍ يروجه الرفاقُ (1)
ويقول آخر:
حُكمٌ جرى سوقُ المنافقِ نافقٌ ... بنفاقهِ والبِرُّ أعظمُ كاسدِ
أما الشريف الرضي (2) فهو يقول:
أقمْ واحداً فرداً ودعْ عنك مرّةً ... نفاقَ فلانٍ أوْ خِداعَ فلانِ
ا
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
الإيمان بالغيب
الإيمان بالغيب
إن التصديق بكل ما أنزله الله على رسله وأخبر الله به عباده في كتابه العزيز عن الجن والملائكة والجنة والنار ويوم المعاد والحساب وما يحصل فيه يدل على كمال الإيمان واليقين, والإيمان بما أوجب الله عن كل ما غاب عن نظر الإنسان وإدراكه واستأثر الله به مما أرشد إليه القرآن الكريم, فلا يكون الإنسان مهتدياً ومؤمناً ما لم يكن مؤمناً بالغيب, وفي القرآن العظيم على ذلك دليل وشاهد: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) .
ولعلماء اللغة والتفسير في وصف الغيب أقوال نشير إلى بعض منها:
قال الراغب: الغيب: مصدر غابت الشمس وغيرها إذا استترت عن العين، واستعمل في كل غائب عن الحاسة، وعما يغيب عن علم الإنسان بمعنى الغائب، ويقال للشيء غيب وغائب باعتباره بالناس لا بالله تعالى، فإنه لا يغيب عنه شيء، كما لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض (4) .
وقيل: الغيب: ما غاب علمه عن جميع المخلوقات إلا ما علموه عن طريق الرسل، وقال الفيروزابادي: الغيب ما غاب عنك، وقيل: الغيب ما غاب عن الناس مما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الملائكة والجنة والنار والحساب، وقال ابن الأعرابي: الغيب: ما كان غائباً عن العيون وإن كان محصلاً في القلوب، وأنشد بيت تميم بن أبي بن مقبل:
وللفؤاد وجيب تحت أبهره ... لدم الغلام وراء الغيب بالحجر (5)
وقال صاحب المنار: الغيب قسمان: غيب حقيقي مطلق وهو ما غاب عن جميع الخلق حتى الملائكة، وفيه يقول الله عز وجل: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} (6) , وغيب إضافي وهو ما غاب علمه عن بعض المخلوقين دون بعض كالذي يعلمه الملائكة من أمر عالمهم وغيره ولا يعلمه البشر مثلاً، وأما ما يعلمه بعض البشر بتمكنهم من أسبابه واستعمالهم
__________
(1) - وردت هذه الأبيات ليوسف الدجوي من كبار علماء الأزهر في القرن الماضي ضمن تقريضه للنهضة الإصلاحية للأسرة الإسلامية لمؤلفه مصطفى الحمامي, ص9 , مطبعة مصطفى الحلبي 1355هـ1936م.
(2) - العلامة الشريف الرضي: (359-406هـ/969-1015م) محمد بن الحسين بن موسى، أبو الحسن، الرضي العلوي الحسيني الموسوي. من أحفاد الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أشعر الطالبيين على كثرة المجيدين فيهم. مولده ووفاته في بغداد، انتهت إليه نقابة الأشراف في حياة والده وخلع عليه بالسواد وجدد له التقليد سنة 403 هـ. له ديوان شعر في مجلدين، وكتب منها: الحَسَن من شعر الحسين، وهو مختارات من شعر ابن الحجاج في ثمانية أجزاء، والمجازات النبوية، ومجاز القرآن، ومختار شعر الصابئ، ومجموعة ما دار بينه وبين أبي إسحاق الصابئ من الرسائل, وهو جامع نهج البلاغة, ونسب جمعه البعض إلى أخيه المرتضى. توفي ببغداد ودفن بداره أولاً ثمّ نقل رفاته ليدفن في جوار جده الإمام الحسين رضي الله عنه، بكربلاء.
(3) - سورة البقرة الآيات (3-5) .
(4) - المفردات ص370.
(5) - الوجيب: تحرك القلب، والأبهر: عرق في الصلب، والقلب متصل به، فإذا انقطع لم تكن معه حياة، واللدم: الضرب، يريد أن للفؤاد صوت يسمعه ولا يراه كما يسمع صوت الحجر الذي يرمي به الصبي ولا يراه، وانظر: اللسان في مادة (بهر) ج4ص81 , وبصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للعلامة مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي المتوفى سنة 817هـ, ج4ص252, الناشر: المكتبة العلمية بيروت الطبعة الأولى.
(6) - سورة النمل الآية (65) .
قال النابغة الجعدي (1) :
لَوى اللَهُ عِلمَ الغَيبِ عَمَّن سِواءَهُ ... وَيَعلَمُ مِنهُ ما مَضى وتأَخَّرا
أما أبو الحسن الغزنوي فهو يقول:
والله بالغيب والتقدير منفرد ... وما سوى حكمه غيِّ وتضليلُ
ويرى محمد الحسيني أن الله انفرد بعلم الغيب وأنه لا أجهل ممن يدَّعي ثقةً بحدسه وهو يجهل ما في بيته, وذلك حيث يقول:
لا يعلم الغيب إلا الله خالقنا ... لا غيره عالم عجماً ولا عربا
إذ لا شيء أجهل ممن يدعي ثقةً ... بحدسه ويرى فيما يرى ريبا
قد يجهل المرء ما في بيته نظراً ... فكيف عنه بما في غيبه احتجبا
أما زهير بن أبي سلمى (2) فهو يقول:
وَأَعلَمُ عِلمَ اليَومِ وَالأَمسِ قَبلَهُ ... وَلَكِنَّني عَن عِلمِ ما في غَدٍ عَمي
إخبار المنجم عن علم الغيب كذب والتصديق به كفر
__________
(1) - قيس بن عبد الله، بن عُدَس بن ربيعة، الجعدي العامري، أبو ليلى, (54ق. هـ-50 هـ/ 70-670م) , شاعر مفلق، صحابي من المعمرين، اشتهر في الجاهلية وسمي النابغة لأنه أقام ثلاثين سنة, لا يقول الشعر ثمَّ نبغ فقاله، وكان ممن هجر الأوثان، ونهى عن الخمر قبل ظهور الإسلام, ووفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأسلم، وأدرك صفّين فشهدها مع علي كرم الله وجهه، ثم سكن الكوفة فَسَيّره معاوية إلى أصبهان مع أحد ولاتها فمات فيها وقد كُفَّ بصره وجاوز المائة.
(2) -زهير بن أبي سلمى ربيعة بن رباح المزني، من مُضَر, (ت 13ق. هـ609م) , حكيم الشعراء في الجاهلية وفي أئمة الأدب من يفضّله على شعراء العرب كافة, قال ابن الأعرابي: كان لزهير من الشعر ما لم يكن لغيره: كان أبوه شاعراً، وخاله شاعراً، وأخته سلمى شاعرة، وابناه كعب وبجير شاعرين، وأخته الخنساء شاعرة, ولد في بلاد مُزَينة بنواحي المدينة وكان يقيم في الحاجر (من ديار نجد) ، واستمر بنوه فيه بعد الإسلام, قيل: كان ينظم القصيدة في شهر وينقحها ويهذبها في سنة فكانت قصائده تسمّى (الحوليات) ، أشهر شعره معلقته التي مطلعها: ... أمن أم أوفى دمنة لم تكلم
التنجيم كذب ووبال, وزيف وخيال, فلا تصدق المنجم تأثم, ومن الخير تحرم, فاحذر تصديق المنجم والكاهن والعراف, ففي الحديث النبوي الشريف: (مَنْ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنْ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ) (1) , وقال العزيز الحكيم: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (2) , وجاء في حديث آخر: (مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ آله وَسَلَّمَ) (3) .
قال الشاعر:
دع المنجمَ يكبو في ضلالته ... إن ادعى علمَ ما يجري به الفلكُ
تفرَّد اللهُ بالعلم القديم فلا ... الإنسان يشركهُ فيه ولا الملك (4)
وقال أبو العلاء المعري:
يُنَجِّمونَ وَما يَدرونَ لَو سُئِلوا ... عَنِ البَعوضَةِ أَنّى مِنهُمُ تَقِفُ
أما لبيد بن ربيعة فهو يقول:
لَعَمرُكَ ما تَدري الضَوارِبُ بِالحَصى ... وَلا زاجِراتُ الطَيرِ ما اللَهُ صانِعُ
__________
(1) - أخرجه أبو داود في سننه باب في النجوم حديث (3406) .
(2) - سورة طه الآية (69) .
(3) - أخرجه احمد في المسند عن أبي هريرة حديث (9171) .
(4) - هذه الأبيات لأبي اليمن الكندي, وهو زيد بن الحسن بن زيد بن سعيد الحميري من ذي رعين أبو اليمن تاج الدين الكندي, (520-613هـ/1126-1217م) أديب من الكتاب الشعراء العظماء، ولد ونشأ ببغداد وسافر إلى حلب سنة 563 هـ، وسكن دمشق وقصده الناس يقرؤون عليه، وكان مختصاً بفرخ شاه ابن أخي صلاح الدين وبولده الملك الأمجد صاحب بعلبك، وهو شيخ المؤرخ سبط ابن الجوزي، وكان الملك المعظم عيسى يقرأ عليه دائماً كتاب سيبويه متناً وشرحاً والإيضاح والحماسة وغيرهما, قال أبو شامة: كان المعظم يمشي من القلعة راجلاً إلى دار تاج الدين والكتاب تحت إبطه، واقتنى مكتبة نفيسة, توفي في دمشق, له ديوان شعر، وله: كتاب شيوخه على حروف المعجم كبير، وشرح ديوان المتنبي.
وقال آخر:
كُن طالِباً لِلعِلمِ واِعمَل صالِحاً ... فَهُما إِلى سُبُلِ الهُدى سَبَبانِ
لا تَتَّبِع عِلمَ النُجومِ فَإِنَّهُ ... مُتَعَلِّقٌ بِزَخارِفِ الكُهّانِ
عِلمُ النُجومِ وَعِلمُ شَرعِ مُحمَّدٍ ... في قَلبِ عَبدٍ لَيسَ يَجتَمِعانِ (1)
أما المتنبي فهو يقول:
فَتَبّاً لِدينِ عَبيدِ النُجومِ ... وَمَن يَدَّعي أَنَّها تَعقِلُ
وهذا أبو تمام الطائي يقول:
السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ ... في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ
بيضُ الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِفِ ... في مُتونِهِنَّ جَلاءُ الشَكِّ وَالرِيَبِ
وَالعِلمُ في شُهُبِ الأَرماحِ لامِعَةً ... بَينَ الخَميسَينِ لا في السَبعَةِ الشُهُبِ
أَينَ الرِوايَةُ بَل أَينَ النُجومُ وَما ... صاغوهُ مِن زُخرُفٍ فيها وَمِن كَذِبِ
تَخَرُّصاً وَأَحاديثاً مُلَفَّقَةً ... لَيسَت بِنَبعٍ إِذا عُدَّت وَلا غَرَبِ
وقال آخر:
الفأل والزجر والكهان كلهم ... مضللون ودون الغيب أقفال (2)
__________
(1) - هذه الأبيات تنسب للعلامة عبد الله بن محمد القحطاني.
(2) - الموسوعة الشعرية ص82.
علم الفلك والنجوم
علم النجوم علمان:
علم يعرف به سير النجوم ومدارها ومنازلها وأبعادها وأحجامها, وهذا ما يسمى بعلم الفلك وهو ليس داخل في التنجيم وتعليمه والعمل به غير
منهي عنه, وفي الذكر الحكيم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (1) .
وعلم يزعمون أنه يعني روحانية النجوم والكواكب وتأثيرها في الخلق والأرض ومن عليها بالأمراض وما يحصل من الحروب والضيق والسعة والموت والحياة والسعادة والشقاوة ... إلخ, وما يعملون فيه من الجداول بالحوادث في العالم كله وهذا هو الدجل والكذب وهو نوع من السحر واستخدام الشياطين والقول على الله بلا علم.
قال الشاعر:
تدبر بالنجوم ولست تدري ... ورب النجم يفعل ما يريد (2)
وقال ابن تيمية: "لا ريب أن النجوم نوعان: حساب وأحكام, فأما الحساب فهو معرفة أقدار الأفلاك والكواكب وصفاتها ومقادير حركتها وما يتبع ذلك فهذا في الأصل علم صحيح لا ريب فيه كمعرفة الأرض وصفتها.
وصناعة التنجيم التي مضمونها الأحكام والتأثير وهو الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية صناعة محرمة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة". (3) وقال الشاعر:
إني بأحكام النجوم مكذب ... ولمدعيها لائم ومؤنب
الغيب يعلمه المهيمن وحده ... وعن الخلائق أجمعين مغيب
__________
(1) - سورة يونس الآية (5) .
(2) - ورد هذا البيت في التمثيل والمحاضرات للثعالبي, ص189.
(3) - انظر مجموع فتاوى ابن تيمية ج9ص224.
الإيمان بأسماء الله وصفاته
إن الإيمان بأسماء الله وصفاته هو أعظم المطالب وأهمها, وإذا كان الله قد جعل لكل مطلوب سبباً وطريقاً للوصول إليه فقد جعل للإيمان أسباباً تجلبه وتقويه كما كان له أسبابٌ تضعفه وتوهيه, ومن أعظم ما يقوي الإيمان ويجلبه معرفة أسماء الله الحسنى الواردة في كتاب الله العزيز وسنة رسوله الكريم والحرص على تفهم معانيها والتعبد لله بها وفي الذكر الحكيم: {وَلِلّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (1) .
وجاء في السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) (2) , أي من حفظها, وفهم معانيها ومدلولها, وأثنى على الله بها, وسأله بها واعتقدها دخل الجنة, والجنة لا يدخلها إلا المؤمن, فاعلم أن ذلك أعظم ينبوع, ومادة لحصول الإيمان وقوته وثباته, ومعرفة الأسماء الحسنى -بمراتبها الثلاث: إحصاء ألفاظها وعددها, وفهم معانيها ومدلولها, ودعاء الله بها, دعاء الثناء والعبادة ودعاء المسألة- هي أصل الإيمان والإيمان يرجع إليها, لأن معرفتها تتضمن أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية, وتوحيد الألوهية, وتوحيد الأسماء والصفات, وهذه الأنواع هي روح الإيمان وأصله وغايته, فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته ازداد إيمانه وقوي يقينه, فينبغي للمؤمن أن يبذل مقدوره ومستطاعه في معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله, من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تحريف ولا تكييف. (3) وعدم العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها قال تعالى: {وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ} أي يميلون بها ويعدلون بها عن معانيها مأخوذ من الميل كما يدل عليه مادة "لحد", فمنه اللحد: وهو الشق في جانب القبر الذي قد مال عن الوسط, ومنه الملحد في الدين المائل عن الحق إلى الباطل.
قال ابن السكيت: المُلْحِدُ العادِلُ عن الحق المُدْخِلُ فيه ما ليس فيه يقال قد أَلحَدَ في الدين ولحَدَ أَي حاد عنه وقرئ لسان الذي يَلْحَدون إِليه (4) .
وأسماء الله كلها حسنى وكلها تدل على الكمال المطلق والحمد المطلق, وهي توقيفية لا مجال للعقل فيها, وعلى هذا فيجب الوقوف على ما جاء به الكتاب والسنة فلا يزاد ولا ينقص, قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (5) , وقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (6) , فتسميته جل وعلا بما لم يسمِّ نفسه أو إنكار ما سمى به نفسه جناية في حقه سبحانه وتعالى, فوجب سلوك الأدب في
__________
(1) - سورة الأعراف الآية (180) .
(2) - صحيح البخاري باب ان لله مائة اسم إلا واحد حديث (6957) .
(3) - انظر: مدارج السالكين بين منازل إياك بعبد وإياك نستعين لابن القيم, ج3ص17 , والتوضيح والبيان لشجرة الإيمان لعبد الرحمن بن ناصر السعدي , ص39 , وبدائع الفوائد لابن القيم ج1ص164 , وشرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب السنة ص4و5.
(4) - لسان العرب ج3ص388.
(5) - سورة الإسراء الآية (36) .
(6) - سورة الأعراف الآية (33) .
ذلك والاقتصار على ما ورد في كتاب الله وسنة رسوله, فهؤلاء ملائكة الرحمن يقولون: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} (1) , فيجب الإيمان بالأسماء الحسنى الواردة في كتاب الله وسنة رسوله وتدل عليه من المعاني وتتعلق به من الآثار, فيؤمن المؤمن بأن الله رحيم: أي أنه ذو رحمة واسعة وسعة كل شيء فهو يرحم عباده, قدير: أي ذي قدرة على كل شيء أي لا يعجزه شيء, غفور: أي ذو مغفرة ويغفر لعباده, ... إلخ.
الذكر يقوي الإيمان
الذكر لله يقوي الإيمان, ويرفع من مكانة الإنسان, فهو شرف للذاكرين, وعدة للصابرين, وعون للمتقين, فمن ذكر الله ذكره, وأعانه ووفقه, وفي الذكر الحكيم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2) .
فاذكر أخي ربك في نفسك وبلسانك وقلبك تكن من الفائزين, فالذِكر غذاء الروح فهو الذي يمد النفس الإنسانية بالسكينة والاطمئنان وهذا ما صرح به القرآن, قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (3) , فَذِكْرُ الله سبب لحصول السعادة في الدنيا والآخرة وقد جاء في السنة النبوية عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (مثل الذي يذكر
__________
(1) - سورة البقرة الآية (32) .
(2) - سورة الأنفال الآية (2) .
(3) - سورة الرعد الآية (28) .
ربه والذي لا يذكر ربه، مثل الحي والميت) (1) ، وفي مسند الإمام احمد وسنن الترمذي من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: (ما عمل آدمي عملاً أنجى من عذاب الله، من ذكر الله عز وجل) قال معاذ: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها لدرجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال: ذكر الله تعالى) (2) .
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يسير في طريق مكة فَمَرَّ على جبل يقال له جُمْدان، فقال: (سيروا، هذا جُمْدان، سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) (3) وزاد الترمذي: (المستهترون في ذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم، فيأتون يوم القيامة خفافاً) (4) .
قال الشاعر:
والذِّكرُ فيه حَيَاةٌ لِلقُلُوبِ كما ... يُحيِي البِلادَ إذا ما ماتَت المَطَرُ (5)
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب فضل ذكر الله عز وجل، حديث (6407) .
(2) - أخرجه الترمذي في الدعوات، حديث (3377) - وابن ماجه, كتاب الأدب، باب فضل الذكر، حديث (3790) . ومسند الامام احمد حديث (22132) .
(3) - صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى، حديث (2676) طبعة-1992م.
(4) - سسن الترمذي،، باب في العفو والعافية، حديث (3520) .
(5) - هذا البيت لسابق بن عبد الله البربري الرقي (ت 132هـ749م) فقيه ومحدث وأحد شعراء الزهد في العهد الأموي أخذ الشعر عنه وتتلمذ له أبو العتاهية، من أهل خراسان، سكن الرقة، عرف بأبي أمية البربري وقد صحف الزبيدي صاحب تاج العروس اسمه بقوله (سابق بن عبد الله البرقي المعروف بالبربري) وترجم ابن عساكر لسابق البربري المحدث وسابق البربري الزاهد وتوهم أنهما اثنان بينما هما شخص واحد, روى الذهبي أنه من موالي بني أمية وفد على عمر بن عبد العزيز وله معه حكايات لطيفة.
وقال آخر:
لو يعلم الناس ما في الذكر من شرف ... أمضوا الحياة بتسبيح وتهليلِ
ويرحم الله أبا العتاهية حيث يقول:
لو يعلم العبد ما في الذكر من شرف ... أمضوا الحياة بتسبيح وتمجيدِ
أما الإمام علي بن أبي طالب فهو يعظ ولده الحسين رضي الله عنهما فيقول:
أَحُسَينُ إِنّي واعِظٌ وَمؤَدِّبٌ ... فَاِفهَم فَأَنتَ العاقِلُ المُتَأَدِّبُ
وَاِحفَظ وَصِيَّةَ وَالِدٍ مُتَحَنِّنٍ ... يَغذوكَ بالآدابِ كَيلا تُعطَبُ
أَبُنَيَّ إِنَّ الذِكرَ فيهِ مَواعِظٌ ... فَمَنِ الَّذي بِعِظاتِهِ يَتَأَدَّبُ
فَاِقرَأ كِتابَ اللَهِ جَهدَكَ واِتلُهُ ... فيمَن يَقومُ بِهِ هُناكَ وَيَنصَبُ
بِتَفَكُّرٍ وَتَخَشُّعٍ وَتَقَرُّبٍ ... إِنَّ المُقَرَّبَ عِندَهُ المُتَقَرِّبُ
وَاِعبُد إِلَهَكَ ذا المَعارِجِ مُخلِصاً ... وَاِنصِت إِلى الأَمثالِ فيما تُضرَبُ
وَإِذا مَرَرتَ بِآيَةٍ وَعظِيَّةٍ ... تَصِفُ العَذابَ فَقِف وَدَمعُكَ يُسكَبُ
يا مَن يُعَذِّبُ مَن يَشاءُ بِعَدلِهِ ... لا تَجعَلَنّي في الَّذينَ تُعَذِبُ
إِنّي أَبوءُ بِعَثرَتي وَخَطيئَتي ... هَرَباً إِلَيكَ وَلَيسَ دونَكَ مَهرَبُ
وَإِذا مَرَرتَ بِآيَةٍ في ذِكرِها ... وَصفَ الوَسيلَةِ وَالنَعيمِ المُعجِبُ
فَاِسأَل إِلَهَكَ بِالإِنابَةِ مُخلِصاً ... دارُ الخُلودِ سُؤالَ مَن يَتَقَرَّبُ
وَاِجهَد لَعَلَّكَ أَن تَحِلَّ بِأَرضِها ... وَتَنالَ روحَ مَساكِنَ لا تَخرَبُ
وَتَنالَ عَيشاً لا اِنقِطاعَ لِوَقتِهِ ... وَتَنالَ مُلكَ كَرامَةٍ لا تُسلَبُ
ذكر الله في جوف الليل
إن الذكر في جوف الليل يقوي إيمان الإنسان ويعلي شأنه, فمن جد وجد, وقد جاء في الحديث النبوي: (أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ) (1) , ويرحم الله القائل:
يا رجال الليل جدوا ... رب داع لا يردُ
ما يقوم الليل إلا ... من له عزم وجدُ
ليس شيء كصلاة ... الليل للقبر يعدُ
ولأبي العتاهية:
اِذكُر مَعادَكَ أَفضَلَ الذِكرِ ... لا تَنسَ يَومَ صَبيحَةِ الحَشرِ
ذكر الله شرف ونعمة
إن في ذكر الله سبحانه وتعالى شرف كبير, وخير وفير, وأمان من عذاب الله العلي الكبير, فالذِكر لله سبحانه وتعالى مظهر لمعرفة الإنسان ربه والثناء عليه، وبه يتقرب إلى الله, وبه يطلب رحمته وعفوه وفضله وإحسانه، قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (2) , فالذي أمد الإنسان بمال وبنين والذي خلق الإنسان وأوجده والمتصرف في الكون كيف يشاء يأمر الإنسان بذكره كي يذكره ويعطيه ويتفضل عليه ويعافيه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً* هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} (3) , وقد بين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن الذكر يحط عن الذاكرين أثقالهم من الذنوب، ويكون لهم بذلك الأجر الكبير، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى بذلك حيث قال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (4) .
الدعاء يقوي الإيمان
الدعاء بأسماء الله الحسنى مخ العبادة, وبه تنال الحسنى وزيادة, وفي الذكر الحكيم: {وَلِلّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (5) , فلا يثنى على الحق سبحانه وتعالى إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا, ولا يسأل إلا بها, فهي أجل ما ينطق به اللسان, وأفضل ما يتجمل به من الكلام, وأنفع ما يفزع إليه الإنسان على الدوام؛ ففي دعائه بأسمائه وصفاته توحيد لله في صفاته وأسمائه وتذلل وتضرع واعتراف بأنه الضار النافع المعطي المانع.
__________
(1) - أخرجه الترمذي في سننه باب في دعاء الضيف حديث (3503) .
(2) - سورة البقرة الآية (152) .
(3) - سورة الأحزاب الآيات (41-43) .
(4) - سورة الأحزاب الآية (35) .
(5) - سورة الأعراف الآية (180) .
فمن أراد خير الدنيا والآخرة فعليه بالدعاء, فبالدعاء يبلغ الإنسان آماله, وتصلح أحواله, وتزكو أعماله, والدعاء يرفع البلاء, ويقي من المصائب والأذى, ويجلب الخيرات والنعم, قال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} (1) .
من تقرب إلى الله بالدعاء ضمن الإجابة
من أخلص لله في الدعاء ظفر بمراده, وانتصر على أعدائه, فلا تزدري الدعاء وتتكاسل لكي لا تزل وتفشل, ويرحم الله الشافعي حيث يقول:
أَتَهزَأُ بِالدُعاءِ وَتَزدَريهِ ... وَما تَدري بِما صَنَعَ الدُّعاءُ
سِهامُ اللَيلِ لا تُخطِي وَلَكِن ... لَها أَمَدٌ وَلِلأَمَدِ اِنقِضاءُ
فيمسكها إذا ما شأ ربي ... ويرسلها إذا نفذ القضاء
وقال آخر:
وإني لأدعو الله والأمر ضيق ... عليَّ فما ينفك أن يتفرجا
ورب فتى سدت عليه وجوه ... أصاب لها في دعوة الله مخرجا (2)
وجاء في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي قول الشاعر:
الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبني آدم حين يسأل يغضب (3)
وجاء في شعر الحكمة لامرؤ القيس (4) :
__________
(1) - سورة الإسراء الآية (110) .
(2) - بهجة المجالس لابن عبد البر ج3ص274.
(3) - الجامع لأحكام القرآن ج1ص106.
(4) - امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي, (130-80ق. هـ/496-544م) , شاعر جاهلي، أشهر شعراء العرب على الإطلاق، يماني الأصل، مولده بنجد، كان أبوه ملك أسد وغطفان وأمه أخت المهلهل الشاعر, قال الشعر وهو غلام، وجعل يشبب ويلهو ويعاشر صعاليك العرب، فبلغ ذلك أباه، فنهاه عن سيرته فلم ينته، فأبعده إلى حضرموت، موطن أبيه وعشيرته، وهو في نحو العشرين من عمره, أقام زهاء خمس سنين، ثم جعل ينتقل مع أصحابه في أحياء العرب، يشرب ويطرب ويغزو ويلهو، إلى أن ثار بنو أسد على أبيه فقتلوه، فبلغه ذلك وهو جالس للشراب فقال: رحم الله أبي! ضيعني صغيراً وحملني دمه كبيراً، لا صحو اليوم ولا سكر غداً، اليوم خمر وغداً أمر. ونهض من غده فلم يزل حتى ثأر لأبيه من بني أسد، وقال في ذلك شعراً كثيراً, كانت حكومة فارس ساخطة على بني آكل المرار (آباء امرؤ القيس) فأوعزت إلى المنذر ملك العراق بطلب امرئ القيس، فطلبه فابتعد وتفرق عنه أنصاره، فطاف قبائل العرب حتى انتهى إلى السموأل، فأجاره ومكث عنده مدة, ثم قصد الحارث بن أبي شمر الغساني والي بادية الشام لكي يستعين بالروم على الفرس فسيره الحارث إلى قيصر الروم يوستينيانس في القسطنطينية فوعده وماطله ثم ولاه إمارة فلسطين، فرحل إليها، ولما كان بأنقرة ظهرت في جسمه قروح، فأقام فيها إلى أن مات.
وَاللَهُ أَنجَحُ ما طَلَبتَ بِهِ ... وَالبِرُّ خَيرُ حَقيبَةِ الرَحلِ
وقد جاء في الذكر الحكيم: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (1) , فهيهات أن يرد الله من سأله مخلصاً وأيقن منه الإجابة فهو الكريم الذي يجيب من سأله.
والدعاء نهاية التذلل ومصدر العطف من الرحيم ودليل الاخلاص للأحد الصمد العظيم, وفي الحديث النبوي الشريف: (ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ) (2) .
المؤمن من أسماء الله الحسنى
المؤمن من أسماء الله الحسنى, هو من وحد نفسه سبحانه, وأثنى عليها بصفة الكمال, وبكمال الجلال والجمال, الذي أرسل رسله, وأنزل كتبه بالآيات والبراهين, وصدق رسله بكل آية وبرهان يدل على صدقهم وصحة ما جاءوا به. (3) قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ
__________
(1) - سورة البقرة الآية (182) .
(2) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء في جامع الدعوات حديث (3401) .
(3) - شرح أسماء الله الحسنى ص169.
الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (1) , وقال جل شأنه: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2) .
وقال ابن عباس: المؤمن: هو من أمن خلقه من أن يظلمهم.
وقال قتادة: أمن: بقوله أنه الحق.
وقال ابن زيد: صدق عباده المؤمنين في إيمانهم.
وقال مجاهد: هو الذي وحد نفسه سبحانه.
وقيل: هو المصدق لرسله بإظهار معجزاته عليهم ومصدق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب, ومصدق الكافرين ما وعدهم به من العقاب, وهو الذي أمن أولياءه من عذابه, وهو الذي أمن عباده من الخوف. (3)
وقال الحليمي: المؤمن معناه المصدق, لأنه إذا وعد صدق وعده, ويحتمل المؤمن عباده بما عرفهم من عدله ورحمته من أن يظلمهم ويجور عليهم. (4)
وقال محمد راتب النابلسي: فاسم الله المؤمن مأخوذ من التصديق أو من الأمن. (5)
__________
(1) - سورة الحشر الآية (23) .
(2) - سورة آل عمران الآية (18) .
(3) - أورد ذلك حامد احمد الطاهر في الجامع لأسماء الله الحسنى ص285, نقلاً عن ابن كثير والقرطبي في التفسير.
(4) - الأسماء والصفات للبيهقي ص84.
(5) - موسوعة أسماء الله الحسنى للأستاذ الدكتور/ محمد راتب النابلسي , ج1ص99, الناشر: دار المكتبي دمشق سوريا, الطبعة الخامسة 1429هـ2008م.
ثمرة التعرف على اسم الله المؤمن
إذا عرف العاقل المسلم أن الله جل وعلا المؤمن المهيمن كان لله مصدقاً, وآمن بكل ما أنزل الله سبحانه وتعالى, وبذلك يتم إيمانه, ويتحقق الأمن والاطمئنان في قلبه بذكر الله سبحانه, ويحصل له الخوف والحياء من الله لإيمانه
بشهادة الله عليه إن عصاه, ورجاء شهادة الله له إن أطاعه, وبذلك يكون قوّاماً بشهادة الله في كل ما نفع وضر وساء وسر, ولو على نفسه أو الوالدين والأقربين, وفي ذلك نجاة المؤمن وفلاحه وصلاحه وإصلاحه لنفسه ومجتمعه.
دعاء الله باسمه المؤمن
يا الله يا رحمن يا رحيم يا مؤمن يا مهيمن أمّنًي والمؤمنين من عذابك, ومن مناقشة حسابك, ومن أليم عقابك, واجعل اللهم يا مؤمن يا مهيمن خوفك على قلبي وجوارحي مهيمناً, واجعل قلبي له محلاً ومسكناً, واجعلني من المتقين, وأسكني والمؤمنين غرف الفردوس الأعلى يا رب العالمين ويا أرحم الراحمين, وصلى الله على محمد وآله وأصحابه المتقين المؤمنين وسلم تسليماً كثيراً يا رب العالمين.
إن التصديق بكل ما أنزله الله على رسله وأخبر الله به عباده في كتابه العزيز عن الجن والملائكة والجنة والنار ويوم المعاد والحساب وما يحصل فيه يدل على كمال الإيمان واليقين, والإيمان بما أوجب الله عن كل ما غاب عن نظر الإنسان وإدراكه واستأثر الله به مما أرشد إليه القرآن الكريم, فلا يكون الإنسان مهتدياً ومؤمناً ما لم يكن مؤمناً بالغيب, وفي القرآن العظيم على ذلك دليل وشاهد: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) .
ولعلماء اللغة والتفسير في وصف الغيب أقوال نشير إلى بعض منها:
قال الراغب: الغيب: مصدر غابت الشمس وغيرها إذا استترت عن العين، واستعمل في كل غائب عن الحاسة، وعما يغيب عن علم الإنسان بمعنى الغائب، ويقال للشيء غيب وغائب باعتباره بالناس لا بالله تعالى، فإنه لا يغيب عنه شيء، كما لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض (4) .
وقيل: الغيب: ما غاب علمه عن جميع المخلوقات إلا ما علموه عن طريق الرسل، وقال الفيروزابادي: الغيب ما غاب عنك، وقيل: الغيب ما غاب عن الناس مما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الملائكة والجنة والنار والحساب، وقال ابن الأعرابي: الغيب: ما كان غائباً عن العيون وإن كان محصلاً في القلوب، وأنشد بيت تميم بن أبي بن مقبل:
وللفؤاد وجيب تحت أبهره ... لدم الغلام وراء الغيب بالحجر (5)
وقال صاحب المنار: الغيب قسمان: غيب حقيقي مطلق وهو ما غاب عن جميع الخلق حتى الملائكة، وفيه يقول الله عز وجل: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} (6) , وغيب إضافي وهو ما غاب علمه عن بعض المخلوقين دون بعض كالذي يعلمه الملائكة من أمر عالمهم وغيره ولا يعلمه البشر مثلاً، وأما ما يعلمه بعض البشر بتمكنهم من أسبابه واستعمالهم
__________
(1) - وردت هذه الأبيات ليوسف الدجوي من كبار علماء الأزهر في القرن الماضي ضمن تقريضه للنهضة الإصلاحية للأسرة الإسلامية لمؤلفه مصطفى الحمامي, ص9 , مطبعة مصطفى الحلبي 1355هـ1936م.
(2) - العلامة الشريف الرضي: (359-406هـ/969-1015م) محمد بن الحسين بن موسى، أبو الحسن، الرضي العلوي الحسيني الموسوي. من أحفاد الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أشعر الطالبيين على كثرة المجيدين فيهم. مولده ووفاته في بغداد، انتهت إليه نقابة الأشراف في حياة والده وخلع عليه بالسواد وجدد له التقليد سنة 403 هـ. له ديوان شعر في مجلدين، وكتب منها: الحَسَن من شعر الحسين، وهو مختارات من شعر ابن الحجاج في ثمانية أجزاء، والمجازات النبوية، ومجاز القرآن، ومختار شعر الصابئ، ومجموعة ما دار بينه وبين أبي إسحاق الصابئ من الرسائل, وهو جامع نهج البلاغة, ونسب جمعه البعض إلى أخيه المرتضى. توفي ببغداد ودفن بداره أولاً ثمّ نقل رفاته ليدفن في جوار جده الإمام الحسين رضي الله عنه، بكربلاء.
(3) - سورة البقرة الآيات (3-5) .
(4) - المفردات ص370.
(5) - الوجيب: تحرك القلب، والأبهر: عرق في الصلب، والقلب متصل به، فإذا انقطع لم تكن معه حياة، واللدم: الضرب، يريد أن للفؤاد صوت يسمعه ولا يراه كما يسمع صوت الحجر الذي يرمي به الصبي ولا يراه، وانظر: اللسان في مادة (بهر) ج4ص81 , وبصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للعلامة مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي المتوفى سنة 817هـ, ج4ص252, الناشر: المكتبة العلمية بيروت الطبعة الأولى.
(6) - سورة النمل الآية (65) .
قال النابغة الجعدي (1) :
لَوى اللَهُ عِلمَ الغَيبِ عَمَّن سِواءَهُ ... وَيَعلَمُ مِنهُ ما مَضى وتأَخَّرا
أما أبو الحسن الغزنوي فهو يقول:
والله بالغيب والتقدير منفرد ... وما سوى حكمه غيِّ وتضليلُ
ويرى محمد الحسيني أن الله انفرد بعلم الغيب وأنه لا أجهل ممن يدَّعي ثقةً بحدسه وهو يجهل ما في بيته, وذلك حيث يقول:
لا يعلم الغيب إلا الله خالقنا ... لا غيره عالم عجماً ولا عربا
إذ لا شيء أجهل ممن يدعي ثقةً ... بحدسه ويرى فيما يرى ريبا
قد يجهل المرء ما في بيته نظراً ... فكيف عنه بما في غيبه احتجبا
أما زهير بن أبي سلمى (2) فهو يقول:
وَأَعلَمُ عِلمَ اليَومِ وَالأَمسِ قَبلَهُ ... وَلَكِنَّني عَن عِلمِ ما في غَدٍ عَمي
إخبار المنجم عن علم الغيب كذب والتصديق به كفر
__________
(1) - قيس بن عبد الله، بن عُدَس بن ربيعة، الجعدي العامري، أبو ليلى, (54ق. هـ-50 هـ/ 70-670م) , شاعر مفلق، صحابي من المعمرين، اشتهر في الجاهلية وسمي النابغة لأنه أقام ثلاثين سنة, لا يقول الشعر ثمَّ نبغ فقاله، وكان ممن هجر الأوثان، ونهى عن الخمر قبل ظهور الإسلام, ووفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأسلم، وأدرك صفّين فشهدها مع علي كرم الله وجهه، ثم سكن الكوفة فَسَيّره معاوية إلى أصبهان مع أحد ولاتها فمات فيها وقد كُفَّ بصره وجاوز المائة.
(2) -زهير بن أبي سلمى ربيعة بن رباح المزني، من مُضَر, (ت 13ق. هـ609م) , حكيم الشعراء في الجاهلية وفي أئمة الأدب من يفضّله على شعراء العرب كافة, قال ابن الأعرابي: كان لزهير من الشعر ما لم يكن لغيره: كان أبوه شاعراً، وخاله شاعراً، وأخته سلمى شاعرة، وابناه كعب وبجير شاعرين، وأخته الخنساء شاعرة, ولد في بلاد مُزَينة بنواحي المدينة وكان يقيم في الحاجر (من ديار نجد) ، واستمر بنوه فيه بعد الإسلام, قيل: كان ينظم القصيدة في شهر وينقحها ويهذبها في سنة فكانت قصائده تسمّى (الحوليات) ، أشهر شعره معلقته التي مطلعها: ... أمن أم أوفى دمنة لم تكلم
التنجيم كذب ووبال, وزيف وخيال, فلا تصدق المنجم تأثم, ومن الخير تحرم, فاحذر تصديق المنجم والكاهن والعراف, ففي الحديث النبوي الشريف: (مَنْ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنْ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ) (1) , وقال العزيز الحكيم: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (2) , وجاء في حديث آخر: (مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ آله وَسَلَّمَ) (3) .
قال الشاعر:
دع المنجمَ يكبو في ضلالته ... إن ادعى علمَ ما يجري به الفلكُ
تفرَّد اللهُ بالعلم القديم فلا ... الإنسان يشركهُ فيه ولا الملك (4)
وقال أبو العلاء المعري:
يُنَجِّمونَ وَما يَدرونَ لَو سُئِلوا ... عَنِ البَعوضَةِ أَنّى مِنهُمُ تَقِفُ
أما لبيد بن ربيعة فهو يقول:
لَعَمرُكَ ما تَدري الضَوارِبُ بِالحَصى ... وَلا زاجِراتُ الطَيرِ ما اللَهُ صانِعُ
__________
(1) - أخرجه أبو داود في سننه باب في النجوم حديث (3406) .
(2) - سورة طه الآية (69) .
(3) - أخرجه احمد في المسند عن أبي هريرة حديث (9171) .
(4) - هذه الأبيات لأبي اليمن الكندي, وهو زيد بن الحسن بن زيد بن سعيد الحميري من ذي رعين أبو اليمن تاج الدين الكندي, (520-613هـ/1126-1217م) أديب من الكتاب الشعراء العظماء، ولد ونشأ ببغداد وسافر إلى حلب سنة 563 هـ، وسكن دمشق وقصده الناس يقرؤون عليه، وكان مختصاً بفرخ شاه ابن أخي صلاح الدين وبولده الملك الأمجد صاحب بعلبك، وهو شيخ المؤرخ سبط ابن الجوزي، وكان الملك المعظم عيسى يقرأ عليه دائماً كتاب سيبويه متناً وشرحاً والإيضاح والحماسة وغيرهما, قال أبو شامة: كان المعظم يمشي من القلعة راجلاً إلى دار تاج الدين والكتاب تحت إبطه، واقتنى مكتبة نفيسة, توفي في دمشق, له ديوان شعر، وله: كتاب شيوخه على حروف المعجم كبير، وشرح ديوان المتنبي.
وقال آخر:
كُن طالِباً لِلعِلمِ واِعمَل صالِحاً ... فَهُما إِلى سُبُلِ الهُدى سَبَبانِ
لا تَتَّبِع عِلمَ النُجومِ فَإِنَّهُ ... مُتَعَلِّقٌ بِزَخارِفِ الكُهّانِ
عِلمُ النُجومِ وَعِلمُ شَرعِ مُحمَّدٍ ... في قَلبِ عَبدٍ لَيسَ يَجتَمِعانِ (1)
أما المتنبي فهو يقول:
فَتَبّاً لِدينِ عَبيدِ النُجومِ ... وَمَن يَدَّعي أَنَّها تَعقِلُ
وهذا أبو تمام الطائي يقول:
السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ ... في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ
بيضُ الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِفِ ... في مُتونِهِنَّ جَلاءُ الشَكِّ وَالرِيَبِ
وَالعِلمُ في شُهُبِ الأَرماحِ لامِعَةً ... بَينَ الخَميسَينِ لا في السَبعَةِ الشُهُبِ
أَينَ الرِوايَةُ بَل أَينَ النُجومُ وَما ... صاغوهُ مِن زُخرُفٍ فيها وَمِن كَذِبِ
تَخَرُّصاً وَأَحاديثاً مُلَفَّقَةً ... لَيسَت بِنَبعٍ إِذا عُدَّت وَلا غَرَبِ
وقال آخر:
الفأل والزجر والكهان كلهم ... مضللون ودون الغيب أقفال (2)
__________
(1) - هذه الأبيات تنسب للعلامة عبد الله بن محمد القحطاني.
(2) - الموسوعة الشعرية ص82.
علم الفلك والنجوم
علم النجوم علمان:
علم يعرف به سير النجوم ومدارها ومنازلها وأبعادها وأحجامها, وهذا ما يسمى بعلم الفلك وهو ليس داخل في التنجيم وتعليمه والعمل به غير
منهي عنه, وفي الذكر الحكيم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (1) .
وعلم يزعمون أنه يعني روحانية النجوم والكواكب وتأثيرها في الخلق والأرض ومن عليها بالأمراض وما يحصل من الحروب والضيق والسعة والموت والحياة والسعادة والشقاوة ... إلخ, وما يعملون فيه من الجداول بالحوادث في العالم كله وهذا هو الدجل والكذب وهو نوع من السحر واستخدام الشياطين والقول على الله بلا علم.
قال الشاعر:
تدبر بالنجوم ولست تدري ... ورب النجم يفعل ما يريد (2)
وقال ابن تيمية: "لا ريب أن النجوم نوعان: حساب وأحكام, فأما الحساب فهو معرفة أقدار الأفلاك والكواكب وصفاتها ومقادير حركتها وما يتبع ذلك فهذا في الأصل علم صحيح لا ريب فيه كمعرفة الأرض وصفتها.
وصناعة التنجيم التي مضمونها الأحكام والتأثير وهو الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية صناعة محرمة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة". (3) وقال الشاعر:
إني بأحكام النجوم مكذب ... ولمدعيها لائم ومؤنب
الغيب يعلمه المهيمن وحده ... وعن الخلائق أجمعين مغيب
__________
(1) - سورة يونس الآية (5) .
(2) - ورد هذا البيت في التمثيل والمحاضرات للثعالبي, ص189.
(3) - انظر مجموع فتاوى ابن تيمية ج9ص224.
الإيمان بأسماء الله وصفاته
إن الإيمان بأسماء الله وصفاته هو أعظم المطالب وأهمها, وإذا كان الله قد جعل لكل مطلوب سبباً وطريقاً للوصول إليه فقد جعل للإيمان أسباباً تجلبه وتقويه كما كان له أسبابٌ تضعفه وتوهيه, ومن أعظم ما يقوي الإيمان ويجلبه معرفة أسماء الله الحسنى الواردة في كتاب الله العزيز وسنة رسوله الكريم والحرص على تفهم معانيها والتعبد لله بها وفي الذكر الحكيم: {وَلِلّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (1) .
وجاء في السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) (2) , أي من حفظها, وفهم معانيها ومدلولها, وأثنى على الله بها, وسأله بها واعتقدها دخل الجنة, والجنة لا يدخلها إلا المؤمن, فاعلم أن ذلك أعظم ينبوع, ومادة لحصول الإيمان وقوته وثباته, ومعرفة الأسماء الحسنى -بمراتبها الثلاث: إحصاء ألفاظها وعددها, وفهم معانيها ومدلولها, ودعاء الله بها, دعاء الثناء والعبادة ودعاء المسألة- هي أصل الإيمان والإيمان يرجع إليها, لأن معرفتها تتضمن أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية, وتوحيد الألوهية, وتوحيد الأسماء والصفات, وهذه الأنواع هي روح الإيمان وأصله وغايته, فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته ازداد إيمانه وقوي يقينه, فينبغي للمؤمن أن يبذل مقدوره ومستطاعه في معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله, من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تحريف ولا تكييف. (3) وعدم العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها قال تعالى: {وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ} أي يميلون بها ويعدلون بها عن معانيها مأخوذ من الميل كما يدل عليه مادة "لحد", فمنه اللحد: وهو الشق في جانب القبر الذي قد مال عن الوسط, ومنه الملحد في الدين المائل عن الحق إلى الباطل.
قال ابن السكيت: المُلْحِدُ العادِلُ عن الحق المُدْخِلُ فيه ما ليس فيه يقال قد أَلحَدَ في الدين ولحَدَ أَي حاد عنه وقرئ لسان الذي يَلْحَدون إِليه (4) .
وأسماء الله كلها حسنى وكلها تدل على الكمال المطلق والحمد المطلق, وهي توقيفية لا مجال للعقل فيها, وعلى هذا فيجب الوقوف على ما جاء به الكتاب والسنة فلا يزاد ولا ينقص, قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (5) , وقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (6) , فتسميته جل وعلا بما لم يسمِّ نفسه أو إنكار ما سمى به نفسه جناية في حقه سبحانه وتعالى, فوجب سلوك الأدب في
__________
(1) - سورة الأعراف الآية (180) .
(2) - صحيح البخاري باب ان لله مائة اسم إلا واحد حديث (6957) .
(3) - انظر: مدارج السالكين بين منازل إياك بعبد وإياك نستعين لابن القيم, ج3ص17 , والتوضيح والبيان لشجرة الإيمان لعبد الرحمن بن ناصر السعدي , ص39 , وبدائع الفوائد لابن القيم ج1ص164 , وشرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب السنة ص4و5.
(4) - لسان العرب ج3ص388.
(5) - سورة الإسراء الآية (36) .
(6) - سورة الأعراف الآية (33) .
ذلك والاقتصار على ما ورد في كتاب الله وسنة رسوله, فهؤلاء ملائكة الرحمن يقولون: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} (1) , فيجب الإيمان بالأسماء الحسنى الواردة في كتاب الله وسنة رسوله وتدل عليه من المعاني وتتعلق به من الآثار, فيؤمن المؤمن بأن الله رحيم: أي أنه ذو رحمة واسعة وسعة كل شيء فهو يرحم عباده, قدير: أي ذي قدرة على كل شيء أي لا يعجزه شيء, غفور: أي ذو مغفرة ويغفر لعباده, ... إلخ.
الذكر يقوي الإيمان
الذكر لله يقوي الإيمان, ويرفع من مكانة الإنسان, فهو شرف للذاكرين, وعدة للصابرين, وعون للمتقين, فمن ذكر الله ذكره, وأعانه ووفقه, وفي الذكر الحكيم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2) .
فاذكر أخي ربك في نفسك وبلسانك وقلبك تكن من الفائزين, فالذِكر غذاء الروح فهو الذي يمد النفس الإنسانية بالسكينة والاطمئنان وهذا ما صرح به القرآن, قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (3) , فَذِكْرُ الله سبب لحصول السعادة في الدنيا والآخرة وقد جاء في السنة النبوية عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (مثل الذي يذكر
__________
(1) - سورة البقرة الآية (32) .
(2) - سورة الأنفال الآية (2) .
(3) - سورة الرعد الآية (28) .
ربه والذي لا يذكر ربه، مثل الحي والميت) (1) ، وفي مسند الإمام احمد وسنن الترمذي من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: (ما عمل آدمي عملاً أنجى من عذاب الله، من ذكر الله عز وجل) قال معاذ: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها لدرجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال: ذكر الله تعالى) (2) .
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يسير في طريق مكة فَمَرَّ على جبل يقال له جُمْدان، فقال: (سيروا، هذا جُمْدان، سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) (3) وزاد الترمذي: (المستهترون في ذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم، فيأتون يوم القيامة خفافاً) (4) .
قال الشاعر:
والذِّكرُ فيه حَيَاةٌ لِلقُلُوبِ كما ... يُحيِي البِلادَ إذا ما ماتَت المَطَرُ (5)
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب فضل ذكر الله عز وجل، حديث (6407) .
(2) - أخرجه الترمذي في الدعوات، حديث (3377) - وابن ماجه, كتاب الأدب، باب فضل الذكر، حديث (3790) . ومسند الامام احمد حديث (22132) .
(3) - صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى، حديث (2676) طبعة-1992م.
(4) - سسن الترمذي،، باب في العفو والعافية، حديث (3520) .
(5) - هذا البيت لسابق بن عبد الله البربري الرقي (ت 132هـ749م) فقيه ومحدث وأحد شعراء الزهد في العهد الأموي أخذ الشعر عنه وتتلمذ له أبو العتاهية، من أهل خراسان، سكن الرقة، عرف بأبي أمية البربري وقد صحف الزبيدي صاحب تاج العروس اسمه بقوله (سابق بن عبد الله البرقي المعروف بالبربري) وترجم ابن عساكر لسابق البربري المحدث وسابق البربري الزاهد وتوهم أنهما اثنان بينما هما شخص واحد, روى الذهبي أنه من موالي بني أمية وفد على عمر بن عبد العزيز وله معه حكايات لطيفة.
وقال آخر:
لو يعلم الناس ما في الذكر من شرف ... أمضوا الحياة بتسبيح وتهليلِ
ويرحم الله أبا العتاهية حيث يقول:
لو يعلم العبد ما في الذكر من شرف ... أمضوا الحياة بتسبيح وتمجيدِ
أما الإمام علي بن أبي طالب فهو يعظ ولده الحسين رضي الله عنهما فيقول:
أَحُسَينُ إِنّي واعِظٌ وَمؤَدِّبٌ ... فَاِفهَم فَأَنتَ العاقِلُ المُتَأَدِّبُ
وَاِحفَظ وَصِيَّةَ وَالِدٍ مُتَحَنِّنٍ ... يَغذوكَ بالآدابِ كَيلا تُعطَبُ
أَبُنَيَّ إِنَّ الذِكرَ فيهِ مَواعِظٌ ... فَمَنِ الَّذي بِعِظاتِهِ يَتَأَدَّبُ
فَاِقرَأ كِتابَ اللَهِ جَهدَكَ واِتلُهُ ... فيمَن يَقومُ بِهِ هُناكَ وَيَنصَبُ
بِتَفَكُّرٍ وَتَخَشُّعٍ وَتَقَرُّبٍ ... إِنَّ المُقَرَّبَ عِندَهُ المُتَقَرِّبُ
وَاِعبُد إِلَهَكَ ذا المَعارِجِ مُخلِصاً ... وَاِنصِت إِلى الأَمثالِ فيما تُضرَبُ
وَإِذا مَرَرتَ بِآيَةٍ وَعظِيَّةٍ ... تَصِفُ العَذابَ فَقِف وَدَمعُكَ يُسكَبُ
يا مَن يُعَذِّبُ مَن يَشاءُ بِعَدلِهِ ... لا تَجعَلَنّي في الَّذينَ تُعَذِبُ
إِنّي أَبوءُ بِعَثرَتي وَخَطيئَتي ... هَرَباً إِلَيكَ وَلَيسَ دونَكَ مَهرَبُ
وَإِذا مَرَرتَ بِآيَةٍ في ذِكرِها ... وَصفَ الوَسيلَةِ وَالنَعيمِ المُعجِبُ
فَاِسأَل إِلَهَكَ بِالإِنابَةِ مُخلِصاً ... دارُ الخُلودِ سُؤالَ مَن يَتَقَرَّبُ
وَاِجهَد لَعَلَّكَ أَن تَحِلَّ بِأَرضِها ... وَتَنالَ روحَ مَساكِنَ لا تَخرَبُ
وَتَنالَ عَيشاً لا اِنقِطاعَ لِوَقتِهِ ... وَتَنالَ مُلكَ كَرامَةٍ لا تُسلَبُ
ذكر الله في جوف الليل
إن الذكر في جوف الليل يقوي إيمان الإنسان ويعلي شأنه, فمن جد وجد, وقد جاء في الحديث النبوي: (أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ) (1) , ويرحم الله القائل:
يا رجال الليل جدوا ... رب داع لا يردُ
ما يقوم الليل إلا ... من له عزم وجدُ
ليس شيء كصلاة ... الليل للقبر يعدُ
ولأبي العتاهية:
اِذكُر مَعادَكَ أَفضَلَ الذِكرِ ... لا تَنسَ يَومَ صَبيحَةِ الحَشرِ
ذكر الله شرف ونعمة
إن في ذكر الله سبحانه وتعالى شرف كبير, وخير وفير, وأمان من عذاب الله العلي الكبير, فالذِكر لله سبحانه وتعالى مظهر لمعرفة الإنسان ربه والثناء عليه، وبه يتقرب إلى الله, وبه يطلب رحمته وعفوه وفضله وإحسانه، قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (2) , فالذي أمد الإنسان بمال وبنين والذي خلق الإنسان وأوجده والمتصرف في الكون كيف يشاء يأمر الإنسان بذكره كي يذكره ويعطيه ويتفضل عليه ويعافيه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً* هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} (3) , وقد بين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن الذكر يحط عن الذاكرين أثقالهم من الذنوب، ويكون لهم بذلك الأجر الكبير، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى بذلك حيث قال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (4) .
الدعاء يقوي الإيمان
الدعاء بأسماء الله الحسنى مخ العبادة, وبه تنال الحسنى وزيادة, وفي الذكر الحكيم: {وَلِلّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (5) , فلا يثنى على الحق سبحانه وتعالى إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا, ولا يسأل إلا بها, فهي أجل ما ينطق به اللسان, وأفضل ما يتجمل به من الكلام, وأنفع ما يفزع إليه الإنسان على الدوام؛ ففي دعائه بأسمائه وصفاته توحيد لله في صفاته وأسمائه وتذلل وتضرع واعتراف بأنه الضار النافع المعطي المانع.
__________
(1) - أخرجه الترمذي في سننه باب في دعاء الضيف حديث (3503) .
(2) - سورة البقرة الآية (152) .
(3) - سورة الأحزاب الآيات (41-43) .
(4) - سورة الأحزاب الآية (35) .
(5) - سورة الأعراف الآية (180) .
فمن أراد خير الدنيا والآخرة فعليه بالدعاء, فبالدعاء يبلغ الإنسان آماله, وتصلح أحواله, وتزكو أعماله, والدعاء يرفع البلاء, ويقي من المصائب والأذى, ويجلب الخيرات والنعم, قال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} (1) .
من تقرب إلى الله بالدعاء ضمن الإجابة
من أخلص لله في الدعاء ظفر بمراده, وانتصر على أعدائه, فلا تزدري الدعاء وتتكاسل لكي لا تزل وتفشل, ويرحم الله الشافعي حيث يقول:
أَتَهزَأُ بِالدُعاءِ وَتَزدَريهِ ... وَما تَدري بِما صَنَعَ الدُّعاءُ
سِهامُ اللَيلِ لا تُخطِي وَلَكِن ... لَها أَمَدٌ وَلِلأَمَدِ اِنقِضاءُ
فيمسكها إذا ما شأ ربي ... ويرسلها إذا نفذ القضاء
وقال آخر:
وإني لأدعو الله والأمر ضيق ... عليَّ فما ينفك أن يتفرجا
ورب فتى سدت عليه وجوه ... أصاب لها في دعوة الله مخرجا (2)
وجاء في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي قول الشاعر:
الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبني آدم حين يسأل يغضب (3)
وجاء في شعر الحكمة لامرؤ القيس (4) :
__________
(1) - سورة الإسراء الآية (110) .
(2) - بهجة المجالس لابن عبد البر ج3ص274.
(3) - الجامع لأحكام القرآن ج1ص106.
(4) - امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي, (130-80ق. هـ/496-544م) , شاعر جاهلي، أشهر شعراء العرب على الإطلاق، يماني الأصل، مولده بنجد، كان أبوه ملك أسد وغطفان وأمه أخت المهلهل الشاعر, قال الشعر وهو غلام، وجعل يشبب ويلهو ويعاشر صعاليك العرب، فبلغ ذلك أباه، فنهاه عن سيرته فلم ينته، فأبعده إلى حضرموت، موطن أبيه وعشيرته، وهو في نحو العشرين من عمره, أقام زهاء خمس سنين، ثم جعل ينتقل مع أصحابه في أحياء العرب، يشرب ويطرب ويغزو ويلهو، إلى أن ثار بنو أسد على أبيه فقتلوه، فبلغه ذلك وهو جالس للشراب فقال: رحم الله أبي! ضيعني صغيراً وحملني دمه كبيراً، لا صحو اليوم ولا سكر غداً، اليوم خمر وغداً أمر. ونهض من غده فلم يزل حتى ثأر لأبيه من بني أسد، وقال في ذلك شعراً كثيراً, كانت حكومة فارس ساخطة على بني آكل المرار (آباء امرؤ القيس) فأوعزت إلى المنذر ملك العراق بطلب امرئ القيس، فطلبه فابتعد وتفرق عنه أنصاره، فطاف قبائل العرب حتى انتهى إلى السموأل، فأجاره ومكث عنده مدة, ثم قصد الحارث بن أبي شمر الغساني والي بادية الشام لكي يستعين بالروم على الفرس فسيره الحارث إلى قيصر الروم يوستينيانس في القسطنطينية فوعده وماطله ثم ولاه إمارة فلسطين، فرحل إليها، ولما كان بأنقرة ظهرت في جسمه قروح، فأقام فيها إلى أن مات.
وَاللَهُ أَنجَحُ ما طَلَبتَ بِهِ ... وَالبِرُّ خَيرُ حَقيبَةِ الرَحلِ
وقد جاء في الذكر الحكيم: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (1) , فهيهات أن يرد الله من سأله مخلصاً وأيقن منه الإجابة فهو الكريم الذي يجيب من سأله.
والدعاء نهاية التذلل ومصدر العطف من الرحيم ودليل الاخلاص للأحد الصمد العظيم, وفي الحديث النبوي الشريف: (ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ) (2) .
المؤمن من أسماء الله الحسنى
المؤمن من أسماء الله الحسنى, هو من وحد نفسه سبحانه, وأثنى عليها بصفة الكمال, وبكمال الجلال والجمال, الذي أرسل رسله, وأنزل كتبه بالآيات والبراهين, وصدق رسله بكل آية وبرهان يدل على صدقهم وصحة ما جاءوا به. (3) قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ
__________
(1) - سورة البقرة الآية (182) .
(2) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء في جامع الدعوات حديث (3401) .
(3) - شرح أسماء الله الحسنى ص169.
الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (1) , وقال جل شأنه: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2) .
وقال ابن عباس: المؤمن: هو من أمن خلقه من أن يظلمهم.
وقال قتادة: أمن: بقوله أنه الحق.
وقال ابن زيد: صدق عباده المؤمنين في إيمانهم.
وقال مجاهد: هو الذي وحد نفسه سبحانه.
وقيل: هو المصدق لرسله بإظهار معجزاته عليهم ومصدق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب, ومصدق الكافرين ما وعدهم به من العقاب, وهو الذي أمن أولياءه من عذابه, وهو الذي أمن عباده من الخوف. (3)
وقال الحليمي: المؤمن معناه المصدق, لأنه إذا وعد صدق وعده, ويحتمل المؤمن عباده بما عرفهم من عدله ورحمته من أن يظلمهم ويجور عليهم. (4)
وقال محمد راتب النابلسي: فاسم الله المؤمن مأخوذ من التصديق أو من الأمن. (5)
__________
(1) - سورة الحشر الآية (23) .
(2) - سورة آل عمران الآية (18) .
(3) - أورد ذلك حامد احمد الطاهر في الجامع لأسماء الله الحسنى ص285, نقلاً عن ابن كثير والقرطبي في التفسير.
(4) - الأسماء والصفات للبيهقي ص84.
(5) - موسوعة أسماء الله الحسنى للأستاذ الدكتور/ محمد راتب النابلسي , ج1ص99, الناشر: دار المكتبي دمشق سوريا, الطبعة الخامسة 1429هـ2008م.
ثمرة التعرف على اسم الله المؤمن
إذا عرف العاقل المسلم أن الله جل وعلا المؤمن المهيمن كان لله مصدقاً, وآمن بكل ما أنزل الله سبحانه وتعالى, وبذلك يتم إيمانه, ويتحقق الأمن والاطمئنان في قلبه بذكر الله سبحانه, ويحصل له الخوف والحياء من الله لإيمانه
بشهادة الله عليه إن عصاه, ورجاء شهادة الله له إن أطاعه, وبذلك يكون قوّاماً بشهادة الله في كل ما نفع وضر وساء وسر, ولو على نفسه أو الوالدين والأقربين, وفي ذلك نجاة المؤمن وفلاحه وصلاحه وإصلاحه لنفسه ومجتمعه.
دعاء الله باسمه المؤمن
يا الله يا رحمن يا رحيم يا مؤمن يا مهيمن أمّنًي والمؤمنين من عذابك, ومن مناقشة حسابك, ومن أليم عقابك, واجعل اللهم يا مؤمن يا مهيمن خوفك على قلبي وجوارحي مهيمناً, واجعل قلبي له محلاً ومسكناً, واجعلني من المتقين, وأسكني والمؤمنين غرف الفردوس الأعلى يا رب العالمين ويا أرحم الراحمين, وصلى الله على محمد وآله وأصحابه المتقين المؤمنين وسلم تسليماً كثيراً يا رب العالمين.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
علم الفلك والنجوم
علم الفلك والنجوم
علم النجوم علمان:
علم يعرف به سير النجوم ومدارها ومنازلها وأبعادها وأحجامها, وهذا ما يسمى بعلم الفلك وهو ليس داخل في التنجيم وتعليمه والعمل به غير
منهي عنه, وفي الذكر الحكيم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (1) .
وعلم يزعمون أنه يعني روحانية النجوم والكواكب وتأثيرها في الخلق والأرض ومن عليها بالأمراض وما يحصل من الحروب والضيق والسعة والموت والحياة والسعادة والشقاوة ... إلخ, وما يعملون فيه من الجداول بالحوادث في العالم كله وهذا هو الدجل والكذب وهو نوع من السحر واستخدام الشياطين والقول على الله بلا علم.
قال الشاعر:
تدبر بالنجوم ولست تدري ... ورب النجم يفعل ما يريد (2)
وقال ابن تيمية: "لا ريب أن النجوم نوعان: حساب وأحكام, فأما الحساب فهو معرفة أقدار الأفلاك والكواكب وصفاتها ومقادير حركتها وما يتبع ذلك فهذا في الأصل علم صحيح لا ريب فيه كمعرفة الأرض وصفتها.
وصناعة التنجيم التي مضمونها الأحكام والتأثير وهو الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية صناعة محرمة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة". (3) وقال الشاعر:
إني بأحكام النجوم مكذب ... ولمدعيها لائم ومؤنب
الغيب يعلمه المهيمن وحده ... وعن الخلائق أجمعين مغيب
__________
(1) - سورة يونس الآية (5) .
(2) - ورد هذا البيت في التمثيل والمحاضرات للثعالبي, ص189.
(3) - انظر مجموع فتاوى ابن تيمية ج9ص224.
علم النجوم علمان:
الإيمان بأسماء الله وصفاته
إن الإيمان بأسماء الله وصفاته هو أعظم المطالب وأهمها, وإذا كان الله قد جعل لكل مطلوب سبباً وطريقاً للوصول إليه فقد جعل للإيمان أسباباً تجلبه وتقويه كما كان له أسبابٌ تضعفه وتوهيه, ومن أعظم ما يقوي الإيمان ويجلبه معرفة أسماء الله الحسنى الواردة في كتاب الله العزيز وسنة رسوله الكريم والحرص على تفهم معانيها والتعبد لله بها وفي الذكر الحكيم: {وَلِلّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (1) .
وجاء في السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) (2) , أي من حفظها, وفهم معانيها ومدلولها, وأثنى على الله بها, وسأله بها واعتقدها دخل الجنة, والجنة لا يدخلها إلا المؤمن, فاعلم أن ذلك أعظم ينبوع, ومادة لحصول الإيمان وقوته وثباته, ومعرفة الأسماء الحسنى -بمراتبها الثلاث: إحصاء ألفاظها وعددها, وفهم معانيها ومدلولها, ودعاء الله بها, دعاء الثناء والعبادة ودعاء المسألة- هي أصل الإيمان والإيمان يرجع إليها, لأن معرفتها تتضمن أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية, وتوحيد الألوهية, وتوحيد الأسماء والصفات, وهذه الأنواع هي روح الإيمان وأصله وغايته, فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته ازداد إيمانه وقوي يقينه, فينبغي للمؤمن أن يبذل مقدوره ومستطاعه في معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله, من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تحريف ولا تكييف. (3) وعدم العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها قال تعالى: {وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ} أي يميلون بها ويعدلون بها عن معانيها مأخوذ من الميل كما يدل عليه مادة "لحد", فمنه اللحد: وهو الشق في جانب القبر الذي قد مال عن الوسط, ومنه الملحد في الدين المائل عن الحق إلى الباطل.
قال ابن السكيت: المُلْحِدُ العادِلُ عن الحق المُدْخِلُ فيه ما ليس فيه يقال قد أَلحَدَ في الدين ولحَدَ أَي حاد عنه وقرئ لسان الذي يَلْحَدون إِليه (4) .
وأسماء الله كلها حسنى وكلها تدل على الكمال المطلق والحمد المطلق, وهي توقيفية لا مجال للعقل فيها, وعلى هذا فيجب الوقوف على ما جاء به الكتاب والسنة فلا يزاد ولا ينقص, قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (5) , وقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (6) , فتسميته جل وعلا بما لم يسمِّ نفسه أو إنكار ما سمى به نفسه جناية في حقه سبحانه وتعالى, فوجب سلوك الأدب في
__________
(1) - سورة الأعراف الآية (180) .
(2) - صحيح البخاري باب ان لله مائة اسم إلا واحد حديث (6957) .
(3) - انظر: مدارج السالكين بين منازل إياك بعبد وإياك نستعين لابن القيم, ج3ص17 , والتوضيح والبيان لشجرة الإيمان لعبد الرحمن بن ناصر السعدي , ص39 , وبدائع الفوائد لابن القيم ج1ص164 , وشرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب السنة ص4و5.
(4) - لسان العرب ج3ص388.
(5) - سورة الإسراء الآية (36) .
(6) - سورة الأعراف الآية (33) .
ذلك والاقتصار على ما ورد في كتاب الله وسنة رسوله, فهؤلاء ملائكة الرحمن يقولون: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} (1) , فيجب الإيمان بالأسماء الحسنى الواردة في كتاب الله وسنة رسوله وتدل عليه من المعاني وتتعلق به من الآثار, فيؤمن المؤمن بأن الله رحيم: أي أنه ذو رحمة واسعة وسعة كل شيء فهو يرحم عباده, قدير: أي ذي قدرة على كل شيء أي لا يعجزه شيء, غفور: أي ذو مغفرة ويغفر لعباده, ... إلخ.
الذكر يقوي الإيمان
الذكر لله يقوي الإيمان, ويرفع من مكانة الإنسان, فهو شرف للذاكرين, وعدة للصابرين, وعون للمتقين, فمن ذكر الله ذكره, وأعانه ووفقه, وفي الذكر الحكيم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2) .
فاذكر أخي ربك في نفسك وبلسانك وقلبك تكن من الفائزين, فالذِكر غذاء الروح فهو الذي يمد النفس الإنسانية بالسكينة والاطمئنان وهذا ما صرح به القرآن, قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (3) , فَذِكْرُ الله سبب لحصول السعادة في الدنيا والآخرة وقد جاء في السنة النبوية عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (مثل الذي يذكر
__________
(1) - سورة البقرة الآية (32) .
(2) - سورة الأنفال الآية (2) .
(3) - سورة الرعد الآية (28) .
ربه والذي لا يذكر ربه، مثل الحي والميت) (1) ، وفي مسند الإمام احمد وسنن الترمذي من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: (ما عمل آدمي عملاً أنجى من عذاب الله، من ذكر الله عز وجل) قال معاذ: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها لدرجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال: ذكر الله تعالى) (2) .
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يسير في طريق مكة فَمَرَّ على جبل يقال له جُمْدان، فقال: (سيروا، هذا جُمْدان، سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) (3) وزاد الترمذي: (المستهترون في ذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم، فيأتون يوم القيامة خفافاً) (4) .
قال الشاعر:
والذِّكرُ فيه حَيَاةٌ لِلقُلُوبِ كما ... يُحيِي البِلادَ إذا ما ماتَت المَطَرُ (5)
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب فضل ذكر الله عز وجل، حديث (6407) .
(2) - أخرجه الترمذي في الدعوات، حديث (3377) - وابن ماجه, كتاب الأدب، باب فضل الذكر، حديث (3790) . ومسند الامام احمد حديث (22132) .
(3) - صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى، حديث (2676) طبعة-1992م.
(4) - سسن الترمذي،، باب في العفو والعافية، حديث (3520) .
(5) - هذا البيت لسابق بن عبد الله البربري الرقي (ت 132هـ749م) فقيه ومحدث وأحد شعراء الزهد في العهد الأموي أخذ الشعر عنه وتتلمذ له أبو العتاهية، من أهل خراسان، سكن الرقة، عرف بأبي أمية البربري وقد صحف الزبيدي صاحب تاج العروس اسمه بقوله (سابق بن عبد الله البرقي المعروف بالبربري) وترجم ابن عساكر لسابق البربري المحدث وسابق البربري الزاهد وتوهم أنهما اثنان بينما هما شخص واحد, روى الذهبي أنه من موالي بني أمية وفد على عمر بن عبد العزيز وله معه حكايات لطيفة.
وقال آخر:
لو يعلم الناس ما في الذكر من شرف ... أمضوا الحياة بتسبيح وتهليلِ
ويرحم الله أبا العتاهية حيث يقول:
لو يعلم العبد ما في الذكر من شرف ... أمضوا الحياة بتسبيح وتمجيدِ
أما الإمام علي بن أبي طالب فهو يعظ ولده الحسين رضي الله عنهما فيقول:
أَحُسَينُ إِنّي واعِظٌ وَمؤَدِّبٌ ... فَاِفهَم فَأَنتَ العاقِلُ المُتَأَدِّبُ
وَاِحفَظ وَصِيَّةَ وَالِدٍ مُتَحَنِّنٍ ... يَغذوكَ بالآدابِ كَيلا تُعطَبُ
أَبُنَيَّ إِنَّ الذِكرَ فيهِ مَواعِظٌ ... فَمَنِ الَّذي بِعِظاتِهِ يَتَأَدَّبُ
فَاِقرَأ كِتابَ اللَهِ جَهدَكَ واِتلُهُ ... فيمَن يَقومُ بِهِ هُناكَ وَيَنصَبُ
بِتَفَكُّرٍ وَتَخَشُّعٍ وَتَقَرُّبٍ ... إِنَّ المُقَرَّبَ عِندَهُ المُتَقَرِّبُ
وَاِعبُد إِلَهَكَ ذا المَعارِجِ مُخلِصاً ... وَاِنصِت إِلى الأَمثالِ فيما تُضرَبُ
وَإِذا مَرَرتَ بِآيَةٍ وَعظِيَّةٍ ... تَصِفُ العَذابَ فَقِف وَدَمعُكَ يُسكَبُ
يا مَن يُعَذِّبُ مَن يَشاءُ بِعَدلِهِ ... لا تَجعَلَنّي في الَّذينَ تُعَذِبُ
إِنّي أَبوءُ بِعَثرَتي وَخَطيئَتي ... هَرَباً إِلَيكَ وَلَيسَ دونَكَ مَهرَبُ
وَإِذا مَرَرتَ بِآيَةٍ في ذِكرِها ... وَصفَ الوَسيلَةِ وَالنَعيمِ المُعجِبُ
فَاِسأَل إِلَهَكَ بِالإِنابَةِ مُخلِصاً ... دارُ الخُلودِ سُؤالَ مَن يَتَقَرَّبُ
وَاِجهَد لَعَلَّكَ أَن تَحِلَّ بِأَرضِها ... وَتَنالَ روحَ مَساكِنَ لا تَخرَبُ
وَتَنالَ عَيشاً لا اِنقِطاعَ لِوَقتِهِ ... وَتَنالَ مُلكَ كَرامَةٍ لا تُسلَبُ
ذكر الله في جوف الليل
إن الذكر في جوف الليل يقوي إيمان الإنسان ويعلي شأنه, فمن جد وجد, وقد جاء في الحديث النبوي: (أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ) (1) , ويرحم الله القائل:
يا رجال الليل جدوا ... رب داع لا يردُ
ما يقوم الليل إلا ... من له عزم وجدُ
ليس شيء كصلاة ... الليل للقبر يعدُ
ولأبي العتاهية:
اِذكُر مَعادَكَ أَفضَلَ الذِكرِ ... لا تَنسَ يَومَ صَبيحَةِ الحَشرِ
ذكر الله شرف ونعمة
إن في ذكر الله سبحانه وتعالى شرف كبير, وخير وفير, وأمان من عذاب الله العلي الكبير, فالذِكر لله سبحانه وتعالى مظهر لمعرفة الإنسان ربه والثناء عليه، وبه يتقرب إلى الله, وبه يطلب رحمته وعفوه وفضله وإحسانه، قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (2) , فالذي أمد الإنسان بمال وبنين والذي خلق الإنسان وأوجده والمتصرف في الكون كيف يشاء يأمر الإنسان بذكره كي يذكره ويعطيه ويتفضل عليه ويعافيه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً* هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} (3) , وقد بين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن الذكر يحط عن الذاكرين أثقالهم من الذنوب، ويكون لهم بذلك الأجر الكبير، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى بذلك حيث قال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (4) .
الدعاء يقوي الإيمان
الدعاء بأسماء الله الحسنى مخ العبادة, وبه تنال الحسنى وزيادة, وفي الذكر الحكيم: {وَلِلّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (5) , فلا يثنى على الحق سبحانه وتعالى إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا, ولا يسأل إلا بها, فهي أجل ما ينطق به اللسان, وأفضل ما يتجمل به من الكلام, وأنفع ما يفزع إليه الإنسان على الدوام؛ ففي دعائه بأسمائه وصفاته توحيد لله في صفاته وأسمائه وتذلل وتضرع واعتراف بأنه الضار النافع المعطي المانع.
__________
(1) - أخرجه الترمذي في سننه باب في دعاء الضيف حديث (3503) .
(2) - سورة البقرة الآية (152) .
(3) - سورة الأحزاب الآيات (41-43) .
(4) - سورة الأحزاب الآية (35) .
(5) - سورة الأعراف الآية (180) .
فمن أراد خير الدنيا والآخرة فعليه بالدعاء, فبالدعاء يبلغ الإنسان آماله, وتصلح أحواله, وتزكو أعماله, والدعاء يرفع البلاء, ويقي من المصائب والأذى, ويجلب الخيرات والنعم, قال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} (1) .
من تقرب إلى الله بالدعاء ضمن الإجابة
من أخلص لله في الدعاء ظفر بمراده, وانتصر على أعدائه, فلا تزدري الدعاء وتتكاسل لكي لا تزل وتفشل, ويرحم الله الشافعي حيث يقول:
أَتَهزَأُ بِالدُعاءِ وَتَزدَريهِ ... وَما تَدري بِما صَنَعَ الدُّعاءُ
سِهامُ اللَيلِ لا تُخطِي وَلَكِن ... لَها أَمَدٌ وَلِلأَمَدِ اِنقِضاءُ
فيمسكها إذا ما شأ ربي ... ويرسلها إذا نفذ القضاء
وقال آخر:
وإني لأدعو الله والأمر ضيق ... عليَّ فما ينفك أن يتفرجا
ورب فتى سدت عليه وجوه ... أصاب لها في دعوة الله مخرجا (2)
وجاء في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي قول الشاعر:
الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبني آدم حين يسأل يغضب (3)
وجاء في شعر الحكمة لامرؤ القيس (4) :
__________
(1) - سورة الإسراء الآية (110) .
(2) - بهجة المجالس لابن عبد البر ج3ص274.
(3) - الجامع لأحكام القرآن ج1ص106.
(4) - امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي, (130-80ق. هـ/496-544م) , شاعر جاهلي، أشهر شعراء العرب على الإطلاق، يماني الأصل، مولده بنجد، كان أبوه ملك أسد وغطفان وأمه أخت المهلهل الشاعر, قال الشعر وهو غلام، وجعل يشبب ويلهو ويعاشر صعاليك العرب، فبلغ ذلك أباه، فنهاه عن سيرته فلم ينته، فأبعده إلى حضرموت، موطن أبيه وعشيرته، وهو في نحو العشرين من عمره, أقام زهاء خمس سنين، ثم جعل ينتقل مع أصحابه في أحياء العرب، يشرب ويطرب ويغزو ويلهو، إلى أن ثار بنو أسد على أبيه فقتلوه، فبلغه ذلك وهو جالس للشراب فقال: رحم الله أبي! ضيعني صغيراً وحملني دمه كبيراً، لا صحو اليوم ولا سكر غداً، اليوم خمر وغداً أمر. ونهض من غده فلم يزل حتى ثأر لأبيه من بني أسد، وقال في ذلك شعراً كثيراً, كانت حكومة فارس ساخطة على بني آكل المرار (آباء امرؤ القيس) فأوعزت إلى المنذر ملك العراق بطلب امرئ القيس، فطلبه فابتعد وتفرق عنه أنصاره، فطاف قبائل العرب حتى انتهى إلى السموأل، فأجاره ومكث عنده مدة, ثم قصد الحارث بن أبي شمر الغساني والي بادية الشام لكي يستعين بالروم على الفرس فسيره الحارث إلى قيصر الروم يوستينيانس في القسطنطينية فوعده وماطله ثم ولاه إمارة فلسطين، فرحل إليها، ولما كان بأنقرة ظهرت في جسمه قروح، فأقام فيها إلى أن مات.
وَاللَهُ أَنجَحُ ما طَلَبتَ بِهِ ... وَالبِرُّ خَيرُ حَقيبَةِ الرَحلِ
وقد جاء في الذكر الحكيم: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (1) , فهيهات أن يرد الله من سأله مخلصاً وأيقن منه الإجابة فهو الكريم الذي يجيب من سأله.
والدعاء نهاية التذلل ومصدر العطف من الرحيم ودليل الاخلاص للأحد الصمد العظيم, وفي الحديث النبوي الشريف: (ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ) (2) .
المؤمن من أسماء الله الحسنى
المؤمن من أسماء الله الحسنى, هو من وحد نفسه سبحانه, وأثنى عليها بصفة الكمال, وبكمال الجلال والجمال, الذي أرسل رسله, وأنزل كتبه بالآيات والبراهين, وصدق رسله بكل آية وبرهان يدل على صدقهم وصحة ما جاءوا به. (3) قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ
__________
(1) - سورة البقرة الآية (182) .
(2) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء في جامع الدعوات حديث (3401) .
(3) - شرح أسماء الله الحسنى ص169.
الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (1) , وقال جل شأنه: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2) .
وقال ابن عباس: المؤمن: هو من أمن خلقه من أن يظلمهم.
وقال قتادة: أمن: بقوله أنه الحق.
وقال ابن زيد: صدق عباده المؤمنين في إيمانهم.
وقال مجاهد: هو الذي وحد نفسه سبحانه.
وقيل: هو المصدق لرسله بإظهار معجزاته عليهم ومصدق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب, ومصدق الكافرين ما وعدهم به من العقاب, وهو الذي أمن أولياءه من عذابه, وهو الذي أمن عباده من الخوف. (3)
وقال الحليمي: المؤمن معناه المصدق, لأنه إذا وعد صدق وعده, ويحتمل المؤمن عباده بما عرفهم من عدله ورحمته من أن يظلمهم ويجور عليهم. (4)
وقال محمد راتب النابلسي: فاسم الله المؤمن مأخوذ من التصديق أو من الأمن. (5)
__________
(1) - سورة الحشر الآية (23) .
(2) - سورة آل عمران الآية (18) .
(3) - أورد ذلك حامد احمد الطاهر في الجامع لأسماء الله الحسنى ص285, نقلاً عن ابن كثير والقرطبي في التفسير.
(4) - الأسماء والصفات للبيهقي ص84.
(5) - موسوعة أسماء الله الحسنى للأستاذ الدكتور/ محمد راتب النابلسي , ج1ص99, الناشر: دار المكتبي دمشق سوريا, الطبعة الخامسة 1429هـ2008م.
ثمرة التعرف على اسم الله المؤمن
إذا عرف العاقل المسلم أن الله جل وعلا المؤمن المهيمن كان لله مصدقاً, وآمن بكل ما أنزل الله سبحانه وتعالى, وبذلك يتم إيمانه, ويتحقق الأمن والاطمئنان في قلبه بذكر الله سبحانه, ويحصل له الخوف والحياء من الله لإيمانه
بشهادة الله عليه إن عصاه, ورجاء شهادة الله له إن أطاعه, وبذلك يكون قوّاماً بشهادة الله في كل ما نفع وضر وساء وسر, ولو على نفسه أو الوالدين والأقربين, وفي ذلك نجاة المؤمن وفلاحه وصلاحه وإصلاحه لنفسه ومجتمعه.
دعاء الله باسمه المؤمن
يا الله يا رحمن يا رحيم يا مؤمن يا مهيمن أمّنًي والمؤمنين من عذابك, ومن مناقشة حسابك, ومن أليم عقابك, واجعل اللهم يا مؤمن يا مهيمن خوفك على قلبي وجوارحي مهيمناً, واجعل قلبي له محلاً ومسكناً, واجعلني من المتقين, وأسكني والمؤمنين غرف الفردوس الأعلى يا رب العالمين ويا أرحم الراحمين, وصلى الله على محمد وآله وأصحابه المتقين المؤمنين وسلم تسليماً كثيراً يا رب العالمين.
علم يعرف به سير النجوم ومدارها ومنازلها وأبعادها وأحجامها, وهذا ما يسمى بعلم الفلك وهو ليس داخل في التنجيم وتعليمه والعمل به غير
منهي عنه, وفي الذكر الحكيم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (1) .
وعلم يزعمون أنه يعني روحانية النجوم والكواكب وتأثيرها في الخلق والأرض ومن عليها بالأمراض وما يحصل من الحروب والضيق والسعة والموت والحياة والسعادة والشقاوة ... إلخ, وما يعملون فيه من الجداول بالحوادث في العالم كله وهذا هو الدجل والكذب وهو نوع من السحر واستخدام الشياطين والقول على الله بلا علم.
قال الشاعر:
تدبر بالنجوم ولست تدري ... ورب النجم يفعل ما يريد (2)
وقال ابن تيمية: "لا ريب أن النجوم نوعان: حساب وأحكام, فأما الحساب فهو معرفة أقدار الأفلاك والكواكب وصفاتها ومقادير حركتها وما يتبع ذلك فهذا في الأصل علم صحيح لا ريب فيه كمعرفة الأرض وصفتها.
وصناعة التنجيم التي مضمونها الأحكام والتأثير وهو الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية صناعة محرمة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة". (3) وقال الشاعر:
إني بأحكام النجوم مكذب ... ولمدعيها لائم ومؤنب
الغيب يعلمه المهيمن وحده ... وعن الخلائق أجمعين مغيب
__________
(1) - سورة يونس الآية (5) .
(2) - ورد هذا البيت في التمثيل والمحاضرات للثعالبي, ص189.
(3) - انظر مجموع فتاوى ابن تيمية ج9ص224.
علم النجوم علمان:
علم يعرف به سير النجوم ومدارها ومنازلها وأبعادها وأحجامها, وهذا ما يسمى بعلم الفلك وهو ليس داخل في التنجيم وتعليمه والعمل به غير
منهي عنه, وفي الذكر الحكيم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (1) .
وعلم يزعمون أنه يعني روحانية النجوم والكواكب وتأثيرها في الخلق والأرض ومن عليها بالأمراض وما يحصل من الحروب والضيق والسعة والموت والحياة والسعادة والشقاوة ... إلخ, وما يعملون فيه من الجداول بالحوادث في العالم كله وهذا هو الدجل والكذب وهو نوع من السحر واستخدام الشياطين والقول على الله بلا علم.
قال الشاعر:
تدبر بالنجوم ولست تدري ... ورب النجم يفعل ما يريد (2)
وقال ابن تيمية: "لا ريب أن النجوم نوعان: حساب وأحكام, فأما الحساب فهو معرفة أقدار الأفلاك والكواكب وصفاتها ومقادير حركتها وما يتبع ذلك فهذا في الأصل علم صحيح لا ريب فيه كمعرفة الأرض وصفتها.
وصناعة التنجيم التي مضمونها الأحكام والتأثير وهو الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية صناعة محرمة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة". (3) وقال الشاعر:
إني بأحكام النجوم مكذب ... ولمدعيها لائم ومؤنب
الغيب يعلمه المهيمن وحده ... وعن الخلائق أجمعين مغيب
__________
(1) - سورة يونس الآية (5) .
(2) - ورد هذا البيت في التمثيل والمحاضرات للثعالبي, ص189.
(3) - انظر مجموع فتاوى ابن تيمية ج9ص224.
علم النجوم علمان:
الإيمان بأسماء الله وصفاته
إن الإيمان بأسماء الله وصفاته هو أعظم المطالب وأهمها, وإذا كان الله قد جعل لكل مطلوب سبباً وطريقاً للوصول إليه فقد جعل للإيمان أسباباً تجلبه وتقويه كما كان له أسبابٌ تضعفه وتوهيه, ومن أعظم ما يقوي الإيمان ويجلبه معرفة أسماء الله الحسنى الواردة في كتاب الله العزيز وسنة رسوله الكريم والحرص على تفهم معانيها والتعبد لله بها وفي الذكر الحكيم: {وَلِلّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (1) .
وجاء في السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) (2) , أي من حفظها, وفهم معانيها ومدلولها, وأثنى على الله بها, وسأله بها واعتقدها دخل الجنة, والجنة لا يدخلها إلا المؤمن, فاعلم أن ذلك أعظم ينبوع, ومادة لحصول الإيمان وقوته وثباته, ومعرفة الأسماء الحسنى -بمراتبها الثلاث: إحصاء ألفاظها وعددها, وفهم معانيها ومدلولها, ودعاء الله بها, دعاء الثناء والعبادة ودعاء المسألة- هي أصل الإيمان والإيمان يرجع إليها, لأن معرفتها تتضمن أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية, وتوحيد الألوهية, وتوحيد الأسماء والصفات, وهذه الأنواع هي روح الإيمان وأصله وغايته, فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته ازداد إيمانه وقوي يقينه, فينبغي للمؤمن أن يبذل مقدوره ومستطاعه في معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله, من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تحريف ولا تكييف. (3) وعدم العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها قال تعالى: {وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ} أي يميلون بها ويعدلون بها عن معانيها مأخوذ من الميل كما يدل عليه مادة "لحد", فمنه اللحد: وهو الشق في جانب القبر الذي قد مال عن الوسط, ومنه الملحد في الدين المائل عن الحق إلى الباطل.
قال ابن السكيت: المُلْحِدُ العادِلُ عن الحق المُدْخِلُ فيه ما ليس فيه يقال قد أَلحَدَ في الدين ولحَدَ أَي حاد عنه وقرئ لسان الذي يَلْحَدون إِليه (4) .
وأسماء الله كلها حسنى وكلها تدل على الكمال المطلق والحمد المطلق, وهي توقيفية لا مجال للعقل فيها, وعلى هذا فيجب الوقوف على ما جاء به الكتاب والسنة فلا يزاد ولا ينقص, قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (5) , وقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (6) , فتسميته جل وعلا بما لم يسمِّ نفسه أو إنكار ما سمى به نفسه جناية في حقه سبحانه وتعالى, فوجب سلوك الأدب في
__________
(1) - سورة الأعراف الآية (180) .
(2) - صحيح البخاري باب ان لله مائة اسم إلا واحد حديث (6957) .
(3) - انظر: مدارج السالكين بين منازل إياك بعبد وإياك نستعين لابن القيم, ج3ص17 , والتوضيح والبيان لشجرة الإيمان لعبد الرحمن بن ناصر السعدي , ص39 , وبدائع الفوائد لابن القيم ج1ص164 , وشرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب السنة ص4و5.
(4) - لسان العرب ج3ص388.
(5) - سورة الإسراء الآية (36) .
(6) - سورة الأعراف الآية (33) .
ذلك والاقتصار على ما ورد في كتاب الله وسنة رسوله, فهؤلاء ملائكة الرحمن يقولون: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} (1) , فيجب الإيمان بالأسماء الحسنى الواردة في كتاب الله وسنة رسوله وتدل عليه من المعاني وتتعلق به من الآثار, فيؤمن المؤمن بأن الله رحيم: أي أنه ذو رحمة واسعة وسعة كل شيء فهو يرحم عباده, قدير: أي ذي قدرة على كل شيء أي لا يعجزه شيء, غفور: أي ذو مغفرة ويغفر لعباده, ... إلخ.
الذكر يقوي الإيمان
الذكر لله يقوي الإيمان, ويرفع من مكانة الإنسان, فهو شرف للذاكرين, وعدة للصابرين, وعون للمتقين, فمن ذكر الله ذكره, وأعانه ووفقه, وفي الذكر الحكيم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2) .
فاذكر أخي ربك في نفسك وبلسانك وقلبك تكن من الفائزين, فالذِكر غذاء الروح فهو الذي يمد النفس الإنسانية بالسكينة والاطمئنان وهذا ما صرح به القرآن, قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (3) , فَذِكْرُ الله سبب لحصول السعادة في الدنيا والآخرة وقد جاء في السنة النبوية عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (مثل الذي يذكر
__________
(1) - سورة البقرة الآية (32) .
(2) - سورة الأنفال الآية (2) .
(3) - سورة الرعد الآية (28) .
ربه والذي لا يذكر ربه، مثل الحي والميت) (1) ، وفي مسند الإمام احمد وسنن الترمذي من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: (ما عمل آدمي عملاً أنجى من عذاب الله، من ذكر الله عز وجل) قال معاذ: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها لدرجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال: ذكر الله تعالى) (2) .
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يسير في طريق مكة فَمَرَّ على جبل يقال له جُمْدان، فقال: (سيروا، هذا جُمْدان، سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) (3) وزاد الترمذي: (المستهترون في ذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم، فيأتون يوم القيامة خفافاً) (4) .
قال الشاعر:
والذِّكرُ فيه حَيَاةٌ لِلقُلُوبِ كما ... يُحيِي البِلادَ إذا ما ماتَت المَطَرُ (5)
__________
(1) - صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب فضل ذكر الله عز وجل، حديث (6407) .
(2) - أخرجه الترمذي في الدعوات، حديث (3377) - وابن ماجه, كتاب الأدب، باب فضل الذكر، حديث (3790) . ومسند الامام احمد حديث (22132) .
(3) - صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى، حديث (2676) طبعة-1992م.
(4) - سسن الترمذي،، باب في العفو والعافية، حديث (3520) .
(5) - هذا البيت لسابق بن عبد الله البربري الرقي (ت 132هـ749م) فقيه ومحدث وأحد شعراء الزهد في العهد الأموي أخذ الشعر عنه وتتلمذ له أبو العتاهية، من أهل خراسان، سكن الرقة، عرف بأبي أمية البربري وقد صحف الزبيدي صاحب تاج العروس اسمه بقوله (سابق بن عبد الله البرقي المعروف بالبربري) وترجم ابن عساكر لسابق البربري المحدث وسابق البربري الزاهد وتوهم أنهما اثنان بينما هما شخص واحد, روى الذهبي أنه من موالي بني أمية وفد على عمر بن عبد العزيز وله معه حكايات لطيفة.
وقال آخر:
لو يعلم الناس ما في الذكر من شرف ... أمضوا الحياة بتسبيح وتهليلِ
ويرحم الله أبا العتاهية حيث يقول:
لو يعلم العبد ما في الذكر من شرف ... أمضوا الحياة بتسبيح وتمجيدِ
أما الإمام علي بن أبي طالب فهو يعظ ولده الحسين رضي الله عنهما فيقول:
أَحُسَينُ إِنّي واعِظٌ وَمؤَدِّبٌ ... فَاِفهَم فَأَنتَ العاقِلُ المُتَأَدِّبُ
وَاِحفَظ وَصِيَّةَ وَالِدٍ مُتَحَنِّنٍ ... يَغذوكَ بالآدابِ كَيلا تُعطَبُ
أَبُنَيَّ إِنَّ الذِكرَ فيهِ مَواعِظٌ ... فَمَنِ الَّذي بِعِظاتِهِ يَتَأَدَّبُ
فَاِقرَأ كِتابَ اللَهِ جَهدَكَ واِتلُهُ ... فيمَن يَقومُ بِهِ هُناكَ وَيَنصَبُ
بِتَفَكُّرٍ وَتَخَشُّعٍ وَتَقَرُّبٍ ... إِنَّ المُقَرَّبَ عِندَهُ المُتَقَرِّبُ
وَاِعبُد إِلَهَكَ ذا المَعارِجِ مُخلِصاً ... وَاِنصِت إِلى الأَمثالِ فيما تُضرَبُ
وَإِذا مَرَرتَ بِآيَةٍ وَعظِيَّةٍ ... تَصِفُ العَذابَ فَقِف وَدَمعُكَ يُسكَبُ
يا مَن يُعَذِّبُ مَن يَشاءُ بِعَدلِهِ ... لا تَجعَلَنّي في الَّذينَ تُعَذِبُ
إِنّي أَبوءُ بِعَثرَتي وَخَطيئَتي ... هَرَباً إِلَيكَ وَلَيسَ دونَكَ مَهرَبُ
وَإِذا مَرَرتَ بِآيَةٍ في ذِكرِها ... وَصفَ الوَسيلَةِ وَالنَعيمِ المُعجِبُ
فَاِسأَل إِلَهَكَ بِالإِنابَةِ مُخلِصاً ... دارُ الخُلودِ سُؤالَ مَن يَتَقَرَّبُ
وَاِجهَد لَعَلَّكَ أَن تَحِلَّ بِأَرضِها ... وَتَنالَ روحَ مَساكِنَ لا تَخرَبُ
وَتَنالَ عَيشاً لا اِنقِطاعَ لِوَقتِهِ ... وَتَنالَ مُلكَ كَرامَةٍ لا تُسلَبُ
ذكر الله في جوف الليل
إن الذكر في جوف الليل يقوي إيمان الإنسان ويعلي شأنه, فمن جد وجد, وقد جاء في الحديث النبوي: (أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ) (1) , ويرحم الله القائل:
يا رجال الليل جدوا ... رب داع لا يردُ
ما يقوم الليل إلا ... من له عزم وجدُ
ليس شيء كصلاة ... الليل للقبر يعدُ
ولأبي العتاهية:
اِذكُر مَعادَكَ أَفضَلَ الذِكرِ ... لا تَنسَ يَومَ صَبيحَةِ الحَشرِ
ذكر الله شرف ونعمة
إن في ذكر الله سبحانه وتعالى شرف كبير, وخير وفير, وأمان من عذاب الله العلي الكبير, فالذِكر لله سبحانه وتعالى مظهر لمعرفة الإنسان ربه والثناء عليه، وبه يتقرب إلى الله, وبه يطلب رحمته وعفوه وفضله وإحسانه، قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (2) , فالذي أمد الإنسان بمال وبنين والذي خلق الإنسان وأوجده والمتصرف في الكون كيف يشاء يأمر الإنسان بذكره كي يذكره ويعطيه ويتفضل عليه ويعافيه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً* هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} (3) , وقد بين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن الذكر يحط عن الذاكرين أثقالهم من الذنوب، ويكون لهم بذلك الأجر الكبير، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى بذلك حيث قال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (4) .
الدعاء يقوي الإيمان
الدعاء بأسماء الله الحسنى مخ العبادة, وبه تنال الحسنى وزيادة, وفي الذكر الحكيم: {وَلِلّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (5) , فلا يثنى على الحق سبحانه وتعالى إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا, ولا يسأل إلا بها, فهي أجل ما ينطق به اللسان, وأفضل ما يتجمل به من الكلام, وأنفع ما يفزع إليه الإنسان على الدوام؛ ففي دعائه بأسمائه وصفاته توحيد لله في صفاته وأسمائه وتذلل وتضرع واعتراف بأنه الضار النافع المعطي المانع.
__________
(1) - أخرجه الترمذي في سننه باب في دعاء الضيف حديث (3503) .
(2) - سورة البقرة الآية (152) .
(3) - سورة الأحزاب الآيات (41-43) .
(4) - سورة الأحزاب الآية (35) .
(5) - سورة الأعراف الآية (180) .
فمن أراد خير الدنيا والآخرة فعليه بالدعاء, فبالدعاء يبلغ الإنسان آماله, وتصلح أحواله, وتزكو أعماله, والدعاء يرفع البلاء, ويقي من المصائب والأذى, ويجلب الخيرات والنعم, قال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} (1) .
من تقرب إلى الله بالدعاء ضمن الإجابة
من أخلص لله في الدعاء ظفر بمراده, وانتصر على أعدائه, فلا تزدري الدعاء وتتكاسل لكي لا تزل وتفشل, ويرحم الله الشافعي حيث يقول:
أَتَهزَأُ بِالدُعاءِ وَتَزدَريهِ ... وَما تَدري بِما صَنَعَ الدُّعاءُ
سِهامُ اللَيلِ لا تُخطِي وَلَكِن ... لَها أَمَدٌ وَلِلأَمَدِ اِنقِضاءُ
فيمسكها إذا ما شأ ربي ... ويرسلها إذا نفذ القضاء
وقال آخر:
وإني لأدعو الله والأمر ضيق ... عليَّ فما ينفك أن يتفرجا
ورب فتى سدت عليه وجوه ... أصاب لها في دعوة الله مخرجا (2)
وجاء في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي قول الشاعر:
الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبني آدم حين يسأل يغضب (3)
وجاء في شعر الحكمة لامرؤ القيس (4) :
__________
(1) - سورة الإسراء الآية (110) .
(2) - بهجة المجالس لابن عبد البر ج3ص274.
(3) - الجامع لأحكام القرآن ج1ص106.
(4) - امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي, (130-80ق. هـ/496-544م) , شاعر جاهلي، أشهر شعراء العرب على الإطلاق، يماني الأصل، مولده بنجد، كان أبوه ملك أسد وغطفان وأمه أخت المهلهل الشاعر, قال الشعر وهو غلام، وجعل يشبب ويلهو ويعاشر صعاليك العرب، فبلغ ذلك أباه، فنهاه عن سيرته فلم ينته، فأبعده إلى حضرموت، موطن أبيه وعشيرته، وهو في نحو العشرين من عمره, أقام زهاء خمس سنين، ثم جعل ينتقل مع أصحابه في أحياء العرب، يشرب ويطرب ويغزو ويلهو، إلى أن ثار بنو أسد على أبيه فقتلوه، فبلغه ذلك وهو جالس للشراب فقال: رحم الله أبي! ضيعني صغيراً وحملني دمه كبيراً، لا صحو اليوم ولا سكر غداً، اليوم خمر وغداً أمر. ونهض من غده فلم يزل حتى ثأر لأبيه من بني أسد، وقال في ذلك شعراً كثيراً, كانت حكومة فارس ساخطة على بني آكل المرار (آباء امرؤ القيس) فأوعزت إلى المنذر ملك العراق بطلب امرئ القيس، فطلبه فابتعد وتفرق عنه أنصاره، فطاف قبائل العرب حتى انتهى إلى السموأل، فأجاره ومكث عنده مدة, ثم قصد الحارث بن أبي شمر الغساني والي بادية الشام لكي يستعين بالروم على الفرس فسيره الحارث إلى قيصر الروم يوستينيانس في القسطنطينية فوعده وماطله ثم ولاه إمارة فلسطين، فرحل إليها، ولما كان بأنقرة ظهرت في جسمه قروح، فأقام فيها إلى أن مات.
وَاللَهُ أَنجَحُ ما طَلَبتَ بِهِ ... وَالبِرُّ خَيرُ حَقيبَةِ الرَحلِ
وقد جاء في الذكر الحكيم: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (1) , فهيهات أن يرد الله من سأله مخلصاً وأيقن منه الإجابة فهو الكريم الذي يجيب من سأله.
والدعاء نهاية التذلل ومصدر العطف من الرحيم ودليل الاخلاص للأحد الصمد العظيم, وفي الحديث النبوي الشريف: (ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ) (2) .
المؤمن من أسماء الله الحسنى
المؤمن من أسماء الله الحسنى, هو من وحد نفسه سبحانه, وأثنى عليها بصفة الكمال, وبكمال الجلال والجمال, الذي أرسل رسله, وأنزل كتبه بالآيات والبراهين, وصدق رسله بكل آية وبرهان يدل على صدقهم وصحة ما جاءوا به. (3) قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ
__________
(1) - سورة البقرة الآية (182) .
(2) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء في جامع الدعوات حديث (3401) .
(3) - شرح أسماء الله الحسنى ص169.
الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (1) , وقال جل شأنه: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2) .
وقال ابن عباس: المؤمن: هو من أمن خلقه من أن يظلمهم.
وقال قتادة: أمن: بقوله أنه الحق.
وقال ابن زيد: صدق عباده المؤمنين في إيمانهم.
وقال مجاهد: هو الذي وحد نفسه سبحانه.
وقيل: هو المصدق لرسله بإظهار معجزاته عليهم ومصدق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب, ومصدق الكافرين ما وعدهم به من العقاب, وهو الذي أمن أولياءه من عذابه, وهو الذي أمن عباده من الخوف. (3)
وقال الحليمي: المؤمن معناه المصدق, لأنه إذا وعد صدق وعده, ويحتمل المؤمن عباده بما عرفهم من عدله ورحمته من أن يظلمهم ويجور عليهم. (4)
وقال محمد راتب النابلسي: فاسم الله المؤمن مأخوذ من التصديق أو من الأمن. (5)
__________
(1) - سورة الحشر الآية (23) .
(2) - سورة آل عمران الآية (18) .
(3) - أورد ذلك حامد احمد الطاهر في الجامع لأسماء الله الحسنى ص285, نقلاً عن ابن كثير والقرطبي في التفسير.
(4) - الأسماء والصفات للبيهقي ص84.
(5) - موسوعة أسماء الله الحسنى للأستاذ الدكتور/ محمد راتب النابلسي , ج1ص99, الناشر: دار المكتبي دمشق سوريا, الطبعة الخامسة 1429هـ2008م.
ثمرة التعرف على اسم الله المؤمن
إذا عرف العاقل المسلم أن الله جل وعلا المؤمن المهيمن كان لله مصدقاً, وآمن بكل ما أنزل الله سبحانه وتعالى, وبذلك يتم إيمانه, ويتحقق الأمن والاطمئنان في قلبه بذكر الله سبحانه, ويحصل له الخوف والحياء من الله لإيمانه
بشهادة الله عليه إن عصاه, ورجاء شهادة الله له إن أطاعه, وبذلك يكون قوّاماً بشهادة الله في كل ما نفع وضر وساء وسر, ولو على نفسه أو الوالدين والأقربين, وفي ذلك نجاة المؤمن وفلاحه وصلاحه وإصلاحه لنفسه ومجتمعه.
دعاء الله باسمه المؤمن
يا الله يا رحمن يا رحيم يا مؤمن يا مهيمن أمّنًي والمؤمنين من عذابك, ومن مناقشة حسابك, ومن أليم عقابك, واجعل اللهم يا مؤمن يا مهيمن خوفك على قلبي وجوارحي مهيمناً, واجعل قلبي له محلاً ومسكناً, واجعلني من المتقين, وأسكني والمؤمنين غرف الفردوس الأعلى يا رب العالمين ويا أرحم الراحمين, وصلى الله على محمد وآله وأصحابه المتقين المؤمنين وسلم تسليماً كثيراً يا رب العالمين.
علم يعرف به سير النجوم ومدارها ومنازلها وأبعادها وأحجامها, وهذا ما يسمى بعلم الفلك وهو ليس داخل في التنجيم وتعليمه والعمل به غير
منهي عنه, وفي الذكر الحكيم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (1) .
وعلم يزعمون أنه يعني روحانية النجوم والكواكب وتأثيرها في الخلق والأرض ومن عليها بالأمراض وما يحصل من الحروب والضيق والسعة والموت والحياة والسعادة والشقاوة ... إلخ, وما يعملون فيه من الجداول بالحوادث في العالم كله وهذا هو الدجل والكذب وهو نوع من السحر واستخدام الشياطين والقول على الله بلا علم.
قال الشاعر:
تدبر بالنجوم ولست تدري ... ورب النجم يفعل ما يريد (2)
وقال ابن تيمية: "لا ريب أن النجوم نوعان: حساب وأحكام, فأما الحساب فهو معرفة أقدار الأفلاك والكواكب وصفاتها ومقادير حركتها وما يتبع ذلك فهذا في الأصل علم صحيح لا ريب فيه كمعرفة الأرض وصفتها.
وصناعة التنجيم التي مضمونها الأحكام والتأثير وهو الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية صناعة محرمة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة". (3) وقال الشاعر:
إني بأحكام النجوم مكذب ... ولمدعيها لائم ومؤنب
الغيب يعلمه المهيمن وحده ... وعن الخلائق أجمعين مغيب
__________
(1) - سورة يونس الآية (5) .
(2) - ورد هذا البيت في التمثيل والمحاضرات للثعالبي, ص189.
(3) - انظر مجموع فتاوى ابن تيمية ج9ص224.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
الفصل السادس العمل
العمل
العمل الصالح شرف وكرامة, وفضل واستقامة, فهو أساس الخير, وطريق الفلاح, وسبب النجاح, وثمرته الثواب في الدنيا والأخرى, وخير الناس من حسن عمله, وسلم من الشرور, وخير الأعمال ما رفع به صاحبه, ونفع اخوانه, ورضي عنه ربه, والعاقل يعتمد على عمله, والجاهل يعتمد على أمله, وفي الحديث الشريف أنه صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن خير الناس فقال: (خير الناس من طال عمره وحسن عمله) (1) .
وفي الامثال السائرة: "غبار العمل خير من زعفارن العطلة", وقيل: "قيمة كل امرء ما يحسنه, وخير الأعمال ما كان ديمة".
وقال احمد شوقي يحث العمال على العمل:
أَيُّها العُمّالُ أَفنوا الـ ... ـعُمرَ كَدّاً وَاِكتِسابا
وَاِعمُروا الأَرضَ فَلَولا ... سَعيُكُم أَمسَت يَبابا
إِنَّ لي نُصحاً إِلَيكُم ... إِن أَذِنتُم وَعِتابا
في زَمانٍ غَبِيَ النا ... صِحُ فيهِ أَو تَغابى
أَينَ أَنتُم مِن جُدودٍ ... خَلَّدوا هَذا التُرابا
قَلَّدوهُ الأَثَرَ المُعـ ... ـجِزَ وَالفَنَّ العُجابا
وَكَسَوهُ أَبَدَ الدَهـ ... ـرِ مِنَ الفَخرِ ثِيابا
أَتقَنوا الصَنعَةَ حَتّى ... أَخَذوا الخُلدَ اِغتِصابا
__________
(1) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء في طول عمر للمؤمن حديث (2329) .
إِنَّ لِلمُتقِنِ عِندَ ... اللَهِ وَالناسِ ثَوابا
أَتقِنوا يُحبِبكُمُ اللَـ ... ـهُ وَيَرفَعكُم جَنابا
وما ينال الإنسان الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة إلا بالعمل, والعمل دعامة الحياة وقوامها, وأساس بناء المجتمعات واستقرارها, ونماؤها وازدهارها, وفي الذكر الحكيم: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (1) .
العمل سبب الغنى
إذا أردت السلامة من الفاقة, والبعد عما يوجب الندامة, فاسعَ لكسب المال بأسبابه, وعليك بالعمل, وتجنب الكسل؛ فإن من زرع حصد, ومن جد وجد, ومن أراد أن يستغني عن الناس اجتهد, وفوض الأمر إلى الله واستعد, قال ربيعة بن الورد:
إذا المرء لم يطلب معاشاً لنفسه ... شكى الفقر أو لام الصديق فأكثرا
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش في يسار أو تموت فتعذرا
وقال الحريري:
لا تقْعُدَنّ على ضُرٍّ ومسْغَبَةٍ ... لكيْ يُقالَ عزيزُ النّفسِ مُصطَبِرُ
وانظُرْ بعينِكَ هل أرضٌ مُعطّلةٌ ... منَ النّباتِ كأرضٍ حفّها الشّجَرُ
فعَدِّ عمّا تُشيرُ الأغْبِياءُ بهِ ... فأيُّ فضْلٍ لعودٍ ما لهُ ثمَرُ
وارْحَلْ رِكابَكَ عن ربْعٍ ظمئتَ به ... إلى الجَنابِ الذي يَهمي بهِ المطَرُ
واستَنزِلِ الرّيَّ من دَرّ السّحابِ فإنْ ... بُلّتْ يَداكَ بهِ فليَهنِكَ الظّفَرُ
وإنْ رُدِدتَ فما في الرّدّ مَنقَصَةٌ ... عليكَ قد رُدّ موسى قبلُ والخَضِرُ
وقال آخر:
ولا تدع مقصداً حلالاً ... تكون منه على بيانِ
أما علي بن الأزهر فهو يقول:
وعليَّ ان أسعى وأطلب مكسباً ... والرزق ما قسم الإله وما قضى
وفي الذكر الحكيم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (2) , وظاهر النص يفيد أن الشريعة الإسلامية تحث على الانتاج والعمل واستثمار الموارد, وأهمية الحصول على الثروة والمال, وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالاستعاذة من الكسل فعن أنس بن مالك قال: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ, فَقَالَ: (يَا أَبَا أُمَامَةَ مَا لِي أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاةِ) , قَالَ: هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: (أَفَلا أُعَلِّمُكَ كَلامًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ) , قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: (قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ) , قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّي
__________
(1) - سورة القارعة الآيتان (7و .
(2) - سورة الملك الآية (15) .
وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي (1) , وقد ذكَّر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله بما أسدى إليه من النعم وأكرمه من الغنى فقال: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} (2) .
البكور في طلب الرزق
البكور في طلب الخير خير, فالعاقل من الناس من يتنسم نسيم الصباح, ويبكر في عمله, فكل عمل يبتدأ به في البكور اتقن وتم, فإن التبكير يجلب الخير, ويكثر الربح, ويزيد في انجاز الأعمال واتمامها, والغفلة وقت الصبح تأخر الكسب, وتعطل السير في العمل, وتدعو إلى الكسل والفتور, وتضيع فرصة التقدم, والاتفاق على بدء العمل والسير فيه, فمن تأخر في النوم حتى تشرق الشمس جمد فكره, وخمدت قريحته, وضل تدبيره, وتأخر عمله, وحرم من نسيم الصبح العليل البليل, ومن سعة الرزق الوفير الغزير, وفي الحديث النبوي عن صخر الغامدي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا) , وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا بَعَثَهُمْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ, وَكَانَ صَخْرٌ رَجُلاً تَاجِرًا وَكَانَ يَبْعَثُ تِجَارَتَهُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فَأَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ. (3)
قال الشاعر:
أَيُّها الغادونَ كَالنَحـ ... ـلِ اِرتِياداً وَطِلابا
في بُكورِ الطَيرِ لِلرِز ... قِ مَجيئاً وَذَهابا
__________
(1) - أخرجه أبو داود في سننه باب في الاستعاذة حديث (1555) .
(2) - سورة الضحى الآية ( .
(3) - أخرجه أبو داود في سننه باب في الابتكار في السفر حديث (2606) .
اِطلُبوا الحَقَّ بِرِفقٍ ... وَاِجعَلوا الواجِبَ دابا
وَاِستَقيموا يَفتَحِ اللَـ ... ـهُ لَكُم باباً فَبابا
إِنَّما العاقِلُ مَن يَجـ ... ـعَلُ لِلدَهرِ حِسابا
فَاِذكُروا يَومَ مَشيبٍ ... فيهِ تَبكونَ الشَبابا
إِنَّ لِلسِنِّ لَهَمّاً ... حينَ تَعلو وَعَذابا
فَاِجعَلوا مِن مالِكُم ... لِلشَيبِ وَالضَعفِ نِصابا (1)
فمن تدثر الخمول, ونام في البكور؛ فقد أحرم نفسه من بركة دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وضيع وقته وترك الحزم, وتجافى عن العزم.
قال الشاعر:
من ضيع الحزم في أوقاته ندم ... وظل مكتأباً والقلب قد سأمَ (2)
ولمهذب الدين (3) :
وإذا الكريمُ رأى الخُمُولَ نَزِيلَهُ ... في بَلدةٍ فالحَزْمُ أن يترحَّلا
كَالبدرِ لَمّا أَنْ تَضاءَلَ جَدَّ في ... طَلَبِ الكَمالِ فَحازَهُ متَنقّلا
سفَهَاً لحلْمِكَ إِنْ رَضِيتَ بمشْرَبٍ ... رَنِقٍ ورزقُ اللَّه قَد مَلأَ المَلا
لا تَحْسَبَنَّ ذهابَ نفسكَ مِيتَةً ... ما الموتُ إلا أن تعيش مُذَلّلا
__________
(1) - هذه الأبيات لاحمد شوقي رحمه الله.
(2) - هذا البيت لحسام الدين الواعظي.
(3) - أحمد بن منير بن أحمد أبو الحسين مهذب الدين, شاعر مشهور من أهل طرابلس الشام، ولد بها وسكن دمشق ومدح السلطان الملك العادل محمود زنكي بأبلغ قصائده, وكان هجاءاً مرّاً حبسه صاحب دمشق على الهجاء وهمّ بقطع لسانه ثم اكتفى بنفيه منها, فرحل إلى حلب وتوفي بها, له (ديوان شعر-ط)
استقبل اليوم من أوله بثغرٍ باسم, وصدرٍ منشرح, وعزيمة قوية, ونفس ندية سخية, فالتبكير إلى العمل الصالح رزق تشهده, وخير تحصل عليه, وفي الحديث النبوي الشريف أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها: (يا بنية قومي اشهدي رزق ربك، ولا تكوني من الغافلين، فإن الله يقسم أرزاق الناس ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس) (1) , وفي ذلك ما يشعر بالنهي عن النوم في البكور كي لا يتعود الإنسان عليه وليتعود على العمل.
وقد نسب إلى المأمون أنه قال: "الناس أربعة: عمارة, وتجارة, وصناعة, وزراعة, فمن لم يكن منهم صار عيالاً عليهم". (2)
قال صلاح الدين الصفدي:
الجد في الجد والحرمان في الكسل ... فانصب تصب عن قريب غاية الأمل
وللإمام علي رضي الله عنه:
إِصبِر عَلى مَضَضِ الإِدلاجِ في السَحَرِ ... وَفي الرَواحِ إِلى الحاجاتِ وَالبُكرِ
لا تَضجَرَنَّ وَلا يَحزُنكَ مَطلَبُها ... فَالنَجحُ يَتلَفُ بَينَ العَجزِ والضَجَرِ
إِنّي رَأَيتُ وَفي الأَيّامِ تَجرِبَةٌ ... لِلصَبرِ عاقِبَةٌ مَحمودَةُ الأَثَرِ
وَقَلَّ مَن جَدَّ في أَمرٍ يُطالِبُهُ ... وَاِستَصحَبَ الصَبرَ إِلا فازَ بِالظَفَرِ
وفي الأمثال السائرة: "إذا أخذت عملاً فقع فيه فإنما خيبته توقيه".
__________
(1) - رواه البيهقي في شعب الإيمان حديث (4550) , وسند الحديث ضعيف. وروى أيضاً عن علي وفاطمة معناه. وروى ابن ماجه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (نهى عن النوم قبل طلوع الشمس) .
(2) - هامش الترغيب والترهيب ج2ص530.
وقديماً قيل: "إن يكن الشغل مجهدة فإن الفراغ مفسدة". وقال الشاعر:
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً ... ندمت على التفريط في زمن البذر
وفي الحديث النبوي: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) (1) .
الحرفة أو الصنعة ضرورة
إن عمل الإنسان اليومي يعد ضرورةً لكسب الرزق, واستمرار الحياة, ومن المروءة أن يسعى الإنسان للتكسب على نفسه ومن يعول, واتخاذ حرفة أو صنعة أو وظيفية يعمل فيها المرء, فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يحترفون العمل, فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يعمل قبل توليه الخلافة تاجراً، وكان خَبَّاب بن الأَرت حداداً، وعبد الله بن مسعود راعياً، وسعد بن أبي وقاص صانع نعال، وبلال ابن رباح خادماً، والزبير بن العوام خياطاً، وسلمان الفارسي حلاقاً، وروي أن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه سقى بالدلاء على تمرات، فالعمل شرف وعزة مهما رآه البعض وضيعاً, فقد روي عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره؛ خير له من أن يأتي رجلاً فيسأله أعطاه أو منعه) (2) , وقد روى الطبراني في الكبير والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (إن الله يُحِبُّ العَبْدَ المُؤْمِنَ المُحْتَرِفَ) (3) .
وقال أبو العتاهية:
وَلَيسَ عَلى عَبدٍ تَقِيٍّ نَقيصَةٌ ... إِذا صَحَّحَ التَقوى وَإِن حاكَ أَو حَجَم
وقال آخر:
يا بارئ القوس برياً ليس يحسنه ... لا تظلم القوس اعط القوس باريها
فاحترام التخصص واتخاذ حرفة بعينها أو وظيفة بعينها سبب في اتقان العمل, واحكام الصنعة, قال الشاعر:
وَكفّ فَتىً لم يَعرفِ السَّلخَ قَبلها ... تَجورُ يَداهُ في الإِهابِ وَتَخرُجُ
وسأل معاوية رجلاً من عبد القيس: ما تعدون المروءة فيكم؟ قال: الحرفة والعفة, وكان عمر رضي الله عنه إذا نظر إلى رجل سأله: أله حرفة؟ فإذا قال: لا, سقط من عينه, ونظر عمر رضي الله عنه إلى أبي رافع وهو يقرأ ويصوغ, فقال: يا أبا رافع أنت خير مني تؤدي حق الله تعالى وحق مواليك, وقيل لأعرابي ينسج: ألا تستحيي أن تكون نساجاً؟ قال: إنما أستحيي أن أكون أخرق لا أنفع أهلي, وحرفة يقال فيها خير من مسألة الناس, وقيل: إن الله يحب التاجر الصدوق, والصانع الناصح لأنه حكيم. (4)
أصناف الصناعات
إن التصنيع يعتبر حجر الزاوية في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في شتى المجالات, ولهذا تتعدد أنواع الصناعات, فمن صناعة
__________
(1) - أخرجه البخاري في صحيحه باب بدء الوحي حديث (1) .
(2) - صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف من المسألة، حديث (1104) , وأورده احمد في مسنده، مسند أبي هريرة، حديث (7315) .
(3) - أورده الإمام السيوطي في جامع الأحاديث والمراسيل، حديث (5570) , وأورده محمد بن سلامة بن شهاب القضاعي في مسنده، باب إن الله يحب المؤمن المحترف، حديث (1072) الناشر مؤسسة الرسالة, وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب البيوع، باب الكسب والتجارة، حديث (1326) , ورواه الطبراني والبهقي والحكيم من حديث ابن عمر- وأورده النبهاني في الفتح الكبير في ضم الزيادات إلى الجامع الصغير, ج1ص312, طبعة1350هـ.
(4) - محاضرات الأدباء ص176.
السيارات والطائرات والبواخر والسفن وهي ضرورة لتواصل الناس وانتقالهم إلى أعمالهم وحمل أثقالهم وأمتعتهم في أسفارهم, إلى صناعة الدبابات والصواريخ والمدرعات وهي ضرورة في إعداد المؤمنين القوة لأعدائهم, إلى صناعة الملابس والحلي والمجوهرات والمقتنيات, إلى صناعة الأدوات الهندسية والطبية والرياضية وصناعة الأدوية, إلى غير ذلك من أنواع الصناعات الالكترونية, وغيرها مما لا يكاد يندرج تحت حصر مما يحتاجه الناس في هذه الحياة, وكم من الصناعات والحلي والمنسوجات والمصنوعات ما يستخرج من الذهب والحديد والفضة والنحاس والرصاص والخشب والمواد البترولية ومشتقاتها إلى غير ذلك من الموارد الطبيعية التي تستخدم في الصناعة لتلبي رغبات الناس وتسد حاجاتهم, وكل هذه الصناعات شريف كسبها, عظيم نفعها, رفيع العمل فيها, كيف وقد عني القرآن الكريم بتوجيه الناس في آيات كثيرة تحثهم على ممارسة الصناعات, واستخراج خيرات الأرض, وجعلها صالحة لتلبية حاجات الناس المتعددة كما يقول جل شأن: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (1) , ... وأخبر سبحانه عن تعليمه وإرشاده لنبي من أنبيائه في تصنيع الحديد فقال: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} (2) .
__________
(1) - سورة الحديد الآية (25) .
(2) - سورة الأنبياء الآية (80) .
وقد كان أنبياء الله يعملون ويحبون العمل, وقد أرشدهم الله إلى الصناعة لعظيم نفعها فهذا نبي الله داود عليه السلام يأمره الله بقوله: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1) , وهذا نوح عليه السلام يأمره الله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} (2) , وهذا زكريا عليه السلام يخبر عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان نجاراً إذا يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (كان زكريا نجاراً) (3) , وقد كان ادريس عليه السلام خياطاً وموسى عليه السلام راعياً وتاجراً, وفي ذلك اعلاء لشأن العمل ودليل على شرف العاملين, وفي الحديث النبوي: (مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ) (4) .
وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرعى الغنم لأهل مكة بالقراريط قال سويد: يعني كل شاة بقيراط (5) .
__________
(1) - سورة سبأ الآية (11) .
(2) - سورة هود الآيتان (38و37) .
(3) - أخرجه ابن ماجه في سننه باب التجارة باب الصناعات حديث (2150) .
(4) - صحيح البخاري كتاب البيوع باب كسب الرجل وعمله بيده حديث (1966) .
(5) - ابن ماجه في سننه باب التجارة باب الصناعات حديث (2149) .
إتقان العمل
العاقل من يؤدي واجبه ويتقن عمله ويحسن صنعته حتى يكسب الناس ثقته, فمن أخلص في عمله نجح, وأحبه الله والناس, فما يكاد الناس يرون
صنعة متقنة حتى يقبلون عليها ويثقون فيها, فمن غش في عمله ظلم نفسه, وأهدر ثقته, وكسدت بضاعته, وتجنب الناس التعامل معه, ومن أخلص في عمله ووظيفته أدى أمانته, وارتفعت مكانته, وأقبلت عليه الدنيا, وأمن من العذاب والإهانة, وساعده زمانه, وظفر بحب المجتمع واحترامه, كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلَ عَمَلاً أَثْبَتَهُ (1) , فإتقان العمل يدل على كمال العامل.
قال الشاعر:
في ازديادِ العلمِ إرغامُ العِدى ... وجمالُ العلمِ يا صاحِ العملْ
قيمةُ الإنسانِ ما يحسِنُهُ ... أكثرَ الإنسانُ منهُ أوْ أقلْ
واكتمِ الأمرينِ فقراً وغنىً ... واكسبِ الفلسَ وحاسبْ مَنْ بَطَلْ
وادّرعْ جداً وكداً واجتنبْ ... صحبةَ الحمقى وأربابِ البخلْ (2)
أما سليمان بن أبي الحفاظ الحجوري اليمني فإنه يقول:
ألا إنما الإنسان أهل لفعله ... وكل لما يأتي من فعله أهل
والإنسان مجزي بعمله إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً, ويرى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن الإنسان يلقى عمله في قبره فيقول:
يا مَن بِدُنياهُ اِشتَغَل ... وَغَرَّهُ طولُ الأَمَل
المَوتُ يَأتي بَغتَةً ... والقبرُ صندوقُ العَمَل
أما أبو العتاهية فهو يقول:
__________
(1) - رواه مسلم في صحيحه باب جامع صلاة الليل حديث (746) .
(2) - هذه الأبيات لابن الوردي.
وَاِعلَم بِأَنَّكَ مَسؤولٌ وَمُفتَحَصٌ ... عَمّا عَمِلتَ وَمَعروضٌ عَلى العَمَلِ
ولله در شوقي حيث يقول:
كُن نَشيطاً عامِلاً جَمَّ الأَمَل ... إِنَّما الصِحَّةُ وَالرِزقُ العَمَل
كُلُّ ما أَتقَنتَ مَحبوبٌ وَجيه ... مُتقَنُ الأَعمالِ سِرُّ اللَهِ فيه
يُقبِلُ الناسُ عَلى الشَيءِ الحَسَن ... كُلُّ شَيءٍ بِجَزاءٍ وَثَمَن
اِنظُرِ الآثارَ ما أَزيَنَها ... قَد حَباها الخُلدَ مَن أَتقَنَها
تِلكَ آثارُ بَني مِصرَ الأُوَل ... أَتقَنوا الصَنعَةَ حَتّى في الجُعَل
أَيُّها التاجِرُ بُلِّغتَ الأَرَب ... طالِعُ التاجِرِ في حُسنِ الأَدَب
بابُ حانوتِكَ بابُ الرازِقِ ... لا تُفارِق بابَهُ أَو فارِقِ
وَاِحتَرِم في بابِهِ مَن دَخَلا ... كُلُّهُم مِنهُ رَسولٌ وَصَلا
تاجِرُ القَومِ صَدوقٌ وَأَمين ... لَفظَةٌ مِن فيهِ لِلقَومِ يَمين
ويقول أيضاً:
العِلمُ لا يُعلي المَراتِبَ وَحدَهُ ... كَم قَدَّمَ العَمَلُ الرِجالَ وَأَخَّرا
فبالعمل يبلغ الأمل, ويلبس أبهى الحلل, ونعم الرجل الفاضل العامل, وقد أحسن القائل:
ما دامَ رائِدَنا الإِخلاصُ في العَمَلِ ... لا بُدَّ نَبلغُ يَوماً غايَةَ الأَمَلِ
أَمران مَن يَعتَصِم يَوماً بحَبلهما ... فَالنُجحُ رائِدهُ في أَيِّما عَملِ
هُما الثَباتُ وَتَوحيدُ القُلوبِ لِذا ... إِلَيهِما قد دعانا خاتَمُ الرُسُلِ
البحث عن العمل
الحر يبحث عن العمل, ويبتعد عن الكسل, ويعتمد على الله عز وجل, ويتأسى بهدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, ففي ذلك فلاح ونجاح, ورشدٌ وإصلاح, وقد جاء في الذكر الحكيم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (1) , وقال جل شأنه: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) .
القصة
أخرج البيهقي في السنن الكبرى من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلاً من الأنصار جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يشكو فاقته، فقال: يا رسول الله، لقد جئتك من أهل بيت ما أراني أرجع إليهم حتى يموت بعضهم، فقال: (انطلق هل تجد من شيء؟) فانطلق، فجاء بحلس بساطٍ يجعل على ظهر البعير وقدح، فقالَ: يا رسولَ الله هَذَا الحِلْسُ كانُوا يَفْتَرِشُونَ بَعْضَهُ ويَلْبَسُونَ بَعْضَهُ، وهَذَا القَدَحُ كانُوا يشربونَ فيهِ، فقالَ رسولُ الله: (مَنْ يَأْخُذُهُمَا مِنِّي بِدِرْهَمٍ) ، فقالَ رجلٌ: أَنَا يا رسولَ الله، فقالَ رسولُ الله: (مَنْ يَزِيدُ على دِرْهَمٍ) ، فقالَ رجلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا
__________
(1) - سورة الملك الآية (15) .
(2) - سورة الجمعة الآية (10) .
باثنينِ، فقالَ: (هُمَا لكَ) ، قالَ: فَدَعَا الرجلَ فقالَ لهُ: (اشْتَرِ بِدِرْهَمٍ فَأْساً وبِدِرْهَمٍ طعاماً لأَهْلِكَ) ، قالَ: فَفَعَلَ، ثم رجعَ إلى النبيِّ، فقالَ: (انْطَلِقْ إلى هَذَا الوَادِي فَلاَ تَدَعْ حَاجًا ولا شَوْكاً ولا حَطَباً، ولا تَأْتِنِي خَمْسَةَ عَشَرَ يوماً) ، قالَ: فَانْطَلَقَ فأصابَ عَشَرَةً قالَ: (فانْطَلِقْ فاشْتَرِ بِخَمْسَةٍ طعاماً لأَهْلِكَ) ، فقالَ: يا رسولَ الله لقد بارَكَ الله لِي فيما أَمَرْتَنِي فقالَ: (هَذَا خيرٌ من أَنْ تَجِىءَ يومَ القيامةِ وفي وَجْهِكَ نُكْتَةُ المَسْئَلَةِ، إنَّ المَسْئَلَةَ لا تَصْلُحُ إلا لثلاثةٍ: لذِي دَمٍ مُوْجِعٍ أو غُرْمٍ مُفْظَعٍ أَو فَقْرٍ مُفْقِعٍ) (1) .
إعطاء العامل أجره
إعطاء العامل أجره وثمرة جهده فرض لازم, جاحده ظالم, والمتغافل عنه نادم, وفي الحديث النبوي الشريف: (اعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) (2) , وفي الحديث القدسي: (قَالَ اللَّهُ ثَلاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ, وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ, وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ) (3) .
إعطاء العامل حظه من الراحة
إذا كانت طاقة الإنسان محدودة وساعات عمله معدودة فإن التكلف فوق الطاقة يفضي إلى المشقة والتعب الذي يوقع الإنسان في الضيق والنكد, وتكليف الإنسان نفسه أو غيره فوق الطاقة من العمل غير محمود ولا
__________
(1) - أورده البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الصدقات، باب لا وقت فيما يعطى للفقراء والمساكين، حديث (13373) .
(2) - ابن ماجه في سننه كتاب الرهون باب اجر الأجراء حديث (2443) .
(3) - صحيح البخاري باب إثم من باع حراً حديث (2114) .
مرغوب, وفي الذكر الحكيم: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (1) , وقد جاء في الحديث النبوي: (خذوا من الأعمال ما تطيقون) (2) , وجاء في حديث آخر: (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) (3) , فالراحة والاستجمام خير وسيلة لاستئناف العمل, فمن أعطى نفسه حظها من الراحة فقد أعطى حق البدن في الاستراحة, وفي الحديث النبوي: (إن لجسدك عليك حقاً) (4) , فمن أخذ بهدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظفر, وفي القرآن الحكيم: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (5) .
بعث الهمم على العمل
إن بعث الهمم على العمل الصالح وإتقانه طريق فلاح المؤمن ونجاحه, وهو دليلٌ على صدق إيمانه, وإنما يرث الإنسان الكرامة والسعادة والخلود في الجنة بالعمل الصالح, قال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (6) , فالإنسان المؤمن إذا أدرك في نفسه الوهن وأنه قد أصيب بالملل والضجر والسأم بعث في نفسه الهمم بالاستعانة بالله الواحد الأحد
__________
(1) - سورة البقرة الآية (286) .
(2) - صحيح البخاري كتاب اللباس باب الجلوس على الحصير ونحوه حديث (5523) .
(3) - البيهقي في السنن الكبرى كتاب الصلاة ج3ص28 حديث (4743) , الطبعة الثالثة 1427هـ.
(4) - صحيح البخاري كتاب الصوم باب حق الجسم في الصوم حديث (1975) , وصحيح مسلم كتاب الثوم باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به حديث (1159) .
(5) - سورة التوبة الآية (105) .
(6) - سورة الزخرف الآية (72) .
الباعث للهمم, فهو الذي يقيه الضعف والوهن ويبعث في نفسه النشاط على العمل الحسن, فالإسلام دين يدعو إلى العمل الصالح الأتم, وفي الذكر الحكيم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (1) .
الباعث في أسماء الله الحسنى
اسم الله الباعث لم يرد في القرآن الكريم بصيغة الباعث ولكن بصيغة الفعل قال تعالى: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى} (2) , وقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ} (3) , وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} (4) , وقال: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} (5) , وجاء في سورة الحج: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ} (6) .
وقد ورد في السنة: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) (7) ، وقد روى الترمذي: (إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً غَيْرَ وَاحِدٍ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) وعد منها: (الباعث) .
__________
(1) - سورة الجمعة الآية (2) .
(2) - سورة الأنعام الآية (60) .
(3) - سورة الجمعة الآية (2) .
(4) - سورة النحل الآية (36) .
(5) - سورة الكهف الآية (12) .
(6) - سورة الحج الآية (7) .
(7) - صحيح البخاري باب ان لله مائة اسم إلا واحداً حديث (6957) .
فوجب على المكلف أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى الباعث, باعث الموتى ومنشؤهم وخالقهم ومعيدهم, فهو سبحانه الباعث للأموات, والباعث للأرواح والأجساد والرسل والخواطر.
وقال الرازي: والباعث في صفة الله تعالى يحتمل وجوهاً:
الأول: أنه تعالى باعث الخلق يوم القيامة, كما قال سبحانه: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ} .
والثاني: أنه تعالى باعث الرسل إلى الخلق: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} .
والثالث: أنه تعالى يبعث عباده عند العجز بالمعونة والإغاثة وعند الذنب بقبول التوبة. (1)
فلهذا الاسم معاني كثيرة منها: أن الله باعث الخلق يوم القيامة, ومنها: أن الله جل شأنه باعث الرسل, ومنها: أنه باعث عباده عند العجز بالمعونة.
وقال الدكتور محمد النابلسي: إن الله يبعث عباده على الأفعال المخصوصة إما تحقيقاً لاختيارهم أو تأديباً لهم أو مكافأةً لهم, فالله عز وجل يبعث بالمعنى الأول يحقق لك اختيارك وبالمعنى الثاني يكافئك على حسن اختيارك أو يؤدبك على سوء اختيارك, هذا التيسير الأول لتحقيق الاختيار أما الثاني فهو لدفع ثمن الاختيار. (2)
__________
(1) - الأسماء الحسنى للرازي ص276, والجامع لأسماء الله الحسنى ص37.
(2) - موسوعة اسماء الله الحسنى ص8.
ثمرة معرفة اسم الله الباعث
إذا عرف المكلف أن الله تعالى هو الباعث للأموات والباعث على فعل الخيرات والباعث للرسل إلى عباده ليعبدوه سبحانه وتعالى ويوحدوه, وأنه الباعث للهمم للترقي في ساحة التوحيد بهدايته وتوفيقه, وأنه الذي يبعث الإنسان على عليات الأمور؛ وجب عليه أن يؤمن به سبحانه وتعالى, ويسعى إلى معرفته وطاعته والإقبال عليه, وأن يبعث نفسه كما يريد الله تعالى فلا يأتي من الأفعال إلا ما كان مطابقاً لكتاب الله وسنة رسوله, وأن يتأدب مع جلال الله الباعث, فهو الذي يبعث ويجازي بالثواب والعقاب, فيشغل وقته كله بطاعة الله الباعث الوهاب, فيبعث قلبه على اليقين ولسانه على الذكر وجوارحه على العمل, ويلزم نفسه قبول باعث الحق ورد باعث الباطل.
قال الرازي: إن العبد إذا سعى إلى التعلم بعث روحه بعد الموت, وإذا سعى في تعليم الجهلاء فكأنه يبعث أرواحهم بعد موتها. (1)
فالمؤمن باسم الله الباعث يحقق إيمانه بالعمل حتى يكون ممن أدرك الفلاح وتزود للدار الآخرة وتصفح أعماله وحاسب نفسه وجعل أعماله متوافقة مع منهج ربه. قال الخليفة الراشد أبو بكر الصديق (2) رضي الله عنه:
وَكُلُّهُم لِلَّهِ في البَعثِ مُنشَرٌ ... مُجازىً مُوَفّىً حَقَّهُ لَيسَ يُبخَسُ
__________
(1) - الأسماء الحسنى للرازي ص277, والجامع لأسماء الله الحسنى ص38.
(2) - عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن كعب التيمي القرشي, (51ق. هـ- 13هـ/573-634م) , أول الخلفاء الراشدين، وأول من آمن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الرجال، وأحد أعاظم العرب, ولد بمكة، ونشأ سيداً من سادات قريش، وغنياً من كبار موسريهم وعالماً بأنساب القبائل وأخبارها وسياستها، وكانت العرب تلقبه بعالم قريش, وحرم على نفسه الخمر في الجاهلية، فلم يشربها، وكانت له في عصر النبوة مواقف كبيرة، فشهد الحروب، واحتمل الشدائد، وبذل الأموال وبويع بالخلافة يوم وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنة 11 هـ، فحارب المرتدين، والممتنعين من دفع الزكاة، وافتتحت في أيامه بلاد الشام وقسم كبير في العراق, وكان موصوفاً بالحلم والرأفة بالعامة، خطيباً لسناً، وشجاعاً بطلاً مدة خلافته سنتان وثلاثة أشهر ونصف شهر، وتوفي في المدينة, كان يلقب بالصديق.
الدعاء باسم الله الباعث
اللهم يا باعث يا شهيد ثبتني والمؤمنين في البعث بالقول الثابت والتوحيد وألهمني حمدك وذكرك يا مجيد, وسلمني والمؤمنين من العذاب الشديد, وتفضل عليَّ بما أوليت أولياءك من الكرامة والفردوس الأعلى من الجنة إنك حميد مجيد, وصلى الله على محمد وآله وأصحابه وأزواجه وذريته وأهل بيته وسلم تسليماً كثيراً.
العمل الصالح شرف وكرامة, وفضل واستقامة, فهو أساس الخير, وطريق الفلاح, وسبب النجاح, وثمرته الثواب في الدنيا والأخرى, وخير الناس من حسن عمله, وسلم من الشرور, وخير الأعمال ما رفع به صاحبه, ونفع اخوانه, ورضي عنه ربه, والعاقل يعتمد على عمله, والجاهل يعتمد على أمله, وفي الحديث الشريف أنه صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن خير الناس فقال: (خير الناس من طال عمره وحسن عمله) (1) .
وفي الامثال السائرة: "غبار العمل خير من زعفارن العطلة", وقيل: "قيمة كل امرء ما يحسنه, وخير الأعمال ما كان ديمة".
وقال احمد شوقي يحث العمال على العمل:
أَيُّها العُمّالُ أَفنوا الـ ... ـعُمرَ كَدّاً وَاِكتِسابا
وَاِعمُروا الأَرضَ فَلَولا ... سَعيُكُم أَمسَت يَبابا
إِنَّ لي نُصحاً إِلَيكُم ... إِن أَذِنتُم وَعِتابا
في زَمانٍ غَبِيَ النا ... صِحُ فيهِ أَو تَغابى
أَينَ أَنتُم مِن جُدودٍ ... خَلَّدوا هَذا التُرابا
قَلَّدوهُ الأَثَرَ المُعـ ... ـجِزَ وَالفَنَّ العُجابا
وَكَسَوهُ أَبَدَ الدَهـ ... ـرِ مِنَ الفَخرِ ثِيابا
أَتقَنوا الصَنعَةَ حَتّى ... أَخَذوا الخُلدَ اِغتِصابا
__________
(1) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء في طول عمر للمؤمن حديث (2329) .
إِنَّ لِلمُتقِنِ عِندَ ... اللَهِ وَالناسِ ثَوابا
أَتقِنوا يُحبِبكُمُ اللَـ ... ـهُ وَيَرفَعكُم جَنابا
وما ينال الإنسان الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة إلا بالعمل, والعمل دعامة الحياة وقوامها, وأساس بناء المجتمعات واستقرارها, ونماؤها وازدهارها, وفي الذكر الحكيم: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (1) .
العمل سبب الغنى
إذا أردت السلامة من الفاقة, والبعد عما يوجب الندامة, فاسعَ لكسب المال بأسبابه, وعليك بالعمل, وتجنب الكسل؛ فإن من زرع حصد, ومن جد وجد, ومن أراد أن يستغني عن الناس اجتهد, وفوض الأمر إلى الله واستعد, قال ربيعة بن الورد:
إذا المرء لم يطلب معاشاً لنفسه ... شكى الفقر أو لام الصديق فأكثرا
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش في يسار أو تموت فتعذرا
وقال الحريري:
لا تقْعُدَنّ على ضُرٍّ ومسْغَبَةٍ ... لكيْ يُقالَ عزيزُ النّفسِ مُصطَبِرُ
وانظُرْ بعينِكَ هل أرضٌ مُعطّلةٌ ... منَ النّباتِ كأرضٍ حفّها الشّجَرُ
فعَدِّ عمّا تُشيرُ الأغْبِياءُ بهِ ... فأيُّ فضْلٍ لعودٍ ما لهُ ثمَرُ
وارْحَلْ رِكابَكَ عن ربْعٍ ظمئتَ به ... إلى الجَنابِ الذي يَهمي بهِ المطَرُ
واستَنزِلِ الرّيَّ من دَرّ السّحابِ فإنْ ... بُلّتْ يَداكَ بهِ فليَهنِكَ الظّفَرُ
وإنْ رُدِدتَ فما في الرّدّ مَنقَصَةٌ ... عليكَ قد رُدّ موسى قبلُ والخَضِرُ
وقال آخر:
ولا تدع مقصداً حلالاً ... تكون منه على بيانِ
أما علي بن الأزهر فهو يقول:
وعليَّ ان أسعى وأطلب مكسباً ... والرزق ما قسم الإله وما قضى
وفي الذكر الحكيم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (2) , وظاهر النص يفيد أن الشريعة الإسلامية تحث على الانتاج والعمل واستثمار الموارد, وأهمية الحصول على الثروة والمال, وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالاستعاذة من الكسل فعن أنس بن مالك قال: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ, فَقَالَ: (يَا أَبَا أُمَامَةَ مَا لِي أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاةِ) , قَالَ: هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: (أَفَلا أُعَلِّمُكَ كَلامًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ) , قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: (قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ) , قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّي
__________
(1) - سورة القارعة الآيتان (7و .
(2) - سورة الملك الآية (15) .
وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي (1) , وقد ذكَّر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله بما أسدى إليه من النعم وأكرمه من الغنى فقال: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} (2) .
البكور في طلب الرزق
البكور في طلب الخير خير, فالعاقل من الناس من يتنسم نسيم الصباح, ويبكر في عمله, فكل عمل يبتدأ به في البكور اتقن وتم, فإن التبكير يجلب الخير, ويكثر الربح, ويزيد في انجاز الأعمال واتمامها, والغفلة وقت الصبح تأخر الكسب, وتعطل السير في العمل, وتدعو إلى الكسل والفتور, وتضيع فرصة التقدم, والاتفاق على بدء العمل والسير فيه, فمن تأخر في النوم حتى تشرق الشمس جمد فكره, وخمدت قريحته, وضل تدبيره, وتأخر عمله, وحرم من نسيم الصبح العليل البليل, ومن سعة الرزق الوفير الغزير, وفي الحديث النبوي عن صخر الغامدي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا) , وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا بَعَثَهُمْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ, وَكَانَ صَخْرٌ رَجُلاً تَاجِرًا وَكَانَ يَبْعَثُ تِجَارَتَهُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فَأَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ. (3)
قال الشاعر:
أَيُّها الغادونَ كَالنَحـ ... ـلِ اِرتِياداً وَطِلابا
في بُكورِ الطَيرِ لِلرِز ... قِ مَجيئاً وَذَهابا
__________
(1) - أخرجه أبو داود في سننه باب في الاستعاذة حديث (1555) .
(2) - سورة الضحى الآية ( .
(3) - أخرجه أبو داود في سننه باب في الابتكار في السفر حديث (2606) .
اِطلُبوا الحَقَّ بِرِفقٍ ... وَاِجعَلوا الواجِبَ دابا
وَاِستَقيموا يَفتَحِ اللَـ ... ـهُ لَكُم باباً فَبابا
إِنَّما العاقِلُ مَن يَجـ ... ـعَلُ لِلدَهرِ حِسابا
فَاِذكُروا يَومَ مَشيبٍ ... فيهِ تَبكونَ الشَبابا
إِنَّ لِلسِنِّ لَهَمّاً ... حينَ تَعلو وَعَذابا
فَاِجعَلوا مِن مالِكُم ... لِلشَيبِ وَالضَعفِ نِصابا (1)
فمن تدثر الخمول, ونام في البكور؛ فقد أحرم نفسه من بركة دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وضيع وقته وترك الحزم, وتجافى عن العزم.
قال الشاعر:
من ضيع الحزم في أوقاته ندم ... وظل مكتأباً والقلب قد سأمَ (2)
ولمهذب الدين (3) :
وإذا الكريمُ رأى الخُمُولَ نَزِيلَهُ ... في بَلدةٍ فالحَزْمُ أن يترحَّلا
كَالبدرِ لَمّا أَنْ تَضاءَلَ جَدَّ في ... طَلَبِ الكَمالِ فَحازَهُ متَنقّلا
سفَهَاً لحلْمِكَ إِنْ رَضِيتَ بمشْرَبٍ ... رَنِقٍ ورزقُ اللَّه قَد مَلأَ المَلا
لا تَحْسَبَنَّ ذهابَ نفسكَ مِيتَةً ... ما الموتُ إلا أن تعيش مُذَلّلا
__________
(1) - هذه الأبيات لاحمد شوقي رحمه الله.
(2) - هذا البيت لحسام الدين الواعظي.
(3) - أحمد بن منير بن أحمد أبو الحسين مهذب الدين, شاعر مشهور من أهل طرابلس الشام، ولد بها وسكن دمشق ومدح السلطان الملك العادل محمود زنكي بأبلغ قصائده, وكان هجاءاً مرّاً حبسه صاحب دمشق على الهجاء وهمّ بقطع لسانه ثم اكتفى بنفيه منها, فرحل إلى حلب وتوفي بها, له (ديوان شعر-ط)
استقبل اليوم من أوله بثغرٍ باسم, وصدرٍ منشرح, وعزيمة قوية, ونفس ندية سخية, فالتبكير إلى العمل الصالح رزق تشهده, وخير تحصل عليه, وفي الحديث النبوي الشريف أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها: (يا بنية قومي اشهدي رزق ربك، ولا تكوني من الغافلين، فإن الله يقسم أرزاق الناس ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس) (1) , وفي ذلك ما يشعر بالنهي عن النوم في البكور كي لا يتعود الإنسان عليه وليتعود على العمل.
وقد نسب إلى المأمون أنه قال: "الناس أربعة: عمارة, وتجارة, وصناعة, وزراعة, فمن لم يكن منهم صار عيالاً عليهم". (2)
قال صلاح الدين الصفدي:
الجد في الجد والحرمان في الكسل ... فانصب تصب عن قريب غاية الأمل
وللإمام علي رضي الله عنه:
إِصبِر عَلى مَضَضِ الإِدلاجِ في السَحَرِ ... وَفي الرَواحِ إِلى الحاجاتِ وَالبُكرِ
لا تَضجَرَنَّ وَلا يَحزُنكَ مَطلَبُها ... فَالنَجحُ يَتلَفُ بَينَ العَجزِ والضَجَرِ
إِنّي رَأَيتُ وَفي الأَيّامِ تَجرِبَةٌ ... لِلصَبرِ عاقِبَةٌ مَحمودَةُ الأَثَرِ
وَقَلَّ مَن جَدَّ في أَمرٍ يُطالِبُهُ ... وَاِستَصحَبَ الصَبرَ إِلا فازَ بِالظَفَرِ
وفي الأمثال السائرة: "إذا أخذت عملاً فقع فيه فإنما خيبته توقيه".
__________
(1) - رواه البيهقي في شعب الإيمان حديث (4550) , وسند الحديث ضعيف. وروى أيضاً عن علي وفاطمة معناه. وروى ابن ماجه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (نهى عن النوم قبل طلوع الشمس) .
(2) - هامش الترغيب والترهيب ج2ص530.
وقديماً قيل: "إن يكن الشغل مجهدة فإن الفراغ مفسدة". وقال الشاعر:
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً ... ندمت على التفريط في زمن البذر
وفي الحديث النبوي: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى) (1) .
الحرفة أو الصنعة ضرورة
إن عمل الإنسان اليومي يعد ضرورةً لكسب الرزق, واستمرار الحياة, ومن المروءة أن يسعى الإنسان للتكسب على نفسه ومن يعول, واتخاذ حرفة أو صنعة أو وظيفية يعمل فيها المرء, فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يحترفون العمل, فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يعمل قبل توليه الخلافة تاجراً، وكان خَبَّاب بن الأَرت حداداً، وعبد الله بن مسعود راعياً، وسعد بن أبي وقاص صانع نعال، وبلال ابن رباح خادماً، والزبير بن العوام خياطاً، وسلمان الفارسي حلاقاً، وروي أن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه سقى بالدلاء على تمرات، فالعمل شرف وعزة مهما رآه البعض وضيعاً, فقد روي عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره؛ خير له من أن يأتي رجلاً فيسأله أعطاه أو منعه) (2) , وقد روى الطبراني في الكبير والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (إن الله يُحِبُّ العَبْدَ المُؤْمِنَ المُحْتَرِفَ) (3) .
وقال أبو العتاهية:
وَلَيسَ عَلى عَبدٍ تَقِيٍّ نَقيصَةٌ ... إِذا صَحَّحَ التَقوى وَإِن حاكَ أَو حَجَم
وقال آخر:
يا بارئ القوس برياً ليس يحسنه ... لا تظلم القوس اعط القوس باريها
فاحترام التخصص واتخاذ حرفة بعينها أو وظيفة بعينها سبب في اتقان العمل, واحكام الصنعة, قال الشاعر:
وَكفّ فَتىً لم يَعرفِ السَّلخَ قَبلها ... تَجورُ يَداهُ في الإِهابِ وَتَخرُجُ
وسأل معاوية رجلاً من عبد القيس: ما تعدون المروءة فيكم؟ قال: الحرفة والعفة, وكان عمر رضي الله عنه إذا نظر إلى رجل سأله: أله حرفة؟ فإذا قال: لا, سقط من عينه, ونظر عمر رضي الله عنه إلى أبي رافع وهو يقرأ ويصوغ, فقال: يا أبا رافع أنت خير مني تؤدي حق الله تعالى وحق مواليك, وقيل لأعرابي ينسج: ألا تستحيي أن تكون نساجاً؟ قال: إنما أستحيي أن أكون أخرق لا أنفع أهلي, وحرفة يقال فيها خير من مسألة الناس, وقيل: إن الله يحب التاجر الصدوق, والصانع الناصح لأنه حكيم. (4)
أصناف الصناعات
إن التصنيع يعتبر حجر الزاوية في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في شتى المجالات, ولهذا تتعدد أنواع الصناعات, فمن صناعة
__________
(1) - أخرجه البخاري في صحيحه باب بدء الوحي حديث (1) .
(2) - صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف من المسألة، حديث (1104) , وأورده احمد في مسنده، مسند أبي هريرة، حديث (7315) .
(3) - أورده الإمام السيوطي في جامع الأحاديث والمراسيل، حديث (5570) , وأورده محمد بن سلامة بن شهاب القضاعي في مسنده، باب إن الله يحب المؤمن المحترف، حديث (1072) الناشر مؤسسة الرسالة, وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد، كتاب البيوع، باب الكسب والتجارة، حديث (1326) , ورواه الطبراني والبهقي والحكيم من حديث ابن عمر- وأورده النبهاني في الفتح الكبير في ضم الزيادات إلى الجامع الصغير, ج1ص312, طبعة1350هـ.
(4) - محاضرات الأدباء ص176.
السيارات والطائرات والبواخر والسفن وهي ضرورة لتواصل الناس وانتقالهم إلى أعمالهم وحمل أثقالهم وأمتعتهم في أسفارهم, إلى صناعة الدبابات والصواريخ والمدرعات وهي ضرورة في إعداد المؤمنين القوة لأعدائهم, إلى صناعة الملابس والحلي والمجوهرات والمقتنيات, إلى صناعة الأدوات الهندسية والطبية والرياضية وصناعة الأدوية, إلى غير ذلك من أنواع الصناعات الالكترونية, وغيرها مما لا يكاد يندرج تحت حصر مما يحتاجه الناس في هذه الحياة, وكم من الصناعات والحلي والمنسوجات والمصنوعات ما يستخرج من الذهب والحديد والفضة والنحاس والرصاص والخشب والمواد البترولية ومشتقاتها إلى غير ذلك من الموارد الطبيعية التي تستخدم في الصناعة لتلبي رغبات الناس وتسد حاجاتهم, وكل هذه الصناعات شريف كسبها, عظيم نفعها, رفيع العمل فيها, كيف وقد عني القرآن الكريم بتوجيه الناس في آيات كثيرة تحثهم على ممارسة الصناعات, واستخراج خيرات الأرض, وجعلها صالحة لتلبية حاجات الناس المتعددة كما يقول جل شأن: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (1) , ... وأخبر سبحانه عن تعليمه وإرشاده لنبي من أنبيائه في تصنيع الحديد فقال: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} (2) .
__________
(1) - سورة الحديد الآية (25) .
(2) - سورة الأنبياء الآية (80) .
وقد كان أنبياء الله يعملون ويحبون العمل, وقد أرشدهم الله إلى الصناعة لعظيم نفعها فهذا نبي الله داود عليه السلام يأمره الله بقوله: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1) , وهذا نوح عليه السلام يأمره الله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ * وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} (2) , وهذا زكريا عليه السلام يخبر عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان نجاراً إذا يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (كان زكريا نجاراً) (3) , وقد كان ادريس عليه السلام خياطاً وموسى عليه السلام راعياً وتاجراً, وفي ذلك اعلاء لشأن العمل ودليل على شرف العاملين, وفي الحديث النبوي: (مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ) (4) .
وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرعى الغنم لأهل مكة بالقراريط قال سويد: يعني كل شاة بقيراط (5) .
__________
(1) - سورة سبأ الآية (11) .
(2) - سورة هود الآيتان (38و37) .
(3) - أخرجه ابن ماجه في سننه باب التجارة باب الصناعات حديث (2150) .
(4) - صحيح البخاري كتاب البيوع باب كسب الرجل وعمله بيده حديث (1966) .
(5) - ابن ماجه في سننه باب التجارة باب الصناعات حديث (2149) .
إتقان العمل
العاقل من يؤدي واجبه ويتقن عمله ويحسن صنعته حتى يكسب الناس ثقته, فمن أخلص في عمله نجح, وأحبه الله والناس, فما يكاد الناس يرون
صنعة متقنة حتى يقبلون عليها ويثقون فيها, فمن غش في عمله ظلم نفسه, وأهدر ثقته, وكسدت بضاعته, وتجنب الناس التعامل معه, ومن أخلص في عمله ووظيفته أدى أمانته, وارتفعت مكانته, وأقبلت عليه الدنيا, وأمن من العذاب والإهانة, وساعده زمانه, وظفر بحب المجتمع واحترامه, كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وِآلِهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلَ عَمَلاً أَثْبَتَهُ (1) , فإتقان العمل يدل على كمال العامل.
قال الشاعر:
في ازديادِ العلمِ إرغامُ العِدى ... وجمالُ العلمِ يا صاحِ العملْ
قيمةُ الإنسانِ ما يحسِنُهُ ... أكثرَ الإنسانُ منهُ أوْ أقلْ
واكتمِ الأمرينِ فقراً وغنىً ... واكسبِ الفلسَ وحاسبْ مَنْ بَطَلْ
وادّرعْ جداً وكداً واجتنبْ ... صحبةَ الحمقى وأربابِ البخلْ (2)
أما سليمان بن أبي الحفاظ الحجوري اليمني فإنه يقول:
ألا إنما الإنسان أهل لفعله ... وكل لما يأتي من فعله أهل
والإنسان مجزي بعمله إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً, ويرى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن الإنسان يلقى عمله في قبره فيقول:
يا مَن بِدُنياهُ اِشتَغَل ... وَغَرَّهُ طولُ الأَمَل
المَوتُ يَأتي بَغتَةً ... والقبرُ صندوقُ العَمَل
أما أبو العتاهية فهو يقول:
__________
(1) - رواه مسلم في صحيحه باب جامع صلاة الليل حديث (746) .
(2) - هذه الأبيات لابن الوردي.
وَاِعلَم بِأَنَّكَ مَسؤولٌ وَمُفتَحَصٌ ... عَمّا عَمِلتَ وَمَعروضٌ عَلى العَمَلِ
ولله در شوقي حيث يقول:
كُن نَشيطاً عامِلاً جَمَّ الأَمَل ... إِنَّما الصِحَّةُ وَالرِزقُ العَمَل
كُلُّ ما أَتقَنتَ مَحبوبٌ وَجيه ... مُتقَنُ الأَعمالِ سِرُّ اللَهِ فيه
يُقبِلُ الناسُ عَلى الشَيءِ الحَسَن ... كُلُّ شَيءٍ بِجَزاءٍ وَثَمَن
اِنظُرِ الآثارَ ما أَزيَنَها ... قَد حَباها الخُلدَ مَن أَتقَنَها
تِلكَ آثارُ بَني مِصرَ الأُوَل ... أَتقَنوا الصَنعَةَ حَتّى في الجُعَل
أَيُّها التاجِرُ بُلِّغتَ الأَرَب ... طالِعُ التاجِرِ في حُسنِ الأَدَب
بابُ حانوتِكَ بابُ الرازِقِ ... لا تُفارِق بابَهُ أَو فارِقِ
وَاِحتَرِم في بابِهِ مَن دَخَلا ... كُلُّهُم مِنهُ رَسولٌ وَصَلا
تاجِرُ القَومِ صَدوقٌ وَأَمين ... لَفظَةٌ مِن فيهِ لِلقَومِ يَمين
ويقول أيضاً:
العِلمُ لا يُعلي المَراتِبَ وَحدَهُ ... كَم قَدَّمَ العَمَلُ الرِجالَ وَأَخَّرا
فبالعمل يبلغ الأمل, ويلبس أبهى الحلل, ونعم الرجل الفاضل العامل, وقد أحسن القائل:
ما دامَ رائِدَنا الإِخلاصُ في العَمَلِ ... لا بُدَّ نَبلغُ يَوماً غايَةَ الأَمَلِ
أَمران مَن يَعتَصِم يَوماً بحَبلهما ... فَالنُجحُ رائِدهُ في أَيِّما عَملِ
هُما الثَباتُ وَتَوحيدُ القُلوبِ لِذا ... إِلَيهِما قد دعانا خاتَمُ الرُسُلِ
البحث عن العمل
الحر يبحث عن العمل, ويبتعد عن الكسل, ويعتمد على الله عز وجل, ويتأسى بهدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, ففي ذلك فلاح ونجاح, ورشدٌ وإصلاح, وقد جاء في الذكر الحكيم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (1) , وقال جل شأنه: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) .
القصة
أخرج البيهقي في السنن الكبرى من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلاً من الأنصار جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يشكو فاقته، فقال: يا رسول الله، لقد جئتك من أهل بيت ما أراني أرجع إليهم حتى يموت بعضهم، فقال: (انطلق هل تجد من شيء؟) فانطلق، فجاء بحلس بساطٍ يجعل على ظهر البعير وقدح، فقالَ: يا رسولَ الله هَذَا الحِلْسُ كانُوا يَفْتَرِشُونَ بَعْضَهُ ويَلْبَسُونَ بَعْضَهُ، وهَذَا القَدَحُ كانُوا يشربونَ فيهِ، فقالَ رسولُ الله: (مَنْ يَأْخُذُهُمَا مِنِّي بِدِرْهَمٍ) ، فقالَ رجلٌ: أَنَا يا رسولَ الله، فقالَ رسولُ الله: (مَنْ يَزِيدُ على دِرْهَمٍ) ، فقالَ رجلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا
__________
(1) - سورة الملك الآية (15) .
(2) - سورة الجمعة الآية (10) .
باثنينِ، فقالَ: (هُمَا لكَ) ، قالَ: فَدَعَا الرجلَ فقالَ لهُ: (اشْتَرِ بِدِرْهَمٍ فَأْساً وبِدِرْهَمٍ طعاماً لأَهْلِكَ) ، قالَ: فَفَعَلَ، ثم رجعَ إلى النبيِّ، فقالَ: (انْطَلِقْ إلى هَذَا الوَادِي فَلاَ تَدَعْ حَاجًا ولا شَوْكاً ولا حَطَباً، ولا تَأْتِنِي خَمْسَةَ عَشَرَ يوماً) ، قالَ: فَانْطَلَقَ فأصابَ عَشَرَةً قالَ: (فانْطَلِقْ فاشْتَرِ بِخَمْسَةٍ طعاماً لأَهْلِكَ) ، فقالَ: يا رسولَ الله لقد بارَكَ الله لِي فيما أَمَرْتَنِي فقالَ: (هَذَا خيرٌ من أَنْ تَجِىءَ يومَ القيامةِ وفي وَجْهِكَ نُكْتَةُ المَسْئَلَةِ، إنَّ المَسْئَلَةَ لا تَصْلُحُ إلا لثلاثةٍ: لذِي دَمٍ مُوْجِعٍ أو غُرْمٍ مُفْظَعٍ أَو فَقْرٍ مُفْقِعٍ) (1) .
إعطاء العامل أجره
إعطاء العامل أجره وثمرة جهده فرض لازم, جاحده ظالم, والمتغافل عنه نادم, وفي الحديث النبوي الشريف: (اعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) (2) , وفي الحديث القدسي: (قَالَ اللَّهُ ثَلاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ, وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ, وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ) (3) .
إعطاء العامل حظه من الراحة
إذا كانت طاقة الإنسان محدودة وساعات عمله معدودة فإن التكلف فوق الطاقة يفضي إلى المشقة والتعب الذي يوقع الإنسان في الضيق والنكد, وتكليف الإنسان نفسه أو غيره فوق الطاقة من العمل غير محمود ولا
__________
(1) - أورده البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الصدقات، باب لا وقت فيما يعطى للفقراء والمساكين، حديث (13373) .
(2) - ابن ماجه في سننه كتاب الرهون باب اجر الأجراء حديث (2443) .
(3) - صحيح البخاري باب إثم من باع حراً حديث (2114) .
مرغوب, وفي الذكر الحكيم: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (1) , وقد جاء في الحديث النبوي: (خذوا من الأعمال ما تطيقون) (2) , وجاء في حديث آخر: (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) (3) , فالراحة والاستجمام خير وسيلة لاستئناف العمل, فمن أعطى نفسه حظها من الراحة فقد أعطى حق البدن في الاستراحة, وفي الحديث النبوي: (إن لجسدك عليك حقاً) (4) , فمن أخذ بهدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظفر, وفي القرآن الحكيم: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (5) .
بعث الهمم على العمل
إن بعث الهمم على العمل الصالح وإتقانه طريق فلاح المؤمن ونجاحه, وهو دليلٌ على صدق إيمانه, وإنما يرث الإنسان الكرامة والسعادة والخلود في الجنة بالعمل الصالح, قال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (6) , فالإنسان المؤمن إذا أدرك في نفسه الوهن وأنه قد أصيب بالملل والضجر والسأم بعث في نفسه الهمم بالاستعانة بالله الواحد الأحد
__________
(1) - سورة البقرة الآية (286) .
(2) - صحيح البخاري كتاب اللباس باب الجلوس على الحصير ونحوه حديث (5523) .
(3) - البيهقي في السنن الكبرى كتاب الصلاة ج3ص28 حديث (4743) , الطبعة الثالثة 1427هـ.
(4) - صحيح البخاري كتاب الصوم باب حق الجسم في الصوم حديث (1975) , وصحيح مسلم كتاب الثوم باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به حديث (1159) .
(5) - سورة التوبة الآية (105) .
(6) - سورة الزخرف الآية (72) .
الباعث للهمم, فهو الذي يقيه الضعف والوهن ويبعث في نفسه النشاط على العمل الحسن, فالإسلام دين يدعو إلى العمل الصالح الأتم, وفي الذكر الحكيم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (1) .
الباعث في أسماء الله الحسنى
اسم الله الباعث لم يرد في القرآن الكريم بصيغة الباعث ولكن بصيغة الفعل قال تعالى: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى} (2) , وقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ} (3) , وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} (4) , وقال: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} (5) , وجاء في سورة الحج: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ} (6) .
وقد ورد في السنة: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) (7) ، وقد روى الترمذي: (إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً غَيْرَ وَاحِدٍ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) وعد منها: (الباعث) .
__________
(1) - سورة الجمعة الآية (2) .
(2) - سورة الأنعام الآية (60) .
(3) - سورة الجمعة الآية (2) .
(4) - سورة النحل الآية (36) .
(5) - سورة الكهف الآية (12) .
(6) - سورة الحج الآية (7) .
(7) - صحيح البخاري باب ان لله مائة اسم إلا واحداً حديث (6957) .
فوجب على المكلف أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى الباعث, باعث الموتى ومنشؤهم وخالقهم ومعيدهم, فهو سبحانه الباعث للأموات, والباعث للأرواح والأجساد والرسل والخواطر.
وقال الرازي: والباعث في صفة الله تعالى يحتمل وجوهاً:
الأول: أنه تعالى باعث الخلق يوم القيامة, كما قال سبحانه: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ} .
والثاني: أنه تعالى باعث الرسل إلى الخلق: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} .
والثالث: أنه تعالى يبعث عباده عند العجز بالمعونة والإغاثة وعند الذنب بقبول التوبة. (1)
فلهذا الاسم معاني كثيرة منها: أن الله باعث الخلق يوم القيامة, ومنها: أن الله جل شأنه باعث الرسل, ومنها: أنه باعث عباده عند العجز بالمعونة.
وقال الدكتور محمد النابلسي: إن الله يبعث عباده على الأفعال المخصوصة إما تحقيقاً لاختيارهم أو تأديباً لهم أو مكافأةً لهم, فالله عز وجل يبعث بالمعنى الأول يحقق لك اختيارك وبالمعنى الثاني يكافئك على حسن اختيارك أو يؤدبك على سوء اختيارك, هذا التيسير الأول لتحقيق الاختيار أما الثاني فهو لدفع ثمن الاختيار. (2)
__________
(1) - الأسماء الحسنى للرازي ص276, والجامع لأسماء الله الحسنى ص37.
(2) - موسوعة اسماء الله الحسنى ص8.
ثمرة معرفة اسم الله الباعث
إذا عرف المكلف أن الله تعالى هو الباعث للأموات والباعث على فعل الخيرات والباعث للرسل إلى عباده ليعبدوه سبحانه وتعالى ويوحدوه, وأنه الباعث للهمم للترقي في ساحة التوحيد بهدايته وتوفيقه, وأنه الذي يبعث الإنسان على عليات الأمور؛ وجب عليه أن يؤمن به سبحانه وتعالى, ويسعى إلى معرفته وطاعته والإقبال عليه, وأن يبعث نفسه كما يريد الله تعالى فلا يأتي من الأفعال إلا ما كان مطابقاً لكتاب الله وسنة رسوله, وأن يتأدب مع جلال الله الباعث, فهو الذي يبعث ويجازي بالثواب والعقاب, فيشغل وقته كله بطاعة الله الباعث الوهاب, فيبعث قلبه على اليقين ولسانه على الذكر وجوارحه على العمل, ويلزم نفسه قبول باعث الحق ورد باعث الباطل.
قال الرازي: إن العبد إذا سعى إلى التعلم بعث روحه بعد الموت, وإذا سعى في تعليم الجهلاء فكأنه يبعث أرواحهم بعد موتها. (1)
فالمؤمن باسم الله الباعث يحقق إيمانه بالعمل حتى يكون ممن أدرك الفلاح وتزود للدار الآخرة وتصفح أعماله وحاسب نفسه وجعل أعماله متوافقة مع منهج ربه. قال الخليفة الراشد أبو بكر الصديق (2) رضي الله عنه:
وَكُلُّهُم لِلَّهِ في البَعثِ مُنشَرٌ ... مُجازىً مُوَفّىً حَقَّهُ لَيسَ يُبخَسُ
__________
(1) - الأسماء الحسنى للرازي ص277, والجامع لأسماء الله الحسنى ص38.
(2) - عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر بن كعب التيمي القرشي, (51ق. هـ- 13هـ/573-634م) , أول الخلفاء الراشدين، وأول من آمن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الرجال، وأحد أعاظم العرب, ولد بمكة، ونشأ سيداً من سادات قريش، وغنياً من كبار موسريهم وعالماً بأنساب القبائل وأخبارها وسياستها، وكانت العرب تلقبه بعالم قريش, وحرم على نفسه الخمر في الجاهلية، فلم يشربها، وكانت له في عصر النبوة مواقف كبيرة، فشهد الحروب، واحتمل الشدائد، وبذل الأموال وبويع بالخلافة يوم وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنة 11 هـ، فحارب المرتدين، والممتنعين من دفع الزكاة، وافتتحت في أيامه بلاد الشام وقسم كبير في العراق, وكان موصوفاً بالحلم والرأفة بالعامة، خطيباً لسناً، وشجاعاً بطلاً مدة خلافته سنتان وثلاثة أشهر ونصف شهر، وتوفي في المدينة, كان يلقب بالصديق.
الدعاء باسم الله الباعث
اللهم يا باعث يا شهيد ثبتني والمؤمنين في البعث بالقول الثابت والتوحيد وألهمني حمدك وذكرك يا مجيد, وسلمني والمؤمنين من العذاب الشديد, وتفضل عليَّ بما أوليت أولياءك من الكرامة والفردوس الأعلى من الجنة إنك حميد مجيد, وصلى الله على محمد وآله وأصحابه وأزواجه وذريته وأهل بيته وسلم تسليماً كثيراً.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
الفصل السابع السفر والسياحة
السفر والسياحة
السفر يطيب الخواطر, ويجدد الأفكار, ويخرج الإنسان من سجن اليأس والإحباط إلى شمس الأمل والسرور, فجولة في أرض وارفة الظلال تتمايل على جنباتها أزهار بهية متنوعة قد تصفي ذهنك وتغير مجرى تفكيرك, وفي الأمثال السائرة: "الحركة ولود والسكون عاقر", وفي أمثال العامة: "الحركة بركة", وقد جاء في الذكر الحكيم: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (1) , وروي أن الخليفة العباسي المأمون كان يقول: "لا شيء ألذ من السفر فيه كفاية وعافية لأنك تحل كل يوم في محلة لم تحل فيها وتعاشر قوماً لم تعرفهم", قال الشاعر:
ما في المَقامِ لِذي عَقلٍ وَذي أَدَبِ ... مِن راحَةٍ فَدَعِ الأَوطانَ وَاِغتَرِبِ
سافِر تَجِد عِوَضاً عَمَّن تُفارِقُهُ ... وَاِنصَب فَإِنَّ لَذيذَ العَيشِ في النَصَبِ
إِنّي رَأَيتُ وُقوفَ الماءِ يُفسِدُهُ ... إِن ساحَ طابَ وَإِن لَم يَجرِ لَم يَطِبِ
وَالأُسدُ لَولا فِراقُ الأَرضِ مااِفتَرَسَت ... وَالسَهمُ لَولا فِراقُ القَوسِ لَم يُصِبِ
وَالشَمسُ لَو وَقَفَت في الفُلكِ دائِمَةً ... لَمَلَّها الناسُ مِن عُجمٍ وَمِن عَرَبِ
وَالتِبرُ كَالتُربِ مُلقىً في أَماكِنِهِ ... وَالعودُ في أَرضِهِ نَوعٌ مِنَ الحَطَبِ
فَإِن تَغَرَّبَ هَذا عَزَّ مَطلَبُهُ ... وَإِن تَغَرَّبَ ذاكَ عَزَّ كَالذَهَبِ (2)
__________
(1) - سورة الرعد الآية (4) .
(2) - ديوان الإمام الشافعي ص24.
وفي الحديث النبوي: (لو يعلم الناس ما للمسافر لأصبحوا على ظهر سفر إن الله عز وجل ينظر إلى الغريب كل يوم ألف مرة) (1) .
وفي الأمثال السائرة: "الإغراب يعيد الجَدّة ويفيد الحِدّة", وقيل: "الغريب من لم يكن له حبيب", وقيل: "كل غريب للغريب نسيب".
قال الشاعر:
أعاذل حبي للغريب سجية ... وكل غريب للغريب حبيب
وقال آخر:
أجارتنا إنَّا غريبان هاهنا ... وكل غريب للغريب نسيبُ
وفي الحديث النبوي: (سَافِرُوا تَصِحُّوا وَتُرْزَقُوا) (2) , فدل على ما فيه سبب الغنى.
حقيقة السفر
السفر: هو قطع المسافة اسم مصدر سافر إذا خرج للارتحال أو لقصد مسافة فوق مسافة العدو, وفي المصباح: وسمي سفراً لأنه يسفر عن أخلاق الرجال لأن العرب لا يسمون مسافة العدو سفراً وقال بعض المصنفين: أقل السفر يوماً كأنه أخذ من قوله تعالى: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} (3) , فإن في التفسير كان أصل أسفارهم يوماً يقبلون في موضع ويبيتون في موضع ولا
__________
(1) - انظر: الفردوس بمأثور الخطاب ج3ص348 حديث (5050) , والمقاصد الحسنة للسخاوي ج1ص549 حديث (895) , وتنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة ج2ص222 حديث (30) , كشف الخفاء ج2ص158 حديث (2104) , وإرواء الغليل ج5ص384 حديث (225/1) .
(2) - أخرجه البيهقي في السنن الكبرى حديث (95) .
(3) - سورة سبأ الآية (19) .
يتزودون. (1) وفي الذكر الحكيم: {وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (2) , وقال جل شأنه: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} (3) , وقال: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (4) , وقال عظمت حكمته: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} (5) .
ويرحم الله شوقي حيث يقول:
وَجَدتُ الحَياةَ طَريقَ الزُمَر ... إِلى بَعثَةٍ وَشُؤونٍ أُخَر
وَما باطِلاً يَنزِلُ النازِلون ... وَلا عَبَثاً يُزمِعونَ السَفَر
فَلا تَحتَقِر عالَماً أَنتَ فيهِ ... وَلا تَجحَدِ الآخَرَ المُنتَظَر
وَخُذ لَكَ زادَينِ مِن سيرَةٍ ... وَمِن عَمَلٍ صالِحٍ يُدَّخَر
وَكُن في الطَريقِ عَفيفَ الخُطا ... شَريفَ السَماعِ كَريمَ النَظَر
وَلا تَخلُ مِن عَمَلٍ فَوقَهُ ... تَعِش غَيرَ عَبدٍ وَلا مُحتَقَر
وَكُن رَجُلاً إِن أَتَوا بَعدَهُ ... يَقولونَ مَرَّ وَهَذا الأَثَر
__________
(1) - المصباح المنير ص168.
(2) - سورة هود الآية (41) .
(3) - سورة الزخرف الآيتان (12و13) .
(4) - سورة القصص الآية (85) .
(5) - سورة قريش.
السفر فيه قضاء الحوائج
السفر فيه قضاء الحوائج والحصول على الرغائب وصلة الأرحام والتفكر فيما خلق الله من النبات والأنعام, والاستمتاع بنعم الله الجليل المنان, والاستفادة من الراحة في غير سذاجة ولا غاغة, والاتعاظ والاعتبار بسنن الله القوي الجبار, قال تعالى: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} (1) , وقال جل شأنه: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2) , وقال تعالى: {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} (3) .
آيات تدعوك إلى التنقل والتدبر وإلى الأسفار والسياحة والتفكر, لتكون كالماء السائح الطاهر لا كالماء الساكن الفاسد, قال شاعر:
تغرب فالتغرب فيه نفعٌ ... وشرق إن بريقك قد شرقنا (4)
إن تفريغ الرئتين مما علق بهما من غبار الزحام وغبار المركبات وتلوث الهواء لا يمكن إلا بفسحة أو نزهة في طبيعة ذات نسيم عذب, وهدرة ماءٍ رقراق, وحلة ندية خضراء, بعيدٌ عن السفه والمجون, قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ
__________
(1) - سورة يونس الآية (101) .
(2) - سورة العنكبوت الآية (20) .
(3) - سورة التوبة الآية (2) .
(4) - عيون الأمل ص80.
النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1) .
التغيير بالسفر يكسر (الروتين) وينقي الفكر
كل منا يحتاج إلى التغيير والتنويع حتى يعيش حياته مفعماً بالآمال, طامحاًً إلى النجاح فيها والانتصار لا يريد أن يعيشها على نسق واحد مملوءة بالضجر والملل, يذهب إلى عمله في وقت محدد وتمضي ساعات العمل على وتيرة واحدة في كل يوم ثم يعود في وقت محدد وهكذا دواليك يكرر كل يوم ما فعل في الأمس حتى يمل عمله أو يكون عاطلاً فتقتله البطالة والفراغ ولا يستغل فراغه فيما يطور به إنتاجه ويجدد به حياته, أو يتنقل ليتعلّم مما يراه كيف يكون إنساناً مبدعاً يعتمد على الرحمن ويبتعد عن الأوهام, وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ) (2) .
إن العمر الذي يسير على نسق واحد هو عمر ميت لا طائل منه يعيش, صاحبه مسجوناً في (روتينه) في زمانه ومكانه, فإما أن يقل إنتاجه أو يمل عمله ويشعر أخيراً بأنه معطل العقل والروح فهو كآلة يؤدي عمله من غير إحساس أو شعور دون أن يسعى إلى التجديد والتنويع بين الحين والحين فينظر في هذا الكون الرحيب ليزيل ما اعترى نفسه من أزمات وآهات
__________
(1) - سورة الأنعام الآية (99) .
(2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب لا عيش إلا عيش الآخرة حديث (5933) .
تكبت طاقته وتقتل مواهبه, فمن حبس عقله في نمط واحد من التفكير أصابته البلاهة وانقبض قلبه فقتل حينئذٍ نبضاته أو تتبلد مشاعره وتكثر آهاته فيغفل عن حياته الدينية والدنيوية.
وفي الحديث النبوي الشريف الذي رواه مسلم: (وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً) (1) , وفي رواية: (روحوا القلوب ساعةً فساعة) (2) .
فالحياة جميلة بتنوعها مملة (بروتينها) لا تستبين معانيها إلا بوجود الأضداد وباختلاف الأزمنة والأمكنة, قال الشاعر:
تجمعن من شتى ثلاث وأربع ... وواحدة حتى كملن ثمانيا
سليمى وسلمى والرباب وأختها ... وسعدى ولبنى والمنى وقطانيا
فالسعادة التي ينشدها كل إنسان متوقفة على ما يدخل عقله من أفكار, فإذا استقبل ما صح وجمل من الأفكار واستبعد ما غلظ وقبح منها نال السعادة وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (3) .
فسبحان من غاير بين المخلوقات لتتجدد حياة الإنسان في مختلف الأوقات فقال سبحانه: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} (4) , ... وقال جل شأنه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ
__________
(1) - أخرجه مسلم في صحيحه باب فضل دوام الذكر حديث (4937) .
(2) - أخرجه الديلمي في المسند حديث (3181) .
(3) - سورة الرعد الآية (11) .
(4) - سورة الزمر الآية (5) .
يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1) .
فسلامة التفكير تجلب السعادة والسلامة, فأنت الذي تلون حياتك بمنظارك الخاص, فإذا استجلبت فكراً خبيثاً أسود لا بد أن يشقيك, وإذا استجلبت فكراً صالحاً نيراً فسيحولك إلى إنسان سعيد وديع, وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ, قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ قَالَ: لا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ, فَقَالَ لَهُ: لا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ, قَالَ: قُلْتُ: طَهُورٌ كَلاَّ بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ أَوْ تَثُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ تُزِيرُهُ الْقُبُورَ, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: فَنَعَمْ إِذًا) (2) أي فلتكن إذاً كما وصفتها طالما يلفك اليأس ويغذي فكرك السخط والتذمر, إنها حقيقة يؤكدها علماء النفس والتربية فهم يتفقون على أن معظم الأمراض النفسية الناجمة عن ضغوط الحياة وأحداثها إنما هي في الأصل ناتجة لأنماط خطأ في التفكير (3) , وإن الفكر السليم يأتي في النظر والتفكر في خلق السماوات والأرض وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ فِي خَلْقِ
__________
(1) - سورة القصص الآيات (71-73) .
(2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب علامة النبوة في الإسلام حديث (3347) .
(3) - عيون الأمل ص76.
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (1) .
علاج (الروتين) الممل
لقد عالج الإسلام هذه الظاهرة التي تجتاح العالم فدعى إلى التنويع والتجديد فغاير سبحانه وتعالى بين الزمان والمكان وجعل الأيام دولاً بين بني الإنسان, قال تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (2) .
وغاير بين العبادات والطاعات فقال جل شأنه: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (3) , وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (4) , وقال جل شأنه: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (5) .
وغاير بين الألوان فقال جلت حكمته: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} (6) .
__________
(1) - سورة البقرة الآية (164) .
(2) - سورة آل عمران الآية (140) .
(3) - سورة البقرة الآية (3) .
(4) - سورة البقرة الآية (183) .
(5) - سورة آل عمران الآية (97) .
وغاير بين الزروع والثمار فقال سبحانه: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (1) .
وغاير في الحركات عند الذِكر بحسب الأحوال فقال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (2) .
إذا عرفت هذا عرفت أن النفس الإنسانية بعد كل شوط تقطعه في حياتها تحتاج إلى أن يتعهدها صاحبها بالتجديد والتنويع بين الحين والحين, وما الذي يمنعه أن يتنقل في هذه الأرض ويتذكر نعم الله عليه وهو الذي وهبه الحياة وخلق له ما في الأرض جميعاً قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) .
فكل ما تراه من جمال أودعه الله تعالى هذه الأرض وهذا الكون هو لبني الإنسان فتمتع بالحلال وإياك أن تقع في الآثام وإلا فما قيمة الحدائق البهيجة والأنهار النميرة إن لم تستمتع بها العيون, وتقرأ في صفحاتها كلام الحي القيوم, من غير ملل أو كلل, ما قيمتها إن لم تبتسم لها الشفاة وتردد بلابلها أنشودة الخطا والمسير.
__________
(1) - سورة الرعد الآية (4) .
(2) - سورة آل عمران الآية (191) .
(3) - سورة البقرة الآية (29) .
فعش حياتك آملاً مستبشراً وتجشم صعود الجبال, فالموت على ظهر جبل وأنت تعاني الصعود خير من الحياة الخسيسة على حافة مستنقع نتن, واستمع إلى هذا الشاعر وهو يقول:
إِذا مَا طَمحْتُ إلى غايةٍ ... رَكِبتُ المنى ونَسيتُ الحَذرْ
ومن لا يحبُّ صُعودَ الجبالِ ... يَعِشْ أبَدَ الدَّهرِ بَيْنَ الحُفَرْ
تأكد من قدرتك الصحية على السفر
بعد ظهور وسائل المواصلات الحديثة كالطائرات والقطار والباخرة والسيارة أصبح غالب الناس إن لم يكن الكل بمقدورهم السفر لمسافات بعيدة سواءً كان شاباً أو شيخاً أو امرأة, ومن هنا نشأ طب السفر, وصار من الضرورة أن يتعرف الإنسان على الحالة الصحية لديه وعلى اللقاحات اللازمة أو الأدوية التي يعتمد عليها, فقياس عامل الخطر الصحي يستلزم استشارة الطبيب قبل السفر بوقت كاف لأخذ اللقاحات فهناك بلدان ينتشر فيها الملاريا أو التيفود أو حمى الضنك, وهذه البلدان عند ضرورة السفر إليها لا بد من أخذ اللقاحات التي ينتشر فيها هذه الأمراض وأخذ ارشادات الطبيب الذي ربما أعطى المسافر أدوية وقائية وقد ينصح بالوقاية من لسعات البعوض أو غير ذلك, فالأمر بالتداوي والاحتماء من من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ففي الحديث: (تداووا فإن الله لم ينزل داء إلاّ أنزل له شفاء، علِمَه من علِمَه وجهِلَه من جهِلَه) (1) .
__________
(1) - أخرجه أحمد في المسند، عن أسامة بن شريك، حديث (18111) .
ويفضل عدم السفر إلى البلدان التي تنتشر فيها الأوبئة المعدية فقد جاء في الحديث النبوي: (إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ فِيهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا) (1) ، وفي رواية للبخاري أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (لا توردوا الممرض على المصح) (2) , وذلك من أجل الاحتماء وعدم وقوع الضرر, فتأكد من أخذ جميع اللقاحات الروتينية مثل التيتانوس (الكزاز) حتى لا تتعرض بالاصابة بالمرض عند التعرض لجرح بسيط ملوث بالتيتانوس, وكذلك التطعيم ضد التهاب الكبد الوبائي, وتأكد من ضبط الجرعة الدوائية إن كنت مصاب بضغط الدم أو السكر أو غير ذلك, لتكن في سفرك وإقامتك سعيداً تؤدي واجبك وتستمتع بحياتك بهمة عالية بعيداً عن الهموم.
آداب السفر
إذا أردت أن تسافر فعليك بإعداد النفقة والزاد للسفر من الحلال الطيب, فقد أثر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "من كرم الرجل طيب زاده في سفره", وفي الذكر الحكيم: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (3) , وقد ذكر بعض المفسرين بأنها نزلت في حق قوم كانوا يحجون ولا يتزودون, وفي سورة آل عمران: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
__________
(1) - أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجنائز، باب الخروج من الطاعون، حديث (3103) .
(2) - صحيح البخاري، كتاب الطب، باب لا عدوى، حديث (5774) .
(3) - سورة البقرة الآية (197) .
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (1) , ذكر المفسرون أن الاستطاعة هي الزاد والراحلة.
ومن آداب السفر اخراج نفقة من تلزمك نفقته كالزوجة والولد حتى لا يكونوا عالة على غيرك ففي الحديث النبوي: (كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ) (2) .
ومن أدب السفر أن يودع المسافر أهله واخوانه وأصدقاءه وأن يشملهم بدعائه: (أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ) (3) , وعند ذلك يرد المودعون على المسافر بما ورد في الحديث: (زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى, وَغَفَرَ ذَنْبَكَ, وَيَسَّرَ لَكَ الْخَيْرَ حَيْثُمَا كُنْتَ) (4) .
وإن سأل المسافر من يودعه الدعاء كان خيراً له, ولقد كان من عادة العرب توديع أحبتهم وأصدقائهم ورد ذلك في أشعارهم وأخبارهم, قال ابن زريق:
اِستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً ... بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ
وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي ... صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ
وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً ... وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ
ويغفر الله للقائل:
__________
(1) - الآية (97) .
(2) - أخرجه أبو داود في سننه باب في صلة الرحم حديث (1442) .
(3) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما يقول إذا ودع إنسانا حديث (3365) .
(4) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما يقول إذا ودع إنسانا حديث (3366) .
لِلَّهوِ آوِنَةٌ تَمُرُّ كَأَنَّها ... قُبَلٌ يُزَوَّدُها حَبيبٌ راحِلُ
جَمَحَ الزَمانُ فَما لَذيذٌ خالِصٌ ... مِمّا يَشوبُ وَلا سُرورٌ كامِلُ
أما أبو العلاء المعري فهو يقول:
كم بَلْدَةٍ فارَقْتُها ومَعاشِرٍ ... يُذْرُونَ من أسَفٍ علَيّ دُمُوعا
وإذا أضاعَتْني الخُطوبُ فلنْ أرى ... لِوِدادِ إِخْوانِ الصَّفاءِ مُضِيعا
خالَلْتُ تَوْديعَ الأصادِقِ للنّوى ... فمتى أُوَدّعُ خِلّيَ التّوْديعا
وله أيضاً:
أُوَدِّعُ يَومي عالَماً إِنَّ مِثلَهُ ... إِذا مَرَّ عَن مِثلي فَلَيسَ يَعودُ
ومن آداب السفر اختيار الرفقة الصالحة وتأمير أحدهم, ليتولى قيادتهم بمشورتهم, ففي الحديث النبوي: (إِذَا كَانَ ثَلاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ) (1) .
وفي الأمثال السائرة: "الرفيق قبل الطريق".
قال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: (لا تصحب في سفرك من لا يرى لك من الفضل عليه كما ترى له عليك) .
وقد جاء في الرحيق المختوم أن محمد النبي المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم: كان أوفي الناس بالعهود، وأوصلهم للرحم، وأعظمهم شفقة ورأفة ورحمة بالناس، أحسن الناس عشرة وأدباً، وأبسط الناس خلقاً، أبعد الناس من سوء الأخلاق، لم يكن فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا لعاناً، ولا صخابا في
__________
(1) - أخرجه أبو داود في سننه باب في القوم يسافرون يؤمرون أحدهم حديث (2242) .
الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، وكان لا يدع أحدا يمشي خلفه، وكان لا يترفع على عبيده وإمائه في مأكل ولا ملبس، ويخدم من خَدَمَه، ولم يقل لخادمه أف قط، ولم يعاتبه على فعل شيء أو تركه، وكان يحب المساكين ويجالسهم، ويشهد جنائزهم، ولا يحقر فقيراً لفقره, كان في بعض أسفارة فأمر بإصلاح شاة، فقال رجلٌ: علي ذبحها، وقال آخر: علي سلخها، وقال آخر علي طبخها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (وعلي جمع الحطب) ، فقالوا: نحن نكفيك, فقال: (قد علمت أنكم تكفوني ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه) , وقام وجمع الحطب. (1) قال الشاعر:
وَما المَرء إِلا بِإخوانِهِ ... كَما يَقبض الكَفُّ بِالمعصمِ
وَلا خَير في الكَفِّ مَقطوعَةً ... وَلا خَير في الساعد الأَجزمِ
ومن آداب السفر الاستخارة قبل العزم ففي الحديث: (من سعادة ابن آدم رضاه بما يقضى الله واستخارة الله ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما يقضى الله وتركه استخارة الله ومن سعادة ابن آدم ثلاث ومن شقوته ثلاث فمن السعادة المرأة الصالحة والمركب الصالح والمسكن الصالح ومن شقوته المرأة السوء والمركب السوء والمسكن السوء) (2) , ويا حبذا الاستشارة ففي الحديث: (ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار) (3) .
__________
(1) - الرحيق المختوم لصفي الرحمن المباركفوري, ج1ص478.
(2) - انظر جمع الجوامع والجامع الكبير للسيوطي ج1ص21803.
(3) - المعجم الصغير تأليف العلامة المحدث سليمان بن احمد بن أيوب, أبو القاسم الطبري, ج2ص175 حديث (980) , الناشر: المكتب الاسلامي بيروت الطبعة الأولى 1405هـ1985م. ومسند الشهاب محمد بن سلامة بن جعفر أبو عبد الله القضاعي ج2ص7 حديث (774) , تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي, الناشر: مؤسسة الرسالة, الطبعة الثانية 1407هـ1986.
ومن الخير الصلاة قبل الخروج من المنزل, ثم الدعاء بعد الصلاة بقوله: "اللهم إنى أتقرب بهن إليك فاجعلهن خليفتي في أهلي ومالي", ففي كنز العمال: (ما استخلف العبد في أهله من خليفة إذا هو شد عليه ثياب سفره خيراً من أربع ركعات يضعهن في بيته يقرأ في كل واحدة منهن بفاتحة الكتاب و {قل هو الله أحد} , ثم يقول: اللهم إني أتقرب بهن إليك فاجعلهن خليفتي في أهلي ومالي) (1) .
ويستحب للمسافر حين عوده من السفر ووصوله أن يدخل أقرب مسجد ويصلي فيه ركعتين, ففي الحديث النبوي: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ) (2) , وما أجمل محافظة الإنسان على صلاة الفريضة والنفل في الحضر والسفر, وملازمة الذكر والدعاء.
ولعل قائل يقول: ولِمَ المحافظة على الصلاة والدعاء؟ وما الفائدة من ذلك؟
قلنا: لأن الإنسان بحاجة إلى قوة روحية ترفع من نفسيته على وجه الاستمرار إلى مثل عليا, فالإنسان إذا لم تتصل روحه بمبدعها ظهرت فيه مظاهر الوحشة والاكتئاب, وقد يظن أن وحشته واكتئابه حصلا لعدم أخذ الإنسان حظه من الملهيات, فيصاب باليأس والإحباط وربما ألقى نفسه في
__________
(1) - انظر جامع الأحاديث للسيوطي ج18ص405 حديث (19738) , وكنز العمال في سنن الأقوال والأفعال للعلامة علاء الدين علي بن حسام الدين المتقي الهندي البرهان فوري (المتوفى: 975هـ) , تحقيق بكري حياني وصفوة السقا, ج6ص714 حديث (17535) , الناشر مؤسسة الرسالة بيروت, الطبعة الخامسة 1401هـ1981م.
(2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب إذا قدم من سفر.
هاوية, فالإنسان الذي يعتمد على الله لا يعرف اليأس إلى قلبه سبيلاً, فهو يملك من القوة النفسية ما يواجه بها أعظم المشاكل دقةً وخطراً, وبذلك يتبين لك أخي أن اتصال الروح الإنسانية بخالقها ولو لحظات في اليوم هي من الضروريات للإنسان, ولهذا كانت الصلاة أنجع علاج, وأفضل رباط بين الإنسان وربه في سفره وحضره, ولأن الدعاء مخ العبادة وباب يوصل إلى السعادة, فالله معك حاضر لا يغيب وأنت بحاجة إلى عونه وتسديده ورعايته وحفظه, وفي الذكر الحكيم: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) .
وإذا أمكن الخروج يوم الخميس ففي ذلك الاقتداء بهدي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, ففي صحيح البخاري: (لقَلَّمَا كَانَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم يَخْرُجُ إِلاَّ في يَوْمِ الخَمِيسِ) (2) , وعن صخر بن وَداعَةَ الغامِدِيِّ الصحابيِّ رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، قَالَ: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لأُمَّتِي في بُكُورِهَا) وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشَاً بَعَثَهُمْ مِنْ أوَّلِ النَّهَارِ, وَكَانَ صَخْرٌ تَاجِراً، وَكَانَ يَبْعَثُ تِجَارَتَهُ أوَّلَ النَّهَار، فَأَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ. (3)
__________
(1) - سورة المجادلة الآية (7) .
(2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب من أراد غزوة حديث (2730) .
(3) - أخرجه أبو داود في سننه باب في الابتكار في السفر حديث (2239) , والترمذي في سننه باب ما جاء في التبكرة في التجارة حديث (1133) .
ويستحب للمسافر عند الخروج من الدار أن يقول: (بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ, اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ) (1) .
فإذا دخل المسافر السيارة أو القطار أو الطائرة أو الباخرة فإنه يستحب له أن يقول ما كان يقوله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ( {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَمِنْ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالأَهْلِ) , وإذا رجع قالهن وزاد فيهن: (آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ) (2) .
فإن فعلت ذلك فإنك ستكون في خير وعلى خير ويكون سفرك وسياحتك متعة وراحة تقتنص في أسفارك العلم والمعرفة وتحصد الأجر والثواب والتفكر في مخلوقات الله العزيز الوهاب.
__________
(1) - سنن أبو داود باب ما يقول إذا خرج من بيته حديث (4431) وحديث (4432) .
(2) - أخرجه مسلم في صحيحه باب ما يقول إذا ركب إلى سفر حديث (2392) .
هاوية, فالإنسان الذي يعتمد على الله لا يعرف اليأس إلى قلبه سبيلاً, فهو يملك من القوة النفسية ما يواجه بها أعظم المشاكل دقةً وخطراً, وبذلك يتبين لك أخي أن اتصال الروح الإنسانية بخالقها ولو لحظات في اليوم هي من الضروريات للإنسان, ولهذا كانت الصلاة أنجع علاج, وأفضل رباط بين الإنسان وربه في سفره وحضره, ولأن الدعاء مخ العبادة وباب يوصل إلى السعادة, فالله معك حاضر لا يغيب وأنت بحاجة إلى عونه وتسديده ورعايته وحفظه, وفي الذكر الحكيم: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) .
وإذا أمكن الخروج يوم الخميس ففي ذلك الاقتداء بهدي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, ففي صحيح البخاري: (لقَلَّمَا كَانَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم يَخْرُجُ إِلاَّ في يَوْمِ الخَمِيسِ) (2) , وعن صخر بن وَداعَةَ الغامِدِيِّ الصحابيِّ رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، قَالَ: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لأُمَّتِي في بُكُورِهَا) وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشَاً بَعَثَهُمْ مِنْ أوَّلِ النَّهَارِ, وَكَانَ صَخْرٌ تَاجِراً، وَكَانَ يَبْعَثُ تِجَارَتَهُ أوَّلَ النَّهَار، فَأَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ. (3)
__________
(1) - سورة المجادلة الآية (7) .
(2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب من أراد غزوة حديث (2730) .
(3) - أخرجه أبو داود في سننه باب في الابتكار في السفر حديث (2239) , والترمذي في سننه باب ما جاء في التبكرة في التجارة حديث (1133) .
ويستحب للمسافر عند الخروج من الدار أن يقول: (بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ, اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ) (1) .
فإذا دخل المسافر السيارة أو القطار أو الطائرة أو الباخرة فإنه يستحب له أن يقول ما كان يقوله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ( {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَمِنْ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالأَهْلِ) , وإذا رجع قالهن وزاد فيهن: (آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ) (2) .
فإن فعلت ذلك فإنك ستكون في خير وعلى خير ويكون سفرك وسياحتك متعة وراحة تقتنص في أسفارك العلم والمعرفة وتحصد الأجر والثواب والتفكر في مخلوقات الله العزيز الوهاب.
__________
(1) - سنن أبو داود باب ما يقول إذا خرج من بيته حديث (4431) وحديث (4432) .
(2) - أخرجه مسلم في صحيحه باب ما يقول إذا ركب إلى سفر حديث (2392) .
الابتسامة والبهجة في السفر
لن يحصد العابسون وهم يشمخون بأنوفهم على الناس غير بغض الناس وإزدرائهم لهم, فالعبوس والغلظة والفضاضة كلها مترادفات لا تجلب لصاحبها إلا الفرقة والنفور, وفي الذكر الحكيم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (1) , فاضفِ على حياتك في سفرك وإقامتك إبتسامة عريضة واغمر قلبك بالبهجة والفرحة وتأسَّ بخير الخلق الذي قال عنه الصحابي عبد الله بن الحارث: (مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ) (2) .
وحاول أن تنعش قلبك بالأمل والسرور بعيداً عن منغصات الحياة وأكدارها حتى لا تكون ثقيلاً على أهلك ورفاقك في سفرك, ثم لتكون الابتسامة دليلاً على رضا قلبك وهناءته كما تكون حمرة الخد دليلاً على الخجل, قال الشاعر:
كفاك منظره إيضاح مخبره ... في حمرة الخد ما يغني عن الخجل
وقال آخر:
بشاشة وجه المرء خير من القرى ... فكيف بمن يأتى به وهو ضاحك
وقال فضيلة الشيخ/ د. عايض القرني: الضحك المعتدل بلسم للهموم ومرهم للأحزان وله قوة عجيبة في فرح الروح وجذل القلب، حتى قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إني لأضحك حتى يكون إجماماً لقلبي، وكان صلى الله عليه وعلى آله وسلم يضحك أحياناً حتى تبدو نواجذه، وهذا ضحك العقلاء البصراء بداء النفس ودوائها. (3)
__________
(1) - سورة آل عمران الآية (159) .
(2) - أخرجه الترمذي في سننه باب في بشاشة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث (3574) .
(3) - الدكتور عايض القرني في كتابه: لا تحزن، ص78، الطبعة التاسعة، مكتبة العبيكان، الرياض 1422هـ.
والضحك المعتدل بلا شك دواء للنفس وراحة للخاطر المكدود بعد الجد والعمل، والمقتصد منه دليل على الأريحية وآية على اعتدال المزاج وعلامة على صفاء الطوية، وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع أهله إذا دخل عليهم ضاحكاً باسماً يمازح زوجاته ويلاطفهن ويؤنسهن ويحادثهن حديث الود والحنان والعطف لأنه بعث رحمة للعالمين، وأحق الناس بهذه الرحمة أهله وقرابته وأحبابه وأصحابه، وكانت تعلو محياه الطاهر البسمة المشرقة الموحية، فإذا قابل بها الناس أسر قلوبهم أسراً فمالت نفوسهم بالكلية إليه وتهافتت أرواحهم عليه. (1)
وهذا نبي الله سليمان عليه السلام يتبسم ضاحكاً حين سماعه مقال نملة {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (2) ,
فالابتسامة ترجمة لصدر رحب, وخلق سمح, بها تفتح أقفال القلوب, وبها تشق من الطرق ما لا تقدر عليه السهام والسيوف, غولب بها الإنسان حتى يألف جنسه من بني البشر, فالنفس البشرية تحتاج في بعض الحالات إلى المداراة والملاطفة, وإدخال السرور عليها بما يعدل المزاج, ويشعر بالبهجة
__________
(1) - انظر: العلامة خميس السعيد، في سلسلة مواقف من حياة الرسول، ص13، الطبعة الأولى.
(2) - سورة النمل الآيات (17-19) .
والأنس, ويزيح ما يطرأ عليها من هموم مذمومة, وخواطر موحشة مسمومة, ويميط ما يعلق بها من أدران تحجب عنها إدراك ما أنعم الله به على الإنسان في هذه الحياة من خير وفير وجمال منقطع النظير, أو يمنع عنها إدراك ما تشع به الحياة من جمال الأرض في جبالها وسهولها وهضابها ووديانها وأنهارها وبحارها إلى غير ذلك مما تزخر به الأرض, ويعم به النفع, ويفوح منه شذى الورود والرياحين الطيبة التي تتمايس بها الغصون والأشجار وتشرق به الأزهار والورود, ويفوح بها عبق المسك والعود والعنبر والكافور, مما تلتذ به النفس, ويتمتع به النظر, وتزهو بها أثواب الجمال التي يدثر بها الإنسان والنبات والأنعام في أشكال تسحر الألباب, وتدل على عظمة الله الخالق الوهاب.
فأخذ النفس البشرية بالشدة وإدخال الهم والحزن والقنوط عليها غير مرغوب ولا محبوب, بخلاف الترويح عليها بما يفرح القلب, ويوصلها بالسلوى والسرور, فإنه محمود غير مذموم, ومألوف غير مبغوض, ومرغب فيه غير منفر عنه, لأنه يزيل عن النفس التشاؤم, ويستأصل شأفة الإكتئاب والإبتعاد, ويبعث في النفس النشاط, وذلك كله مما يدحض اليأس والقنوط, ويزيل الخمول والجمود, ويحث على العمل, وأنت بحاجة في سفرك وإقامتك إلى ما يروح عليك وعلى زملائك وأهلك واخوانك.
وليس الشعر الذي يصف جمال الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم, ويصف جمال الطبيعة التي وهبها الله, مما يسمو بالنفس إلى آفاق تجمل الحياة, وتلطف الجفاف القاسي بحيث يصير للنفس البشرية المكدودة
واحةً تتفيئ ظلالها من هجير الحياة وقسوتها إلا واحداً من نفحات الكلمة التي تفيض بألوان من أشكال الفكر الإنساني التي تصور ألوان الجمال الذي وهبه الله وتعبر عنه في لواحات أدبية يجمعها اسم الشعر وبحره في الجزر وفي المد, ونبل المقصد, وهدف الإنشاد الذي يحاكي الطبيعة ويصفها, ويوقظ المشاعر ويحركها, ويؤنس الأطيار في أوكارها ويطربها, وينهض بالأفكار وينعشها, وينبه الضمائر ويشوقها, إلى عطاء بارئها, والعمل على ما يوصلها إلى كل ما فيه نفعها وسعادتها, فلا عليك إن استمعت إلى قوافيه وبحوره, ورددت بعض القصائد في سفرك وإقامتك.
وهذا الرسول العظيم والنبي الكريم وختام الأنبياء والمرسلين محمد عليه وعلى آله وأصحابه أفضل الصلاة والتسليم, الذي هديه دين مستقيم, كان يستمع إلى الشعر, ويقره ولا ينكره, إلا ما خرج عن الصواب.
وقد قال رجل لمحمد بن سيرين: ما تقول في الغَزل الرقيق يُنشده الإنسان في المسجد، فسَكت عنه حتى أُقيمت الصلاة وتقدَم إلى المحراب فالتفت إليه، فقال:
وتبرد بَرد رداء العرو ... س في الصَّيف رَقرقتَ فيه العَبيرا
وَتسخن ليلةَ لا يَسْتطيع ... نُباحاً بها الكلبُ إلا هَريرا
ثم قال: الله أكبر.
وقال العجاّج: دخلتُ المدينة فقصدتُ إلى مسجد النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإذا بأبي هُريرة قد أكب الناس عليه يسألونه، فقلت: أفرجوا لي عن وجهه, فأفرج لي عنه, فقلت له: إني إنما أقول:
طاف الخَيالان فهاجَا سَقَما ... خيالُ أروى وخيِال تَكْتُما
تُريك وجهاً ضاحكاً ومِعْصما ... وساعداً عَبْلاً وكَعْباً أَدْرما
فما تقوله فيه؟ قال: قد كان رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يُنشَد مثلَ هذا في المسجد فلا ينكره.
ودخل كعب بن زهير على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قبل صلاة الصبح فمثل بين يديه، وأنشد:
بانت سعاد فقَلبي اليوم مَتْبولُ ... مُتَيم إثْرها لم يُفْد مَكْبُولُ
وما سُعاد غدَاة البَين إذ رَحلوا ... إلا أغنُّ غَضيض الطرف مَكحول
هَيفاء مَقْبلة عَجْزاء مدْبرة ... لا يشتكي قِصَر منها ولا طُول
ما إن تَدوم على حال تكون بها ... كما تلوّن في أثوابها الغُول
ولا تَمسّك بالوعد الذي وَعدت ... إلا كما يُمسك الماءَ الغَرابيل
كانت مواعيد عُرقوب لها مثلاً ... وما مواعيدُها إلا الأباطيل
ولا يَغُرَّنك ما منت وما وَعدت ... إنّ الأمانيّ والأحلام تَضْليل
ثم خرج من هذا إلى مَدح النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم, فكساه بُرداً، اشتراه منه معاويةُ بعشرين ألفاً. (1)
وإن من أنفع القربات مراعاة ظروف الأطفال في الحضر والسفر, وإدخال السرور عليهم والاهتمام بهم, فالسفر ليس بكوابيس مرعبة تنسي الإنسان طفله الصغير, وإن من حسن سياسة الأمم في تربية أطفالها أن ترقص أطفالها
__________
(1) - انظر: العقد الفريد تأليف احمد بن محمد بن عبدربه الأندلسي ج5ص (252-254) , الناشر دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان.
بما يلائم فطرتهم التي فطرهم الله عليها ويفيد بناءهم الجسمي, فالطفل اليوم صغيراً, وغداً سيصبح عضواً صالحاً في مجتمعه, والكلام المنغم بالأوزان المطربة في الشعر من خير ما يساعد في بناء هذا الطفل, إذ يربي فيه الإحساس القوي والذوق المرهف, فينشأ مستعداً للمشاركة الوجدانية مع أفراد مجتمعه ومع كل ما يتردد صداه في نفسه من أفراح الناس وآلامهم, فيستجيب لرعاة الخير والفضيلة ومكارم الأخلاق, ومما نعتز به في مجال إدراك العرب لقيمة بناء الطفل بناءً سليماً ما هو مأثور عنهم في سفرهم وإقامتهم ومحاورتهم من أشعار كانوا يتغنون بها وهم يرقصون أطفالهم فللصغار حقوق على الكبار.
ولقد كان للأدب العربي قصب السبق على آداب العالم في الإهتمام بالطفولة المبكرة بل لقد كان للأدب الإسلامي فضيلة السبق في ذلك كله, وهذا نبي الإنسانية كلها النبي العربي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان يرقص الحسن والحسين رضوان الله عليهما ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقول:
(حُزَّقَة حُزَّقة ... تَرَقَّ عين بَقَّة)
فيترقي الغلام حتى يضع قدميه على ظهره صلى الله عليه وعلى آله وسلم) . والحُزَّقة: هو الصغير الضعيف، وقيل القصير العظيم البطن، فذكرها له على سبيل المداعبة والتأنيس.
والمعنى أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كان يلاعب الحسن بيديه الشريفتين ويرفعه على صدره ويقول له الذي معناه: (اصعد يا صغير على صدري اصعد يا صغير العين مثل البقة) .
وهذا الحديث قد أورده المناوي في فيض القدير وقال: أخرجه الطبراني وأبو نعيم وغيرهما، ومن طريقهم أورده ابن عساكر مصرحاً، قال الهيثمي وأبو مزود: لم أجد من وثقه وبقية رجاله رجال الصحيح، ونص الحديث عن أبي هريرة قال: سمعت أذناي هاتان وأبصرت عيناي هاتان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو آخذ بكفيه جميعاً حسناً أو حسيناً وقدماه على قدمي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يقول:
(حُزَّقَة حُزَّقة ... تَرَقَّ عين بَقَّة)
فيرقى الغلام فيضع قدميه على صدر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم قال: (افتح فاك) ثم قبله، ثم قال: (اللهم أحبه فإني أحبه) . (1)
ولكنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان في ذات الوقت ينهى عن الألفاظ غير اللائقة عند ممازحة الطفل ومداعبته، فقد مر عليه الصلاة والسلام بامرأة سوداء وهي ترقص صبياً وتقول:
ذؤال يا ابن القرم يا ذؤالة ... هش الثطا ويجلس الهبنقعة
__________
(1) - انظر: حقوق الإنسان في الهدي النبوي (مؤلفنا) , ص303, وفيض القدير للمناوي, ج1ص381 , الطبعة الأولى المكتبة التجارية الكبرى, ومجمع الزوائد ج9ص183 بلفظ مختلف, وكنز العمال حديث (37643و37698) , وتهذيب تأريخ دمشق لابن عساكر ج4ص202.
فقال لها: (لا تقولي: ذؤال، فإنه شر السباع) (1) , والمعنى أن تلك المرأة كانت تقول لصبيها: يا ذئب يا ابن سيد القوم مشيتك حمقاء وجلستك حمقاء.
وبهذه الملاطفة النبوية يتعلم المربون كيف يبعدون الأبناء عن سماع فحش القول وذميمه, وكيف يلاطفون أطفالهم في سفرهم وإقامتهم.
وهذا ابن سعد في الطبقات الكبرى يروي لنا أنه: بعد ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذه عبد المطلب -جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمتكفل به- بعد وفاة والده عبد الله وحمله إلى البيت وأخذ يطوف به وأحاطه به بنوه وهو يقول:
الحمد لله الذي أعطاني ... هذا الغلام الطيب الأردانِ
قد ساد في المهد على الغلمانِ ... أعيذه بالبيت ذي الأركانِ
حتى أراه بالغ البنيانِ ... أعيذه من شر ذي شنأنِ
من حاسد مضطرب العنانِ (2)
وهذه حليمة السعدية كانت ترقص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقول:
يا رب إذ أُعطيته فأبقهِ ... وأعله إلى العلا ورقهِ
وادحض أباطيل العدا بحقه (3)
__________
(1) - النهاية في غريب الحديث، والأثر لابن الأثير.
(2) - الطبقات الكبرى لابن سعد ج1ص64.
(3) - انظر: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر ج4ص52, وانظر أيضا: ترجمة حليمة السعدية في الإصابة وأنساب الأشراف وذخائر العقبى من مناقب ذوي القربى الطبعة الأولى ص259.
وروي أيضاً أن الشيماء بنت الحارث أخت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الرضاعة وكانت أكبر منه سناً كانت ترقصه فتقول:
هذا أخ لي لم تلده أمي ... وليس من نسل أبي وعمي
فأنمه اللهم فيما تنمي
فقالت حليمة رضوان عليها لابنتها شيماء: في هذا الحر, فقالت أخته: يا أمه ما وجد أخي حراً رأيت غمامة تظلل عليه إذا وقف وقفت وإذا سار سارت حتى انتهى إلى هذا الموضع. (1)
ولو ذهبنا نتتبع ما ورد في أخبار الصحابة والتابعين لوجدنا الكثير الكثير, فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه ومعه الإمام علي كرم الله وجهه يمشي إلى جانبه وذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما رأى الحسن رضي الله عنهما يلعب مع الأطفال فاحتمله الصديق رضي الله عنه على رقبته وهو يقول:
وإن بأبي شبه النبي ... غير شبيهٍ بعلي
وقد كانت فاطمة الزهراء رضوان الله عنها ترقص ابنها الحسين بن علي رضي الله عنهما وتقول:
إن بني شبه النبي ... ليس شبيه بعلي
وهذه النماذج اليسيرة تدل على اهتمام الصحابة بالأدب الإسلامي بالطفل في السفر والإقامة.
__________
(1) - السيرة الحلبية لعلي برهان الدين الحلبي ج1ص136.
السفر يطيب الخواطر, ويجدد الأفكار, ويخرج الإنسان من سجن اليأس والإحباط إلى شمس الأمل والسرور, فجولة في أرض وارفة الظلال تتمايل على جنباتها أزهار بهية متنوعة قد تصفي ذهنك وتغير مجرى تفكيرك, وفي الأمثال السائرة: "الحركة ولود والسكون عاقر", وفي أمثال العامة: "الحركة بركة", وقد جاء في الذكر الحكيم: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (1) , وروي أن الخليفة العباسي المأمون كان يقول: "لا شيء ألذ من السفر فيه كفاية وعافية لأنك تحل كل يوم في محلة لم تحل فيها وتعاشر قوماً لم تعرفهم", قال الشاعر:
ما في المَقامِ لِذي عَقلٍ وَذي أَدَبِ ... مِن راحَةٍ فَدَعِ الأَوطانَ وَاِغتَرِبِ
سافِر تَجِد عِوَضاً عَمَّن تُفارِقُهُ ... وَاِنصَب فَإِنَّ لَذيذَ العَيشِ في النَصَبِ
إِنّي رَأَيتُ وُقوفَ الماءِ يُفسِدُهُ ... إِن ساحَ طابَ وَإِن لَم يَجرِ لَم يَطِبِ
وَالأُسدُ لَولا فِراقُ الأَرضِ مااِفتَرَسَت ... وَالسَهمُ لَولا فِراقُ القَوسِ لَم يُصِبِ
وَالشَمسُ لَو وَقَفَت في الفُلكِ دائِمَةً ... لَمَلَّها الناسُ مِن عُجمٍ وَمِن عَرَبِ
وَالتِبرُ كَالتُربِ مُلقىً في أَماكِنِهِ ... وَالعودُ في أَرضِهِ نَوعٌ مِنَ الحَطَبِ
فَإِن تَغَرَّبَ هَذا عَزَّ مَطلَبُهُ ... وَإِن تَغَرَّبَ ذاكَ عَزَّ كَالذَهَبِ (2)
__________
(1) - سورة الرعد الآية (4) .
(2) - ديوان الإمام الشافعي ص24.
وفي الحديث النبوي: (لو يعلم الناس ما للمسافر لأصبحوا على ظهر سفر إن الله عز وجل ينظر إلى الغريب كل يوم ألف مرة) (1) .
وفي الأمثال السائرة: "الإغراب يعيد الجَدّة ويفيد الحِدّة", وقيل: "الغريب من لم يكن له حبيب", وقيل: "كل غريب للغريب نسيب".
قال الشاعر:
أعاذل حبي للغريب سجية ... وكل غريب للغريب حبيب
وقال آخر:
أجارتنا إنَّا غريبان هاهنا ... وكل غريب للغريب نسيبُ
وفي الحديث النبوي: (سَافِرُوا تَصِحُّوا وَتُرْزَقُوا) (2) , فدل على ما فيه سبب الغنى.
حقيقة السفر
السفر: هو قطع المسافة اسم مصدر سافر إذا خرج للارتحال أو لقصد مسافة فوق مسافة العدو, وفي المصباح: وسمي سفراً لأنه يسفر عن أخلاق الرجال لأن العرب لا يسمون مسافة العدو سفراً وقال بعض المصنفين: أقل السفر يوماً كأنه أخذ من قوله تعالى: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} (3) , فإن في التفسير كان أصل أسفارهم يوماً يقبلون في موضع ويبيتون في موضع ولا
__________
(1) - انظر: الفردوس بمأثور الخطاب ج3ص348 حديث (5050) , والمقاصد الحسنة للسخاوي ج1ص549 حديث (895) , وتنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة ج2ص222 حديث (30) , كشف الخفاء ج2ص158 حديث (2104) , وإرواء الغليل ج5ص384 حديث (225/1) .
(2) - أخرجه البيهقي في السنن الكبرى حديث (95) .
(3) - سورة سبأ الآية (19) .
يتزودون. (1) وفي الذكر الحكيم: {وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (2) , وقال جل شأنه: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} (3) , وقال: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (4) , وقال عظمت حكمته: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} (5) .
ويرحم الله شوقي حيث يقول:
وَجَدتُ الحَياةَ طَريقَ الزُمَر ... إِلى بَعثَةٍ وَشُؤونٍ أُخَر
وَما باطِلاً يَنزِلُ النازِلون ... وَلا عَبَثاً يُزمِعونَ السَفَر
فَلا تَحتَقِر عالَماً أَنتَ فيهِ ... وَلا تَجحَدِ الآخَرَ المُنتَظَر
وَخُذ لَكَ زادَينِ مِن سيرَةٍ ... وَمِن عَمَلٍ صالِحٍ يُدَّخَر
وَكُن في الطَريقِ عَفيفَ الخُطا ... شَريفَ السَماعِ كَريمَ النَظَر
وَلا تَخلُ مِن عَمَلٍ فَوقَهُ ... تَعِش غَيرَ عَبدٍ وَلا مُحتَقَر
وَكُن رَجُلاً إِن أَتَوا بَعدَهُ ... يَقولونَ مَرَّ وَهَذا الأَثَر
__________
(1) - المصباح المنير ص168.
(2) - سورة هود الآية (41) .
(3) - سورة الزخرف الآيتان (12و13) .
(4) - سورة القصص الآية (85) .
(5) - سورة قريش.
السفر فيه قضاء الحوائج
السفر فيه قضاء الحوائج والحصول على الرغائب وصلة الأرحام والتفكر فيما خلق الله من النبات والأنعام, والاستمتاع بنعم الله الجليل المنان, والاستفادة من الراحة في غير سذاجة ولا غاغة, والاتعاظ والاعتبار بسنن الله القوي الجبار, قال تعالى: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} (1) , وقال جل شأنه: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2) , وقال تعالى: {فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} (3) .
آيات تدعوك إلى التنقل والتدبر وإلى الأسفار والسياحة والتفكر, لتكون كالماء السائح الطاهر لا كالماء الساكن الفاسد, قال شاعر:
تغرب فالتغرب فيه نفعٌ ... وشرق إن بريقك قد شرقنا (4)
إن تفريغ الرئتين مما علق بهما من غبار الزحام وغبار المركبات وتلوث الهواء لا يمكن إلا بفسحة أو نزهة في طبيعة ذات نسيم عذب, وهدرة ماءٍ رقراق, وحلة ندية خضراء, بعيدٌ عن السفه والمجون, قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ
__________
(1) - سورة يونس الآية (101) .
(2) - سورة العنكبوت الآية (20) .
(3) - سورة التوبة الآية (2) .
(4) - عيون الأمل ص80.
النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1) .
التغيير بالسفر يكسر (الروتين) وينقي الفكر
كل منا يحتاج إلى التغيير والتنويع حتى يعيش حياته مفعماً بالآمال, طامحاًً إلى النجاح فيها والانتصار لا يريد أن يعيشها على نسق واحد مملوءة بالضجر والملل, يذهب إلى عمله في وقت محدد وتمضي ساعات العمل على وتيرة واحدة في كل يوم ثم يعود في وقت محدد وهكذا دواليك يكرر كل يوم ما فعل في الأمس حتى يمل عمله أو يكون عاطلاً فتقتله البطالة والفراغ ولا يستغل فراغه فيما يطور به إنتاجه ويجدد به حياته, أو يتنقل ليتعلّم مما يراه كيف يكون إنساناً مبدعاً يعتمد على الرحمن ويبتعد عن الأوهام, وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ) (2) .
إن العمر الذي يسير على نسق واحد هو عمر ميت لا طائل منه يعيش, صاحبه مسجوناً في (روتينه) في زمانه ومكانه, فإما أن يقل إنتاجه أو يمل عمله ويشعر أخيراً بأنه معطل العقل والروح فهو كآلة يؤدي عمله من غير إحساس أو شعور دون أن يسعى إلى التجديد والتنويع بين الحين والحين فينظر في هذا الكون الرحيب ليزيل ما اعترى نفسه من أزمات وآهات
__________
(1) - سورة الأنعام الآية (99) .
(2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب لا عيش إلا عيش الآخرة حديث (5933) .
تكبت طاقته وتقتل مواهبه, فمن حبس عقله في نمط واحد من التفكير أصابته البلاهة وانقبض قلبه فقتل حينئذٍ نبضاته أو تتبلد مشاعره وتكثر آهاته فيغفل عن حياته الدينية والدنيوية.
وفي الحديث النبوي الشريف الذي رواه مسلم: (وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً) (1) , وفي رواية: (روحوا القلوب ساعةً فساعة) (2) .
فالحياة جميلة بتنوعها مملة (بروتينها) لا تستبين معانيها إلا بوجود الأضداد وباختلاف الأزمنة والأمكنة, قال الشاعر:
تجمعن من شتى ثلاث وأربع ... وواحدة حتى كملن ثمانيا
سليمى وسلمى والرباب وأختها ... وسعدى ولبنى والمنى وقطانيا
فالسعادة التي ينشدها كل إنسان متوقفة على ما يدخل عقله من أفكار, فإذا استقبل ما صح وجمل من الأفكار واستبعد ما غلظ وقبح منها نال السعادة وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (3) .
فسبحان من غاير بين المخلوقات لتتجدد حياة الإنسان في مختلف الأوقات فقال سبحانه: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} (4) , ... وقال جل شأنه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ
__________
(1) - أخرجه مسلم في صحيحه باب فضل دوام الذكر حديث (4937) .
(2) - أخرجه الديلمي في المسند حديث (3181) .
(3) - سورة الرعد الآية (11) .
(4) - سورة الزمر الآية (5) .
يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1) .
فسلامة التفكير تجلب السعادة والسلامة, فأنت الذي تلون حياتك بمنظارك الخاص, فإذا استجلبت فكراً خبيثاً أسود لا بد أن يشقيك, وإذا استجلبت فكراً صالحاً نيراً فسيحولك إلى إنسان سعيد وديع, وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ, قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ قَالَ: لا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ, فَقَالَ لَهُ: لا بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ, قَالَ: قُلْتُ: طَهُورٌ كَلاَّ بَلْ هِيَ حُمَّى تَفُورُ أَوْ تَثُورُ عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ تُزِيرُهُ الْقُبُورَ, فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: فَنَعَمْ إِذًا) (2) أي فلتكن إذاً كما وصفتها طالما يلفك اليأس ويغذي فكرك السخط والتذمر, إنها حقيقة يؤكدها علماء النفس والتربية فهم يتفقون على أن معظم الأمراض النفسية الناجمة عن ضغوط الحياة وأحداثها إنما هي في الأصل ناتجة لأنماط خطأ في التفكير (3) , وإن الفكر السليم يأتي في النظر والتفكر في خلق السماوات والأرض وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ فِي خَلْقِ
__________
(1) - سورة القصص الآيات (71-73) .
(2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب علامة النبوة في الإسلام حديث (3347) .
(3) - عيون الأمل ص76.
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (1) .
علاج (الروتين) الممل
لقد عالج الإسلام هذه الظاهرة التي تجتاح العالم فدعى إلى التنويع والتجديد فغاير سبحانه وتعالى بين الزمان والمكان وجعل الأيام دولاً بين بني الإنسان, قال تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (2) .
وغاير بين العبادات والطاعات فقال جل شأنه: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (3) , وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (4) , وقال جل شأنه: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (5) .
وغاير بين الألوان فقال جلت حكمته: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} (6) .
__________
(1) - سورة البقرة الآية (164) .
(2) - سورة آل عمران الآية (140) .
(3) - سورة البقرة الآية (3) .
(4) - سورة البقرة الآية (183) .
(5) - سورة آل عمران الآية (97) .
وغاير بين الزروع والثمار فقال سبحانه: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (1) .
وغاير في الحركات عند الذِكر بحسب الأحوال فقال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (2) .
إذا عرفت هذا عرفت أن النفس الإنسانية بعد كل شوط تقطعه في حياتها تحتاج إلى أن يتعهدها صاحبها بالتجديد والتنويع بين الحين والحين, وما الذي يمنعه أن يتنقل في هذه الأرض ويتذكر نعم الله عليه وهو الذي وهبه الحياة وخلق له ما في الأرض جميعاً قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) .
فكل ما تراه من جمال أودعه الله تعالى هذه الأرض وهذا الكون هو لبني الإنسان فتمتع بالحلال وإياك أن تقع في الآثام وإلا فما قيمة الحدائق البهيجة والأنهار النميرة إن لم تستمتع بها العيون, وتقرأ في صفحاتها كلام الحي القيوم, من غير ملل أو كلل, ما قيمتها إن لم تبتسم لها الشفاة وتردد بلابلها أنشودة الخطا والمسير.
__________
(1) - سورة الرعد الآية (4) .
(2) - سورة آل عمران الآية (191) .
(3) - سورة البقرة الآية (29) .
فعش حياتك آملاً مستبشراً وتجشم صعود الجبال, فالموت على ظهر جبل وأنت تعاني الصعود خير من الحياة الخسيسة على حافة مستنقع نتن, واستمع إلى هذا الشاعر وهو يقول:
إِذا مَا طَمحْتُ إلى غايةٍ ... رَكِبتُ المنى ونَسيتُ الحَذرْ
ومن لا يحبُّ صُعودَ الجبالِ ... يَعِشْ أبَدَ الدَّهرِ بَيْنَ الحُفَرْ
تأكد من قدرتك الصحية على السفر
بعد ظهور وسائل المواصلات الحديثة كالطائرات والقطار والباخرة والسيارة أصبح غالب الناس إن لم يكن الكل بمقدورهم السفر لمسافات بعيدة سواءً كان شاباً أو شيخاً أو امرأة, ومن هنا نشأ طب السفر, وصار من الضرورة أن يتعرف الإنسان على الحالة الصحية لديه وعلى اللقاحات اللازمة أو الأدوية التي يعتمد عليها, فقياس عامل الخطر الصحي يستلزم استشارة الطبيب قبل السفر بوقت كاف لأخذ اللقاحات فهناك بلدان ينتشر فيها الملاريا أو التيفود أو حمى الضنك, وهذه البلدان عند ضرورة السفر إليها لا بد من أخذ اللقاحات التي ينتشر فيها هذه الأمراض وأخذ ارشادات الطبيب الذي ربما أعطى المسافر أدوية وقائية وقد ينصح بالوقاية من لسعات البعوض أو غير ذلك, فالأمر بالتداوي والاحتماء من من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ففي الحديث: (تداووا فإن الله لم ينزل داء إلاّ أنزل له شفاء، علِمَه من علِمَه وجهِلَه من جهِلَه) (1) .
__________
(1) - أخرجه أحمد في المسند، عن أسامة بن شريك، حديث (18111) .
ويفضل عدم السفر إلى البلدان التي تنتشر فيها الأوبئة المعدية فقد جاء في الحديث النبوي: (إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ فِيهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا) (1) ، وفي رواية للبخاري أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (لا توردوا الممرض على المصح) (2) , وذلك من أجل الاحتماء وعدم وقوع الضرر, فتأكد من أخذ جميع اللقاحات الروتينية مثل التيتانوس (الكزاز) حتى لا تتعرض بالاصابة بالمرض عند التعرض لجرح بسيط ملوث بالتيتانوس, وكذلك التطعيم ضد التهاب الكبد الوبائي, وتأكد من ضبط الجرعة الدوائية إن كنت مصاب بضغط الدم أو السكر أو غير ذلك, لتكن في سفرك وإقامتك سعيداً تؤدي واجبك وتستمتع بحياتك بهمة عالية بعيداً عن الهموم.
آداب السفر
إذا أردت أن تسافر فعليك بإعداد النفقة والزاد للسفر من الحلال الطيب, فقد أثر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "من كرم الرجل طيب زاده في سفره", وفي الذكر الحكيم: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (3) , وقد ذكر بعض المفسرين بأنها نزلت في حق قوم كانوا يحجون ولا يتزودون, وفي سورة آل عمران: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
__________
(1) - أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجنائز، باب الخروج من الطاعون، حديث (3103) .
(2) - صحيح البخاري، كتاب الطب، باب لا عدوى، حديث (5774) .
(3) - سورة البقرة الآية (197) .
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (1) , ذكر المفسرون أن الاستطاعة هي الزاد والراحلة.
ومن آداب السفر اخراج نفقة من تلزمك نفقته كالزوجة والولد حتى لا يكونوا عالة على غيرك ففي الحديث النبوي: (كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ) (2) .
ومن أدب السفر أن يودع المسافر أهله واخوانه وأصدقاءه وأن يشملهم بدعائه: (أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ) (3) , وعند ذلك يرد المودعون على المسافر بما ورد في الحديث: (زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى, وَغَفَرَ ذَنْبَكَ, وَيَسَّرَ لَكَ الْخَيْرَ حَيْثُمَا كُنْتَ) (4) .
وإن سأل المسافر من يودعه الدعاء كان خيراً له, ولقد كان من عادة العرب توديع أحبتهم وأصدقائهم ورد ذلك في أشعارهم وأخبارهم, قال ابن زريق:
اِستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً ... بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ
وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي ... صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ
وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً ... وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ
ويغفر الله للقائل:
__________
(1) - الآية (97) .
(2) - أخرجه أبو داود في سننه باب في صلة الرحم حديث (1442) .
(3) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما يقول إذا ودع إنسانا حديث (3365) .
(4) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما يقول إذا ودع إنسانا حديث (3366) .
لِلَّهوِ آوِنَةٌ تَمُرُّ كَأَنَّها ... قُبَلٌ يُزَوَّدُها حَبيبٌ راحِلُ
جَمَحَ الزَمانُ فَما لَذيذٌ خالِصٌ ... مِمّا يَشوبُ وَلا سُرورٌ كامِلُ
أما أبو العلاء المعري فهو يقول:
كم بَلْدَةٍ فارَقْتُها ومَعاشِرٍ ... يُذْرُونَ من أسَفٍ علَيّ دُمُوعا
وإذا أضاعَتْني الخُطوبُ فلنْ أرى ... لِوِدادِ إِخْوانِ الصَّفاءِ مُضِيعا
خالَلْتُ تَوْديعَ الأصادِقِ للنّوى ... فمتى أُوَدّعُ خِلّيَ التّوْديعا
وله أيضاً:
أُوَدِّعُ يَومي عالَماً إِنَّ مِثلَهُ ... إِذا مَرَّ عَن مِثلي فَلَيسَ يَعودُ
ومن آداب السفر اختيار الرفقة الصالحة وتأمير أحدهم, ليتولى قيادتهم بمشورتهم, ففي الحديث النبوي: (إِذَا كَانَ ثَلاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ) (1) .
وفي الأمثال السائرة: "الرفيق قبل الطريق".
قال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: (لا تصحب في سفرك من لا يرى لك من الفضل عليه كما ترى له عليك) .
وقد جاء في الرحيق المختوم أن محمد النبي المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم: كان أوفي الناس بالعهود، وأوصلهم للرحم، وأعظمهم شفقة ورأفة ورحمة بالناس، أحسن الناس عشرة وأدباً، وأبسط الناس خلقاً، أبعد الناس من سوء الأخلاق، لم يكن فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا لعاناً، ولا صخابا في
__________
(1) - أخرجه أبو داود في سننه باب في القوم يسافرون يؤمرون أحدهم حديث (2242) .
الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، وكان لا يدع أحدا يمشي خلفه، وكان لا يترفع على عبيده وإمائه في مأكل ولا ملبس، ويخدم من خَدَمَه، ولم يقل لخادمه أف قط، ولم يعاتبه على فعل شيء أو تركه، وكان يحب المساكين ويجالسهم، ويشهد جنائزهم، ولا يحقر فقيراً لفقره, كان في بعض أسفارة فأمر بإصلاح شاة، فقال رجلٌ: علي ذبحها، وقال آخر: علي سلخها، وقال آخر علي طبخها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (وعلي جمع الحطب) ، فقالوا: نحن نكفيك, فقال: (قد علمت أنكم تكفوني ولكني أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه) , وقام وجمع الحطب. (1) قال الشاعر:
وَما المَرء إِلا بِإخوانِهِ ... كَما يَقبض الكَفُّ بِالمعصمِ
وَلا خَير في الكَفِّ مَقطوعَةً ... وَلا خَير في الساعد الأَجزمِ
ومن آداب السفر الاستخارة قبل العزم ففي الحديث: (من سعادة ابن آدم رضاه بما يقضى الله واستخارة الله ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما يقضى الله وتركه استخارة الله ومن سعادة ابن آدم ثلاث ومن شقوته ثلاث فمن السعادة المرأة الصالحة والمركب الصالح والمسكن الصالح ومن شقوته المرأة السوء والمركب السوء والمسكن السوء) (2) , ويا حبذا الاستشارة ففي الحديث: (ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار) (3) .
__________
(1) - الرحيق المختوم لصفي الرحمن المباركفوري, ج1ص478.
(2) - انظر جمع الجوامع والجامع الكبير للسيوطي ج1ص21803.
(3) - المعجم الصغير تأليف العلامة المحدث سليمان بن احمد بن أيوب, أبو القاسم الطبري, ج2ص175 حديث (980) , الناشر: المكتب الاسلامي بيروت الطبعة الأولى 1405هـ1985م. ومسند الشهاب محمد بن سلامة بن جعفر أبو عبد الله القضاعي ج2ص7 حديث (774) , تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفي, الناشر: مؤسسة الرسالة, الطبعة الثانية 1407هـ1986.
ومن الخير الصلاة قبل الخروج من المنزل, ثم الدعاء بعد الصلاة بقوله: "اللهم إنى أتقرب بهن إليك فاجعلهن خليفتي في أهلي ومالي", ففي كنز العمال: (ما استخلف العبد في أهله من خليفة إذا هو شد عليه ثياب سفره خيراً من أربع ركعات يضعهن في بيته يقرأ في كل واحدة منهن بفاتحة الكتاب و {قل هو الله أحد} , ثم يقول: اللهم إني أتقرب بهن إليك فاجعلهن خليفتي في أهلي ومالي) (1) .
ويستحب للمسافر حين عوده من السفر ووصوله أن يدخل أقرب مسجد ويصلي فيه ركعتين, ففي الحديث النبوي: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ) (2) , وما أجمل محافظة الإنسان على صلاة الفريضة والنفل في الحضر والسفر, وملازمة الذكر والدعاء.
ولعل قائل يقول: ولِمَ المحافظة على الصلاة والدعاء؟ وما الفائدة من ذلك؟
قلنا: لأن الإنسان بحاجة إلى قوة روحية ترفع من نفسيته على وجه الاستمرار إلى مثل عليا, فالإنسان إذا لم تتصل روحه بمبدعها ظهرت فيه مظاهر الوحشة والاكتئاب, وقد يظن أن وحشته واكتئابه حصلا لعدم أخذ الإنسان حظه من الملهيات, فيصاب باليأس والإحباط وربما ألقى نفسه في
__________
(1) - انظر جامع الأحاديث للسيوطي ج18ص405 حديث (19738) , وكنز العمال في سنن الأقوال والأفعال للعلامة علاء الدين علي بن حسام الدين المتقي الهندي البرهان فوري (المتوفى: 975هـ) , تحقيق بكري حياني وصفوة السقا, ج6ص714 حديث (17535) , الناشر مؤسسة الرسالة بيروت, الطبعة الخامسة 1401هـ1981م.
(2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب إذا قدم من سفر.
هاوية, فالإنسان الذي يعتمد على الله لا يعرف اليأس إلى قلبه سبيلاً, فهو يملك من القوة النفسية ما يواجه بها أعظم المشاكل دقةً وخطراً, وبذلك يتبين لك أخي أن اتصال الروح الإنسانية بخالقها ولو لحظات في اليوم هي من الضروريات للإنسان, ولهذا كانت الصلاة أنجع علاج, وأفضل رباط بين الإنسان وربه في سفره وحضره, ولأن الدعاء مخ العبادة وباب يوصل إلى السعادة, فالله معك حاضر لا يغيب وأنت بحاجة إلى عونه وتسديده ورعايته وحفظه, وفي الذكر الحكيم: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) .
وإذا أمكن الخروج يوم الخميس ففي ذلك الاقتداء بهدي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, ففي صحيح البخاري: (لقَلَّمَا كَانَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم يَخْرُجُ إِلاَّ في يَوْمِ الخَمِيسِ) (2) , وعن صخر بن وَداعَةَ الغامِدِيِّ الصحابيِّ رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، قَالَ: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لأُمَّتِي في بُكُورِهَا) وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشَاً بَعَثَهُمْ مِنْ أوَّلِ النَّهَارِ, وَكَانَ صَخْرٌ تَاجِراً، وَكَانَ يَبْعَثُ تِجَارَتَهُ أوَّلَ النَّهَار، فَأَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ. (3)
__________
(1) - سورة المجادلة الآية (7) .
(2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب من أراد غزوة حديث (2730) .
(3) - أخرجه أبو داود في سننه باب في الابتكار في السفر حديث (2239) , والترمذي في سننه باب ما جاء في التبكرة في التجارة حديث (1133) .
ويستحب للمسافر عند الخروج من الدار أن يقول: (بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ, اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ) (1) .
فإذا دخل المسافر السيارة أو القطار أو الطائرة أو الباخرة فإنه يستحب له أن يقول ما كان يقوله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ( {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَمِنْ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالأَهْلِ) , وإذا رجع قالهن وزاد فيهن: (آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ) (2) .
فإن فعلت ذلك فإنك ستكون في خير وعلى خير ويكون سفرك وسياحتك متعة وراحة تقتنص في أسفارك العلم والمعرفة وتحصد الأجر والثواب والتفكر في مخلوقات الله العزيز الوهاب.
__________
(1) - سنن أبو داود باب ما يقول إذا خرج من بيته حديث (4431) وحديث (4432) .
(2) - أخرجه مسلم في صحيحه باب ما يقول إذا ركب إلى سفر حديث (2392) .
هاوية, فالإنسان الذي يعتمد على الله لا يعرف اليأس إلى قلبه سبيلاً, فهو يملك من القوة النفسية ما يواجه بها أعظم المشاكل دقةً وخطراً, وبذلك يتبين لك أخي أن اتصال الروح الإنسانية بخالقها ولو لحظات في اليوم هي من الضروريات للإنسان, ولهذا كانت الصلاة أنجع علاج, وأفضل رباط بين الإنسان وربه في سفره وحضره, ولأن الدعاء مخ العبادة وباب يوصل إلى السعادة, فالله معك حاضر لا يغيب وأنت بحاجة إلى عونه وتسديده ورعايته وحفظه, وفي الذكر الحكيم: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) .
وإذا أمكن الخروج يوم الخميس ففي ذلك الاقتداء بهدي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, ففي صحيح البخاري: (لقَلَّمَا كَانَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم يَخْرُجُ إِلاَّ في يَوْمِ الخَمِيسِ) (2) , وعن صخر بن وَداعَةَ الغامِدِيِّ الصحابيِّ رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، قَالَ: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لأُمَّتِي في بُكُورِهَا) وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشَاً بَعَثَهُمْ مِنْ أوَّلِ النَّهَارِ, وَكَانَ صَخْرٌ تَاجِراً، وَكَانَ يَبْعَثُ تِجَارَتَهُ أوَّلَ النَّهَار، فَأَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ. (3)
__________
(1) - سورة المجادلة الآية (7) .
(2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب من أراد غزوة حديث (2730) .
(3) - أخرجه أبو داود في سننه باب في الابتكار في السفر حديث (2239) , والترمذي في سننه باب ما جاء في التبكرة في التجارة حديث (1133) .
ويستحب للمسافر عند الخروج من الدار أن يقول: (بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ, اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ) (1) .
فإذا دخل المسافر السيارة أو القطار أو الطائرة أو الباخرة فإنه يستحب له أن يقول ما كان يقوله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ( {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَمِنْ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالأَهْلِ) , وإذا رجع قالهن وزاد فيهن: (آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ) (2) .
فإن فعلت ذلك فإنك ستكون في خير وعلى خير ويكون سفرك وسياحتك متعة وراحة تقتنص في أسفارك العلم والمعرفة وتحصد الأجر والثواب والتفكر في مخلوقات الله العزيز الوهاب.
__________
(1) - سنن أبو داود باب ما يقول إذا خرج من بيته حديث (4431) وحديث (4432) .
(2) - أخرجه مسلم في صحيحه باب ما يقول إذا ركب إلى سفر حديث (2392) .
الابتسامة والبهجة في السفر
لن يحصد العابسون وهم يشمخون بأنوفهم على الناس غير بغض الناس وإزدرائهم لهم, فالعبوس والغلظة والفضاضة كلها مترادفات لا تجلب لصاحبها إلا الفرقة والنفور, وفي الذكر الحكيم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (1) , فاضفِ على حياتك في سفرك وإقامتك إبتسامة عريضة واغمر قلبك بالبهجة والفرحة وتأسَّ بخير الخلق الذي قال عنه الصحابي عبد الله بن الحارث: (مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ) (2) .
وحاول أن تنعش قلبك بالأمل والسرور بعيداً عن منغصات الحياة وأكدارها حتى لا تكون ثقيلاً على أهلك ورفاقك في سفرك, ثم لتكون الابتسامة دليلاً على رضا قلبك وهناءته كما تكون حمرة الخد دليلاً على الخجل, قال الشاعر:
كفاك منظره إيضاح مخبره ... في حمرة الخد ما يغني عن الخجل
وقال آخر:
بشاشة وجه المرء خير من القرى ... فكيف بمن يأتى به وهو ضاحك
وقال فضيلة الشيخ/ د. عايض القرني: الضحك المعتدل بلسم للهموم ومرهم للأحزان وله قوة عجيبة في فرح الروح وجذل القلب، حتى قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إني لأضحك حتى يكون إجماماً لقلبي، وكان صلى الله عليه وعلى آله وسلم يضحك أحياناً حتى تبدو نواجذه، وهذا ضحك العقلاء البصراء بداء النفس ودوائها. (3)
__________
(1) - سورة آل عمران الآية (159) .
(2) - أخرجه الترمذي في سننه باب في بشاشة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديث (3574) .
(3) - الدكتور عايض القرني في كتابه: لا تحزن، ص78، الطبعة التاسعة، مكتبة العبيكان، الرياض 1422هـ.
والضحك المعتدل بلا شك دواء للنفس وراحة للخاطر المكدود بعد الجد والعمل، والمقتصد منه دليل على الأريحية وآية على اعتدال المزاج وعلامة على صفاء الطوية، وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع أهله إذا دخل عليهم ضاحكاً باسماً يمازح زوجاته ويلاطفهن ويؤنسهن ويحادثهن حديث الود والحنان والعطف لأنه بعث رحمة للعالمين، وأحق الناس بهذه الرحمة أهله وقرابته وأحبابه وأصحابه، وكانت تعلو محياه الطاهر البسمة المشرقة الموحية، فإذا قابل بها الناس أسر قلوبهم أسراً فمالت نفوسهم بالكلية إليه وتهافتت أرواحهم عليه. (1)
وهذا نبي الله سليمان عليه السلام يتبسم ضاحكاً حين سماعه مقال نملة {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (2) ,
فالابتسامة ترجمة لصدر رحب, وخلق سمح, بها تفتح أقفال القلوب, وبها تشق من الطرق ما لا تقدر عليه السهام والسيوف, غولب بها الإنسان حتى يألف جنسه من بني البشر, فالنفس البشرية تحتاج في بعض الحالات إلى المداراة والملاطفة, وإدخال السرور عليها بما يعدل المزاج, ويشعر بالبهجة
__________
(1) - انظر: العلامة خميس السعيد، في سلسلة مواقف من حياة الرسول، ص13، الطبعة الأولى.
(2) - سورة النمل الآيات (17-19) .
والأنس, ويزيح ما يطرأ عليها من هموم مذمومة, وخواطر موحشة مسمومة, ويميط ما يعلق بها من أدران تحجب عنها إدراك ما أنعم الله به على الإنسان في هذه الحياة من خير وفير وجمال منقطع النظير, أو يمنع عنها إدراك ما تشع به الحياة من جمال الأرض في جبالها وسهولها وهضابها ووديانها وأنهارها وبحارها إلى غير ذلك مما تزخر به الأرض, ويعم به النفع, ويفوح منه شذى الورود والرياحين الطيبة التي تتمايس بها الغصون والأشجار وتشرق به الأزهار والورود, ويفوح بها عبق المسك والعود والعنبر والكافور, مما تلتذ به النفس, ويتمتع به النظر, وتزهو بها أثواب الجمال التي يدثر بها الإنسان والنبات والأنعام في أشكال تسحر الألباب, وتدل على عظمة الله الخالق الوهاب.
فأخذ النفس البشرية بالشدة وإدخال الهم والحزن والقنوط عليها غير مرغوب ولا محبوب, بخلاف الترويح عليها بما يفرح القلب, ويوصلها بالسلوى والسرور, فإنه محمود غير مذموم, ومألوف غير مبغوض, ومرغب فيه غير منفر عنه, لأنه يزيل عن النفس التشاؤم, ويستأصل شأفة الإكتئاب والإبتعاد, ويبعث في النفس النشاط, وذلك كله مما يدحض اليأس والقنوط, ويزيل الخمول والجمود, ويحث على العمل, وأنت بحاجة في سفرك وإقامتك إلى ما يروح عليك وعلى زملائك وأهلك واخوانك.
وليس الشعر الذي يصف جمال الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم, ويصف جمال الطبيعة التي وهبها الله, مما يسمو بالنفس إلى آفاق تجمل الحياة, وتلطف الجفاف القاسي بحيث يصير للنفس البشرية المكدودة
واحةً تتفيئ ظلالها من هجير الحياة وقسوتها إلا واحداً من نفحات الكلمة التي تفيض بألوان من أشكال الفكر الإنساني التي تصور ألوان الجمال الذي وهبه الله وتعبر عنه في لواحات أدبية يجمعها اسم الشعر وبحره في الجزر وفي المد, ونبل المقصد, وهدف الإنشاد الذي يحاكي الطبيعة ويصفها, ويوقظ المشاعر ويحركها, ويؤنس الأطيار في أوكارها ويطربها, وينهض بالأفكار وينعشها, وينبه الضمائر ويشوقها, إلى عطاء بارئها, والعمل على ما يوصلها إلى كل ما فيه نفعها وسعادتها, فلا عليك إن استمعت إلى قوافيه وبحوره, ورددت بعض القصائد في سفرك وإقامتك.
وهذا الرسول العظيم والنبي الكريم وختام الأنبياء والمرسلين محمد عليه وعلى آله وأصحابه أفضل الصلاة والتسليم, الذي هديه دين مستقيم, كان يستمع إلى الشعر, ويقره ولا ينكره, إلا ما خرج عن الصواب.
وقد قال رجل لمحمد بن سيرين: ما تقول في الغَزل الرقيق يُنشده الإنسان في المسجد، فسَكت عنه حتى أُقيمت الصلاة وتقدَم إلى المحراب فالتفت إليه، فقال:
وتبرد بَرد رداء العرو ... س في الصَّيف رَقرقتَ فيه العَبيرا
وَتسخن ليلةَ لا يَسْتطيع ... نُباحاً بها الكلبُ إلا هَريرا
ثم قال: الله أكبر.
وقال العجاّج: دخلتُ المدينة فقصدتُ إلى مسجد النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإذا بأبي هُريرة قد أكب الناس عليه يسألونه، فقلت: أفرجوا لي عن وجهه, فأفرج لي عنه, فقلت له: إني إنما أقول:
طاف الخَيالان فهاجَا سَقَما ... خيالُ أروى وخيِال تَكْتُما
تُريك وجهاً ضاحكاً ومِعْصما ... وساعداً عَبْلاً وكَعْباً أَدْرما
فما تقوله فيه؟ قال: قد كان رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يُنشَد مثلَ هذا في المسجد فلا ينكره.
ودخل كعب بن زهير على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قبل صلاة الصبح فمثل بين يديه، وأنشد:
بانت سعاد فقَلبي اليوم مَتْبولُ ... مُتَيم إثْرها لم يُفْد مَكْبُولُ
وما سُعاد غدَاة البَين إذ رَحلوا ... إلا أغنُّ غَضيض الطرف مَكحول
هَيفاء مَقْبلة عَجْزاء مدْبرة ... لا يشتكي قِصَر منها ولا طُول
ما إن تَدوم على حال تكون بها ... كما تلوّن في أثوابها الغُول
ولا تَمسّك بالوعد الذي وَعدت ... إلا كما يُمسك الماءَ الغَرابيل
كانت مواعيد عُرقوب لها مثلاً ... وما مواعيدُها إلا الأباطيل
ولا يَغُرَّنك ما منت وما وَعدت ... إنّ الأمانيّ والأحلام تَضْليل
ثم خرج من هذا إلى مَدح النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم, فكساه بُرداً، اشتراه منه معاويةُ بعشرين ألفاً. (1)
وإن من أنفع القربات مراعاة ظروف الأطفال في الحضر والسفر, وإدخال السرور عليهم والاهتمام بهم, فالسفر ليس بكوابيس مرعبة تنسي الإنسان طفله الصغير, وإن من حسن سياسة الأمم في تربية أطفالها أن ترقص أطفالها
__________
(1) - انظر: العقد الفريد تأليف احمد بن محمد بن عبدربه الأندلسي ج5ص (252-254) , الناشر دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان.
بما يلائم فطرتهم التي فطرهم الله عليها ويفيد بناءهم الجسمي, فالطفل اليوم صغيراً, وغداً سيصبح عضواً صالحاً في مجتمعه, والكلام المنغم بالأوزان المطربة في الشعر من خير ما يساعد في بناء هذا الطفل, إذ يربي فيه الإحساس القوي والذوق المرهف, فينشأ مستعداً للمشاركة الوجدانية مع أفراد مجتمعه ومع كل ما يتردد صداه في نفسه من أفراح الناس وآلامهم, فيستجيب لرعاة الخير والفضيلة ومكارم الأخلاق, ومما نعتز به في مجال إدراك العرب لقيمة بناء الطفل بناءً سليماً ما هو مأثور عنهم في سفرهم وإقامتهم ومحاورتهم من أشعار كانوا يتغنون بها وهم يرقصون أطفالهم فللصغار حقوق على الكبار.
ولقد كان للأدب العربي قصب السبق على آداب العالم في الإهتمام بالطفولة المبكرة بل لقد كان للأدب الإسلامي فضيلة السبق في ذلك كله, وهذا نبي الإنسانية كلها النبي العربي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان يرقص الحسن والحسين رضوان الله عليهما ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقول:
(حُزَّقَة حُزَّقة ... تَرَقَّ عين بَقَّة)
فيترقي الغلام حتى يضع قدميه على ظهره صلى الله عليه وعلى آله وسلم) . والحُزَّقة: هو الصغير الضعيف، وقيل القصير العظيم البطن، فذكرها له على سبيل المداعبة والتأنيس.
والمعنى أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كان يلاعب الحسن بيديه الشريفتين ويرفعه على صدره ويقول له الذي معناه: (اصعد يا صغير على صدري اصعد يا صغير العين مثل البقة) .
وهذا الحديث قد أورده المناوي في فيض القدير وقال: أخرجه الطبراني وأبو نعيم وغيرهما، ومن طريقهم أورده ابن عساكر مصرحاً، قال الهيثمي وأبو مزود: لم أجد من وثقه وبقية رجاله رجال الصحيح، ونص الحديث عن أبي هريرة قال: سمعت أذناي هاتان وأبصرت عيناي هاتان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو آخذ بكفيه جميعاً حسناً أو حسيناً وقدماه على قدمي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يقول:
(حُزَّقَة حُزَّقة ... تَرَقَّ عين بَقَّة)
فيرقى الغلام فيضع قدميه على صدر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم قال: (افتح فاك) ثم قبله، ثم قال: (اللهم أحبه فإني أحبه) . (1)
ولكنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان في ذات الوقت ينهى عن الألفاظ غير اللائقة عند ممازحة الطفل ومداعبته، فقد مر عليه الصلاة والسلام بامرأة سوداء وهي ترقص صبياً وتقول:
ذؤال يا ابن القرم يا ذؤالة ... هش الثطا ويجلس الهبنقعة
__________
(1) - انظر: حقوق الإنسان في الهدي النبوي (مؤلفنا) , ص303, وفيض القدير للمناوي, ج1ص381 , الطبعة الأولى المكتبة التجارية الكبرى, ومجمع الزوائد ج9ص183 بلفظ مختلف, وكنز العمال حديث (37643و37698) , وتهذيب تأريخ دمشق لابن عساكر ج4ص202.
فقال لها: (لا تقولي: ذؤال، فإنه شر السباع) (1) , والمعنى أن تلك المرأة كانت تقول لصبيها: يا ذئب يا ابن سيد القوم مشيتك حمقاء وجلستك حمقاء.
وبهذه الملاطفة النبوية يتعلم المربون كيف يبعدون الأبناء عن سماع فحش القول وذميمه, وكيف يلاطفون أطفالهم في سفرهم وإقامتهم.
وهذا ابن سعد في الطبقات الكبرى يروي لنا أنه: بعد ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذه عبد المطلب -جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمتكفل به- بعد وفاة والده عبد الله وحمله إلى البيت وأخذ يطوف به وأحاطه به بنوه وهو يقول:
الحمد لله الذي أعطاني ... هذا الغلام الطيب الأردانِ
قد ساد في المهد على الغلمانِ ... أعيذه بالبيت ذي الأركانِ
حتى أراه بالغ البنيانِ ... أعيذه من شر ذي شنأنِ
من حاسد مضطرب العنانِ (2)
وهذه حليمة السعدية كانت ترقص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقول:
يا رب إذ أُعطيته فأبقهِ ... وأعله إلى العلا ورقهِ
وادحض أباطيل العدا بحقه (3)
__________
(1) - النهاية في غريب الحديث، والأثر لابن الأثير.
(2) - الطبقات الكبرى لابن سعد ج1ص64.
(3) - انظر: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر ج4ص52, وانظر أيضا: ترجمة حليمة السعدية في الإصابة وأنساب الأشراف وذخائر العقبى من مناقب ذوي القربى الطبعة الأولى ص259.
وروي أيضاً أن الشيماء بنت الحارث أخت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الرضاعة وكانت أكبر منه سناً كانت ترقصه فتقول:
هذا أخ لي لم تلده أمي ... وليس من نسل أبي وعمي
فأنمه اللهم فيما تنمي
فقالت حليمة رضوان عليها لابنتها شيماء: في هذا الحر, فقالت أخته: يا أمه ما وجد أخي حراً رأيت غمامة تظلل عليه إذا وقف وقفت وإذا سار سارت حتى انتهى إلى هذا الموضع. (1)
ولو ذهبنا نتتبع ما ورد في أخبار الصحابة والتابعين لوجدنا الكثير الكثير, فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه ومعه الإمام علي كرم الله وجهه يمشي إلى جانبه وذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما رأى الحسن رضي الله عنهما يلعب مع الأطفال فاحتمله الصديق رضي الله عنه على رقبته وهو يقول:
وإن بأبي شبه النبي ... غير شبيهٍ بعلي
وقد كانت فاطمة الزهراء رضوان الله عنها ترقص ابنها الحسين بن علي رضي الله عنهما وتقول:
إن بني شبه النبي ... ليس شبيه بعلي
وهذه النماذج اليسيرة تدل على اهتمام الصحابة بالأدب الإسلامي بالطفل في السفر والإقامة.
__________
(1) - السيرة الحلبية لعلي برهان الدين الحلبي ج1ص136.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
ثلاث نصائح أسديها إليك فلا تنساها في سفرك وحضرك:
ثلاث نصائح أسديها إليك فلا تنساها في سفرك وحضرك:
الأولى: المحافظة على شكلك ومظهرك ونظافتك واصلاح هندامك, لا تترك ثوبك متسخاً, ولا شعرك ثائراً, ولا سلوكك شائناً, فجمال ظاهرك يدل على جمال باطنك, وفي الحديث: (إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ) (1) ، قال الشافعي:
أَجِدُ الثيابَ إِذا اكتَسَيتُ فَإِنَّها ... زينُ الرِجالِ بِها تَعزُّ وَتَكرُمُ
وَدَعِ التَواضُعَ في الثيابِ تَخَشُّعاً ... فَاللَهُ يَعلَمُ ما تَجِنُّ وَتَكتُمُ
فَرَثاثُ ثَوبِكَ لا يَزيدُكَ زُلفَةً ... عِندَ الإِلَهِ وَأَنتَ عَبدٌ مُجرِمُ
وَبهاءُ ثَوبِكَ لا يَضُرُكَ بَعدَ أَن ... تَخشى الإِلَهَ وَتَتَّقي ما يَحرُمُ
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنكاره على من أتاه يسأله عن خبر السماء وهو لا يحافظ على طهارة بدنه ونقاء أظفاره من الخبث والتفث, أخرج الإمام احمد في المسند من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسأله عن خبر السماء فقال: أتسألني عن خبر السماء وتدع أظفارك كأظفار الطير فيها الخباثة والتفث) (2) , وهذا الحديث دليل على مشروعية النظافة والمحافظة على الصحة, وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنكر على من أتاه يسأل خبر السماء وهو لا يحافظ على طهارة بدنه ونقاء أظفاره من الخبث والتفث -أي الوسخ الذي خلف أصابعه- , وجاء
__________
(1) - أخرجه مسلم في صحيحه باب تحريم الكبر وبيانه حديث (131) .
(2) - أخرجه أحمد في المسند ج5ص417.
الأولى: المحافظة على شكلك ومظهرك ونظافتك واصلاح هندامك, لا تترك ثوبك متسخاً, ولا شعرك ثائراً, ولا سلوكك شائناً, فجمال ظاهرك يدل على جمال باطنك, وفي الحديث: (إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ) (1) ، قال الشافعي:
أَجِدُ الثيابَ إِذا اكتَسَيتُ فَإِنَّها ... زينُ الرِجالِ بِها تَعزُّ وَتَكرُمُ
وَدَعِ التَواضُعَ في الثيابِ تَخَشُّعاً ... فَاللَهُ يَعلَمُ ما تَجِنُّ وَتَكتُمُ
فَرَثاثُ ثَوبِكَ لا يَزيدُكَ زُلفَةً ... عِندَ الإِلَهِ وَأَنتَ عَبدٌ مُجرِمُ
وَبهاءُ ثَوبِكَ لا يَضُرُكَ بَعدَ أَن ... تَخشى الإِلَهَ وَتَتَّقي ما يَحرُمُ
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنكاره على من أتاه يسأله عن خبر السماء وهو لا يحافظ على طهارة بدنه ونقاء أظفاره من الخبث والتفث, أخرج الإمام احمد في المسند من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسأله عن خبر السماء فقال: أتسألني عن خبر السماء وتدع أظفارك كأظفار الطير فيها الخباثة والتفث) (2) , وهذا الحديث دليل على مشروعية النظافة والمحافظة على الصحة, وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنكر على من أتاه يسأل خبر السماء وهو لا يحافظ على طهارة بدنه ونقاء أظفاره من الخبث والتفث -أي الوسخ الذي خلف أصابعه- , وجاء
__________
(1) - أخرجه مسلم في صحيحه باب تحريم الكبر وبيانه حديث (131) .
(2) - أخرجه أحمد في المسند ج5ص417.
الأولى: المحافظة على شكلك ومظهرك ونظافتك واصلاح هندامك, لا تترك ثوبك متسخاً, ولا شعرك ثائراً, ولا سلوكك شائناً, فجمال ظاهرك يدل على جمال باطنك, وفي الحديث: (إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ) (1) ، قال الشافعي:
أَجِدُ الثيابَ إِذا اكتَسَيتُ فَإِنَّها ... زينُ الرِجالِ بِها تَعزُّ وَتَكرُمُ
وَدَعِ التَواضُعَ في الثيابِ تَخَشُّعاً ... فَاللَهُ يَعلَمُ ما تَجِنُّ وَتَكتُمُ
فَرَثاثُ ثَوبِكَ لا يَزيدُكَ زُلفَةً ... عِندَ الإِلَهِ وَأَنتَ عَبدٌ مُجرِمُ
وَبهاءُ ثَوبِكَ لا يَضُرُكَ بَعدَ أَن ... تَخشى الإِلَهَ وَتَتَّقي ما يَحرُمُ
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنكاره على من أتاه يسأله عن خبر السماء وهو لا يحافظ على طهارة بدنه ونقاء أظفاره من الخبث والتفث, أخرج الإمام احمد في المسند من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسأله عن خبر السماء فقال: أتسألني عن خبر السماء وتدع أظفارك كأظفار الطير فيها الخباثة والتفث) (2) , وهذا الحديث دليل على مشروعية النظافة والمحافظة على الصحة, وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنكر على من أتاه يسأل خبر السماء وهو لا يحافظ على طهارة بدنه ونقاء أظفاره من الخبث والتفث -أي الوسخ الذي خلف أصابعه- , وجاء
__________
(1) - أخرجه مسلم في صحيحه باب تحريم الكبر وبيانه حديث (131) .
(2) - أخرجه أحمد في المسند ج5ص417.
في حديث جابر: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى رجلا ثائر الرأس فقال: أما يجد هذا ما يسكن به شعره, ورأى رجلاً وسخ الثياب فقال: أما يجد هذا ما ينقي به ثيابه؟) (1) .
ثم عليك أخي أن تتذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد استعاذ بالله من وعثاء السفر, وكان من هديه صلى الله عليه وآله وسلم أنه إذا رأى بلداً يريد دخوله قال: (اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ وَرَبَّ الأَرَضِينِ السَّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَمَا ذَرَيْنَ فَإِنَّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَخَيْرَ أَهْلِهَا وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا) (2) , وكان يقول: (لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا نَزَلَ مَنْزِلا قَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ, لَمْ يَضُرَّهُ فِي ذَلِكَ الْمَنْزِلِ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ) (3) .
الثانية: لا تترك الرياضة غير المبتذلة, لأنها تبعث على النشاط والصحة, حيث أن السفر لم يعد على الأقدام, فلا عليك إن سبحت ومارست شيأ من الرياضة.
وقد جاء في هديه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما يدل على مشروعية رياضة المشي والسباق, فهذه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (خرجت مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في بعض أسفاره وأنا
__________
(1) - المستدرك على الصحيحين للحاكم كتاب اللباس حديث (7380) .
(2) - أخرجه النسائي في السنن الكبرى ج5ص256 حديث (8826) .
(3) - أخرجه ابن ماجه في سننه باب الفزع والأرق وما يتعوذ منه حديث (3537) .
جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: تقدموا، فتقدموا، ثم قال لي: تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت، خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: تقدموا، فتقدموا، ثم قال: تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقني فجعل يضحك، وهو يقول: هذه بتلك) (1) .
وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإرشاد إلى تعليم الأبناء: السباحة والرماية وركوب الخيل, وكل ذلك مما يمرن البدن على الحركة والخفة ويدفع المرض وينشط من الكسل.
الثالثة: المحافظة على السكينة والوقار بتجنب المزاح المذموم الضار, وتوقَ مخالطة الأشرار, فما سعد من أشقى اخوانه, واضاع أخلاقه, وأكثر من المزاح المذموم, فإن من أعظم الفجائع إضاعة الصنائع, وعدم شكر الصانع, فأشرف الخُلق لطف النطق, وكرم السجية, فمن غاضك بقبح الشتم منه فغضه بحسن الحلم عنه, وكم تفرق من اخوان بسبب المزاح, قال الشاعر:
بُليتُ وَكانَ المَزحُ بَدءَ بَلِيَّتي ... فَأَحبَبتُ حَقّاً وَالبَلاءُ لَهُ بَدوُ
رَأَيتُ الهَوى جَمرَ الغَضا غَيرَ أَنَّهُ ... عَلى كُلِّ حالٍ عِندَ صاحِبِهِ حُلوُ
أَذابَ الهَوى جِسمي وَلَحمي وَقُوَّتي ... فَلَم يَبقَ إِلا الروحُ وَالجَسَدُ النَضوُ (2)
__________
(1) - مسند أحمد حديث (2687) - وسنن أبي داود, كتاب الجهاد باب السبق على الرجل، حديث (2578) .
(2) - هذه الأبيات لأبي العتاهية.
وقال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه:
وَدَعِ المُزاحَ فَرُبَّ لَفظَةِ مازِحٍ ... جَلَبَت إَلَيكَ مساوئاً لا تُدفَعُ
قال أبو حاتم رضي الله عنه -وقد أفاد وأجاد-: "المزاح على ضربين: مزاح محمود ومزاح مذموم, فأما المزاح المحمود: فهو الذي لا يشوبه ما كره الله عز وجل ولا يكون به إثم ولا قطيعة رحم, وأما المزاح المذموم: فالذي يثير العداوة ويذهب البهاء ويقطع الصداقة ويجرأ الدنيء ويحقد الشريف به".
وعن ربيعة قال: "إياك والمزاح فإنه يفسد المودة ويغل الصدور".
وعن عبد الله بن حبيق قال: كان يقال: "لا تمازح الشريف فيحقد عليك ولا تمازح الوضيع فيجترأ عليك".
قال الشاعر:
اكرم جليسك لا تمازح بالأذى ... إن المزاح ترابه الأضغان
كم من مزاح جذَّ حبل قرينه ... فتجذمت من أجله الأقران (1)
وقال أبو حاتم رضي الله عنه: المزاح إذا كان فيه إثم فهو يسود الوجه, ويدمي القلب, ويورث البغضاء, ويحيي الضغينة, وإذا كان من غير معصية فهو يسلّي الهم ويوقع الخلة, ويحيي النفوس, ويذهب الحشمة, فالواجب على العاقل أن يستعمل من المزاح ما ينسب بفعله إلى الحلاوة, ولا ينوي به أذى أحد ولا سرور أحد بمساءة أحد. (2)
__________
(1) - روضة العقلاء ص63.
(2) - روضة العقلاء ص65.
قلتُ: ولا شك أن المزاح في غير طاعة الله مسلبة لبهاء الإنسان ووقاره, وحقل ينبت الغل والضغينة في صدور الرجال والنساء على حد سوى, ويجرّ إلى المراء, ويحول الأصدقاء إلى أعداء, أما إذا كان بقصد استمالة القلوب, وإدخال السرور عليها, والابتعاد عن تعبس الوجه وتقطبه وبما لا إثم فيه ولا قطيعة فهو حسن, وقد روى أَبُو قِلابَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَانَ فِي سَفَرٍ وَكَانَ غُلامٌ يَحْدُو بِهِنَّ يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: رُوَيْدَكَ يَا أَنْجَشَةُ سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ قَالَ أَبُو قِلابَةَ: يَعْنِي النِّسَاءَ) (1) , شبه النساء بالقوارير التي يسرع إليها الكسر.
ومن آداب الرجوع من السفر أن لا يطرق المسافر أهله ليلاً, إلا لضرورة, فالعاقل هو الذي يعلم أهله بوقت وصوله, ففي الحديث النبوي: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ لا يَطْرُقُ أَهْلَهُ, كَانَ لا يَدْخُلُ إِلاَّ غُدْوَةً أَوْ عَشِيَّةً) (2) .
__________
(1) - أخرجه البخاري في صحيحه باب المعاريض مندوحة عن الكذب حديث (5742) .
(2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب الدخول بالعشي حديث (1673) .
الاستمتاع بالسفر والسياحة لا يعني السقوط في الوحل
الهمة سلاح القلب للمعالي, فهي قد تدفع بالإنسان إلى اكتساب المعارف والعلوم والاستمتاع بالحياة, وهي تتفاوت من إنسان لآخر فمن الناس من يبحث في سفره وسياحته وغربته عن المعالي ويستمتع بحياته,
وهذا (تاكيو أوساهيرا) الياباني عاش ثمانية عشر سنة خارج بلاده اليابان يبحث عن سر تفوق أوربا الميكانيكي ولم يرى أرض اليابان طول تلك السنين ثم عاد بعد أن حفظ الدرس وأتقن الصنعة ليطبقها واقعاً عملياً على أرض بلاده.. يقول: بعد أن رأى رئيس الدولة اليابانية المحركات وهي تشتغل بأرض اليابان ذهبت إلى بيتي ونمت عشر ساعات وهي أول مرة أنام فيها عشر ساعات كاملة منذ خمسة عشر عاماً. (1)
ويرحم الله شوقي حيث يقول:
وَما نَيلُ المَطالِبِ بِالتَمَنّي ... وَلَكِن تُؤخَذُ الدُنيا غِلابا
وَما اِستَعصى عَلى قَومٍ مَنالٌ ... إِذا الإِقدامُ كانَ لَهُم رِكابا
وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (2) .
ولكن همم الناس ورؤيتهم للحياة تتفاوت, فمن الناس من يعشق السفر والترفيه بهمة عالية ولكنه يقع في حبائل الشيطان وينخرط في مصائده, فهو لا يعي معنى كلمة سياحة وسفر ويعتبر سياحة الترفيه ضرباً خالصاً من المجون الذي لا يربطه رابط ولا يضبطه ضابط وما أن يغادر بلده ويهبط في البلد التي عزم السفر إليه حتى يعتبر نفسه خارج المراقبة الربانية بل خارج حدود الرصانة والعقل واللياقة والأدب, فيبدد الأموال على موائد المتعة التي ضلت طريق الصواب, فكثيراً ما ينثر بعضهم النقود على الراقصات أو تحت
__________
(1) - ابدأ كتابة حياتك فصول في عناق المجد, ص33, الناشر: دار القلم دمشق, الطبعة الأولى 2008م.
(2) - سورة الرعد الآية (11) .
أقدام المومسات ويتنافسون في نوادي القمار بقدراتهم الخرافية على تبديد الأموال, حالات نفسية يضحى فيها بالأموال على رؤس العاهرات, وربما أصيب بعضهم بـ (الإيدز) أو غير ذلك من الأمراض الخطيرة, فعاد وقد سود وجه بلاده وخسر صحته وسعادته وإيمانه.
فالترفيه لا يعني السقوط في الوحل, ولا يعني الذلة والخمول ونبذ الأخلاق الفاضلة وتبديد الأموال والإفراط في القيل والقال.
وإذا انتقلنا إلى ميدان الأخلاق العالية والقيم الإنسانية البانية نجد أن للأدب الاسلامي سهماً ضارباً في هذا المقام تغوص أعماقه في نفوس الفطرة الإنسانية, بله النفوس المسلمة, وتأمل معي أبيات معن بن أوس المزني وهو يفتخر ببعده عن مواطن الريب واجتنابه الفواحش والمنكرات وتلبسه بمعاني المكرمات حيث يقول:
لَعَمرُكَ ما أَهوَيتُ كَفّي لِرِيبَةٍ ... وَلا حَمَلَتني نَحوَ فاحِشَةٍ رِجلي
وَلا قادَني سَمعي وَلا بَصَري لَها ... وَلا دَلَّني رَأيي عَلَيها وَلا عَقلي
وَإِنّيَ حَقا لم تُصِبني مُصيبَةٌ ... مِنَ الدَهرِ إِلا قَد أَصابَت فَتىً قَبلي
وَلَستُ بِماشٍ ما حَيِيت لِمُنكَرٍ ... مِنَ الأَمرِ لا يَمشي إِلى مِثلِهِ مِثلي
وَلا مُؤَثِراً نَفسي عَلى ذي قرابَةٍ ... وَأَوثِرُ ضَيفي ما أَقامَ عَلى أَهلي
وهذا يذكرنا بقول الحسن البصري رحمه الله: "ما ضربت ببصري ولا نطقت بلساني ولا بطشت بيدي ولا نهضت على قدمي حتى أنظر أعلى
طاعة أو على معصية؟ فإذا كانت طاعة تقدمت وإن كانت معصية تأخرت". (1)
وإذا كان إذاعة مثل هذه الأخلاق وتمجيد مثل هذه الآداب يعين على فعلها والالتزام بهديها فكم كنا نتمنى على البلدان الإسلامية في اتفاقياتها للتعاون السياحي أن تكون قد انبرت لتشيجع الفنون التي تهدي لمثلها فإن ذلك السمت الإنساني الراقي والتصوير الفني العالي مما يطرب له كل مسلم ويعجبه, وقد سبق أن أشرنا إلى مكانة الشعر ومواضع التأثر به وهو ينطق بالحكمة والحكمة فيه مطلوبة مرغوبة وقد أثنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الشعر الناطق بها وقال: (إِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكْمَةً) (2) .
وغالباً ما تكون الحِكم عامرة بالمواعظ, حافلة بالعبر والأمثال, فتكون حقلاً تربوياً خصباً يزكي النفوس ويحدوها نحو الفضائل حدواً.
أما إذا انتقلنا إلى الطبيعة الغناء فسنجدها حقلاً بديعاً يغري الشعراء ذوي الإحساس المرهف فيرسمون بأشعارهم لوحات بديعة ينبهون العقول على مبدعها وباعث نضرتها في صور مبهجة ومناظر مهيجة, قال الثعالبي:
الغيمُ بينَ مُمَسَّكٍ ومُعَصْفَرِ ... والماءُ بينَ مُصَنْدَلٍ ومُعَنْبَرِ
والروضُ بينَ مُدَمْلَجٍ ومُتوَّجِ ... والوردُ بينَ مدرهَمٍ ومدنَّرِ
والأرضُ قَدْ لَبِسَتْ قميصاً أخضراً ... تختالُ فيه بطيلسانٍ أحمرِ
لتروقَنا بظرائفٍ ولطائفٍ ... من حسنِ منظرِها وطيبِ المخبرِ
__________
(1) - جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي ص66, الناشر: دار الفكر القاهرة.
(2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب ما يجوز من الشعر والرجز حديث (5679) .
سبحانَ مُحْيِي الأرض بعد مماتِها.....وكذاكَ يحيي الخلقَ يومَ المحشرِ
وإذا كان الكون المنظور وسائر مجالات الحياة تعتبر صفحات فنية فإنه مما ينبغي على الأدباء المسلمين أن يحسنوا قراءتها وأن يقلبوا صفحاتها في سفرهم وإقامتهم, وأن يقدموا لأمة الإجابة ما يهز ويؤثر, ولأمة الدعوة ما يقنع ويبهر, وهم في ذلك محتسبون ومحسنون ومبدعون ولربهم راغبون ومنقلبون. (1)
حاجة المسافر إلى قراءة شيء من القرآن في أسفاره
إن القرآن الكريم بما اشتمل عليه من الفصاحة والبلاغة والبيان يغذي النفوس ويحيي القلوب, فهو عجيب نظمه بديع تأليفه, فيه آيات بينات أرشَدت إلى علوم وحِكمة وموعظة وآداب وأخلاق وفضائل وأحكام في العقيدة والفقه والمعاملات وما تحدثت به عن الله وعظمته وقدرته والدعوة إلى عبادته وتنزيهه عما لا يليق به وما حوته من أنباء وعبر ومواعظ وحثٍ على مكارم الأخلاق وحسن المعاملة وبيان الحلال والحرام واشتمل على قواعد وضوابط في أصول التقنين وأسس التشريع في المال والحكم والأسرة, وصدق الله جل وعلا حيث يقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (2) , وفيه أخبار الأمم الماضية, وبيان أسس
__________
(1) - انظر ميزان الشعر الإسلامي بحث للدكتور ناصر الخنيم منشور على صفحات مجلة الأدب الإسلامي العدد (61) 1430هـ2009م, ص21و22.
(2) - سورة النساء (82) .
التشريع التي ترشد إلى العدل والحق والصدق والإيمان والتوحيد والحكمة والطهارة والوفاء وحسن المعاملة والابتعاد عن الحرام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة..الخ ما ورد في تلك الأحكام من الهدى والنور والأخلاق والآداب والحكم والمواعظ وما ينظم شئون الحياة ويقع بلسماً لجروحها وأدوائها في الجانب المدني والشخصي والجنائي وفي مختلف الجوانب الثقافية والاقتصادية وغيرها, ولا ريب إن في القرآن ما يبعث في الأمم الحياة والعزة والكرامة ويجلب السعادة للبشرية في الدنيا والآخرة، وصدق الله حيث يقول مخاطباً لرسوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1) , فكيف لا يأخذ الإنسان من المصحف كل يوم آيات في سفره وإقامته, يتعلم منها ويكتسب منها أدب الدنيا والدين.
حبذا مصحفي الذي اجتمعت لي ... فيه كل الشرائط المعجباتِ
غرر من محاسن النظم فيه ... باعتدال إلى جمال الذاتِ
فبه مفخر العنايات خط ... ونقوش ومعجز الآياتِ
وبه حلت المشائخ والقُرّاء ... وأهل الخلاف في الحركاتِ
مثل قالون وأبي عمر البصري ... وحفص وحمزة الزياتِ
وبه الوقف والإمالة والفتح ... وحكم التسهيل للهمزاتِ
وعشور منبثة كزهور ... في رياض أنيقة غدقاتِ
__________
(1) - سورة الشورى (52) .
فيه للسمع والقلوب واللحظ ... ضروب شتى من الشهواتِ
فهو مما اصطنعت حقاً لنفسي ... ابتغي به أقرب القرباتِ
وهو لا شك روضتي وعداتي ... فيه حقاً تكاملت لذاتي
وهو أُنسي إذا عدمت أنيسي ... وسميري الشهي في الخلواتِ
وإمامي يوم المعاد وذخري ... في حياتي الدنيا وعند المماتِ
وكيف لا يكون القرآن الكريم أنيس المسافر, ومحاسنه لا تحصى, فهو يفيدك ويهديك ويثيبك ويغنيك, فإنك إن تلوت منه حرفاً كتبت لك به حسنة ففي الحديث النبوي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا, لا أَقُولُ الم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْف) (1) , ولو أن واحداً قرأ سورة الأنعام التي يقول عنها الفيروزآبادي: عدد آياتها مائة وخمس وستون آية وعدد كلماتها ثلاثة آلاف واثنتان وخمسون كلمة وعدد حروفها اثنا عشر أَلفاً ومائتان وأَربعون (2) , لكان قد حصل قارؤها على (مائة واثنين وعشرين ألفاً وأربعمائة) حسنة خلال وقت يقرب من نصف ساعة, فكيف يترك الإنسان هذا الفضل الكبير والخير العظيم في سفره وإقامته, وقد جعل الله القرآن روحاً تحيا به نفوس الخلق فله فضل الأرواح في الأجساد وجعله نوراً يضيء ضياء الشمس في الآفاق, وقد رأيت كيف فعل القرآن بالعرب في فجر الإسلام حيث كانوا بالأمس مشتتين لا تجمعهم رابطة سياسية أو قومية أو دينية وبعد مجيء القرآن صاروا أمة موحدة تحمل الفضيلة وتحكم العالم, قال الشاعر:
والعلمُ مهما صادفَ التقوى يكنْ ... كالريحِ إذْ مرَّتْ على الأزهارِ
يا قارئَ القرآنِ إنْ لمْ تتبعْ ... ما جاء فيه فأينَ فضلُ القاري
وسبيلُ منْ لم يعلموا أنْ يحسنوا ... ظنّاً بأهلِ العلمِ دونَ نفارِ (3)
وفي الذكر الحكيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (4) , والموعظة هي ما جاء في القرآن من الزواجر عن الفواحش والأعمال الموجبة لسخط الله أو هي الأمر والنهي باسلوب الترغيب والترهيب, وفي القرآن شفاء لما في الصدور من أمراض الشبه والشكوك والشبهات وإزالة ما فيها من رجز ودنس, وفيه الشفاء من الأسقام البدنية والأسقام القلبية, فهو الذي يزجر عن مساوئ الأخلاق وأقبح الأعمال ويحث على التوبة, وفيه هدىً ورحمةً للمؤمنين كما قال سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً} (5) , وقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (6) , فالهدى هو العلم بالحق والعمل به, والرحمة ما يحصل من الخير والإحسان والثواب العاجل والآجل لمن اهتدى بالقرآن العظيم, وإذا حصل
__________
(1) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء في من قرأ حرفاً من القرآن حديث (2835) .
(2) - بصائر ذوي التمييز ج1ص129.
(3) - تنسب هذه الأبيات لابن الوردي.
(4) - سورة يونس الآية (57) .
(5) - سورة الإسراء الآية (82) .
(6) - سورة فصلت الآية (44) .
الهدى وحصلت الرحمة الناشئة عن الهدى حصلت السعادة والربح والنجاح والفرح والسرور {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (1) .
المشي يعين على الطاعة ويجلب السعادة
إن التنقل والمشي يعين على طلب الرزق, ويكسب الصحة, ويجدد للإنسان النشاط, ويغرس فيه الأمل, ويبعده عن الكسل, وأي قيمة لإنسان فارغ كسول في حياة مفعمة بالجد والعمل وحب الإنتاج, فمن رضي الخمول كان فارغاً كسولا, تموت آماله وهو يرمقها بعين الندامة لا غاية له يسعى إلى تحقيقها ولا طريق واضحة يسير فيها, إن حياته كلها شقاء, قال الرافعي واصفاً حال الكسول:
غير أن الكسول في كل يومٍ ... يجد اليوم كله أهوالا
من يقيم الأمور في الجد يهنا ... والشقا للذين قاموا كسالا
وفي الحديث النبوي: (دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ, فَقَالَ: يَا أَبَا أُمَامَةَ مَا لِي أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاةِ قَالَ هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: أَفَلا أُعَلِّمُكَ كَلامًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ, قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ, قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّي وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي) (2) .
وقال الشاعر:
وَإِذا رَأَيتَ الرِزقَ ضاقَ بِبَلدَةٍ ... وَخَشيتَ فيها أَن يَضيقَ المَكسَبُ
فَاِرحَل فَأَرضُ اللَهِ واسِعَةُ الفَضا ... طُولاً وَعَرضاً شَرقُها وَالمَغرِبُ (3)
وقال آخر:
وعليَّ أنْ أسْعى وليْـ ... ـسَ عليّ إدْراكُ النًّجَاحِ (4)
وفي الحديث النبوي الشريف: (إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّيْنُ إلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ) (5) , وفي رواية: (سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، القَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا) , قوله: (الدِّينُ) : هُوَ مرفوع عَلَى مَا لَمْ يسم فاعله, وروي منصوباً وروي, (لن يشادَّ الدينَ أحدٌ) , وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إلا غَلَبَهُ) : أي غَلَبَهُ الدِّينُ وَعَجَزَ ذلِكَ المُشَادُّ عَنْ مُقَاوَمَةِ الدِّينِ لِكَثْرَةِ طُرُقِهِ, وَ (الغَدْوَةُ) : سير أولِ النهارِ, وَ (الرَّوْحَةُ) : آخِرُ النهارِ, وَ (الدُّلْجَةُ) : آخِرُ اللَّيلِ, وهذا استعارة وتمثيل، ومعناه: اسْتَعِينُوا عَلَى طَاعَةِ اللهِ عز وجل بِالأَعْمَالِ في وَقْتِ نَشَاطِكُمْ وَفَرَاغِ قُلُوبِكُمْ بِحَيثُ تَسْتَلِذُّونَ العِبَادَةَ
__________
(1) - سورة يونس الآية (58) .
(2) - أخرجه أبو داود في سننه باب في الاستعاذة حديث (1330) .
(3) - هذان البيتان للإمام علي رضي الله عنه وانظر ديوانه.
(4) - ينسب هذا البيت لبديع الزمان الهمداني, انظر الموسوعة الشعرية ص666.
(5) - أخرجه البيهقي في شعب الإيمان باب القصد في العبادة حديث (3881) .
ولا تَسْأَمُونَ وتبلُغُونَ مَقْصُودَكُمْ، كَمَا أنَّ المُسَافِرَ الحَاذِقَ يَسيرُ في هذِهِ الأوْقَاتِ ويستريح هُوَ وَدَابَّتُهُ في غَيرِهَا فَيَصِلُ المَقْصُودَ بِغَيْرِ تَعَب، واللهُ أعلم. (1)
أما عروة بن الورد (2) فإنه يرى استحباب السفر والاغتراب فيقول:
فَسِر في بِلادِ اللَهِ وَاِلتَمِسِ الغِنى ... تَعِش ذا يَسارٍ أَو تَموتَ فَتُعذَرا
وَما طالِبُ الحاجاتِ مِن كُلِّ وِجهَةٍ ... مِنَ الناسِ إِلاّ مَن أَجَدَّ وَشَمَّرا
وقال آخر:
ليس الفتى بفتىً لا يستضاء به ... ولا يكون له في الأرض آثار
أما البحتري (3) فهو يرى أن الإنسان إذا كان معدماً فعليه أن يتغرب وذلك حيث يقول:
وَإِذا الزَمانُ كَساكَ حُلَّةَ مُعدِمٍ ... فَاِلبَس لَهُ حُلَلَ النَوى وَتَغَرَّبِ
وَلَقَد أَبيتُ مَعِ الكَواكِبِ راكِباً ... أَعجازَها بِعَزيمَةٍ كَالكَوكَبِ
وقد يكون السفر واجباً أو مستحباً فيجب للجهاد والحج ... إلخ والهجرة قد تكون واجبة بالنقلة عن البلد التي لا يستطيع الإنسان فيها أن يحفظ كرامته ودينه, وقيل غير ذلك, وفي الحديث: (لا هجرة بعد الفتح
__________
(1) - انظر رياض الصالحين للإمام أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي, (المتوفى سنة 676هـ) , ج1ص117, الناشر: المكتب الإسلامي بيروت.
(2) - عروة بن الورد بن زيد العبسي، (ت 30ق. هـ593م) من غطفان, من شعراء الجاهلية وفرسانها وأجوادها, كان يلقب بعروة الصعاليك لجمعه إياهم، وقيامه بأمرهم إذا أخفقوا في غزواتهم.
(3) - البُحتُرِيّ (206-284هـ/821-897م) الوليد ابن عبيد بن يحيى الطائي أبو عبادة البحتري, شاعر كبير، يقال لشعره: سلاسل الذهب، وهو أحد الثلاثة الذين كانوا أشعر أبناء عصرهم، المتنبي وأبو تمام والبحتري، قيل لأبي العلاء المعري: أي الثلاثة أشعر؟ فقال: المتنبي وأبو تمام حكيمان وإنما الشاعر البحتري.
ولكن جهاد ونية) (1) , وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (2) .
العز والشرف في التنقل
إذا كان في الأسفار بعض المشاق فإن فيها بلوغ ما يتطلبه المشتاق, واكتساب الحِكم والأخلاق, والبحث عن الأرزاق, والحصول على المكاسب التجارية والثقافية, وإرضاء الخالق وأداء الواجب, وإن كان قد ورد في الحديث النبوي: (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ) (3) , فذلك إخبار عمّا كان عليه الحال أو باعتبار المشقة التي تقع على المسافر في بعض الأحوال فالمسافر قد يلاقي الكثير من الأهوال والأخطار والمشقة حتى قال بعضهم: "العذاب قطعة من السفر", فأخذه بعض الشعراء فقال:
كل العذاب قطعة من السفر ... يا رب فارددنا على خير الحضر (4)
وليس في الحديث نهي عن السفر وإنما فيه إخبار عمّا يلاقي الإنسان من المشقة والتعب الذي عبر عنه بالعذاب فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد سافر إلى الشام بقصد التجارة وسافر بقصد الجهاد وبقصد الحج الذي يعد ركناً من أركان الإسلام بل أن السفر والتنقل لقضاء الحوائج والعظة والاعتبار ولغرض طلب الحلال والتمتع بنعم الله وزيارة الأرحام ... إلخ من أكبر النعم التي تفضل الله بها على الإنسان, وفي الذكر الحكيم: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (5) , {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (6) , {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (7) .
وفي ذلك فضل وخير كثير, وشرف وعز كبير, وتعلّم الصناعة والحرف قال الشاعر:
إن العُلَى حدَّثتِني وهي صادقةٌ ... في ما تُحدِّثُ أنَّ العزَّ في النُقَلِ
لو أنَّ في شرفِ المأوى بلوغَ مُنَىً ... لم تبرحِ الشمسُ يوماً دارةَ الحَمَلِ (
أما أبو تمام فهو يقول:
وَطولُ مُقامِ المَرءِ في الحَيِّ مُخلِقٌ ... لِديباجَتَيهِ فَاِغتَرِب تَتَجَدَّدِ
فَإِنّي رَأَيتُ الشَمسَ زيدَت مَحَبَّةً ... إِلى الناسِ أَن لَيسَت عَلَيهِم بِسَرمَدِ
__________
(1) - المستدرك على الصحيحين للحاكم كتاب الهجرة حديث (4294) .
(2) - سورة النساء الآية (97) .
(3) - أخرجه البخاري في صحيحه باب السفر قطعة من العذاب حديث (1677) .
(4) - والموسوعة الشعرية ص 330, المستطرف للإبشيهي ج2ص27.
(5) - سورة يونس الآية (22) .
(6) - سورة النحل الآية (14) .
(7) - سورة فاطر الآية (12) .
( - انظر ديوان الطغرائي.
وفي الذكر الحكيم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (1) .
أخطار السفر في هذا الزمن قليلة فتمتع بنعمته الكبيرة
أخي أنت خبير بأن السفر في هذه الأزمنة قد تلاشت صعابه وقلة أخطاره وأصبح الواحد يذهب براحة ويسر وأمان وهذه من نعم الله الكريم المنان على عباده في هذا الزمان {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} (2) , فهذه الطائرة النفاثة تمخر أمواج الجو وتقطع المسافات الشاسعة في لحظات وساعات يسيرة وأنت على كرسيك في متعة وراحة.
جَلَّ شَأنُ اللَهِ هادي خَلقِهِ ... بِهُدى العِلمِ وَنورِ العُلَماء
زَفَّ مِن آياتِهِ الكُبرى لَنا ... طِلبَةً طالَ بِها عَهدُ الرَجاء
مَركَبٌ لَو سَلَفَ الدَهرُ بِهِ ... كانَ إِحدى مُعجِزاتِ القُدَماء
نِصفُهُ طَيرٌ وَنِصفٌ بَشَرٌ ... يا لَها إِحدى أَعاجيبِ القَضاء
رائِعٌ مُرتَفِعاً أَو واقِعاً ... أَنفُسَ الشُجعانِ قَبلَ الجُبَناء
مُسرَجٌ في كُلِّ حينٍ مُلجَمٌ ... كامِلُ العُدَّةِ مَرموقُ الرُواء
كَبِساطِ الريحِ في القُدرَةِ أَو ... هُدهُدِ السيرَةِ في صِدقِ البَلاء
أَو كَحوتٍ يَرتَمي المَوجُ بِهِ ... سابِحٌ بَينَ ظُهورٍ وَخَفاء
أَرسَلَتهُ الأَرضُ عَنها خَبَراً ... طَنَّ في آذانِ سُكّانِ السَماء
__________
(1) - سورة الملك الآية (15) .
(2) - سورة غافر الآية (61) .
يا شَبابَ الغَدِ وَاِبنايَ الفِدى ... لَكُمُ أَكرِم وَأَعزِز بِالفِداء
هَل يَمُدُّ اللَهُ لِيَ العَيشَ عَسى ... أَن أَراكُم في الفَريقِ السُعَداء
أُمَّةٌ لِلخُلدِ ما تَبني إِذا ... ما بَنى الناسُ جَميعاً لِلعَفاء
عَصرُكُم حُرٌّ وَمُستَقبَلُكُم ... في يَمينِ اللَهِ خَيرِ الأُمَناء
لا تَقولوا حَطَّنا الدَهرُ فَما ... هُوَ إِلاّ مِن خَيالِ الشُعَراء
هَل عَلِمتُم أُمَّةً في جَهلِها ... ظَهَرَت في المَجدِ حَسناءَ الرِداء
فَخُذوا العِلمَ عَلى أَعلامِهِ ... وَاِطلُبوا الحِكمَةَ عِندَ الحُكَماء
وَاِقرَأوا تاريخَكُم وَاِحتَفِظوا ... بِفَصيحٍ جاءَكُم مِن فُصَحاء
وَاِحكُموا الدُنيا بِسُلطانٍ فَما ... خُلِقَت نَضرَتُها لِلضُعَفاء
وَاِطلُبوا المَجدَ عَلى الأَرضِ فَإِن ... هِيَ ضاقَت فَاِطلُبوهُ في السَماء (1)
فالمسافر والسائح يتمتع بركوب الطائرات والقاطرات والسيارات في أسفاره ويستمتع بالركوب على ظهر السفن والبواخر التي تجوب البحار وتحمل الأثقال, فبصناعة الطائرات وتلك السيارات والبواخر والقاطرات تقاربت البلدان وأصبح في مقدور الإنسان الاستمتاع بهذه النعمة وحث الهمم وتشجيعها على صناعة الطائرات والتسابق إلى الإبداع في تلك الصناعات التي بها قوام الدين والدنيا, ويقود إلى تدبر الآيات البينات والتفكر في جميع المخلوقات والعمل على تصنيع الطائرات والقاطرات والسيارات ... إلخ وقد جاء في الذكر الحكيم إخباراً عن ما هدى الله إليه
__________
(1) - ديوان احمد شوقي.
عبده ونبيه داود الحكيم: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} (1) ولا تزال صناعة الحديد تشكل أساساً في صناعة آلة الحرب منذ علَّم الله داود عليه السلام صناعة الدروع حتى يومنا هذا, قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (2) , ومن الحديد تصنع معظم الأسلحة الخفيفة والثقيلة من البندقية إلى المدفع إلى الصاروخ إلى السيارات ويدخل الحديد في صناعة القاطرات وناقلات الجند والدبابات والطائرات, وللحديد في مجال التصنيع العسكري والمدني منافع أكثر من أن تحصى, ولقد كان فيما تفضل الله به وأنعم على داود عليه السلام آية ومعجزة عظيمة ترشد إلى الثناء على الله سبحانه وتعالى وتوقظ الهمم في مجال التصنيع, ولهذا فإن الحق سبحانه وتعالى بعد أن ذكر ما أنعم الله به على داود عليه السلام أرشد إلى الشكر وعمل الصالحات فقال جل شأنه: {وَاعْمَلُوا صَالِحاً} ويشمل الصلاح المأمور به صلاح الأعمال والأفعال من العبادات والصناعات لأن ذلك أدعى لدوام النعمة ونمائها.
وفي سورة سبأ: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} (3) أي: جعلناه ليناً أو وفقناه لإلانته بواسطة الصهر, وإلانة الحديد بغير تليين ومعالجة معجزة ظاهرة واضحة,
__________
(1) - سورة الأنبياء (80) .
(2) - سورة الحديد الآية (25) .
(3) - الآية (10) .
وفي ذلك إشارة إلى ضرورة صهر الحديد عند صنعته, وفي الحديد وصناعته خير كبير, فمنه تصنع آلة الحرب ومنه تصنع القطارات والطائرات والدبابات والمدافع و......الخ.
الأولى: المحافظة على شكلك ومظهرك ونظافتك واصلاح هندامك, لا تترك ثوبك متسخاً, ولا شعرك ثائراً, ولا سلوكك شائناً, فجمال ظاهرك يدل على جمال باطنك, وفي الحديث: (إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ) (1) ، قال الشافعي:
أَجِدُ الثيابَ إِذا اكتَسَيتُ فَإِنَّها ... زينُ الرِجالِ بِها تَعزُّ وَتَكرُمُ
وَدَعِ التَواضُعَ في الثيابِ تَخَشُّعاً ... فَاللَهُ يَعلَمُ ما تَجِنُّ وَتَكتُمُ
فَرَثاثُ ثَوبِكَ لا يَزيدُكَ زُلفَةً ... عِندَ الإِلَهِ وَأَنتَ عَبدٌ مُجرِمُ
وَبهاءُ ثَوبِكَ لا يَضُرُكَ بَعدَ أَن ... تَخشى الإِلَهَ وَتَتَّقي ما يَحرُمُ
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنكاره على من أتاه يسأله عن خبر السماء وهو لا يحافظ على طهارة بدنه ونقاء أظفاره من الخبث والتفث, أخرج الإمام احمد في المسند من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسأله عن خبر السماء فقال: أتسألني عن خبر السماء وتدع أظفارك كأظفار الطير فيها الخباثة والتفث) (2) , وهذا الحديث دليل على مشروعية النظافة والمحافظة على الصحة, وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنكر على من أتاه يسأل خبر السماء وهو لا يحافظ على طهارة بدنه ونقاء أظفاره من الخبث والتفث -أي الوسخ الذي خلف أصابعه- , وجاء
__________
(1) - أخرجه مسلم في صحيحه باب تحريم الكبر وبيانه حديث (131) .
(2) - أخرجه أحمد في المسند ج5ص417.
الأولى: المحافظة على شكلك ومظهرك ونظافتك واصلاح هندامك, لا تترك ثوبك متسخاً, ولا شعرك ثائراً, ولا سلوكك شائناً, فجمال ظاهرك يدل على جمال باطنك, وفي الحديث: (إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ) (1) ، قال الشافعي:
أَجِدُ الثيابَ إِذا اكتَسَيتُ فَإِنَّها ... زينُ الرِجالِ بِها تَعزُّ وَتَكرُمُ
وَدَعِ التَواضُعَ في الثيابِ تَخَشُّعاً ... فَاللَهُ يَعلَمُ ما تَجِنُّ وَتَكتُمُ
فَرَثاثُ ثَوبِكَ لا يَزيدُكَ زُلفَةً ... عِندَ الإِلَهِ وَأَنتَ عَبدٌ مُجرِمُ
وَبهاءُ ثَوبِكَ لا يَضُرُكَ بَعدَ أَن ... تَخشى الإِلَهَ وَتَتَّقي ما يَحرُمُ
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنكاره على من أتاه يسأله عن خبر السماء وهو لا يحافظ على طهارة بدنه ونقاء أظفاره من الخبث والتفث, أخرج الإمام احمد في المسند من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسأله عن خبر السماء فقال: أتسألني عن خبر السماء وتدع أظفارك كأظفار الطير فيها الخباثة والتفث) (2) , وهذا الحديث دليل على مشروعية النظافة والمحافظة على الصحة, وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنكر على من أتاه يسأل خبر السماء وهو لا يحافظ على طهارة بدنه ونقاء أظفاره من الخبث والتفث -أي الوسخ الذي خلف أصابعه- , وجاء
__________
(1) - أخرجه مسلم في صحيحه باب تحريم الكبر وبيانه حديث (131) .
(2) - أخرجه أحمد في المسند ج5ص417.
الأولى: المحافظة على شكلك ومظهرك ونظافتك واصلاح هندامك, لا تترك ثوبك متسخاً, ولا شعرك ثائراً, ولا سلوكك شائناً, فجمال ظاهرك يدل على جمال باطنك, وفي الحديث: (إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ) (1) ، قال الشافعي:
أَجِدُ الثيابَ إِذا اكتَسَيتُ فَإِنَّها ... زينُ الرِجالِ بِها تَعزُّ وَتَكرُمُ
وَدَعِ التَواضُعَ في الثيابِ تَخَشُّعاً ... فَاللَهُ يَعلَمُ ما تَجِنُّ وَتَكتُمُ
فَرَثاثُ ثَوبِكَ لا يَزيدُكَ زُلفَةً ... عِندَ الإِلَهِ وَأَنتَ عَبدٌ مُجرِمُ
وَبهاءُ ثَوبِكَ لا يَضُرُكَ بَعدَ أَن ... تَخشى الإِلَهَ وَتَتَّقي ما يَحرُمُ
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنكاره على من أتاه يسأله عن خبر السماء وهو لا يحافظ على طهارة بدنه ونقاء أظفاره من الخبث والتفث, أخرج الإمام احمد في المسند من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسأله عن خبر السماء فقال: أتسألني عن خبر السماء وتدع أظفارك كأظفار الطير فيها الخباثة والتفث) (2) , وهذا الحديث دليل على مشروعية النظافة والمحافظة على الصحة, وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنكر على من أتاه يسأل خبر السماء وهو لا يحافظ على طهارة بدنه ونقاء أظفاره من الخبث والتفث -أي الوسخ الذي خلف أصابعه- , وجاء
__________
(1) - أخرجه مسلم في صحيحه باب تحريم الكبر وبيانه حديث (131) .
(2) - أخرجه أحمد في المسند ج5ص417.
في حديث جابر: (أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى رجلا ثائر الرأس فقال: أما يجد هذا ما يسكن به شعره, ورأى رجلاً وسخ الثياب فقال: أما يجد هذا ما ينقي به ثيابه؟) (1) .
ثم عليك أخي أن تتذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد استعاذ بالله من وعثاء السفر, وكان من هديه صلى الله عليه وآله وسلم أنه إذا رأى بلداً يريد دخوله قال: (اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ وَرَبَّ الأَرَضِينِ السَّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَمَا ذَرَيْنَ فَإِنَّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَخَيْرَ أَهْلِهَا وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا) (2) , وكان يقول: (لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا نَزَلَ مَنْزِلا قَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ, لَمْ يَضُرَّهُ فِي ذَلِكَ الْمَنْزِلِ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ) (3) .
الثانية: لا تترك الرياضة غير المبتذلة, لأنها تبعث على النشاط والصحة, حيث أن السفر لم يعد على الأقدام, فلا عليك إن سبحت ومارست شيأ من الرياضة.
وقد جاء في هديه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما يدل على مشروعية رياضة المشي والسباق, فهذه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (خرجت مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في بعض أسفاره وأنا
__________
(1) - المستدرك على الصحيحين للحاكم كتاب اللباس حديث (7380) .
(2) - أخرجه النسائي في السنن الكبرى ج5ص256 حديث (8826) .
(3) - أخرجه ابن ماجه في سننه باب الفزع والأرق وما يتعوذ منه حديث (3537) .
جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: تقدموا، فتقدموا، ثم قال لي: تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت، خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: تقدموا، فتقدموا، ثم قال: تعالي حتى أسابقك، فسابقته فسبقني فجعل يضحك، وهو يقول: هذه بتلك) (1) .
وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإرشاد إلى تعليم الأبناء: السباحة والرماية وركوب الخيل, وكل ذلك مما يمرن البدن على الحركة والخفة ويدفع المرض وينشط من الكسل.
الثالثة: المحافظة على السكينة والوقار بتجنب المزاح المذموم الضار, وتوقَ مخالطة الأشرار, فما سعد من أشقى اخوانه, واضاع أخلاقه, وأكثر من المزاح المذموم, فإن من أعظم الفجائع إضاعة الصنائع, وعدم شكر الصانع, فأشرف الخُلق لطف النطق, وكرم السجية, فمن غاضك بقبح الشتم منه فغضه بحسن الحلم عنه, وكم تفرق من اخوان بسبب المزاح, قال الشاعر:
بُليتُ وَكانَ المَزحُ بَدءَ بَلِيَّتي ... فَأَحبَبتُ حَقّاً وَالبَلاءُ لَهُ بَدوُ
رَأَيتُ الهَوى جَمرَ الغَضا غَيرَ أَنَّهُ ... عَلى كُلِّ حالٍ عِندَ صاحِبِهِ حُلوُ
أَذابَ الهَوى جِسمي وَلَحمي وَقُوَّتي ... فَلَم يَبقَ إِلا الروحُ وَالجَسَدُ النَضوُ (2)
__________
(1) - مسند أحمد حديث (2687) - وسنن أبي داود, كتاب الجهاد باب السبق على الرجل، حديث (2578) .
(2) - هذه الأبيات لأبي العتاهية.
وقال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه:
وَدَعِ المُزاحَ فَرُبَّ لَفظَةِ مازِحٍ ... جَلَبَت إَلَيكَ مساوئاً لا تُدفَعُ
قال أبو حاتم رضي الله عنه -وقد أفاد وأجاد-: "المزاح على ضربين: مزاح محمود ومزاح مذموم, فأما المزاح المحمود: فهو الذي لا يشوبه ما كره الله عز وجل ولا يكون به إثم ولا قطيعة رحم, وأما المزاح المذموم: فالذي يثير العداوة ويذهب البهاء ويقطع الصداقة ويجرأ الدنيء ويحقد الشريف به".
وعن ربيعة قال: "إياك والمزاح فإنه يفسد المودة ويغل الصدور".
وعن عبد الله بن حبيق قال: كان يقال: "لا تمازح الشريف فيحقد عليك ولا تمازح الوضيع فيجترأ عليك".
قال الشاعر:
اكرم جليسك لا تمازح بالأذى ... إن المزاح ترابه الأضغان
كم من مزاح جذَّ حبل قرينه ... فتجذمت من أجله الأقران (1)
وقال أبو حاتم رضي الله عنه: المزاح إذا كان فيه إثم فهو يسود الوجه, ويدمي القلب, ويورث البغضاء, ويحيي الضغينة, وإذا كان من غير معصية فهو يسلّي الهم ويوقع الخلة, ويحيي النفوس, ويذهب الحشمة, فالواجب على العاقل أن يستعمل من المزاح ما ينسب بفعله إلى الحلاوة, ولا ينوي به أذى أحد ولا سرور أحد بمساءة أحد. (2)
__________
(1) - روضة العقلاء ص63.
(2) - روضة العقلاء ص65.
قلتُ: ولا شك أن المزاح في غير طاعة الله مسلبة لبهاء الإنسان ووقاره, وحقل ينبت الغل والضغينة في صدور الرجال والنساء على حد سوى, ويجرّ إلى المراء, ويحول الأصدقاء إلى أعداء, أما إذا كان بقصد استمالة القلوب, وإدخال السرور عليها, والابتعاد عن تعبس الوجه وتقطبه وبما لا إثم فيه ولا قطيعة فهو حسن, وقد روى أَبُو قِلابَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَانَ فِي سَفَرٍ وَكَانَ غُلامٌ يَحْدُو بِهِنَّ يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: رُوَيْدَكَ يَا أَنْجَشَةُ سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ قَالَ أَبُو قِلابَةَ: يَعْنِي النِّسَاءَ) (1) , شبه النساء بالقوارير التي يسرع إليها الكسر.
ومن آداب الرجوع من السفر أن لا يطرق المسافر أهله ليلاً, إلا لضرورة, فالعاقل هو الذي يعلم أهله بوقت وصوله, ففي الحديث النبوي: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ لا يَطْرُقُ أَهْلَهُ, كَانَ لا يَدْخُلُ إِلاَّ غُدْوَةً أَوْ عَشِيَّةً) (2) .
__________
(1) - أخرجه البخاري في صحيحه باب المعاريض مندوحة عن الكذب حديث (5742) .
(2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب الدخول بالعشي حديث (1673) .
الاستمتاع بالسفر والسياحة لا يعني السقوط في الوحل
الهمة سلاح القلب للمعالي, فهي قد تدفع بالإنسان إلى اكتساب المعارف والعلوم والاستمتاع بالحياة, وهي تتفاوت من إنسان لآخر فمن الناس من يبحث في سفره وسياحته وغربته عن المعالي ويستمتع بحياته,
وهذا (تاكيو أوساهيرا) الياباني عاش ثمانية عشر سنة خارج بلاده اليابان يبحث عن سر تفوق أوربا الميكانيكي ولم يرى أرض اليابان طول تلك السنين ثم عاد بعد أن حفظ الدرس وأتقن الصنعة ليطبقها واقعاً عملياً على أرض بلاده.. يقول: بعد أن رأى رئيس الدولة اليابانية المحركات وهي تشتغل بأرض اليابان ذهبت إلى بيتي ونمت عشر ساعات وهي أول مرة أنام فيها عشر ساعات كاملة منذ خمسة عشر عاماً. (1)
ويرحم الله شوقي حيث يقول:
وَما نَيلُ المَطالِبِ بِالتَمَنّي ... وَلَكِن تُؤخَذُ الدُنيا غِلابا
وَما اِستَعصى عَلى قَومٍ مَنالٌ ... إِذا الإِقدامُ كانَ لَهُم رِكابا
وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (2) .
ولكن همم الناس ورؤيتهم للحياة تتفاوت, فمن الناس من يعشق السفر والترفيه بهمة عالية ولكنه يقع في حبائل الشيطان وينخرط في مصائده, فهو لا يعي معنى كلمة سياحة وسفر ويعتبر سياحة الترفيه ضرباً خالصاً من المجون الذي لا يربطه رابط ولا يضبطه ضابط وما أن يغادر بلده ويهبط في البلد التي عزم السفر إليه حتى يعتبر نفسه خارج المراقبة الربانية بل خارج حدود الرصانة والعقل واللياقة والأدب, فيبدد الأموال على موائد المتعة التي ضلت طريق الصواب, فكثيراً ما ينثر بعضهم النقود على الراقصات أو تحت
__________
(1) - ابدأ كتابة حياتك فصول في عناق المجد, ص33, الناشر: دار القلم دمشق, الطبعة الأولى 2008م.
(2) - سورة الرعد الآية (11) .
أقدام المومسات ويتنافسون في نوادي القمار بقدراتهم الخرافية على تبديد الأموال, حالات نفسية يضحى فيها بالأموال على رؤس العاهرات, وربما أصيب بعضهم بـ (الإيدز) أو غير ذلك من الأمراض الخطيرة, فعاد وقد سود وجه بلاده وخسر صحته وسعادته وإيمانه.
فالترفيه لا يعني السقوط في الوحل, ولا يعني الذلة والخمول ونبذ الأخلاق الفاضلة وتبديد الأموال والإفراط في القيل والقال.
وإذا انتقلنا إلى ميدان الأخلاق العالية والقيم الإنسانية البانية نجد أن للأدب الاسلامي سهماً ضارباً في هذا المقام تغوص أعماقه في نفوس الفطرة الإنسانية, بله النفوس المسلمة, وتأمل معي أبيات معن بن أوس المزني وهو يفتخر ببعده عن مواطن الريب واجتنابه الفواحش والمنكرات وتلبسه بمعاني المكرمات حيث يقول:
لَعَمرُكَ ما أَهوَيتُ كَفّي لِرِيبَةٍ ... وَلا حَمَلَتني نَحوَ فاحِشَةٍ رِجلي
وَلا قادَني سَمعي وَلا بَصَري لَها ... وَلا دَلَّني رَأيي عَلَيها وَلا عَقلي
وَإِنّيَ حَقا لم تُصِبني مُصيبَةٌ ... مِنَ الدَهرِ إِلا قَد أَصابَت فَتىً قَبلي
وَلَستُ بِماشٍ ما حَيِيت لِمُنكَرٍ ... مِنَ الأَمرِ لا يَمشي إِلى مِثلِهِ مِثلي
وَلا مُؤَثِراً نَفسي عَلى ذي قرابَةٍ ... وَأَوثِرُ ضَيفي ما أَقامَ عَلى أَهلي
وهذا يذكرنا بقول الحسن البصري رحمه الله: "ما ضربت ببصري ولا نطقت بلساني ولا بطشت بيدي ولا نهضت على قدمي حتى أنظر أعلى
طاعة أو على معصية؟ فإذا كانت طاعة تقدمت وإن كانت معصية تأخرت". (1)
وإذا كان إذاعة مثل هذه الأخلاق وتمجيد مثل هذه الآداب يعين على فعلها والالتزام بهديها فكم كنا نتمنى على البلدان الإسلامية في اتفاقياتها للتعاون السياحي أن تكون قد انبرت لتشيجع الفنون التي تهدي لمثلها فإن ذلك السمت الإنساني الراقي والتصوير الفني العالي مما يطرب له كل مسلم ويعجبه, وقد سبق أن أشرنا إلى مكانة الشعر ومواضع التأثر به وهو ينطق بالحكمة والحكمة فيه مطلوبة مرغوبة وقد أثنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الشعر الناطق بها وقال: (إِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكْمَةً) (2) .
وغالباً ما تكون الحِكم عامرة بالمواعظ, حافلة بالعبر والأمثال, فتكون حقلاً تربوياً خصباً يزكي النفوس ويحدوها نحو الفضائل حدواً.
أما إذا انتقلنا إلى الطبيعة الغناء فسنجدها حقلاً بديعاً يغري الشعراء ذوي الإحساس المرهف فيرسمون بأشعارهم لوحات بديعة ينبهون العقول على مبدعها وباعث نضرتها في صور مبهجة ومناظر مهيجة, قال الثعالبي:
الغيمُ بينَ مُمَسَّكٍ ومُعَصْفَرِ ... والماءُ بينَ مُصَنْدَلٍ ومُعَنْبَرِ
والروضُ بينَ مُدَمْلَجٍ ومُتوَّجِ ... والوردُ بينَ مدرهَمٍ ومدنَّرِ
والأرضُ قَدْ لَبِسَتْ قميصاً أخضراً ... تختالُ فيه بطيلسانٍ أحمرِ
لتروقَنا بظرائفٍ ولطائفٍ ... من حسنِ منظرِها وطيبِ المخبرِ
__________
(1) - جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي ص66, الناشر: دار الفكر القاهرة.
(2) - أخرجه البخاري في صحيحه باب ما يجوز من الشعر والرجز حديث (5679) .
سبحانَ مُحْيِي الأرض بعد مماتِها.....وكذاكَ يحيي الخلقَ يومَ المحشرِ
وإذا كان الكون المنظور وسائر مجالات الحياة تعتبر صفحات فنية فإنه مما ينبغي على الأدباء المسلمين أن يحسنوا قراءتها وأن يقلبوا صفحاتها في سفرهم وإقامتهم, وأن يقدموا لأمة الإجابة ما يهز ويؤثر, ولأمة الدعوة ما يقنع ويبهر, وهم في ذلك محتسبون ومحسنون ومبدعون ولربهم راغبون ومنقلبون. (1)
حاجة المسافر إلى قراءة شيء من القرآن في أسفاره
إن القرآن الكريم بما اشتمل عليه من الفصاحة والبلاغة والبيان يغذي النفوس ويحيي القلوب, فهو عجيب نظمه بديع تأليفه, فيه آيات بينات أرشَدت إلى علوم وحِكمة وموعظة وآداب وأخلاق وفضائل وأحكام في العقيدة والفقه والمعاملات وما تحدثت به عن الله وعظمته وقدرته والدعوة إلى عبادته وتنزيهه عما لا يليق به وما حوته من أنباء وعبر ومواعظ وحثٍ على مكارم الأخلاق وحسن المعاملة وبيان الحلال والحرام واشتمل على قواعد وضوابط في أصول التقنين وأسس التشريع في المال والحكم والأسرة, وصدق الله جل وعلا حيث يقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (2) , وفيه أخبار الأمم الماضية, وبيان أسس
__________
(1) - انظر ميزان الشعر الإسلامي بحث للدكتور ناصر الخنيم منشور على صفحات مجلة الأدب الإسلامي العدد (61) 1430هـ2009م, ص21و22.
(2) - سورة النساء (82) .
التشريع التي ترشد إلى العدل والحق والصدق والإيمان والتوحيد والحكمة والطهارة والوفاء وحسن المعاملة والابتعاد عن الحرام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة..الخ ما ورد في تلك الأحكام من الهدى والنور والأخلاق والآداب والحكم والمواعظ وما ينظم شئون الحياة ويقع بلسماً لجروحها وأدوائها في الجانب المدني والشخصي والجنائي وفي مختلف الجوانب الثقافية والاقتصادية وغيرها, ولا ريب إن في القرآن ما يبعث في الأمم الحياة والعزة والكرامة ويجلب السعادة للبشرية في الدنيا والآخرة، وصدق الله حيث يقول مخاطباً لرسوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1) , فكيف لا يأخذ الإنسان من المصحف كل يوم آيات في سفره وإقامته, يتعلم منها ويكتسب منها أدب الدنيا والدين.
حبذا مصحفي الذي اجتمعت لي ... فيه كل الشرائط المعجباتِ
غرر من محاسن النظم فيه ... باعتدال إلى جمال الذاتِ
فبه مفخر العنايات خط ... ونقوش ومعجز الآياتِ
وبه حلت المشائخ والقُرّاء ... وأهل الخلاف في الحركاتِ
مثل قالون وأبي عمر البصري ... وحفص وحمزة الزياتِ
وبه الوقف والإمالة والفتح ... وحكم التسهيل للهمزاتِ
وعشور منبثة كزهور ... في رياض أنيقة غدقاتِ
__________
(1) - سورة الشورى (52) .
فيه للسمع والقلوب واللحظ ... ضروب شتى من الشهواتِ
فهو مما اصطنعت حقاً لنفسي ... ابتغي به أقرب القرباتِ
وهو لا شك روضتي وعداتي ... فيه حقاً تكاملت لذاتي
وهو أُنسي إذا عدمت أنيسي ... وسميري الشهي في الخلواتِ
وإمامي يوم المعاد وذخري ... في حياتي الدنيا وعند المماتِ
وكيف لا يكون القرآن الكريم أنيس المسافر, ومحاسنه لا تحصى, فهو يفيدك ويهديك ويثيبك ويغنيك, فإنك إن تلوت منه حرفاً كتبت لك به حسنة ففي الحديث النبوي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا, لا أَقُولُ الم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْف) (1) , ولو أن واحداً قرأ سورة الأنعام التي يقول عنها الفيروزآبادي: عدد آياتها مائة وخمس وستون آية وعدد كلماتها ثلاثة آلاف واثنتان وخمسون كلمة وعدد حروفها اثنا عشر أَلفاً ومائتان وأَربعون (2) , لكان قد حصل قارؤها على (مائة واثنين وعشرين ألفاً وأربعمائة) حسنة خلال وقت يقرب من نصف ساعة, فكيف يترك الإنسان هذا الفضل الكبير والخير العظيم في سفره وإقامته, وقد جعل الله القرآن روحاً تحيا به نفوس الخلق فله فضل الأرواح في الأجساد وجعله نوراً يضيء ضياء الشمس في الآفاق, وقد رأيت كيف فعل القرآن بالعرب في فجر الإسلام حيث كانوا بالأمس مشتتين لا تجمعهم رابطة سياسية أو قومية أو دينية وبعد مجيء القرآن صاروا أمة موحدة تحمل الفضيلة وتحكم العالم, قال الشاعر:
والعلمُ مهما صادفَ التقوى يكنْ ... كالريحِ إذْ مرَّتْ على الأزهارِ
يا قارئَ القرآنِ إنْ لمْ تتبعْ ... ما جاء فيه فأينَ فضلُ القاري
وسبيلُ منْ لم يعلموا أنْ يحسنوا ... ظنّاً بأهلِ العلمِ دونَ نفارِ (3)
وفي الذكر الحكيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (4) , والموعظة هي ما جاء في القرآن من الزواجر عن الفواحش والأعمال الموجبة لسخط الله أو هي الأمر والنهي باسلوب الترغيب والترهيب, وفي القرآن شفاء لما في الصدور من أمراض الشبه والشكوك والشبهات وإزالة ما فيها من رجز ودنس, وفيه الشفاء من الأسقام البدنية والأسقام القلبية, فهو الذي يزجر عن مساوئ الأخلاق وأقبح الأعمال ويحث على التوبة, وفيه هدىً ورحمةً للمؤمنين كما قال سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً} (5) , وقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (6) , فالهدى هو العلم بالحق والعمل به, والرحمة ما يحصل من الخير والإحسان والثواب العاجل والآجل لمن اهتدى بالقرآن العظيم, وإذا حصل
__________
(1) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء في من قرأ حرفاً من القرآن حديث (2835) .
(2) - بصائر ذوي التمييز ج1ص129.
(3) - تنسب هذه الأبيات لابن الوردي.
(4) - سورة يونس الآية (57) .
(5) - سورة الإسراء الآية (82) .
(6) - سورة فصلت الآية (44) .
الهدى وحصلت الرحمة الناشئة عن الهدى حصلت السعادة والربح والنجاح والفرح والسرور {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (1) .
المشي يعين على الطاعة ويجلب السعادة
إن التنقل والمشي يعين على طلب الرزق, ويكسب الصحة, ويجدد للإنسان النشاط, ويغرس فيه الأمل, ويبعده عن الكسل, وأي قيمة لإنسان فارغ كسول في حياة مفعمة بالجد والعمل وحب الإنتاج, فمن رضي الخمول كان فارغاً كسولا, تموت آماله وهو يرمقها بعين الندامة لا غاية له يسعى إلى تحقيقها ولا طريق واضحة يسير فيها, إن حياته كلها شقاء, قال الرافعي واصفاً حال الكسول:
غير أن الكسول في كل يومٍ ... يجد اليوم كله أهوالا
من يقيم الأمور في الجد يهنا ... والشقا للذين قاموا كسالا
وفي الحديث النبوي: (دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ, فَقَالَ: يَا أَبَا أُمَامَةَ مَا لِي أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاةِ قَالَ هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: أَفَلا أُعَلِّمُكَ كَلامًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ, قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ, قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّي وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي) (2) .
وقال الشاعر:
وَإِذا رَأَيتَ الرِزقَ ضاقَ بِبَلدَةٍ ... وَخَشيتَ فيها أَن يَضيقَ المَكسَبُ
فَاِرحَل فَأَرضُ اللَهِ واسِعَةُ الفَضا ... طُولاً وَعَرضاً شَرقُها وَالمَغرِبُ (3)
وقال آخر:
وعليَّ أنْ أسْعى وليْـ ... ـسَ عليّ إدْراكُ النًّجَاحِ (4)
وفي الحديث النبوي الشريف: (إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّيْنُ إلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ) (5) , وفي رواية: (سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَيءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ، القَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا) , قوله: (الدِّينُ) : هُوَ مرفوع عَلَى مَا لَمْ يسم فاعله, وروي منصوباً وروي, (لن يشادَّ الدينَ أحدٌ) , وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إلا غَلَبَهُ) : أي غَلَبَهُ الدِّينُ وَعَجَزَ ذلِكَ المُشَادُّ عَنْ مُقَاوَمَةِ الدِّينِ لِكَثْرَةِ طُرُقِهِ, وَ (الغَدْوَةُ) : سير أولِ النهارِ, وَ (الرَّوْحَةُ) : آخِرُ النهارِ, وَ (الدُّلْجَةُ) : آخِرُ اللَّيلِ, وهذا استعارة وتمثيل، ومعناه: اسْتَعِينُوا عَلَى طَاعَةِ اللهِ عز وجل بِالأَعْمَالِ في وَقْتِ نَشَاطِكُمْ وَفَرَاغِ قُلُوبِكُمْ بِحَيثُ تَسْتَلِذُّونَ العِبَادَةَ
__________
(1) - سورة يونس الآية (58) .
(2) - أخرجه أبو داود في سننه باب في الاستعاذة حديث (1330) .
(3) - هذان البيتان للإمام علي رضي الله عنه وانظر ديوانه.
(4) - ينسب هذا البيت لبديع الزمان الهمداني, انظر الموسوعة الشعرية ص666.
(5) - أخرجه البيهقي في شعب الإيمان باب القصد في العبادة حديث (3881) .
ولا تَسْأَمُونَ وتبلُغُونَ مَقْصُودَكُمْ، كَمَا أنَّ المُسَافِرَ الحَاذِقَ يَسيرُ في هذِهِ الأوْقَاتِ ويستريح هُوَ وَدَابَّتُهُ في غَيرِهَا فَيَصِلُ المَقْصُودَ بِغَيْرِ تَعَب، واللهُ أعلم. (1)
أما عروة بن الورد (2) فإنه يرى استحباب السفر والاغتراب فيقول:
فَسِر في بِلادِ اللَهِ وَاِلتَمِسِ الغِنى ... تَعِش ذا يَسارٍ أَو تَموتَ فَتُعذَرا
وَما طالِبُ الحاجاتِ مِن كُلِّ وِجهَةٍ ... مِنَ الناسِ إِلاّ مَن أَجَدَّ وَشَمَّرا
وقال آخر:
ليس الفتى بفتىً لا يستضاء به ... ولا يكون له في الأرض آثار
أما البحتري (3) فهو يرى أن الإنسان إذا كان معدماً فعليه أن يتغرب وذلك حيث يقول:
وَإِذا الزَمانُ كَساكَ حُلَّةَ مُعدِمٍ ... فَاِلبَس لَهُ حُلَلَ النَوى وَتَغَرَّبِ
وَلَقَد أَبيتُ مَعِ الكَواكِبِ راكِباً ... أَعجازَها بِعَزيمَةٍ كَالكَوكَبِ
وقد يكون السفر واجباً أو مستحباً فيجب للجهاد والحج ... إلخ والهجرة قد تكون واجبة بالنقلة عن البلد التي لا يستطيع الإنسان فيها أن يحفظ كرامته ودينه, وقيل غير ذلك, وفي الحديث: (لا هجرة بعد الفتح
__________
(1) - انظر رياض الصالحين للإمام أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي, (المتوفى سنة 676هـ) , ج1ص117, الناشر: المكتب الإسلامي بيروت.
(2) - عروة بن الورد بن زيد العبسي، (ت 30ق. هـ593م) من غطفان, من شعراء الجاهلية وفرسانها وأجوادها, كان يلقب بعروة الصعاليك لجمعه إياهم، وقيامه بأمرهم إذا أخفقوا في غزواتهم.
(3) - البُحتُرِيّ (206-284هـ/821-897م) الوليد ابن عبيد بن يحيى الطائي أبو عبادة البحتري, شاعر كبير، يقال لشعره: سلاسل الذهب، وهو أحد الثلاثة الذين كانوا أشعر أبناء عصرهم، المتنبي وأبو تمام والبحتري، قيل لأبي العلاء المعري: أي الثلاثة أشعر؟ فقال: المتنبي وأبو تمام حكيمان وإنما الشاعر البحتري.
ولكن جهاد ونية) (1) , وفي الذكر الحكيم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (2) .
العز والشرف في التنقل
إذا كان في الأسفار بعض المشاق فإن فيها بلوغ ما يتطلبه المشتاق, واكتساب الحِكم والأخلاق, والبحث عن الأرزاق, والحصول على المكاسب التجارية والثقافية, وإرضاء الخالق وأداء الواجب, وإن كان قد ورد في الحديث النبوي: (السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ) (3) , فذلك إخبار عمّا كان عليه الحال أو باعتبار المشقة التي تقع على المسافر في بعض الأحوال فالمسافر قد يلاقي الكثير من الأهوال والأخطار والمشقة حتى قال بعضهم: "العذاب قطعة من السفر", فأخذه بعض الشعراء فقال:
كل العذاب قطعة من السفر ... يا رب فارددنا على خير الحضر (4)
وليس في الحديث نهي عن السفر وإنما فيه إخبار عمّا يلاقي الإنسان من المشقة والتعب الذي عبر عنه بالعذاب فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد سافر إلى الشام بقصد التجارة وسافر بقصد الجهاد وبقصد الحج الذي يعد ركناً من أركان الإسلام بل أن السفر والتنقل لقضاء الحوائج والعظة والاعتبار ولغرض طلب الحلال والتمتع بنعم الله وزيارة الأرحام ... إلخ من أكبر النعم التي تفضل الله بها على الإنسان, وفي الذكر الحكيم: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (5) , {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (6) , {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (7) .
وفي ذلك فضل وخير كثير, وشرف وعز كبير, وتعلّم الصناعة والحرف قال الشاعر:
إن العُلَى حدَّثتِني وهي صادقةٌ ... في ما تُحدِّثُ أنَّ العزَّ في النُقَلِ
لو أنَّ في شرفِ المأوى بلوغَ مُنَىً ... لم تبرحِ الشمسُ يوماً دارةَ الحَمَلِ (
أما أبو تمام فهو يقول:
وَطولُ مُقامِ المَرءِ في الحَيِّ مُخلِقٌ ... لِديباجَتَيهِ فَاِغتَرِب تَتَجَدَّدِ
فَإِنّي رَأَيتُ الشَمسَ زيدَت مَحَبَّةً ... إِلى الناسِ أَن لَيسَت عَلَيهِم بِسَرمَدِ
__________
(1) - المستدرك على الصحيحين للحاكم كتاب الهجرة حديث (4294) .
(2) - سورة النساء الآية (97) .
(3) - أخرجه البخاري في صحيحه باب السفر قطعة من العذاب حديث (1677) .
(4) - والموسوعة الشعرية ص 330, المستطرف للإبشيهي ج2ص27.
(5) - سورة يونس الآية (22) .
(6) - سورة النحل الآية (14) .
(7) - سورة فاطر الآية (12) .
( - انظر ديوان الطغرائي.
وفي الذكر الحكيم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (1) .
أخطار السفر في هذا الزمن قليلة فتمتع بنعمته الكبيرة
أخي أنت خبير بأن السفر في هذه الأزمنة قد تلاشت صعابه وقلة أخطاره وأصبح الواحد يذهب براحة ويسر وأمان وهذه من نعم الله الكريم المنان على عباده في هذا الزمان {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} (2) , فهذه الطائرة النفاثة تمخر أمواج الجو وتقطع المسافات الشاسعة في لحظات وساعات يسيرة وأنت على كرسيك في متعة وراحة.
جَلَّ شَأنُ اللَهِ هادي خَلقِهِ ... بِهُدى العِلمِ وَنورِ العُلَماء
زَفَّ مِن آياتِهِ الكُبرى لَنا ... طِلبَةً طالَ بِها عَهدُ الرَجاء
مَركَبٌ لَو سَلَفَ الدَهرُ بِهِ ... كانَ إِحدى مُعجِزاتِ القُدَماء
نِصفُهُ طَيرٌ وَنِصفٌ بَشَرٌ ... يا لَها إِحدى أَعاجيبِ القَضاء
رائِعٌ مُرتَفِعاً أَو واقِعاً ... أَنفُسَ الشُجعانِ قَبلَ الجُبَناء
مُسرَجٌ في كُلِّ حينٍ مُلجَمٌ ... كامِلُ العُدَّةِ مَرموقُ الرُواء
كَبِساطِ الريحِ في القُدرَةِ أَو ... هُدهُدِ السيرَةِ في صِدقِ البَلاء
أَو كَحوتٍ يَرتَمي المَوجُ بِهِ ... سابِحٌ بَينَ ظُهورٍ وَخَفاء
أَرسَلَتهُ الأَرضُ عَنها خَبَراً ... طَنَّ في آذانِ سُكّانِ السَماء
__________
(1) - سورة الملك الآية (15) .
(2) - سورة غافر الآية (61) .
يا شَبابَ الغَدِ وَاِبنايَ الفِدى ... لَكُمُ أَكرِم وَأَعزِز بِالفِداء
هَل يَمُدُّ اللَهُ لِيَ العَيشَ عَسى ... أَن أَراكُم في الفَريقِ السُعَداء
أُمَّةٌ لِلخُلدِ ما تَبني إِذا ... ما بَنى الناسُ جَميعاً لِلعَفاء
عَصرُكُم حُرٌّ وَمُستَقبَلُكُم ... في يَمينِ اللَهِ خَيرِ الأُمَناء
لا تَقولوا حَطَّنا الدَهرُ فَما ... هُوَ إِلاّ مِن خَيالِ الشُعَراء
هَل عَلِمتُم أُمَّةً في جَهلِها ... ظَهَرَت في المَجدِ حَسناءَ الرِداء
فَخُذوا العِلمَ عَلى أَعلامِهِ ... وَاِطلُبوا الحِكمَةَ عِندَ الحُكَماء
وَاِقرَأوا تاريخَكُم وَاِحتَفِظوا ... بِفَصيحٍ جاءَكُم مِن فُصَحاء
وَاِحكُموا الدُنيا بِسُلطانٍ فَما ... خُلِقَت نَضرَتُها لِلضُعَفاء
وَاِطلُبوا المَجدَ عَلى الأَرضِ فَإِن ... هِيَ ضاقَت فَاِطلُبوهُ في السَماء (1)
فالمسافر والسائح يتمتع بركوب الطائرات والقاطرات والسيارات في أسفاره ويستمتع بالركوب على ظهر السفن والبواخر التي تجوب البحار وتحمل الأثقال, فبصناعة الطائرات وتلك السيارات والبواخر والقاطرات تقاربت البلدان وأصبح في مقدور الإنسان الاستمتاع بهذه النعمة وحث الهمم وتشجيعها على صناعة الطائرات والتسابق إلى الإبداع في تلك الصناعات التي بها قوام الدين والدنيا, ويقود إلى تدبر الآيات البينات والتفكر في جميع المخلوقات والعمل على تصنيع الطائرات والقاطرات والسيارات ... إلخ وقد جاء في الذكر الحكيم إخباراً عن ما هدى الله إليه
__________
(1) - ديوان احمد شوقي.
عبده ونبيه داود الحكيم: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} (1) ولا تزال صناعة الحديد تشكل أساساً في صناعة آلة الحرب منذ علَّم الله داود عليه السلام صناعة الدروع حتى يومنا هذا, قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (2) , ومن الحديد تصنع معظم الأسلحة الخفيفة والثقيلة من البندقية إلى المدفع إلى الصاروخ إلى السيارات ويدخل الحديد في صناعة القاطرات وناقلات الجند والدبابات والطائرات, وللحديد في مجال التصنيع العسكري والمدني منافع أكثر من أن تحصى, ولقد كان فيما تفضل الله به وأنعم على داود عليه السلام آية ومعجزة عظيمة ترشد إلى الثناء على الله سبحانه وتعالى وتوقظ الهمم في مجال التصنيع, ولهذا فإن الحق سبحانه وتعالى بعد أن ذكر ما أنعم الله به على داود عليه السلام أرشد إلى الشكر وعمل الصالحات فقال جل شأنه: {وَاعْمَلُوا صَالِحاً} ويشمل الصلاح المأمور به صلاح الأعمال والأفعال من العبادات والصناعات لأن ذلك أدعى لدوام النعمة ونمائها.
وفي سورة سبأ: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} (3) أي: جعلناه ليناً أو وفقناه لإلانته بواسطة الصهر, وإلانة الحديد بغير تليين ومعالجة معجزة ظاهرة واضحة,
__________
(1) - سورة الأنبياء (80) .
(2) - سورة الحديد الآية (25) .
(3) - الآية (10) .
وفي ذلك إشارة إلى ضرورة صهر الحديد عند صنعته, وفي الحديد وصناعته خير كبير, فمنه تصنع آلة الحرب ومنه تصنع القطارات والطائرات والدبابات والمدافع و......الخ.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
الطائرات السابحات في الجو
الطائرات السابحات في الجو
الطائرات السابحات في الجو هي أقوى سلاح يرهب, وهي أسرع وسيلة لنقل الإنسان وما يحتاج إليه من المنافع, وهي رسل لأهل الشوق يطوفون بها البلدان ويصلون الإخوان ويتذكرون نِعم الرحمن, ويغفر الله لشوقي حيث يقول:
اِجعَلوها رُسلَكُم أَهلَ الهَوى ... تَحمِلُ الأَشواقَ عَنكُم وَالغَراما
وَاِستَعيروها جَناحاً طالَما ... شَغَفَ الصَبَّ وَشاقَ المُستَهاما
يَحمِلُ المُضنى إِلى أَرضِ الهَوى ... يَمَناً حَلَّ هَواهُ أَم شَآما
أما ابن الطيب الشرقي الفاسي (1) فهو يقول:
سافر إلى نَيلِ المَعَزَّ ... ةِ إنَّ في السفَرِ الظفَر
وانفِر لنَيلِ المجدِ فيمَن ... للمعالي قَد نَفَر
فالناسُ إِلفُكَ كلهم ... والأرضُ أجمَعُها مَقَر
فمتَى وجدتَ العزّ ... والعيشَ الهنيَّ أقِم تُبَر
السفر يهدي إلى التعرف على عظمة الصانع جلت قدرته
إن الإنسان حينما يتنقل بين البلدان يرى الأرض الجميلة والجبال الشامخة والبحار الهائجة والطيور السابحة في السماء والحيوانات المختلفة, والثمار اليانعة يهتدى إليه سبحانه وتعالى عن طريق مخلوقاته في هذا الكون ويعَلم أن الله قوي في مخلوقاته حكيم في صناعته ففي هذا الكون في الأرض وفي السماء مظاهر قوته, وأن الله جل وعلا عليم خبير لان في هذا الكون مظاهر علمه وخبرته, فإذا أردت أن تفكر في الكون وصلت إلى الله لأنه صنعته وعند ذلك تصل إلى معرفة الصانع الخالق للكون وتعرف تنظيمه وإحكامه, فترى الحكمة, وترى القدرة, وترى اللطف, وترى العطف, وترى الجمال, وترى الرحمة, فكل مظهر في الكون يدل على اسم من أسماءه أو على كل أسماءه, فكيف هدانا الله؟ الله قال: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} (2) , وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} (3) ,
__________
(1) - محمد بن الطيب محمد بن محمد بن محمد الشرقي الفاسي المالكي، أبو عبد الله, (1110-1170هـ/1698-1756م) , نزيل المدينة المنورة، محدّث، علامة باللغة والأدب, مولده بفاس، ووفاته بالمدينة، وهو شيخ الزبيدي صاحب تاج العروس، والشرقي نسبة إلى (شراقة) على مرحلة من فاس, من كتبه (المسلسلات) في الحديث، و (فيض نشر الانشراح-خ) حاشية على كتاب الاقتراح للسيوطي في النحو، و (إضاءة الراموس-خ) حاشية على قاموس الفيروزأبادي، مجلدان ضخمان، و (موطئة الفصيح لموطأة الفصيح-خ) مجلدان، شرح به (نظم فصيح الثعلب لابن المرحل) ، وشرح (كفاية المتحفظ) وشرح (كافية ابن مالك) ، وشرح (شواهد الكشاف) ، و (حاشية على المطول) ، و (رحلة) .
(2) - سورة يونس الآية (101) .
(3) - سورة الشورى الآية (29) .
وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (1) .
وإذا كان الحق سبحانه وتعالى هدانا بخلقه فالهادي اسم من أسماء أفعاله, وهدانا بكلامه, فالأرض التي خلقها الله والسماء التي رفعها الله وإحكام الصنعة في الخلق تضعك أمام قدرة الله وأمام رحمته وأمام علمه وأمام خبرته, قال تعالى: {اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (2) , وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} (3) , وقال تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (4) .
إذاً فالهادي اسم من أسماء ذاته فالله متكلم والقرآن كلامه, فالكتاب هدىً بياني والكون هدىً استدلالي, غير أن الكون يدل على وجود الله وعظمته وأسماءه ولا يدل على الصلاة والفرائض والواجبات فلا بد أن تهتدي بالكون جزئياً وتهتدي بالقرآن كلياً فهو الذي يعلمك ما افترض الله عليك. (5) {وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (6) .
__________
(1) - سورة الروم الآية (22) .
(2) - سورة الرعد الآية (2) .
(3) - سورة الإسراء الآية (9) .
(4) - سورة البقرة الآيتان (1و2) .
(5) - انظر موسوعة الأسماء الحسنى ج1ص615 وما بعدها.
(6) - سورة يونس الآية (25) .
الهادي من أسماء الله الحسنى
الهادي من أسماء الله الحسنى ورد ذكره في القرآن الكريم: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} (1) , وقال تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (2) .
وفي الموطأ عن عبد الله بن الزبير أنه كان يقول: (إن الله هو الهادي) (3) , وورد عند الترمذي: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) , وعدَّ منها الهادي (4) .
فالهادي هو الذي يهدي ويرشد عباده إلى جميع المنافع, وإلى دفع المضار, ويعلمهم ما لم يعلموا, ويهديهم لهداية التوفيق والتسديد, ويلهمهم التقوى, ويجعل قلوبهم منيبة إليه ومنقادة إلى أمره.
والهداية: هي دلالة بلطف وهداية الله تعالى للإنسان على أربعة أوجه:
الأول: الهداية التي عم بجنسها كل مكلف من العقل، والفطنة، والمعارف الضرورية التي أعم منها كل شيء بقدر فيه حسب احتماله كما قال تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (5) .
الثاني: الهداية التي جعل للناس بدعائه إياهم على ألسنة الأنبياء وإنزال القرآن ونحو ذلك وهو المقصود بقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} (6) .
الثالث: التوفيق الذي يختص به من اهتدى وهو المعني بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} (7) ، وقوله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} ( ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} (9) ، وقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (10) .
الرابع: الهداية في الآخرة إلى الجنة المعنيُّ بقوله: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} (11) , وقوله: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} (12) , وهذه الهدايات الأربع مترتبة فإنَّ من لم تحصل له الأولى لا تحصل الثانية بل لا يصح تكليفه، ومن
__________
(1) - سورة الفرقان الآية (31) .
(2) - سورة الحج الآية (54) .
(3) - موطأ مالك بن أنس, تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي, باب النهي عن القول بالقدر ج5ص1324 حديث (3341) , الناشر: مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان, الطبعة: الاولى 1425هـ2004م.
(4) - سنن الترمذي باب ما جاء في عقد التسبيح باليد حديث (3429) .
(5) - سورة طه الآية (50) .
(6) - سورة السجدة الآية (24) .
(7) - سورة محمد الآية (17) .
( - سورة التغابن الآية (11) .
(9) - سورة يونس الآية (9) .
(10) - سورة العنكبوت الآية (69) .
(11) - سورة محمد الآية (5) .
(12) - سورة الأعراف الآية (43) .
لم تحصل له الثانية لا تحصل له الثالثة والرابعة، ومن حصل له الرابع فقد حصل له الثلاث التي قبلها, ومن حصل له الثالث فقد حصل له اللذان قبله, ثم ينعكس فقد تحصل الأولى ولا يحصل له الثاني ولا يحصل الثالث والإنسان لا يقدر أن يهدي أحداً إلا بالدعاء وتعريف الطرق دون سائر أنواع الهدايات وإلى الثانية أشار بقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (1) , {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} (2) ، {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (3) , أي داع. وإلى سائر الهدايات أشار بقوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ (4) } . (5)
وقال د. محمد راتب النابلسي: كلمة الهادي مأخوذة من فعل هدى والهادي اسم فاعل والله سبحانه وتعالى خلق ثم هدى, وأول بند من بنود الهدى: خلقه {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} (6) , والبند الثاني: اسم من أسماء ذاته لأنه متكلم فالله سبحانه وتعالى يهدي بكلامه, إذاً الهادي اسم من أسماء ذاته. (7)
قلتُ: كلام النابلسي فيه تحقيق, فالله جل وعلا هدى الإنسان بخلقه, قال جل شانه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي
__________
(1) - سورة الشورى الآية (52) .
(2) - سورة السجدة الآية (24) .
(3) - سورة الرعد الآية (7) .
(4) - سورة القصص الآية (56) .
(5) - انظر: شرح أسماء الله الحسنى للقحطاني ص133-135.
(6) - سورة الروم الآية (20) .
(7) - موسوعة أسماء الله الحسنى ج2ص618-619.
أَخْرَجَ الْمَرْعَى} (1) , وقال سبحانه: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} (2) , وقال جل وعلا: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ} (3) .
ففي هذه الآيات دلالة واضحة أن الله هداك بالكون الذي خلقه وأودع فيه من الآيات ما يدلك على وجود الله وعلى أسمائه, فإذا أردت أن تؤمن ففكر في الكون فإذا فكرت في الكون عرفت صانعه, وفي قصة إيمان الفتية الذين آووا إلى الكهف التي يؤكد القرآن الكريم حقيقة إيمانهم بوصف يدل على رجحان عقولهم وصحة معتقدهم وإكرام الله لهم بزيادة هدايتهم: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} (4) .
إذا تبين لك ذلك عرفت أن الهادي اسم من أسماء أفعاله, وأنه يهدي من يشاء إلى التفكر في خلق السماوات والأرض وأن الله وحده هو الصانع لهذا الكون الخالق المبدع وحده لا شريك له, وأنه سبحانه وتعالى يهدي من يشاء بالقرآن قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (5) , وقال سبحانه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (6) .
__________
(1) - سورة الأعلى الآيات (1-4) .
(2) - سورة الطارق الآيات (5- .
(3) - سورة الأنعام الآية (1) .
(4) - سورة الآيتان الآية (13و14) .
(5) - سورة الإسراء الآية (9) .
(6) - سورة البقرة الآية (2) .
وهذا يدل أن الهادي اسم من أسماء ذاته, فالله جل وعلا هدى بكلامه, فهو يهدي بكلامه من يشاء إلى صراط مستقيم, وبهذا يتضح أن الهادي اسم من أسماء ذاته فهو يهدي من يشاء بكلامه وبأفعاله وبالإلهام وبالفطرة, هداك لطعامك ولشرابك وللعمل وللتعلم وللتفكر, وهداك للإيمان به وإلى كل خير فهو الذي أعطى الإنسان كل شيء خلقه ثم هدى, وهو الذي هدى بالوحي, وهدى إلى التوفيق, وهدى إلى الجنة, وبين طرق الخير والشر فقال سبحانه وتعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (1) , وقال جل شأنه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} (2) , وبالتقوى تتحقق كل مفاهيم الهداية ومقوماتها للإنسان فيهتدي إلى ربه ويسعد إلى الأبد.
ثمرة معرفة اسم الله الهادي
إذا عرف المكلف أن الله تعالى وحده الذي خلقه, وانه الذي رزقه, وخلق له ما في الأرض من خير وبر, قال تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} (3) , وأنه سبحانه الذي يهديه لعمل الخير ويثيبه ويوفقه ويرشده ويثبته على الإيمان ويسدده, وإن قُتِل في سبيل الله أو مات على الإيمان ممتثلاً لأوامر الرحمن فسيحرسه الله ويحفظه ويثيبه ولن
__________
(1) - سورة البلد الآية (10) .
(2) - سورة الإنسان الآية (3) .
(3) - سورة عبس الآيات (24-31) .
يضله ويبعده, قال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} (1) .
فإذا عرف الإنسان المكلف ذلك وجب عليه أن يؤمن بأن الله هو الهادي الذي خلقه وهداه, ورزقه وأعطاه, وأنه يهدي من يشاء برحمته وفضله, ويضل من يشاء بحكمته وعدله, فهو الذي يحول بين المرء وقلبه, وفي سورة الأنفال يقول جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (2) , ومن مِثل هذا يخاف الرجل العليم والمؤمن الكريم الذي علم أن الله هو الهادي, فإذا آمن بالله وأنه الهادي وحده لا شريك له عند ذلك يكون المؤمن محباً لله الذي أكرمه وهداه وعافاه وجنبه الشقاء والضلال فهو يدعو كما كان يدعو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه: (يَا مُثَبِّتَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ) (3) , ويدعو الله في كل صلواته بعد حمد الله والثناء عليه وإفراده سبحانه بالعبادة وطلب العون فهو يقرأ في سورة الفاتحة: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} (4) .
ومعلوم أن من عرف بأن الله هو الهادي لخلقه المضل لمن كذب وأسرف واختار سبيل المفسدين الضالين من عباده, فإنه يخاف بطش الله وعقابه وخسفه وعذابه وإضلاله المسرفين المكذبين {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ
__________
(1) - سورة محمد الآيات (4-6) .
(2) - الآية (24) .
(3) - أخرجه ابن ماجة في سننه باب فيما انكرت الجهيمة حديث (195) .
(4) - الآية (6) .
عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (1) , وقال جل شأنه: {وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً} (2) . ولبعض الشعراء:
بروق الحما أبرقي يا بروق ... عسى اللَه يسقي بك المجدبين
إذا لم تجد يا وسيع العطا ... فمن ذا لأهل الخطا المذنبين
فلا مانع لك على ما تشا ... في الكون يا أقدر القادرين
فلي قلب حائر قليل الهدى ... فبصره يا هادي الحائرين
تفضل بغفران كلّ الذنوب ... نكون جميعاً من الفائزين (3)
دعاء الله باسمه الهادي
يا الله يا هادي نسألك بأسمائك الحسنى وبصفاتك العلا أن تهديني والمؤمنين إلى صراطك المستقيم, وأن تهدي قلوبنا إلى ماتحب وترضاه من فكر وقول وفعل وعمل وأن تجعلنا من عبادك المخلصين, اهدنا يا الله إلى صراط من أنعمت عليهم من النبيين والملائكة والصالحين واصرف عنا الضلال والمضلين واجمعنا والمؤمنين على الهدى والتقى يا أرحم الراحمين, وصلى الله وسلم على محمد الأمين وعلى آله الطاهرين وأصحابه الراشدين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
__________
(1) - سورة الجاثية الآية (23) .
(2) - سورة الكهف الآية (17) .
(3) - هذه الأبيات تنسب لأبي بكر بن عبد الله الشاذلي العيدروس، من آل باعلوى (851-914هـ/1447-1509م) , مبتكر القهوة المتخذة من البن المجلوب من اليمن، كان صالحاً زاهداً، ولد في تريم (بحضرموت) وقام بسياحة طويلة، ورأى البن في اليمن، فاقتات به فأعجبه، فاتخذه قوتاً وشراباً وأرشد أتباعه إليه، فانتشر في اليمن ثم في الحجاز والشام ومصر، ثم في العالم كله، وأقام بعدن 25 سنة وتوفي بها, ولجمال الدين بحرق الحضرمي كتاب فيه سماه (مواهب القدوس في مناقب ابن العيدروس) , له كتاب في علم القوم سماه (الجزء اللطيف في علم التحكيم الشريف) تصوف على طريقة الشاذلية، و (ثلاثة أوراد) ونظم جُمع في (ديوان) .
وفي الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ تَهْدِي بِهَا قَلْبِي وَتَجْمَعُ بِهَا أَمْرِي وَتَلُمُّ بِهَا شَعَثِي وَتُصْلِحُ بِهَا غَائِبِي وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدِي وَتُزَكِّي بِهَا عَمَلِي وَتُلْهِمُنِي بِهَا رُشْدِي وَتَرُدُّ بِهَا أُلْفَتِي وَتَعْصِمُنِي بِهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ اللَّهُمَّ أَعْطِنِي إِيمَانًا وَيَقِينًا لَيْسَ بَعْدَهُ كُفْرٌ وَرَحْمَةً أَنَالُ بِهَا شَرَفَ كَرَامَتِكَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْفَوْزَ فِي الْعَطَاءِ وَنُزُلَ الشُّهَدَاءِ وَعَيْشَ السُّعَدَاءِ وَالنَّصْرَ عَلَى الأَعْدَاءِ اللَّهُمَّ إِنِّي أُنْزِلُ بِكَ حَاجَتِي وَإِنْ قَصُرَ رَأْيِي وَضَعُفَ عَمَلِي افْتَقَرْتُ إِلَى رَحْمَتِكَ فَأَسْأَلُكَ يَا قَاضِيَ الأُمُورِ وَيَا شَافِيَ الصُّدُورِ كَمَا تُجِيرُ بَيْنَ الْبُحُورِ أَنْ تُجِيرَنِي مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ وَمِنْ دَعْوَةِ الثُّبُورِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْقُبُورِ اللَّهُمَّ مَا قَصُرَ عَنْهُ رَأْيِي وَلَمْ تَبْلُغْهُ نِيَّتِي وَلَمْ تَبْلُغْهُ مَسْأَلَتِي مِنْ خَيْرٍ وَعَدْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوْ خَيْرٍ أَنْتَ مُعْطِيهِ أَحَدًا مِنْ عِبَادِكَ فَإِنِّي أَرْغَبُ إِلَيْكَ فِيهِ وَأَسْأَلُكَهُ بِرَحْمَتِكَ رَبَّ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ ذَا الْحَبْلِ الشَّدِيدِ وَالأَمْرِ الرَّشِيدِ أَسْأَلُكَ الأَمْنَ يَوْمَ الْوَعِيدِ وَالْجَنَّةَ يَوْمَ الْخُلُودِ مَعَ الْمُقَرَّبِينَ الشُّهُودِ الرُّكَّعِ السُّجُودِ الْمُوفِينَ بِالْعُهُودِ إِنَّكَ رَحِيمٌ وَدُودٌ وَأَنْتَ تَفْعَلُ مَا تُرِيدُ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا هَادِينَ مُهْتَدِينَ غَيْرَ ضَالِّينَ وَلا مُضِلِّينَ سِلْمًا لأَوْلِيَائِكَ وَعَدُوًّا لأَعْدَائِكَ نُحِبُّ بِحُبِّكَ مَنْ أَحَبَّكَ وَنُعَادِي بِعَدَاوَتِكَ مَنْ خَالَفَكَ اللَّهُمَّ هَذَا الدُّعَاءُ وَعَلَيْكَ الإِجَابَةُ وَهَذَا الْجُهْدُ وَعَلَيْكَ التُّكْلانُ اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي نُورًا فِي قَلْبِي وَنُورًا فِي قَبْرِي وَنُورًا مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَنُورًا مِنْ خَلْفِي وَنُورًا عَنْ يَمِينِي وَنُورًا عَنْ شِمَالِي وَنُورًا مِنْ فَوْقِي وَنُورًا مِنْ تَحْتِي وَنُورًا فِي سَمْعِي وَنُورًا فِي
بَصَرِي وَنُورًا فِي شَعْرِي وَنُورًا فِي بَشَرِي وَنُورًا فِي لَحْمِي وَنُورًا فِي دَمِي وَنُورًا فِي عِظَامِي اللَّهُمَّ أَعْظِمْ لِي نُورًا وَأَعْطِنِي نُورًا وَاجْعَلْ لِي نُورًا سُبْحَانَ الَّذِي تَعَطَّفَ الْعِزَّ وَقَالَ بِهِ سُبْحَانَ الَّذِي لَبِسَ الْمَجْدَ وَتَكَرَّمَ بِهِ سُبْحَانَ الَّذِي لا يَنْبَغِي التَّسْبِيحُ إِلاَّ لَهُ سُبْحَانَ ذِي الْفَضْلِ وَالنِّعَمِ سُبْحَانَ ذِي الْمَجْدِ وَالْكَرَمِ سُبْحَانَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ) (1) .
__________
(1) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء ما يقول إذا قام من الليل للصلاة حديث (3341) .
الطائرات السابحات في الجو هي أقوى سلاح يرهب, وهي أسرع وسيلة لنقل الإنسان وما يحتاج إليه من المنافع, وهي رسل لأهل الشوق يطوفون بها البلدان ويصلون الإخوان ويتذكرون نِعم الرحمن, ويغفر الله لشوقي حيث يقول:
اِجعَلوها رُسلَكُم أَهلَ الهَوى ... تَحمِلُ الأَشواقَ عَنكُم وَالغَراما
وَاِستَعيروها جَناحاً طالَما ... شَغَفَ الصَبَّ وَشاقَ المُستَهاما
يَحمِلُ المُضنى إِلى أَرضِ الهَوى ... يَمَناً حَلَّ هَواهُ أَم شَآما
أما ابن الطيب الشرقي الفاسي (1) فهو يقول:
سافر إلى نَيلِ المَعَزَّ ... ةِ إنَّ في السفَرِ الظفَر
وانفِر لنَيلِ المجدِ فيمَن ... للمعالي قَد نَفَر
فالناسُ إِلفُكَ كلهم ... والأرضُ أجمَعُها مَقَر
فمتَى وجدتَ العزّ ... والعيشَ الهنيَّ أقِم تُبَر
السفر يهدي إلى التعرف على عظمة الصانع جلت قدرته
إن الإنسان حينما يتنقل بين البلدان يرى الأرض الجميلة والجبال الشامخة والبحار الهائجة والطيور السابحة في السماء والحيوانات المختلفة, والثمار اليانعة يهتدى إليه سبحانه وتعالى عن طريق مخلوقاته في هذا الكون ويعَلم أن الله قوي في مخلوقاته حكيم في صناعته ففي هذا الكون في الأرض وفي السماء مظاهر قوته, وأن الله جل وعلا عليم خبير لان في هذا الكون مظاهر علمه وخبرته, فإذا أردت أن تفكر في الكون وصلت إلى الله لأنه صنعته وعند ذلك تصل إلى معرفة الصانع الخالق للكون وتعرف تنظيمه وإحكامه, فترى الحكمة, وترى القدرة, وترى اللطف, وترى العطف, وترى الجمال, وترى الرحمة, فكل مظهر في الكون يدل على اسم من أسماءه أو على كل أسماءه, فكيف هدانا الله؟ الله قال: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} (2) , وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} (3) ,
__________
(1) - محمد بن الطيب محمد بن محمد بن محمد الشرقي الفاسي المالكي، أبو عبد الله, (1110-1170هـ/1698-1756م) , نزيل المدينة المنورة، محدّث، علامة باللغة والأدب, مولده بفاس، ووفاته بالمدينة، وهو شيخ الزبيدي صاحب تاج العروس، والشرقي نسبة إلى (شراقة) على مرحلة من فاس, من كتبه (المسلسلات) في الحديث، و (فيض نشر الانشراح-خ) حاشية على كتاب الاقتراح للسيوطي في النحو، و (إضاءة الراموس-خ) حاشية على قاموس الفيروزأبادي، مجلدان ضخمان، و (موطئة الفصيح لموطأة الفصيح-خ) مجلدان، شرح به (نظم فصيح الثعلب لابن المرحل) ، وشرح (كفاية المتحفظ) وشرح (كافية ابن مالك) ، وشرح (شواهد الكشاف) ، و (حاشية على المطول) ، و (رحلة) .
(2) - سورة يونس الآية (101) .
(3) - سورة الشورى الآية (29) .
وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (1) .
وإذا كان الحق سبحانه وتعالى هدانا بخلقه فالهادي اسم من أسماء أفعاله, وهدانا بكلامه, فالأرض التي خلقها الله والسماء التي رفعها الله وإحكام الصنعة في الخلق تضعك أمام قدرة الله وأمام رحمته وأمام علمه وأمام خبرته, قال تعالى: {اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (2) , وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} (3) , وقال تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (4) .
إذاً فالهادي اسم من أسماء ذاته فالله متكلم والقرآن كلامه, فالكتاب هدىً بياني والكون هدىً استدلالي, غير أن الكون يدل على وجود الله وعظمته وأسماءه ولا يدل على الصلاة والفرائض والواجبات فلا بد أن تهتدي بالكون جزئياً وتهتدي بالقرآن كلياً فهو الذي يعلمك ما افترض الله عليك. (5) {وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (6) .
__________
(1) - سورة الروم الآية (22) .
(2) - سورة الرعد الآية (2) .
(3) - سورة الإسراء الآية (9) .
(4) - سورة البقرة الآيتان (1و2) .
(5) - انظر موسوعة الأسماء الحسنى ج1ص615 وما بعدها.
(6) - سورة يونس الآية (25) .
الهادي من أسماء الله الحسنى
الهادي من أسماء الله الحسنى ورد ذكره في القرآن الكريم: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} (1) , وقال تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (2) .
وفي الموطأ عن عبد الله بن الزبير أنه كان يقول: (إن الله هو الهادي) (3) , وورد عند الترمذي: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) , وعدَّ منها الهادي (4) .
فالهادي هو الذي يهدي ويرشد عباده إلى جميع المنافع, وإلى دفع المضار, ويعلمهم ما لم يعلموا, ويهديهم لهداية التوفيق والتسديد, ويلهمهم التقوى, ويجعل قلوبهم منيبة إليه ومنقادة إلى أمره.
والهداية: هي دلالة بلطف وهداية الله تعالى للإنسان على أربعة أوجه:
الأول: الهداية التي عم بجنسها كل مكلف من العقل، والفطنة، والمعارف الضرورية التي أعم منها كل شيء بقدر فيه حسب احتماله كما قال تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (5) .
الثاني: الهداية التي جعل للناس بدعائه إياهم على ألسنة الأنبياء وإنزال القرآن ونحو ذلك وهو المقصود بقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} (6) .
الثالث: التوفيق الذي يختص به من اهتدى وهو المعني بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} (7) ، وقوله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} ( ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} (9) ، وقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (10) .
الرابع: الهداية في الآخرة إلى الجنة المعنيُّ بقوله: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} (11) , وقوله: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} (12) , وهذه الهدايات الأربع مترتبة فإنَّ من لم تحصل له الأولى لا تحصل الثانية بل لا يصح تكليفه، ومن
__________
(1) - سورة الفرقان الآية (31) .
(2) - سورة الحج الآية (54) .
(3) - موطأ مالك بن أنس, تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي, باب النهي عن القول بالقدر ج5ص1324 حديث (3341) , الناشر: مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان, الطبعة: الاولى 1425هـ2004م.
(4) - سنن الترمذي باب ما جاء في عقد التسبيح باليد حديث (3429) .
(5) - سورة طه الآية (50) .
(6) - سورة السجدة الآية (24) .
(7) - سورة محمد الآية (17) .
( - سورة التغابن الآية (11) .
(9) - سورة يونس الآية (9) .
(10) - سورة العنكبوت الآية (69) .
(11) - سورة محمد الآية (5) .
(12) - سورة الأعراف الآية (43) .
لم تحصل له الثانية لا تحصل له الثالثة والرابعة، ومن حصل له الرابع فقد حصل له الثلاث التي قبلها, ومن حصل له الثالث فقد حصل له اللذان قبله, ثم ينعكس فقد تحصل الأولى ولا يحصل له الثاني ولا يحصل الثالث والإنسان لا يقدر أن يهدي أحداً إلا بالدعاء وتعريف الطرق دون سائر أنواع الهدايات وإلى الثانية أشار بقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (1) , {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} (2) ، {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (3) , أي داع. وإلى سائر الهدايات أشار بقوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ (4) } . (5)
وقال د. محمد راتب النابلسي: كلمة الهادي مأخوذة من فعل هدى والهادي اسم فاعل والله سبحانه وتعالى خلق ثم هدى, وأول بند من بنود الهدى: خلقه {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} (6) , والبند الثاني: اسم من أسماء ذاته لأنه متكلم فالله سبحانه وتعالى يهدي بكلامه, إذاً الهادي اسم من أسماء ذاته. (7)
قلتُ: كلام النابلسي فيه تحقيق, فالله جل وعلا هدى الإنسان بخلقه, قال جل شانه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي
__________
(1) - سورة الشورى الآية (52) .
(2) - سورة السجدة الآية (24) .
(3) - سورة الرعد الآية (7) .
(4) - سورة القصص الآية (56) .
(5) - انظر: شرح أسماء الله الحسنى للقحطاني ص133-135.
(6) - سورة الروم الآية (20) .
(7) - موسوعة أسماء الله الحسنى ج2ص618-619.
أَخْرَجَ الْمَرْعَى} (1) , وقال سبحانه: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} (2) , وقال جل وعلا: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ} (3) .
ففي هذه الآيات دلالة واضحة أن الله هداك بالكون الذي خلقه وأودع فيه من الآيات ما يدلك على وجود الله وعلى أسمائه, فإذا أردت أن تؤمن ففكر في الكون فإذا فكرت في الكون عرفت صانعه, وفي قصة إيمان الفتية الذين آووا إلى الكهف التي يؤكد القرآن الكريم حقيقة إيمانهم بوصف يدل على رجحان عقولهم وصحة معتقدهم وإكرام الله لهم بزيادة هدايتهم: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} (4) .
إذا تبين لك ذلك عرفت أن الهادي اسم من أسماء أفعاله, وأنه يهدي من يشاء إلى التفكر في خلق السماوات والأرض وأن الله وحده هو الصانع لهذا الكون الخالق المبدع وحده لا شريك له, وأنه سبحانه وتعالى يهدي من يشاء بالقرآن قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (5) , وقال سبحانه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (6) .
__________
(1) - سورة الأعلى الآيات (1-4) .
(2) - سورة الطارق الآيات (5- .
(3) - سورة الأنعام الآية (1) .
(4) - سورة الآيتان الآية (13و14) .
(5) - سورة الإسراء الآية (9) .
(6) - سورة البقرة الآية (2) .
وهذا يدل أن الهادي اسم من أسماء ذاته, فالله جل وعلا هدى بكلامه, فهو يهدي بكلامه من يشاء إلى صراط مستقيم, وبهذا يتضح أن الهادي اسم من أسماء ذاته فهو يهدي من يشاء بكلامه وبأفعاله وبالإلهام وبالفطرة, هداك لطعامك ولشرابك وللعمل وللتعلم وللتفكر, وهداك للإيمان به وإلى كل خير فهو الذي أعطى الإنسان كل شيء خلقه ثم هدى, وهو الذي هدى بالوحي, وهدى إلى التوفيق, وهدى إلى الجنة, وبين طرق الخير والشر فقال سبحانه وتعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (1) , وقال جل شأنه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} (2) , وبالتقوى تتحقق كل مفاهيم الهداية ومقوماتها للإنسان فيهتدي إلى ربه ويسعد إلى الأبد.
ثمرة معرفة اسم الله الهادي
إذا عرف المكلف أن الله تعالى وحده الذي خلقه, وانه الذي رزقه, وخلق له ما في الأرض من خير وبر, قال تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} (3) , وأنه سبحانه الذي يهديه لعمل الخير ويثيبه ويوفقه ويرشده ويثبته على الإيمان ويسدده, وإن قُتِل في سبيل الله أو مات على الإيمان ممتثلاً لأوامر الرحمن فسيحرسه الله ويحفظه ويثيبه ولن
__________
(1) - سورة البلد الآية (10) .
(2) - سورة الإنسان الآية (3) .
(3) - سورة عبس الآيات (24-31) .
يضله ويبعده, قال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} (1) .
فإذا عرف الإنسان المكلف ذلك وجب عليه أن يؤمن بأن الله هو الهادي الذي خلقه وهداه, ورزقه وأعطاه, وأنه يهدي من يشاء برحمته وفضله, ويضل من يشاء بحكمته وعدله, فهو الذي يحول بين المرء وقلبه, وفي سورة الأنفال يقول جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (2) , ومن مِثل هذا يخاف الرجل العليم والمؤمن الكريم الذي علم أن الله هو الهادي, فإذا آمن بالله وأنه الهادي وحده لا شريك له عند ذلك يكون المؤمن محباً لله الذي أكرمه وهداه وعافاه وجنبه الشقاء والضلال فهو يدعو كما كان يدعو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه: (يَا مُثَبِّتَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ) (3) , ويدعو الله في كل صلواته بعد حمد الله والثناء عليه وإفراده سبحانه بالعبادة وطلب العون فهو يقرأ في سورة الفاتحة: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} (4) .
ومعلوم أن من عرف بأن الله هو الهادي لخلقه المضل لمن كذب وأسرف واختار سبيل المفسدين الضالين من عباده, فإنه يخاف بطش الله وعقابه وخسفه وعذابه وإضلاله المسرفين المكذبين {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ
__________
(1) - سورة محمد الآيات (4-6) .
(2) - الآية (24) .
(3) - أخرجه ابن ماجة في سننه باب فيما انكرت الجهيمة حديث (195) .
(4) - الآية (6) .
عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (1) , وقال جل شأنه: {وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً} (2) . ولبعض الشعراء:
بروق الحما أبرقي يا بروق ... عسى اللَه يسقي بك المجدبين
إذا لم تجد يا وسيع العطا ... فمن ذا لأهل الخطا المذنبين
فلا مانع لك على ما تشا ... في الكون يا أقدر القادرين
فلي قلب حائر قليل الهدى ... فبصره يا هادي الحائرين
تفضل بغفران كلّ الذنوب ... نكون جميعاً من الفائزين (3)
دعاء الله باسمه الهادي
يا الله يا هادي نسألك بأسمائك الحسنى وبصفاتك العلا أن تهديني والمؤمنين إلى صراطك المستقيم, وأن تهدي قلوبنا إلى ماتحب وترضاه من فكر وقول وفعل وعمل وأن تجعلنا من عبادك المخلصين, اهدنا يا الله إلى صراط من أنعمت عليهم من النبيين والملائكة والصالحين واصرف عنا الضلال والمضلين واجمعنا والمؤمنين على الهدى والتقى يا أرحم الراحمين, وصلى الله وسلم على محمد الأمين وعلى آله الطاهرين وأصحابه الراشدين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
__________
(1) - سورة الجاثية الآية (23) .
(2) - سورة الكهف الآية (17) .
(3) - هذه الأبيات تنسب لأبي بكر بن عبد الله الشاذلي العيدروس، من آل باعلوى (851-914هـ/1447-1509م) , مبتكر القهوة المتخذة من البن المجلوب من اليمن، كان صالحاً زاهداً، ولد في تريم (بحضرموت) وقام بسياحة طويلة، ورأى البن في اليمن، فاقتات به فأعجبه، فاتخذه قوتاً وشراباً وأرشد أتباعه إليه، فانتشر في اليمن ثم في الحجاز والشام ومصر، ثم في العالم كله، وأقام بعدن 25 سنة وتوفي بها, ولجمال الدين بحرق الحضرمي كتاب فيه سماه (مواهب القدوس في مناقب ابن العيدروس) , له كتاب في علم القوم سماه (الجزء اللطيف في علم التحكيم الشريف) تصوف على طريقة الشاذلية، و (ثلاثة أوراد) ونظم جُمع في (ديوان) .
وفي الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ تَهْدِي بِهَا قَلْبِي وَتَجْمَعُ بِهَا أَمْرِي وَتَلُمُّ بِهَا شَعَثِي وَتُصْلِحُ بِهَا غَائِبِي وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدِي وَتُزَكِّي بِهَا عَمَلِي وَتُلْهِمُنِي بِهَا رُشْدِي وَتَرُدُّ بِهَا أُلْفَتِي وَتَعْصِمُنِي بِهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ اللَّهُمَّ أَعْطِنِي إِيمَانًا وَيَقِينًا لَيْسَ بَعْدَهُ كُفْرٌ وَرَحْمَةً أَنَالُ بِهَا شَرَفَ كَرَامَتِكَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْفَوْزَ فِي الْعَطَاءِ وَنُزُلَ الشُّهَدَاءِ وَعَيْشَ السُّعَدَاءِ وَالنَّصْرَ عَلَى الأَعْدَاءِ اللَّهُمَّ إِنِّي أُنْزِلُ بِكَ حَاجَتِي وَإِنْ قَصُرَ رَأْيِي وَضَعُفَ عَمَلِي افْتَقَرْتُ إِلَى رَحْمَتِكَ فَأَسْأَلُكَ يَا قَاضِيَ الأُمُورِ وَيَا شَافِيَ الصُّدُورِ كَمَا تُجِيرُ بَيْنَ الْبُحُورِ أَنْ تُجِيرَنِي مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ وَمِنْ دَعْوَةِ الثُّبُورِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْقُبُورِ اللَّهُمَّ مَا قَصُرَ عَنْهُ رَأْيِي وَلَمْ تَبْلُغْهُ نِيَّتِي وَلَمْ تَبْلُغْهُ مَسْأَلَتِي مِنْ خَيْرٍ وَعَدْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوْ خَيْرٍ أَنْتَ مُعْطِيهِ أَحَدًا مِنْ عِبَادِكَ فَإِنِّي أَرْغَبُ إِلَيْكَ فِيهِ وَأَسْأَلُكَهُ بِرَحْمَتِكَ رَبَّ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ ذَا الْحَبْلِ الشَّدِيدِ وَالأَمْرِ الرَّشِيدِ أَسْأَلُكَ الأَمْنَ يَوْمَ الْوَعِيدِ وَالْجَنَّةَ يَوْمَ الْخُلُودِ مَعَ الْمُقَرَّبِينَ الشُّهُودِ الرُّكَّعِ السُّجُودِ الْمُوفِينَ بِالْعُهُودِ إِنَّكَ رَحِيمٌ وَدُودٌ وَأَنْتَ تَفْعَلُ مَا تُرِيدُ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا هَادِينَ مُهْتَدِينَ غَيْرَ ضَالِّينَ وَلا مُضِلِّينَ سِلْمًا لأَوْلِيَائِكَ وَعَدُوًّا لأَعْدَائِكَ نُحِبُّ بِحُبِّكَ مَنْ أَحَبَّكَ وَنُعَادِي بِعَدَاوَتِكَ مَنْ خَالَفَكَ اللَّهُمَّ هَذَا الدُّعَاءُ وَعَلَيْكَ الإِجَابَةُ وَهَذَا الْجُهْدُ وَعَلَيْكَ التُّكْلانُ اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي نُورًا فِي قَلْبِي وَنُورًا فِي قَبْرِي وَنُورًا مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَنُورًا مِنْ خَلْفِي وَنُورًا عَنْ يَمِينِي وَنُورًا عَنْ شِمَالِي وَنُورًا مِنْ فَوْقِي وَنُورًا مِنْ تَحْتِي وَنُورًا فِي سَمْعِي وَنُورًا فِي
بَصَرِي وَنُورًا فِي شَعْرِي وَنُورًا فِي بَشَرِي وَنُورًا فِي لَحْمِي وَنُورًا فِي دَمِي وَنُورًا فِي عِظَامِي اللَّهُمَّ أَعْظِمْ لِي نُورًا وَأَعْطِنِي نُورًا وَاجْعَلْ لِي نُورًا سُبْحَانَ الَّذِي تَعَطَّفَ الْعِزَّ وَقَالَ بِهِ سُبْحَانَ الَّذِي لَبِسَ الْمَجْدَ وَتَكَرَّمَ بِهِ سُبْحَانَ الَّذِي لا يَنْبَغِي التَّسْبِيحُ إِلاَّ لَهُ سُبْحَانَ ذِي الْفَضْلِ وَالنِّعَمِ سُبْحَانَ ذِي الْمَجْدِ وَالْكَرَمِ سُبْحَانَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ) (1) .
__________
(1) - أخرجه الترمذي في سننه باب ما جاء ما يقول إذا قام من الليل للصلاة حديث (3341) .
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى