فقه أحمد بن حنبل (الكافي في فقه الإمام أحمد )
صفحة 2 من اصل 2
صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
فقه أحمد بن حنبل (الكافي في فقه الإمام أحمد )
تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
اسمه ومولده :
ــ هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني ، أصله من البصرة ، ولد عام ( 164 ) هـ ، في بغداد وتوفي والده وهو صغير ، فنشأ يتيماً ، وتولَّت رعايته أمه .
وقفة : اليتيم قد يكون ناجـحـاً في حياته :
ــ نشأ الإمام أحمد ــ رحمه الله ــ في طلب العلم ، وبدأ في طلب الحديث وعمرهُ خمس عشرة سنة ، ورحل للعلم وعمرهُ عشرون سنة ، والـتقى بعدد من العلماء منهم : الشافعي في مكة ، ويحيى القطَّان ، ويزيد بن هارون في البصرة .
ورحل من العراق إلى اليمن مع يحيى بن مُعين ، فلمَّا وصلا إلى مكة وجدا عبد الرزاق الصنعاني أحد العلماء في اليمن ، فقال يحيى بن معين يا إمام يا أحمد : نحنُ الآن وجدنا الإمام ، ليس هناك ضرورة في أن نذهب إلى اليمن ، فقال الإمام أحمد : أنا نويت أن أُسافر إلى اليمن ، ثم رجع عبد الرزاق إلى اليمن ولَحِقـا به إلى اليمن ، وبَقِيَ الإمام أحمد في اليمن عشرة أشهر ، ثم رجع مشياً على الأقدام إلى العراق .
فلمَّا رجع رأوا عليه آثار التعب والسفر فقالوا له : ما الذي أصابك ؟ فقال الإمام أحمد : يهون هذا فيما استفدنا من عبد الرزاق .
* مِنْ عُلوا الهمَّـة عند الإمام أحمد وهو صغير ، يقول : ربما أردتُ الذهاب مبكراً في طلب الحديث قبل صلاة الفجر ، فتأخذ أمي بثوبي وتقول : حتى يؤذِّن المؤذِّن .
ثـناء العلمـاء على الإمـام أحمـد :
* قال عبد الرزاق شيخ الإمام أحمد : ما رأيت أحداً أفْـقَـه ولا أوْرع من أحمد.
* قالوا : إذا رأيتَ الرجل يحبُ الإمام أحمد فاعلم أنَّـه صاحب سنة .
* قال الشافعي وهو من شيوخ الإمام أحمد : خرجتُ من بغداد فما خلَّفتُ بها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفْـقَـه من أحمد بن حنبل.
* قال يحيى بن معين : أراد الناس أن يكونوا مثـل أحمد بن حنبل ! لا والله ، ما نقوى على ما يقوى عليه أحمد ، ولا على طريقة أحمد .
* كان الإمام أحمد يحفظ ( ألف ألف ) حديث ، يعني ( مليون ) حديث . أي مجموع الروايات والأسانيد والطرق للأحاديث .
* مِنْ حِفْـظِ الإمام أحمد للحديث كان يقول لابنـه : اقرأ عليَّ الحديث وأُخبركُ بالسند ، أو اقرأ عليَّ الإسناد لأخبرك بالحديث .
عِفَّـة الإمـام أحمـد :
* لمَّا رحل لطلب العلم لم يكن لديه مال ، فـكان يحمل البضائع على الجمال وعلى الحمير فيأخذ من هذا درهم ومن هذا درهم ، فيعيش بهذه الدراهم ، وفي الصباح يطلب العلم حتى يستغني عن سؤال الناس ، ( عِـفَّـة وطلب علم ) .
كان الإمـام أحمد يكره الشُهرة والثناء :
* دخل عليه عمُّـهُ وكان الإمام أحمد حزين ، فقال عمُّـهُ : ماذا بك ؟ فقال الإمام أحمد : طُوبى لِمَنْ أخْمَلَ الله ذكره ، ( يعني من لم يكن مشهوراً ، ولا يعلم به إلاَّ اللـه ) .
* وقال أيضاً : أريدُ أنْ أكونَ في شِعْبِ مكـة حتى لا أُعْـرَفْ .
* وكان إذا أراد أنْ يمشي يكره أن يتبعه أحدٌ من الناس .
العمل بالعلم :
* قال الإمام أحمد ما كتبتُ حديثـاً إلاَّ وقد عملتُ بـه , حتى أنَّ النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ احْـتَـجَـمَ وأعطى الحجَّامَ أجره ، فاحْـتَـجَـمَ الإمام أحمد وأعطى الحجَّام أجره .
أخلاق الإمـام أحمـد وآدابه :
* كان يحضر مجلس الإمام أحمد خمسة آلاف طالب ، ( 500 ) كانوا يكـتبون العلم ، والبقية ينظرون إلى أدبه وأخلاقه وسَمْتِـهِ .
* قال يحيى بن معين : ما رأيتُ مثـل أحمد ، صحبناه خمسين سنة فما افـتخر علينا بشيء ممَّا كان فيه من الخير .
* كان الإمام أحمد مائلاً إلى الفقـراء ، وكان فيه حِلْمْ ، ولم يكن بالعجول ، وكان كثير التواضع ، وكانت تعلوه السكينة والوقار .
* قال رجل للإمام أحمد : جزاك الله عن الإسلام خيراً ، فقال الإمام أحمد : بل جزى الله الإسلام عني خيراً ، مَنْ أنا ؟ وما أنا ؟
* كان الإمام أحمد شديد الحياء ، وأكرم الناس ، وأحسنهم عِشْرةً وأدباً ، لمْ يُسمع عنه إلاَّ المُذاكرة للحديث ، وذِكْر الصالحين ، وكان عليه وقارٌ وسكينة ، ولفْـظٌ حَسَنْ .
عبادة الإمـام أحمـد بن حنبل :
* كان يُصلِّي في اليوم والليلة ( 300 ) ركعـة ، فلمَّا سُجِنَ وضُرِبْ أصْـبَحَ لا يستطيع أنْ يُصلِّي إلاَّ ( 150 ) ركعة فـقـط .
* كان يَـخْـتِمُ القرآن كُلَّ أُسبوع .
* قال أحدُهُمْ : كُنْتُ أعرفُ أحمد بن حنبل وهو غُـلام كان يُحيي الليل بالصلاة .
* كان مِنْ عِبادته وزُهده وخوفه ، إذا ذَكَـرَ الموت خَـنَـقَـتْـهُ العَبْرة .
* كان يقول : الخوف يمنعني الطعام والشراب ، وإذا ذكرتُ الموت هانَ عليَّ كُلُّ أمْـرِ الدنيا .
* كان يصوم الإثـنين والخميس والأيام البيض ، فلمَّا رَجَعَ مِنْ السجن مُجْهَداً أَدْمَنَ الصيام حتى مات .
* حَجَّ على قَدَميـه مرتين .
* في مَرَضِ الموت بَالَ دَمَـاً كثيراً ، فقال الطبيب المُشْرف عليه : هذا رجُـلٌ قد فَـتَّتَ الخوف قلبـه .
أخبـار منوعـة في سيـرته :
* قابل الإمام أحمد بن حنبل أحدْ أبناء الإمام الشافعي فقال الإمام أحمد لابن الشافعي : أبُوكَ مِنَ السِّـتة الذينَ أدْعُـوا لهم في السَّحَـرْ .
* قيل للإمام أحمد :
كَمْ يكْفي الرجل حتى يُـفْـتِي ؟ مئـة ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد : لا .
قال السائل : مائـتين ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد : لا .
قال السائل : ثـلاثمائـة ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد : لا .
قال السائل : أربعمائـة ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد : لا .
قال السائل : خمسمائـة ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد : أَرْجُـوا .
حياته الزوجية :
تزوَّجَ وعُمْـرهُ أربعون سنة ، يقول عن زوجـتـه : مكـثـنا عِشرينَ سنة ما اختلفنا في كلمةٍ واحدة .
الفتنة التي تعرَّضَ لها الإمـام أحمـد :
لمَّا دعا المأمون الناس إلى القول بخلق القرآن ، أجابه أكثر العلماء والقضاة مُكْرهين ، واستمر الإمام أحمد ونفرٌ قليل على حمل راية السنة ، والدفاع عن معتقد أهل السنة والجماعة .
قال أبو جعفر الأنباري : لمَّا حُمِلَ الإمام أحمد بن حنبل إلى المأمون أُخْبِرتُ فعبرتُ الفُرات ، فإذا هو جالس في الخان ، فسلمتُ عليه ، فقال : يا أبا جعفر تعنَّيْت ؟ فقلتُ : ليس هذا عناء .
وقلتُ له : يا هذا أنت اليوم رأس الناس ، والناس يقتدون بكم ، فو الله لئن أجبتَ ليُجيبُنَّ بإجابتك خلقٌ كثير من خلقِ الله تعالى ، وإنْ أنتَ لم تُجِبْ ليمتنِعُنَّ خلقٌ مِنَ الناس كثير ، ومع هذا فإنَّ الرجل إنْ لم يقتلك فإنَّك تموت ، ولابدَّ مِنْ الموت ، فاتَّـقِ الله ولا تُجيبهم إلى شيء .
فجعل أحمد يبكي ويقول : ما شاء الله ، ما شاء الله . ثم سار أحمد إلى المأمون فبلغه توعد الخليفة له بالقتل إنْ لم يُجبه إلى القول بخلقِ القرآن ، فـتوجه الإمام أحمد بالدعاء إلى الله تعالى أنْ لا يجمع بـيـنه وبين الخليفة ، فبينما هو في الطريق قبل وصوله إلى الخليفة إذ جاءه الخبر بموت المأمون ، فَرُدَّ الإمام أحمد إلى بغداد وحُبِس ، ثم تولَّى الخلافة المعتصم ، فامتحن الإمام أحمد .
وكان مِنْ خبر المحنـة أنَّ المعتصم لمَّا قصد إحضار الإمام أحمد ازدحم الناس على بابه كيوم العيد ، وبُسِطَ بمجلسه بساطاً ، ونُصِبَ كرسيـاً جلس عليه ، ثم قال : أحضروا أحمد بن حنبل ، فأحضروه ، فلمَّا وقف بين يديه سَلَّمَ عليه ، فقال له : يا أحمد تكلم ولا تَـخَـفْ ، فقال الإمام أحمد : والله لقد دخلتُ عليك وما في قلبي مثـقال حـبَّـةٍ من الفزع ، فقال له المعتصم : ما تقول في القرآن ؟
فقال : كلام الله قديم غير مخلوق ، قال الله تعالى : { وَإنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ } [ التوبة : 6 ].
فقال له : عندك حجة غير هذا ؟ فقال : نعم ، قول الله تعالى : { الرَّحْمَنْ * عَلَّمَ القُرْآنْ }. [ الرحمن : 1 ، 2 ] ، ولم يقـل : الرحمن خلق القرآن ، وقوله تعالى : { يس * والقُـرْآنِ الْحَكِيم } [ يس : 1 ، 2 ] ، ولم يقـل : يس والقرآن المخلوق .
فقال المعتصم : احبسوه ، فحُبِسَ وتفرَّقَ الناس .
فلمَّا كان مِنَ الغد جلس المعتصم مجلسه على كرسيه وقال : هاتوا أحمد بن حنبل ، فاجتمع الناس ، وسُمعت لهم ضجة في بغداد ، فلمَّا جيء به وقف بين يديه والسيوف قد جُردت ، والرماح قد ركزت ، والأتراس قد نُصبت ، والسياط قد طرحت ، فسأله المعتصم عمَّا يقول في القرآن ؟
قال : أقول : غير مخلوق .
وأحضر المعتصم له الفقهاء والقضاة فناظروه بحضرته في مدة ثلاثة أيام ، وهو يناظرهم ويظهر عليهم بالحُجج القاطعة ، ويقول : أنا رجـل عَلِمتُ علماً ولم أعلم فيه بهذا ، أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله ــ صلى الله عليه وسلم ــ حتى أقول به .
وكلما ناظروه وألزموه القول بخلق القرآن يقول لهم : كيف أقول ما لم يُقـل ؟ فقال المعتصم : قهرنا أحمد .
وكان من المتعصبين عليه محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم ، وأحمد بن دُوَاد القاضي ، وبشر المريسي ، وكانوا معتزلة قالوا بخلق القرآن ، فقال ابن دُوَاد وبشر للخليفة : اقـتله حتى نستريح منه ، هذا كافر مُضِـل .
فقال : إني عاهدتُ الله ألا أقـتله بسيف ولا آمر بقـتله بسيف ، فقالا له : اضربه بالسياط ، فقال المعتصم له : وقرابتي من رسول الله ــ صلَّى الله عليه وسلم ــ لأضربنَّك بالسياط أو تقول كما أقول ، فلم يُرهبه ذلك ، فقال المعتصم: أحضروا الجلادين ، فقال المعتصم لواحد منهم : بكم سوطٍ تـقـتله ؟
قال : بعشرة ، قال : خذه إليك ، فأُخْرِجَ الإمام أحمد من أثوابه ، وشُدَّ في يديه حبلان جديدان ، ولمَّا جيء بالسياط فنظر إليها المعتصم قال : ائـتوني بغيرها ، ثم قال للجلادين : تقدموا ، فلمَّا ضُرِبَ سوطاً..
قال : بسم الله ، فلمَّا ضُرِبَ الثاني قال : لا حول ولا قوةً إلاَّ بالله ، فلمَّا ضُرِبَ الثالث قال : القرآن كلام الله غير مخلوق ، فلمَّا ضُرِبَ الرابع قال : { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا } [ التوبة : 51 ] .
وجعل الرجل يتقدَّم إلى الإمام أحمد فيضربه سوطين ، فيحرضه المعتصم على التشديد في الضرب ، ثم يـتنحَّى ، ثم يتقدَّم الآخر فيضربه سوطين ، فلمَّا ضُرِبَ تسعة عشر سوطاً قام إليه المعتصم فقال له : يا أحمد علام تقتـل نفسك ؟ إني والله عليك لشفيق .
قال أحمد : فجعل عجيف ينخسني بقائمة سيفه وقال : تريد أنْ تغلب هؤلاء كلهم ؟ وجعل بعضهم يقول : ويلك ! الخليفة على رأسك قائم ، وقال بعضهم : يا أمير المؤمنين دمه في عنقي اقـتله ، وجعلوا يقولون : يا أمير المؤمنين : إنه صائم وأنت في الشمس قائم ، فقال لي : ويحك يا أحمد ما تقول ؟ فأقول : أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله ــ صلَّى الله عليه وسلم ــ حتى أقول به.
ثم رجع الخليفة فجلس ثم قال للجلاد : تقدمَّ ، وحَرَّضه على إيجاعه بالضرب .
قال الإمام أحمد : فذهب عقلي ، فأفقت بعد ذلك ، فإذا الأقياد قد أُطلِقت عنِّي ، فأتوني بسويق فقالوا لي : اشرب وتـقيأ ، فقلت : لستُ أُفطر ، ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم ، فحضرتُ صلاة الظهر ، فـتقدَّم ابن سماعة فصلى ، فلمَّا انفـتل من الصلاة قال لي : صليتَ والدمُ يسيل في ثوبك ، فقلت له : قد صلَّى عمر ــ رضي الله عنه ــ وجرحه يسيل دمـاً .
ولمَّا ولِّيَ الواثق بعد المعتصم ، لم يتعرض للإمام أحمد بن حنبل في شيء إلاَّ أنَّـه بعث عليه يقول : لا تساكنِّي بأرضٍ ، وقيل : أمره أنْ لا يخرج من بيتـه ، فصار الإمام أحمد يختفي في الأماكن ، ثم صار إلى منزله فاختـفى فيه عدة أشهر إلى أنْ مات الواثق .
وبعد ذلك تولَّى الخلافة المتوكل بعد الواثق ، فقد خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقاد ، وطعن عليهم فيما كانوا يقولونه من خلق القرآن ، ونهى عن الجدال والمناظرة في الأداء ، وعاقب عليه ، وأمر بإظهار الرواية للحديث ، فأظهر الله به السُـنَّـة ، وأمات به البدعة ، وكشف عن الخلق تلك الغُمَّـة ، وأنار به تلك الظُلمة ، وأطلق من كان اعـتُـقِـلَ بسبب القول بخلق القرآن ، ورفع المحنـة عن الناس .
* قال أحد الجلادين بعد أن تاب : لقد ضربت الإمام أحمد ( 80 ) جلدة ، لو ضربـتُها في فيل لسقـط .
فَرَحِمَ اللهُ هذا الإمام الجليل أحمد بن حنبل ، الذي ابتُـليَ بالضرَّاء فصبر ، وبالسرَّاء فشكر ، ووقف هذا الموقف الإيماني كأنـه جبلٌ شامخ ، تـتكسَّرُ عليه المِحَنْ ، وضَرَبَ لنا مثـلاً في الثبات علـى الحـق ...
اسمه ومولده :
ــ هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني ، أصله من البصرة ، ولد عام ( 164 ) هـ ، في بغداد وتوفي والده وهو صغير ، فنشأ يتيماً ، وتولَّت رعايته أمه .
وقفة : اليتيم قد يكون ناجـحـاً في حياته :
ــ نشأ الإمام أحمد ــ رحمه الله ــ في طلب العلم ، وبدأ في طلب الحديث وعمرهُ خمس عشرة سنة ، ورحل للعلم وعمرهُ عشرون سنة ، والـتقى بعدد من العلماء منهم : الشافعي في مكة ، ويحيى القطَّان ، ويزيد بن هارون في البصرة .
ورحل من العراق إلى اليمن مع يحيى بن مُعين ، فلمَّا وصلا إلى مكة وجدا عبد الرزاق الصنعاني أحد العلماء في اليمن ، فقال يحيى بن معين يا إمام يا أحمد : نحنُ الآن وجدنا الإمام ، ليس هناك ضرورة في أن نذهب إلى اليمن ، فقال الإمام أحمد : أنا نويت أن أُسافر إلى اليمن ، ثم رجع عبد الرزاق إلى اليمن ولَحِقـا به إلى اليمن ، وبَقِيَ الإمام أحمد في اليمن عشرة أشهر ، ثم رجع مشياً على الأقدام إلى العراق .
فلمَّا رجع رأوا عليه آثار التعب والسفر فقالوا له : ما الذي أصابك ؟ فقال الإمام أحمد : يهون هذا فيما استفدنا من عبد الرزاق .
* مِنْ عُلوا الهمَّـة عند الإمام أحمد وهو صغير ، يقول : ربما أردتُ الذهاب مبكراً في طلب الحديث قبل صلاة الفجر ، فتأخذ أمي بثوبي وتقول : حتى يؤذِّن المؤذِّن .
ثـناء العلمـاء على الإمـام أحمـد :
* قال عبد الرزاق شيخ الإمام أحمد : ما رأيت أحداً أفْـقَـه ولا أوْرع من أحمد.
* قالوا : إذا رأيتَ الرجل يحبُ الإمام أحمد فاعلم أنَّـه صاحب سنة .
* قال الشافعي وهو من شيوخ الإمام أحمد : خرجتُ من بغداد فما خلَّفتُ بها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفْـقَـه من أحمد بن حنبل.
* قال يحيى بن معين : أراد الناس أن يكونوا مثـل أحمد بن حنبل ! لا والله ، ما نقوى على ما يقوى عليه أحمد ، ولا على طريقة أحمد .
* كان الإمام أحمد يحفظ ( ألف ألف ) حديث ، يعني ( مليون ) حديث . أي مجموع الروايات والأسانيد والطرق للأحاديث .
* مِنْ حِفْـظِ الإمام أحمد للحديث كان يقول لابنـه : اقرأ عليَّ الحديث وأُخبركُ بالسند ، أو اقرأ عليَّ الإسناد لأخبرك بالحديث .
عِفَّـة الإمـام أحمـد :
* لمَّا رحل لطلب العلم لم يكن لديه مال ، فـكان يحمل البضائع على الجمال وعلى الحمير فيأخذ من هذا درهم ومن هذا درهم ، فيعيش بهذه الدراهم ، وفي الصباح يطلب العلم حتى يستغني عن سؤال الناس ، ( عِـفَّـة وطلب علم ) .
كان الإمـام أحمد يكره الشُهرة والثناء :
* دخل عليه عمُّـهُ وكان الإمام أحمد حزين ، فقال عمُّـهُ : ماذا بك ؟ فقال الإمام أحمد : طُوبى لِمَنْ أخْمَلَ الله ذكره ، ( يعني من لم يكن مشهوراً ، ولا يعلم به إلاَّ اللـه ) .
* وقال أيضاً : أريدُ أنْ أكونَ في شِعْبِ مكـة حتى لا أُعْـرَفْ .
* وكان إذا أراد أنْ يمشي يكره أن يتبعه أحدٌ من الناس .
العمل بالعلم :
* قال الإمام أحمد ما كتبتُ حديثـاً إلاَّ وقد عملتُ بـه , حتى أنَّ النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ احْـتَـجَـمَ وأعطى الحجَّامَ أجره ، فاحْـتَـجَـمَ الإمام أحمد وأعطى الحجَّام أجره .
أخلاق الإمـام أحمـد وآدابه :
* كان يحضر مجلس الإمام أحمد خمسة آلاف طالب ، ( 500 ) كانوا يكـتبون العلم ، والبقية ينظرون إلى أدبه وأخلاقه وسَمْتِـهِ .
* قال يحيى بن معين : ما رأيتُ مثـل أحمد ، صحبناه خمسين سنة فما افـتخر علينا بشيء ممَّا كان فيه من الخير .
* كان الإمام أحمد مائلاً إلى الفقـراء ، وكان فيه حِلْمْ ، ولم يكن بالعجول ، وكان كثير التواضع ، وكانت تعلوه السكينة والوقار .
* قال رجل للإمام أحمد : جزاك الله عن الإسلام خيراً ، فقال الإمام أحمد : بل جزى الله الإسلام عني خيراً ، مَنْ أنا ؟ وما أنا ؟
* كان الإمام أحمد شديد الحياء ، وأكرم الناس ، وأحسنهم عِشْرةً وأدباً ، لمْ يُسمع عنه إلاَّ المُذاكرة للحديث ، وذِكْر الصالحين ، وكان عليه وقارٌ وسكينة ، ولفْـظٌ حَسَنْ .
عبادة الإمـام أحمـد بن حنبل :
* كان يُصلِّي في اليوم والليلة ( 300 ) ركعـة ، فلمَّا سُجِنَ وضُرِبْ أصْـبَحَ لا يستطيع أنْ يُصلِّي إلاَّ ( 150 ) ركعة فـقـط .
* كان يَـخْـتِمُ القرآن كُلَّ أُسبوع .
* قال أحدُهُمْ : كُنْتُ أعرفُ أحمد بن حنبل وهو غُـلام كان يُحيي الليل بالصلاة .
* كان مِنْ عِبادته وزُهده وخوفه ، إذا ذَكَـرَ الموت خَـنَـقَـتْـهُ العَبْرة .
* كان يقول : الخوف يمنعني الطعام والشراب ، وإذا ذكرتُ الموت هانَ عليَّ كُلُّ أمْـرِ الدنيا .
* كان يصوم الإثـنين والخميس والأيام البيض ، فلمَّا رَجَعَ مِنْ السجن مُجْهَداً أَدْمَنَ الصيام حتى مات .
* حَجَّ على قَدَميـه مرتين .
* في مَرَضِ الموت بَالَ دَمَـاً كثيراً ، فقال الطبيب المُشْرف عليه : هذا رجُـلٌ قد فَـتَّتَ الخوف قلبـه .
أخبـار منوعـة في سيـرته :
* قابل الإمام أحمد بن حنبل أحدْ أبناء الإمام الشافعي فقال الإمام أحمد لابن الشافعي : أبُوكَ مِنَ السِّـتة الذينَ أدْعُـوا لهم في السَّحَـرْ .
* قيل للإمام أحمد :
كَمْ يكْفي الرجل حتى يُـفْـتِي ؟ مئـة ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد : لا .
قال السائل : مائـتين ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد : لا .
قال السائل : ثـلاثمائـة ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد : لا .
قال السائل : أربعمائـة ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد : لا .
قال السائل : خمسمائـة ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد : أَرْجُـوا .
حياته الزوجية :
تزوَّجَ وعُمْـرهُ أربعون سنة ، يقول عن زوجـتـه : مكـثـنا عِشرينَ سنة ما اختلفنا في كلمةٍ واحدة .
الفتنة التي تعرَّضَ لها الإمـام أحمـد :
لمَّا دعا المأمون الناس إلى القول بخلق القرآن ، أجابه أكثر العلماء والقضاة مُكْرهين ، واستمر الإمام أحمد ونفرٌ قليل على حمل راية السنة ، والدفاع عن معتقد أهل السنة والجماعة .
قال أبو جعفر الأنباري : لمَّا حُمِلَ الإمام أحمد بن حنبل إلى المأمون أُخْبِرتُ فعبرتُ الفُرات ، فإذا هو جالس في الخان ، فسلمتُ عليه ، فقال : يا أبا جعفر تعنَّيْت ؟ فقلتُ : ليس هذا عناء .
وقلتُ له : يا هذا أنت اليوم رأس الناس ، والناس يقتدون بكم ، فو الله لئن أجبتَ ليُجيبُنَّ بإجابتك خلقٌ كثير من خلقِ الله تعالى ، وإنْ أنتَ لم تُجِبْ ليمتنِعُنَّ خلقٌ مِنَ الناس كثير ، ومع هذا فإنَّ الرجل إنْ لم يقتلك فإنَّك تموت ، ولابدَّ مِنْ الموت ، فاتَّـقِ الله ولا تُجيبهم إلى شيء .
فجعل أحمد يبكي ويقول : ما شاء الله ، ما شاء الله . ثم سار أحمد إلى المأمون فبلغه توعد الخليفة له بالقتل إنْ لم يُجبه إلى القول بخلقِ القرآن ، فـتوجه الإمام أحمد بالدعاء إلى الله تعالى أنْ لا يجمع بـيـنه وبين الخليفة ، فبينما هو في الطريق قبل وصوله إلى الخليفة إذ جاءه الخبر بموت المأمون ، فَرُدَّ الإمام أحمد إلى بغداد وحُبِس ، ثم تولَّى الخلافة المعتصم ، فامتحن الإمام أحمد .
وكان مِنْ خبر المحنـة أنَّ المعتصم لمَّا قصد إحضار الإمام أحمد ازدحم الناس على بابه كيوم العيد ، وبُسِطَ بمجلسه بساطاً ، ونُصِبَ كرسيـاً جلس عليه ، ثم قال : أحضروا أحمد بن حنبل ، فأحضروه ، فلمَّا وقف بين يديه سَلَّمَ عليه ، فقال له : يا أحمد تكلم ولا تَـخَـفْ ، فقال الإمام أحمد : والله لقد دخلتُ عليك وما في قلبي مثـقال حـبَّـةٍ من الفزع ، فقال له المعتصم : ما تقول في القرآن ؟
فقال : كلام الله قديم غير مخلوق ، قال الله تعالى : { وَإنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ } [ التوبة : 6 ].
فقال له : عندك حجة غير هذا ؟ فقال : نعم ، قول الله تعالى : { الرَّحْمَنْ * عَلَّمَ القُرْآنْ }. [ الرحمن : 1 ، 2 ] ، ولم يقـل : الرحمن خلق القرآن ، وقوله تعالى : { يس * والقُـرْآنِ الْحَكِيم } [ يس : 1 ، 2 ] ، ولم يقـل : يس والقرآن المخلوق .
فقال المعتصم : احبسوه ، فحُبِسَ وتفرَّقَ الناس .
فلمَّا كان مِنَ الغد جلس المعتصم مجلسه على كرسيه وقال : هاتوا أحمد بن حنبل ، فاجتمع الناس ، وسُمعت لهم ضجة في بغداد ، فلمَّا جيء به وقف بين يديه والسيوف قد جُردت ، والرماح قد ركزت ، والأتراس قد نُصبت ، والسياط قد طرحت ، فسأله المعتصم عمَّا يقول في القرآن ؟
قال : أقول : غير مخلوق .
وأحضر المعتصم له الفقهاء والقضاة فناظروه بحضرته في مدة ثلاثة أيام ، وهو يناظرهم ويظهر عليهم بالحُجج القاطعة ، ويقول : أنا رجـل عَلِمتُ علماً ولم أعلم فيه بهذا ، أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله ــ صلى الله عليه وسلم ــ حتى أقول به .
وكلما ناظروه وألزموه القول بخلق القرآن يقول لهم : كيف أقول ما لم يُقـل ؟ فقال المعتصم : قهرنا أحمد .
وكان من المتعصبين عليه محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم ، وأحمد بن دُوَاد القاضي ، وبشر المريسي ، وكانوا معتزلة قالوا بخلق القرآن ، فقال ابن دُوَاد وبشر للخليفة : اقـتله حتى نستريح منه ، هذا كافر مُضِـل .
فقال : إني عاهدتُ الله ألا أقـتله بسيف ولا آمر بقـتله بسيف ، فقالا له : اضربه بالسياط ، فقال المعتصم له : وقرابتي من رسول الله ــ صلَّى الله عليه وسلم ــ لأضربنَّك بالسياط أو تقول كما أقول ، فلم يُرهبه ذلك ، فقال المعتصم: أحضروا الجلادين ، فقال المعتصم لواحد منهم : بكم سوطٍ تـقـتله ؟
قال : بعشرة ، قال : خذه إليك ، فأُخْرِجَ الإمام أحمد من أثوابه ، وشُدَّ في يديه حبلان جديدان ، ولمَّا جيء بالسياط فنظر إليها المعتصم قال : ائـتوني بغيرها ، ثم قال للجلادين : تقدموا ، فلمَّا ضُرِبَ سوطاً..
قال : بسم الله ، فلمَّا ضُرِبَ الثاني قال : لا حول ولا قوةً إلاَّ بالله ، فلمَّا ضُرِبَ الثالث قال : القرآن كلام الله غير مخلوق ، فلمَّا ضُرِبَ الرابع قال : { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا } [ التوبة : 51 ] .
وجعل الرجل يتقدَّم إلى الإمام أحمد فيضربه سوطين ، فيحرضه المعتصم على التشديد في الضرب ، ثم يـتنحَّى ، ثم يتقدَّم الآخر فيضربه سوطين ، فلمَّا ضُرِبَ تسعة عشر سوطاً قام إليه المعتصم فقال له : يا أحمد علام تقتـل نفسك ؟ إني والله عليك لشفيق .
قال أحمد : فجعل عجيف ينخسني بقائمة سيفه وقال : تريد أنْ تغلب هؤلاء كلهم ؟ وجعل بعضهم يقول : ويلك ! الخليفة على رأسك قائم ، وقال بعضهم : يا أمير المؤمنين دمه في عنقي اقـتله ، وجعلوا يقولون : يا أمير المؤمنين : إنه صائم وأنت في الشمس قائم ، فقال لي : ويحك يا أحمد ما تقول ؟ فأقول : أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله ــ صلَّى الله عليه وسلم ــ حتى أقول به.
ثم رجع الخليفة فجلس ثم قال للجلاد : تقدمَّ ، وحَرَّضه على إيجاعه بالضرب .
قال الإمام أحمد : فذهب عقلي ، فأفقت بعد ذلك ، فإذا الأقياد قد أُطلِقت عنِّي ، فأتوني بسويق فقالوا لي : اشرب وتـقيأ ، فقلت : لستُ أُفطر ، ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم ، فحضرتُ صلاة الظهر ، فـتقدَّم ابن سماعة فصلى ، فلمَّا انفـتل من الصلاة قال لي : صليتَ والدمُ يسيل في ثوبك ، فقلت له : قد صلَّى عمر ــ رضي الله عنه ــ وجرحه يسيل دمـاً .
ولمَّا ولِّيَ الواثق بعد المعتصم ، لم يتعرض للإمام أحمد بن حنبل في شيء إلاَّ أنَّـه بعث عليه يقول : لا تساكنِّي بأرضٍ ، وقيل : أمره أنْ لا يخرج من بيتـه ، فصار الإمام أحمد يختفي في الأماكن ، ثم صار إلى منزله فاختـفى فيه عدة أشهر إلى أنْ مات الواثق .
وبعد ذلك تولَّى الخلافة المتوكل بعد الواثق ، فقد خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقاد ، وطعن عليهم فيما كانوا يقولونه من خلق القرآن ، ونهى عن الجدال والمناظرة في الأداء ، وعاقب عليه ، وأمر بإظهار الرواية للحديث ، فأظهر الله به السُـنَّـة ، وأمات به البدعة ، وكشف عن الخلق تلك الغُمَّـة ، وأنار به تلك الظُلمة ، وأطلق من كان اعـتُـقِـلَ بسبب القول بخلق القرآن ، ورفع المحنـة عن الناس .
* قال أحد الجلادين بعد أن تاب : لقد ضربت الإمام أحمد ( 80 ) جلدة ، لو ضربـتُها في فيل لسقـط .
فَرَحِمَ اللهُ هذا الإمام الجليل أحمد بن حنبل ، الذي ابتُـليَ بالضرَّاء فصبر ، وبالسرَّاء فشكر ، ووقف هذا الموقف الإيماني كأنـه جبلٌ شامخ ، تـتكسَّرُ عليه المِحَنْ ، وضَرَبَ لنا مثـلاً في الثبات علـى الحـق ...
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب موقف الإمام والمأموم في الصلاة]
[باب موقف الإمام والمأموم في الصلاة]
باب موقف الصلاة إذا كان المأموم واحدًا، وقف عن يمين الإمام، فإن كبر عن يساره أداره الإمام عن يمينه، فإن جاء آخر كبر وتأخر فصفا خلفه، ولا يتقدم الإمام إلا إن كان الموضع ضيقًا، فإن كبر الثاني عن يساره أخرهما الإمام بيديه؛ لما «روى جابر قال: سرت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة، فقام يصلي فتوضأت، ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخذ بيدي، فأدارني حتى أقامني عن يمينه، فجاء جبار بن صخر حتى قام عن يساره، فأخذنا بيديه جميعًا حتى أقامنا خلفه» من المسند. وإن صليا عن يمينه، أو أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره جاز؛ لما روي: «أن ابن مسعود صلى بين علقمة والأسود، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل» رواه أبو داود. ولأن الوسط موقف لإمام العراة وإمامة النساء.
فإن كان معهم امرأة قامت خلفهم؛ لما «روى أنس قال: قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصففت أنا واليتيم وراءه والمرأة خلفنا، فصلى بنا ركعتين» متفق عليه. فإن اجتمع رجال وصبيان وخناثى ونساء، تقدم الرجال ثم الصبيان ثم الخناثى ثم النساء؛ لما «روى أبو مالك الأشعري أنه قال: ألا أحدثكم بصلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: أقام الصلاة، فصف الرجال، ثم صف خلفهم الغلمان، ثم صلى بهم، ثم قال: هكذا قال عبد الأعلى، لا أحسبه إلا قال: صلاة أمتي» رواه أبو داود.
فإن لم يكن مع الرجال إلا امرأة، وقفت خلفه، فإن كان معه صبي وقف عن يمينه، لما «روى ابن عباس قال: بت عند خالتي ميمونة، فقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي من الليل، فقمت فوقفت عن يساره، فأخذ بذؤابتي فأدارني عن يمينه» متفق عليه.
فإن كان معه رجل وصبي في فرض وقف بينهما، كما في حديث ابن مسعود،
وجعل الرجل عن يمينه، أو جعلهما عن يمينه، وإن كان في نافلة وقفا خلفه على ما في حديث أنس.
فصل:
فإن وقف المأموم قدام الإمام لم تصح صلاتهم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به» .
وإن وقف الواحد خلف الصف، أو خلف الإمام أو عن يساره لم تصح صلاته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدار ابن عباس وجابرا لما وقفا عن يساره، «وروى وابصة بن معبد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلًا يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد» رواه أبو داود. «وعن علي بن شيبان قال: صلى بهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فانصرف ورجل فرد خلف الصف، فوقف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى انصرف الرجل، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: استقبل صلاتك، فلا صلاة لفرد خلف الصف» رواه الأثرم. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيه وفي حديث وابصة: هذا حديث حسن.
ولأنه خالف الموقف فلم تصح صلاته، كما لو وقف قدام الإمام، فإن صلى ركعة واحدة لم تصح صلاته، وإن جاء آخر فوقف معه أو دخل في الصف قبل رفع الإمام من الركوع صحت صلاته؛ لأنه أدرك في الصف ما يدرك به الركعة، وإن كان ذلك بعد رفع الإمام ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: يصح؛ لأنه لم يصل ركعة واحدة، أشبه ما لو أدرك الركوع.
والثانية: لا يصح؛ لأنه لم يدرك في الصف ما يدرك به الركعة، أشبه من صلى ركعة.
والثالثة: إن كان جاهلًا لم يعد، وإن كان عالمًا أعاد؛ لما روى البخاري «أن أبا بكرة انتهى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو راكع فركع قبل أن يصله، فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: زادك الله حرصًا ولا تعد» فلم يأمره بالإعادة لجهله، ونهاه عن العود، والنهي يقضي الفساد، فإن ذلك لغير عذر، ولا خشي الفوات، فحكمه حكم من خاف الفوات؛ لأن الموقف لا يختلف لخيفة الفوات وعدمه، ويحتمل أن لا يصح؛ لأن الرخصة وردت في حق المعذور، فلا يلحق به غيره.
فصل:
ومن وقف معه كافر أو امرأة أو خنثى مشكل أو من صلاته فاسدة، فحكمه حكم
الفذ؛ لأنهم من غير أهل الوقوف معه، وإن وقف معه فاسق أو أمي أو متنفل كانوا معه صفًا: لأنهم من أهل الوقوف معه، وإن وقف الصبي معه في النفل كانا صفًا لحديث أنس، وإن كان في فرض احتمل أن يكون معه صفًا؛ لأنه كالمتنفل، واحتمل أن لا يصح؛ لأنه ليس من أهل الإمامة له فيه أشبه المرأة.
وإن وقف معه محدث أو نجس يعلمان بذلك فهو كالفذ، وإن لم يعلما بذلك صحت صلاته؛ لأنه لو كان إمامًا له صحت صلاته.
وإن وقفت المرأة في صف الرجال كره، ولم تبطل صلاتها ولا صلاة من يليها، وقال أبو بكر: تبطل صلاة من يليها؛ لأنه خالف الموقف، والأول أولى؛ لأنها هي التي خالفت بوقوفها مع الرجال، فلم تبطل صلاتها، فصلاته أولى.
فإن وقف اثنان خلف الصف، فخرج أحدهما لعذر دخل الآخر في الصف، أو وقف عن يمين الإمام أو نبه من يخرج فيقف معه، فإن لم يمكنه نوى مفارقته، وأتم منفردًا؛ لأنه عذر أشبه ما لو سبق إمامه الحدث.
فإن دخل المسبوق فوجد فرجة قام فيها، فإن لم يمكنه قام عن يمين الإمام، فإن لم يمكنه نبه رجلًا يتأخر معه، فإن لم يفعل لم يكرهه ويصلي وحده، أو ينتظر جماعة أخرى.
فصل:
السنة للمرأة إذا أمت نساء، أن تقوم وسطهن؛ لأن ذلك يروى عن عائشة وأم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وإن كانت معهما امرأة وقفت عن يمينها، وإن وقفت خلفها جاز؛ لأن المرأة يجوز وقوفها وحدها؛ بدليل حديث أنس.
فصل:
والسنة أن يقف الإمام حذاء وسط الصف؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وسطوا الإمام وسدوا الخلل» رواه أبو داود. وأن يتموا الصف الأول؛ لما روى أنس: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أتموا الصف الأول، فما كان من نقص، فليكن في الصف الآخر» رواه أبو داود.
وخير صفوف الرجال أولها، وخير صفوف النساء آخرها؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها» رواه مسلم. قال أحمد: ويلي الإمام الشيوخ وأهل القرآن، ويؤخر الصبيان والغلمان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليلني منكم أولو الأحلام والنهى» رواه مسلم.
فصل:
والسنة أن لا يكون الإمام أعلى من المأمومين، لما «روي أن عمار بن ياسر كان بالمدائن، فأقيمت الصلاة، فتقدم عمار فقام على دكان والناس أسفل منه، فتقدم حذيفة فأخذ بيده، واتبعه عمار حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ من صلاته، قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقول: إذا أم الرجل القوم فلا يقومن في مكان أرفع من مقامهم وقال عمار: فلذلك اتبعتك حين أخذت على يدي» رواه أبو داود. فإن فعل فقال ابن حامد: تبطل صلاته لارتكابه النهي، وقال القاضي: لا تبطل؛ لأن عمارًا بنى على صلاته، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا بأس بهذا؛ لما «روى سهل قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام على المنبر، فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر، ثم ركع ثم رفع، فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم قال: أيها الناس، إنما فعلت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي» متفق عليه. ولا بأس بالعلو اليسير؛ لأنه لا يحتاج فيه إلى رفع البصر المنهي عنه فيه، بخلاف الكثير، ولا بأس أن يكون المأموم أعلى من الإمام لذلك، ويصح أن يأتم به من في أعلى المسجد وغيره، إذا اتصلت الصفوف.
فصل:
يجوز أن يأتم بالإمام من في المسجد، وإن تباعد؛ لأن المسجد كله موضع للجماعة، فإن كان بينهما حائل يمنع المشاهدة، وسماع التكبير لم يصح الائتمام به، لتعذر اتباعه، وإن منع المشاهدة دون السماع؛ ففيه وجهان:
أصحها صحة الصلاة؛ لأن أحمد قال في المنبر: إذا قطع الصف لم يضر، ولأنهم في موضع الجماعة، ويمكنهم الاقتداء به لسماع التكبير، فأشبه المشاهد.
والثاني: لا يصح؛ لأن عائشة قالت لنساء كن يصلين في حجرتها: لا تصلين بصلاة الإمام، فإنكن دونه في حجاب، والحجاب موجود هاهنا، فإن كان المأموم في غير المسجد، وبينهما حائل يمنع رؤية الإمام، أو من وراءه لم تصح الصلاة؛ لحديث عائشة، وقال ابن حامد: يمنع في الفرض، وفي النافلة روايتان.
وعن أحمد في رجل يصلي خارج المسجد يوم الجمعة، وأبوابه مغلقة أرجو أن لا يكون به بأس، ويشترط اتصال الصفوف، وهو أن لا يكون بينهما بعد كثير لم تجر العادة بمثله، واشترط أصحابنا أن لا يكون بينهما نهر تجري فيه السفن، ولا طريق، والصحيح أن هذا لا يمنع؛ لأنه لا يمنع المتابعة، إلا أن يكون عريضًا يمنع الاتصال.
فصل:
ويستحب أن يصلي إلى سترة ويدنو منها؛ لما روى أبو سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها» رواه الأثرم. «قال سهل: كان بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين القبلة ممر الشاة» رواه البخاري ومسلم.
وقدر السترة مثل آخرة الرحل، وقد قدر الذراع أو عظم الذراع؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل، ولا يبال ما مر وراء ذلك» رواه مسلم.
ويجوز أن يستتر بعصًا أو حيوان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان تركز له الحربة، فيصلي إليها، ويعرض البعير فيصلي إليه، وقال نافع: كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلًا إلى سارية، قال: ولني ظهرك، فإن لم يجد سترة خط خطًا؛ لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئًا، فإن لم يجد فلينصب عصًا، فإن لم يكن معه عصًا فليخط خطًا، ثم لا يضره ما مر أمامه» رواه أبو داود. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الخط عرضًا مثل الهلال، وقد قالوا طولًا، وقالوا عرضًا.
قال الشيخ: وأنا أختار هذا، فإن لم يمكنه نصب العصا ولا الخط، عرضها بين يديه؛ لأنها تقوم مقام الخط، ولا يصمد للسترة، لكن ينحرف عنها يسيرًا؛ «لقول المقداد: ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن، ولا يصمد له صمدًا» رواه أبو داود.
وسترة الإمام سترة لمن خلفه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي بأصحابه إلى سترة، ولم يأمرهم أن يستتروا بشيء.
فصل:
وإذا مر من وراء سترته بشيء، فلا بأس، للحديث، فإن أراد المرور دونها رده، فإن لح دفعه، إلا أن يغلبه أن يحوجه إلى عمل كثير، لما روى أبو سعيد قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا كان أحدكم يصلي إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو الشيطان» متفق عليه. فإن مر بين يديه لم يرده من حيث جاء؛ لأنه مرور ثان، وإن صلى إلى غير سترة فمر من بين يديه شيء فحكمه حكم ما مر بينه وبين السترة للحديث، ويتقيد ذلك بالقريب منه، الذي لو مشى إليه فدفعه لم تفسد صلاته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بدفع المار، فتقيد به، بدلالة الإجماع بما لا يفسد الصلاة، فكذلك هذا.
باب موقف الصلاة إذا كان المأموم واحدًا، وقف عن يمين الإمام، فإن كبر عن يساره أداره الإمام عن يمينه، فإن جاء آخر كبر وتأخر فصفا خلفه، ولا يتقدم الإمام إلا إن كان الموضع ضيقًا، فإن كبر الثاني عن يساره أخرهما الإمام بيديه؛ لما «روى جابر قال: سرت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة، فقام يصلي فتوضأت، ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخذ بيدي، فأدارني حتى أقامني عن يمينه، فجاء جبار بن صخر حتى قام عن يساره، فأخذنا بيديه جميعًا حتى أقامنا خلفه» من المسند. وإن صليا عن يمينه، أو أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره جاز؛ لما روي: «أن ابن مسعود صلى بين علقمة والأسود، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل» رواه أبو داود. ولأن الوسط موقف لإمام العراة وإمامة النساء.
فإن كان معهم امرأة قامت خلفهم؛ لما «روى أنس قال: قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصففت أنا واليتيم وراءه والمرأة خلفنا، فصلى بنا ركعتين» متفق عليه. فإن اجتمع رجال وصبيان وخناثى ونساء، تقدم الرجال ثم الصبيان ثم الخناثى ثم النساء؛ لما «روى أبو مالك الأشعري أنه قال: ألا أحدثكم بصلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: أقام الصلاة، فصف الرجال، ثم صف خلفهم الغلمان، ثم صلى بهم، ثم قال: هكذا قال عبد الأعلى، لا أحسبه إلا قال: صلاة أمتي» رواه أبو داود.
فإن لم يكن مع الرجال إلا امرأة، وقفت خلفه، فإن كان معه صبي وقف عن يمينه، لما «روى ابن عباس قال: بت عند خالتي ميمونة، فقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي من الليل، فقمت فوقفت عن يساره، فأخذ بذؤابتي فأدارني عن يمينه» متفق عليه.
فإن كان معه رجل وصبي في فرض وقف بينهما، كما في حديث ابن مسعود،
وجعل الرجل عن يمينه، أو جعلهما عن يمينه، وإن كان في نافلة وقفا خلفه على ما في حديث أنس.
فصل:
فإن وقف المأموم قدام الإمام لم تصح صلاتهم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به» .
وإن وقف الواحد خلف الصف، أو خلف الإمام أو عن يساره لم تصح صلاته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدار ابن عباس وجابرا لما وقفا عن يساره، «وروى وابصة بن معبد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلًا يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد» رواه أبو داود. «وعن علي بن شيبان قال: صلى بهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فانصرف ورجل فرد خلف الصف، فوقف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى انصرف الرجل، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: استقبل صلاتك، فلا صلاة لفرد خلف الصف» رواه الأثرم. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيه وفي حديث وابصة: هذا حديث حسن.
ولأنه خالف الموقف فلم تصح صلاته، كما لو وقف قدام الإمام، فإن صلى ركعة واحدة لم تصح صلاته، وإن جاء آخر فوقف معه أو دخل في الصف قبل رفع الإمام من الركوع صحت صلاته؛ لأنه أدرك في الصف ما يدرك به الركعة، وإن كان ذلك بعد رفع الإمام ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: يصح؛ لأنه لم يصل ركعة واحدة، أشبه ما لو أدرك الركوع.
والثانية: لا يصح؛ لأنه لم يدرك في الصف ما يدرك به الركعة، أشبه من صلى ركعة.
والثالثة: إن كان جاهلًا لم يعد، وإن كان عالمًا أعاد؛ لما روى البخاري «أن أبا بكرة انتهى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو راكع فركع قبل أن يصله، فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: زادك الله حرصًا ولا تعد» فلم يأمره بالإعادة لجهله، ونهاه عن العود، والنهي يقضي الفساد، فإن ذلك لغير عذر، ولا خشي الفوات، فحكمه حكم من خاف الفوات؛ لأن الموقف لا يختلف لخيفة الفوات وعدمه، ويحتمل أن لا يصح؛ لأن الرخصة وردت في حق المعذور، فلا يلحق به غيره.
فصل:
ومن وقف معه كافر أو امرأة أو خنثى مشكل أو من صلاته فاسدة، فحكمه حكم
الفذ؛ لأنهم من غير أهل الوقوف معه، وإن وقف معه فاسق أو أمي أو متنفل كانوا معه صفًا: لأنهم من أهل الوقوف معه، وإن وقف الصبي معه في النفل كانا صفًا لحديث أنس، وإن كان في فرض احتمل أن يكون معه صفًا؛ لأنه كالمتنفل، واحتمل أن لا يصح؛ لأنه ليس من أهل الإمامة له فيه أشبه المرأة.
وإن وقف معه محدث أو نجس يعلمان بذلك فهو كالفذ، وإن لم يعلما بذلك صحت صلاته؛ لأنه لو كان إمامًا له صحت صلاته.
وإن وقفت المرأة في صف الرجال كره، ولم تبطل صلاتها ولا صلاة من يليها، وقال أبو بكر: تبطل صلاة من يليها؛ لأنه خالف الموقف، والأول أولى؛ لأنها هي التي خالفت بوقوفها مع الرجال، فلم تبطل صلاتها، فصلاته أولى.
فإن وقف اثنان خلف الصف، فخرج أحدهما لعذر دخل الآخر في الصف، أو وقف عن يمين الإمام أو نبه من يخرج فيقف معه، فإن لم يمكنه نوى مفارقته، وأتم منفردًا؛ لأنه عذر أشبه ما لو سبق إمامه الحدث.
فإن دخل المسبوق فوجد فرجة قام فيها، فإن لم يمكنه قام عن يمين الإمام، فإن لم يمكنه نبه رجلًا يتأخر معه، فإن لم يفعل لم يكرهه ويصلي وحده، أو ينتظر جماعة أخرى.
فصل:
السنة للمرأة إذا أمت نساء، أن تقوم وسطهن؛ لأن ذلك يروى عن عائشة وأم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وإن كانت معهما امرأة وقفت عن يمينها، وإن وقفت خلفها جاز؛ لأن المرأة يجوز وقوفها وحدها؛ بدليل حديث أنس.
فصل:
والسنة أن يقف الإمام حذاء وسط الصف؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وسطوا الإمام وسدوا الخلل» رواه أبو داود. وأن يتموا الصف الأول؛ لما روى أنس: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أتموا الصف الأول، فما كان من نقص، فليكن في الصف الآخر» رواه أبو داود.
وخير صفوف الرجال أولها، وخير صفوف النساء آخرها؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها» رواه مسلم. قال أحمد: ويلي الإمام الشيوخ وأهل القرآن، ويؤخر الصبيان والغلمان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليلني منكم أولو الأحلام والنهى» رواه مسلم.
فصل:
والسنة أن لا يكون الإمام أعلى من المأمومين، لما «روي أن عمار بن ياسر كان بالمدائن، فأقيمت الصلاة، فتقدم عمار فقام على دكان والناس أسفل منه، فتقدم حذيفة فأخذ بيده، واتبعه عمار حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ من صلاته، قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقول: إذا أم الرجل القوم فلا يقومن في مكان أرفع من مقامهم وقال عمار: فلذلك اتبعتك حين أخذت على يدي» رواه أبو داود. فإن فعل فقال ابن حامد: تبطل صلاته لارتكابه النهي، وقال القاضي: لا تبطل؛ لأن عمارًا بنى على صلاته، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا بأس بهذا؛ لما «روى سهل قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام على المنبر، فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر، ثم ركع ثم رفع، فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم قال: أيها الناس، إنما فعلت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي» متفق عليه. ولا بأس بالعلو اليسير؛ لأنه لا يحتاج فيه إلى رفع البصر المنهي عنه فيه، بخلاف الكثير، ولا بأس أن يكون المأموم أعلى من الإمام لذلك، ويصح أن يأتم به من في أعلى المسجد وغيره، إذا اتصلت الصفوف.
فصل:
يجوز أن يأتم بالإمام من في المسجد، وإن تباعد؛ لأن المسجد كله موضع للجماعة، فإن كان بينهما حائل يمنع المشاهدة، وسماع التكبير لم يصح الائتمام به، لتعذر اتباعه، وإن منع المشاهدة دون السماع؛ ففيه وجهان:
أصحها صحة الصلاة؛ لأن أحمد قال في المنبر: إذا قطع الصف لم يضر، ولأنهم في موضع الجماعة، ويمكنهم الاقتداء به لسماع التكبير، فأشبه المشاهد.
والثاني: لا يصح؛ لأن عائشة قالت لنساء كن يصلين في حجرتها: لا تصلين بصلاة الإمام، فإنكن دونه في حجاب، والحجاب موجود هاهنا، فإن كان المأموم في غير المسجد، وبينهما حائل يمنع رؤية الإمام، أو من وراءه لم تصح الصلاة؛ لحديث عائشة، وقال ابن حامد: يمنع في الفرض، وفي النافلة روايتان.
وعن أحمد في رجل يصلي خارج المسجد يوم الجمعة، وأبوابه مغلقة أرجو أن لا يكون به بأس، ويشترط اتصال الصفوف، وهو أن لا يكون بينهما بعد كثير لم تجر العادة بمثله، واشترط أصحابنا أن لا يكون بينهما نهر تجري فيه السفن، ولا طريق، والصحيح أن هذا لا يمنع؛ لأنه لا يمنع المتابعة، إلا أن يكون عريضًا يمنع الاتصال.
فصل:
ويستحب أن يصلي إلى سترة ويدنو منها؛ لما روى أبو سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها» رواه الأثرم. «قال سهل: كان بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين القبلة ممر الشاة» رواه البخاري ومسلم.
وقدر السترة مثل آخرة الرحل، وقد قدر الذراع أو عظم الذراع؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل، ولا يبال ما مر وراء ذلك» رواه مسلم.
ويجوز أن يستتر بعصًا أو حيوان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان تركز له الحربة، فيصلي إليها، ويعرض البعير فيصلي إليه، وقال نافع: كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلًا إلى سارية، قال: ولني ظهرك، فإن لم يجد سترة خط خطًا؛ لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئًا، فإن لم يجد فلينصب عصًا، فإن لم يكن معه عصًا فليخط خطًا، ثم لا يضره ما مر أمامه» رواه أبو داود. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الخط عرضًا مثل الهلال، وقد قالوا طولًا، وقالوا عرضًا.
قال الشيخ: وأنا أختار هذا، فإن لم يمكنه نصب العصا ولا الخط، عرضها بين يديه؛ لأنها تقوم مقام الخط، ولا يصمد للسترة، لكن ينحرف عنها يسيرًا؛ «لقول المقداد: ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن، ولا يصمد له صمدًا» رواه أبو داود.
وسترة الإمام سترة لمن خلفه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي بأصحابه إلى سترة، ولم يأمرهم أن يستتروا بشيء.
فصل:
وإذا مر من وراء سترته بشيء، فلا بأس، للحديث، فإن أراد المرور دونها رده، فإن لح دفعه، إلا أن يغلبه أن يحوجه إلى عمل كثير، لما روى أبو سعيد قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا كان أحدكم يصلي إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو الشيطان» متفق عليه. فإن مر بين يديه لم يرده من حيث جاء؛ لأنه مرور ثان، وإن صلى إلى غير سترة فمر من بين يديه شيء فحكمه حكم ما مر بينه وبين السترة للحديث، ويتقيد ذلك بالقريب منه، الذي لو مشى إليه فدفعه لم تفسد صلاته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بدفع المار، فتقيد به، بدلالة الإجماع بما لا يفسد الصلاة، فكذلك هذا.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[فصل في حكم المرور بين يدي المصلي][باب قصر الصلاة]
[فصل في حكم المرور بين يدي المصلي]
فصل:
ويحرم المرور بين يدي المصلي؛ لما روى أبو جهيم الأنصاري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه» متفق عليه. ولا يقطعها شيء إلا الكلب الأسود البهيم، الذي لا لون فيه سوى السواد، لما «روى أبو ذر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا قام أحدكم يصلي، فإنه يستره مثل آخر الرحل، فإن لم يكن بين يديه، مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود قلت: يا أبا ذر، ما بال الكلب الأسود، من الكلب الأحمر، من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي، سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما سألتني فقال: الكلب الأسود شيطان» رواه مسلم.
وعن أحمد: أن مرور المرأة والحمار يقطع الصلاة للحديث، والمشهور الأول؛ «لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: عدلتمونا بالكلب والحمار، لقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي صلاته في الليل كلها، وأنا معترضة بينه وبين القبلة» متفق عليه. «وقال: الفضل بن عباس: أتانا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن في بادية فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة، وحمارة لنا وكلبة يعبثان بين يديه، فما بالى ذلك» رواه أبو داود. فإن كان الكلب واقفًا بين يديه ففيه وجهان:
أحدهما: حكمه حكم المار؛ لأنه حصل بين يديه أشبه المار.
والثاني: لا تفسد صلاته؛ لأن حكم الواقف يخالف حكم المار؛ بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي إلى البعير، ويصلي وعائشة في قبلته، ولا يرى ذلك كالمرور، ومن غصب سترة فاستتر بها، فهل يمنع ما مر وراءها، فيه وجهان بناء على الصلاة في الثوب المغصوب.
فصل:
ولا حاجة في مكة إلى سترة، ولا يضره ما مر بين يديه؛ «لأن المطلب قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي حيال الحجر والناس يمرون بين يديه» رواه الخلال. وكان ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يصلي والطواف بينه وبين القبلة تمر المرأة بين يديه فينتظرها حتى تمر، ثم يضع جبهته في موضع قدمها.
[باب قصر الصلاة]
ولا يجوز قصر الصبح والمغرب بالإجماع؛ لأن قصر الصبح يجحف بها لقلتها، وقصر المغرب يخرجها عن كونها وترًا، ويجوز قصر الرباعية فيصليها ركعتين بشروط ستة:
أحدها: أن تكون في سفر طويل قدره أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخًا، ثمانية وأربعون ميلًا بالهاشمي، وذلك نحو من يومين قاصدين؛ لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: يا أهل مكة، لا تقصروا في أدنى من أربعة برد، ما بين عسفان إلى مكة، وكان ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وابن عمر لا يقصران في أقل من أربعة برد، ولأنها مسافة تجمع مشقة السفر من الحل والشدة، فجاز القصر فيها كمسيرة ثلاثة أيام.
وسواء كان في بر أو بحر؛ لأن الاعتبار بالفراسخ، وإن شك في قدر السفر لم يبح القصر؛ لأن الأصل الإتمام، فلا يزول بالشك والاعتبار بالنية دون حقيقة السفر، فلو نوى سفرًا طويلًا، فقصر ثم بدأ له فأقام أو رجع، كانت صلاته صحيحة، ولو خرج طالبًا لآبق أو منتجعًا غيثًا، متى وجده رجع أو أقام لم يقصر، ولو سافر شهرًا.
ولو خرج مكرهًا كالأسير يقصد به بلدًا بعينه فله القصر؛ لأنه تابع لمن يقصد مسافة القصر، فإذا وصل حصنهم أتم حينئذ، نص عليه، وإن كان للبلد طريقان طويلة وقصيرة، فسلك البعيدة ليقصر فله ذلك؛ لأنه سفر يقصر في مثله، فجاز له القصر، كما لو لم يكن له طريق سواه.
فصل:
والثاني: أن يكون السفر مباحًا، فإن سافر لمعصية كالآبق، وقطع الطريق والتجارة في خمر لم يقصر، ولم يترخص بشيء من رخص السفر؛ لأنه لا يجوز تعليق الرخص بالمعاصي، لما فيه من الإعانة عليها والدعاية إليها، ولا يرد الشرع بذلك.
فصل:
والثالث: شروعه بالسفر بخروجه من بيوت قريته؛ لأن الله تعالى قال: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] ، ولا يكون ضاربًا
في الأرض حتى يخرج، فله القصر بين حيطان البساتين؛ لأنها ليست من حيطان البلد، ولا تبنى للسكنى.
وإن خرب بعض البلد فصار فضاء فهو كالصحراء، وإن كانت حيطانه قائمة، فقال القاضي: لا يقصر حتى يفارقها؛ لأنه يمكن السكنى فيها، وقال الآمدي: له القصر بينهما؛ لأنها غير معتمدة للسكنى، فهي كالبساتين.
فصل:
الرابع: أن ينوي القصر مع نية الإحرام، وقال أبو بكر: لا يحتاج إلى النية؛ لأن من خير في العبادة قبل الدخول فيها خير بعد الدخول فيها كالصيام، ولنا أن الأصل الإتمام، فإطلاق النية ينصرف إليه، كما لو نوى الصلاة مطلقًا انصرف إلى الانفراد الذي هو الأصل، فإن شك نية القصر لزمه الإتمام؛ لأنه الأصل، فلو نوى الإتمام في ابتداء الصلاة، أو في أثنائها، أو ما يلزمه الإتمام كالإقامة، أو قلب نيته إلى سفر قريب أو معصية؛ لزمه إتمام الصلاة، ولزم من خلفه متابعته؛ لأن نية الأربع أو ما قد يوجبها قد وجد، فلزمته الأربع كما لو نوى في الابتداء، ومن قصر معتقدًا تحريم القصر فصلاته فاسدة؛ لأنه فعل ما يعتقد تحريمه.
فصل:
الخامس: ألا تكون الصلاة وجبت في الحضر، فلو ترك صلاة حضر فقضاها في السفر لم يجز له قصرها؛ لأنه تعين فعلها أربعًا، فلم يجز النقصان فيها، كما لو نوى أربع ركعات، ولأن القضاء معتبر بالأداء، والأداء أربع، ومن سافر بعد دخول وقت صلاة، لم يقصرها لذلك، وحكي عنه أن له قصرها؛ لأنها صلاة مؤداة في السفر، فأشبه ما لو دخل وقتها فيه.
ولو أحرم بها في سفينة في الحضر، فخرجت به في أثناء الصلاة، أو أحرم بها في
السفر، فدخلت البلد في أثناء الصلاة، لم يقصر؛ لأنها عبادة تختلف بالسفر والحضر، ووجد أحد طرفيها في الحضر، فغلب حكمه كالمسح.
وإن نسي صلاة سفر، فذكرها في الحضر، أتمها لذلك، وإن ذكرها في السفر أو في سفر آخر قصرها؛ لأن وجوبها وفعلها وجدا في السفر، فكان له قصرها كما لو أداها، ويتخرج أن يلزمه إتمامها إذا ذكرها في سفر آخر؛ لأن الوجوب كان ثابتًا في ذمته في الحضر.
فصل:
السادس: أن لا يأتم بمقيم، فإن ائتم بمقيم لزمه الإتمام، سواء ائتم به في الصلاة كلها أو جزء منها؛ لأن «ابن عباس سئل: ما بال المسافر يصلي ركعتين حال الانفراد وأربعًا إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة» رواه الإمام أحمد. وهذا ينصرف إلى سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأنها صلاة مردودة من أربع، فلا يصليها خلف من يصلي الأربع كالجمعة، ولو أدرك المسافر من الجمعة أقل من ركعة لزمه إتمامها أربعًا، لائتمامه بالمقيم، ومن ائتم بالمقيم ففسدت صلاته، لم يجز له قصرها بعد ذلك؛ لأنها تعينت عليه تامة لائتمامه بمقيم.
ومن أحرم مع من يظنه مقيمًا أو يشك فيه، لزمه الإتمام، وإن قصر إمامه اعتبارًا بالنية، وإن غلب على ظنه أنه مسافر لدليل، فله أن ينوي القصر، ويتبع إمامه، فيقصر بقصره، ويتم بإتمامه، وإن أحدث إمامه قبل علمه بحاله، فله القصر؛ لأن الظاهر أنه مسافر.
وإن أم المسافر مقيمًا لزم المقيم الإتمام، ويستحب للإمام أن يقول لهم: أتموا فإنا قوم سفر، لما «روى عمران بن حصين قال: شهدت الفتح مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان لا يصلي إلا ركعتين، ثم يقول لأهل البلد: صلوا أربعًا فإنا سفر» رواه أبو داود.
وإن أتم الإمام بهم صحت الصلاة.
وعنه: تفسد صلاة المقيمين؛ لأنهم ائتموا بمتنفل في الركعتين الأخيرتين، والأول المذهب؛ لأن الإتمام يلزمه بنيته.
وإن نسي المسافر فقام إلى ثالثة فله أن يجلس، ولا يلزمه الإتمام؛ لأن الموجب للإتمام نيته، أو ائتمامه بمقيم ولم يوجد، فإن جلس سجد للسهو، وله أن يتم.
فإن لم يعلم المأمومون هل سها أو نوى الإتمام؟ لزمته متابعته؛ لأن حكم وجوب المتابعة ثابت، فلا يزول بالشك، فإذا اتبعوه فصلاتهم صحيحة لما ذكرناه، وإن علموا أن قيامه لسهو فلهم مفارقته، فإن تابعوه، فقال القاضي: تفسد صلاتهم؛ لأنهم زادوا في الصلاة عمدًا، والصحيح أنها لا تفسد؛ لأنها زيادة لا تفسد بها صلاة الإمام عمدًا، فلا تفسد بها صلاة المأموم، كزيادات الأقوال، وإذا صلى بهم الأربع سهوًا سجد للسهو، وليس بواجب عليه؛ لأنها زيادة لا يبطل عمدها، فلا يجب لها السجود كقراءة السورة في الثالثة.
فصل:
وللمسافر أن يقصر، وله أن يتم؛ لقول الله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] فمفهومه أن القصر رخصة يجوز تركها، «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: خرجت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عمرة رمضان، فأفطر وصمت، وقصر وأتممت، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أفطرت وصمت، وقصرت وأتممت، فقال: أحسنت» رواه أبو داود الطيالسي.
ولأنه تخفيف أبيح للسفر، فجاز تركه كالمسح ثلاثًا، والقصر أفضل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه داوموا عليه، وعابوا من تركه. «قال عبد الرحمن بن يزيد: صلى عثمان أربعًا، فقال عبد الله: صليت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين، ثم تفرقت بكم الطرق، ولوددت أن حظي من أربع، ركعتان متقبلتان» متفق عليه. وأتى ابن عباس رجل فقال: إني
كنت مع صاحب لي في السفر، فكنت أتم وصاحبي يقصر، فقال: بل أنت الذي كنت تقصر وصاحبك يتم.
فصل:
وإذا نوى المسافر الإقامة في بلد أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم، وإن نوى دونها قصر، وعنه: إن نوى الإقامة أربعة أيام أتم؛ لأن الثلاث حد القلة بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا» رواه أبو داود. فإذا أقام أربعًا فقد زاد على حد القلة، فيتم، والأول المذهب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام بمكة فصلى بها إحدى وعشرين صلاة يقصر فيها، وذلك أنه قدم لصبح رابعة، فأقام إلى يوم التروية، فصلى الصبح ثم خرج، فمن أقام مثل إقامته قصر، ومن زاد أتم، ذكره الإمام أحمد، «قال أنس: أقمنا بمكة عشرًا نقصر الصلاة» ، ومعناه ما ذكرناه؛ لأنه حسب خروجه إلى منى وعرفة وما بعده من العشرة، وفي هذا الحديث دليل على أن من قصد بلدًا ينوي الرجوع عنه قريبًا فله القصر فيه؛ لكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر بمكة وهي مقصده، وفيه دليل على أن من قصد رستاقًا، يتنقل فيه لا ينوي إقامة في موضع واحد فله القصر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر بمكة ومنى وعرفة عشرًا، ومن كان بمكة مقيمًا فخرج إلى عرفة عازمًا على أنه إذا رجع إلى مكة لا يقيم بها، فله القصر من حين خروجه، ولو خرج المسافر، فذكر حاجة في بلده قصر في رجوعه إليها، فإذا وصل البلد، فإن كان له به أهل أو مال أتم، وإلا قصر فيه أيضًا.
ومتى مر المسافر ببلده له به أهل أو ماشية أتم؛ لأن ذلك يروى عن عثمان وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
فصل:
ومن لم يجمع على إقامة إحدى وعشرين صلاة قصر، وإن أقام دهرًا، مثل من يقيم لحاجة يرجو إنجازها، أو جهاد أو حبس سلطان أو عدو أو مرض، سواء غلب
على ظنه كثرة ذلك أو قلته؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام في بعض أسفاره تسع عشرة يقصر الصلاة» رواه البخاري. «وأقام بتبوك عشرين يومًا يقصر» رواه الإمام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وأقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين، وقد حال الثلج بينه وبين الدخول، وإن قال: إن لقيت فلانًا أقمت، وإلا لم أقم، لم يبطل حكم سفره؛ لأنه لم يعزم على الإقامة.
فصل:
والملاح الذي أهله معه في السفينة، وحاجة بيته ولا بيت له غيرها، وليس له نية المقام ببلد لا يقصر، نص عليه؛ لأنه غير ظاعن عن بلده ومنزله، فأشبه المقيم ببلد، قال القاضي: والمكاري، والفيج مثل في ذلك، والأولى إباحة القصر لهما، لدخولهما في النصوص المبيحة، وامتناع قياسها على الملاح؛ لأنه لا يمكنهما استصحاب الأهل، ومصالح المنزل في السفر، وزيادة المشقة عليه في سفره بحمل أهله معه بخلاف الملاح.
فصل:
ويحرم المرور بين يدي المصلي؛ لما روى أبو جهيم الأنصاري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه» متفق عليه. ولا يقطعها شيء إلا الكلب الأسود البهيم، الذي لا لون فيه سوى السواد، لما «روى أبو ذر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا قام أحدكم يصلي، فإنه يستره مثل آخر الرحل، فإن لم يكن بين يديه، مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود قلت: يا أبا ذر، ما بال الكلب الأسود، من الكلب الأحمر، من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي، سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما سألتني فقال: الكلب الأسود شيطان» رواه مسلم.
وعن أحمد: أن مرور المرأة والحمار يقطع الصلاة للحديث، والمشهور الأول؛ «لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: عدلتمونا بالكلب والحمار، لقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي صلاته في الليل كلها، وأنا معترضة بينه وبين القبلة» متفق عليه. «وقال: الفضل بن عباس: أتانا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن في بادية فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة، وحمارة لنا وكلبة يعبثان بين يديه، فما بالى ذلك» رواه أبو داود. فإن كان الكلب واقفًا بين يديه ففيه وجهان:
أحدهما: حكمه حكم المار؛ لأنه حصل بين يديه أشبه المار.
والثاني: لا تفسد صلاته؛ لأن حكم الواقف يخالف حكم المار؛ بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي إلى البعير، ويصلي وعائشة في قبلته، ولا يرى ذلك كالمرور، ومن غصب سترة فاستتر بها، فهل يمنع ما مر وراءها، فيه وجهان بناء على الصلاة في الثوب المغصوب.
فصل:
ولا حاجة في مكة إلى سترة، ولا يضره ما مر بين يديه؛ «لأن المطلب قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي حيال الحجر والناس يمرون بين يديه» رواه الخلال. وكان ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يصلي والطواف بينه وبين القبلة تمر المرأة بين يديه فينتظرها حتى تمر، ثم يضع جبهته في موضع قدمها.
[باب قصر الصلاة]
ولا يجوز قصر الصبح والمغرب بالإجماع؛ لأن قصر الصبح يجحف بها لقلتها، وقصر المغرب يخرجها عن كونها وترًا، ويجوز قصر الرباعية فيصليها ركعتين بشروط ستة:
أحدها: أن تكون في سفر طويل قدره أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخًا، ثمانية وأربعون ميلًا بالهاشمي، وذلك نحو من يومين قاصدين؛ لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: يا أهل مكة، لا تقصروا في أدنى من أربعة برد، ما بين عسفان إلى مكة، وكان ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وابن عمر لا يقصران في أقل من أربعة برد، ولأنها مسافة تجمع مشقة السفر من الحل والشدة، فجاز القصر فيها كمسيرة ثلاثة أيام.
وسواء كان في بر أو بحر؛ لأن الاعتبار بالفراسخ، وإن شك في قدر السفر لم يبح القصر؛ لأن الأصل الإتمام، فلا يزول بالشك والاعتبار بالنية دون حقيقة السفر، فلو نوى سفرًا طويلًا، فقصر ثم بدأ له فأقام أو رجع، كانت صلاته صحيحة، ولو خرج طالبًا لآبق أو منتجعًا غيثًا، متى وجده رجع أو أقام لم يقصر، ولو سافر شهرًا.
ولو خرج مكرهًا كالأسير يقصد به بلدًا بعينه فله القصر؛ لأنه تابع لمن يقصد مسافة القصر، فإذا وصل حصنهم أتم حينئذ، نص عليه، وإن كان للبلد طريقان طويلة وقصيرة، فسلك البعيدة ليقصر فله ذلك؛ لأنه سفر يقصر في مثله، فجاز له القصر، كما لو لم يكن له طريق سواه.
فصل:
والثاني: أن يكون السفر مباحًا، فإن سافر لمعصية كالآبق، وقطع الطريق والتجارة في خمر لم يقصر، ولم يترخص بشيء من رخص السفر؛ لأنه لا يجوز تعليق الرخص بالمعاصي، لما فيه من الإعانة عليها والدعاية إليها، ولا يرد الشرع بذلك.
فصل:
والثالث: شروعه بالسفر بخروجه من بيوت قريته؛ لأن الله تعالى قال: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] ، ولا يكون ضاربًا
في الأرض حتى يخرج، فله القصر بين حيطان البساتين؛ لأنها ليست من حيطان البلد، ولا تبنى للسكنى.
وإن خرب بعض البلد فصار فضاء فهو كالصحراء، وإن كانت حيطانه قائمة، فقال القاضي: لا يقصر حتى يفارقها؛ لأنه يمكن السكنى فيها، وقال الآمدي: له القصر بينهما؛ لأنها غير معتمدة للسكنى، فهي كالبساتين.
فصل:
الرابع: أن ينوي القصر مع نية الإحرام، وقال أبو بكر: لا يحتاج إلى النية؛ لأن من خير في العبادة قبل الدخول فيها خير بعد الدخول فيها كالصيام، ولنا أن الأصل الإتمام، فإطلاق النية ينصرف إليه، كما لو نوى الصلاة مطلقًا انصرف إلى الانفراد الذي هو الأصل، فإن شك نية القصر لزمه الإتمام؛ لأنه الأصل، فلو نوى الإتمام في ابتداء الصلاة، أو في أثنائها، أو ما يلزمه الإتمام كالإقامة، أو قلب نيته إلى سفر قريب أو معصية؛ لزمه إتمام الصلاة، ولزم من خلفه متابعته؛ لأن نية الأربع أو ما قد يوجبها قد وجد، فلزمته الأربع كما لو نوى في الابتداء، ومن قصر معتقدًا تحريم القصر فصلاته فاسدة؛ لأنه فعل ما يعتقد تحريمه.
فصل:
الخامس: ألا تكون الصلاة وجبت في الحضر، فلو ترك صلاة حضر فقضاها في السفر لم يجز له قصرها؛ لأنه تعين فعلها أربعًا، فلم يجز النقصان فيها، كما لو نوى أربع ركعات، ولأن القضاء معتبر بالأداء، والأداء أربع، ومن سافر بعد دخول وقت صلاة، لم يقصرها لذلك، وحكي عنه أن له قصرها؛ لأنها صلاة مؤداة في السفر، فأشبه ما لو دخل وقتها فيه.
ولو أحرم بها في سفينة في الحضر، فخرجت به في أثناء الصلاة، أو أحرم بها في
السفر، فدخلت البلد في أثناء الصلاة، لم يقصر؛ لأنها عبادة تختلف بالسفر والحضر، ووجد أحد طرفيها في الحضر، فغلب حكمه كالمسح.
وإن نسي صلاة سفر، فذكرها في الحضر، أتمها لذلك، وإن ذكرها في السفر أو في سفر آخر قصرها؛ لأن وجوبها وفعلها وجدا في السفر، فكان له قصرها كما لو أداها، ويتخرج أن يلزمه إتمامها إذا ذكرها في سفر آخر؛ لأن الوجوب كان ثابتًا في ذمته في الحضر.
فصل:
السادس: أن لا يأتم بمقيم، فإن ائتم بمقيم لزمه الإتمام، سواء ائتم به في الصلاة كلها أو جزء منها؛ لأن «ابن عباس سئل: ما بال المسافر يصلي ركعتين حال الانفراد وأربعًا إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة» رواه الإمام أحمد. وهذا ينصرف إلى سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأنها صلاة مردودة من أربع، فلا يصليها خلف من يصلي الأربع كالجمعة، ولو أدرك المسافر من الجمعة أقل من ركعة لزمه إتمامها أربعًا، لائتمامه بالمقيم، ومن ائتم بالمقيم ففسدت صلاته، لم يجز له قصرها بعد ذلك؛ لأنها تعينت عليه تامة لائتمامه بمقيم.
ومن أحرم مع من يظنه مقيمًا أو يشك فيه، لزمه الإتمام، وإن قصر إمامه اعتبارًا بالنية، وإن غلب على ظنه أنه مسافر لدليل، فله أن ينوي القصر، ويتبع إمامه، فيقصر بقصره، ويتم بإتمامه، وإن أحدث إمامه قبل علمه بحاله، فله القصر؛ لأن الظاهر أنه مسافر.
وإن أم المسافر مقيمًا لزم المقيم الإتمام، ويستحب للإمام أن يقول لهم: أتموا فإنا قوم سفر، لما «روى عمران بن حصين قال: شهدت الفتح مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان لا يصلي إلا ركعتين، ثم يقول لأهل البلد: صلوا أربعًا فإنا سفر» رواه أبو داود.
وإن أتم الإمام بهم صحت الصلاة.
وعنه: تفسد صلاة المقيمين؛ لأنهم ائتموا بمتنفل في الركعتين الأخيرتين، والأول المذهب؛ لأن الإتمام يلزمه بنيته.
وإن نسي المسافر فقام إلى ثالثة فله أن يجلس، ولا يلزمه الإتمام؛ لأن الموجب للإتمام نيته، أو ائتمامه بمقيم ولم يوجد، فإن جلس سجد للسهو، وله أن يتم.
فإن لم يعلم المأمومون هل سها أو نوى الإتمام؟ لزمته متابعته؛ لأن حكم وجوب المتابعة ثابت، فلا يزول بالشك، فإذا اتبعوه فصلاتهم صحيحة لما ذكرناه، وإن علموا أن قيامه لسهو فلهم مفارقته، فإن تابعوه، فقال القاضي: تفسد صلاتهم؛ لأنهم زادوا في الصلاة عمدًا، والصحيح أنها لا تفسد؛ لأنها زيادة لا تفسد بها صلاة الإمام عمدًا، فلا تفسد بها صلاة المأموم، كزيادات الأقوال، وإذا صلى بهم الأربع سهوًا سجد للسهو، وليس بواجب عليه؛ لأنها زيادة لا يبطل عمدها، فلا يجب لها السجود كقراءة السورة في الثالثة.
فصل:
وللمسافر أن يقصر، وله أن يتم؛ لقول الله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] فمفهومه أن القصر رخصة يجوز تركها، «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: خرجت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عمرة رمضان، فأفطر وصمت، وقصر وأتممت، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أفطرت وصمت، وقصرت وأتممت، فقال: أحسنت» رواه أبو داود الطيالسي.
ولأنه تخفيف أبيح للسفر، فجاز تركه كالمسح ثلاثًا، والقصر أفضل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه داوموا عليه، وعابوا من تركه. «قال عبد الرحمن بن يزيد: صلى عثمان أربعًا، فقال عبد الله: صليت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين، ثم تفرقت بكم الطرق، ولوددت أن حظي من أربع، ركعتان متقبلتان» متفق عليه. وأتى ابن عباس رجل فقال: إني
كنت مع صاحب لي في السفر، فكنت أتم وصاحبي يقصر، فقال: بل أنت الذي كنت تقصر وصاحبك يتم.
فصل:
وإذا نوى المسافر الإقامة في بلد أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم، وإن نوى دونها قصر، وعنه: إن نوى الإقامة أربعة أيام أتم؛ لأن الثلاث حد القلة بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا» رواه أبو داود. فإذا أقام أربعًا فقد زاد على حد القلة، فيتم، والأول المذهب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام بمكة فصلى بها إحدى وعشرين صلاة يقصر فيها، وذلك أنه قدم لصبح رابعة، فأقام إلى يوم التروية، فصلى الصبح ثم خرج، فمن أقام مثل إقامته قصر، ومن زاد أتم، ذكره الإمام أحمد، «قال أنس: أقمنا بمكة عشرًا نقصر الصلاة» ، ومعناه ما ذكرناه؛ لأنه حسب خروجه إلى منى وعرفة وما بعده من العشرة، وفي هذا الحديث دليل على أن من قصد بلدًا ينوي الرجوع عنه قريبًا فله القصر فيه؛ لكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر بمكة وهي مقصده، وفيه دليل على أن من قصد رستاقًا، يتنقل فيه لا ينوي إقامة في موضع واحد فله القصر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر بمكة ومنى وعرفة عشرًا، ومن كان بمكة مقيمًا فخرج إلى عرفة عازمًا على أنه إذا رجع إلى مكة لا يقيم بها، فله القصر من حين خروجه، ولو خرج المسافر، فذكر حاجة في بلده قصر في رجوعه إليها، فإذا وصل البلد، فإن كان له به أهل أو مال أتم، وإلا قصر فيه أيضًا.
ومتى مر المسافر ببلده له به أهل أو ماشية أتم؛ لأن ذلك يروى عن عثمان وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
فصل:
ومن لم يجمع على إقامة إحدى وعشرين صلاة قصر، وإن أقام دهرًا، مثل من يقيم لحاجة يرجو إنجازها، أو جهاد أو حبس سلطان أو عدو أو مرض، سواء غلب
على ظنه كثرة ذلك أو قلته؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام في بعض أسفاره تسع عشرة يقصر الصلاة» رواه البخاري. «وأقام بتبوك عشرين يومًا يقصر» رواه الإمام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وأقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين، وقد حال الثلج بينه وبين الدخول، وإن قال: إن لقيت فلانًا أقمت، وإلا لم أقم، لم يبطل حكم سفره؛ لأنه لم يعزم على الإقامة.
فصل:
والملاح الذي أهله معه في السفينة، وحاجة بيته ولا بيت له غيرها، وليس له نية المقام ببلد لا يقصر، نص عليه؛ لأنه غير ظاعن عن بلده ومنزله، فأشبه المقيم ببلد، قال القاضي: والمكاري، والفيج مثل في ذلك، والأولى إباحة القصر لهما، لدخولهما في النصوص المبيحة، وامتناع قياسها على الملاح؛ لأنه لا يمكنهما استصحاب الأهل، ومصالح المنزل في السفر، وزيادة المشقة عليه في سفره بحمل أهله معه بخلاف الملاح.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب الجمع بين الصلاتين]
[باب الجمع بين الصلاتين]
وأسباب الجمع ثلاثة:
أحدها: السفر المبيح للقصر؛ لما «روى أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا عجل به السير يؤخر الظهر إلى وقت العصر، فيجمع بينها ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق» متفق عليه. وهذا لفظ مسلم، وخص الخرقي الجمع بهذه الحالة، إذا ارتحل قبل دخول الوقت الأولى أخرها حتى يجمعها مع الثانية، في وقت الثانية، وروى نحوه عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
والمذهب جواز الجمع لمن جاز له القصر في نزوله وسيره، وله الخيرة بين تقديم الثانية، فيصليها مع الأولى، وبين تأخير الأولى إلى الثانية، لما «روى معاذ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخر
الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا ثم سار، وإذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء، فصلاها مع المغرب» . قال الترمذي: هذا حديث حسن.
وروى ابن عباس نحوه، وروى أنس نحوه، أخرجه البخاري. ولأنها رخصة من رخص السفر، فلم يعتبر فيها وجود السير كسائر رخصه، فإن جمع بينهما في وقت الأولى اعتبر ثلاثة شروط: أن ينوي الجمع عند الإحرام بالأولى؛ لأنها نية تفتقر إليها، فاعتبرت عند الإحرام كنية القصر، وفيه وجه آخر أنه يجزئه، أن ينوي قبل الفراغ من الأولى؛ لأنه موضع الجمع بين الصلاتين، فإذا لم تتأخر النية عنه جاز، وقال أبو بكر: لا يحتاج الجمع إلى نية؛ كقوله في القصر، وقد مضى الكلام معه.
الشرط الثاني: أن لا يفرق بينهما إلا تفريقًا يسيرًا؛ لأن معنى الجمع المتابعة والمقرنة، ولا يحصل ذلك مع الفرق الطويل، والمرجع في طول الفرق وقصره إلى العرف، فإن احتاج إلى وضوء خفيف لم تبطل، وإن صلى بينهما سنة الصلاة فعلى روايتين.
الشرط الثالث: وجود العذر حال افتتاح الأولى، والفراغ منها، وافتتاح الثانية؛ لأن افتتاح الأولى موضع النية، وبافتتاح الثانية يحصل الجمع، فاعتبر العذر فيها، فإن انقطع العذر في غير هذه المواضع لم يؤثر، وإن جمع في وقت الثانية اعتبر أن ينوي التأخير للجمع في وقت الأولى، إلى أن يبقى منه قدر فعلها، واستمرار العذر إلى وقت الثانية، ولا يعتبر وجوده في وقت الثانية؛ لأنها صارت في غير وقتها، وقد جوز له التأخير ولا يعتبر المواصلة بينهما في أصح الوجهين؛ لأن الثانية مفعولة في وقتها، فهي أداء على كل حال، والأولى معها كصلاة فائتة.
فصل:
والسبب الثاني: المطر يبيح الجمع بين المغرب والعشاء؛ «لأن أبا سلمة قال: من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء» ، وكان ابن عمر يجمع إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء، ولا يجمع بين الظهر والعصر للمطر، قال أحمد: ما سمعت بذلك، وهذا اختيار أبي بكر، وذكر بعض أصحابنا وجهًا في جوازه قياسًا على الليل، ولا يصح لأن المشقة في المطر إنما تعظم في الليل لظلمته، فلا يقاس عليه غيره.
والمطر المبيح للجمع هو الذي يبل الثياب، وتلحق المشقة بالخروج فيه والثلج مثله في هذا، فأما الطل والمطر الذي لا يبل الثياب، فلا يبيح الجمع؛ لعدم المشقة فيه، وهل يجوز الجمع لمن يصلي منفردًا، أو لمقيم في المسجد، أو من طريقه إليه في ظلال؟ على وجهين:
أحدهما: لا يجوز لعدم المشقة.
والثاني: يجوز؛ لأن العذر العام لا يعتبر فيه حقيقة المشقة كالسفر.
والوحل بمجرده مبيح للجمع؛ لأنه يساوي المطر في مشقته وإسقاطه للجمعة والجماعة، فهو كالمطر، وفيه وجه آخر أنه لا يبيح، لاختلافهما في المشقة، وفي الريح الشديدة في الليلة المظلمة وجهان.
فصل:
والسبب الثالث: المرض يبيح الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء إذا لحقه بتركه مشقة وضعف؛ لأن «ابن عباس قال: جمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر» متفق عليه. وقد أجمعنا على
أن الجمع لا يجوز لغير عذر، ولم يبق إلا المرض، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر سهلة بنت سهيل، وحمنة بنت جحش بالجمع بين الصلاتين لأجل الاستحاضة، وهو نوع مرض، ثم هو مخير بين التقديم والتأخير، أي ذلك كان أسهل عليه فعله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقدم إذا ارتحل بعد دخول الوقت، ويؤخر إذا ارتحل قبله طلبًا للأسهل، فكذلك المريض، وإن كان الجمع عنده واحدًا فالأفضل التأخير، فأما الجمع في المطر، فلا تحصل فائدة الجمع فيه إلا بتقديم العشاء إلى المغرب، فيكون ذلك الأولى، والله أعلم.
وأسباب الجمع ثلاثة:
أحدها: السفر المبيح للقصر؛ لما «روى أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا عجل به السير يؤخر الظهر إلى وقت العصر، فيجمع بينها ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق» متفق عليه. وهذا لفظ مسلم، وخص الخرقي الجمع بهذه الحالة، إذا ارتحل قبل دخول الوقت الأولى أخرها حتى يجمعها مع الثانية، في وقت الثانية، وروى نحوه عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
والمذهب جواز الجمع لمن جاز له القصر في نزوله وسيره، وله الخيرة بين تقديم الثانية، فيصليها مع الأولى، وبين تأخير الأولى إلى الثانية، لما «روى معاذ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخر
الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا ثم سار، وإذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء، فصلاها مع المغرب» . قال الترمذي: هذا حديث حسن.
وروى ابن عباس نحوه، وروى أنس نحوه، أخرجه البخاري. ولأنها رخصة من رخص السفر، فلم يعتبر فيها وجود السير كسائر رخصه، فإن جمع بينهما في وقت الأولى اعتبر ثلاثة شروط: أن ينوي الجمع عند الإحرام بالأولى؛ لأنها نية تفتقر إليها، فاعتبرت عند الإحرام كنية القصر، وفيه وجه آخر أنه يجزئه، أن ينوي قبل الفراغ من الأولى؛ لأنه موضع الجمع بين الصلاتين، فإذا لم تتأخر النية عنه جاز، وقال أبو بكر: لا يحتاج الجمع إلى نية؛ كقوله في القصر، وقد مضى الكلام معه.
الشرط الثاني: أن لا يفرق بينهما إلا تفريقًا يسيرًا؛ لأن معنى الجمع المتابعة والمقرنة، ولا يحصل ذلك مع الفرق الطويل، والمرجع في طول الفرق وقصره إلى العرف، فإن احتاج إلى وضوء خفيف لم تبطل، وإن صلى بينهما سنة الصلاة فعلى روايتين.
الشرط الثالث: وجود العذر حال افتتاح الأولى، والفراغ منها، وافتتاح الثانية؛ لأن افتتاح الأولى موضع النية، وبافتتاح الثانية يحصل الجمع، فاعتبر العذر فيها، فإن انقطع العذر في غير هذه المواضع لم يؤثر، وإن جمع في وقت الثانية اعتبر أن ينوي التأخير للجمع في وقت الأولى، إلى أن يبقى منه قدر فعلها، واستمرار العذر إلى وقت الثانية، ولا يعتبر وجوده في وقت الثانية؛ لأنها صارت في غير وقتها، وقد جوز له التأخير ولا يعتبر المواصلة بينهما في أصح الوجهين؛ لأن الثانية مفعولة في وقتها، فهي أداء على كل حال، والأولى معها كصلاة فائتة.
فصل:
والسبب الثاني: المطر يبيح الجمع بين المغرب والعشاء؛ «لأن أبا سلمة قال: من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء» ، وكان ابن عمر يجمع إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء، ولا يجمع بين الظهر والعصر للمطر، قال أحمد: ما سمعت بذلك، وهذا اختيار أبي بكر، وذكر بعض أصحابنا وجهًا في جوازه قياسًا على الليل، ولا يصح لأن المشقة في المطر إنما تعظم في الليل لظلمته، فلا يقاس عليه غيره.
والمطر المبيح للجمع هو الذي يبل الثياب، وتلحق المشقة بالخروج فيه والثلج مثله في هذا، فأما الطل والمطر الذي لا يبل الثياب، فلا يبيح الجمع؛ لعدم المشقة فيه، وهل يجوز الجمع لمن يصلي منفردًا، أو لمقيم في المسجد، أو من طريقه إليه في ظلال؟ على وجهين:
أحدهما: لا يجوز لعدم المشقة.
والثاني: يجوز؛ لأن العذر العام لا يعتبر فيه حقيقة المشقة كالسفر.
والوحل بمجرده مبيح للجمع؛ لأنه يساوي المطر في مشقته وإسقاطه للجمعة والجماعة، فهو كالمطر، وفيه وجه آخر أنه لا يبيح، لاختلافهما في المشقة، وفي الريح الشديدة في الليلة المظلمة وجهان.
فصل:
والسبب الثالث: المرض يبيح الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء إذا لحقه بتركه مشقة وضعف؛ لأن «ابن عباس قال: جمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر» متفق عليه. وقد أجمعنا على
أن الجمع لا يجوز لغير عذر، ولم يبق إلا المرض، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر سهلة بنت سهيل، وحمنة بنت جحش بالجمع بين الصلاتين لأجل الاستحاضة، وهو نوع مرض، ثم هو مخير بين التقديم والتأخير، أي ذلك كان أسهل عليه فعله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقدم إذا ارتحل بعد دخول الوقت، ويؤخر إذا ارتحل قبله طلبًا للأسهل، فكذلك المريض، وإن كان الجمع عنده واحدًا فالأفضل التأخير، فأما الجمع في المطر، فلا تحصل فائدة الجمع فيه إلا بتقديم العشاء إلى المغرب، فيكون ذلك الأولى، والله أعلم.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب صلاة المريض]
[باب صلاة المريض]
إذا عجز عن الصلاة قائمًا صلى قاعدًا؛ «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمران بن حصين: صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب» رواه البخاري. وصلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاعدًا بأصحابه وهو شاك.
وصفة جلوسه على ما ذكرنا في صلاة التطوع.
فإن عجز عن الركوع والسجود أومأ بهما، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه، يقرب وجهه من الأرض في السجود قدر طاقته.
فإن سجد على وسادة بين يديه جاز؛ لأن أم سلمة سجدت على وسادة لرمد بها، ولا يجعلها أرفع من مكان يمكنه حط وجهه إليه.
وإن أمكنته الصلاة قائمًا وحده ولم تمكنه من الإمام إلا بالقعود في بعضها فهو مخير فيها؛ لأنه يفعل في كل واحدة منهما واجبًا ويترك واجبًا، وإن أمكنه القيام وعجز عن الركوع والسجود صلى قائمًا، فأومأ بالركوع، ثم جلس فأومأ بالسجود؛ لأن سقوط فرض لا يسقط فرضًا غيره.
وإن تقوس ظهره فصار كالراكع رفع حال القيام قدر طاقته، ثم انحنى في الركوع قليلًا آخر، وإن كان بعينه رمد فقال ثقات من العلماء بالطب: إن صليت مستلقيًا أمكن مداواتك جاز ذلك؛ لأن أم سلمة تركت السجود لرمد بها، ولأنه يخاف من الضرر، أشبه المرض.
فصل:
وإن عجز عن القعود صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة بوجهه؛ لحديث عمران، وإن صلى على جنبه الأيسر جاز للخبر، ولأنه يستقبل القبلة به، وإن صلى مستلقيًا على ظهره بحيث إذا قعد كان وجهه إليها جاز؛ لأنه نوع استقبال، ويحتمل أن لا يجوز لمخالفته الأمر، وتركه الاستقبال بوجهه وجملته.
فإن عجز عن الصلاة على جنبه صلى على ظهره، ويومئ بالركوع والسجود برأسه، فإن عجز فبطرفيه، ولا تسقط الصلاة عنه ما دام عقله ثابتًا.
فصل:
وإن قدر على القيام والقعود في أثناء الصلاة انتقل إليه، وأتم صلاته. وإن ابتدأها قائمًا أو قاعدًا فعجز عن ذلك في أثنائها أتم صلاته على ما أمكنه؛ لأنه يجوز أن يؤدي جميعها قائمًا حال القدرة، وقاعدًا حال العجز، فجاز أن يفعل بعضها قائمًا مع القدرة، وبعضها قاعدًا مع العجز.
فصل:
ومن كان في ماء أو طين لا يمكنه السجود إلا بالتلوث والبلل فله الصلاة بالإيماء، والصلاة على دابته؛ لأن أنس بن مالك صلى المكتوبة في يوم مطير على دابته، «وروى يعلى بن أمية، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه انتهى إلى مضيق ومعه أصحابه، والسماء من فوقهم، والبلة من أسفل منهم، فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه على ظهور دوابهم يومئون ويجعلون السجود أخفض من الركوع» رواه الأثرم، والترمذي. فإن كان البلل يسيرًا لا أذى فيه لزمه السجود؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف من صلاته وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين» متفق عليه.
وهل تجوز الصلاة على الدابة لأجل مرض؟ فيه روايتان:
إحداهما: تجوز، اختارها أبو بكر؛ لأن مشقة النزول في المرض أكثر من المشقة بالمطر.
والثانية: لا تجوز؛ لأن ابن عمر كان ينزل مرضاه، ولأن الصلاة على الأرض أسكن له وأمكن، بخلاف صاحب الطين.
فإن خاف المريض بالنزول ضررًا غير محتمل كالانقطاع عن الرفقة ونحوه فله الصلاة عليها، رواية واحدة؛ لأنه خائف على نفسه، فأشبه الخائف من عدو.
إذا عجز عن الصلاة قائمًا صلى قاعدًا؛ «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمران بن حصين: صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب» رواه البخاري. وصلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاعدًا بأصحابه وهو شاك.
وصفة جلوسه على ما ذكرنا في صلاة التطوع.
فإن عجز عن الركوع والسجود أومأ بهما، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه، يقرب وجهه من الأرض في السجود قدر طاقته.
فإن سجد على وسادة بين يديه جاز؛ لأن أم سلمة سجدت على وسادة لرمد بها، ولا يجعلها أرفع من مكان يمكنه حط وجهه إليه.
وإن أمكنته الصلاة قائمًا وحده ولم تمكنه من الإمام إلا بالقعود في بعضها فهو مخير فيها؛ لأنه يفعل في كل واحدة منهما واجبًا ويترك واجبًا، وإن أمكنه القيام وعجز عن الركوع والسجود صلى قائمًا، فأومأ بالركوع، ثم جلس فأومأ بالسجود؛ لأن سقوط فرض لا يسقط فرضًا غيره.
وإن تقوس ظهره فصار كالراكع رفع حال القيام قدر طاقته، ثم انحنى في الركوع قليلًا آخر، وإن كان بعينه رمد فقال ثقات من العلماء بالطب: إن صليت مستلقيًا أمكن مداواتك جاز ذلك؛ لأن أم سلمة تركت السجود لرمد بها، ولأنه يخاف من الضرر، أشبه المرض.
فصل:
وإن عجز عن القعود صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة بوجهه؛ لحديث عمران، وإن صلى على جنبه الأيسر جاز للخبر، ولأنه يستقبل القبلة به، وإن صلى مستلقيًا على ظهره بحيث إذا قعد كان وجهه إليها جاز؛ لأنه نوع استقبال، ويحتمل أن لا يجوز لمخالفته الأمر، وتركه الاستقبال بوجهه وجملته.
فإن عجز عن الصلاة على جنبه صلى على ظهره، ويومئ بالركوع والسجود برأسه، فإن عجز فبطرفيه، ولا تسقط الصلاة عنه ما دام عقله ثابتًا.
فصل:
وإن قدر على القيام والقعود في أثناء الصلاة انتقل إليه، وأتم صلاته. وإن ابتدأها قائمًا أو قاعدًا فعجز عن ذلك في أثنائها أتم صلاته على ما أمكنه؛ لأنه يجوز أن يؤدي جميعها قائمًا حال القدرة، وقاعدًا حال العجز، فجاز أن يفعل بعضها قائمًا مع القدرة، وبعضها قاعدًا مع العجز.
فصل:
ومن كان في ماء أو طين لا يمكنه السجود إلا بالتلوث والبلل فله الصلاة بالإيماء، والصلاة على دابته؛ لأن أنس بن مالك صلى المكتوبة في يوم مطير على دابته، «وروى يعلى بن أمية، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه انتهى إلى مضيق ومعه أصحابه، والسماء من فوقهم، والبلة من أسفل منهم، فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه على ظهور دوابهم يومئون ويجعلون السجود أخفض من الركوع» رواه الأثرم، والترمذي. فإن كان البلل يسيرًا لا أذى فيه لزمه السجود؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف من صلاته وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين» متفق عليه.
وهل تجوز الصلاة على الدابة لأجل مرض؟ فيه روايتان:
إحداهما: تجوز، اختارها أبو بكر؛ لأن مشقة النزول في المرض أكثر من المشقة بالمطر.
والثانية: لا تجوز؛ لأن ابن عمر كان ينزل مرضاه، ولأن الصلاة على الأرض أسكن له وأمكن، بخلاف صاحب الطين.
فإن خاف المريض بالنزول ضررًا غير محتمل كالانقطاع عن الرفقة ونحوه فله الصلاة عليها، رواية واحدة؛ لأنه خائف على نفسه، فأشبه الخائف من عدو.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب صلاة الخوف]
[باب صلاة الخوف]
تجوز صلاة الخوف في كل قتال مباح، كقتال الكفارة والبغاة والمحاربين، ولا تجوز في محرم لأنها رخصة، فلا تستباح بالمحرم كالقصر.
والخوف على ضربين: شديد وغيره، فغير الشديد، يجوز أن يصلي بهم على الصفة التي صلاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الأحاديث التي جاءت في صلاة الخوف كلها أحاديث جياد صحاح، وهي تختلف، فأقول: إن ذلك كله جائز لمن فعله، إلا أن حديث سهل بن أبي خيثمة أنكى في العذر فأنا أختاره، وقال ستة أو سبعة: يروى فيها كلها جائز، فتذكر الوجوه التي بلغنا.
فالوجه الأول: منها ما «روى صالح بن خوات، عن من صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف، أن طائفة صلت معه، وطائفة وجاه فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائمًا فأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسًا، وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم» متفق عليه. فهذا حديث سهل الذي اختاره أحمد.
ويشترط أن يكون في المسلمين كثرة يمكن تفريقهم طائفتين؛ كل طائفة ثلاثة فأكثر.
ويقرأ الإمام في حال الانتظار، ويطيل حتى يدركوه؛ لأن الصلاة ليست محلًا للسكوت، وتكون الطائفة الأولى في حكم الائتمام قبل مفارقته إن سها لحقهم حكم سهوه، وسجدوا له، وإن سهوا لم يلحقهم حكم سهوهم؛ لأنهم مأمومون، فإذا فارقوه صاروا منفردين لا يلحقهم سهوه، وإن سهوا سجدوا؛ لأنهم منفردون، فأما الطائفة الثانية، فلحقها سهو إمامها في جميع الصلاة، ما أدركوه معه وما لم يدركوه كالمسبوق، ولا يلحقهم حكم سهوهم في شيء من صلاتهم؛ لأنهم إن فارقوه فهم مؤتمون به حكمًا؛ لأنهم يسلمون بسلامه، فإذا قضوا ما عليهم فسجد إمامهم سجدوا معه، فإن
سجد قبل إتمامه سجدوا معه؛ لأنه إمامهم فلزمهم متابعته، ولا يعيدون السجود بعد فراغهم من التشهد؛ لأنهم لم ينفردوا عن الإمام، فلا يلزمهم من السجود أكثر مما يلزمه، بخلاف المسبوق.
فصل:
الوجه الثاني: أن يقسمهم طائفتين، يصلي بكل طائفة صلاة كاملة، كما «روى أبو بكرة قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خوف الظهر، فصف بعضهم خلفه، وبعضهم بإزاء العدو، فصلى ركعتين ثم سلم، فانطلق الذين صلوا معه، فوقفوا موقف أصحابهم، ثم جاء أولئك فصلوا خلفه، فصلى بهم ركعتين ثم سلم، فكان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعًا، ولأصحابه ركعتين ركعتين» رواه أبو داود.
فصل:
الوجه الثالث: أن يصلي بهم كالتي قبلها، إلا أنه لا يسلم إلا في آخر الأربع، كما «روى جابر قال: أقبلنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى إذ كنا بذات الرقاع، فنودي بالصلاة، فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطائفة ركعتين، ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع ركعات، وللقوم ركعتان» رواه البخاري.
فصل:
الوجه الرابع: ما «روى عبد الله بن عمر قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف في بعض أيامه، فقامت طائفة معه، وطائفة بإزاء العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ذهبوا، وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة، ثم قضت الطائفتان ركعة ركعة» متفق عليه. فهذا الوجه جوز أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصلاة به، واختار حديث سهل؛ لأنه أشبه بظاهر الكتاب وأحوط للصلاة، وأنكى في العدو، وأما الكتاب فقول الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] الآية، وقوله: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102]
ظاهره أن جميع صلاتها معه، وأن الطائفة الأولى قد صلت جميع صلاتها، ولا يتحقق هذا في هذا الوجه، وأما الاحتياط للحرب، فإن كل طائفة تنصرف بعد الفراغ من صلاتها، وتتمكن من الضرب والكلام والتحريض وغيره، وفي هذا الوجه تنصرف كل طائفة، وهي في حكم الصلاة لا تتمكن من ذلك، ولا يخلو من أن تمشي أو تركب، وذلك عمل كثير يفسدها.
فصل:
الوجه الخامس: إذا كان العدو في جهة القبلة، بحيث لا يخفى بعضهم على المسلمين ولم يخافوا كمينًا، صلى بهم كما «روى جابر قال: شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف، فصففنا خلفه صفين، والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكبرنا جميعًا، ثم ركع وركعنا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السجود، وقام الصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه كان مؤخرًا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحور العدو، فلما قضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السجود، وقام الصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجد، ثم سلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسلمنا جميعًا» أخرجه مسلم.
فهذه الأوجه الخمسة جائزة لمن فعلها، ولا نعرف وجهًا سادسًا غير ما «روى ابن عباس، قال: صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذي قرد صلاة الخوف، والمشركون بينه وبين القبلة، فصف صفًا خلفه وصفًا موازي العدو، فصلى بهم ركعة، ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، ورجع هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، فصلى بهم ركعة، ثم سلم عليهم، فكانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتان، ولهم ركعة ركعة» رواه الأثرم. فكلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقتضي كون هذا من الوجوه الجائزة، إلا أن أصحابه قالوا: لا تأثير للخوف في عدد الركعات، فيدل على أن هذا ليس بمذهب له.
فصل:
فإن صلى المغرب على حديث سهل، صلى بالطائفة الأولى ركعتين، وتتم لأنفسها ركعة، تقرأ فيها بالحمد لله، وبالثانية ركعة، وتتم لأنفسها ركعتين تقرأ فيها بالحمد لله وسورة، وتفارقه الأولى حين يقوم إلى الثالثة في أحد الوجهين؛ لأن الانتظار في القيام أولى لكثرة ثواب القيام، واستحباب تقصير التشهد، وفي الآخر تفارقه حين يفرغ من تشهده الأول، فتقوم ويثبت هو جالسًا لتدرك الثانية جميع الركعة الثالثة، ويطيل التشهد حتى تجيء الطائفة الثانية فينهض، ثم تكبر الطائفة وتدخل معه، فإذا جلس للتشهد الآخر نهضت لقضاء ما فاتها، ولم تتشهد معه؛ لأنه ليس بموضع تشهدها، ويحتمل أن تتشهد معه إذا قلنا: إنها تقضي ركعتين متواليتين؛ لئلا يفضي إلى وقوع جميع الصلاة بتشهد واحد.
فصل:
ويجوز صلاة الخوف للمقيمين؛ لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] الآية. ولأنها حالة خوف، فأشبهت حالة السفر، ويصلي بكل طائفة ركعتين، وتتم الطائفة الأولى بالحمد لله في كل ركعة، والطائفة الأخرى بالحمد لله وسورة، وفي موضع مفارقة الطائفة الأولى له وجهان، على ما ذكرنا في المغرب، وإن صلى بطائفة ثلاث ركعات وبالأخرى ركعة، أو صلى المغرب بالأولى ركعة وبالثانية ركعتين، جاز لأنه لم يزد على انتظارين ورد الشرع بهما.
وإن فرقهم أربع فرق، وصلى بكل طائفة ركعة أو ثلاث فرق في المغرب صحت صلاة الأولى والثانية؛ لأنهما فارقتاه لعذر، وبطلت صلاة الإمام لزيادته انتظارًا لم يرد الشرع بمثله، وصلاة الثالثة والرابعة لاقتدائهما بمن صلاته باطلة، وقال ابن حامد: إن لم يعلما ببطلان صلاته صحت صلاتهما للعذر، فأشبه من صلى وراء محدث يجهل هو والإمام حدثه.
فصل:
إذا صلى صلاة الخوف من غير خوف لم تصح؛ لأنها لا تنفك من مفارق إمامه، أو تارك متابعته، أو قاصر مع إتمام إمامته، أو قائم للقضاء قبل سلامه، وكل ذلك مبطل إلا مع العذر، إلا أن يصلي بكل طائفة صلاة تامة على حديث أبي بكرة.
فصل:
قال أصحابنا: لا يجب حمل السلاح في صلاة الخوف؛ لأنه لو وجب لكان شرطًا كالسترة، ويستحب أن يحمل ما يدفع به عن نفسه كالسيف والسكين، ويكره ما يثقله كالجوشن، وما يمنع إكمال السجود كالمغفر، وما يؤذي به غيره كالرمح متوسطًا، فإن كان في حاشية لم يكره، ولا يجوز حمل نجس ولا ما يخل بركن الصلاة، إلا أن يخاف وقوع السهام والحجارة ونحوها به، فيجوز للضرورة، ويحتمل وجوب حمل السلاح للأمر به بقوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء: 102] فيدل على الجناح عند عدم ذلك.
فصل:
الضرب الثاني: الخوف الشديد، مثل التحام الحرب والقتال، ومصيرهم إلى المطاردة، فلهم أن يصلوا كيفما أمكنهم رجالًا وركبانًا، يومون بالركوع والسجود على قدر الطاقة، ويتقدمون ويتأخرون ويضربون ويطعنون، ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها، وصلاتهم صحيحة، وإن هرب هربًا مباحًا من عدو أو سيل أو سبع أو نار لا يمكنه التخلص إلا بالهرب، أو كان أسيرًا يخاف الكفار إن صلى أو مختفيًا في موضع يخاف أن يظهر عليه صلى كيفما أمكنه، قائمًا أو قاعدًا أو مستلقيًا إلى القبلة وغيرها بالإيماء في السفر والحضر، فإن أمن في صلاته أتمها صلاة أمن، وإن ابتدأها آمنًا فعرض له الخوف أتمها صلاة خائف؛ لأنه يبني على صلاة صحيحة، فجاز كبناء صلاة المرض على صلاة الصحة.
وإن رأى سوادًا فظنه عدوًا، فصلى صلاة الخوف، ثم بان أنه غير عدو، أو بينه وبينه ما يمنع العبور أعاد؛ لأنه لم يوجد المبيح فأشبه من ظن أنه متطهر، فصلى ثم علم بحدثه، قال أصحابنا: ويجوز أن يصلوا في شدة الخوف جماعة رجالًا وركبانًا، ويعفى عن تقدمهم الإمام لأجل الحاجة، كما عفي عن العمل الكثير وترك الاستقبال.
تجوز صلاة الخوف في كل قتال مباح، كقتال الكفارة والبغاة والمحاربين، ولا تجوز في محرم لأنها رخصة، فلا تستباح بالمحرم كالقصر.
والخوف على ضربين: شديد وغيره، فغير الشديد، يجوز أن يصلي بهم على الصفة التي صلاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الأحاديث التي جاءت في صلاة الخوف كلها أحاديث جياد صحاح، وهي تختلف، فأقول: إن ذلك كله جائز لمن فعله، إلا أن حديث سهل بن أبي خيثمة أنكى في العذر فأنا أختاره، وقال ستة أو سبعة: يروى فيها كلها جائز، فتذكر الوجوه التي بلغنا.
فالوجه الأول: منها ما «روى صالح بن خوات، عن من صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف، أن طائفة صلت معه، وطائفة وجاه فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائمًا فأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسًا، وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم» متفق عليه. فهذا حديث سهل الذي اختاره أحمد.
ويشترط أن يكون في المسلمين كثرة يمكن تفريقهم طائفتين؛ كل طائفة ثلاثة فأكثر.
ويقرأ الإمام في حال الانتظار، ويطيل حتى يدركوه؛ لأن الصلاة ليست محلًا للسكوت، وتكون الطائفة الأولى في حكم الائتمام قبل مفارقته إن سها لحقهم حكم سهوه، وسجدوا له، وإن سهوا لم يلحقهم حكم سهوهم؛ لأنهم مأمومون، فإذا فارقوه صاروا منفردين لا يلحقهم سهوه، وإن سهوا سجدوا؛ لأنهم منفردون، فأما الطائفة الثانية، فلحقها سهو إمامها في جميع الصلاة، ما أدركوه معه وما لم يدركوه كالمسبوق، ولا يلحقهم حكم سهوهم في شيء من صلاتهم؛ لأنهم إن فارقوه فهم مؤتمون به حكمًا؛ لأنهم يسلمون بسلامه، فإذا قضوا ما عليهم فسجد إمامهم سجدوا معه، فإن
سجد قبل إتمامه سجدوا معه؛ لأنه إمامهم فلزمهم متابعته، ولا يعيدون السجود بعد فراغهم من التشهد؛ لأنهم لم ينفردوا عن الإمام، فلا يلزمهم من السجود أكثر مما يلزمه، بخلاف المسبوق.
فصل:
الوجه الثاني: أن يقسمهم طائفتين، يصلي بكل طائفة صلاة كاملة، كما «روى أبو بكرة قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خوف الظهر، فصف بعضهم خلفه، وبعضهم بإزاء العدو، فصلى ركعتين ثم سلم، فانطلق الذين صلوا معه، فوقفوا موقف أصحابهم، ثم جاء أولئك فصلوا خلفه، فصلى بهم ركعتين ثم سلم، فكان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعًا، ولأصحابه ركعتين ركعتين» رواه أبو داود.
فصل:
الوجه الثالث: أن يصلي بهم كالتي قبلها، إلا أنه لا يسلم إلا في آخر الأربع، كما «روى جابر قال: أقبلنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى إذ كنا بذات الرقاع، فنودي بالصلاة، فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطائفة ركعتين، ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع ركعات، وللقوم ركعتان» رواه البخاري.
فصل:
الوجه الرابع: ما «روى عبد الله بن عمر قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف في بعض أيامه، فقامت طائفة معه، وطائفة بإزاء العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ذهبوا، وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة، ثم قضت الطائفتان ركعة ركعة» متفق عليه. فهذا الوجه جوز أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصلاة به، واختار حديث سهل؛ لأنه أشبه بظاهر الكتاب وأحوط للصلاة، وأنكى في العدو، وأما الكتاب فقول الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] الآية، وقوله: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102]
ظاهره أن جميع صلاتها معه، وأن الطائفة الأولى قد صلت جميع صلاتها، ولا يتحقق هذا في هذا الوجه، وأما الاحتياط للحرب، فإن كل طائفة تنصرف بعد الفراغ من صلاتها، وتتمكن من الضرب والكلام والتحريض وغيره، وفي هذا الوجه تنصرف كل طائفة، وهي في حكم الصلاة لا تتمكن من ذلك، ولا يخلو من أن تمشي أو تركب، وذلك عمل كثير يفسدها.
فصل:
الوجه الخامس: إذا كان العدو في جهة القبلة، بحيث لا يخفى بعضهم على المسلمين ولم يخافوا كمينًا، صلى بهم كما «روى جابر قال: شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف، فصففنا خلفه صفين، والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكبرنا جميعًا، ثم ركع وركعنا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السجود، وقام الصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه كان مؤخرًا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحور العدو، فلما قضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السجود، وقام الصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجد، ثم سلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسلمنا جميعًا» أخرجه مسلم.
فهذه الأوجه الخمسة جائزة لمن فعلها، ولا نعرف وجهًا سادسًا غير ما «روى ابن عباس، قال: صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذي قرد صلاة الخوف، والمشركون بينه وبين القبلة، فصف صفًا خلفه وصفًا موازي العدو، فصلى بهم ركعة، ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، ورجع هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، فصلى بهم ركعة، ثم سلم عليهم، فكانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتان، ولهم ركعة ركعة» رواه الأثرم. فكلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقتضي كون هذا من الوجوه الجائزة، إلا أن أصحابه قالوا: لا تأثير للخوف في عدد الركعات، فيدل على أن هذا ليس بمذهب له.
فصل:
فإن صلى المغرب على حديث سهل، صلى بالطائفة الأولى ركعتين، وتتم لأنفسها ركعة، تقرأ فيها بالحمد لله، وبالثانية ركعة، وتتم لأنفسها ركعتين تقرأ فيها بالحمد لله وسورة، وتفارقه الأولى حين يقوم إلى الثالثة في أحد الوجهين؛ لأن الانتظار في القيام أولى لكثرة ثواب القيام، واستحباب تقصير التشهد، وفي الآخر تفارقه حين يفرغ من تشهده الأول، فتقوم ويثبت هو جالسًا لتدرك الثانية جميع الركعة الثالثة، ويطيل التشهد حتى تجيء الطائفة الثانية فينهض، ثم تكبر الطائفة وتدخل معه، فإذا جلس للتشهد الآخر نهضت لقضاء ما فاتها، ولم تتشهد معه؛ لأنه ليس بموضع تشهدها، ويحتمل أن تتشهد معه إذا قلنا: إنها تقضي ركعتين متواليتين؛ لئلا يفضي إلى وقوع جميع الصلاة بتشهد واحد.
فصل:
ويجوز صلاة الخوف للمقيمين؛ لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] الآية. ولأنها حالة خوف، فأشبهت حالة السفر، ويصلي بكل طائفة ركعتين، وتتم الطائفة الأولى بالحمد لله في كل ركعة، والطائفة الأخرى بالحمد لله وسورة، وفي موضع مفارقة الطائفة الأولى له وجهان، على ما ذكرنا في المغرب، وإن صلى بطائفة ثلاث ركعات وبالأخرى ركعة، أو صلى المغرب بالأولى ركعة وبالثانية ركعتين، جاز لأنه لم يزد على انتظارين ورد الشرع بهما.
وإن فرقهم أربع فرق، وصلى بكل طائفة ركعة أو ثلاث فرق في المغرب صحت صلاة الأولى والثانية؛ لأنهما فارقتاه لعذر، وبطلت صلاة الإمام لزيادته انتظارًا لم يرد الشرع بمثله، وصلاة الثالثة والرابعة لاقتدائهما بمن صلاته باطلة، وقال ابن حامد: إن لم يعلما ببطلان صلاته صحت صلاتهما للعذر، فأشبه من صلى وراء محدث يجهل هو والإمام حدثه.
فصل:
إذا صلى صلاة الخوف من غير خوف لم تصح؛ لأنها لا تنفك من مفارق إمامه، أو تارك متابعته، أو قاصر مع إتمام إمامته، أو قائم للقضاء قبل سلامه، وكل ذلك مبطل إلا مع العذر، إلا أن يصلي بكل طائفة صلاة تامة على حديث أبي بكرة.
فصل:
قال أصحابنا: لا يجب حمل السلاح في صلاة الخوف؛ لأنه لو وجب لكان شرطًا كالسترة، ويستحب أن يحمل ما يدفع به عن نفسه كالسيف والسكين، ويكره ما يثقله كالجوشن، وما يمنع إكمال السجود كالمغفر، وما يؤذي به غيره كالرمح متوسطًا، فإن كان في حاشية لم يكره، ولا يجوز حمل نجس ولا ما يخل بركن الصلاة، إلا أن يخاف وقوع السهام والحجارة ونحوها به، فيجوز للضرورة، ويحتمل وجوب حمل السلاح للأمر به بقوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء: 102] فيدل على الجناح عند عدم ذلك.
فصل:
الضرب الثاني: الخوف الشديد، مثل التحام الحرب والقتال، ومصيرهم إلى المطاردة، فلهم أن يصلوا كيفما أمكنهم رجالًا وركبانًا، يومون بالركوع والسجود على قدر الطاقة، ويتقدمون ويتأخرون ويضربون ويطعنون، ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها، وصلاتهم صحيحة، وإن هرب هربًا مباحًا من عدو أو سيل أو سبع أو نار لا يمكنه التخلص إلا بالهرب، أو كان أسيرًا يخاف الكفار إن صلى أو مختفيًا في موضع يخاف أن يظهر عليه صلى كيفما أمكنه، قائمًا أو قاعدًا أو مستلقيًا إلى القبلة وغيرها بالإيماء في السفر والحضر، فإن أمن في صلاته أتمها صلاة أمن، وإن ابتدأها آمنًا فعرض له الخوف أتمها صلاة خائف؛ لأنه يبني على صلاة صحيحة، فجاز كبناء صلاة المرض على صلاة الصحة.
وإن رأى سوادًا فظنه عدوًا، فصلى صلاة الخوف، ثم بان أنه غير عدو، أو بينه وبينه ما يمنع العبور أعاد؛ لأنه لم يوجد المبيح فأشبه من ظن أنه متطهر، فصلى ثم علم بحدثه، قال أصحابنا: ويجوز أن يصلوا في شدة الخوف جماعة رجالًا وركبانًا، ويعفى عن تقدمهم الإمام لأجل الحاجة، كما عفي عن العمل الكثير وترك الاستقبال.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب صلاة الجمعة]
[باب صلاة الجمعة]
وهي واجبة بالإجماع، وروى ابن ماجه عن جابر قال: خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «واعلموا أن الله قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا،
في عامي هذا إلى يوم القيامة، فمن تركها في حياتي أو بعدي، وله إمام عادل أو جائر استخفافًا بها أو جحودًا لها، فلا جمع الله له شمله، ولا بارك له في أمره» .
ولا تجب إلا على من اجتمعت فيه شرائط ثمانية: الإسلام، والبلوغ، والعقل؛ لأنها من شرائط التكاليف بالفروع، والذكورية، والحرية، والاستيطان، لما روى طارق بن شهاب قال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو مسافر، أو مريض» رواه أبو داود. ولأن المرأة ليست من أهل الجماعات، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفات يوم جمعة فلم يصل جمعة.
وفي العبد رواية أخرى أنها تجب عليه؛ لأنها فرض عين من الصلوات فوجبت عليه كالظهر، والأولى أولى للخبر؛ ولأن العبد مملوك المنفعة محبوس على سيده، أشبه المحبوس بدين.
السابع: انتفاء الأعذار المسقطة للجماعة.
الثامن: أن يكون مقيمًا بمكان الجمعة أو قريبًا منه، وتجب الجمعة على أهل المصر قريبهم وبعيدهم؛ لأن البلد كالشيء الواحد، وتجب على من بينه وبين الجامع فرسخ من غيرهم، ولا تجب على غيرهم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجمعة على من سمع النداء» رواه أبو داود. ولم يمكن اعتبار السماع بنفسه فاعتبر بمظنته، والموضع الذي يسمع منه النداء في الغالب، إذا كان المؤذن صيتًا بموضع عالٍ، والرياح ساكنة، والأصوات هادئة، والعوارض منتفية، فرسخ فاعتبرناه به.
فصل:
وهذه الشروط تنقسم أربعة أقسام:
أحدها: شرط للصحة والانعقاد، وهو: الإسلام والعقل، فلا تصح من كافر ولا مجنون، ولا تنعقد بهما؛ لأنهما ليسا من أهل العبادات.
الثاني: شرط للوجوب والانعقاد وهي: الحرية، والذكورية، والبلوغ، والاستيطان، فلا تنعقد الجمعة بمن عدمت فيه، ولا يصح إمامتهم فيها؛ لأنهم من غير أهل الوجوب، فلم تنعقد بهم كالنساء، وتصح منهم وتجزئهم عند الظهر، وحضورها لغير النساء أفضل؛ لأن سقوطها عنهم رخصة، فإذا تكلفوا فعلها أجزأتهم، كالمريض يتكلف الصلاة قائمًا.
الثالث: شرط الوجوب السعي فقط، وهو: انتفاء الأعذار، فلو تكلف المريض الحضور وجبت عليه، وانعقدت به؛ لأن سقوطها كان لدفع المشقة، فإذا حضرت زالت المشقة، فوجبت عليه، وانعقدت به كالصحيح.
الرابع: شرط الانعقاد حسب وهو: الإقامة بمكان الجمعة، فلو كان أهل القرية يسمعون النداء من المصر لزمهم حضورها، ولم تنعقد بهم، ولو خرج أهل المصر أو بعضهم إلى القرية لم تنعقد بهم الجمعة؛ لأنهم غير مستوطنين بها، والظاهر أنها تصح إمامتهم فيها؛ لأنهم من أهل الوجوب.
فصل:
والأفضل لمن لم تجب عليه الجمعة أن لا يصلي الظهر قبل صلاة الإمام؛ لأنه ربما زال عذره فلزمته الجمعة، فإن صلى، فقال أبو بكر: لا تصح صلاته لذلك، والصحيح أنها تصح؛ لأنه صلى فرضه، فلا يبطل بالاحتمال، كالمتيمم، فإن زال عذره فقياس المذهب أنه لا تلزمه الجمعة؛ لأنه أدى فرض الوقت، فأشبه المعضوب إذا حج عن نفسه ثم برئ، وإن لم يزل العذر فحضروها كانت لهم نفلًا؛ «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذر: فصلها معهم تكن لك نافلة» ولأن الأولى أسقطت الفرض، فأما من تجب عليه الجمعة إذا صلى الظهر قبل صلاة الإمام لم تصح؛ لأنه ما خوطب بالظهر، فإن فاتته الجمعة أعادها ظهرًا؛ لأنه خوطب بها حينئذ.
وإن اتفق أهل بلد على ترك الجمعة، وصلوا ظهرًا لم تصح لذلك، فإذا خرج وقت الجمعة لزمهم الجمعة لزمهم إعادة الظهر، ولا يكره لمن فاتته الجمعة أو لم يكن من أهل فرضها أن يصلي الظهر في جماعة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة»
...
متفق عليه. فإن خاف التهمة استحب إخفاؤها ليدفعها عن نفسه.
فصل:
ويشترط لصحة الجمعة أربعة شروط:
أحدها: الوقت، فلا تصح قبل وقتها ولا بعده بالإجماع، وآخر وقتها آخر وقت الظهر بغير خلاف، فأما أوله فذكر القاضي أنها تجوز في وقت العيد؛ لأن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في رواية عبد الله: يجوز أن يصلي الجمعة قبل الزوال، يذهب إلى أنها كصلاة العيد، لحديث وكيع، عن جعفر بن برقان، عن ثابت بن حجاج، عن عبد الله بن سيلان، قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر، فكانت صلاته وخطبته قبل انتصاف النهار، وشهدتها مع عمر بن الخطاب، فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: قد انتصف النهار، ثم صليتها مع عثمان بن عفان - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -، فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد زال النهار، فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره. وهذا نقل للإجماع. وعن جابر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الجمعة فنذهب إلى جمالنا فنزيحها حين تزول الشمس.» رواه مسلم؛ ولأنها صلاة عيد فأشبهت صلاة العيدين.
وقال الخرقي: تجوز في الساعة السادسة، وفي نسخة الخامسة، فمفهومه أنه لا يجوز قبل ذلك؛ لأن ما رويناه تختص به. والأفضل فعلها عند زوال الشمس صيفاً وشتاءً، لا يقدمها إلى موضوع الخلاف، ولا يؤخرها. فيشق على الناس؛ لما روى سلمة بن الأكوع قال: «كنا نجمع مع النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفيء» ، متفق عليه. فإن خرج الوقت وهم فيها، فقال أحمد: من أدرك التشهد أتمها جمعة، فظاهره أنه يعتبر الوقت في جميعها إلا السلام؛ لأن الوقت شرط، فيعتبر في جميعها كالوضوء، وقال الخرقي: إن دخل وقت العصر وقد صلوا ركعة أجزأتهم جمعة؛ لأنه شرط يختص بالجمعة، فلم يعتبر في الركعة الثانية كالجماعة في حق المسبوق، وإن أدرك أقل من ذلك فهل يتمها ظهراً أو يستأنف؟ على وجهين بناء على المسبوق، بأكثر من ركعة، وقال القاضي: متى تلبس بها في وقتها أتمها جمعة، قياساً على سائر الصلوات، فإن شرع فيها ثم شك في خروج الوقت أتمها جمعة؛ لأن الأصل بقاؤه، وإن ضاق الوقت عما يجري في الجمعة لم يكن لهم فعلها.
فصل:
الشرط الثاني: أن يكون في قرية مبنية بما جرت العادة ببناء القرى به، من حجر أو طين أو لبن أو قصب، مجتمعة البناء بما جرت به العادة في القرية الواحدة، يسكنها أربعون من أهل الجمعة سكنى إقامة، لا يظعنون عنها صيفاً ولا شتاءً، فأما أهل الخيام وبيوت الشعر فلا جمعة لهم؛ لأن ذلك لا ينصب للاستيطان، ولذلك كانت قبائل العرب حول المدينة، ولم يأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجمعة، وإن كانت قرية يسكن فيها بعض السنة دون بعضهم، أو متفرقة تفريقاً لم تجر به العادة، لم تصح فيها الجمعة، فإن اجتمعت هذه الشروط في القرية، وجبت الجمعة على أهلها، وصحت بها؛ لأن كعباً قال: أسعد بن زرارة أول من جمع بنا في هزم النبيت، من حرة بني بياضة، في نقيع يقال له: نقيع الخضمات. رواه أبو داود.
قال الخطابي: حرة بني بياضة على ميل من المدينة، ولأن هذا بناء استوطنه أربعون من أهل الجمعة، فوجبت عليهم كأهل مصر، وتجوز إقامة أهل الجمعة فيما قارب البنيان من الصحراء، لحديث أسعد بن زرارة. فإن خربت القرية، فلازموها عازمين على إصلاحها ومرمتها فحكمها باق، وإن عزموا على النقلة عنها زال الاستيطان.
فصل:
الشرط الثالث: اجتماع أربعين ممن تنعقد بهم الجمعة.
وعنه: تنعقد بثلاثة؛ لأنهم جمع تنعقد بهم الجماعة، وعنه بخمسين، والمذهب الأول؛ لأن جابراً قال: مضت السنة أن في كل أربعين فما فوقها جمعة. فينصرف إلى سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن انفضوا فلم يبق معه إلا أقل من أربعين لم يتمها جمعة؛ لأنه شرط، فاعتبر في جميع الصلاة كالطهارة، وهل يستأنف ظهراً أو يبني على صلاته؟ على وجهين، بناءً على المسبوق، وقياس المذهب، أنهم إن انفضوا بعد صلاة ركعة أتمها جمعة؛ لأنها شرط تختص الجمعة فلم يعتبر الركوع في أكثر من ركعة كالجماعة فيها.
فصل:
ولا يختلف المذهب أن المسبوق إذا أدرك مع الإمام الركوع في الثانية أنه يتمها جمعة، فإن أدرك أقل من ذلك لم يتمها جمعة، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة» متفق عليه. وفي لفظ: «فليضف إليها أخرى» فأما من أدرك أقل من ذلك فقال الخرقي: يبني على ظهر إذا كان
قد دخل بنية الظهر. فظاهر هذا أنه إن نوى جمعة لزمه الاستئناف؛ لأنهما صلاتان لا تتأدى إحداهما بنية أخرى، فلم يجز بناؤها عليها، كالظهر والعصر. وقال أبو إسحاق بن شاقلا: ينوي جمعة؛ لئلا يخالف بنيته نية إمامه، ثم يبني عليها ظهراً لأنهما فرض وقت واحد، ردت إحداهما من أربع إلى ركعتين فجاز أن يبني عليها الأربع، كالتامة مع المقصورة.
فصل:
من أحرم مع الإمام ثم زوحم عن السجود فأمكنه السجود على ظهر إنسان أو قدمه لزمه. لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إذا اشتد الزحام فليسجد على ظهر أخيه أو قدمه. رواه الطيالسي. ولأنه يأتي بما يمكنه حال العجز فوجب وصح، كالمريض يومئ، فإن لم يمكنه ذلك انتظر زوال الزحام، ثم يسجد ويتبع الإمام؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أصحابه بذلك في صلاة عسفان للعذر، والعذر ههنا قائم، وكذلك إن تعذر عليه السجود لعذر من مرض أو نوم أو سهو. فإن خاف فوات الركوع مع إمامه لزمه متابعته وترك السجود لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن ركع فاركعوا» ولأنه مأموم خاف فوات الركعة فلزمه متابعة إمامه، كالمسبوق فيركع مع إمامه، وتبطل الأولى. وتصير الثانية أولاه. فإن سجد وترك متابعة إمامه بطلت صلاته، إن علم تحريم ذلك؛ لأنه ترك الواجب عمداً، وإن لم يكن يعلم تحريمه، لم تبطل صلاته، ولم يعتد بسجوده؛ لأنه أتى به في موضع الركوع جهلاً فهو كالساهي.
وقال أبو الخطاب: يعتد بسجوده ويتم ركعته الأولى، فإن أدرك الركوع أيضاً صحت له الركعتان وإن فاته الركوع، فاتته الثانية وحدها فيقضيها بعد سلام إمامه، وتصح جمعته، قال: ويسجد للسهو، وقال القاضي: هو كمن لم يسجد، فإن أدرك الركوع صحت الثانية وحدها، وإن فاته الركوع وأدرك معه السجدتين سجدهما للركعة الأولى، وصحت له ركعة، ويقضي ركعة، وتمت جمعته لإدراكه ركعة، وإن فاتته السجدتان أو إحداهما قضى ذلك بعد سلام إمامه، فتصح له ركعة، وكذا لو ترك سجدتي الأولى، خوفاً من فوات ركوع الثانية فركع معه، وزوحم عن سجدتي الثانية فأمكنه السجود في التشهد سجد، وإن لم يمكنه سجد بعد سلام الإمام وصحت له ركعة ومثلها: لو كان مسبوقاً بالأولى وزوحم عن سجود الثانية، وهل يكون مدركاً للجمعة في كل موضع لم يتم له ركعة إلا بعد سلام إمامه؟ على روايتين:
إحداهما: يكون مدركاً لها؛ لأنه قد يحرم بالصلاة مع الإمام، أشبه ما لو ركع وسجد معه.
والثانية: لا جمعة له؛ لأنه لم يدرك مع إمامه ركعة، فأشبه المسبوق بركوع الثانية، وعلى هذه الرواية هل يستأنف أو يتمها ظهراً على وجهين.
وإن أحرم مع الإمام فزوحم، وأخرج من الصف فصلى فذاً، لم تصح صلاته، وإن صلى ركعة وأخرج من الثانية، فأتمها وحده ففيه روايتان:
إحداهما: يتمها جمعة؛ لأنه أدرك مع إمامه ركعة، فأشبه المسبوق.
والثانية: يعيد لأنه فذ في ركعة كاملة. فإن أدرك مع الإمام ركعة، وقام ليقضي، فذكر أنه لم يسجد إلا سجدة واحدة، أو شك في إحدى السجدتين، لزمه أن يرجع إن لم يكن شرع في قراءة الثانية، فيأتي بما ترك، ثم يقضي ركعة أخرى، ويتمها جمعة. نص عليه، وإن ذكر بعد شروعه في قراءة الثانية بطلت الأولى، وصارت الثانية أولاه، ويتمها جمعة على المنصوص، وفيه وجه آخر أنه لا تحصل له الجمعة؛ لأنه لم يدرك مع الإمام ركعة كاملة، وهكذا لو قضى الثانية ثم علم أنه نسي سجدة لا يدري من أيهما تركها، أو شك في ذلك، فإنه يجعلها من الأولى، وتصير الثانية أولاه، فأما إن شك في إدراك الركوع مع الإمام، لم يعتد له بالركعة التي مع الإمام، وتصير ظهراً قولاً واحداً.
فصل:
الشرط الرابع: أن يتقدمها خطبتان؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب خطبتين يقعد بينهما» . متفق عليه. وقد قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» . وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إنما أقرت الجمعة ركعتين من أجل الخطبة. ومن شرط صحتها حضور العدد المشروط للصلاة؛ لأنه ذكر الاشتراط للصلاة واشترط له العدد، كتكبيرة الإحرام، فإن انفضوا وعادوا لم يطل الفصل صلى الجمعة؛ لأنه تفريق يسير، فلم يمنع، كالتفريق بين المجموعتين، ويشترط لهما الوقت لذلك، ويشترط الموالاة في الخطبتين، فإن فرق بين الخطبتين أو بين أجزاء الخطبة الواحدة أو بينهما وبين الصلاة، فأطال بطلت، فإن كان يسيراً بنى؛ لأنهما مع الصلاة كالمجموعتين، ويحتمل أن الموالاة ليست شرطاً؛ لأنه ذكر يتقدم الصلاة فلا يشترط الموالاة بينهما، كالأذان والإقامة ولا يشترط لهما الطهارة، نص عليه لذلك، ولأنها لو اشترطت لاشترط الاستقبال كالصلاة. وعنه: أنها شرط؛ لأنه ذكر شرط في الجمعة فأشبه تكبيرة الإحرام. ويشترط أن يتولاهما من يتولى الصلاة لذلك، لكن يجوز الاستخلاف في بعض الصلاة للعذر؛ لأنه إذا جاز الاستخلاف في بعض الصلاة للعذر ففي الصلاة بكمالها أولى، وعنه: ما يدل على جواز الاستخلاف لغير عذر، قال في الإمام يخطب يوم الجمعة، ويصلي الأمير بالناس: لا
الأمير الخطبة؛ لأنه لا يشترط اتصالها بها، فلم يشترط أن يتولاهما واحد، كصلاتين، وهل يشترط أن يكون الخليفة ممن حضر الخطبة؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا يشترط؛ لأنه لا يشترط في صحة جمعته حضور الخطبة إذا كان مأموماً، فكذلك إذا كان إماماً.
والثانية: يشترط لأنه إمام، فاشترط حضوره للخطبة، كما لو لم يستخلف.
فصل
وفروض الخطبة أربعة أشياء:
حمد الله تعالى؛ لأن جابراً قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب الناس، يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له» .
والثاني: الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن كل عبادة افتقرت إلى ذكر الله تعالى، افتقرت إلى ذكر رسوله، كالأذان.
الثالث: الموعظة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعظ، وهو القصد من الخطبة فلا يجوز الإخلال بها.
الرابع: قراءة آية؛ لأن جابر بن سمرة قال: «كانت صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصداً، وخطبته قصداً، يقرأ آيات من القرآن، ويذكر الناس» . رواه أبو داود والترمذي. ولأن الخطبة فرض في الجمعة، فوجبت فيها القراءة كالصلاة، وعن أحمد [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ما يدل على أنه لا يشترط قراءة آية، فإنه قال: القراءة في الخطبة على المنبر. ليس فيه شيء مؤقت ما شاء قرأ، وتشترط هذه الأربعة في الخطبتين؛ لأن ما وجب في إحداهما وجب في الأخرى كسائر الفروض.
فصل:
وسننها ثلاث عشرة:
أن يخطب على منبر أو موضع عال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب على منبره؛ ولأنه أبلغ في الإعلام.
الثاني: أن يسلم عقيب صعوده إذا أقبل عليهم؛ لأن جابراً قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صعد المنبر سلم عليهم» رواه ابن ماجه.
الثالث: أن يجلس إذا سلم عليهم؛ لأن ابن عمر قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس فلا يتكلم، ثم يقوم فيخطب» ، رواه أبو داود.
الرابع: أن يخطب قائماً؛ لأن جابر بن سمرة قال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب، فمن حدثك أنه كان يخطب جالساً، فقد كذب» ، رواه مسلم وأبو داود.
وليس ذلك بشرط؛ لأن المقصود يحصل بدونه.
الخامس: أن يجلس بينهما لما رويناه، وليس بواجب؛ لأنها جلسة للاستراحة، وليس فيها ذكر مشروع، فأشبهت الأولى.
السادس: أن يعتمد على سيف أو قوس أو عصا، لما روى الحكم بن حزن قال: «وفدت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فشهدنا معه الجمعة، فقام متوكئاً على سيف، أو قوس، أو عصا، فحمد الله وأثنى عليه بكلمات خفيفات طيبات مباركات» ، رواه أبو داود، ولأن ذلك أمكن له، فإن لم يكن معه شيء أمسك شماله بيمينه، أو أرسلهما عند جنبيه وسكنهما.
السابع: أن يقصد بلقاء وجهه؛ لأن في التفاته إلى أحد جانبيه إعراضاً عمن في الجانب الآخر.
الثامن: أن يرفع صوته؛ لأن جابراً قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه منذر جيش، يقول صبحكم ومساكم، ويقول: أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» رواه مسلم، ولأنه أبلغ في الإسماع.
التاسع: أن يكون في خطبته مترسلاً معرباً، مبيناً من غير عجلة ولا تمطيط؛ لأنه أبلغ وأحسن.
العاشر: تقصير الخطبة، لما روى عمار قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول:
«إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة وقصروا الخطبة» . رواه مسلم.
الحادي عشر: ترتيبها، يبدأ بالحمد لله، ثم بالصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم يعظ؛ لأنه أحسن والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبدأ بالحمد لله، وقال: «كل كلام ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر» .
الثاني عشر: أن يدعو للمسلمين؛ لأن الدعاء لهم مسنون، في غير الخطبة ففيها أولى وإن دعا للسلطان فحسن لأن صلاحه نفع للمسلمين، فالدعاء له دعاء لهم.
الثالث عشر: أن يؤذن لها إذا جلس الإمام على المنبر؛ لأن الله تعالى قال: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] ، يعني الأذان، قال السائب: «كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر، على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان، وكثر الناس زاد النداء الثالث» رواه البخاري. وهذا النداء الأوسط هو الذي يتعلق به وجوب السعي، وتحريم البيع؛ لأنه الذي كان مشروعاً حين نزول الآية، فتعلقت الأحكام به. ويسن الأذان الأول في أول الوقت؛ لأن عثمان سنه، وعملت به الأمة بعده، وهو مشروع للإعلام بالوقت، والثاني للإعلام بالخطبة، والإقامة للإعلام بقيام الصلاة.
فصل:
ولا يشترط للجمعة إذن الإمام؛ لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى بالناس، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - محصور، ولأنها من فرائض الأعيان، فلم يعتبر لها إذن الإمام، كالظهر. قال أحمد: وقعت الفتنة بالشام تسع سنين، فكانوا يجمعون لكن إن أمكن استئذانه فهو أكمل وأفضل، وعنه أنه شرط؛ لأنه لا يقيمها في كل عصر إلا الأئمة.
فصل:
وتصلى خلف كل بر وفاجر، لحديث جابر، ولأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، وتختص بإمام واحد، فتركها خلف الفاجر يفضي إلى الإخلال بها، فلم يجز ذلك كالجهاد، ولهذا أبيح فعلها في الطرق، ومواضع الغصب، صيانة لها عن الفوات.
فصل:
[و] إذا فرغ من الخطبة نزل، فأقيمت الصلاة فصلى بهم ركعتين، يقرأ في كل ركعة بالحمد لله وسورة معها، ويجهر بالقراءة للإجماع ونقل الخلف عن السلف. ومهما قرأ به بعد أم الكتاب فيها أجزأه، إلا أن المستحب أن يقرأ فيها بالجمعة والمنافقين، أو بسبح، والغاشية، لما روى أبو هريرة قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ بسورة الجمعة والمنافقين، في الجمعة» . وعن النعمان بن بشير قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في العيدين والجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] » رواهما مسلم.
فصل:
ومتى أمكن الغنى بجمعة واحدة في المصر لم يجز أكثر منها؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسيلم وخلفاءه لم يقيموا إلا جمعة واحدة، وإن احتيج إلى أكثر منها جاز؛ لأنها تفعل في الأمصار العظيمة في جوامع من غير نكير، فصار إجماعاً، ولأنها صلاة عيد جاز فعلها في موضعين مع الحاجة كغيرها، وإن استغنى بجمعتين لم تجز الثالثة. فإن صليت في موضعين من غير حاجة، وإحداهما جمعة الإمام فهي الصحيحة، ويحتمل أن السابقة هي الصحيحة؛ لأنه لم يتقدمها ما يفسدها، وبعد صحتها لا يفسدها ما بعدها، والأول أولى؛ لأن في تصحيح غير جمعة الإمام افتئاتاً عليه، وتبطيلاً لجمعته، ومتى أراد أربعون نفساً إفساد صلاة الإمام، والناس أمكنهم ذلك، فإن لم يكن لأحدهما مزية فالسابقة هي الصحيحة لما ذكرناه، وتفسد الثانية. وإن وقعتا معاً: فهما باطلتان؛ لأنه لا يمكن تصحيحهما، ولا تعيين إحداهما بالصحة فبطلتا، كما لو جمع بين أختين. وعليهم إقامة جمعة ثالثة؛ لأنه مصر لم تصل فيه جمعة صحيحة، وإن علم سبق إحداهما وجهلت، فعلى الجميع الظهر؛ لأن كل واحد لم يتيقن براءة ذمته من الصلاة، وليس لهم إقامة الجمعة لأن المصر قد صليت فيه جمعة صحيحة وإن جهل الحال، فسدتا. وهل لهم إقامة الجمعة؟ على وجهين:
أحدهما: لا يقيمونها للشك في شرط إقامتها.
والثاني: لهم ذلك؛ لأننا لم نعلم المانع من صحتها والأصل عدمه. وذكر القاضي وجهاً من إقامتها مع العلم بسبق إحداهما؛ لأنه لما تعذر تصحيح إحداهما بعينها صارت كالمعدومة. ولو أحرم بالجمعة فعلم أنها قد أقيمت في مكان آخر لم يكن له إتمامها.
وهل يبني عليها ظهراً أم يستأنفها؟ على وجهين:
أصحهما استئنافها؛ لأن ما مضى منها لم يكن جائزاً له فعله، ويعتبر السبق بالإحرام؛ لأنه متى أحرم بإحداهما حرم الإحرام بالأخرى للغنى عنها.
فصل:
ولا يجوز لمن تجب عليه الجمعة السفر بعد دخول وقتها؛ لأنه يتركها بعد وجوبها عليه، فلم يجز، كما لو تركها لتجارة إلا أن يخاف فوت الرفقة، فأما قبل الوقت فيجوز للجهاد، لما روى ابن عباس قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الله بن رواحة في سرية، فوافق ذلك يوم الجمعة، فقدم أصحابه وقال: أتخلف فأصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم ألحقهم. قال: فلما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رآه فقال: ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟ فقال: أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو أنفقت ما في الأرض ما
أدركت فضل غدوتهم» من " المسند " وهل يجوز لغير الجهاد؟ فيه روايتان:
إحداهما: يجوز؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الجمعة لا تحبس عن سفر، ولأنها لم تجب، فأشبه السفر من الليل.
والثانية: لا يجوز لما روى الدارقطني في الإفراد عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من سافر من دار إقامة يوم الجمعة دعت عليه الملائكة ألا يصحب في سفره» .
فصل:
ويجب السعي بالنداء الثاني لما ذكرنا، إلا لمن منزله في بعد، فعليه أن يسعى في الوقت الذي يكون به مدركاً للجمعة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ويستحب التبكير بالسعي، لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما
قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أملح، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» متفق عليه. وقال علقمة: خرجت
مع عبد الله يوم الجمعة، فوجد ثلاثة قد سبقوه فقال: رابع أربعة وما رابع أربعة ببعيد. ثم قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الناس يجلسون يوم القيامة على قدر رواحهم إلى الجمعة» رواه ابن ماجه. ويستحب أن يأتيها ماشياً ليكون أعظم للأجر، وعليه سكينة ووقار، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تأتوا الصلاة وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة والوقار» ، متفق عليه. ويقارب بين خطاه لتكثر حسناته.
فصل:
ويستحب أن يغتسل ويتطيب، ويتنظف بقطع الشعر، وقص الظفر، وإزالة الرائحة، لما روى أبو سعيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر بما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، ويمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» رواه البخاري. وعنه: أن الغسل واجب، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وسواك وأن يمس طيباً» رواه مسلم. والأول المذهب؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل الغسل أفضل» قال الترمذي: هذا حديث حسن، والخبر الأول أريد به تأكيد الاستحباب، ولذلك ذكر فيه السواك والطيب وليسا واجبين.
ووقت الغسل بعد الفجر لقوله: «يوم الجمعة» والأفضل فعله عند الرواح؛ لأنه أبلغ في المقصود. ولا يصح إلا بنيته؛ لأنه عبادة، فإن اغتسل للجمعة والجنابة أجزأه، وإن اغتسل للجنابة وحدها احتمل أن يجزئه، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة» ، ولأن المقصود التنظيف وهو حاصل، واحتمل أن لا يجزئه لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وليس للمرء من عمله إلا ما نواه» .
فصل:
وإذا أتى المسجد كره له أن يتخطى الناس، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ولم يفرق بين اثنين» إلا أن يكون إماماً ولا يجد طريقاً فلا بأس بالتخطي؛ لأنه موضع حاجة. ومن لم يجد موضعاً إلا فرجة، لا يصل إليها بتخطي الرجل والرجلين، فلا بأس. فإن
تركوا أول المسجد فارغاً وجلسوا دونه، فلا بأس بتخطيهم؛ لأنهم ضيعوا حق نفوسهم. وإن ازدحم الناس في المسجد وداخله اتساع فلم يجد الداخل لنفسه موضعاً، فعلم أنهم إذا قاموا تقدموا، وإن لم يرج ذلك فله تخطيهم؛ لأنه موضع حاجة.
وليس لأحد أن يقيم غيره ويجلس مكانه، لما روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقيم الرجل الرجل من مقعده ويجلس فيه» متفق عليه. وإن قام له رجل من مكانه وأجلسه فيه جاز؛ لأن الحق له، لكن إن كان المتنفل ينتقل إلى موضع أبعد من موضعه كره لما فيه من الإيثار بالقربة.
ولو قدم رجل غلامه فجلس في موضع فإذا جاء قام الغلام وجلس مكانه فلا بأس به. كان ابن سيرين يفعله. وإن فرش له مصلى لم يكن لغيره الجلوس عليه. وهل لغيره رفعه والجلوس في موضعه؟ فيه وجهان:
وإن قام الجالس من موضعه لحاجة ثم عاد إليه فهو أحق به، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به» رواه مسلم. وإن نعس فأمكنه التحول إلى مكان لا يتخطاه فيه أحد استحب له ذلك، لما روى ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا نعس أحدكم يوم الجمعة في مجلسه فليتحول إلى غيره» من المسند. وهو حديث صحيح.
فصل:
ويستحب الدنو من الإمام لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من غسل يوم الجمعة واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها» رواه ابن ماجه والنسائي. وإن حضر قبل الخطبة اشتغل بالتنفل، أو ذكر الله، وقراءة القرآن، ويكثر من الدعاء لعله يوافق ساعة الإجابة، ويكثر من الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويقرأ سورة الكهف؛ لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقي الفتنة» .
فصل:
فإذا جلس الإمام على المنبر انقطع التنفل، فإذا أخذ من الخطبة حرم الكلام،
لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب أنصت فقد لغوت» متفق عليه.
وروى ثعلبة بن مالك أنهم كانوا يتحدثون يوم الجمعة وعمر جالس على المنبر، فإذا سكت المؤذن، قام عمر ولم يتكلم أحد حتى يقضي الخطبتين، فإذا قامت الصلاة ونزل عمر تكلموا. وعنه: لا يحرم الكلام، لما روى أنس قال: «بينما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة، إذ قام رجل فقال: يا رسول الله، هلك الكراع هلك الشاء، فادع الله أن يسقينا» . وذكر الحديث. متفق عليه. والأول أولى، وهذا يحتمل أنه من تكليم الخطيب دون غيره لأنه لا يشتغل بتكليمه عن سماع خطبته. والبعيد والقريب سواء في ذلك. وقد روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إن للمنصت الذي لا يسمع من الخطبة مثل للسامع، إلا أن للبعيد أن يذكر الله ويقرأ القرآن سراً، وليس الجهر، ولا المذاكرة في
الفقه، «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الحلق يوم الجمعة والإمام يخطب» . وروى أبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة» ، ومن يسمع متكلماً لم ينهه بالقول: للخبر، ولكن يشير إليه، ويضع إصبعه على فيه، وإن وجب الكلام مثل تحذير ضرير شيئاً مخوفاً فعليه الكلام؛ لأنه لحق آدمي، فكان مقدماً على غيره، ومن سأله الإمام عن شيء فعليه إجابته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأل الداخل: أصليت فأجابه، وسأل عمر عثمان فأجابه، وفي رد السلام، وتشميت العاطس، روايتان:
إحداهما: يفعل لأنه لحق آدمي، فأشبه تحذير الضرير.
والأخرى: لا يفعله لأن المسلم سلم في غير موضعه، والتشميت سنة لا يترك لها الإنصات الواجب، ولا يتصدق على سائل والإمام يخطب، وإذا لم يسمع الخطبة، فلا بأس أن يشرب الماء.
فصل:
ولا يحرم الكلام على الخاطب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتكلم، وعمر سأل عثمان أية ساعة هذه؟ فإذا وصل الخطيب إلى الدعاء ففيه وجهان:
أحدهما: يباح الكلام؛ لأنه فرغ من الخطبة.
والثاني: لا يباح؛ لأنه قاطع للخطبة أشبه التطويل في الموعظة.
فصل:
ومن دخل والإمام يخطب لم يجلس حتى يركع ركعتين، يوجز فيهما، لما روى جابر قال: «دخل رجل والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قال: صليت يا فلان قال: لا، قال: فصل ركعتين» . متفق عليه. زاد مسلم ثم قال: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما» .
فصل:
ويسن أن يصلي بعد الجمعة أربعاً لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان منكم مصلياً بعد الجمعة فليصل بعدها أربعاً» رواه مسلم، وإن شاء صلى ركعتين، لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي بعد الجمعة ركعتين» ، متفق عليه، وإن شاء صلي ستاً لأن ابن عمر روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعله، ويستحب أن
يفصل بين الجمعة والركوع بكلام، أو رجوع إلى منزله، لما روى السائب بن يزيد قال: قال لي معاوية: «إذا صليت صلاة الجمعة فلا تصليها بصلاة حتى تتكلم، أو تخرج، قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا بذلك» ، رواه مسلم.
فصل:
ويستحب أن يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: {الم - تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} [السجدة: 1 - 2] و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] » رواه مسلم. قال أحمد: ولا أحب أن يداوم عليها، لئلا يظن الناس أنها مفضلة بسجدة.
فصل:
فإذا اتفق عيد في يوم جمعة فصلوا العيد لم تلزمهم الجمعة، ويصلون ظهراً لما روى زيد بن أرقم قال: «شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عيدين اجتمعا في يوم، فصلى العيد ثم رخص في الجمعة، فقال: من شاء أن يجمع فليجمع» . وعن أبي هريرة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون إن شاء الله» رواهما أبو داود.
وتجب الجمعة على الإمام لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا مجمعون» ولأن تركه لها منع لمن يريدها من الناس.
وعنه: لا تجب؛ لأن ابن الزبير لم يصلها وكان إماماً، ولأن الجمعة إذا سقطت عن المأمومين سقطت عن الإمام، كحالة السفر، فإن عجل الجمعة في وقت العيد أجزأته عن العيد والظهر، في ظاهر كلامه لما روى عطاء قال: اجتمع يوم جمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير، فقال: عيدان قد اجتمعا في يوم واحد، فجمعهما وصلاهما ركعتين، فلم يزد عليهما حتى صلى العصر، وبلغ فعله ابن عباس فقال: أصاب السنة.
وهي واجبة بالإجماع، وروى ابن ماجه عن جابر قال: خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «واعلموا أن الله قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا،
في عامي هذا إلى يوم القيامة، فمن تركها في حياتي أو بعدي، وله إمام عادل أو جائر استخفافًا بها أو جحودًا لها، فلا جمع الله له شمله، ولا بارك له في أمره» .
ولا تجب إلا على من اجتمعت فيه شرائط ثمانية: الإسلام، والبلوغ، والعقل؛ لأنها من شرائط التكاليف بالفروع، والذكورية، والحرية، والاستيطان، لما روى طارق بن شهاب قال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو مسافر، أو مريض» رواه أبو داود. ولأن المرأة ليست من أهل الجماعات، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفات يوم جمعة فلم يصل جمعة.
وفي العبد رواية أخرى أنها تجب عليه؛ لأنها فرض عين من الصلوات فوجبت عليه كالظهر، والأولى أولى للخبر؛ ولأن العبد مملوك المنفعة محبوس على سيده، أشبه المحبوس بدين.
السابع: انتفاء الأعذار المسقطة للجماعة.
الثامن: أن يكون مقيمًا بمكان الجمعة أو قريبًا منه، وتجب الجمعة على أهل المصر قريبهم وبعيدهم؛ لأن البلد كالشيء الواحد، وتجب على من بينه وبين الجامع فرسخ من غيرهم، ولا تجب على غيرهم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجمعة على من سمع النداء» رواه أبو داود. ولم يمكن اعتبار السماع بنفسه فاعتبر بمظنته، والموضع الذي يسمع منه النداء في الغالب، إذا كان المؤذن صيتًا بموضع عالٍ، والرياح ساكنة، والأصوات هادئة، والعوارض منتفية، فرسخ فاعتبرناه به.
فصل:
وهذه الشروط تنقسم أربعة أقسام:
أحدها: شرط للصحة والانعقاد، وهو: الإسلام والعقل، فلا تصح من كافر ولا مجنون، ولا تنعقد بهما؛ لأنهما ليسا من أهل العبادات.
الثاني: شرط للوجوب والانعقاد وهي: الحرية، والذكورية، والبلوغ، والاستيطان، فلا تنعقد الجمعة بمن عدمت فيه، ولا يصح إمامتهم فيها؛ لأنهم من غير أهل الوجوب، فلم تنعقد بهم كالنساء، وتصح منهم وتجزئهم عند الظهر، وحضورها لغير النساء أفضل؛ لأن سقوطها عنهم رخصة، فإذا تكلفوا فعلها أجزأتهم، كالمريض يتكلف الصلاة قائمًا.
الثالث: شرط الوجوب السعي فقط، وهو: انتفاء الأعذار، فلو تكلف المريض الحضور وجبت عليه، وانعقدت به؛ لأن سقوطها كان لدفع المشقة، فإذا حضرت زالت المشقة، فوجبت عليه، وانعقدت به كالصحيح.
الرابع: شرط الانعقاد حسب وهو: الإقامة بمكان الجمعة، فلو كان أهل القرية يسمعون النداء من المصر لزمهم حضورها، ولم تنعقد بهم، ولو خرج أهل المصر أو بعضهم إلى القرية لم تنعقد بهم الجمعة؛ لأنهم غير مستوطنين بها، والظاهر أنها تصح إمامتهم فيها؛ لأنهم من أهل الوجوب.
فصل:
والأفضل لمن لم تجب عليه الجمعة أن لا يصلي الظهر قبل صلاة الإمام؛ لأنه ربما زال عذره فلزمته الجمعة، فإن صلى، فقال أبو بكر: لا تصح صلاته لذلك، والصحيح أنها تصح؛ لأنه صلى فرضه، فلا يبطل بالاحتمال، كالمتيمم، فإن زال عذره فقياس المذهب أنه لا تلزمه الجمعة؛ لأنه أدى فرض الوقت، فأشبه المعضوب إذا حج عن نفسه ثم برئ، وإن لم يزل العذر فحضروها كانت لهم نفلًا؛ «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذر: فصلها معهم تكن لك نافلة» ولأن الأولى أسقطت الفرض، فأما من تجب عليه الجمعة إذا صلى الظهر قبل صلاة الإمام لم تصح؛ لأنه ما خوطب بالظهر، فإن فاتته الجمعة أعادها ظهرًا؛ لأنه خوطب بها حينئذ.
وإن اتفق أهل بلد على ترك الجمعة، وصلوا ظهرًا لم تصح لذلك، فإذا خرج وقت الجمعة لزمهم الجمعة لزمهم إعادة الظهر، ولا يكره لمن فاتته الجمعة أو لم يكن من أهل فرضها أن يصلي الظهر في جماعة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة»
...
متفق عليه. فإن خاف التهمة استحب إخفاؤها ليدفعها عن نفسه.
فصل:
ويشترط لصحة الجمعة أربعة شروط:
أحدها: الوقت، فلا تصح قبل وقتها ولا بعده بالإجماع، وآخر وقتها آخر وقت الظهر بغير خلاف، فأما أوله فذكر القاضي أنها تجوز في وقت العيد؛ لأن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في رواية عبد الله: يجوز أن يصلي الجمعة قبل الزوال، يذهب إلى أنها كصلاة العيد، لحديث وكيع، عن جعفر بن برقان، عن ثابت بن حجاج، عن عبد الله بن سيلان، قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر، فكانت صلاته وخطبته قبل انتصاف النهار، وشهدتها مع عمر بن الخطاب، فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: قد انتصف النهار، ثم صليتها مع عثمان بن عفان - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -، فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد زال النهار، فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره. وهذا نقل للإجماع. وعن جابر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الجمعة فنذهب إلى جمالنا فنزيحها حين تزول الشمس.» رواه مسلم؛ ولأنها صلاة عيد فأشبهت صلاة العيدين.
وقال الخرقي: تجوز في الساعة السادسة، وفي نسخة الخامسة، فمفهومه أنه لا يجوز قبل ذلك؛ لأن ما رويناه تختص به. والأفضل فعلها عند زوال الشمس صيفاً وشتاءً، لا يقدمها إلى موضوع الخلاف، ولا يؤخرها. فيشق على الناس؛ لما روى سلمة بن الأكوع قال: «كنا نجمع مع النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفيء» ، متفق عليه. فإن خرج الوقت وهم فيها، فقال أحمد: من أدرك التشهد أتمها جمعة، فظاهره أنه يعتبر الوقت في جميعها إلا السلام؛ لأن الوقت شرط، فيعتبر في جميعها كالوضوء، وقال الخرقي: إن دخل وقت العصر وقد صلوا ركعة أجزأتهم جمعة؛ لأنه شرط يختص بالجمعة، فلم يعتبر في الركعة الثانية كالجماعة في حق المسبوق، وإن أدرك أقل من ذلك فهل يتمها ظهراً أو يستأنف؟ على وجهين بناء على المسبوق، بأكثر من ركعة، وقال القاضي: متى تلبس بها في وقتها أتمها جمعة، قياساً على سائر الصلوات، فإن شرع فيها ثم شك في خروج الوقت أتمها جمعة؛ لأن الأصل بقاؤه، وإن ضاق الوقت عما يجري في الجمعة لم يكن لهم فعلها.
فصل:
الشرط الثاني: أن يكون في قرية مبنية بما جرت العادة ببناء القرى به، من حجر أو طين أو لبن أو قصب، مجتمعة البناء بما جرت به العادة في القرية الواحدة، يسكنها أربعون من أهل الجمعة سكنى إقامة، لا يظعنون عنها صيفاً ولا شتاءً، فأما أهل الخيام وبيوت الشعر فلا جمعة لهم؛ لأن ذلك لا ينصب للاستيطان، ولذلك كانت قبائل العرب حول المدينة، ولم يأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجمعة، وإن كانت قرية يسكن فيها بعض السنة دون بعضهم، أو متفرقة تفريقاً لم تجر به العادة، لم تصح فيها الجمعة، فإن اجتمعت هذه الشروط في القرية، وجبت الجمعة على أهلها، وصحت بها؛ لأن كعباً قال: أسعد بن زرارة أول من جمع بنا في هزم النبيت، من حرة بني بياضة، في نقيع يقال له: نقيع الخضمات. رواه أبو داود.
قال الخطابي: حرة بني بياضة على ميل من المدينة، ولأن هذا بناء استوطنه أربعون من أهل الجمعة، فوجبت عليهم كأهل مصر، وتجوز إقامة أهل الجمعة فيما قارب البنيان من الصحراء، لحديث أسعد بن زرارة. فإن خربت القرية، فلازموها عازمين على إصلاحها ومرمتها فحكمها باق، وإن عزموا على النقلة عنها زال الاستيطان.
فصل:
الشرط الثالث: اجتماع أربعين ممن تنعقد بهم الجمعة.
وعنه: تنعقد بثلاثة؛ لأنهم جمع تنعقد بهم الجماعة، وعنه بخمسين، والمذهب الأول؛ لأن جابراً قال: مضت السنة أن في كل أربعين فما فوقها جمعة. فينصرف إلى سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن انفضوا فلم يبق معه إلا أقل من أربعين لم يتمها جمعة؛ لأنه شرط، فاعتبر في جميع الصلاة كالطهارة، وهل يستأنف ظهراً أو يبني على صلاته؟ على وجهين، بناءً على المسبوق، وقياس المذهب، أنهم إن انفضوا بعد صلاة ركعة أتمها جمعة؛ لأنها شرط تختص الجمعة فلم يعتبر الركوع في أكثر من ركعة كالجماعة فيها.
فصل:
ولا يختلف المذهب أن المسبوق إذا أدرك مع الإمام الركوع في الثانية أنه يتمها جمعة، فإن أدرك أقل من ذلك لم يتمها جمعة، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة» متفق عليه. وفي لفظ: «فليضف إليها أخرى» فأما من أدرك أقل من ذلك فقال الخرقي: يبني على ظهر إذا كان
قد دخل بنية الظهر. فظاهر هذا أنه إن نوى جمعة لزمه الاستئناف؛ لأنهما صلاتان لا تتأدى إحداهما بنية أخرى، فلم يجز بناؤها عليها، كالظهر والعصر. وقال أبو إسحاق بن شاقلا: ينوي جمعة؛ لئلا يخالف بنيته نية إمامه، ثم يبني عليها ظهراً لأنهما فرض وقت واحد، ردت إحداهما من أربع إلى ركعتين فجاز أن يبني عليها الأربع، كالتامة مع المقصورة.
فصل:
من أحرم مع الإمام ثم زوحم عن السجود فأمكنه السجود على ظهر إنسان أو قدمه لزمه. لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إذا اشتد الزحام فليسجد على ظهر أخيه أو قدمه. رواه الطيالسي. ولأنه يأتي بما يمكنه حال العجز فوجب وصح، كالمريض يومئ، فإن لم يمكنه ذلك انتظر زوال الزحام، ثم يسجد ويتبع الإمام؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أصحابه بذلك في صلاة عسفان للعذر، والعذر ههنا قائم، وكذلك إن تعذر عليه السجود لعذر من مرض أو نوم أو سهو. فإن خاف فوات الركوع مع إمامه لزمه متابعته وترك السجود لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن ركع فاركعوا» ولأنه مأموم خاف فوات الركعة فلزمه متابعة إمامه، كالمسبوق فيركع مع إمامه، وتبطل الأولى. وتصير الثانية أولاه. فإن سجد وترك متابعة إمامه بطلت صلاته، إن علم تحريم ذلك؛ لأنه ترك الواجب عمداً، وإن لم يكن يعلم تحريمه، لم تبطل صلاته، ولم يعتد بسجوده؛ لأنه أتى به في موضع الركوع جهلاً فهو كالساهي.
وقال أبو الخطاب: يعتد بسجوده ويتم ركعته الأولى، فإن أدرك الركوع أيضاً صحت له الركعتان وإن فاته الركوع، فاتته الثانية وحدها فيقضيها بعد سلام إمامه، وتصح جمعته، قال: ويسجد للسهو، وقال القاضي: هو كمن لم يسجد، فإن أدرك الركوع صحت الثانية وحدها، وإن فاته الركوع وأدرك معه السجدتين سجدهما للركعة الأولى، وصحت له ركعة، ويقضي ركعة، وتمت جمعته لإدراكه ركعة، وإن فاتته السجدتان أو إحداهما قضى ذلك بعد سلام إمامه، فتصح له ركعة، وكذا لو ترك سجدتي الأولى، خوفاً من فوات ركوع الثانية فركع معه، وزوحم عن سجدتي الثانية فأمكنه السجود في التشهد سجد، وإن لم يمكنه سجد بعد سلام الإمام وصحت له ركعة ومثلها: لو كان مسبوقاً بالأولى وزوحم عن سجود الثانية، وهل يكون مدركاً للجمعة في كل موضع لم يتم له ركعة إلا بعد سلام إمامه؟ على روايتين:
إحداهما: يكون مدركاً لها؛ لأنه قد يحرم بالصلاة مع الإمام، أشبه ما لو ركع وسجد معه.
والثانية: لا جمعة له؛ لأنه لم يدرك مع إمامه ركعة، فأشبه المسبوق بركوع الثانية، وعلى هذه الرواية هل يستأنف أو يتمها ظهراً على وجهين.
وإن أحرم مع الإمام فزوحم، وأخرج من الصف فصلى فذاً، لم تصح صلاته، وإن صلى ركعة وأخرج من الثانية، فأتمها وحده ففيه روايتان:
إحداهما: يتمها جمعة؛ لأنه أدرك مع إمامه ركعة، فأشبه المسبوق.
والثانية: يعيد لأنه فذ في ركعة كاملة. فإن أدرك مع الإمام ركعة، وقام ليقضي، فذكر أنه لم يسجد إلا سجدة واحدة، أو شك في إحدى السجدتين، لزمه أن يرجع إن لم يكن شرع في قراءة الثانية، فيأتي بما ترك، ثم يقضي ركعة أخرى، ويتمها جمعة. نص عليه، وإن ذكر بعد شروعه في قراءة الثانية بطلت الأولى، وصارت الثانية أولاه، ويتمها جمعة على المنصوص، وفيه وجه آخر أنه لا تحصل له الجمعة؛ لأنه لم يدرك مع الإمام ركعة كاملة، وهكذا لو قضى الثانية ثم علم أنه نسي سجدة لا يدري من أيهما تركها، أو شك في ذلك، فإنه يجعلها من الأولى، وتصير الثانية أولاه، فأما إن شك في إدراك الركوع مع الإمام، لم يعتد له بالركعة التي مع الإمام، وتصير ظهراً قولاً واحداً.
فصل:
الشرط الرابع: أن يتقدمها خطبتان؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب خطبتين يقعد بينهما» . متفق عليه. وقد قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» . وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إنما أقرت الجمعة ركعتين من أجل الخطبة. ومن شرط صحتها حضور العدد المشروط للصلاة؛ لأنه ذكر الاشتراط للصلاة واشترط له العدد، كتكبيرة الإحرام، فإن انفضوا وعادوا لم يطل الفصل صلى الجمعة؛ لأنه تفريق يسير، فلم يمنع، كالتفريق بين المجموعتين، ويشترط لهما الوقت لذلك، ويشترط الموالاة في الخطبتين، فإن فرق بين الخطبتين أو بين أجزاء الخطبة الواحدة أو بينهما وبين الصلاة، فأطال بطلت، فإن كان يسيراً بنى؛ لأنهما مع الصلاة كالمجموعتين، ويحتمل أن الموالاة ليست شرطاً؛ لأنه ذكر يتقدم الصلاة فلا يشترط الموالاة بينهما، كالأذان والإقامة ولا يشترط لهما الطهارة، نص عليه لذلك، ولأنها لو اشترطت لاشترط الاستقبال كالصلاة. وعنه: أنها شرط؛ لأنه ذكر شرط في الجمعة فأشبه تكبيرة الإحرام. ويشترط أن يتولاهما من يتولى الصلاة لذلك، لكن يجوز الاستخلاف في بعض الصلاة للعذر؛ لأنه إذا جاز الاستخلاف في بعض الصلاة للعذر ففي الصلاة بكمالها أولى، وعنه: ما يدل على جواز الاستخلاف لغير عذر، قال في الإمام يخطب يوم الجمعة، ويصلي الأمير بالناس: لا
الأمير الخطبة؛ لأنه لا يشترط اتصالها بها، فلم يشترط أن يتولاهما واحد، كصلاتين، وهل يشترط أن يكون الخليفة ممن حضر الخطبة؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا يشترط؛ لأنه لا يشترط في صحة جمعته حضور الخطبة إذا كان مأموماً، فكذلك إذا كان إماماً.
والثانية: يشترط لأنه إمام، فاشترط حضوره للخطبة، كما لو لم يستخلف.
فصل
وفروض الخطبة أربعة أشياء:
حمد الله تعالى؛ لأن جابراً قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب الناس، يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له» .
والثاني: الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن كل عبادة افتقرت إلى ذكر الله تعالى، افتقرت إلى ذكر رسوله، كالأذان.
الثالث: الموعظة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعظ، وهو القصد من الخطبة فلا يجوز الإخلال بها.
الرابع: قراءة آية؛ لأن جابر بن سمرة قال: «كانت صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصداً، وخطبته قصداً، يقرأ آيات من القرآن، ويذكر الناس» . رواه أبو داود والترمذي. ولأن الخطبة فرض في الجمعة، فوجبت فيها القراءة كالصلاة، وعن أحمد [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ما يدل على أنه لا يشترط قراءة آية، فإنه قال: القراءة في الخطبة على المنبر. ليس فيه شيء مؤقت ما شاء قرأ، وتشترط هذه الأربعة في الخطبتين؛ لأن ما وجب في إحداهما وجب في الأخرى كسائر الفروض.
فصل:
وسننها ثلاث عشرة:
أن يخطب على منبر أو موضع عال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب على منبره؛ ولأنه أبلغ في الإعلام.
الثاني: أن يسلم عقيب صعوده إذا أقبل عليهم؛ لأن جابراً قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صعد المنبر سلم عليهم» رواه ابن ماجه.
الثالث: أن يجلس إذا سلم عليهم؛ لأن ابن عمر قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس فلا يتكلم، ثم يقوم فيخطب» ، رواه أبو داود.
الرابع: أن يخطب قائماً؛ لأن جابر بن سمرة قال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب، فمن حدثك أنه كان يخطب جالساً، فقد كذب» ، رواه مسلم وأبو داود.
وليس ذلك بشرط؛ لأن المقصود يحصل بدونه.
الخامس: أن يجلس بينهما لما رويناه، وليس بواجب؛ لأنها جلسة للاستراحة، وليس فيها ذكر مشروع، فأشبهت الأولى.
السادس: أن يعتمد على سيف أو قوس أو عصا، لما روى الحكم بن حزن قال: «وفدت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فشهدنا معه الجمعة، فقام متوكئاً على سيف، أو قوس، أو عصا، فحمد الله وأثنى عليه بكلمات خفيفات طيبات مباركات» ، رواه أبو داود، ولأن ذلك أمكن له، فإن لم يكن معه شيء أمسك شماله بيمينه، أو أرسلهما عند جنبيه وسكنهما.
السابع: أن يقصد بلقاء وجهه؛ لأن في التفاته إلى أحد جانبيه إعراضاً عمن في الجانب الآخر.
الثامن: أن يرفع صوته؛ لأن جابراً قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه منذر جيش، يقول صبحكم ومساكم، ويقول: أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» رواه مسلم، ولأنه أبلغ في الإسماع.
التاسع: أن يكون في خطبته مترسلاً معرباً، مبيناً من غير عجلة ولا تمطيط؛ لأنه أبلغ وأحسن.
العاشر: تقصير الخطبة، لما روى عمار قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول:
«إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة وقصروا الخطبة» . رواه مسلم.
الحادي عشر: ترتيبها، يبدأ بالحمد لله، ثم بالصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم يعظ؛ لأنه أحسن والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبدأ بالحمد لله، وقال: «كل كلام ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر» .
الثاني عشر: أن يدعو للمسلمين؛ لأن الدعاء لهم مسنون، في غير الخطبة ففيها أولى وإن دعا للسلطان فحسن لأن صلاحه نفع للمسلمين، فالدعاء له دعاء لهم.
الثالث عشر: أن يؤذن لها إذا جلس الإمام على المنبر؛ لأن الله تعالى قال: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] ، يعني الأذان، قال السائب: «كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر، على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان، وكثر الناس زاد النداء الثالث» رواه البخاري. وهذا النداء الأوسط هو الذي يتعلق به وجوب السعي، وتحريم البيع؛ لأنه الذي كان مشروعاً حين نزول الآية، فتعلقت الأحكام به. ويسن الأذان الأول في أول الوقت؛ لأن عثمان سنه، وعملت به الأمة بعده، وهو مشروع للإعلام بالوقت، والثاني للإعلام بالخطبة، والإقامة للإعلام بقيام الصلاة.
فصل:
ولا يشترط للجمعة إذن الإمام؛ لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى بالناس، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - محصور، ولأنها من فرائض الأعيان، فلم يعتبر لها إذن الإمام، كالظهر. قال أحمد: وقعت الفتنة بالشام تسع سنين، فكانوا يجمعون لكن إن أمكن استئذانه فهو أكمل وأفضل، وعنه أنه شرط؛ لأنه لا يقيمها في كل عصر إلا الأئمة.
فصل:
وتصلى خلف كل بر وفاجر، لحديث جابر، ولأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، وتختص بإمام واحد، فتركها خلف الفاجر يفضي إلى الإخلال بها، فلم يجز ذلك كالجهاد، ولهذا أبيح فعلها في الطرق، ومواضع الغصب، صيانة لها عن الفوات.
فصل:
[و] إذا فرغ من الخطبة نزل، فأقيمت الصلاة فصلى بهم ركعتين، يقرأ في كل ركعة بالحمد لله وسورة معها، ويجهر بالقراءة للإجماع ونقل الخلف عن السلف. ومهما قرأ به بعد أم الكتاب فيها أجزأه، إلا أن المستحب أن يقرأ فيها بالجمعة والمنافقين، أو بسبح، والغاشية، لما روى أبو هريرة قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ بسورة الجمعة والمنافقين، في الجمعة» . وعن النعمان بن بشير قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في العيدين والجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] » رواهما مسلم.
فصل:
ومتى أمكن الغنى بجمعة واحدة في المصر لم يجز أكثر منها؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسيلم وخلفاءه لم يقيموا إلا جمعة واحدة، وإن احتيج إلى أكثر منها جاز؛ لأنها تفعل في الأمصار العظيمة في جوامع من غير نكير، فصار إجماعاً، ولأنها صلاة عيد جاز فعلها في موضعين مع الحاجة كغيرها، وإن استغنى بجمعتين لم تجز الثالثة. فإن صليت في موضعين من غير حاجة، وإحداهما جمعة الإمام فهي الصحيحة، ويحتمل أن السابقة هي الصحيحة؛ لأنه لم يتقدمها ما يفسدها، وبعد صحتها لا يفسدها ما بعدها، والأول أولى؛ لأن في تصحيح غير جمعة الإمام افتئاتاً عليه، وتبطيلاً لجمعته، ومتى أراد أربعون نفساً إفساد صلاة الإمام، والناس أمكنهم ذلك، فإن لم يكن لأحدهما مزية فالسابقة هي الصحيحة لما ذكرناه، وتفسد الثانية. وإن وقعتا معاً: فهما باطلتان؛ لأنه لا يمكن تصحيحهما، ولا تعيين إحداهما بالصحة فبطلتا، كما لو جمع بين أختين. وعليهم إقامة جمعة ثالثة؛ لأنه مصر لم تصل فيه جمعة صحيحة، وإن علم سبق إحداهما وجهلت، فعلى الجميع الظهر؛ لأن كل واحد لم يتيقن براءة ذمته من الصلاة، وليس لهم إقامة الجمعة لأن المصر قد صليت فيه جمعة صحيحة وإن جهل الحال، فسدتا. وهل لهم إقامة الجمعة؟ على وجهين:
أحدهما: لا يقيمونها للشك في شرط إقامتها.
والثاني: لهم ذلك؛ لأننا لم نعلم المانع من صحتها والأصل عدمه. وذكر القاضي وجهاً من إقامتها مع العلم بسبق إحداهما؛ لأنه لما تعذر تصحيح إحداهما بعينها صارت كالمعدومة. ولو أحرم بالجمعة فعلم أنها قد أقيمت في مكان آخر لم يكن له إتمامها.
وهل يبني عليها ظهراً أم يستأنفها؟ على وجهين:
أصحهما استئنافها؛ لأن ما مضى منها لم يكن جائزاً له فعله، ويعتبر السبق بالإحرام؛ لأنه متى أحرم بإحداهما حرم الإحرام بالأخرى للغنى عنها.
فصل:
ولا يجوز لمن تجب عليه الجمعة السفر بعد دخول وقتها؛ لأنه يتركها بعد وجوبها عليه، فلم يجز، كما لو تركها لتجارة إلا أن يخاف فوت الرفقة، فأما قبل الوقت فيجوز للجهاد، لما روى ابن عباس قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الله بن رواحة في سرية، فوافق ذلك يوم الجمعة، فقدم أصحابه وقال: أتخلف فأصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم ألحقهم. قال: فلما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رآه فقال: ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟ فقال: أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو أنفقت ما في الأرض ما
أدركت فضل غدوتهم» من " المسند " وهل يجوز لغير الجهاد؟ فيه روايتان:
إحداهما: يجوز؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الجمعة لا تحبس عن سفر، ولأنها لم تجب، فأشبه السفر من الليل.
والثانية: لا يجوز لما روى الدارقطني في الإفراد عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من سافر من دار إقامة يوم الجمعة دعت عليه الملائكة ألا يصحب في سفره» .
فصل:
ويجب السعي بالنداء الثاني لما ذكرنا، إلا لمن منزله في بعد، فعليه أن يسعى في الوقت الذي يكون به مدركاً للجمعة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ويستحب التبكير بالسعي، لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما
قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أملح، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» متفق عليه. وقال علقمة: خرجت
مع عبد الله يوم الجمعة، فوجد ثلاثة قد سبقوه فقال: رابع أربعة وما رابع أربعة ببعيد. ثم قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الناس يجلسون يوم القيامة على قدر رواحهم إلى الجمعة» رواه ابن ماجه. ويستحب أن يأتيها ماشياً ليكون أعظم للأجر، وعليه سكينة ووقار، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تأتوا الصلاة وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة والوقار» ، متفق عليه. ويقارب بين خطاه لتكثر حسناته.
فصل:
ويستحب أن يغتسل ويتطيب، ويتنظف بقطع الشعر، وقص الظفر، وإزالة الرائحة، لما روى أبو سعيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر بما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، ويمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» رواه البخاري. وعنه: أن الغسل واجب، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وسواك وأن يمس طيباً» رواه مسلم. والأول المذهب؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل الغسل أفضل» قال الترمذي: هذا حديث حسن، والخبر الأول أريد به تأكيد الاستحباب، ولذلك ذكر فيه السواك والطيب وليسا واجبين.
ووقت الغسل بعد الفجر لقوله: «يوم الجمعة» والأفضل فعله عند الرواح؛ لأنه أبلغ في المقصود. ولا يصح إلا بنيته؛ لأنه عبادة، فإن اغتسل للجمعة والجنابة أجزأه، وإن اغتسل للجنابة وحدها احتمل أن يجزئه، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة» ، ولأن المقصود التنظيف وهو حاصل، واحتمل أن لا يجزئه لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وليس للمرء من عمله إلا ما نواه» .
فصل:
وإذا أتى المسجد كره له أن يتخطى الناس، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ولم يفرق بين اثنين» إلا أن يكون إماماً ولا يجد طريقاً فلا بأس بالتخطي؛ لأنه موضع حاجة. ومن لم يجد موضعاً إلا فرجة، لا يصل إليها بتخطي الرجل والرجلين، فلا بأس. فإن
تركوا أول المسجد فارغاً وجلسوا دونه، فلا بأس بتخطيهم؛ لأنهم ضيعوا حق نفوسهم. وإن ازدحم الناس في المسجد وداخله اتساع فلم يجد الداخل لنفسه موضعاً، فعلم أنهم إذا قاموا تقدموا، وإن لم يرج ذلك فله تخطيهم؛ لأنه موضع حاجة.
وليس لأحد أن يقيم غيره ويجلس مكانه، لما روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقيم الرجل الرجل من مقعده ويجلس فيه» متفق عليه. وإن قام له رجل من مكانه وأجلسه فيه جاز؛ لأن الحق له، لكن إن كان المتنفل ينتقل إلى موضع أبعد من موضعه كره لما فيه من الإيثار بالقربة.
ولو قدم رجل غلامه فجلس في موضع فإذا جاء قام الغلام وجلس مكانه فلا بأس به. كان ابن سيرين يفعله. وإن فرش له مصلى لم يكن لغيره الجلوس عليه. وهل لغيره رفعه والجلوس في موضعه؟ فيه وجهان:
وإن قام الجالس من موضعه لحاجة ثم عاد إليه فهو أحق به، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به» رواه مسلم. وإن نعس فأمكنه التحول إلى مكان لا يتخطاه فيه أحد استحب له ذلك، لما روى ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا نعس أحدكم يوم الجمعة في مجلسه فليتحول إلى غيره» من المسند. وهو حديث صحيح.
فصل:
ويستحب الدنو من الإمام لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من غسل يوم الجمعة واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها» رواه ابن ماجه والنسائي. وإن حضر قبل الخطبة اشتغل بالتنفل، أو ذكر الله، وقراءة القرآن، ويكثر من الدعاء لعله يوافق ساعة الإجابة، ويكثر من الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويقرأ سورة الكهف؛ لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقي الفتنة» .
فصل:
فإذا جلس الإمام على المنبر انقطع التنفل، فإذا أخذ من الخطبة حرم الكلام،
لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب أنصت فقد لغوت» متفق عليه.
وروى ثعلبة بن مالك أنهم كانوا يتحدثون يوم الجمعة وعمر جالس على المنبر، فإذا سكت المؤذن، قام عمر ولم يتكلم أحد حتى يقضي الخطبتين، فإذا قامت الصلاة ونزل عمر تكلموا. وعنه: لا يحرم الكلام، لما روى أنس قال: «بينما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة، إذ قام رجل فقال: يا رسول الله، هلك الكراع هلك الشاء، فادع الله أن يسقينا» . وذكر الحديث. متفق عليه. والأول أولى، وهذا يحتمل أنه من تكليم الخطيب دون غيره لأنه لا يشتغل بتكليمه عن سماع خطبته. والبعيد والقريب سواء في ذلك. وقد روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إن للمنصت الذي لا يسمع من الخطبة مثل للسامع، إلا أن للبعيد أن يذكر الله ويقرأ القرآن سراً، وليس الجهر، ولا المذاكرة في
الفقه، «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الحلق يوم الجمعة والإمام يخطب» . وروى أبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة» ، ومن يسمع متكلماً لم ينهه بالقول: للخبر، ولكن يشير إليه، ويضع إصبعه على فيه، وإن وجب الكلام مثل تحذير ضرير شيئاً مخوفاً فعليه الكلام؛ لأنه لحق آدمي، فكان مقدماً على غيره، ومن سأله الإمام عن شيء فعليه إجابته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأل الداخل: أصليت فأجابه، وسأل عمر عثمان فأجابه، وفي رد السلام، وتشميت العاطس، روايتان:
إحداهما: يفعل لأنه لحق آدمي، فأشبه تحذير الضرير.
والأخرى: لا يفعله لأن المسلم سلم في غير موضعه، والتشميت سنة لا يترك لها الإنصات الواجب، ولا يتصدق على سائل والإمام يخطب، وإذا لم يسمع الخطبة، فلا بأس أن يشرب الماء.
فصل:
ولا يحرم الكلام على الخاطب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتكلم، وعمر سأل عثمان أية ساعة هذه؟ فإذا وصل الخطيب إلى الدعاء ففيه وجهان:
أحدهما: يباح الكلام؛ لأنه فرغ من الخطبة.
والثاني: لا يباح؛ لأنه قاطع للخطبة أشبه التطويل في الموعظة.
فصل:
ومن دخل والإمام يخطب لم يجلس حتى يركع ركعتين، يوجز فيهما، لما روى جابر قال: «دخل رجل والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قال: صليت يا فلان قال: لا، قال: فصل ركعتين» . متفق عليه. زاد مسلم ثم قال: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما» .
فصل:
ويسن أن يصلي بعد الجمعة أربعاً لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان منكم مصلياً بعد الجمعة فليصل بعدها أربعاً» رواه مسلم، وإن شاء صلى ركعتين، لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي بعد الجمعة ركعتين» ، متفق عليه، وإن شاء صلي ستاً لأن ابن عمر روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعله، ويستحب أن
يفصل بين الجمعة والركوع بكلام، أو رجوع إلى منزله، لما روى السائب بن يزيد قال: قال لي معاوية: «إذا صليت صلاة الجمعة فلا تصليها بصلاة حتى تتكلم، أو تخرج، قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا بذلك» ، رواه مسلم.
فصل:
ويستحب أن يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: {الم - تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} [السجدة: 1 - 2] و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] » رواه مسلم. قال أحمد: ولا أحب أن يداوم عليها، لئلا يظن الناس أنها مفضلة بسجدة.
فصل:
فإذا اتفق عيد في يوم جمعة فصلوا العيد لم تلزمهم الجمعة، ويصلون ظهراً لما روى زيد بن أرقم قال: «شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عيدين اجتمعا في يوم، فصلى العيد ثم رخص في الجمعة، فقال: من شاء أن يجمع فليجمع» . وعن أبي هريرة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون إن شاء الله» رواهما أبو داود.
وتجب الجمعة على الإمام لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا مجمعون» ولأن تركه لها منع لمن يريدها من الناس.
وعنه: لا تجب؛ لأن ابن الزبير لم يصلها وكان إماماً، ولأن الجمعة إذا سقطت عن المأمومين سقطت عن الإمام، كحالة السفر، فإن عجل الجمعة في وقت العيد أجزأته عن العيد والظهر، في ظاهر كلامه لما روى عطاء قال: اجتمع يوم جمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير، فقال: عيدان قد اجتمعا في يوم واحد، فجمعهما وصلاهما ركعتين، فلم يزد عليهما حتى صلى العصر، وبلغ فعله ابن عباس فقال: أصاب السنة.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب صلاة العيدين]
[باب صلاة العيدين]
وهي فرض على الكفاية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء بعده كانوا يداومون عليها، ولأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، فكانت فرضاً كالجهاد، ولا تجب على الأعيان؛ لأن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر للأعرابي خمس صلوات فقال: هل علي غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع» متفق عليه.
فإن اتفق أهل بلد على تركها قاتلهم الإمام، لتركهم شعائر الإسلام الظاهرة، فأشبه تركهم الأذان. ويشترط لوجوبها ما يشترط للجمعة؛ لأنها صلاة عيد، فأشبهت الجمعة، ولا يشترط لصحتها الاستيطان، ولا العدد؛ لأن أنساً كان إذا لم يشهد العيد مع الإمام جمع أهله ومواليه، ثم قام عبد الله بن أبي عتبة مولاه فصلى بهم ركعتين يكبر فيهما ولأنهما من حق من انتفت فيه شروط الوجوب تطوع، فلم يشترط لها ذلك كسائر التطوع، وقال القاضي: كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقتضي أن في اشتراط الاستيطان والعدد وإذن الإمام روايتين.
فصل:
ووقتها من حين ترتفع الشمس وتزول وقت النهي إلى الزوال، فإن لم يعلم بها إلا بعد الزوال خرج من الغد فصلى بهم، لما روى أبو عمير بن أنس عن عمومة له من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أن ركباً جاؤوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا فإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم» ، رواه أبو داود. ويسن تقديم الأضحى وتأخير الفطر، لما روى عمرو بن حزم «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقدم الأضحى ويؤخر الفطر» ، ولأن السنة إخراج الفطرة قبل الصلاة، ففي تأخير الصلاة توسيع لوقتها، ولا تجوز التضحية إلا بعد الصلاة، ففي تعجيلها مبادرة إلى الأضحية.
فصل:
ويسن أن يأكل في الفطر قبل الصلاة، ويمسك في الأضحى حتى يصلي لما روى بريدة قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر، ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي» ، رواه الترمذي، ويفطر على تمرات وتر، لما روى أنس قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات» . رواه البخاري وفي لفظ: «ويأكلهن وتراً» .
فصل:
والسنة أن يصليها في المصلى؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء بعده كانوا يفعلونها فيه، ويستحب أن يستخلف على ضعفة الناس من يصلي بهم في الجامع لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استخلف أبا مسعود البدري، يصلي بضعفة الناس في المسجد، وهل يصلي المستخلف ركعتين أو أربعاً، على روايتين بناء على اختلاف الروايات في فعل أبي مسعود وقد روي أنه صلى بهم ركعتين وروي أنه صلى بهم أربعاً، وإن كان عذر من
مطر أو نحوه صلى في المسجد، لما روى أبو هريرة قال: «أصابنا مطر في يوم عيد، فصلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد» . رواه أبو داود.
فصل:
ويسن الاغتسال للعيد، والطيب والتنظيف والسواك، وأن يلبس أحسن ثيابه، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في جمعة من الجمع: «إن هذا يوم جعله الله عيداً للمسلمين فاغتسلوا ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه، وعليكم بالسواك» فعلل ذلك بأنه يوم عيد، ولأن هذا اليوم يشرع فيه الاجتماع للصلاة، فأشبه الجمعة، وقد روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتم، ويلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة» رواه ابن عبد البر. إلا أن المعتكف يستحب له الخروج في ثياب اعتكافه، ليبقى عليه أثر العبادة.
فصل:
ويستحب أن يبكر إليها المأموم، ماشياً مظهراً للتكبير؛ لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: من السنة أن يأتي العيد ماشياً. رواه الترمذي وقال، حديث حسن ولأنه أعظم للأجر، ويتأخر الإمام إلى وقت الصلاة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعله، ولأن الإمام ينتظر ولا ينتظر، وإذا غدا من طريق رجع من غيره؛ لأن جابراً قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان يوم عيد خالف الطريق.» رواه البخاري.
فصل:
قال ابن حامد: ويستحب خروج النساء، لما روت أم عطية قالت: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نخرجهن في الفطر والأضحى، العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن المصلى، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين» . متفق عليه. قال القاضي: وظاهر كلام أحمد أن ذلك جائز غير مستحب، ولا يلبسن ثوب شهرة، ولا يتطيبن لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وليخرجن تفلات» .
فصل:
وليس لها أذان ولا إقامة لما روى عطاء قال: أخبرني جابر «أن لا أذان للصلاة يوم الفطر ولا إقامة ولا نداء، ولا شيء لا نداء يومئذ ولا إقامة» ، متفق عليه. وقال جابر بن سمرة: «صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العيد غير مرة ولا مرتين بلا أذان ولا إقامة» . رواه مسلم.
فصل:
وصلاة العيد ركعتان، يقرأ في كل ركعة منهما بالحمد لله وسورة، ويجهر بالقراءة
بلا خلاف، قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد خاب من افترى» . رواه الإمام أحمد في " المسند ". ويسن أن يقرأ فيهما بسبح و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] لحديث النعمان بن بشير. ومهما قرأ أجزأه، ويكبر في الأولى سبع تكبيرات منها تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمساً سوى تكبيرة القيام، لما روت عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التكبير في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات سوى تكبيرتي الركوع» رواه أبو داود.
واعتددنا بتكبيرة الإحرام لأنها في حال القيام، ولم نعتد بتكبيرة القيام لأنها قبله.
ويسن أن يرفع يديه في كل تكبيرة، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة في الجنازة وفي العيد. رواه الأثرم. ويحمد الله، ويثني عليه، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين كل تكبيرتين، وإن أحب قال: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وصلى الله على محمد النبي الأمي وآله وسلم تسليماً؛ لأنه يجمع بين ما ذكرناه.
وموضع التكبير بين الاستفتاح، وقبل الاستعاذة والقراءة في الركعتين. وعنه: أنه قبل الاستفتاح أيضاً اختارها الخلال وصاحبه، والأول أولى؛ لأن الاستفتاح لافتتاح الصلاة، فيكون في أولها، والاستعاذة للقراءة فتكون في أولها. وعنه: أنه يوالي بين القراءتين، يجعلها في الأولى بعد التكبير، وفي الثانية قبله، لما روى علقمة أن عبد الله بن مسعود وأبا موسى وحذيفة خرج عليهم الوليد بن عقبة قبل العيد يوماً فقال لهم: إن هذا العيد قد دنا فكيف التكبير فيه؟ فقال عبد الله: تبدأ وتكبر تكبيرة تفتتح بها الصلاة، وتحمد ربك، وتصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم تدعو وتكبر، إلى أن قال: وتركع، ثم تقوم فتقرأ وتحمد ربك،. وذكر الحديث. قال أبو موسى وحذيفة صدق. ووجه الأولى أنه تكبير في إحدى ركعتي العيد فكان قبل القراءة كالأولى.
فصل:
وتكبيرات العيد الزوائد والذكر بينها سنة لا يؤثر تركها عمداً، وإن والى بين التكبير كان جائزاً، وإن نسي التكبير حتى شرع في القراءة، لم يعد إليه لأنه سنة فلا يعود إليها بعد شروعه في القراءة كالاستفتاح.
فصل:
فإذا سلم خطب خطبتين كخطبتي الجمعة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل ذلك. ويفارق خطبتي الجمعة في أربعة أشياء:
أحدها: أن محلها بعد الصلاة، لما روى ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة» . متفق عليه.
الثاني: أنه يسن أن يستفتح الأولى بتسع تكبيرات متواليات، والثانية بسبع، ويكثر التكبير في أضعاف الخطبة، لما روى سعد مؤذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر بين أضعاف الخطبة، يكثر التكبير بن خطبتي العيدين» .
الثالث: أن يحثهم في الفطر على إخراج الفطر، ويبين لهم ما يخرجونه ووقته وجنسه، وفي الأضحى يرغبهم في الأضحية، ويبين لهم ما يجزئ فيها، ووقت ذبحها، ويحثهم على الإطعام منها؛ لأنه وقت هذا النسك فيشرع تبيينه.
الربع: أنهما سنة لا يجب استماعهما ولا الإنصات لهما، لما روى عبد الله بن السائب قال: «شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العيد، فلما قضى الصلاة قال: إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب» رواه أبو داود. ويستحب أن يجلس عقيب صعوده ليستريح، وقيل: لا يجلس؛ لأن الجلوس في الجمعة لموضع الأذان ولا أذان ههنا.
فصل:
ولا يتنفل قبل الصلاة وبعدها في موضع الصلاة لا في المسجد ولا في المصلى، إماماً كان أو مأموماً، لما روى ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها» . متفق عليه. ولا بأس أن يصلي بعد رجوعه، لما روى أبو سعيد قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يصلي قبل العيد شيئاً، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين» . رواه ابن ماجه.
فصل:
ومن سبق بالتكبير أو بعضه لم يقضه لأنه سنة فات محلها.
وقال ابن عقيل: يأتي به؛ لأن محله القيام وقد أدركه، وإن أدركه في الركوع تتبعه ولم يقض التكبير وجهاً واحداً، وإن أدركه في التشهد قام إذا سلم الإمام فقضى ركعتين يكبر فيهما، وإن أدركه في الخطبة استمع ثم قضى الصلاة إن أحب. وفي صفة القضاء ثلاث روايات:
إحداهن: يقضيها على صفتها، لحديث أنس ولأنه قضى صلاة فكان على صفتها كغيرها.
الثانية: يصليها أربعاً بسلام واحد إن أحب، أو بسلامين، لما روى الأثرم عن عبد الله بن مسعود قال: من فاته العيد فليصل أربعاً، ولأنها صلاة عيد فإذا فاتت صليت أربعاً كالجمعة.
الثالثة: هو مخير بين ركعتين وأربع؛ لأنه تطوع نهار فكانت الخيرة إليه فيه كالضحى.
فصل:
ويشرع التكبير في العيدين، لقول الله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] . وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يكبر حتى يسمع أهل الطريق.
قال القاضي: والتكبير في الفطر مطلق غير مقيد على ظاهر كلامه. يعني لا يختص بأدبار الصلوات.
وقال أبو الخطاب: يكبر من غروب الشمس إلى خروج الإمام إلى الصلاة. وهل يكبر بعد صلاة العيد على روايتين.
فصل:
فأما التكبير في الأضحى فهو على ضربين: مطلق ومقيد. فأما المطلق فالتكبير في جميع الأوقات، من أول العشر إلى آخر أيام التشريق. وأما المقيد فهو التكبير في أدبار الصلوات، من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق. قيل لأحمد: بأي حديث تذهب إلى أن التكبير في صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق؟ قال: بالإجماع عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وقد روي عن جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الصبح يوم عرفة، ثم أقبل علينا فقال: الله أكبر ومد التكبير إلى آخر أيام التشريق» . وصفة التكبير المشروع: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد) ؛ لأن هذا يروى عن علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. قال أبو عبد الله: اختياري تكبير ابن مسعود. وذكر مثل هذا، ولأن في حديث جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر تكبيرتين» ، ولأنه تكبير خارج الصلاة فكان شفعاً كتكبير الأذان.
فصل:
وموضعه عقيب أدبار الصلوات المفروضات، ولا يشرع عقيب النوافل لأنه لا أذان
لها فلم يكبر بعدها كصلاة الجنازة. وإن سبق الرجل ببعض الفريضة كبر إذا سلم. وإن صلاها كلها وحده ففيه روايتان:
إحداهما: يكبر لأنه ذكر مشروع للمسبوق فأشبه التسليمة الثانية.
والثانية: لا يكبر؛ لأن ابن عمر كان لا يكبر إذا صلى وحده. وقال ابن مسعود: إنما التكبير على من صلى في الجماعة، ولأنه مخصوص بوقت فخص بالجماعة كالخطبة. والمسافر كالمقيم في التكبير، والمرأة كالرجل. قال البخاري: النساء كن يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز مع الرجال في المسجد، ويخفضن أصواتهن حتى لا يسمعهن الرجال. وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنها لا تكبر. ومن فاتته صلاة في أيام التكبير فقضاها فيها كبر، وإن قضاها بعدها لم يكبر؛ لأن التكبير مقيد بالوقت.
فصل:
ويكبر مستقبل القبلة، فإن أحدث قبل التكبير لم يكبر؛ لأن الحدث يقطع الصلاة. وإن نسي التكبير استقبل القبلة وكبر، ما لم يخرج من المسجد. ويستحب الاجتهاد في العمل الصالح في أيام العشر، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما العمل الصالح في أيام أفضل منه من العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء» أخرجه البخاري.
وهي فرض على الكفاية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء بعده كانوا يداومون عليها، ولأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، فكانت فرضاً كالجهاد، ولا تجب على الأعيان؛ لأن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر للأعرابي خمس صلوات فقال: هل علي غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع» متفق عليه.
فإن اتفق أهل بلد على تركها قاتلهم الإمام، لتركهم شعائر الإسلام الظاهرة، فأشبه تركهم الأذان. ويشترط لوجوبها ما يشترط للجمعة؛ لأنها صلاة عيد، فأشبهت الجمعة، ولا يشترط لصحتها الاستيطان، ولا العدد؛ لأن أنساً كان إذا لم يشهد العيد مع الإمام جمع أهله ومواليه، ثم قام عبد الله بن أبي عتبة مولاه فصلى بهم ركعتين يكبر فيهما ولأنهما من حق من انتفت فيه شروط الوجوب تطوع، فلم يشترط لها ذلك كسائر التطوع، وقال القاضي: كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقتضي أن في اشتراط الاستيطان والعدد وإذن الإمام روايتين.
فصل:
ووقتها من حين ترتفع الشمس وتزول وقت النهي إلى الزوال، فإن لم يعلم بها إلا بعد الزوال خرج من الغد فصلى بهم، لما روى أبو عمير بن أنس عن عمومة له من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أن ركباً جاؤوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا فإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم» ، رواه أبو داود. ويسن تقديم الأضحى وتأخير الفطر، لما روى عمرو بن حزم «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقدم الأضحى ويؤخر الفطر» ، ولأن السنة إخراج الفطرة قبل الصلاة، ففي تأخير الصلاة توسيع لوقتها، ولا تجوز التضحية إلا بعد الصلاة، ففي تعجيلها مبادرة إلى الأضحية.
فصل:
ويسن أن يأكل في الفطر قبل الصلاة، ويمسك في الأضحى حتى يصلي لما روى بريدة قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر، ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي» ، رواه الترمذي، ويفطر على تمرات وتر، لما روى أنس قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات» . رواه البخاري وفي لفظ: «ويأكلهن وتراً» .
فصل:
والسنة أن يصليها في المصلى؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء بعده كانوا يفعلونها فيه، ويستحب أن يستخلف على ضعفة الناس من يصلي بهم في الجامع لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استخلف أبا مسعود البدري، يصلي بضعفة الناس في المسجد، وهل يصلي المستخلف ركعتين أو أربعاً، على روايتين بناء على اختلاف الروايات في فعل أبي مسعود وقد روي أنه صلى بهم ركعتين وروي أنه صلى بهم أربعاً، وإن كان عذر من
مطر أو نحوه صلى في المسجد، لما روى أبو هريرة قال: «أصابنا مطر في يوم عيد، فصلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد» . رواه أبو داود.
فصل:
ويسن الاغتسال للعيد، والطيب والتنظيف والسواك، وأن يلبس أحسن ثيابه، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في جمعة من الجمع: «إن هذا يوم جعله الله عيداً للمسلمين فاغتسلوا ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه، وعليكم بالسواك» فعلل ذلك بأنه يوم عيد، ولأن هذا اليوم يشرع فيه الاجتماع للصلاة، فأشبه الجمعة، وقد روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتم، ويلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة» رواه ابن عبد البر. إلا أن المعتكف يستحب له الخروج في ثياب اعتكافه، ليبقى عليه أثر العبادة.
فصل:
ويستحب أن يبكر إليها المأموم، ماشياً مظهراً للتكبير؛ لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: من السنة أن يأتي العيد ماشياً. رواه الترمذي وقال، حديث حسن ولأنه أعظم للأجر، ويتأخر الإمام إلى وقت الصلاة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعله، ولأن الإمام ينتظر ولا ينتظر، وإذا غدا من طريق رجع من غيره؛ لأن جابراً قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان يوم عيد خالف الطريق.» رواه البخاري.
فصل:
قال ابن حامد: ويستحب خروج النساء، لما روت أم عطية قالت: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نخرجهن في الفطر والأضحى، العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن المصلى، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين» . متفق عليه. قال القاضي: وظاهر كلام أحمد أن ذلك جائز غير مستحب، ولا يلبسن ثوب شهرة، ولا يتطيبن لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وليخرجن تفلات» .
فصل:
وليس لها أذان ولا إقامة لما روى عطاء قال: أخبرني جابر «أن لا أذان للصلاة يوم الفطر ولا إقامة ولا نداء، ولا شيء لا نداء يومئذ ولا إقامة» ، متفق عليه. وقال جابر بن سمرة: «صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العيد غير مرة ولا مرتين بلا أذان ولا إقامة» . رواه مسلم.
فصل:
وصلاة العيد ركعتان، يقرأ في كل ركعة منهما بالحمد لله وسورة، ويجهر بالقراءة
بلا خلاف، قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد خاب من افترى» . رواه الإمام أحمد في " المسند ". ويسن أن يقرأ فيهما بسبح و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] لحديث النعمان بن بشير. ومهما قرأ أجزأه، ويكبر في الأولى سبع تكبيرات منها تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمساً سوى تكبيرة القيام، لما روت عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التكبير في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات سوى تكبيرتي الركوع» رواه أبو داود.
واعتددنا بتكبيرة الإحرام لأنها في حال القيام، ولم نعتد بتكبيرة القيام لأنها قبله.
ويسن أن يرفع يديه في كل تكبيرة، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة في الجنازة وفي العيد. رواه الأثرم. ويحمد الله، ويثني عليه، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين كل تكبيرتين، وإن أحب قال: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وصلى الله على محمد النبي الأمي وآله وسلم تسليماً؛ لأنه يجمع بين ما ذكرناه.
وموضع التكبير بين الاستفتاح، وقبل الاستعاذة والقراءة في الركعتين. وعنه: أنه قبل الاستفتاح أيضاً اختارها الخلال وصاحبه، والأول أولى؛ لأن الاستفتاح لافتتاح الصلاة، فيكون في أولها، والاستعاذة للقراءة فتكون في أولها. وعنه: أنه يوالي بين القراءتين، يجعلها في الأولى بعد التكبير، وفي الثانية قبله، لما روى علقمة أن عبد الله بن مسعود وأبا موسى وحذيفة خرج عليهم الوليد بن عقبة قبل العيد يوماً فقال لهم: إن هذا العيد قد دنا فكيف التكبير فيه؟ فقال عبد الله: تبدأ وتكبر تكبيرة تفتتح بها الصلاة، وتحمد ربك، وتصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم تدعو وتكبر، إلى أن قال: وتركع، ثم تقوم فتقرأ وتحمد ربك،. وذكر الحديث. قال أبو موسى وحذيفة صدق. ووجه الأولى أنه تكبير في إحدى ركعتي العيد فكان قبل القراءة كالأولى.
فصل:
وتكبيرات العيد الزوائد والذكر بينها سنة لا يؤثر تركها عمداً، وإن والى بين التكبير كان جائزاً، وإن نسي التكبير حتى شرع في القراءة، لم يعد إليه لأنه سنة فلا يعود إليها بعد شروعه في القراءة كالاستفتاح.
فصل:
فإذا سلم خطب خطبتين كخطبتي الجمعة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل ذلك. ويفارق خطبتي الجمعة في أربعة أشياء:
أحدها: أن محلها بعد الصلاة، لما روى ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة» . متفق عليه.
الثاني: أنه يسن أن يستفتح الأولى بتسع تكبيرات متواليات، والثانية بسبع، ويكثر التكبير في أضعاف الخطبة، لما روى سعد مؤذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر بين أضعاف الخطبة، يكثر التكبير بن خطبتي العيدين» .
الثالث: أن يحثهم في الفطر على إخراج الفطر، ويبين لهم ما يخرجونه ووقته وجنسه، وفي الأضحى يرغبهم في الأضحية، ويبين لهم ما يجزئ فيها، ووقت ذبحها، ويحثهم على الإطعام منها؛ لأنه وقت هذا النسك فيشرع تبيينه.
الربع: أنهما سنة لا يجب استماعهما ولا الإنصات لهما، لما روى عبد الله بن السائب قال: «شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العيد، فلما قضى الصلاة قال: إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب» رواه أبو داود. ويستحب أن يجلس عقيب صعوده ليستريح، وقيل: لا يجلس؛ لأن الجلوس في الجمعة لموضع الأذان ولا أذان ههنا.
فصل:
ولا يتنفل قبل الصلاة وبعدها في موضع الصلاة لا في المسجد ولا في المصلى، إماماً كان أو مأموماً، لما روى ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها» . متفق عليه. ولا بأس أن يصلي بعد رجوعه، لما روى أبو سعيد قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يصلي قبل العيد شيئاً، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين» . رواه ابن ماجه.
فصل:
ومن سبق بالتكبير أو بعضه لم يقضه لأنه سنة فات محلها.
وقال ابن عقيل: يأتي به؛ لأن محله القيام وقد أدركه، وإن أدركه في الركوع تتبعه ولم يقض التكبير وجهاً واحداً، وإن أدركه في التشهد قام إذا سلم الإمام فقضى ركعتين يكبر فيهما، وإن أدركه في الخطبة استمع ثم قضى الصلاة إن أحب. وفي صفة القضاء ثلاث روايات:
إحداهن: يقضيها على صفتها، لحديث أنس ولأنه قضى صلاة فكان على صفتها كغيرها.
الثانية: يصليها أربعاً بسلام واحد إن أحب، أو بسلامين، لما روى الأثرم عن عبد الله بن مسعود قال: من فاته العيد فليصل أربعاً، ولأنها صلاة عيد فإذا فاتت صليت أربعاً كالجمعة.
الثالثة: هو مخير بين ركعتين وأربع؛ لأنه تطوع نهار فكانت الخيرة إليه فيه كالضحى.
فصل:
ويشرع التكبير في العيدين، لقول الله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] . وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يكبر حتى يسمع أهل الطريق.
قال القاضي: والتكبير في الفطر مطلق غير مقيد على ظاهر كلامه. يعني لا يختص بأدبار الصلوات.
وقال أبو الخطاب: يكبر من غروب الشمس إلى خروج الإمام إلى الصلاة. وهل يكبر بعد صلاة العيد على روايتين.
فصل:
فأما التكبير في الأضحى فهو على ضربين: مطلق ومقيد. فأما المطلق فالتكبير في جميع الأوقات، من أول العشر إلى آخر أيام التشريق. وأما المقيد فهو التكبير في أدبار الصلوات، من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق. قيل لأحمد: بأي حديث تذهب إلى أن التكبير في صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق؟ قال: بالإجماع عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وقد روي عن جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الصبح يوم عرفة، ثم أقبل علينا فقال: الله أكبر ومد التكبير إلى آخر أيام التشريق» . وصفة التكبير المشروع: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد) ؛ لأن هذا يروى عن علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. قال أبو عبد الله: اختياري تكبير ابن مسعود. وذكر مثل هذا، ولأن في حديث جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر تكبيرتين» ، ولأنه تكبير خارج الصلاة فكان شفعاً كتكبير الأذان.
فصل:
وموضعه عقيب أدبار الصلوات المفروضات، ولا يشرع عقيب النوافل لأنه لا أذان
لها فلم يكبر بعدها كصلاة الجنازة. وإن سبق الرجل ببعض الفريضة كبر إذا سلم. وإن صلاها كلها وحده ففيه روايتان:
إحداهما: يكبر لأنه ذكر مشروع للمسبوق فأشبه التسليمة الثانية.
والثانية: لا يكبر؛ لأن ابن عمر كان لا يكبر إذا صلى وحده. وقال ابن مسعود: إنما التكبير على من صلى في الجماعة، ولأنه مخصوص بوقت فخص بالجماعة كالخطبة. والمسافر كالمقيم في التكبير، والمرأة كالرجل. قال البخاري: النساء كن يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز مع الرجال في المسجد، ويخفضن أصواتهن حتى لا يسمعهن الرجال. وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنها لا تكبر. ومن فاتته صلاة في أيام التكبير فقضاها فيها كبر، وإن قضاها بعدها لم يكبر؛ لأن التكبير مقيد بالوقت.
فصل:
ويكبر مستقبل القبلة، فإن أحدث قبل التكبير لم يكبر؛ لأن الحدث يقطع الصلاة. وإن نسي التكبير استقبل القبلة وكبر، ما لم يخرج من المسجد. ويستحب الاجتهاد في العمل الصالح في أيام العشر، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما العمل الصالح في أيام أفضل منه من العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء» أخرجه البخاري.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب صلاة الكسوف]
[باب صلاة الكسوف]
وهي سنة مؤكدة عند كسوف الشمس أو القمر، لما روى أبو مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الشمس والقمر آتيان من آيات الله تعالى يخوف الله بهما عباده وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس، فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم» وعن عائشة قالت: «خسفت الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبعث منادياً فنادى: الصلاة جامعة، وخرج إلى المسجد، فصف الناس وراءه، وصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات» ، متفق عليهما. وتجوز جماعة وفرادى لإطلاق الأمر بهما في
حديث أبي مسعود، والجماعة أفضل لفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها في جماعة، وينادي لها: الصلاة جامعة للحديث. وتفعل في لمسجد للخبر، ولأن وقتها ضيقاً فلو خرجوا إلى المصلى خيف فواتها.
فصل:
وصفتها أن يكبر للإحرام ويستفتح، ثم يقرأ الفاتحة وسورة البقرة أو نحوها، ثم يركع ويسبح نحواً من مائة آية ثم يرفع فيسمع ويحمد ويقرأ الفاتحة وآل عمران أو نحوها، ثم يركع فيسبح نحواً من سبعين آية، ثم يرفع فيسمع ويحمد، ثم يسجد سجدتين يسبح فيهما نحواً من الركوع، ثم يقوم إلى الثانية، فيقرأ الفاتحة وسورة النساء، ثم يركع ويسبح نحواً من خمسين آية ثم يرفع فيسمع ويحمد ويقرأ الفاتحة وسورة المائدة، ثم يركع فيسبح نحواً من أربعين آية، ثم يرفع فيسمع ويحمد ثم يسجد نحواً من ركوعه، ويتشهد ويسلم؛ وليس هذا التقدير في القراءة والتسبيح منقولاً عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولا هو متعين. وما قرأ به بعد أم الكتاب فيها أجزأه، لكن يستحب ذلك ليقارب فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما روت عائشة قالت: قال: «خسفت الشمس في حياة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخرج إلى المسجد فقام وكبر، وصف الناس وراءه فقرأ رسول الله قراءة طويلة، ثم كبر فركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم قام فقرأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى ثم كبر فركع ركوعاً هو أدنى من الركوع الأول، ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم سجد، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات، فانجلت الشمس.» متفق عليه.
وفي رواية أخرى: «فرأيت أنه قرأ في الأولى بسورة البقرة، وفي الثانية سورة آل عمران» ، ويجهر بالقراءة ليلاً كان أو نهاراً؛ لأن عائشة روت «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهر في صلاة الخسوف» [رواه أبو داود] . ولأنها صلاة شرع لها الجمع الكثير فسن لها الجهر كالعيد، وإن صلى في كل ركعة ثلاث ركوعات على نحو ما ذكرنا جاز؛ لأن [عائشة روت] ، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ست ركعات وأربع سجدات» . رواه مسلم.
وإن جعل في كل ركعة أربع ركوعات جاز أيضاً؛ لأنه يروى عن علي وابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والمختار الأول؛ لأنه أصح وأشهر.
فصل:
ووقتها من حين الكسوف إلى حين التجلي، فإن فاتت لم تقض لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صلوا حتى يكشف الله ما بكم» وإن تجلت وهو في الصلاة أتمها وخففها، وإن سلم قبل انجلائها لم يصل أخرى واشتغل بالذكر والدعاء، وإن استترت بغيم صلى؛ لأن الأصل بقاء الكسوف، وإن غابت كاسفة فهو كانجلائها؛ لأنه ذهب وقت الانتفاع بنورها. وإن طلعت الشمس والقمر خاسف فكذلك لما ذكرنا، وإن غاب ليلاً وهو كاسف لم يصل كالشمس إذا غابت. وقال القاضي: يصلي لأن وقت سلطانه باق.
فصل:
قال القاضي: لم يذكر لها أحمد خطبة، ولا رأيته لأحد من أصحابنا، وذلك لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرنا بالصلاة دون الخطبة.
فصل:
إذا اجتمع الكسوف والجنازة بدئ بالجنازة؛ لأنه يخاف عليها وإن اجتمع مع المكتوبة في آخر وقتها بدئ بها؛ لأنها آكد. وإن كان في أول وقتها بدئ بصلاة الكسوف؛ لأنه يخشى فواتها. وإن اجتمع هو والوتر وخيف فواتهما بدئ بالكسوف لأنه آكد.
فصل:
ولا يصلى لغير الكسوف من الآيات؛ لأنه لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا عن أحد من خلفائه. إلا أن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يصلي للزلزلة الدائمة لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل الكسوف بأنه آية يخوف الله بها عباده، والزلزلة أشد تخويفاً، فأما الرجفة فلا تبقى مدة تتسع لصلاة.
وهي سنة مؤكدة عند كسوف الشمس أو القمر، لما روى أبو مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الشمس والقمر آتيان من آيات الله تعالى يخوف الله بهما عباده وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس، فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم» وعن عائشة قالت: «خسفت الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبعث منادياً فنادى: الصلاة جامعة، وخرج إلى المسجد، فصف الناس وراءه، وصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات» ، متفق عليهما. وتجوز جماعة وفرادى لإطلاق الأمر بهما في
حديث أبي مسعود، والجماعة أفضل لفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها في جماعة، وينادي لها: الصلاة جامعة للحديث. وتفعل في لمسجد للخبر، ولأن وقتها ضيقاً فلو خرجوا إلى المصلى خيف فواتها.
فصل:
وصفتها أن يكبر للإحرام ويستفتح، ثم يقرأ الفاتحة وسورة البقرة أو نحوها، ثم يركع ويسبح نحواً من مائة آية ثم يرفع فيسمع ويحمد ويقرأ الفاتحة وآل عمران أو نحوها، ثم يركع فيسبح نحواً من سبعين آية، ثم يرفع فيسمع ويحمد، ثم يسجد سجدتين يسبح فيهما نحواً من الركوع، ثم يقوم إلى الثانية، فيقرأ الفاتحة وسورة النساء، ثم يركع ويسبح نحواً من خمسين آية ثم يرفع فيسمع ويحمد ويقرأ الفاتحة وسورة المائدة، ثم يركع فيسبح نحواً من أربعين آية، ثم يرفع فيسمع ويحمد ثم يسجد نحواً من ركوعه، ويتشهد ويسلم؛ وليس هذا التقدير في القراءة والتسبيح منقولاً عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولا هو متعين. وما قرأ به بعد أم الكتاب فيها أجزأه، لكن يستحب ذلك ليقارب فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما روت عائشة قالت: قال: «خسفت الشمس في حياة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخرج إلى المسجد فقام وكبر، وصف الناس وراءه فقرأ رسول الله قراءة طويلة، ثم كبر فركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم قام فقرأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى ثم كبر فركع ركوعاً هو أدنى من الركوع الأول، ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم سجد، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات، فانجلت الشمس.» متفق عليه.
وفي رواية أخرى: «فرأيت أنه قرأ في الأولى بسورة البقرة، وفي الثانية سورة آل عمران» ، ويجهر بالقراءة ليلاً كان أو نهاراً؛ لأن عائشة روت «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهر في صلاة الخسوف» [رواه أبو داود] . ولأنها صلاة شرع لها الجمع الكثير فسن لها الجهر كالعيد، وإن صلى في كل ركعة ثلاث ركوعات على نحو ما ذكرنا جاز؛ لأن [عائشة روت] ، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ست ركعات وأربع سجدات» . رواه مسلم.
وإن جعل في كل ركعة أربع ركوعات جاز أيضاً؛ لأنه يروى عن علي وابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والمختار الأول؛ لأنه أصح وأشهر.
فصل:
ووقتها من حين الكسوف إلى حين التجلي، فإن فاتت لم تقض لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صلوا حتى يكشف الله ما بكم» وإن تجلت وهو في الصلاة أتمها وخففها، وإن سلم قبل انجلائها لم يصل أخرى واشتغل بالذكر والدعاء، وإن استترت بغيم صلى؛ لأن الأصل بقاء الكسوف، وإن غابت كاسفة فهو كانجلائها؛ لأنه ذهب وقت الانتفاع بنورها. وإن طلعت الشمس والقمر خاسف فكذلك لما ذكرنا، وإن غاب ليلاً وهو كاسف لم يصل كالشمس إذا غابت. وقال القاضي: يصلي لأن وقت سلطانه باق.
فصل:
قال القاضي: لم يذكر لها أحمد خطبة، ولا رأيته لأحد من أصحابنا، وذلك لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرنا بالصلاة دون الخطبة.
فصل:
إذا اجتمع الكسوف والجنازة بدئ بالجنازة؛ لأنه يخاف عليها وإن اجتمع مع المكتوبة في آخر وقتها بدئ بها؛ لأنها آكد. وإن كان في أول وقتها بدئ بصلاة الكسوف؛ لأنه يخشى فواتها. وإن اجتمع هو والوتر وخيف فواتهما بدئ بالكسوف لأنه آكد.
فصل:
ولا يصلى لغير الكسوف من الآيات؛ لأنه لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا عن أحد من خلفائه. إلا أن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يصلي للزلزلة الدائمة لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل الكسوف بأنه آية يخوف الله بها عباده، والزلزلة أشد تخويفاً، فأما الرجفة فلا تبقى مدة تتسع لصلاة.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب صلاة الاستسقاء]
[باب صلاة الاستسقاء]
وهي سنة عند الحاجة إليها. لما روى عبد الله بن زيد قال: «خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يستسقي، فتوجه إلى القبلة يدعو، وحول رداءه وصلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة» . متفق عليه. وصفتها في موضعها وأحكامها صفة صلاة العيد. وهل يكبر فيهما تكبير العيدين؟
على روايتين:
إحداهما: لا يكبر لأن عبد الله بن زيد لم يذكره.
والثاني: يكبر؛ لأن ابن عباس روى «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ركعتين كما يصلي في العيدين» ، حديث صحيح. وعن جعفر بن محمد عن أبيه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر كانوا يصلون صلاة الاستسقاء يكبرون فيها سبعاً، وخمساً» . رواه الشافعي في " مسنده ". ولا وقت لها معين، إلا أن الأولى فعلها في وقت صلاة العيد، لشبهها بها. وذكر ابن عبد البر أن الخروج إليها عند زوال الشمس عند جماعة العلماء.
فصل:
وفي إذن الإمام روايتان، بناء على صلاة العيد:
إحداهما: هو شرط لها. قال أبو بكر: فإن خرجوا بغير إذن الإمام صلوا ودعوا بغير خطبة.
والثانية: يصلون ويخطب بهم أحدهم، والأولى للإمام إذا أراد الاستسقاء أن يعظ الناس، ويأمرهم بتقوى الله، والخروج عن المظالم، والتوبة من المعاصي وتحليل بعضهم بعضاً، والصيام والصدقة، وترك التشاحن؛ لأن المعاصي سبب القحط، والتقوى سبب البركات، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] . ويعد الناس يوماً يخرجون فيه، ويأمرهم أن يخرجوا على الصفة التي خرج عليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال ابن عباس: «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للاستسقاء متبذلاً، متواضعاً متخشعاً، متضرعاً حتى أتى المصلى، فلم يخطب كخطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء، والتضرع والتكبير، وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد» . هذا حديث صحيح. ويسن التنظيف وإزالة الرائحة لئلا يؤذي الناس بها، ولا يلبس زينة ولا يتطيب؛ لأن هذا يوم استكانة وخضوع.
فصل:
ويخرج الشيوخ والصبيان، ومن له ذكر جميل ودين وصلاح؛ لأنه أسرع للإجابة.
ويستحب أن يستسقي الإمام بمن ظهر صلاحه؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استسقى بالعباس عم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واستسقى معاوية والضحاك بيزيد بن الأسود الجرشي، وروي أن معاوية أمر يزيد بن الأسود فصعد المنبر، فقعد عند رجليه، فقال معاوية: اللهم إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك بيزيد بن الأسود الجرشي، يا يزيد ارفع يديك إلى الله، فرفع يديه ورفع الناس أيديهم، فما كان بأوشك من أن ثارت سحابة في الغرب، كأنها ترس، وهب لها ريح، فسقوا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم. ولا يستحب إخراج البهائم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يخرجها، ولا إخراج الكفار؛ لأنهم أعداء الله فلا يتوسل بهم. فإن خرجوا لم يمنعوا لأنهم يطلبون رزقهم، ويفردون عن المسلمين بحيث إن أصابهم عذاب لم يصب غيرهم.
فصل:
واختلفت الرواية في الخطبة فروي: أنه لا يخطب وإنما يدعو، لقول ابن عباس: «لم يخطب خطبتكم هذه» ، وروي أنه يخطب قبل الصلاة، لقول عبد الله بن زيد: «فتوجه إلى القبلة يدعو، وحول رداءه ثم صلى» .
وعنه: أنه مخير في الخطبة قبل الصلاة وبعدها؛ لأن الجميع مروي.
وعنه: يخطب بعد الصلاة؛ لأن أبا هريرة قال: «صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم خطبنا» . وهذا صريح. ولأنها مشبهة بصلاة العيد، وخطبتها بعد الصلاة. فإذا صعد المنبر جلس، ثم قام فخطب خطبة واحدة، يفتتحها بالتكبير لأنه لم ينقل أحد من الرواة خطبتين، ويكثر فيها الاستغفار، وقراءة الآيات التي فيها الأمر بالاستغفار مثل: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10] {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11] ، {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3] . ويكثر الدعاء والتضرع ويدعو بدعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد روى ابن قتيبة بإسناده عن أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى الاستسقاء، فتقدم فصلى ركعتين يجهر فيهما بالقراءة، فلما قضى صلاته استقبل القوم بوجهه، وقلب رداءه ورفع يديه، وكبر تكبيرة قبل أن يستسقي، ثم قال: اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، وحياً ربيعاً، وجداً طبقاً، غدقاً مغدقاً، مونقاً، هنيئاً مريئاً مريعاً، مربعاً، مرتعاً، سابلاً، مسبلاً مجللاً، دائماً، دروراً، نافعاً، غير ضار عاجلاً غير رائث، اللهم تحيي به البلاد وتغيث به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر منا والباد، اللهم أنزل في أرضنا زينتها، وأنزل في أرضنا سكنها، اللهم أنزل علينا من
السماء ماء طهوراً، فأحي به بلدة ميتاً، واسقه مما خلقت لنا أنعاماً وأناسي كثيراً» . فالحيا الذي يحيى به الأرض.
والجدا: المطر العام.
والطبق: الذي يطبق الأرض.
والغدق: الكثير.
والمونق: المعجب.
والمريع: ذو المراعة والخصب.
والمربع: المقيم، من قولك: ربعت بالمكان إذا أقمت فيه.
والمرتع: من قولك: رتعت الإبل إذا رعت.
والسابل: المطر.
والمسبل: الماطر.
والسكن: القوة لأن الأرض تسكن به.
وعن ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا استسقى قال: «اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، هنيئاً، مريئاً، غدقاً، مجللاً، طبقاً، عاماً، سحاً، دائماً، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والضنك والجهد ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنزل علينا من بركاتك، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من العذاب ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً فأرسل السماء علينا مدراراً» . ويستقبل القبلة في أثناء الخطبة، ويحول رداءه، يجعل اليمين يساراً واليسار يميناً كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تفاؤلاً أن يحول الله تعالى الجدب خصباً، ولا يجعل أعلاه أسفله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفعله، ويدعو الله في استقباله فيقول: اللهم إنك أمرتنا بدعائك ووعدتنا إجابتك، وقد دعوناك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا. لأن عبد الله بن زيد روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى المصلى يستسقي، فاستقبل القبلة ودعا، وحول رداءه وجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن» .
ويرفع يديه؛ لأن أنساً قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء، كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه» . متفق عليه. فإن سقوا قبل الصلاة
صلوا وشكروا الله تعالى، وسألوه المزيد من فضله، وإن صلوا ولم يسقوا عادوا في اليوم الثاني والثالث لأن الله يحب الملحين في الدعاء.
فصل:
والاستسقاء على ثلاثة أضرب:
أحدها: مثل ما وصفنا.
والثاني: أن يستسقي الإمام يوم الجمعة على المنبر كما روى أنس: «أن رجلاً دخل يوم الجمعة ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب فاستقبل رسول الله قائماً ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وتقطعت السبل، فادع الله يغيثنا. فرفع رسول الله يديه فقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا» ، وذكر الحديث، متفق عليه.
الثالث: أن يدعو عقيب الصلوات، ويستحب أن يقف في أول المطر، ويخرج ثيابه ليصيبها لما روى أنس في حديثه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينزل عن منبره حتى رأينا المطر يتحادر من لحيته» . [رواه البخاري] .
فصل:
فإن كثر المطر بحيث يضرهم، أو كثرت مياه العيون حتى خيف منها، استحب أن يدعو الله تعالى حتى يخففه؛ لأن في حديث أنس قال: «فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة، فجاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، تهدمت البيوت، وقطعت السبل وهلكت المواشي فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللهم على ظهور الجبال والآكام، وبطون الأودية ومنابت الشجر فانجابت عن المدينة انجياب الثوب» . متفق عليه. وفي حديث آخر: «اللهم حوالينا ولا علينا ويقول: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] » .
وهي سنة عند الحاجة إليها. لما روى عبد الله بن زيد قال: «خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يستسقي، فتوجه إلى القبلة يدعو، وحول رداءه وصلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة» . متفق عليه. وصفتها في موضعها وأحكامها صفة صلاة العيد. وهل يكبر فيهما تكبير العيدين؟
على روايتين:
إحداهما: لا يكبر لأن عبد الله بن زيد لم يذكره.
والثاني: يكبر؛ لأن ابن عباس روى «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ركعتين كما يصلي في العيدين» ، حديث صحيح. وعن جعفر بن محمد عن أبيه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر كانوا يصلون صلاة الاستسقاء يكبرون فيها سبعاً، وخمساً» . رواه الشافعي في " مسنده ". ولا وقت لها معين، إلا أن الأولى فعلها في وقت صلاة العيد، لشبهها بها. وذكر ابن عبد البر أن الخروج إليها عند زوال الشمس عند جماعة العلماء.
فصل:
وفي إذن الإمام روايتان، بناء على صلاة العيد:
إحداهما: هو شرط لها. قال أبو بكر: فإن خرجوا بغير إذن الإمام صلوا ودعوا بغير خطبة.
والثانية: يصلون ويخطب بهم أحدهم، والأولى للإمام إذا أراد الاستسقاء أن يعظ الناس، ويأمرهم بتقوى الله، والخروج عن المظالم، والتوبة من المعاصي وتحليل بعضهم بعضاً، والصيام والصدقة، وترك التشاحن؛ لأن المعاصي سبب القحط، والتقوى سبب البركات، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] . ويعد الناس يوماً يخرجون فيه، ويأمرهم أن يخرجوا على الصفة التي خرج عليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال ابن عباس: «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للاستسقاء متبذلاً، متواضعاً متخشعاً، متضرعاً حتى أتى المصلى، فلم يخطب كخطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء، والتضرع والتكبير، وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد» . هذا حديث صحيح. ويسن التنظيف وإزالة الرائحة لئلا يؤذي الناس بها، ولا يلبس زينة ولا يتطيب؛ لأن هذا يوم استكانة وخضوع.
فصل:
ويخرج الشيوخ والصبيان، ومن له ذكر جميل ودين وصلاح؛ لأنه أسرع للإجابة.
ويستحب أن يستسقي الإمام بمن ظهر صلاحه؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استسقى بالعباس عم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واستسقى معاوية والضحاك بيزيد بن الأسود الجرشي، وروي أن معاوية أمر يزيد بن الأسود فصعد المنبر، فقعد عند رجليه، فقال معاوية: اللهم إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك بيزيد بن الأسود الجرشي، يا يزيد ارفع يديك إلى الله، فرفع يديه ورفع الناس أيديهم، فما كان بأوشك من أن ثارت سحابة في الغرب، كأنها ترس، وهب لها ريح، فسقوا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم. ولا يستحب إخراج البهائم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يخرجها، ولا إخراج الكفار؛ لأنهم أعداء الله فلا يتوسل بهم. فإن خرجوا لم يمنعوا لأنهم يطلبون رزقهم، ويفردون عن المسلمين بحيث إن أصابهم عذاب لم يصب غيرهم.
فصل:
واختلفت الرواية في الخطبة فروي: أنه لا يخطب وإنما يدعو، لقول ابن عباس: «لم يخطب خطبتكم هذه» ، وروي أنه يخطب قبل الصلاة، لقول عبد الله بن زيد: «فتوجه إلى القبلة يدعو، وحول رداءه ثم صلى» .
وعنه: أنه مخير في الخطبة قبل الصلاة وبعدها؛ لأن الجميع مروي.
وعنه: يخطب بعد الصلاة؛ لأن أبا هريرة قال: «صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم خطبنا» . وهذا صريح. ولأنها مشبهة بصلاة العيد، وخطبتها بعد الصلاة. فإذا صعد المنبر جلس، ثم قام فخطب خطبة واحدة، يفتتحها بالتكبير لأنه لم ينقل أحد من الرواة خطبتين، ويكثر فيها الاستغفار، وقراءة الآيات التي فيها الأمر بالاستغفار مثل: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10] {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11] ، {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3] . ويكثر الدعاء والتضرع ويدعو بدعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد روى ابن قتيبة بإسناده عن أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى الاستسقاء، فتقدم فصلى ركعتين يجهر فيهما بالقراءة، فلما قضى صلاته استقبل القوم بوجهه، وقلب رداءه ورفع يديه، وكبر تكبيرة قبل أن يستسقي، ثم قال: اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، وحياً ربيعاً، وجداً طبقاً، غدقاً مغدقاً، مونقاً، هنيئاً مريئاً مريعاً، مربعاً، مرتعاً، سابلاً، مسبلاً مجللاً، دائماً، دروراً، نافعاً، غير ضار عاجلاً غير رائث، اللهم تحيي به البلاد وتغيث به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر منا والباد، اللهم أنزل في أرضنا زينتها، وأنزل في أرضنا سكنها، اللهم أنزل علينا من
السماء ماء طهوراً، فأحي به بلدة ميتاً، واسقه مما خلقت لنا أنعاماً وأناسي كثيراً» . فالحيا الذي يحيى به الأرض.
والجدا: المطر العام.
والطبق: الذي يطبق الأرض.
والغدق: الكثير.
والمونق: المعجب.
والمريع: ذو المراعة والخصب.
والمربع: المقيم، من قولك: ربعت بالمكان إذا أقمت فيه.
والمرتع: من قولك: رتعت الإبل إذا رعت.
والسابل: المطر.
والمسبل: الماطر.
والسكن: القوة لأن الأرض تسكن به.
وعن ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا استسقى قال: «اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، هنيئاً، مريئاً، غدقاً، مجللاً، طبقاً، عاماً، سحاً، دائماً، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والضنك والجهد ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنزل علينا من بركاتك، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من العذاب ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً فأرسل السماء علينا مدراراً» . ويستقبل القبلة في أثناء الخطبة، ويحول رداءه، يجعل اليمين يساراً واليسار يميناً كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تفاؤلاً أن يحول الله تعالى الجدب خصباً، ولا يجعل أعلاه أسفله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفعله، ويدعو الله في استقباله فيقول: اللهم إنك أمرتنا بدعائك ووعدتنا إجابتك، وقد دعوناك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا. لأن عبد الله بن زيد روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى المصلى يستسقي، فاستقبل القبلة ودعا، وحول رداءه وجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن» .
ويرفع يديه؛ لأن أنساً قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء، كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه» . متفق عليه. فإن سقوا قبل الصلاة
صلوا وشكروا الله تعالى، وسألوه المزيد من فضله، وإن صلوا ولم يسقوا عادوا في اليوم الثاني والثالث لأن الله يحب الملحين في الدعاء.
فصل:
والاستسقاء على ثلاثة أضرب:
أحدها: مثل ما وصفنا.
والثاني: أن يستسقي الإمام يوم الجمعة على المنبر كما روى أنس: «أن رجلاً دخل يوم الجمعة ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب فاستقبل رسول الله قائماً ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وتقطعت السبل، فادع الله يغيثنا. فرفع رسول الله يديه فقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا» ، وذكر الحديث، متفق عليه.
الثالث: أن يدعو عقيب الصلوات، ويستحب أن يقف في أول المطر، ويخرج ثيابه ليصيبها لما روى أنس في حديثه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينزل عن منبره حتى رأينا المطر يتحادر من لحيته» . [رواه البخاري] .
فصل:
فإن كثر المطر بحيث يضرهم، أو كثرت مياه العيون حتى خيف منها، استحب أن يدعو الله تعالى حتى يخففه؛ لأن في حديث أنس قال: «فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة، فجاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، تهدمت البيوت، وقطعت السبل وهلكت المواشي فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللهم على ظهور الجبال والآكام، وبطون الأودية ومنابت الشجر فانجابت عن المدينة انجياب الثوب» . متفق عليه. وفي حديث آخر: «اللهم حوالينا ولا علينا ويقول: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] » .
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[كتاب الجنائز]
[كتاب الجنائز]
يستحب الإكثار من ذكر الموت، والاستعداد له، فإذا مرض استحب عيادته، لما روى البراء قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باتباع الجنازة، وعيادة المريض» . متفق عليه. فإذا دخل عليه سأله عن حاله، ورقاه ببعض رقى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويحثه على التوبة، ويرغبه في الوصية، ويذكر له ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يوصي فيه، إلا ووصيته مكتوبة عنده»
متفق عليه.
فصل:
ويستحب أن يلي المريض أرفق أهله به، وأعلمهم بسياسته، وأتقاهم لربه. وإذا رآه منزولاً به تعاهد بل حلقه فيقطر فيه ماء أو شراباً، ويندي شفتيه بقطنة، ويلقنه قول: لا إله إلا الله مرة، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله» رواه مسلم. ويكون ذلك في لطف ومداراة، ولا يكرر عليه فيضجره، إلا أن يتكلم بشيء فيعيد تلقينه، لتكون آخر كلامه، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» رواه أبو داود. ويقرأ عنده سورة " يس " ليخفف عنه، لما روى معقل بن يسار أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اقرؤوا يس على موتاكم» رواه أبو داود. ويوجهه إلى القبلة، كتوجيهه إلى الصلاة؛ لأن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: وجهوني، ولأن خير المجالس ما استقبل القبلة.
فصل:
فإذا مات أغمض عينيه، لما روى شداد بن أوس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر، فإن البصر يتبع الروح» من " المسند ". ولأنه إذا لم تغمض عيناه بقيتا مفتوحتين فيقبح منظره، ويشد لحيته بعصابة عريضة، يجمع لحييه ثم يشدها على رأسه، لئلا ينفتح فوه فيقبح منظره ويدخل فيه ماء الغسل. ويقول الذي يغمضه: بسم الله وعلى ملة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويلين مفاصله؛ لأنه أسهل في الغسل، ولئلا تبقى جافة فلا يمكن تكفينه، ويخلع ثيابه لئلا يحمي جسمه فيسرع إليه التغير والفساد، ويجعل على سرير أو لوح حتى لا تصيبه نداوة الأرض فتغيره، ويترك على بطنه حديدة لئلا ينتفخ بطنه، وإن لم يكن فطين مبلول. ويسجى بثوب؛ «لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجي ببرد حبرة» ، متفق عليه. ويسارع في تجهيزه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إني لأرى طلحة قد حدث فيه الموت فآذنوني به وعجلوا فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني
أهله» رواه أبو داود. وإن شك في موته انتظر به حتى يتيقن موته، بانخساف صدغيه، وميل أنفه وانفصال كفيه، واسترخاء رجليه، ولا بأس بالانتظار بها قدر ما يجتمع لها جماعة، ما لم يخف عليه، أو يشق على الناس. ويسارع في قضاء دينه، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه» وهذا حديث حسن. فإن تعذر تعجيله استحب أن يتكفل به عنه، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بجنازة فسأل: هل عليه دين؟ قالوا: نعم، ديناران فلم يصل عليه. فقال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله فصلى عليه» . رواه النسائي. وتستحب المسارعة في تفريق وصيته ليتعجل ثوابها بجريانها على الموصى له.
يستحب الإكثار من ذكر الموت، والاستعداد له، فإذا مرض استحب عيادته، لما روى البراء قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باتباع الجنازة، وعيادة المريض» . متفق عليه. فإذا دخل عليه سأله عن حاله، ورقاه ببعض رقى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويحثه على التوبة، ويرغبه في الوصية، ويذكر له ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يوصي فيه، إلا ووصيته مكتوبة عنده»
متفق عليه.
فصل:
ويستحب أن يلي المريض أرفق أهله به، وأعلمهم بسياسته، وأتقاهم لربه. وإذا رآه منزولاً به تعاهد بل حلقه فيقطر فيه ماء أو شراباً، ويندي شفتيه بقطنة، ويلقنه قول: لا إله إلا الله مرة، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله» رواه مسلم. ويكون ذلك في لطف ومداراة، ولا يكرر عليه فيضجره، إلا أن يتكلم بشيء فيعيد تلقينه، لتكون آخر كلامه، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» رواه أبو داود. ويقرأ عنده سورة " يس " ليخفف عنه، لما روى معقل بن يسار أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اقرؤوا يس على موتاكم» رواه أبو داود. ويوجهه إلى القبلة، كتوجيهه إلى الصلاة؛ لأن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: وجهوني، ولأن خير المجالس ما استقبل القبلة.
فصل:
فإذا مات أغمض عينيه، لما روى شداد بن أوس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر، فإن البصر يتبع الروح» من " المسند ". ولأنه إذا لم تغمض عيناه بقيتا مفتوحتين فيقبح منظره، ويشد لحيته بعصابة عريضة، يجمع لحييه ثم يشدها على رأسه، لئلا ينفتح فوه فيقبح منظره ويدخل فيه ماء الغسل. ويقول الذي يغمضه: بسم الله وعلى ملة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويلين مفاصله؛ لأنه أسهل في الغسل، ولئلا تبقى جافة فلا يمكن تكفينه، ويخلع ثيابه لئلا يحمي جسمه فيسرع إليه التغير والفساد، ويجعل على سرير أو لوح حتى لا تصيبه نداوة الأرض فتغيره، ويترك على بطنه حديدة لئلا ينتفخ بطنه، وإن لم يكن فطين مبلول. ويسجى بثوب؛ «لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجي ببرد حبرة» ، متفق عليه. ويسارع في تجهيزه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إني لأرى طلحة قد حدث فيه الموت فآذنوني به وعجلوا فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني
أهله» رواه أبو داود. وإن شك في موته انتظر به حتى يتيقن موته، بانخساف صدغيه، وميل أنفه وانفصال كفيه، واسترخاء رجليه، ولا بأس بالانتظار بها قدر ما يجتمع لها جماعة، ما لم يخف عليه، أو يشق على الناس. ويسارع في قضاء دينه، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه» وهذا حديث حسن. فإن تعذر تعجيله استحب أن يتكفل به عنه، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بجنازة فسأل: هل عليه دين؟ قالوا: نعم، ديناران فلم يصل عليه. فقال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله فصلى عليه» . رواه النسائي. وتستحب المسارعة في تفريق وصيته ليتعجل ثوابها بجريانها على الموصى له.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب غسل الميت]
[باب غسل الميت]
وهو فرض على الكفاية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الذي وقصته ناقة: «اغسلوه بماء وسدر» متفق عليه. وأولى الناس بغسله من أوصي إليه بذلك لأن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس فقدمت بذلك. وأوصى أنس أن يغسله محمد بن سيرين ففعل، ولأنه حق للميت فقدم وصيه فيه على غيره كتفريق ثلثه. فإن لم يكن له وصي فأولاهم بغسل الرجل أبوه، ثم جده، ثم ابنه وإن نزل، ثم الأقرب فالأقرب من عصباته، ثم الرجال من ذوي الأرحام، ثم الأجانب لأنهم أولى الناس بالصلاة عليه. وأولاهم بغسل المرأة أمها، ثم جدتها، ثم ابنتها ثم الأقرب فالأقرب، ثم الأجنبيات.
ويجوز للمرأة غسل زوجها بلا خلاف، لحديث أبي بكر. ولقول عائشة: لو استقبلنا ما أمرنا ما استدبرنا ما غسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا نساؤه. رواه أبو داود. وفي غسل الرجل امرأته روايتان:
أشهرهما: يباح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة: «لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك» رواه ابن ماجه. وغسل علي فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فلم ينكره منكر، فكان إجماعاً، ولأنها أحد الزوجين فأبيح للآخر غسله كالزوج.
والأخرى: لا يباح؛ لأنهما فرقة أباحت أختها وأربعاً سواها، فحرمت اللمس، والنظر كالطلاق. وأم الولد كالزوجة في هذا؛ لأنها محل استمتاعه، فإن طلق الرجل
زوجته فماتت في العدة، وكان الطلاق بائناً، فهي كالأجنبية محرمة عليه، وإن كانت رجعية، وقلنا: إن الرجعية مباحة له فله غسلها وإلا فلا.
فصل:
ولا يصح غسل الكافر لمسلم؛ لأن الغسل عبادة محضة فلا تصح من كافر كالصلاة، ولا يجوز للمسلم أن يغسل كافراً وإن كان قريبه، ولا يتولى دفنه، إلا أن يخاف ضياعه فيواريه. قال أبو حفص العكبري: يجوز ذلك، وحكاه قولاً لأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «قلت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن عمك الشيخ الضال قد مات. قال: اذهب فواره» رواه أبو داود والنسائي. ولنا أنه لا يصلي عليه فلم يكن له غسله كالأجنبي، والخبر يدل على مواراته وله ذلك: لأنه يتغير بتركه ويتضرر ببقائه. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في مسلم مات والده النصراني -: فليركب دابته وليسر أمام الجنازة، وإذا أراد أن يدفن رجع، مثل قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ولا يجوز لرجل غسل امرأة غير من ذكرنا، ولا لامرأة غسل رجل سوى زوجها وسيدها؛ لأن أحدهما محرم على صاحبه في الحياة، فلم يجز له غسله كحال الحياة. فإن مات رجل بين نساء، أو امرأة بين رجال، أو خنثى مشكل فإنه ييمم، في أصح الروايتين، لما روى واثلة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا ماتت المرأة مع الرجال ليس بينها وبينهم محرم تيمم كما ييمم الرجل» أخرجه تمام في " فوائده ".
وعنه: في الرجل تموت أخته فلم يجد نساء، يغسلها، وعليها ثياب ويصب عليها الماء صباً، والأول أولى؛ لأن الغسل من غير مس لا يحصل به التنظيف ولا إزالة النجاسة، بل ربما كثرت، فكان التيمم أولى كما لو وجد ماء لا يطهر النجاسة. ويجوز للمرأة غسل صبي لم يبلغ سبع سنين نص عليه؛ لأن عورته ليست عورة، وتوقف عن غسل الرجل الجارية، قال الخلال: القياس التسوية بين الغلام والجارية، لولا أن التابعين فرقوا بينهما، وسوى أبو الخطاب بينهما في الجواز، جرياً على موجب القياس.
فصل:
وينبغي أن يكون الغاسل أميناً، لما روي عن ابن عمر أنه قال: لا يغسل موتاكم إلا المأمونون. ولأن غير الأمين لا يؤمن أن لا يستوفي الغسل، ويذيع ما يرى من قبيح، وعليه ستر ما يرى من قبيح؛ لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من غسل ميتاً ثم لم يفش عليه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» رواه ابن ماجه بمعناه. وإن رأى أمارات الخير استحب إظهارها، ليترحم عليه، ويرغب في مثل طريقته. وإن كان مغموصاً عليه في
السنة والدين، مشهوراً بذلك، فلا بأس بإظهار الشر عنه، لتحذر طريقته، ويستحب ستر الميت عن العيون، ولا يحضره إلا من يعين في أمره؛ لأنه ربما كان فيه عيب يستره في حياته، وربما بدت عورته فشاهدها.
فصل:
ويجرد الميت عند تغسيله، ويستر ما بين سرته وركبتيه، وروى ذلك الأثرم عنه، واختاره الخرقي وأبو الخطاب؛ لأن ذلك أمكن في تغسيله، وأبلغ في تطهيره، وأشبه بغسل الحي، وأصون له عن أن يتنجس بالثوب إذا خلع عنه، ولأن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يفعلون ذلك. بدليل أنهم قالوا: لا ندري أنجرد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما نجرد موتانا؟ رواه أبو داود. والظاهر أن النبي أمرهم به وأقرهم عليه.
وروى المروذي، وعنه: أن الأفضل غسله في قميص رقيق ينزل الماء فيه، ويدخل الغاسل يده في كم القميص فيمرها على بدنه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غسل في قميصه. ولأنه أستر للميت. ويستحب أن يوضع على سرير غسله، متوجهاً، منحدراً نحو رجليه، لينصب ماء الغسل منه، ولا يستنقع تحته فيفسده، ويستحب أن يتخذ الغاسل ثلاثة آنية، إناء كبير فيه ماء، بعيداً عن الميت، وإناء وسطاً، وإناء يغترف به من الوسط، ويصب على الميت، فإن فسد الماء الذي في الوسط كان الآخر سليماً؟ ويكون بقربه مجمر فيه بخور لتخفى رائحة ما يخرج منه.
فصل:
والفرض فيه ثلاثة أشياء: النية. لأنها طهارة تعبدية، أشبهت غسل الجنابة. وتعميم البدن بالغسل؛ لأنه غسل فوجب فيه ذلك، كغسل الجنابة وتطهيره من النجاسة. وفي التسمية وجهان بناء على غسل الجنابة. ويسن فيه ثمانية أشياء:
أحدها: أن يبدأ فيحني الميت حنياً لا يبلغ به الجلوس، ويمر يده على بطنه فيعصره عصراً دقيقاً ليخرج ما في جوفه من فضلة لئلا يخرج بعد الغسل، أو بعد التكفين فيفسده، ويصب عليه الماء وقت العصر صباً كثيراً، ليذهب بما يخرج، فلا تظهر رائحته.
والثاني: أن يلف على يده خرقة فينجيه بها ولا يحل له مس عورته؛ لأن رؤيتها محرمة فلمسها أولى، ويستحب أن لا يمس سائر بدنه إلا بخرقة، وينبغي أن يتخذ الغاسل خرقتين خشنتين، ينجيه بإحداهما ثم يلقيها، ويلف الأخرى على يده فيمسح بها سائر البدن، لما روي أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبيده خرقة يمسح بها ما تحت القميص.
الثالث: أن يبدأ بعد إنجائه فيوضئه، لما روت أم عطية أنها قالت: «لما غسلنا ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها» متفق عليه. ولأن الحي يتوضأ إذا أراد الغسل فكذلك الميت، ولا يدخل فاه ولا أنفه ماء؛ لأنه لا يمكنه إخراجه، فربما دخل بطنه ثم خرج فأفسد وضوءه، لكن يلف على يده خرقة مبلولة، ويدخلها بين شفتيه فيمسح أسنانه وأنفه، ويتتبع ما تحت أظافره - إن لم يكن قلمها - بعود لين كالصفصاف، فيزيله ويغسله، كما يفعل الحي في وضوئه وغسله.
الرابع: أن يغسله بسدر مع الماء، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اغسلوه بماء وسدر» وقال للنساء اللاتي غسلن ابنته: «اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور» متفق عليه. وظاهر كلام أحمد أن السدر يجعل في جميع الغسلات لظاهر الخبر، وذكره الخرقي.
وقال القاضي وأبو الخطاب: يغسل الأولى بماء وسدر، ثم يغسل الثانية بماء لا سدر فيه، كيلا يسلب طهوريته، ولا يجعل فيه سدر صحيح. ولا فائدة في ترك يسير لا يؤثر فإن أعوز السدر جعل مكانه ما يقوم مقامه كالخطمي والصابون ونحوه مما ينقي.
الخامس: أن يضرب السدر، ثم يبدأ فيغسل برغوته رأسه ولحيته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبدأ بعد الوضوء بالصب على رأسه في الجنابة.
السادس: أن يبدأ بشقه الأيمن، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ابدأن بميامنها» فيغسل يده اليمنى، وصفحة عنقه، وشق صدره، وجنبه، وفخذه، وساقه، وقدمه، ثم يقلبه على جنبه الأيسر ويغسل شق ظهره الأيمن وما يليه، ثم يقلبه على جنبه الأيمن ويغسل شقه الأيسر كذلك.
السابع: أن يغسله وتراً للخبر، فيغسله ثلاثاً فإن لم ينق بثلاث زاد إلى خمس، أو إلى سبع لا يزيد عليها؛ لأنه آخر ما انتهى إليه أمر النبي، ويمر في كل مرة يده، ولا يوضئه إلا في المرة الأولى، إلا أن يخرج منه شيء فيعيد وضوءه؛ لأنه بمنزلة الحدث من المغتسل في الجنابة، ولو غسله ثلاثاً ثم خرج منه شيء غسله إلى خمس، فإن خرج بعد ذلك غسله إلى سبع، فإن خرج بعد ذلك لم يعد إلى الغسل، ويسد مخرج النجاسة بالقطن، فإن لم يستمسك فبالطين الحر، ويغسل موضع النجاسة، ويوضأ لأن أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغسل انتهى إلى سبع. واختار أبو الخطاب أنه لا يعاد إلى الغسل لخروج الحدث؛ لأن الجنب إذا أحدث بعد غسله لم يعده، ويوضأ وضوءه للصلاة.
الثامن: أن يجعل في الغسلة الأخيرة كافوراً ليشده ويبرده ويطيبه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بذلك ويستحب أن يضفر شعر المرأة ثلاثة قرون، ويسدل من ورائها، لما روت أم
عطية قالت: «ضفرنا شعرها ثلاثة قرون، وألقيناه من خلفها، تعني: ابنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . متفق عليه.
فصل:
وكره أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تسريح الميت؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: علام تنصون ميتكم؟ يعني: لا تسرحوا رأسه بالمشط. ولأنه يقطع شعره وينتفه. والماء البارد في الغسل أفضل من الحار؛ لأن البارد يشده، والحار يرخيه، إلا من حاجة إليه لوسخ يقلع به، أو شدة برد يتأذى به الغاسل ولا يستعمل الأشنان، إلا لحاجة إليه للاستعانة على إزالة الوسخ.
فصل:
ويستحب تقليم أظافر الميت، وقص شاربه؛ لأن ذلك سنة في حياته، ويترك ذلك معه في أكفانه؛ لأنه من أجزائه، وكل ما سقط من الميت جعل معه في أكفانه، ليجمع بين أجزائه، وفي أخذ عانته، وجهان:
أحدهما: يستحب إزالتها بنورة أو حلق؛ لأن سعد بن أبي وقاص جز عانة ميت، ولأنه من الفطرة، فأشبه تقليم الأظفار.
والثاني: لا يستحب؛ لأن فيه لمس العورة، وربما احتاج إلى نظرها، وذلك محرم فلا يفعل لأجل مندوب.
فصل:
والسقط إذا أتى عليه أربعة أشهر غسل وصلي عليه، لما روى المغيرة بن شعبة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والسقط يصلى عليه» رواه أبو داود، ولأنه ميت مسلم أشبه المستهل، ودليل أنه ميت: ما روى ابن مسعود عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه فيكون نطفة أربعين يوماً، ثم علقة مثل ذلك، ثم مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً فينفخ فيه الروح» متفق عليه. ومن كان فيه روح ثم خرجت فهو ميت، ويستحب تسميته، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سموا أسقاطكم فإنهم أسلافكم» . فإن لم يعلم أذكر هو أم أنثى سمي اسماً يصلح لهما كسعادة وسلامة، ومن له دون أربع أشهر لا يغسل، ولا يصلى عليه لعدم ما ذكرناه فيه.
فصل:
والشهيد إذا مات في المعركة لم يغسل رواية واحدة. وفي الصلاة عليه روايتان:
إحداهما: يصلى عليه، اختارها الخلال لما روى عقبة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يوماً فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف» . متفق عليه.
والثانية: لا يصلى عليه، وهي أصح، لما روى جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم، ولم يغسلوا، ولم يصل عليهم» . رواه البخاري. وحديث عقبة مخصوص بشهداء أحد، بدليل أنه صلى عليهم بعد ثمان سنين، والخيرة في تكفين الشهداء إلى الولي، إن أحب زمله في ثيابه ونزع ما عليه من جلد أو سلاح. لما روى ابن عباس «أن رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد، وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم» . رواه أبو داود. وإن أحب نزع ثيابه وكفنه بغيرها؛ «لأن صفية أرسلت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثوبين ليكفن حمزة فيهما، فكفنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أحدهما، وكفن في الآخر رجلاً آخر» . قال يعقوب بن شيبة: هو صالح الإسناد، وإن حمل وبه رمق، أو أكل أو طالت حياته، غسل وصلي عليه؛ لأن سعد بن معاذ غسله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى عليه وكان شهيداً، وإن قتل وهو جنب غسل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم أحد: «ما بال حنظلة بن الراهب؟ إني رأيت الملائكة تغسله قالوا: إنه سمع الهائعة، فخرج ولم يغتسل» . رواه الطيالسي. وإن سقط من دابته، أو تردى من شاهق، أو وجد ميتاً لا أثر به، غسل وصلي عليه؛ لأنه ليس بقتيل الكفار، والذي لا أثر به يحتمل أنه مات حتف أنفه، فلا يسقط الغسل الواجب بالشك.
ومن عاد عليه سلاحه فقتله فهو كقتيل الكفار؛ لأن عامر بن الأكوع عاد عليه سيفه فقتله فلم يفرد عن الشهداء بحكم.
وقال القاضي: يغسل ويصلى عليه؛ لأنه ليس بقتيل الكفار، ومن قتل من أهل العدل في المعترك فحكمه حكم قتيل المشركين.
وأما أهل البغي فقال الخرقي، يغسلون ويصلى عليهم؛ لأنهم ليس لهم حكم الشهداء.
وأما المقتول ظلماً كقتيل اللصوص، والمقتول دون ماله ففيه روايتان:
إحداهما: يغسل ويصلى عليه؛ لأن ابن الزبير غسل وصلي عليه؛ لأنه ليس بشهيد المعترك أشبه المبطون.
والثانية: لا يغسل؛ لأنه قتيل شهيد أشبه شهيد المعترك.
فصل:
ومن تعذر غسله لعدم الماء أو خيف تقطعه به، كالمجزوم والمحترق، يمم لأنها طهارة على البدن، فيدخلها التيمم عند العجز عن استعمال الماء كالجنابة، وإن تعذر غسل بعضه يمم، لما لم يصبه الماء، وإن أمكن صب الماء عليه، وخيف من عركه، صب عليه الماء صباً ولا يعرك.
ومن مات في بئر ذات نفس أخرج، فإن لم يمكن إلا بمثله، وكانت البئر يحتاج إليها أخرج أيضاً؛ لأن رعاية حقوق الأحياء أولى من حفظه عن المثلة، وإن لم يحتج إليها طمت عليه فكانت قبره.
فصل:
ويستحب لمن غسل ميتاً أن يغتسل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غسل ميتاً فليغتسل» رواه الطيالسي وأبو داود. ولا يجب ذلك لأن الميت طاهر، والخبر محمول على الاستحباب والصحيح فيه أنه موقوف على أبي هريرة، وكذلك قال أحمد: فإذا فرغ من غسله نشفه بثوبه، كيلا يبل أكفانه.
وهو فرض على الكفاية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الذي وقصته ناقة: «اغسلوه بماء وسدر» متفق عليه. وأولى الناس بغسله من أوصي إليه بذلك لأن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس فقدمت بذلك. وأوصى أنس أن يغسله محمد بن سيرين ففعل، ولأنه حق للميت فقدم وصيه فيه على غيره كتفريق ثلثه. فإن لم يكن له وصي فأولاهم بغسل الرجل أبوه، ثم جده، ثم ابنه وإن نزل، ثم الأقرب فالأقرب من عصباته، ثم الرجال من ذوي الأرحام، ثم الأجانب لأنهم أولى الناس بالصلاة عليه. وأولاهم بغسل المرأة أمها، ثم جدتها، ثم ابنتها ثم الأقرب فالأقرب، ثم الأجنبيات.
ويجوز للمرأة غسل زوجها بلا خلاف، لحديث أبي بكر. ولقول عائشة: لو استقبلنا ما أمرنا ما استدبرنا ما غسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا نساؤه. رواه أبو داود. وفي غسل الرجل امرأته روايتان:
أشهرهما: يباح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة: «لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك» رواه ابن ماجه. وغسل علي فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فلم ينكره منكر، فكان إجماعاً، ولأنها أحد الزوجين فأبيح للآخر غسله كالزوج.
والأخرى: لا يباح؛ لأنهما فرقة أباحت أختها وأربعاً سواها، فحرمت اللمس، والنظر كالطلاق. وأم الولد كالزوجة في هذا؛ لأنها محل استمتاعه، فإن طلق الرجل
زوجته فماتت في العدة، وكان الطلاق بائناً، فهي كالأجنبية محرمة عليه، وإن كانت رجعية، وقلنا: إن الرجعية مباحة له فله غسلها وإلا فلا.
فصل:
ولا يصح غسل الكافر لمسلم؛ لأن الغسل عبادة محضة فلا تصح من كافر كالصلاة، ولا يجوز للمسلم أن يغسل كافراً وإن كان قريبه، ولا يتولى دفنه، إلا أن يخاف ضياعه فيواريه. قال أبو حفص العكبري: يجوز ذلك، وحكاه قولاً لأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «قلت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن عمك الشيخ الضال قد مات. قال: اذهب فواره» رواه أبو داود والنسائي. ولنا أنه لا يصلي عليه فلم يكن له غسله كالأجنبي، والخبر يدل على مواراته وله ذلك: لأنه يتغير بتركه ويتضرر ببقائه. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في مسلم مات والده النصراني -: فليركب دابته وليسر أمام الجنازة، وإذا أراد أن يدفن رجع، مثل قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ولا يجوز لرجل غسل امرأة غير من ذكرنا، ولا لامرأة غسل رجل سوى زوجها وسيدها؛ لأن أحدهما محرم على صاحبه في الحياة، فلم يجز له غسله كحال الحياة. فإن مات رجل بين نساء، أو امرأة بين رجال، أو خنثى مشكل فإنه ييمم، في أصح الروايتين، لما روى واثلة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا ماتت المرأة مع الرجال ليس بينها وبينهم محرم تيمم كما ييمم الرجل» أخرجه تمام في " فوائده ".
وعنه: في الرجل تموت أخته فلم يجد نساء، يغسلها، وعليها ثياب ويصب عليها الماء صباً، والأول أولى؛ لأن الغسل من غير مس لا يحصل به التنظيف ولا إزالة النجاسة، بل ربما كثرت، فكان التيمم أولى كما لو وجد ماء لا يطهر النجاسة. ويجوز للمرأة غسل صبي لم يبلغ سبع سنين نص عليه؛ لأن عورته ليست عورة، وتوقف عن غسل الرجل الجارية، قال الخلال: القياس التسوية بين الغلام والجارية، لولا أن التابعين فرقوا بينهما، وسوى أبو الخطاب بينهما في الجواز، جرياً على موجب القياس.
فصل:
وينبغي أن يكون الغاسل أميناً، لما روي عن ابن عمر أنه قال: لا يغسل موتاكم إلا المأمونون. ولأن غير الأمين لا يؤمن أن لا يستوفي الغسل، ويذيع ما يرى من قبيح، وعليه ستر ما يرى من قبيح؛ لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من غسل ميتاً ثم لم يفش عليه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» رواه ابن ماجه بمعناه. وإن رأى أمارات الخير استحب إظهارها، ليترحم عليه، ويرغب في مثل طريقته. وإن كان مغموصاً عليه في
السنة والدين، مشهوراً بذلك، فلا بأس بإظهار الشر عنه، لتحذر طريقته، ويستحب ستر الميت عن العيون، ولا يحضره إلا من يعين في أمره؛ لأنه ربما كان فيه عيب يستره في حياته، وربما بدت عورته فشاهدها.
فصل:
ويجرد الميت عند تغسيله، ويستر ما بين سرته وركبتيه، وروى ذلك الأثرم عنه، واختاره الخرقي وأبو الخطاب؛ لأن ذلك أمكن في تغسيله، وأبلغ في تطهيره، وأشبه بغسل الحي، وأصون له عن أن يتنجس بالثوب إذا خلع عنه، ولأن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يفعلون ذلك. بدليل أنهم قالوا: لا ندري أنجرد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما نجرد موتانا؟ رواه أبو داود. والظاهر أن النبي أمرهم به وأقرهم عليه.
وروى المروذي، وعنه: أن الأفضل غسله في قميص رقيق ينزل الماء فيه، ويدخل الغاسل يده في كم القميص فيمرها على بدنه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غسل في قميصه. ولأنه أستر للميت. ويستحب أن يوضع على سرير غسله، متوجهاً، منحدراً نحو رجليه، لينصب ماء الغسل منه، ولا يستنقع تحته فيفسده، ويستحب أن يتخذ الغاسل ثلاثة آنية، إناء كبير فيه ماء، بعيداً عن الميت، وإناء وسطاً، وإناء يغترف به من الوسط، ويصب على الميت، فإن فسد الماء الذي في الوسط كان الآخر سليماً؟ ويكون بقربه مجمر فيه بخور لتخفى رائحة ما يخرج منه.
فصل:
والفرض فيه ثلاثة أشياء: النية. لأنها طهارة تعبدية، أشبهت غسل الجنابة. وتعميم البدن بالغسل؛ لأنه غسل فوجب فيه ذلك، كغسل الجنابة وتطهيره من النجاسة. وفي التسمية وجهان بناء على غسل الجنابة. ويسن فيه ثمانية أشياء:
أحدها: أن يبدأ فيحني الميت حنياً لا يبلغ به الجلوس، ويمر يده على بطنه فيعصره عصراً دقيقاً ليخرج ما في جوفه من فضلة لئلا يخرج بعد الغسل، أو بعد التكفين فيفسده، ويصب عليه الماء وقت العصر صباً كثيراً، ليذهب بما يخرج، فلا تظهر رائحته.
والثاني: أن يلف على يده خرقة فينجيه بها ولا يحل له مس عورته؛ لأن رؤيتها محرمة فلمسها أولى، ويستحب أن لا يمس سائر بدنه إلا بخرقة، وينبغي أن يتخذ الغاسل خرقتين خشنتين، ينجيه بإحداهما ثم يلقيها، ويلف الأخرى على يده فيمسح بها سائر البدن، لما روي أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبيده خرقة يمسح بها ما تحت القميص.
الثالث: أن يبدأ بعد إنجائه فيوضئه، لما روت أم عطية أنها قالت: «لما غسلنا ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها» متفق عليه. ولأن الحي يتوضأ إذا أراد الغسل فكذلك الميت، ولا يدخل فاه ولا أنفه ماء؛ لأنه لا يمكنه إخراجه، فربما دخل بطنه ثم خرج فأفسد وضوءه، لكن يلف على يده خرقة مبلولة، ويدخلها بين شفتيه فيمسح أسنانه وأنفه، ويتتبع ما تحت أظافره - إن لم يكن قلمها - بعود لين كالصفصاف، فيزيله ويغسله، كما يفعل الحي في وضوئه وغسله.
الرابع: أن يغسله بسدر مع الماء، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اغسلوه بماء وسدر» وقال للنساء اللاتي غسلن ابنته: «اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور» متفق عليه. وظاهر كلام أحمد أن السدر يجعل في جميع الغسلات لظاهر الخبر، وذكره الخرقي.
وقال القاضي وأبو الخطاب: يغسل الأولى بماء وسدر، ثم يغسل الثانية بماء لا سدر فيه، كيلا يسلب طهوريته، ولا يجعل فيه سدر صحيح. ولا فائدة في ترك يسير لا يؤثر فإن أعوز السدر جعل مكانه ما يقوم مقامه كالخطمي والصابون ونحوه مما ينقي.
الخامس: أن يضرب السدر، ثم يبدأ فيغسل برغوته رأسه ولحيته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبدأ بعد الوضوء بالصب على رأسه في الجنابة.
السادس: أن يبدأ بشقه الأيمن، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ابدأن بميامنها» فيغسل يده اليمنى، وصفحة عنقه، وشق صدره، وجنبه، وفخذه، وساقه، وقدمه، ثم يقلبه على جنبه الأيسر ويغسل شق ظهره الأيمن وما يليه، ثم يقلبه على جنبه الأيمن ويغسل شقه الأيسر كذلك.
السابع: أن يغسله وتراً للخبر، فيغسله ثلاثاً فإن لم ينق بثلاث زاد إلى خمس، أو إلى سبع لا يزيد عليها؛ لأنه آخر ما انتهى إليه أمر النبي، ويمر في كل مرة يده، ولا يوضئه إلا في المرة الأولى، إلا أن يخرج منه شيء فيعيد وضوءه؛ لأنه بمنزلة الحدث من المغتسل في الجنابة، ولو غسله ثلاثاً ثم خرج منه شيء غسله إلى خمس، فإن خرج بعد ذلك غسله إلى سبع، فإن خرج بعد ذلك لم يعد إلى الغسل، ويسد مخرج النجاسة بالقطن، فإن لم يستمسك فبالطين الحر، ويغسل موضع النجاسة، ويوضأ لأن أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغسل انتهى إلى سبع. واختار أبو الخطاب أنه لا يعاد إلى الغسل لخروج الحدث؛ لأن الجنب إذا أحدث بعد غسله لم يعده، ويوضأ وضوءه للصلاة.
الثامن: أن يجعل في الغسلة الأخيرة كافوراً ليشده ويبرده ويطيبه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بذلك ويستحب أن يضفر شعر المرأة ثلاثة قرون، ويسدل من ورائها، لما روت أم
عطية قالت: «ضفرنا شعرها ثلاثة قرون، وألقيناه من خلفها، تعني: ابنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . متفق عليه.
فصل:
وكره أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تسريح الميت؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: علام تنصون ميتكم؟ يعني: لا تسرحوا رأسه بالمشط. ولأنه يقطع شعره وينتفه. والماء البارد في الغسل أفضل من الحار؛ لأن البارد يشده، والحار يرخيه، إلا من حاجة إليه لوسخ يقلع به، أو شدة برد يتأذى به الغاسل ولا يستعمل الأشنان، إلا لحاجة إليه للاستعانة على إزالة الوسخ.
فصل:
ويستحب تقليم أظافر الميت، وقص شاربه؛ لأن ذلك سنة في حياته، ويترك ذلك معه في أكفانه؛ لأنه من أجزائه، وكل ما سقط من الميت جعل معه في أكفانه، ليجمع بين أجزائه، وفي أخذ عانته، وجهان:
أحدهما: يستحب إزالتها بنورة أو حلق؛ لأن سعد بن أبي وقاص جز عانة ميت، ولأنه من الفطرة، فأشبه تقليم الأظفار.
والثاني: لا يستحب؛ لأن فيه لمس العورة، وربما احتاج إلى نظرها، وذلك محرم فلا يفعل لأجل مندوب.
فصل:
والسقط إذا أتى عليه أربعة أشهر غسل وصلي عليه، لما روى المغيرة بن شعبة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والسقط يصلى عليه» رواه أبو داود، ولأنه ميت مسلم أشبه المستهل، ودليل أنه ميت: ما روى ابن مسعود عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه فيكون نطفة أربعين يوماً، ثم علقة مثل ذلك، ثم مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً فينفخ فيه الروح» متفق عليه. ومن كان فيه روح ثم خرجت فهو ميت، ويستحب تسميته، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سموا أسقاطكم فإنهم أسلافكم» . فإن لم يعلم أذكر هو أم أنثى سمي اسماً يصلح لهما كسعادة وسلامة، ومن له دون أربع أشهر لا يغسل، ولا يصلى عليه لعدم ما ذكرناه فيه.
فصل:
والشهيد إذا مات في المعركة لم يغسل رواية واحدة. وفي الصلاة عليه روايتان:
إحداهما: يصلى عليه، اختارها الخلال لما روى عقبة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يوماً فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف» . متفق عليه.
والثانية: لا يصلى عليه، وهي أصح، لما روى جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم، ولم يغسلوا، ولم يصل عليهم» . رواه البخاري. وحديث عقبة مخصوص بشهداء أحد، بدليل أنه صلى عليهم بعد ثمان سنين، والخيرة في تكفين الشهداء إلى الولي، إن أحب زمله في ثيابه ونزع ما عليه من جلد أو سلاح. لما روى ابن عباس «أن رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد، وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم» . رواه أبو داود. وإن أحب نزع ثيابه وكفنه بغيرها؛ «لأن صفية أرسلت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثوبين ليكفن حمزة فيهما، فكفنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أحدهما، وكفن في الآخر رجلاً آخر» . قال يعقوب بن شيبة: هو صالح الإسناد، وإن حمل وبه رمق، أو أكل أو طالت حياته، غسل وصلي عليه؛ لأن سعد بن معاذ غسله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى عليه وكان شهيداً، وإن قتل وهو جنب غسل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم أحد: «ما بال حنظلة بن الراهب؟ إني رأيت الملائكة تغسله قالوا: إنه سمع الهائعة، فخرج ولم يغتسل» . رواه الطيالسي. وإن سقط من دابته، أو تردى من شاهق، أو وجد ميتاً لا أثر به، غسل وصلي عليه؛ لأنه ليس بقتيل الكفار، والذي لا أثر به يحتمل أنه مات حتف أنفه، فلا يسقط الغسل الواجب بالشك.
ومن عاد عليه سلاحه فقتله فهو كقتيل الكفار؛ لأن عامر بن الأكوع عاد عليه سيفه فقتله فلم يفرد عن الشهداء بحكم.
وقال القاضي: يغسل ويصلى عليه؛ لأنه ليس بقتيل الكفار، ومن قتل من أهل العدل في المعترك فحكمه حكم قتيل المشركين.
وأما أهل البغي فقال الخرقي، يغسلون ويصلى عليهم؛ لأنهم ليس لهم حكم الشهداء.
وأما المقتول ظلماً كقتيل اللصوص، والمقتول دون ماله ففيه روايتان:
إحداهما: يغسل ويصلى عليه؛ لأن ابن الزبير غسل وصلي عليه؛ لأنه ليس بشهيد المعترك أشبه المبطون.
والثانية: لا يغسل؛ لأنه قتيل شهيد أشبه شهيد المعترك.
فصل:
ومن تعذر غسله لعدم الماء أو خيف تقطعه به، كالمجزوم والمحترق، يمم لأنها طهارة على البدن، فيدخلها التيمم عند العجز عن استعمال الماء كالجنابة، وإن تعذر غسل بعضه يمم، لما لم يصبه الماء، وإن أمكن صب الماء عليه، وخيف من عركه، صب عليه الماء صباً ولا يعرك.
ومن مات في بئر ذات نفس أخرج، فإن لم يمكن إلا بمثله، وكانت البئر يحتاج إليها أخرج أيضاً؛ لأن رعاية حقوق الأحياء أولى من حفظه عن المثلة، وإن لم يحتج إليها طمت عليه فكانت قبره.
فصل:
ويستحب لمن غسل ميتاً أن يغتسل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غسل ميتاً فليغتسل» رواه الطيالسي وأبو داود. ولا يجب ذلك لأن الميت طاهر، والخبر محمول على الاستحباب والصحيح فيه أنه موقوف على أبي هريرة، وكذلك قال أحمد: فإذا فرغ من غسله نشفه بثوبه، كيلا يبل أكفانه.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب الكفن]
[باب الكفن]
يجب كفن الميت في ماله، مقدماً على الدين والوصية. والإرث، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الذي وقصته ناقته: «كفنوه في ثوبيه» متفق عليه. ولأن كسوة المفلس الحي تقدم على دينه، فكذلك كفنه فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه كسوته في حياته، فإن لم يكن ففي بيت المال، وليس على الرجل كفن زوجته؛ لأنها صارت أجنبية لا يحل الاستمتاع منها، فلم يجب عليه كسوتها.
فصل:
وأقل ما يجزئ في الكفن ثوب يستر جميعه.
وقال القاضي: لا يجزئ أقل من ثلاثة؛ لأنه لو أجزأ واحد لم يجز أكثر منه؛ لأنه يكون إسرافاً ولا يصح؛ لأن العورة المغلظة يسترها ثوب واحد، فالميت أولى، وما ذكره لا يلزم، فإنه يجوز التكفين بالحسن وإن أجزأ دونه. ويستحب تحسين الكفن لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه» رواه مسلم. ويكون جديداً أو غسيلاً إلا أن يوصي الميت بتكفينه في خلق فتمتثل وصيته؛ لأن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
قال: كفنوني في ثوبي هذين، فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت، والأفضل تكفينه في ثلاث لفائف بيض، لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كفن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسيلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة» . متفق عليه. ولأن حالة الإحرام أكمل أحوال الحي، وهو لا يلبس المخيط فيها، فكذلك حال موته.
والمستحب أن يؤخذ أحسن اللفائف وأوسعها، فيبسط على بساط ليكون الظاهر للناس أحسنها؛ لأن هذه عادة الحي، ثم تبسط الثانية فوقها، ثم الثالثة فوقهما، ويذر الحنوط والكافور فيما بينهن، ثم يحمل الميت فيوضع عليهن مستلقياً، ليكون أمكن لإدراجه فيها، ويجعل ما عند رأسه أكثر مما عند رجليه، ويجعل بقية الحنوط والكافور في قطن، ويجعل من بين أليتيه برفق، ويكثر ذلك ليرد شيئاً إن خرج حين تحريكه، ويشد فوقه خرقة مشقوقة الطرف، كالتبان تأخذ أليتيه ومثانته، ويجعل الباقي على منافذ وجهه ومواضع سجوده، ويجعل الطيب والذريرة في مغابنه ومواضع سجوده، تشريفاً لهذه الأعضاء التي خصت بالسجود، ويطيب رأسه ولحيته؛ لأن الحي يتطيب هكذا. وإن طيب جميع بدنه كان حسناً، ولا يترك على أعلى اللفافة العليا ولا النعش شيء من الحنوط؛ لأن الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا تجعلوا على أكفاني حنوطاً. ثم يثني طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن، ثم يرد طرفها الآخر على شقه الأيسر فوق الطرف الآخر ليمسكه إذا أقامه على شقه الأيمن، ثم يفعل بالثانية والثالثة كذلك، ثم يجمع ذلك جمع طرف العمامة فيرده على وجهه ورجليه، إلا أن يخاف انتشارها فيعقدها، وإذا وضع في القبر حلها. ولا يخرق الكفن؛ لأن تخريقه يفسده. ولا يجب الطيب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر به، ولأنه لا يجب على الحي، فكذلك على الميت. ولا يزاد الكفن على ثلاثة أثواب لأنه إسراف لم يرد الشرع به.
فصل:
وإن كفن في قميص ومئزر ولفافة جاز؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألبس عبد الله بن أبي قميصه كفنه فيه» متفق على معناه. ويجعل المئزر مما يلي جلده، ولا يزر عليه القميص، فإن تشاح الورثة في الكفن، جعل ثلاث لفائف على حسب ما كان يلبس في حياته، وإن قال أحدهم: يكفن من ماله، وقال الآخر: من مال السبيل، كفن من ماله لئلا يتعير بذلك. ويستحب تجمير الكفن ثلاثاً؛ لأن جابراً روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا جمرتم الميت فجمروه ثلاثاً» .
فصل:
وتكفن المرأة في خمسة أثواب، مئزر تؤزر به، وقميص تلبسه بعده، ثم تخمر
بمقنعة، ثم تلف بلفافتين، لما روى أبو داود عن ليلى بنت قانف الثقفية قالت: «كنت فيمن غسل أم كلثوم ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند وفاتها، فكان أول ما أعطانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحقي، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر» . ولأن المرأة تزيد في حياتها على الرجل في الستر لزيادة عورتها على عورته، فكذلك في موتها، وتلبس المخيط في إحرامها فتلبسه في مماتها.
فصل:
فإن لم يجد إلا ثوباً لا يستر جميعه، غطي رأسه، وترك على رجليه حشيش، لما روى خباب «أن مصعب بن عمير، قتل يوم أحد ولم يكن له إلا نمرة، إذا غطي رأسه، بدت رجلاه، وإذا غطي رجلاه بدا رأسه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجليه الإذخر» متفق عليه. فإن كان أضيق من ذلك ستر به عورته، وغطي سائره بحشيش أو ورق، فإن كثر الموتى وقلت الأكفان كفن الاثنان والثلاثة في الكفن الواحد، لما روى أنس قال: «كثرت القتلى وقلت الأكفان يوم أحد، فكفن الرجل والرجلان والثلاثة في الثوب الواحد، ثم يدفنوا في قبر واحد» . وهو حديث حسن.
فصل:
فإن خرج منه شيء يسير وهو في أكفانه، لم يعد إلى الغسل وحمل؛ لأن في إعادته مشقة، ولا يؤمن مثله ثانياً وثالثاً. وإن ظهر منه كثير فالظاهر عنه أنه يحمل أيضاً لمشقة إعادته.
وعنه: أنه يعاد غسله، ويطهر كفنه؛ لأنه يؤمن مثله في الثاني للتحفظ بالتلجم والشد.
فصل:
وإذا مات المحرم، لم يقرب طيباً، ولا يخمر رأسه؛ لأن حكم إحرامه باق فيجنب ما يتجنبه المحرمون، لما روى ابن عباس قال: «بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فمات فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً» متفق عليه.
وعنه: لا يغطى وجهه ولا رجلاه، والظاهر عنه، جواز تغطيتهما؛ لأنه لم يذكرهما في حديث ابن عباس، ولأن الحي لا يمنع من تغطيتهما، فالميت أولى، ولا يلبس قميصاً إن كان رجلاً؛ لأنه ممنوع من لبس المخيط، وإن كان امرأة جاز ذلك؛ لأنها لا
تمنع من لبس المخيط، وجاز تخمير رأسها لأنها لا تمنع ذلك في حياتها. وإن ماتت معتدة بطل حكم عدتها، وفعل بها ما يفعل بغيرها؛ لأن اجتناب الطيب في الحياة إنما كان لئلا يدعو إلى نكاحها، وقد أمن ذلك بموتها
يجب كفن الميت في ماله، مقدماً على الدين والوصية. والإرث، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الذي وقصته ناقته: «كفنوه في ثوبيه» متفق عليه. ولأن كسوة المفلس الحي تقدم على دينه، فكذلك كفنه فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه كسوته في حياته، فإن لم يكن ففي بيت المال، وليس على الرجل كفن زوجته؛ لأنها صارت أجنبية لا يحل الاستمتاع منها، فلم يجب عليه كسوتها.
فصل:
وأقل ما يجزئ في الكفن ثوب يستر جميعه.
وقال القاضي: لا يجزئ أقل من ثلاثة؛ لأنه لو أجزأ واحد لم يجز أكثر منه؛ لأنه يكون إسرافاً ولا يصح؛ لأن العورة المغلظة يسترها ثوب واحد، فالميت أولى، وما ذكره لا يلزم، فإنه يجوز التكفين بالحسن وإن أجزأ دونه. ويستحب تحسين الكفن لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه» رواه مسلم. ويكون جديداً أو غسيلاً إلا أن يوصي الميت بتكفينه في خلق فتمتثل وصيته؛ لأن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
قال: كفنوني في ثوبي هذين، فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت، والأفضل تكفينه في ثلاث لفائف بيض، لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كفن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسيلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة» . متفق عليه. ولأن حالة الإحرام أكمل أحوال الحي، وهو لا يلبس المخيط فيها، فكذلك حال موته.
والمستحب أن يؤخذ أحسن اللفائف وأوسعها، فيبسط على بساط ليكون الظاهر للناس أحسنها؛ لأن هذه عادة الحي، ثم تبسط الثانية فوقها، ثم الثالثة فوقهما، ويذر الحنوط والكافور فيما بينهن، ثم يحمل الميت فيوضع عليهن مستلقياً، ليكون أمكن لإدراجه فيها، ويجعل ما عند رأسه أكثر مما عند رجليه، ويجعل بقية الحنوط والكافور في قطن، ويجعل من بين أليتيه برفق، ويكثر ذلك ليرد شيئاً إن خرج حين تحريكه، ويشد فوقه خرقة مشقوقة الطرف، كالتبان تأخذ أليتيه ومثانته، ويجعل الباقي على منافذ وجهه ومواضع سجوده، ويجعل الطيب والذريرة في مغابنه ومواضع سجوده، تشريفاً لهذه الأعضاء التي خصت بالسجود، ويطيب رأسه ولحيته؛ لأن الحي يتطيب هكذا. وإن طيب جميع بدنه كان حسناً، ولا يترك على أعلى اللفافة العليا ولا النعش شيء من الحنوط؛ لأن الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا تجعلوا على أكفاني حنوطاً. ثم يثني طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن، ثم يرد طرفها الآخر على شقه الأيسر فوق الطرف الآخر ليمسكه إذا أقامه على شقه الأيمن، ثم يفعل بالثانية والثالثة كذلك، ثم يجمع ذلك جمع طرف العمامة فيرده على وجهه ورجليه، إلا أن يخاف انتشارها فيعقدها، وإذا وضع في القبر حلها. ولا يخرق الكفن؛ لأن تخريقه يفسده. ولا يجب الطيب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر به، ولأنه لا يجب على الحي، فكذلك على الميت. ولا يزاد الكفن على ثلاثة أثواب لأنه إسراف لم يرد الشرع به.
فصل:
وإن كفن في قميص ومئزر ولفافة جاز؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألبس عبد الله بن أبي قميصه كفنه فيه» متفق على معناه. ويجعل المئزر مما يلي جلده، ولا يزر عليه القميص، فإن تشاح الورثة في الكفن، جعل ثلاث لفائف على حسب ما كان يلبس في حياته، وإن قال أحدهم: يكفن من ماله، وقال الآخر: من مال السبيل، كفن من ماله لئلا يتعير بذلك. ويستحب تجمير الكفن ثلاثاً؛ لأن جابراً روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا جمرتم الميت فجمروه ثلاثاً» .
فصل:
وتكفن المرأة في خمسة أثواب، مئزر تؤزر به، وقميص تلبسه بعده، ثم تخمر
بمقنعة، ثم تلف بلفافتين، لما روى أبو داود عن ليلى بنت قانف الثقفية قالت: «كنت فيمن غسل أم كلثوم ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند وفاتها، فكان أول ما أعطانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحقي، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر» . ولأن المرأة تزيد في حياتها على الرجل في الستر لزيادة عورتها على عورته، فكذلك في موتها، وتلبس المخيط في إحرامها فتلبسه في مماتها.
فصل:
فإن لم يجد إلا ثوباً لا يستر جميعه، غطي رأسه، وترك على رجليه حشيش، لما روى خباب «أن مصعب بن عمير، قتل يوم أحد ولم يكن له إلا نمرة، إذا غطي رأسه، بدت رجلاه، وإذا غطي رجلاه بدا رأسه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجليه الإذخر» متفق عليه. فإن كان أضيق من ذلك ستر به عورته، وغطي سائره بحشيش أو ورق، فإن كثر الموتى وقلت الأكفان كفن الاثنان والثلاثة في الكفن الواحد، لما روى أنس قال: «كثرت القتلى وقلت الأكفان يوم أحد، فكفن الرجل والرجلان والثلاثة في الثوب الواحد، ثم يدفنوا في قبر واحد» . وهو حديث حسن.
فصل:
فإن خرج منه شيء يسير وهو في أكفانه، لم يعد إلى الغسل وحمل؛ لأن في إعادته مشقة، ولا يؤمن مثله ثانياً وثالثاً. وإن ظهر منه كثير فالظاهر عنه أنه يحمل أيضاً لمشقة إعادته.
وعنه: أنه يعاد غسله، ويطهر كفنه؛ لأنه يؤمن مثله في الثاني للتحفظ بالتلجم والشد.
فصل:
وإذا مات المحرم، لم يقرب طيباً، ولا يخمر رأسه؛ لأن حكم إحرامه باق فيجنب ما يتجنبه المحرمون، لما روى ابن عباس قال: «بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فمات فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً» متفق عليه.
وعنه: لا يغطى وجهه ولا رجلاه، والظاهر عنه، جواز تغطيتهما؛ لأنه لم يذكرهما في حديث ابن عباس، ولأن الحي لا يمنع من تغطيتهما، فالميت أولى، ولا يلبس قميصاً إن كان رجلاً؛ لأنه ممنوع من لبس المخيط، وإن كان امرأة جاز ذلك؛ لأنها لا
تمنع من لبس المخيط، وجاز تخمير رأسها لأنها لا تمنع ذلك في حياتها. وإن ماتت معتدة بطل حكم عدتها، وفعل بها ما يفعل بغيرها؛ لأن اجتناب الطيب في الحياة إنما كان لئلا يدعو إلى نكاحها، وقد أمن ذلك بموتها
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب الصلاة على الميت]
[باب الصلاة على الميت]
وهي فرض على الكفاية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلوا على من قال لا إله إلا الله» ويكفي واحد لأنها صلاة ليس من شرطها الجماعة، فلم يشترط لها العدد كالظهر، ويجوز في المسجد لأن عائشة قالت: «ما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد» . رواه مسلم. وصلي على أبي بكر وعمر في المسجد. وتجوز في المقبرة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قبر في المقبرة، ويجوز فعلها فرادى؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عليه فرادى، والسنة فعلها في جماعة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصليها بأصحابه، ويستحب أن يصف ثلاثة صفوف لما روى مالك بن هبيرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما من مسلم يموت فيصلى عليه ثلاث صفوف من المسلمين إلا أوجب» وهذا حديث حسن. وإن اجتمع نساء فصلين عليه جماعة، أو فرادى فلا بأس؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - صلت على سعد بن أبي وقاص.
فصل:
وأولى الناس بالصلاة عليه من أوصى إليه بذلك، لإجماع الصحابة على الوصية بها فإن أبا بكر أوصى أن يصلي عليه عمر، وعمر أوصى أن يصلي عليه صهيب، وابن مسعود أوصى بذلك الزبير، وأبو بكرة أوصى به أبا برزة، وأم سلمة أوصت به سعيد بن زيد، وعائشة أوصت إلى أبي هريرة، وأوصى أبو سريحة إلى زيد بن أرقم، فجاء عمرو بن حريث وهو أمير الكوفة ليتقدم، فقال ابنه: أيها الأمير إن أبي أوصى أن يصلي عليه زيد بن أرقم فقدم زيداً. ولأنها حق للميت، فقدم وصيه بها كتفريق ثلثه. ثم الأمير، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه»
وقال أبو حازم: شهدت حسيناً - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين مات الحسن وهو يدفع في قفا
سعيد بن العاص ويقول: تقدم، لولا السنة ما قدمتك. وسعيد أمير المدينة؛ لأنها إمامة في صلاة فأشبه سائر الصلوات. ثم الأب وإن علا ثم الابن وإن سفل، ثم أقرب العصبة، ثم الرجال من ذوي أرحامه، ثم الأجانب. وفي تقديم الزوج على العصبة روايتان:
أشهرهما: تقديم العصبة؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لقرابة امرأته: أنتم أحق بها، ولأن النكاح يزول بالموت والقرابة باقية.
والثانية: الزوج أحق بها؛ لأن أبا بكرة صلى على امرأته دون إخوتها، ولأنه أحق منهم بغسلها فإن استووا فأولاهم أولاهم بالإمامة في المكتوبات، للخبر فيه، والحر أولى من العبد القريب، لعدم ولايته، فإن استووا وتشاحوا أقرع بينهم.
فصل:
ومن شرطها الطهارة والاستقبال والنية؛ لأنها من الصلوات فأشبهت سائرهن، والسنة أن يقوم الإمام حذاء رأس الرجل ووسط المرأة، لما روي «أن أنساً صلى على رجل، فقام عند رأسه، ثم صلى على امرأة فقام حيال وسط السرير، فقال له العلاء بن زياد: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام على المرأة مقامك منها، ومن الرجل مقامك منه؟ قال: نعم» . وهذا حديث حسن.
ويجوز أن يصلي على جماعة دفعة واحدة، ويقدم إلى الإمام أفضلهم، ويسوى بين رؤوسهم، فإن اجتمع رجال وصبيان وخناثى ونساء. قدم الرجال وإن كانوا عبيداً، ثم الصبيان ثم الخناثى ثم النساء، لما روى عمار مولى الحارث بن نوفل قال: «شهدت جنازة صبي وامرأة فقدم الصبي مما يلي القوم، ووضعت المرأة وراءه فصلي عليهما، وفي القوم أبو سعيد الخدري وابن عباس وأبو قتادة وأبو هريرة، فسألتهم، فقالوا: السنة.» رواه أبو داود. ولأنهم هكذا يصفون في صلاتهم، وقال الخرقي: يقدم النساء على الصبيان لحاجتهن إلى الشفاعة، ويسوى بين رؤوسهم؛ لأن ابن عمر كان يسوي بين رؤوسهم، وعن أحمد ما يدل أنه يجعل صدر الرجل حذاء وسط المرأة، واختاره أبو الخطاب ليقف كل واحد منهما موقفه.
فصل:
وأركان صلاة الجنازة ستة:
أحدها: القيام: لأنها صلاة مكتوبة فوجب القيام فيها كالظهر.
الثاني: أربع تكبيرات؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر على النجاشي أربعاً» . متفق عليه.
الثالث: أن يقرأ في التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن» «وصلى ابن عباس على جنازة فقرأ بأم القرآن، وقال: إنه من السنة، أو من تمام السنة» ، حديث صحيح، رواه البخاري. ولأنها صلاة يجب فيها القيام فوجبت فيها القراءة كالظهر.
والرابع: أن يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الثانية، لما روى أبو أمامة بن سهل عن رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن «السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى، ويقرأ في نفسه، ثم يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويخلص الدعاء للجنازة ولا يقرأ في شيء منهن، ثم يسلم سراً في نفسه» . رواه الشافعي في " مسنده ". وليس في الصلاة عليه شيء مؤقت، وإن صلى كما يصلى عليه في التشهد فحسن.
الخامس: أن يدعو للميت في الثالثة لذلك، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء» رواه أبو داود. ولأنه المقصود فلا يجوز الإخلال به، وما دعا به أجزأه.
السادس: التسليم لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحليلها التسليم» .
فصل:
وسننها سبع:
أولها: رفع اليدين مع كل تكبيرة؛ لأن عمر كان يرفع يديه في تكبير الجنازة والعيد، ولأنها تكبيرة لا يتصل طرفها بسجود ولا قعود، فسن فيها الرفع كتكبيرة الإحرام.
والثاني: الاستعاذة قبل القراءة، لقول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] . الثالث: الإسرار بالقراءة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسر بها.
الرابع: أن يدعو لنفسه ولوالديه وللمسلمين بدعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهو ما روى أبو إبراهيم الأشهلي عن أبيه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى على الجنازة قال: اللهم
اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا» حديث صحيح.
وعن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه. وزاد: «اللهم من أحييته منا فأحييه على الإسلام ومن توفيته فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده» وفي آخر: «اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضتها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئناك شفعاء فاغفر له» رواه أبو داود. وعن عوف بن مالك قال: «صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على جنازة فحفظت من دعائه: الله اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت» . رواه مسلم. وإن كان طفلاً جعل مكان الاستغفار له: «اللهم اجعله لوالديه ذخراً وفرطاً وسلفاً وأجراً، اللهم ثقل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم، وقه برحمتك عذاب الجحيم» وإن لم يعلم شراً من العبد قال: «اللهم لا نعلم إلا خيراً»
الخامس: أن يقف بعد الرابعة قليلاً، وهل يسن فيها ذكر على روايتين.
السادس: أن يضع يمينه على شماله، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على جنازة فوضع يمينه على شماله» .
السابع: الالتفات على يمينه في التسليمة.
فصل:
ولا يسن الاستفتاح؛ لأن مبناها على التخفيف، ولا قراءة شيء بعد الفاتحة لذلك.
وعنه: يسن الاستفتاح ولا يسن تسليمه ثانية؛ لأن عطاء بن السائب روى «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلم على الجنازة تسليمة واحدة» . رواه الجوزجاني ولأنه إجماع. قال أحمد: التسليم على الجنازة تسليمة واحدة عن ستة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليس فيه اختلاف إلا عن إبراهيم. ولا تسن الزيادة على أربع تكبيرات؛ لأنها المشهورة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وجمع عمر الناس على أربع تكبيرات، وقال: هو أطول الصلاة. فإن كبر خمساً جاز وتبعه المأموم؛ لأن «زيد بن أرقم كبر على جنازة خمساً وقال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكبرها» . رواه مسلم.
وعنه لا يتابع فيها، اختاره ابن عقيل لأنها زيادة غير مسنونة. وإن كبر ستاً أو سبعاً ففيه روايتان:
إحداهما: يجوز ويتابعه المأموم فيها؛ لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كبر سبعاً وكبر على أبو قتادة سبعاً.
والثانية: لا يجوز، ولا يتبعه المأموم فيها؛ لأن المشهور عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه خلافها، لكن لا يسلم قبله وينتظره حتى يسلم معه؛ لأنها زيادة قول مختلف فيه؛ لأنه لا يجز له مفارقة إمامه إذا اشتغل به، كالقنوت في الصبح، وإن زاد على سبع لم يتابعه، ولم يسلم قبله قال أحمد: وينبغي أن يسبح به.
فصل:
وإن كبر على جنازة فجيء بأخرى كبر الثانية عليهما، ثم إن جيء بثالثة كبر الثالثة عليهن، ثم إن جيء برابعة كبر الرابعة عليهن، ثم يتمم سبع تكبيرات ليحصل للرابعة أربع تكبيرات، فإن جيء بأخرى لم يكبر عليها لئلا يفضي إلى زيادة التكبير على سبع، أو نقصان الخامسة من أربع، وكلاهما غير جائز. وإن أراد أهل الأولى رفعها قبل سلام الإمام لم يجز؛ لأن السلام ركن لم يأت به. ويقرأ في التكبيرة الرابعة الفاتحة. وفي الخامسة يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويدعو لهم في السادسة لتكمل الأركان لجميع الجنائز.
فصل:
ومن سبق ببعض الصلاة فأدرك الإمام بين تكبيرتين دخل معه، كما يدخل في سائر الصلوات.
وعنه: أنه ينتظر تكبير الإمام فيكبر معه؛ لأن كل تكبيرة كركعة فلا يشتغل بقضائها فإذا سلم الإمام قضى ما فاته، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما فاتكم فاقضوا» . قال الخرقي: يقضيه متتابعاً. فإن سلم ولم يقضه فلا بأس؛ لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا يقضي، ولأنها تكبيرات متوالية حال القيام فلم يجب قضاء ما فات منها، كتكبيرات العيد.
وقال القاضي وأبو الخطاب: يقضيه على صفته، إلا أن ترفع الجنازة فيقضيه متوالياً لعدم من يدعى له، فإن سلم ولم يقضه فحكى أبو الخطاب عنه رواية أنها لا تصح قياساً على سائر الصلوات.
فصل:
وإذا صلي عليه بودر إلى دفنه ولم ينتظر حضور أحد إلا الولي، فإنه ينتظر ما لم
يخش عليه التغيير فإن حضر من لم يصل عليه صلى عليه جماعة وفرادى. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ولا بأس بذلك، قد فعله عدة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن صلى مرة لم يستحب له إعادتها؛ لأنها نافلة، وصلاة الجنازة لا يتنفل بها، ومن فاتته الصلاة عليه حتى دفن صلى على قبره، لما روى ابن عباس «أنه مر مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على قبر منبوذ فأمهم وصلوا خلفه» . متفق عليه. ولا يصلى على القبر بعد شهر إلا بقليل؛ لأن أكثر ما نقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه صلى على أم سعد بن عبادة بعدما دفنت بشهر» . رواه الترمذي. ولأنه لا يعلم بقاؤه أكثر من شهر فتقيد به.
فصل:
وتجوز الصلاة على الغائب.
وعنه: لا تجوز؛ لأن حضوره شرط، بدليل ما لو كانا في بلد واحد، والأول المذهب، لما روى أبو هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعى النجاشي اليوم الذي مات فيه، فصف بهم في المصلى وكبر بهم أربعاً» . متفق عليه. فإن كان الميت من أحد جانبي البلد لم يصل عليه في الجانب الآخر؛ لأنه يمكن حضوره، فأشبه ما لو كانا من جانب واحد، وقال ابن حامد: يجوز قياساً على البعيد، وتتوقت الصلاة على الغائب بشهر؛ لأنه لا يعلم بقاؤه أكثر منه، أشبه من في القبر.
فصل:
ويصلى على كل مسلم لما تقدم، إلا شهيد المعترك، وإن لم يوجد إلا بعض الميت غسل وصلي عليه.
وعنه: لا يصلى عليه كما لا يصلى على يد الحي إذا قطعت، والمذهب الأول؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى على عظام بالشام، وصلى أبو عبيدة على رؤوس. ولا يصلي الإمام على الغال ولا قاتل نفسه، لما روى جابر بن سمرة قال: «أتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه» . رواه مسلم. وعن زيد بن خالد قال: «توفي رجل من جهينة يوم خيبر، فذكر لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: صلوا على صاحبكم، إن صاحبكم غل من الغنيمة» احتج به أحمد. ويصلى على سائر الناس، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا على صاحبكم» .
قال الخلال: الإمام ههنا أمير المؤمنين وحده، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن إمام كل قرية واليهم. وأنكر هذا الخلال وخطأ ناقله.
فصل:
ولا تجوز الصلاة على كافر، لقول الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] ، وقال الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113] . ومن حكمنا بكفره من أهل البدع لم يصل عليه، قال أحمد: لا أشهد الجهمي ولا الرافضي، ويشهدهما من أحب.
وهي فرض على الكفاية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلوا على من قال لا إله إلا الله» ويكفي واحد لأنها صلاة ليس من شرطها الجماعة، فلم يشترط لها العدد كالظهر، ويجوز في المسجد لأن عائشة قالت: «ما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد» . رواه مسلم. وصلي على أبي بكر وعمر في المسجد. وتجوز في المقبرة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قبر في المقبرة، ويجوز فعلها فرادى؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عليه فرادى، والسنة فعلها في جماعة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصليها بأصحابه، ويستحب أن يصف ثلاثة صفوف لما روى مالك بن هبيرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما من مسلم يموت فيصلى عليه ثلاث صفوف من المسلمين إلا أوجب» وهذا حديث حسن. وإن اجتمع نساء فصلين عليه جماعة، أو فرادى فلا بأس؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - صلت على سعد بن أبي وقاص.
فصل:
وأولى الناس بالصلاة عليه من أوصى إليه بذلك، لإجماع الصحابة على الوصية بها فإن أبا بكر أوصى أن يصلي عليه عمر، وعمر أوصى أن يصلي عليه صهيب، وابن مسعود أوصى بذلك الزبير، وأبو بكرة أوصى به أبا برزة، وأم سلمة أوصت به سعيد بن زيد، وعائشة أوصت إلى أبي هريرة، وأوصى أبو سريحة إلى زيد بن أرقم، فجاء عمرو بن حريث وهو أمير الكوفة ليتقدم، فقال ابنه: أيها الأمير إن أبي أوصى أن يصلي عليه زيد بن أرقم فقدم زيداً. ولأنها حق للميت، فقدم وصيه بها كتفريق ثلثه. ثم الأمير، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه»
وقال أبو حازم: شهدت حسيناً - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين مات الحسن وهو يدفع في قفا
سعيد بن العاص ويقول: تقدم، لولا السنة ما قدمتك. وسعيد أمير المدينة؛ لأنها إمامة في صلاة فأشبه سائر الصلوات. ثم الأب وإن علا ثم الابن وإن سفل، ثم أقرب العصبة، ثم الرجال من ذوي أرحامه، ثم الأجانب. وفي تقديم الزوج على العصبة روايتان:
أشهرهما: تقديم العصبة؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لقرابة امرأته: أنتم أحق بها، ولأن النكاح يزول بالموت والقرابة باقية.
والثانية: الزوج أحق بها؛ لأن أبا بكرة صلى على امرأته دون إخوتها، ولأنه أحق منهم بغسلها فإن استووا فأولاهم أولاهم بالإمامة في المكتوبات، للخبر فيه، والحر أولى من العبد القريب، لعدم ولايته، فإن استووا وتشاحوا أقرع بينهم.
فصل:
ومن شرطها الطهارة والاستقبال والنية؛ لأنها من الصلوات فأشبهت سائرهن، والسنة أن يقوم الإمام حذاء رأس الرجل ووسط المرأة، لما روي «أن أنساً صلى على رجل، فقام عند رأسه، ثم صلى على امرأة فقام حيال وسط السرير، فقال له العلاء بن زياد: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام على المرأة مقامك منها، ومن الرجل مقامك منه؟ قال: نعم» . وهذا حديث حسن.
ويجوز أن يصلي على جماعة دفعة واحدة، ويقدم إلى الإمام أفضلهم، ويسوى بين رؤوسهم، فإن اجتمع رجال وصبيان وخناثى ونساء. قدم الرجال وإن كانوا عبيداً، ثم الصبيان ثم الخناثى ثم النساء، لما روى عمار مولى الحارث بن نوفل قال: «شهدت جنازة صبي وامرأة فقدم الصبي مما يلي القوم، ووضعت المرأة وراءه فصلي عليهما، وفي القوم أبو سعيد الخدري وابن عباس وأبو قتادة وأبو هريرة، فسألتهم، فقالوا: السنة.» رواه أبو داود. ولأنهم هكذا يصفون في صلاتهم، وقال الخرقي: يقدم النساء على الصبيان لحاجتهن إلى الشفاعة، ويسوى بين رؤوسهم؛ لأن ابن عمر كان يسوي بين رؤوسهم، وعن أحمد ما يدل أنه يجعل صدر الرجل حذاء وسط المرأة، واختاره أبو الخطاب ليقف كل واحد منهما موقفه.
فصل:
وأركان صلاة الجنازة ستة:
أحدها: القيام: لأنها صلاة مكتوبة فوجب القيام فيها كالظهر.
الثاني: أربع تكبيرات؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر على النجاشي أربعاً» . متفق عليه.
الثالث: أن يقرأ في التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن» «وصلى ابن عباس على جنازة فقرأ بأم القرآن، وقال: إنه من السنة، أو من تمام السنة» ، حديث صحيح، رواه البخاري. ولأنها صلاة يجب فيها القيام فوجبت فيها القراءة كالظهر.
والرابع: أن يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الثانية، لما روى أبو أمامة بن سهل عن رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن «السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى، ويقرأ في نفسه، ثم يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويخلص الدعاء للجنازة ولا يقرأ في شيء منهن، ثم يسلم سراً في نفسه» . رواه الشافعي في " مسنده ". وليس في الصلاة عليه شيء مؤقت، وإن صلى كما يصلى عليه في التشهد فحسن.
الخامس: أن يدعو للميت في الثالثة لذلك، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء» رواه أبو داود. ولأنه المقصود فلا يجوز الإخلال به، وما دعا به أجزأه.
السادس: التسليم لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحليلها التسليم» .
فصل:
وسننها سبع:
أولها: رفع اليدين مع كل تكبيرة؛ لأن عمر كان يرفع يديه في تكبير الجنازة والعيد، ولأنها تكبيرة لا يتصل طرفها بسجود ولا قعود، فسن فيها الرفع كتكبيرة الإحرام.
والثاني: الاستعاذة قبل القراءة، لقول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] . الثالث: الإسرار بالقراءة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسر بها.
الرابع: أن يدعو لنفسه ولوالديه وللمسلمين بدعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهو ما روى أبو إبراهيم الأشهلي عن أبيه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى على الجنازة قال: اللهم
اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا» حديث صحيح.
وعن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه. وزاد: «اللهم من أحييته منا فأحييه على الإسلام ومن توفيته فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده» وفي آخر: «اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضتها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئناك شفعاء فاغفر له» رواه أبو داود. وعن عوف بن مالك قال: «صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على جنازة فحفظت من دعائه: الله اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت» . رواه مسلم. وإن كان طفلاً جعل مكان الاستغفار له: «اللهم اجعله لوالديه ذخراً وفرطاً وسلفاً وأجراً، اللهم ثقل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم، وقه برحمتك عذاب الجحيم» وإن لم يعلم شراً من العبد قال: «اللهم لا نعلم إلا خيراً»
الخامس: أن يقف بعد الرابعة قليلاً، وهل يسن فيها ذكر على روايتين.
السادس: أن يضع يمينه على شماله، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على جنازة فوضع يمينه على شماله» .
السابع: الالتفات على يمينه في التسليمة.
فصل:
ولا يسن الاستفتاح؛ لأن مبناها على التخفيف، ولا قراءة شيء بعد الفاتحة لذلك.
وعنه: يسن الاستفتاح ولا يسن تسليمه ثانية؛ لأن عطاء بن السائب روى «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلم على الجنازة تسليمة واحدة» . رواه الجوزجاني ولأنه إجماع. قال أحمد: التسليم على الجنازة تسليمة واحدة عن ستة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليس فيه اختلاف إلا عن إبراهيم. ولا تسن الزيادة على أربع تكبيرات؛ لأنها المشهورة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وجمع عمر الناس على أربع تكبيرات، وقال: هو أطول الصلاة. فإن كبر خمساً جاز وتبعه المأموم؛ لأن «زيد بن أرقم كبر على جنازة خمساً وقال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكبرها» . رواه مسلم.
وعنه لا يتابع فيها، اختاره ابن عقيل لأنها زيادة غير مسنونة. وإن كبر ستاً أو سبعاً ففيه روايتان:
إحداهما: يجوز ويتابعه المأموم فيها؛ لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كبر سبعاً وكبر على أبو قتادة سبعاً.
والثانية: لا يجوز، ولا يتبعه المأموم فيها؛ لأن المشهور عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه خلافها، لكن لا يسلم قبله وينتظره حتى يسلم معه؛ لأنها زيادة قول مختلف فيه؛ لأنه لا يجز له مفارقة إمامه إذا اشتغل به، كالقنوت في الصبح، وإن زاد على سبع لم يتابعه، ولم يسلم قبله قال أحمد: وينبغي أن يسبح به.
فصل:
وإن كبر على جنازة فجيء بأخرى كبر الثانية عليهما، ثم إن جيء بثالثة كبر الثالثة عليهن، ثم إن جيء برابعة كبر الرابعة عليهن، ثم يتمم سبع تكبيرات ليحصل للرابعة أربع تكبيرات، فإن جيء بأخرى لم يكبر عليها لئلا يفضي إلى زيادة التكبير على سبع، أو نقصان الخامسة من أربع، وكلاهما غير جائز. وإن أراد أهل الأولى رفعها قبل سلام الإمام لم يجز؛ لأن السلام ركن لم يأت به. ويقرأ في التكبيرة الرابعة الفاتحة. وفي الخامسة يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويدعو لهم في السادسة لتكمل الأركان لجميع الجنائز.
فصل:
ومن سبق ببعض الصلاة فأدرك الإمام بين تكبيرتين دخل معه، كما يدخل في سائر الصلوات.
وعنه: أنه ينتظر تكبير الإمام فيكبر معه؛ لأن كل تكبيرة كركعة فلا يشتغل بقضائها فإذا سلم الإمام قضى ما فاته، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما فاتكم فاقضوا» . قال الخرقي: يقضيه متتابعاً. فإن سلم ولم يقضه فلا بأس؛ لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا يقضي، ولأنها تكبيرات متوالية حال القيام فلم يجب قضاء ما فات منها، كتكبيرات العيد.
وقال القاضي وأبو الخطاب: يقضيه على صفته، إلا أن ترفع الجنازة فيقضيه متوالياً لعدم من يدعى له، فإن سلم ولم يقضه فحكى أبو الخطاب عنه رواية أنها لا تصح قياساً على سائر الصلوات.
فصل:
وإذا صلي عليه بودر إلى دفنه ولم ينتظر حضور أحد إلا الولي، فإنه ينتظر ما لم
يخش عليه التغيير فإن حضر من لم يصل عليه صلى عليه جماعة وفرادى. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ولا بأس بذلك، قد فعله عدة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن صلى مرة لم يستحب له إعادتها؛ لأنها نافلة، وصلاة الجنازة لا يتنفل بها، ومن فاتته الصلاة عليه حتى دفن صلى على قبره، لما روى ابن عباس «أنه مر مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على قبر منبوذ فأمهم وصلوا خلفه» . متفق عليه. ولا يصلى على القبر بعد شهر إلا بقليل؛ لأن أكثر ما نقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه صلى على أم سعد بن عبادة بعدما دفنت بشهر» . رواه الترمذي. ولأنه لا يعلم بقاؤه أكثر من شهر فتقيد به.
فصل:
وتجوز الصلاة على الغائب.
وعنه: لا تجوز؛ لأن حضوره شرط، بدليل ما لو كانا في بلد واحد، والأول المذهب، لما روى أبو هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعى النجاشي اليوم الذي مات فيه، فصف بهم في المصلى وكبر بهم أربعاً» . متفق عليه. فإن كان الميت من أحد جانبي البلد لم يصل عليه في الجانب الآخر؛ لأنه يمكن حضوره، فأشبه ما لو كانا من جانب واحد، وقال ابن حامد: يجوز قياساً على البعيد، وتتوقت الصلاة على الغائب بشهر؛ لأنه لا يعلم بقاؤه أكثر منه، أشبه من في القبر.
فصل:
ويصلى على كل مسلم لما تقدم، إلا شهيد المعترك، وإن لم يوجد إلا بعض الميت غسل وصلي عليه.
وعنه: لا يصلى عليه كما لا يصلى على يد الحي إذا قطعت، والمذهب الأول؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى على عظام بالشام، وصلى أبو عبيدة على رؤوس. ولا يصلي الإمام على الغال ولا قاتل نفسه، لما روى جابر بن سمرة قال: «أتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه» . رواه مسلم. وعن زيد بن خالد قال: «توفي رجل من جهينة يوم خيبر، فذكر لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: صلوا على صاحبكم، إن صاحبكم غل من الغنيمة» احتج به أحمد. ويصلى على سائر الناس، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا على صاحبكم» .
قال الخلال: الإمام ههنا أمير المؤمنين وحده، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن إمام كل قرية واليهم. وأنكر هذا الخلال وخطأ ناقله.
فصل:
ولا تجوز الصلاة على كافر، لقول الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] ، وقال الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113] . ومن حكمنا بكفره من أهل البدع لم يصل عليه، قال أحمد: لا أشهد الجهمي ولا الرافضي، ويشهدهما من أحب.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب حمل الجنازة والدفن]
[باب حمل الجنازة والدفن]
وهما فرض على الكفاية؛ لأن في تركها هتكاً لحرمتها، وأذى للناس بها، وأولى الناس بذلك أولاهم بغسله، وأولى الناس بإدخال المرأة قبرها محارمها الأقرب فالأقرب. وفي تقديم الزوج عليهم وجهان. بناء على ما مر في الصلاة، فإن لم يكن فالمشايخ من أهل الدين.
وعنه: النساء بعد المحارم، اختاره الخرقي، والأول أولى؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أبا طلحة فنزل على قبر ابنته دون النساء» . رواه البخاري. «ورأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساء في جنازة فقال: أتدلين فيمن يدلي؟ قلن: لا، قال: فارجعن مأزورات غير مأجورات» أخرجه ابن ماجه. ولأن الدفن يحتاج إلى قوة وبطش، ويحضره الرجال فتولي المرأة له، تعريض لها للهتك.
والتربيع في حمل الجنازة مسنون، لما روي عن ابن مسعود أنه قال: إذا اتبع أحدكم جنازة فليأخذ بجوانب السرير الأربع، ثم ليتطوع بعد أو ليذر، فإنه من السنة. رواه سعيد بن منصور. وصفته أنه يبدأ فيضع قائمة السرير اليسرى على كتفه اليمنى من عند رأس الميت، ثم من عند رجليه، ثم يضع قائمة السرير اليمنى على كتفه اليسرى من كتفه اليمنى من عند رأسه، ثم من عند رجليه.
وعنه: أن يدور فيأخذ بعد ياسرة المؤخرة، يامنة المؤخرة، ثم المقدمة وإن حمل بين العمودين فحسن. روي عن سعد بن مالك وأبي هريرة وابن عمر وابن الزبير أنهم حملوا بين عمودي السرير. والسنة الإسراع في المشي بها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسرعوا بالجنازة، فإن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» متفق عليه. ولا يفرط بالإسراع فيمخضها ويؤذي متبعها.
فصل:
واتباع الجنازة سنة، وهو على ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يصلي وينصرف.
والثاني: أن يتبعها إلى القبر ثم يقف حتى تدفن، لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من شهد جنازة حتى يصلي عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين» متفق عليه.
الثالث: أن يقف بعد الدفن يستغفر له، ويسأل الله له التثبيت. كما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «كان إذا دفن ميتاً وقف وقال: استغفروا له واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل» [رواه أبو داود] . والمشي أمامها أفضل، لما روى ابن عمر قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يمشون أمام الجنازة.» رواه أبو داود. ولأنهم شفعاء لها، والشافع يتقدم المشفوع. وحيث مشى قريباً منها فحسن. وإن كان راكباً فالسنة أن يكون خلفها، لما روى المغيرة بن شعبة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها» حديث صحيح. ويكره الركوب لمشيعها إلا من حاجة؛ لأنه يروى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما ركب في جنازة ولا عيد، ولا بأس بالركوب في الانصراف لما روى جابر بن سمرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتبع جنازة ابن الدحداح ماشياً، ورجع على فرس» حديث حسن، رواه الترمذي ورواه مسلم.
فصل:
وإذا سبقها فجلس لم يقم عند مجيئها، وإن مرت به جنازة لم يستحب له القيام.
وعنه: يستحب لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رأى أحدكم الجنازة فليقم حين يراها حتى تخلفه» رواه مسلم. والأول أولى، لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قعد» ، ورواه مسلم. وهذا ناسخ للأول، فأما من مع الجنازة فيكره أن يجلس حتى توضع عن الأعناق، لما روى أبو سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من تبع جنازة فلا يجلس
حتى توضع» رواه البخاري ومسلم. وفي لفظ: «حتى توضع في الأرض» رواه أبو داود.
ويكره اتباع النساء الجنائز لما روت أم عطية قالت: «نهينا عن اتباع الجنائز» . متفق عليه. ويكره أن تتبع بنار أو صوت، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار» رواه أبو داود.
فصل:
ويجوز الدفن في البيت؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر دفنوا في بيت. والدفن في الصحراء أفضل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدفن أصحابه بالبقيع وإنما دفن في البيت كراهة أن يتخذ قبره مسجداً ولولا ذلك لأبرز قبره، كذلك قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. متفق عليه. ويدفن الشهيد في مصرعه؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بشهداء أحد أن يردوا إلى مصارعهم» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال: صحيح وكان بعضهم قد حمل إلى المدينة.
وحمل الميت إلى غير بلده لغير حاجة مكروه؛ لأنه أذى للأحياء والميت لغير فائدة.
وإن تنازع وارثان في الدفن في مقبرة المسلمين أو البيت دفن في المقبرة لأن له في البيت حقاً فلا يجوز إسقاطه، ويستحب الدفن في المقبرة التي فيها الصالحون لينتفع بمجاورتهم. وجمع الأقارب في الدفن حسن، لتسهل زيارتهم والترحم عليهم، وقد روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك عند رأس عثمان بن مظعون صخرة وقال: أعلم قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي» رواه أبو داود.
وإن تشاح اثنان في مقبرة مسبلة قدم السابق، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به» . وإن استويا في السبق أقرع بينهما. ولا يدفن ميت في موضع فيه ميت حتى يبلى الأول، ويرجع فيه إلى أهل الخبرة بتلك الأرض.
فصل:
وأعمقوا» رواه أبو داود، قال أحمد يعمق إلى الصدر؛ لأن الحسن وابن سيرين كانا يستحبان ذلك، ولأن في تعميقه أكثر من ذلك مشقة، وقال أبو الخطاب: يعمق قدر قامة وبسطة والسنة أن يلحد له، لقول سعد بن مالك: «ألحدوا لي لحداً، وانصبوا علي اللبن نصباً، كما صنع برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه مسلم.
قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ولا أحب الشق، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللحد لنا والشق لغيرنا» رواه أبو داود. ومعنى الشق أنه إذا وصل إلى الأرض شق في وسطه شقاً نازلاً، فإن كانت الأرض رخوة لا يثبت فيها اللحد شق فيها للحاجة.
فصل:
ولا يدفن في القبر اثنان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدفن كل ميت في قبره، فإن دعت الحاجة إليه جاز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لما كثر القتلى يوم أحد، كان يجمع بين الرجلين في القبر الواحد، ويسأل أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فيقدمه في اللحد» . حديث صحيح. ويقدم أفضلهم إلى القبلة للخبر، ويجعل بين كل اثنين حاجزاً من تراب، ليصير كل واحد منفرداً كأنه في قبر منفرد، وإن دفن رجل وصبي وامرأة في قبر واحد جعل الرجل في القبلة، والصبي خلفه، والمرأة خلفهما، وقال الخرقي: تقدم المرأة على الصبي، وقال أحمد: وإن حفروا شبه النهر رأس هذا عند رجل هذا جاز، ويجعل بينهما حاجز لا يلصق أحدهما بصاحبه، فإن مات له أقارب بدأ بمن يخاف تغيره، فإن استووا بدأ بأقربهم إليه على ترتيب النفقات، فإن استووا قدم أسنهم وأفضلهم.
فصل:
ولا توقيت في عدد من يدخل القبر، إنما هو بحسب الحاجة إليه، نص عليه.
ويسل الميت من قبل رأسه، وهو أن يجعل رأسه عند رجلي القبر، ثم يسل سلاً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سل من قبل رأسه، وإن كان الأسهل غير ذلك فعل الأسهل ويقول الذي يدخله، بسم الله، وعلى ملة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لما روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقوله إذا أدخل الميت القبر من " المسند "، ويضعه في اللحد على جانبه الأيمن، مستقبل القبلة، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نام أحدكم فليتوسد يمينه» ويتوسد رأسه بلبنة أو نحوها كالحي إذا نام ويجعل خلفه تراب يسنده لئلا يستلقي على قفاه، وإن وطأ تحته بقطيفة فلا بأس؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك تحته قطيفة كان يفترشها، وينصب عليه اللبن نصباً لحديث سعد، وإن جعل عليه: طن قصب جاز، لما روى عمرو بن شرحبيل أنه قال: إني رأيت المهاجرين يستحبون ذلك.
ويكره الدفن في التابوت، وأن يدخل القبر آجراً أو خشباً أو شيئاً مسته النار؛ لأن إبراهيم قال: كانوا يستحبون اللبن ويكرهون الخشب والآجر، ولأنه آلة بناء المترفين، وسائر ما مسته النار يكره للتفاؤل بها.
فصل:
ولا يخمر قبر الرجل، لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه مر بقوم وقد دفنوا ميتاً وبسطوا على قبره الثوب، فجذبه وقال: إنما يصنع هذا بالنساء، ويستحب ذلك للنساء للخبر ولئلا ينكشف منها شيء فيراه الحاضرون.
فصل:
ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر، لما روى الساجي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع قبره عن الأرض قدر شبر، ولأنه يعلم أنه قبر فيتوقى، ويترحم عليه، ولا يزاد عليه من غير ترابه، لقول عقبة بن عامر: لا تجعلوا على القبر من التراب أكثر مما خرج منه. رواه أحمد. ويستحب أن يرش عليه الماء ليتلبد. وروى أبو رافع «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سل سعداً ورش على قبره الماء» . رواه ابن ماجه. وتسنيمه أفضل من تسطيحه. لما روى البخاري عن سفيان التمار: أنه رأى قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسنماً، ولأن السطح يشبه أبنية أهل الدنيا. ولا بأس بتعليمه بصخرة ونحوها لما ذكرنا من حديث عثمان بن مظعون، ولأنه يعرف قبره فيكثر الترحم عليه.
فصل:
ويكره البناء على القبر، وتجصيصه والكتابة عليه، لقول جابر: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يقعد عليه» . رواه مسلم. زاد الترمذي: «وأن يكتب عليها» . وقال: حديث صحيح، ولأنه من زينة الدنيا فلا حاجة بالميت إليه، ولا يجوز أن يبنى عليه مسجد، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر مثل ما صنعوا. متفق عليه. ويكره الجلوس عليه، والاتكاء إليه، والاستناد إليه، لحديث جابر. ويكره المشي عليه، لما روى عقبة بن عامر قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لأن أطأ على جمرة أو سيف أحب إلي من أن أطأ على قبر مسلم ولا أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق» . رواه ابن ماجه. فإن لم يكن طريق إلى قبر من يزوره إلا بالوطء جاز لأنه موضع حاجة.
فصل:
ولا يجوز الدفن في الساعات المذكورة في حديث عقبة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ثلاث ساعات كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب» . رواه مسلم. ويجوز الدفن في سائر الأوقات ليلاً ونهاراً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفن ليلاً، ودفن ذا البجادين ليلاً. والدفن في النهار أولى؛ لأنه روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه زجر عن الدفن ليلاً. رواه مسلم. ولأن النهار أمكن وأسهل على مشيعيها، وأكثر لمتبعيها.
فصل:
وإذا ماتت ذمية حامل من مسلم لم تدفن في مقبرة المسلمين لكفرها، ولا تدفن في مقبرة الكفار لأن ولدها مسلم، وتدفن مفردة، ظهرها إلى القبلة لأن وجه الجنين إلى ظهرها. وإن ماتت امرأة حامل، وولدها يتحرك، ورجيت حياته، سطت عليه القوابل فأخرجنه، ولا يشق بطنها؛ لأن فيه هتكاً لحرمة متيقنة، لإبقاء حياة موهومة بعيدة، فإن لم يخرج تركت حتى يموت، ثم تدفن، ويحتمل أن يشق بطنها إن غلب على الظن أنه يحيا لأن حفظ حرمة الحي أولى. وإن بلع الميت جوهرة لغيره شق بطنه. وأخذت؛ لأن فيه تخليصاً له من مأثمها، ورداً لها إلى مالكها، ويحتمل أن يغرم قيمتها من تركته، ولا يتعرض له صيانة عن المثلة به، فإن لم يكن له تركة تعين شقه، فإن كانت الجوهرة له ففيه وجهان:
أحدهما: يشق بطنه لأنها للوارث فهي كجوهرة الأجنبي.
والثاني: لا يشق؛ لأنه استهلكها في حياته فلم يتعلق بها حق الوارث. وإن بلع مالاً يسيراً لم يشق بطنه، ويغرم القيمة من تركته. وإن وقع في القبر ما له قيمة نبش وأخذ؛ لأنه يمكن رده إلى صاحبه بغير ضرورة فوجب. وإن دفن الميت بغير غسل، أو إلى غير القبلة نبش، وغسل ووجه؛ لأن هذا مقدور على فعله فوجب، إلا أن يخاف عليه الفساد فلا ينبش؛ لأنه تعذر فسقط كما يسقط وضوء الحي لتعذره. وإن دفن قبل الصلاة عليه احتمل أن يكون حكمه كذلك؛ لأنه واجب فهو كغسله، واحتمل أن يصلى على القبر ولا تهتك حرمته لأنه عذر.
فصل:
سئل أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن تلقين الميت في قبره فقال: ما رأيت أحداً يفعله،
إلا أهل الشام. قال: وكان أبو مغيرة يروي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلون. وقال القاضي وأبو الخطاب: يستحب ذلك، ورويا فيه حديث عن أبي أمامة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحد عند رأس قبره، ثم ليقل: يا فلان بن فلانة فإنه يسمع ولا يجيب، ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة، الثانية، فيستوي قاعداً، ثم ليقل: يا فلان بن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا يرحمك الله، ولكن لا تسمعونه فيقول: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبياً، وبالقرآن إماماً، فإن منكراً ونكير يتأخر كل واحد منهما، فيقول: انطلق فما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته ويكون عند الله حجيجه دونهما فقال الرجل: يا رسول الله، فإن لم يعرف اسم أمه؟ قال: فلينسبه إلى حواء» رواه الطبراني في " معجمه " بمعناه.
وهما فرض على الكفاية؛ لأن في تركها هتكاً لحرمتها، وأذى للناس بها، وأولى الناس بذلك أولاهم بغسله، وأولى الناس بإدخال المرأة قبرها محارمها الأقرب فالأقرب. وفي تقديم الزوج عليهم وجهان. بناء على ما مر في الصلاة، فإن لم يكن فالمشايخ من أهل الدين.
وعنه: النساء بعد المحارم، اختاره الخرقي، والأول أولى؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أبا طلحة فنزل على قبر ابنته دون النساء» . رواه البخاري. «ورأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساء في جنازة فقال: أتدلين فيمن يدلي؟ قلن: لا، قال: فارجعن مأزورات غير مأجورات» أخرجه ابن ماجه. ولأن الدفن يحتاج إلى قوة وبطش، ويحضره الرجال فتولي المرأة له، تعريض لها للهتك.
والتربيع في حمل الجنازة مسنون، لما روي عن ابن مسعود أنه قال: إذا اتبع أحدكم جنازة فليأخذ بجوانب السرير الأربع، ثم ليتطوع بعد أو ليذر، فإنه من السنة. رواه سعيد بن منصور. وصفته أنه يبدأ فيضع قائمة السرير اليسرى على كتفه اليمنى من عند رأس الميت، ثم من عند رجليه، ثم يضع قائمة السرير اليمنى على كتفه اليسرى من كتفه اليمنى من عند رأسه، ثم من عند رجليه.
وعنه: أن يدور فيأخذ بعد ياسرة المؤخرة، يامنة المؤخرة، ثم المقدمة وإن حمل بين العمودين فحسن. روي عن سعد بن مالك وأبي هريرة وابن عمر وابن الزبير أنهم حملوا بين عمودي السرير. والسنة الإسراع في المشي بها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسرعوا بالجنازة، فإن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» متفق عليه. ولا يفرط بالإسراع فيمخضها ويؤذي متبعها.
فصل:
واتباع الجنازة سنة، وهو على ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يصلي وينصرف.
والثاني: أن يتبعها إلى القبر ثم يقف حتى تدفن، لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من شهد جنازة حتى يصلي عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين» متفق عليه.
الثالث: أن يقف بعد الدفن يستغفر له، ويسأل الله له التثبيت. كما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «كان إذا دفن ميتاً وقف وقال: استغفروا له واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل» [رواه أبو داود] . والمشي أمامها أفضل، لما روى ابن عمر قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يمشون أمام الجنازة.» رواه أبو داود. ولأنهم شفعاء لها، والشافع يتقدم المشفوع. وحيث مشى قريباً منها فحسن. وإن كان راكباً فالسنة أن يكون خلفها، لما روى المغيرة بن شعبة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها» حديث صحيح. ويكره الركوب لمشيعها إلا من حاجة؛ لأنه يروى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما ركب في جنازة ولا عيد، ولا بأس بالركوب في الانصراف لما روى جابر بن سمرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتبع جنازة ابن الدحداح ماشياً، ورجع على فرس» حديث حسن، رواه الترمذي ورواه مسلم.
فصل:
وإذا سبقها فجلس لم يقم عند مجيئها، وإن مرت به جنازة لم يستحب له القيام.
وعنه: يستحب لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رأى أحدكم الجنازة فليقم حين يراها حتى تخلفه» رواه مسلم. والأول أولى، لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قعد» ، ورواه مسلم. وهذا ناسخ للأول، فأما من مع الجنازة فيكره أن يجلس حتى توضع عن الأعناق، لما روى أبو سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من تبع جنازة فلا يجلس
حتى توضع» رواه البخاري ومسلم. وفي لفظ: «حتى توضع في الأرض» رواه أبو داود.
ويكره اتباع النساء الجنائز لما روت أم عطية قالت: «نهينا عن اتباع الجنائز» . متفق عليه. ويكره أن تتبع بنار أو صوت، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار» رواه أبو داود.
فصل:
ويجوز الدفن في البيت؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر دفنوا في بيت. والدفن في الصحراء أفضل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدفن أصحابه بالبقيع وإنما دفن في البيت كراهة أن يتخذ قبره مسجداً ولولا ذلك لأبرز قبره، كذلك قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. متفق عليه. ويدفن الشهيد في مصرعه؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بشهداء أحد أن يردوا إلى مصارعهم» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال: صحيح وكان بعضهم قد حمل إلى المدينة.
وحمل الميت إلى غير بلده لغير حاجة مكروه؛ لأنه أذى للأحياء والميت لغير فائدة.
وإن تنازع وارثان في الدفن في مقبرة المسلمين أو البيت دفن في المقبرة لأن له في البيت حقاً فلا يجوز إسقاطه، ويستحب الدفن في المقبرة التي فيها الصالحون لينتفع بمجاورتهم. وجمع الأقارب في الدفن حسن، لتسهل زيارتهم والترحم عليهم، وقد روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك عند رأس عثمان بن مظعون صخرة وقال: أعلم قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي» رواه أبو داود.
وإن تشاح اثنان في مقبرة مسبلة قدم السابق، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به» . وإن استويا في السبق أقرع بينهما. ولا يدفن ميت في موضع فيه ميت حتى يبلى الأول، ويرجع فيه إلى أهل الخبرة بتلك الأرض.
فصل:
وأعمقوا» رواه أبو داود، قال أحمد يعمق إلى الصدر؛ لأن الحسن وابن سيرين كانا يستحبان ذلك، ولأن في تعميقه أكثر من ذلك مشقة، وقال أبو الخطاب: يعمق قدر قامة وبسطة والسنة أن يلحد له، لقول سعد بن مالك: «ألحدوا لي لحداً، وانصبوا علي اللبن نصباً، كما صنع برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه مسلم.
قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ولا أحب الشق، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللحد لنا والشق لغيرنا» رواه أبو داود. ومعنى الشق أنه إذا وصل إلى الأرض شق في وسطه شقاً نازلاً، فإن كانت الأرض رخوة لا يثبت فيها اللحد شق فيها للحاجة.
فصل:
ولا يدفن في القبر اثنان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدفن كل ميت في قبره، فإن دعت الحاجة إليه جاز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لما كثر القتلى يوم أحد، كان يجمع بين الرجلين في القبر الواحد، ويسأل أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فيقدمه في اللحد» . حديث صحيح. ويقدم أفضلهم إلى القبلة للخبر، ويجعل بين كل اثنين حاجزاً من تراب، ليصير كل واحد منفرداً كأنه في قبر منفرد، وإن دفن رجل وصبي وامرأة في قبر واحد جعل الرجل في القبلة، والصبي خلفه، والمرأة خلفهما، وقال الخرقي: تقدم المرأة على الصبي، وقال أحمد: وإن حفروا شبه النهر رأس هذا عند رجل هذا جاز، ويجعل بينهما حاجز لا يلصق أحدهما بصاحبه، فإن مات له أقارب بدأ بمن يخاف تغيره، فإن استووا بدأ بأقربهم إليه على ترتيب النفقات، فإن استووا قدم أسنهم وأفضلهم.
فصل:
ولا توقيت في عدد من يدخل القبر، إنما هو بحسب الحاجة إليه، نص عليه.
ويسل الميت من قبل رأسه، وهو أن يجعل رأسه عند رجلي القبر، ثم يسل سلاً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سل من قبل رأسه، وإن كان الأسهل غير ذلك فعل الأسهل ويقول الذي يدخله، بسم الله، وعلى ملة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لما روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقوله إذا أدخل الميت القبر من " المسند "، ويضعه في اللحد على جانبه الأيمن، مستقبل القبلة، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نام أحدكم فليتوسد يمينه» ويتوسد رأسه بلبنة أو نحوها كالحي إذا نام ويجعل خلفه تراب يسنده لئلا يستلقي على قفاه، وإن وطأ تحته بقطيفة فلا بأس؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك تحته قطيفة كان يفترشها، وينصب عليه اللبن نصباً لحديث سعد، وإن جعل عليه: طن قصب جاز، لما روى عمرو بن شرحبيل أنه قال: إني رأيت المهاجرين يستحبون ذلك.
ويكره الدفن في التابوت، وأن يدخل القبر آجراً أو خشباً أو شيئاً مسته النار؛ لأن إبراهيم قال: كانوا يستحبون اللبن ويكرهون الخشب والآجر، ولأنه آلة بناء المترفين، وسائر ما مسته النار يكره للتفاؤل بها.
فصل:
ولا يخمر قبر الرجل، لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه مر بقوم وقد دفنوا ميتاً وبسطوا على قبره الثوب، فجذبه وقال: إنما يصنع هذا بالنساء، ويستحب ذلك للنساء للخبر ولئلا ينكشف منها شيء فيراه الحاضرون.
فصل:
ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر، لما روى الساجي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع قبره عن الأرض قدر شبر، ولأنه يعلم أنه قبر فيتوقى، ويترحم عليه، ولا يزاد عليه من غير ترابه، لقول عقبة بن عامر: لا تجعلوا على القبر من التراب أكثر مما خرج منه. رواه أحمد. ويستحب أن يرش عليه الماء ليتلبد. وروى أبو رافع «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سل سعداً ورش على قبره الماء» . رواه ابن ماجه. وتسنيمه أفضل من تسطيحه. لما روى البخاري عن سفيان التمار: أنه رأى قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسنماً، ولأن السطح يشبه أبنية أهل الدنيا. ولا بأس بتعليمه بصخرة ونحوها لما ذكرنا من حديث عثمان بن مظعون، ولأنه يعرف قبره فيكثر الترحم عليه.
فصل:
ويكره البناء على القبر، وتجصيصه والكتابة عليه، لقول جابر: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يقعد عليه» . رواه مسلم. زاد الترمذي: «وأن يكتب عليها» . وقال: حديث صحيح، ولأنه من زينة الدنيا فلا حاجة بالميت إليه، ولا يجوز أن يبنى عليه مسجد، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر مثل ما صنعوا. متفق عليه. ويكره الجلوس عليه، والاتكاء إليه، والاستناد إليه، لحديث جابر. ويكره المشي عليه، لما روى عقبة بن عامر قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لأن أطأ على جمرة أو سيف أحب إلي من أن أطأ على قبر مسلم ولا أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق» . رواه ابن ماجه. فإن لم يكن طريق إلى قبر من يزوره إلا بالوطء جاز لأنه موضع حاجة.
فصل:
ولا يجوز الدفن في الساعات المذكورة في حديث عقبة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ثلاث ساعات كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب» . رواه مسلم. ويجوز الدفن في سائر الأوقات ليلاً ونهاراً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفن ليلاً، ودفن ذا البجادين ليلاً. والدفن في النهار أولى؛ لأنه روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه زجر عن الدفن ليلاً. رواه مسلم. ولأن النهار أمكن وأسهل على مشيعيها، وأكثر لمتبعيها.
فصل:
وإذا ماتت ذمية حامل من مسلم لم تدفن في مقبرة المسلمين لكفرها، ولا تدفن في مقبرة الكفار لأن ولدها مسلم، وتدفن مفردة، ظهرها إلى القبلة لأن وجه الجنين إلى ظهرها. وإن ماتت امرأة حامل، وولدها يتحرك، ورجيت حياته، سطت عليه القوابل فأخرجنه، ولا يشق بطنها؛ لأن فيه هتكاً لحرمة متيقنة، لإبقاء حياة موهومة بعيدة، فإن لم يخرج تركت حتى يموت، ثم تدفن، ويحتمل أن يشق بطنها إن غلب على الظن أنه يحيا لأن حفظ حرمة الحي أولى. وإن بلع الميت جوهرة لغيره شق بطنه. وأخذت؛ لأن فيه تخليصاً له من مأثمها، ورداً لها إلى مالكها، ويحتمل أن يغرم قيمتها من تركته، ولا يتعرض له صيانة عن المثلة به، فإن لم يكن له تركة تعين شقه، فإن كانت الجوهرة له ففيه وجهان:
أحدهما: يشق بطنه لأنها للوارث فهي كجوهرة الأجنبي.
والثاني: لا يشق؛ لأنه استهلكها في حياته فلم يتعلق بها حق الوارث. وإن بلع مالاً يسيراً لم يشق بطنه، ويغرم القيمة من تركته. وإن وقع في القبر ما له قيمة نبش وأخذ؛ لأنه يمكن رده إلى صاحبه بغير ضرورة فوجب. وإن دفن الميت بغير غسل، أو إلى غير القبلة نبش، وغسل ووجه؛ لأن هذا مقدور على فعله فوجب، إلا أن يخاف عليه الفساد فلا ينبش؛ لأنه تعذر فسقط كما يسقط وضوء الحي لتعذره. وإن دفن قبل الصلاة عليه احتمل أن يكون حكمه كذلك؛ لأنه واجب فهو كغسله، واحتمل أن يصلى على القبر ولا تهتك حرمته لأنه عذر.
فصل:
سئل أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن تلقين الميت في قبره فقال: ما رأيت أحداً يفعله،
إلا أهل الشام. قال: وكان أبو مغيرة يروي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلون. وقال القاضي وأبو الخطاب: يستحب ذلك، ورويا فيه حديث عن أبي أمامة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحد عند رأس قبره، ثم ليقل: يا فلان بن فلانة فإنه يسمع ولا يجيب، ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة، الثانية، فيستوي قاعداً، ثم ليقل: يا فلان بن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا يرحمك الله، ولكن لا تسمعونه فيقول: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبياً، وبالقرآن إماماً، فإن منكراً ونكير يتأخر كل واحد منهما، فيقول: انطلق فما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته ويكون عند الله حجيجه دونهما فقال الرجل: يا رسول الله، فإن لم يعرف اسم أمه؟ قال: فلينسبه إلى حواء» رواه الطبراني في " معجمه " بمعناه.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب التعزية والبكاء على الميت]
[باب التعزية والبكاء على الميت]
التعزية سنة لما روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من عزى مصاباً فله مثل أجره» وهو حديث غريب. وتجوز التعزية قبل الدفن وبعده لعموم الخبر. ويكره الجلوس لها؛ لأنه محدث، ويقول في تعزية المسلم بالمسلم: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، ورحم ميتك، وفي تعزيته بكافر: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وتوقف أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن تعزية أهل الذمة، وهي تخرج على عيادتهم، وفيها روايتان:
إحداهما: يعودهم؛ لأنه روي «أن غلاماً من اليهود كان يخدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعوده فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه فقال له، أطع أبا القاسم، فأسلم، فقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار» رواه البخاري.
والثانية: لا يجوز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تبدؤوهم بالسلام» فإن قلنا: نعزيهم فإن تعزيتهم عن مسلم: أحسن الله عزاءك، وغفر لميتك، وعن كافر: أخلف الله عليك، ولا نقص عددك.
فصل:
والبكاء غير مكروه إذا لم يكن معه ندب ولا نياحة، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على سعد بن عبادة، فوجده في غاشية، فبكى وبكى أصحابه وقال: ألا تسمعون أن الله
لا يعذب بدمع العين، ولا يحزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه أو يرحم» متفق عليه. ولا يجوز لطم الخدود، وشق الجيوب، والدعاء بدعوى الجاهلية، لما روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية»
وعن أبي مسعود «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برئ من الصالقة والحالقة والشاقة» متفق عليهما. ويكره الندب والنوح. ونقل حرب عن أحمد كلاماً يحتمل إباحتهما، واختاره الخلال وصاحبه؛ لأن واثلة وأبا وائل كانا يستمعا النوح ويبكيان وظاهر الأخبار التحريم.
قال أحمد في قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12] . هو النوح، فسماه معصية. وقالت أم عطية: «أخذ علينا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البيعة أن لا ننوح» . متفق عليه.
وينبغي للمصاب أن يستعين بالله تعالى وبالصبر والصلاة، ويسترجع، ولا يقول إلا خيراً، لقول الله تعالى: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 153] الآيات. وقالت أم سلمة: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ما من عبد مسلم تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيراً منها، إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خير منها. قالت: فلما توفي أبو سلمة قلتها. فأخلف الله لي خيراً منه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه مسلم. وقال: لما مات أبو سلمة: «لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون» . رواه مسلم.
فصل:
ويستحب لأقرباء الميت وجيرانه إصلاح طعام لأهله؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما جاء نعي جعفر قال: «اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنهم قد أتاهم أمر شغلهم» رواه أبو داود.
فأما صنيع أهل الميت الطعام للناس فمكروه؛ لأن فيه زيادة على مصيبتهم، وشغلاً لهم إلى شغلهم.
فصل:
ويستحب للرجال زيارة القبور؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها إنها تذكركم الموت» رواه مسلم. وإن مر بها أو زارها قال ما روى مسلم قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية» . وفي حديث آخر: «يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين» وفي حديث آخر: «اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم» ، وإن زاد: «اللهم اغفر لنا ولهم» كان حسناً.
فأما النساء ففي كراهية زيارة القبور لهن روايتان:
إحداهما: لا يكره، لعموم ما رويناه؛ ولأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زارت قبر أخيها عبد الرحمن.
والثانية: يكره؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله زوارات القبور» وهذا حديث صحيح، فلما زال التحريم بالنسخ، بقيت الكراهية؛ ولأن المرأة قليلة الصبر، فلا يؤمن تهيج حزنها برؤية قبور الأحبة، فيحملها على فعل ما لا يحل لها فعله، بخلاف الرجل.
فصل:
ويستحب لمن دخل المقابر خلع نعليه، لما روى بشير بن الخصاصية قال: «بينما أنا أماشي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ حانت منه نظرة، فإذا رجل يمشي بالقبور عليه نعلان فقال: يا صاحب السبتيتين ويحك ألق سبتيتيك فنظر الرجل، فلما عرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلعهما فرمى بهما» ، رواه أبو داود. فإن خاف الشوك إن خلع نعليه فلا بأس بلبسهما
للحاجة، ولا يدخل في هذا الخفاف؛ لأن نزعها يشق، وفي التمشكات ونحوها وجهان:
أحدهما: هي كالنعل لسهولة خلعها.
والثاني: لا يستحب؛ لأن خلع النعلين تعبد فيقصر عليهما.
فصل:
وإن دعا إنسان لميت، أو تصدق عنه، أو قضى عنه ديناً واجباً عليه، نفعه ذلك بلا خلاف؛ لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] . «وقال سعد بن عبادة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أينفع أمي إذا تصدقت عنها؟ قال: نعم» متفق عليه. وإن فعل عبادة بدنية كالقراءة والصلاة والصوم، وجعل ثوابها للميت نفعه أيضاً؛ لأنه إحدى العبادات فأشبهت الواجبات، ولأن المسلمين يجتمعون في كل مصر، ويقرؤون ويهدون لموتاهم، ولم ينكره منكر، فكان إجماعاً.
التعزية سنة لما روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من عزى مصاباً فله مثل أجره» وهو حديث غريب. وتجوز التعزية قبل الدفن وبعده لعموم الخبر. ويكره الجلوس لها؛ لأنه محدث، ويقول في تعزية المسلم بالمسلم: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، ورحم ميتك، وفي تعزيته بكافر: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وتوقف أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن تعزية أهل الذمة، وهي تخرج على عيادتهم، وفيها روايتان:
إحداهما: يعودهم؛ لأنه روي «أن غلاماً من اليهود كان يخدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعوده فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه فقال له، أطع أبا القاسم، فأسلم، فقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار» رواه البخاري.
والثانية: لا يجوز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تبدؤوهم بالسلام» فإن قلنا: نعزيهم فإن تعزيتهم عن مسلم: أحسن الله عزاءك، وغفر لميتك، وعن كافر: أخلف الله عليك، ولا نقص عددك.
فصل:
والبكاء غير مكروه إذا لم يكن معه ندب ولا نياحة، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على سعد بن عبادة، فوجده في غاشية، فبكى وبكى أصحابه وقال: ألا تسمعون أن الله
لا يعذب بدمع العين، ولا يحزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه أو يرحم» متفق عليه. ولا يجوز لطم الخدود، وشق الجيوب، والدعاء بدعوى الجاهلية، لما روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية»
وعن أبي مسعود «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برئ من الصالقة والحالقة والشاقة» متفق عليهما. ويكره الندب والنوح. ونقل حرب عن أحمد كلاماً يحتمل إباحتهما، واختاره الخلال وصاحبه؛ لأن واثلة وأبا وائل كانا يستمعا النوح ويبكيان وظاهر الأخبار التحريم.
قال أحمد في قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12] . هو النوح، فسماه معصية. وقالت أم عطية: «أخذ علينا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البيعة أن لا ننوح» . متفق عليه.
وينبغي للمصاب أن يستعين بالله تعالى وبالصبر والصلاة، ويسترجع، ولا يقول إلا خيراً، لقول الله تعالى: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 153] الآيات. وقالت أم سلمة: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ما من عبد مسلم تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيراً منها، إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خير منها. قالت: فلما توفي أبو سلمة قلتها. فأخلف الله لي خيراً منه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه مسلم. وقال: لما مات أبو سلمة: «لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون» . رواه مسلم.
فصل:
ويستحب لأقرباء الميت وجيرانه إصلاح طعام لأهله؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما جاء نعي جعفر قال: «اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنهم قد أتاهم أمر شغلهم» رواه أبو داود.
فأما صنيع أهل الميت الطعام للناس فمكروه؛ لأن فيه زيادة على مصيبتهم، وشغلاً لهم إلى شغلهم.
فصل:
ويستحب للرجال زيارة القبور؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها إنها تذكركم الموت» رواه مسلم. وإن مر بها أو زارها قال ما روى مسلم قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية» . وفي حديث آخر: «يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين» وفي حديث آخر: «اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم» ، وإن زاد: «اللهم اغفر لنا ولهم» كان حسناً.
فأما النساء ففي كراهية زيارة القبور لهن روايتان:
إحداهما: لا يكره، لعموم ما رويناه؛ ولأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زارت قبر أخيها عبد الرحمن.
والثانية: يكره؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله زوارات القبور» وهذا حديث صحيح، فلما زال التحريم بالنسخ، بقيت الكراهية؛ ولأن المرأة قليلة الصبر، فلا يؤمن تهيج حزنها برؤية قبور الأحبة، فيحملها على فعل ما لا يحل لها فعله، بخلاف الرجل.
فصل:
ويستحب لمن دخل المقابر خلع نعليه، لما روى بشير بن الخصاصية قال: «بينما أنا أماشي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ حانت منه نظرة، فإذا رجل يمشي بالقبور عليه نعلان فقال: يا صاحب السبتيتين ويحك ألق سبتيتيك فنظر الرجل، فلما عرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلعهما فرمى بهما» ، رواه أبو داود. فإن خاف الشوك إن خلع نعليه فلا بأس بلبسهما
للحاجة، ولا يدخل في هذا الخفاف؛ لأن نزعها يشق، وفي التمشكات ونحوها وجهان:
أحدهما: هي كالنعل لسهولة خلعها.
والثاني: لا يستحب؛ لأن خلع النعلين تعبد فيقصر عليهما.
فصل:
وإن دعا إنسان لميت، أو تصدق عنه، أو قضى عنه ديناً واجباً عليه، نفعه ذلك بلا خلاف؛ لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] . «وقال سعد بن عبادة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أينفع أمي إذا تصدقت عنها؟ قال: نعم» متفق عليه. وإن فعل عبادة بدنية كالقراءة والصلاة والصوم، وجعل ثوابها للميت نفعه أيضاً؛ لأنه إحدى العبادات فأشبهت الواجبات، ولأن المسلمين يجتمعون في كل مصر، ويقرؤون ويهدون لموتاهم، ولم ينكره منكر، فكان إجماعاً.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
مواضيع مماثلة
» من وصايا الإمام أحمد بن حنبل للأزواج
» عقيدة - نصائح - مواعظ - وصايا - حكم - أمثال - أدب جمع واختيار د / عبد الله بن محمد البصيري
» إرشاد السالك الى أشرف المسالك فى فقه الإمام مالك
» من أقوال الإمام الشافعي
» ترجمة الإمام الكسائي وراوييه
» عقيدة - نصائح - مواعظ - وصايا - حكم - أمثال - أدب جمع واختيار د / عبد الله بن محمد البصيري
» إرشاد السالك الى أشرف المسالك فى فقه الإمام مالك
» من أقوال الإمام الشافعي
» ترجمة الإمام الكسائي وراوييه
صفحة 2 من اصل 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى