فقه أحمد بن حنبل (الكافي في فقه الإمام أحمد )
صفحة 1 من اصل 2
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
فقه أحمد بن حنبل (الكافي في فقه الإمام أحمد )
اسمه ومولده :
ــ هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني ، أصله من البصرة ، ولد عام ( 164 ) هـ ، في بغداد وتوفي والده وهو صغير ، فنشأ يتيماً ، وتولَّت رعايته أمه .
وقفة : اليتيم قد يكون ناجـحـاً في حياته :
ــ نشأ الإمام أحمد ــ رحمه الله ــ في طلب العلم ، وبدأ في طلب الحديث وعمرهُ خمس عشرة سنة ، ورحل للعلم وعمرهُ عشرون سنة ، والـتقى بعدد من العلماء منهم : الشافعي في مكة ، ويحيى القطَّان ، ويزيد بن هارون في البصرة .
ورحل من العراق إلى اليمن مع يحيى بن مُعين ، فلمَّا وصلا إلى مكة وجدا عبد الرزاق الصنعاني أحد العلماء في اليمن ، فقال يحيى بن معين يا إمام يا أحمد : نحنُ الآن وجدنا الإمام ، ليس هناك ضرورة في أن نذهب إلى اليمن ، فقال الإمام أحمد : أنا نويت أن أُسافر إلى اليمن ، ثم رجع عبد الرزاق إلى اليمن ولَحِقـا به إلى اليمن ، وبَقِيَ الإمام أحمد في اليمن عشرة أشهر ، ثم رجع مشياً على الأقدام إلى العراق .
فلمَّا رجع رأوا عليه آثار التعب والسفر فقالوا له : ما الذي أصابك ؟ فقال الإمام أحمد : يهون هذا فيما استفدنا من عبد الرزاق .
* مِنْ عُلوا الهمَّـة عند الإمام أحمد وهو صغير ، يقول : ربما أردتُ الذهاب مبكراً في طلب الحديث قبل صلاة الفجر ، فتأخذ أمي بثوبي وتقول : حتى يؤذِّن المؤذِّن .
ثـناء العلمـاء على الإمـام أحمـد :
* قال عبد الرزاق شيخ الإمام أحمد : ما رأيت أحداً أفْـقَـه ولا أوْرع من أحمد.
* قالوا : إذا رأيتَ الرجل يحبُ الإمام أحمد فاعلم أنَّـه صاحب سنة .
* قال الشافعي وهو من شيوخ الإمام أحمد : خرجتُ من بغداد فما خلَّفتُ بها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفْـقَـه من أحمد بن حنبل.
* قال يحيى بن معين : أراد الناس أن يكونوا مثـل أحمد بن حنبل ! لا والله ، ما نقوى على ما يقوى عليه أحمد ، ولا على طريقة أحمد .
* كان الإمام أحمد يحفظ ( ألف ألف ) حديث ، يعني ( مليون ) حديث . أي مجموع الروايات والأسانيد والطرق للأحاديث .
* مِنْ حِفْـظِ الإمام أحمد للحديث كان يقول لابنـه : اقرأ عليَّ الحديث وأُخبركُ بالسند ، أو اقرأ عليَّ الإسناد لأخبرك بالحديث .
عِفَّـة الإمـام أحمـد :
* لمَّا رحل لطلب العلم لم يكن لديه مال ، فـكان يحمل البضائع على الجمال وعلى الحمير فيأخذ من هذا درهم ومن هذا درهم ، فيعيش بهذه الدراهم ، وفي الصباح يطلب العلم حتى يستغني عن سؤال الناس ، ( عِـفَّـة وطلب علم ) .
كان الإمـام أحمد يكره الشُهرة والثناء :
* دخل عليه عمُّـهُ وكان الإمام أحمد حزين ، فقال عمُّـهُ : ماذا بك ؟ فقال الإمام أحمد : طُوبى لِمَنْ أخْمَلَ الله ذكره ، ( يعني من لم يكن مشهوراً ، ولا يعلم به إلاَّ اللـه ) .
* وقال أيضاً : أريدُ أنْ أكونَ في شِعْبِ مكـة حتى لا أُعْـرَفْ .
* وكان إذا أراد أنْ يمشي يكره أن يتبعه أحدٌ من الناس .
العمل بالعلم :
* قال الإمام أحمد ما كتبتُ حديثـاً إلاَّ وقد عملتُ بـه , حتى أنَّ النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ احْـتَـجَـمَ وأعطى الحجَّامَ أجره ، فاحْـتَـجَـمَ الإمام أحمد وأعطى الحجَّام أجره .
أخلاق الإمـام أحمـد وآدابه :
* كان يحضر مجلس الإمام أحمد خمسة آلاف طالب ، ( 500 ) كانوا يكـتبون العلم ، والبقية ينظرون إلى أدبه وأخلاقه وسَمْتِـهِ .
* قال يحيى بن معين : ما رأيتُ مثـل أحمد ، صحبناه خمسين سنة فما افـتخر علينا بشيء ممَّا كان فيه من الخير .
* كان الإمام أحمد مائلاً إلى الفقـراء ، وكان فيه حِلْمْ ، ولم يكن بالعجول ، وكان كثير التواضع ، وكانت تعلوه السكينة والوقار .
* قال رجل للإمام أحمد : جزاك الله عن الإسلام خيراً ، فقال الإمام أحمد : بل جزى الله الإسلام عني خيراً ، مَنْ أنا ؟ وما أنا ؟
* كان الإمام أحمد شديد الحياء ، وأكرم الناس ، وأحسنهم عِشْرةً وأدباً ، لمْ يُسمع عنه إلاَّ المُذاكرة للحديث ، وذِكْر الصالحين ، وكان عليه وقارٌ وسكينة ، ولفْـظٌ حَسَنْ .
عبادة الإمـام أحمـد بن حنبل :
* كان يُصلِّي في اليوم والليلة ( 300 ) ركعـة ، فلمَّا سُجِنَ وضُرِبْ أصْـبَحَ لا يستطيع أنْ يُصلِّي إلاَّ ( 150 ) ركعة فـقـط .
* كان يَـخْـتِمُ القرآن كُلَّ أُسبوع .
* قال أحدُهُمْ : كُنْتُ أعرفُ أحمد بن حنبل وهو غُـلام كان يُحيي الليل بالصلاة .
* كان مِنْ عِبادته وزُهده وخوفه ، إذا ذَكَـرَ الموت خَـنَـقَـتْـهُ العَبْرة .
* كان يقول : الخوف يمنعني الطعام والشراب ، وإذا ذكرتُ الموت هانَ عليَّ كُلُّ أمْـرِ الدنيا .
* كان يصوم الإثـنين والخميس والأيام البيض ، فلمَّا رَجَعَ مِنْ السجن مُجْهَداً أَدْمَنَ الصيام حتى مات .
* حَجَّ على قَدَميـه مرتين .
* في مَرَضِ الموت بَالَ دَمَـاً كثيراً ، فقال الطبيب المُشْرف عليه : هذا رجُـلٌ قد فَـتَّتَ الخوف قلبـه .
أخبـار منوعـة في سيـرته :
* قابل الإمام أحمد بن حنبل أحدْ أبناء الإمام الشافعي فقال الإمام أحمد لابن الشافعي : أبُوكَ مِنَ السِّـتة الذينَ أدْعُـوا لهم في السَّحَـرْ .
* قيل للإمام أحمد :
كَمْ يكْفي الرجل حتى يُـفْـتِي ؟ مئـة ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد : لا .
قال السائل : مائـتين ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد : لا .
قال السائل : ثـلاثمائـة ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد : لا .
قال السائل : أربعمائـة ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد : لا .
قال السائل : خمسمائـة ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد : أَرْجُـوا .
حياته الزوجية :
تزوَّجَ وعُمْـرهُ أربعون سنة ، يقول عن زوجـتـه : مكـثـنا عِشرينَ سنة ما اختلفنا في كلمةٍ واحدة .
الفتنة التي تعرَّضَ لها الإمـام أحمـد :
لمَّا دعا المأمون الناس إلى القول بخلق القرآن ، أجابه أكثر العلماء والقضاة مُكْرهين ، واستمر الإمام أحمد ونفرٌ قليل على حمل راية السنة ، والدفاع عن معتقد أهل السنة والجماعة .
قال أبو جعفر الأنباري : لمَّا حُمِلَ الإمام أحمد بن حنبل إلى المأمون أُخْبِرتُ فعبرتُ الفُرات ، فإذا هو جالس في الخان ، فسلمتُ عليه ، فقال : يا أبا جعفر تعنَّيْت ؟ فقلتُ : ليس هذا عناء .
وقلتُ له : يا هذا أنت اليوم رأس الناس ، والناس يقتدون بكم ، فو الله لئن أجبتَ ليُجيبُنَّ بإجابتك خلقٌ كثير من خلقِ الله تعالى ، وإنْ أنتَ لم تُجِبْ ليمتنِعُنَّ خلقٌ مِنَ الناس كثير ، ومع هذا فإنَّ الرجل إنْ لم يقتلك فإنَّك تموت ، ولابدَّ مِنْ الموت ، فاتَّـقِ الله ولا تُجيبهم إلى شيء .
فجعل أحمد يبكي ويقول : ما شاء الله ، ما شاء الله . ثم سار أحمد إلى المأمون فبلغه توعد الخليفة له بالقتل إنْ لم يُجبه إلى القول بخلقِ القرآن ، فـتوجه الإمام أحمد بالدعاء إلى الله تعالى أنْ لا يجمع بـيـنه وبين الخليفة ، فبينما هو في الطريق قبل وصوله إلى الخليفة إذ جاءه الخبر بموت المأمون ، فَرُدَّ الإمام أحمد إلى بغداد وحُبِس ، ثم تولَّى الخلافة المعتصم ، فامتحن الإمام أحمد .
وكان مِنْ خبر المحنـة أنَّ المعتصم لمَّا قصد إحضار الإمام أحمد ازدحم الناس على بابه كيوم العيد ، وبُسِطَ بمجلسه بساطاً ، ونُصِبَ كرسيـاً جلس عليه ، ثم قال : أحضروا أحمد بن حنبل ، فأحضروه ، فلمَّا وقف بين يديه سَلَّمَ عليه ، فقال له : يا أحمد تكلم ولا تَـخَـفْ ، فقال الإمام أحمد : والله لقد دخلتُ عليك وما في قلبي مثـقال حـبَّـةٍ من الفزع ، فقال له المعتصم : ما تقول في القرآن ؟
فقال : كلام الله قديم غير مخلوق ، قال الله تعالى : { وَإنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ } [ التوبة : 6 ].
فقال له : عندك حجة غير هذا ؟ فقال : نعم ، قول الله تعالى : { الرَّحْمَنْ * عَلَّمَ القُرْآنْ }. [ الرحمن : 1 ، 2 ] ، ولم يقـل : الرحمن خلق القرآن ، وقوله تعالى : { يس * والقُـرْآنِ الْحَكِيم } [ يس : 1 ، 2 ] ، ولم يقـل : يس والقرآن المخلوق .
فقال المعتصم : احبسوه ، فحُبِسَ وتفرَّقَ الناس .
فلمَّا كان مِنَ الغد جلس المعتصم مجلسه على كرسيه وقال : هاتوا أحمد بن حنبل ، فاجتمع الناس ، وسُمعت لهم ضجة في بغداد ، فلمَّا جيء به وقف بين يديه والسيوف قد جُردت ، والرماح قد ركزت ، والأتراس قد نُصبت ، والسياط قد طرحت ، فسأله المعتصم عمَّا يقول في القرآن ؟
قال : أقول : غير مخلوق .
وأحضر المعتصم له الفقهاء والقضاة فناظروه بحضرته في مدة ثلاثة أيام ، وهو يناظرهم ويظهر عليهم بالحُجج القاطعة ، ويقول : أنا رجـل عَلِمتُ علماً ولم أعلم فيه بهذا ، أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله ــ صلى الله عليه وسلم ــ حتى أقول به .
وكلما ناظروه وألزموه القول بخلق القرآن يقول لهم : كيف أقول ما لم يُقـل ؟ فقال المعتصم : قهرنا أحمد .
وكان من المتعصبين عليه محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم ، وأحمد بن دُوَاد القاضي ، وبشر المريسي ، وكانوا معتزلة قالوا بخلق القرآن ، فقال ابن دُوَاد وبشر للخليفة : اقـتله حتى نستريح منه ، هذا كافر مُضِـل .
فقال : إني عاهدتُ الله ألا أقـتله بسيف ولا آمر بقـتله بسيف ، فقالا له : اضربه بالسياط ، فقال المعتصم له : وقرابتي من رسول الله ــ صلَّى الله عليه وسلم ــ لأضربنَّك بالسياط أو تقول كما أقول ، فلم يُرهبه ذلك ، فقال المعتصم: أحضروا الجلادين ، فقال المعتصم لواحد منهم : بكم سوطٍ تـقـتله ؟
قال : بعشرة ، قال : خذه إليك ، فأُخْرِجَ الإمام أحمد من أثوابه ، وشُدَّ في يديه حبلان جديدان ، ولمَّا جيء بالسياط فنظر إليها المعتصم قال : ائـتوني بغيرها ، ثم قال للجلادين : تقدموا ، فلمَّا ضُرِبَ سوطاً..
قال : بسم الله ، فلمَّا ضُرِبَ الثاني قال : لا حول ولا قوةً إلاَّ بالله ، فلمَّا ضُرِبَ الثالث قال : القرآن كلام الله غير مخلوق ، فلمَّا ضُرِبَ الرابع قال : { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا } [ التوبة : 51 ] .
وجعل الرجل يتقدَّم إلى الإمام أحمد فيضربه سوطين ، فيحرضه المعتصم على التشديد في الضرب ، ثم يـتنحَّى ، ثم يتقدَّم الآخر فيضربه سوطين ، فلمَّا ضُرِبَ تسعة عشر سوطاً قام إليه المعتصم فقال له : يا أحمد علام تقتـل نفسك ؟ إني والله عليك لشفيق .
قال أحمد : فجعل عجيف ينخسني بقائمة سيفه وقال : تريد أنْ تغلب هؤلاء كلهم ؟ وجعل بعضهم يقول : ويلك ! الخليفة على رأسك قائم ، وقال بعضهم : يا أمير المؤمنين دمه في عنقي اقـتله ، وجعلوا يقولون : يا أمير المؤمنين : إنه صائم وأنت في الشمس قائم ، فقال لي : ويحك يا أحمد ما تقول ؟ فأقول : أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله ــ صلَّى الله عليه وسلم ــ حتى أقول به.
ثم رجع الخليفة فجلس ثم قال للجلاد : تقدمَّ ، وحَرَّضه على إيجاعه بالضرب .
قال الإمام أحمد : فذهب عقلي ، فأفقت بعد ذلك ، فإذا الأقياد قد أُطلِقت عنِّي ، فأتوني بسويق فقالوا لي : اشرب وتـقيأ ، فقلت : لستُ أُفطر ، ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم ، فحضرتُ صلاة الظهر ، فـتقدَّم ابن سماعة فصلى ، فلمَّا انفـتل من الصلاة قال لي : صليتَ والدمُ يسيل في ثوبك ، فقلت له : قد صلَّى عمر ــ رضي الله عنه ــ وجرحه يسيل دمـاً .
ولمَّا ولِّيَ الواثق بعد المعتصم ، لم يتعرض للإمام أحمد بن حنبل في شيء إلاَّ أنَّـه بعث عليه يقول : لا تساكنِّي بأرضٍ ، وقيل : أمره أنْ لا يخرج من بيتـه ، فصار الإمام أحمد يختفي في الأماكن ، ثم صار إلى منزله فاختـفى فيه عدة أشهر إلى أنْ مات الواثق .
وبعد ذلك تولَّى الخلافة المتوكل بعد الواثق ، فقد خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقاد ، وطعن عليهم فيما كانوا يقولونه من خلق القرآن ، ونهى عن الجدال والمناظرة في الأداء ، وعاقب عليه ، وأمر بإظهار الرواية للحديث ، فأظهر الله به السُـنَّـة ، وأمات به البدعة ، وكشف عن الخلق تلك الغُمَّـة ، وأنار به تلك الظُلمة ، وأطلق من كان اعـتُـقِـلَ بسبب القول بخلق القرآن ، ورفع المحنـة عن الناس .
* قال أحد الجلادين بعد أن تاب : لقد ضربت الإمام أحمد ( 80 ) جلدة ، لو ضربـتُها في فيل لسقـط .
فَرَحِمَ اللهُ هذا الإمام الجليل أحمد بن حنبل ، الذي ابتُـليَ بالضرَّاء فصبر ، وبالسرَّاء فشكر ، ووقف هذا الموقف الإيماني كأنـه جبلٌ شامخ ، تـتكسَّرُ عليه المِحَنْ ، وضَرَبَ لنا مثـلاً في الثبات علـى الحـق ...
ــ هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني ، أصله من البصرة ، ولد عام ( 164 ) هـ ، في بغداد وتوفي والده وهو صغير ، فنشأ يتيماً ، وتولَّت رعايته أمه .
وقفة : اليتيم قد يكون ناجـحـاً في حياته :
ــ نشأ الإمام أحمد ــ رحمه الله ــ في طلب العلم ، وبدأ في طلب الحديث وعمرهُ خمس عشرة سنة ، ورحل للعلم وعمرهُ عشرون سنة ، والـتقى بعدد من العلماء منهم : الشافعي في مكة ، ويحيى القطَّان ، ويزيد بن هارون في البصرة .
ورحل من العراق إلى اليمن مع يحيى بن مُعين ، فلمَّا وصلا إلى مكة وجدا عبد الرزاق الصنعاني أحد العلماء في اليمن ، فقال يحيى بن معين يا إمام يا أحمد : نحنُ الآن وجدنا الإمام ، ليس هناك ضرورة في أن نذهب إلى اليمن ، فقال الإمام أحمد : أنا نويت أن أُسافر إلى اليمن ، ثم رجع عبد الرزاق إلى اليمن ولَحِقـا به إلى اليمن ، وبَقِيَ الإمام أحمد في اليمن عشرة أشهر ، ثم رجع مشياً على الأقدام إلى العراق .
فلمَّا رجع رأوا عليه آثار التعب والسفر فقالوا له : ما الذي أصابك ؟ فقال الإمام أحمد : يهون هذا فيما استفدنا من عبد الرزاق .
* مِنْ عُلوا الهمَّـة عند الإمام أحمد وهو صغير ، يقول : ربما أردتُ الذهاب مبكراً في طلب الحديث قبل صلاة الفجر ، فتأخذ أمي بثوبي وتقول : حتى يؤذِّن المؤذِّن .
ثـناء العلمـاء على الإمـام أحمـد :
* قال عبد الرزاق شيخ الإمام أحمد : ما رأيت أحداً أفْـقَـه ولا أوْرع من أحمد.
* قالوا : إذا رأيتَ الرجل يحبُ الإمام أحمد فاعلم أنَّـه صاحب سنة .
* قال الشافعي وهو من شيوخ الإمام أحمد : خرجتُ من بغداد فما خلَّفتُ بها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفْـقَـه من أحمد بن حنبل.
* قال يحيى بن معين : أراد الناس أن يكونوا مثـل أحمد بن حنبل ! لا والله ، ما نقوى على ما يقوى عليه أحمد ، ولا على طريقة أحمد .
* كان الإمام أحمد يحفظ ( ألف ألف ) حديث ، يعني ( مليون ) حديث . أي مجموع الروايات والأسانيد والطرق للأحاديث .
* مِنْ حِفْـظِ الإمام أحمد للحديث كان يقول لابنـه : اقرأ عليَّ الحديث وأُخبركُ بالسند ، أو اقرأ عليَّ الإسناد لأخبرك بالحديث .
عِفَّـة الإمـام أحمـد :
* لمَّا رحل لطلب العلم لم يكن لديه مال ، فـكان يحمل البضائع على الجمال وعلى الحمير فيأخذ من هذا درهم ومن هذا درهم ، فيعيش بهذه الدراهم ، وفي الصباح يطلب العلم حتى يستغني عن سؤال الناس ، ( عِـفَّـة وطلب علم ) .
كان الإمـام أحمد يكره الشُهرة والثناء :
* دخل عليه عمُّـهُ وكان الإمام أحمد حزين ، فقال عمُّـهُ : ماذا بك ؟ فقال الإمام أحمد : طُوبى لِمَنْ أخْمَلَ الله ذكره ، ( يعني من لم يكن مشهوراً ، ولا يعلم به إلاَّ اللـه ) .
* وقال أيضاً : أريدُ أنْ أكونَ في شِعْبِ مكـة حتى لا أُعْـرَفْ .
* وكان إذا أراد أنْ يمشي يكره أن يتبعه أحدٌ من الناس .
العمل بالعلم :
* قال الإمام أحمد ما كتبتُ حديثـاً إلاَّ وقد عملتُ بـه , حتى أنَّ النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ احْـتَـجَـمَ وأعطى الحجَّامَ أجره ، فاحْـتَـجَـمَ الإمام أحمد وأعطى الحجَّام أجره .
أخلاق الإمـام أحمـد وآدابه :
* كان يحضر مجلس الإمام أحمد خمسة آلاف طالب ، ( 500 ) كانوا يكـتبون العلم ، والبقية ينظرون إلى أدبه وأخلاقه وسَمْتِـهِ .
* قال يحيى بن معين : ما رأيتُ مثـل أحمد ، صحبناه خمسين سنة فما افـتخر علينا بشيء ممَّا كان فيه من الخير .
* كان الإمام أحمد مائلاً إلى الفقـراء ، وكان فيه حِلْمْ ، ولم يكن بالعجول ، وكان كثير التواضع ، وكانت تعلوه السكينة والوقار .
* قال رجل للإمام أحمد : جزاك الله عن الإسلام خيراً ، فقال الإمام أحمد : بل جزى الله الإسلام عني خيراً ، مَنْ أنا ؟ وما أنا ؟
* كان الإمام أحمد شديد الحياء ، وأكرم الناس ، وأحسنهم عِشْرةً وأدباً ، لمْ يُسمع عنه إلاَّ المُذاكرة للحديث ، وذِكْر الصالحين ، وكان عليه وقارٌ وسكينة ، ولفْـظٌ حَسَنْ .
عبادة الإمـام أحمـد بن حنبل :
* كان يُصلِّي في اليوم والليلة ( 300 ) ركعـة ، فلمَّا سُجِنَ وضُرِبْ أصْـبَحَ لا يستطيع أنْ يُصلِّي إلاَّ ( 150 ) ركعة فـقـط .
* كان يَـخْـتِمُ القرآن كُلَّ أُسبوع .
* قال أحدُهُمْ : كُنْتُ أعرفُ أحمد بن حنبل وهو غُـلام كان يُحيي الليل بالصلاة .
* كان مِنْ عِبادته وزُهده وخوفه ، إذا ذَكَـرَ الموت خَـنَـقَـتْـهُ العَبْرة .
* كان يقول : الخوف يمنعني الطعام والشراب ، وإذا ذكرتُ الموت هانَ عليَّ كُلُّ أمْـرِ الدنيا .
* كان يصوم الإثـنين والخميس والأيام البيض ، فلمَّا رَجَعَ مِنْ السجن مُجْهَداً أَدْمَنَ الصيام حتى مات .
* حَجَّ على قَدَميـه مرتين .
* في مَرَضِ الموت بَالَ دَمَـاً كثيراً ، فقال الطبيب المُشْرف عليه : هذا رجُـلٌ قد فَـتَّتَ الخوف قلبـه .
أخبـار منوعـة في سيـرته :
* قابل الإمام أحمد بن حنبل أحدْ أبناء الإمام الشافعي فقال الإمام أحمد لابن الشافعي : أبُوكَ مِنَ السِّـتة الذينَ أدْعُـوا لهم في السَّحَـرْ .
* قيل للإمام أحمد :
كَمْ يكْفي الرجل حتى يُـفْـتِي ؟ مئـة ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد : لا .
قال السائل : مائـتين ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد : لا .
قال السائل : ثـلاثمائـة ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد : لا .
قال السائل : أربعمائـة ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد : لا .
قال السائل : خمسمائـة ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد : أَرْجُـوا .
حياته الزوجية :
تزوَّجَ وعُمْـرهُ أربعون سنة ، يقول عن زوجـتـه : مكـثـنا عِشرينَ سنة ما اختلفنا في كلمةٍ واحدة .
الفتنة التي تعرَّضَ لها الإمـام أحمـد :
لمَّا دعا المأمون الناس إلى القول بخلق القرآن ، أجابه أكثر العلماء والقضاة مُكْرهين ، واستمر الإمام أحمد ونفرٌ قليل على حمل راية السنة ، والدفاع عن معتقد أهل السنة والجماعة .
قال أبو جعفر الأنباري : لمَّا حُمِلَ الإمام أحمد بن حنبل إلى المأمون أُخْبِرتُ فعبرتُ الفُرات ، فإذا هو جالس في الخان ، فسلمتُ عليه ، فقال : يا أبا جعفر تعنَّيْت ؟ فقلتُ : ليس هذا عناء .
وقلتُ له : يا هذا أنت اليوم رأس الناس ، والناس يقتدون بكم ، فو الله لئن أجبتَ ليُجيبُنَّ بإجابتك خلقٌ كثير من خلقِ الله تعالى ، وإنْ أنتَ لم تُجِبْ ليمتنِعُنَّ خلقٌ مِنَ الناس كثير ، ومع هذا فإنَّ الرجل إنْ لم يقتلك فإنَّك تموت ، ولابدَّ مِنْ الموت ، فاتَّـقِ الله ولا تُجيبهم إلى شيء .
فجعل أحمد يبكي ويقول : ما شاء الله ، ما شاء الله . ثم سار أحمد إلى المأمون فبلغه توعد الخليفة له بالقتل إنْ لم يُجبه إلى القول بخلقِ القرآن ، فـتوجه الإمام أحمد بالدعاء إلى الله تعالى أنْ لا يجمع بـيـنه وبين الخليفة ، فبينما هو في الطريق قبل وصوله إلى الخليفة إذ جاءه الخبر بموت المأمون ، فَرُدَّ الإمام أحمد إلى بغداد وحُبِس ، ثم تولَّى الخلافة المعتصم ، فامتحن الإمام أحمد .
وكان مِنْ خبر المحنـة أنَّ المعتصم لمَّا قصد إحضار الإمام أحمد ازدحم الناس على بابه كيوم العيد ، وبُسِطَ بمجلسه بساطاً ، ونُصِبَ كرسيـاً جلس عليه ، ثم قال : أحضروا أحمد بن حنبل ، فأحضروه ، فلمَّا وقف بين يديه سَلَّمَ عليه ، فقال له : يا أحمد تكلم ولا تَـخَـفْ ، فقال الإمام أحمد : والله لقد دخلتُ عليك وما في قلبي مثـقال حـبَّـةٍ من الفزع ، فقال له المعتصم : ما تقول في القرآن ؟
فقال : كلام الله قديم غير مخلوق ، قال الله تعالى : { وَإنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ } [ التوبة : 6 ].
فقال له : عندك حجة غير هذا ؟ فقال : نعم ، قول الله تعالى : { الرَّحْمَنْ * عَلَّمَ القُرْآنْ }. [ الرحمن : 1 ، 2 ] ، ولم يقـل : الرحمن خلق القرآن ، وقوله تعالى : { يس * والقُـرْآنِ الْحَكِيم } [ يس : 1 ، 2 ] ، ولم يقـل : يس والقرآن المخلوق .
فقال المعتصم : احبسوه ، فحُبِسَ وتفرَّقَ الناس .
فلمَّا كان مِنَ الغد جلس المعتصم مجلسه على كرسيه وقال : هاتوا أحمد بن حنبل ، فاجتمع الناس ، وسُمعت لهم ضجة في بغداد ، فلمَّا جيء به وقف بين يديه والسيوف قد جُردت ، والرماح قد ركزت ، والأتراس قد نُصبت ، والسياط قد طرحت ، فسأله المعتصم عمَّا يقول في القرآن ؟
قال : أقول : غير مخلوق .
وأحضر المعتصم له الفقهاء والقضاة فناظروه بحضرته في مدة ثلاثة أيام ، وهو يناظرهم ويظهر عليهم بالحُجج القاطعة ، ويقول : أنا رجـل عَلِمتُ علماً ولم أعلم فيه بهذا ، أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله ــ صلى الله عليه وسلم ــ حتى أقول به .
وكلما ناظروه وألزموه القول بخلق القرآن يقول لهم : كيف أقول ما لم يُقـل ؟ فقال المعتصم : قهرنا أحمد .
وكان من المتعصبين عليه محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم ، وأحمد بن دُوَاد القاضي ، وبشر المريسي ، وكانوا معتزلة قالوا بخلق القرآن ، فقال ابن دُوَاد وبشر للخليفة : اقـتله حتى نستريح منه ، هذا كافر مُضِـل .
فقال : إني عاهدتُ الله ألا أقـتله بسيف ولا آمر بقـتله بسيف ، فقالا له : اضربه بالسياط ، فقال المعتصم له : وقرابتي من رسول الله ــ صلَّى الله عليه وسلم ــ لأضربنَّك بالسياط أو تقول كما أقول ، فلم يُرهبه ذلك ، فقال المعتصم: أحضروا الجلادين ، فقال المعتصم لواحد منهم : بكم سوطٍ تـقـتله ؟
قال : بعشرة ، قال : خذه إليك ، فأُخْرِجَ الإمام أحمد من أثوابه ، وشُدَّ في يديه حبلان جديدان ، ولمَّا جيء بالسياط فنظر إليها المعتصم قال : ائـتوني بغيرها ، ثم قال للجلادين : تقدموا ، فلمَّا ضُرِبَ سوطاً..
قال : بسم الله ، فلمَّا ضُرِبَ الثاني قال : لا حول ولا قوةً إلاَّ بالله ، فلمَّا ضُرِبَ الثالث قال : القرآن كلام الله غير مخلوق ، فلمَّا ضُرِبَ الرابع قال : { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا } [ التوبة : 51 ] .
وجعل الرجل يتقدَّم إلى الإمام أحمد فيضربه سوطين ، فيحرضه المعتصم على التشديد في الضرب ، ثم يـتنحَّى ، ثم يتقدَّم الآخر فيضربه سوطين ، فلمَّا ضُرِبَ تسعة عشر سوطاً قام إليه المعتصم فقال له : يا أحمد علام تقتـل نفسك ؟ إني والله عليك لشفيق .
قال أحمد : فجعل عجيف ينخسني بقائمة سيفه وقال : تريد أنْ تغلب هؤلاء كلهم ؟ وجعل بعضهم يقول : ويلك ! الخليفة على رأسك قائم ، وقال بعضهم : يا أمير المؤمنين دمه في عنقي اقـتله ، وجعلوا يقولون : يا أمير المؤمنين : إنه صائم وأنت في الشمس قائم ، فقال لي : ويحك يا أحمد ما تقول ؟ فأقول : أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله ــ صلَّى الله عليه وسلم ــ حتى أقول به.
ثم رجع الخليفة فجلس ثم قال للجلاد : تقدمَّ ، وحَرَّضه على إيجاعه بالضرب .
قال الإمام أحمد : فذهب عقلي ، فأفقت بعد ذلك ، فإذا الأقياد قد أُطلِقت عنِّي ، فأتوني بسويق فقالوا لي : اشرب وتـقيأ ، فقلت : لستُ أُفطر ، ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم ، فحضرتُ صلاة الظهر ، فـتقدَّم ابن سماعة فصلى ، فلمَّا انفـتل من الصلاة قال لي : صليتَ والدمُ يسيل في ثوبك ، فقلت له : قد صلَّى عمر ــ رضي الله عنه ــ وجرحه يسيل دمـاً .
ولمَّا ولِّيَ الواثق بعد المعتصم ، لم يتعرض للإمام أحمد بن حنبل في شيء إلاَّ أنَّـه بعث عليه يقول : لا تساكنِّي بأرضٍ ، وقيل : أمره أنْ لا يخرج من بيتـه ، فصار الإمام أحمد يختفي في الأماكن ، ثم صار إلى منزله فاختـفى فيه عدة أشهر إلى أنْ مات الواثق .
وبعد ذلك تولَّى الخلافة المتوكل بعد الواثق ، فقد خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقاد ، وطعن عليهم فيما كانوا يقولونه من خلق القرآن ، ونهى عن الجدال والمناظرة في الأداء ، وعاقب عليه ، وأمر بإظهار الرواية للحديث ، فأظهر الله به السُـنَّـة ، وأمات به البدعة ، وكشف عن الخلق تلك الغُمَّـة ، وأنار به تلك الظُلمة ، وأطلق من كان اعـتُـقِـلَ بسبب القول بخلق القرآن ، ورفع المحنـة عن الناس .
* قال أحد الجلادين بعد أن تاب : لقد ضربت الإمام أحمد ( 80 ) جلدة ، لو ضربـتُها في فيل لسقـط .
فَرَحِمَ اللهُ هذا الإمام الجليل أحمد بن حنبل ، الذي ابتُـليَ بالضرَّاء فصبر ، وبالسرَّاء فشكر ، ووقف هذا الموقف الإيماني كأنـه جبلٌ شامخ ، تـتكسَّرُ عليه المِحَنْ ، وضَرَبَ لنا مثـلاً في الثبات علـى الحـق ...
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
مقدمة كتاب الكافي في فقه الإمام أحمد
سْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وبه نستعين
قال الشيخ العالم العلامة الأوحد، الصدر الكامل شيخ الإسلام قدوة الأنام، موفق الدين أبو عبد الله أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
الحمد لله الواحد القهار العزيز الغفار، عالم خفيات الأسرار، غافر الخطيئات والأوزار، الذي امتنع عن تمثيل الأفكار وارتفع عن الوصف بالحد والمقدار، وأحاط علمه بما في لجج البحار، وله ما سكن في الليل والنهار، أنعم علينا بالنعم الغزار، ومن علينا بالنبي المختار، محمد سيد الأبرار، المبعوث من أطهر بيت في مضر بن نزار، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - الأطهار، وصحابته المصطفين الأخيار، صلاة تجوز حد الإكثار، دائمة بدوام الليل والنهار.
هذا كتاب استخرت الله تعالى في تأليفه على مذهب إمام الأئمة، ورباني الأمة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الفقه، توسطت فيه بين الإطالة والاختصار، وأومأت إلى أدلة مسائله مع الاقتصار، وعزيت أحاديثه إلى كتب أئمة الأمصار؛ ليكون الكتاب كافيا في فنه عما سواه، مقنعا لقارئه بما حواه، وافيا بالغرض من غير تطويل، جامعا بين بيان الحكم والدليل، وبالله أستعين، وعليه أعتمد، وإياه أسأل أن يعصمنا من الزلل، ويوفقنا لصالح القول والنية والعمل، ويجعل سعينا مقربا إليه، ونافعا لديه، وينفعنا والمسلمين بما جمعنا، ويبارك لنا فيما صنعنا، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
علمه بما في لجج البحار، وله ما سكن في الليل والنهار، أنعم علينا بالنعم الغزار، ومن علينا بالنبي المختار، محمد سيد الأبرار، المبعوث من أطهر بيت في مضر بن نزار، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - الأطهار، وصحابته المصطفين الأخيار، صلاة تجوز حد الإكثار، دائمة بدوام الليل والنهار.
هذا كتاب استخرت الله تعالى في تأليفه على مذهب إمام الأئمة، ورباني الأمة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الفقه، توسطت فيه بين الإطالة والاختصار، وأومأت إلى أدلة مسائله مع الاقتصار، وعزيت أحاديثه إلى كتب أئمة الأمصار؛ ليكون الكتاب كافيا في فنه عما سواه، مقنعا لقارئه بما حواه، وافيا بالغرض من غير تطويل، جامعا بين بيان الحكم والدليل، وبالله أستعين، وعليه أعتمد، وإياه أسأل أن يعصمنا من الزلل، ويوفقنا لصالح القول والنية والعمل، ويجعل سعينا مقربا إليه، ونافعا لديه، وينفعنا والمسلمين بما جمعنا، ويبارك لنا فيما صنعنا، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبه نستعين
قال الشيخ العالم العلامة الأوحد، الصدر الكامل شيخ الإسلام قدوة الأنام، موفق الدين أبو عبد الله أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
الحمد لله الواحد القهار العزيز الغفار، عالم خفيات الأسرار، غافر الخطيئات والأوزار، الذي امتنع عن تمثيل الأفكار وارتفع عن الوصف بالحد والمقدار، وأحاط علمه بما في لجج البحار، وله ما سكن في الليل والنهار، أنعم علينا بالنعم الغزار، ومن علينا بالنبي المختار، محمد سيد الأبرار، المبعوث من أطهر بيت في مضر بن نزار، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - الأطهار، وصحابته المصطفين الأخيار، صلاة تجوز حد الإكثار، دائمة بدوام الليل والنهار.
هذا كتاب استخرت الله تعالى في تأليفه على مذهب إمام الأئمة، ورباني الأمة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الفقه، توسطت فيه بين الإطالة والاختصار، وأومأت إلى أدلة مسائله مع الاقتصار، وعزيت أحاديثه إلى كتب أئمة الأمصار؛ ليكون الكتاب كافيا في فنه عما سواه، مقنعا لقارئه بما حواه، وافيا بالغرض من غير تطويل، جامعا بين بيان الحكم والدليل، وبالله أستعين، وعليه أعتمد، وإياه أسأل أن يعصمنا من الزلل، ويوفقنا لصالح القول والنية والعمل، ويجعل سعينا مقربا إليه، ونافعا لديه، وينفعنا والمسلمين بما جمعنا، ويبارك لنا فيما صنعنا، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
علمه بما في لجج البحار، وله ما سكن في الليل والنهار، أنعم علينا بالنعم الغزار، ومن علينا بالنبي المختار، محمد سيد الأبرار، المبعوث من أطهر بيت في مضر بن نزار، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - الأطهار، وصحابته المصطفين الأخيار، صلاة تجوز حد الإكثار، دائمة بدوام الليل والنهار.
هذا كتاب استخرت الله تعالى في تأليفه على مذهب إمام الأئمة، ورباني الأمة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الفقه، توسطت فيه بين الإطالة والاختصار، وأومأت إلى أدلة مسائله مع الاقتصار، وعزيت أحاديثه إلى كتب أئمة الأمصار؛ ليكون الكتاب كافيا في فنه عما سواه، مقنعا لقارئه بما حواه، وافيا بالغرض من غير تطويل، جامعا بين بيان الحكم والدليل، وبالله أستعين، وعليه أعتمد، وإياه أسأل أن يعصمنا من الزلل، ويوفقنا لصالح القول والنية والعمل، ويجعل سعينا مقربا إليه، ونافعا لديه، وينفعنا والمسلمين بما جمعنا، ويبارك لنا فيما صنعنا، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[كتاب الطهارة][باب حكم الماء الطاهر]
[كتاب الطهارة]
[باب حكم الماء الطاهر]
[كتاب] الطهارة باب حكم الماء الطاهر يجوز التطهر من الحدث والنجاسة بكل ماء نزل من السماء: من
المطر، وذوب الثلج والبرد؛ لقول الله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]
وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم طهرني بالماء والثلج والبرد» متفق عليه. وبكل ماء نبع من الأرض، من العيون، والبحار، والآبار، لما
روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سأل رجل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هو الطهور ماؤه الحل ميتته» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
و «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ من بئر بضاعة» رواه النسائي.
فصل:
فإن سخن بالشمس، أو بطاهر، لم تكره الطهارة به؛ لأنها صفة خلق عليها الماء، فأشبه ما لو برده، وإن سخن بنجاسة يحتمل وصولها إليه، ولم
يتحقق فهو طاهر؛ لأن الأصل طهارته، فلا تزول بالشك، ويكره استعماله لاحتمال النجاسة. وذكر أبو الخطاب رواية أخرى: أنه لا يكره؛ لأن الأصل عدم الكراهة. وإن كانت النجاسة لا تصل إليه غالباً، ففيه وجهان:
أحدهما: يكره؛ لأنه يحتمل النجاسة، فكره كالتي قبلها.
والثاني: لا يكره؛ لأن احتمال النجاسة بعيد، فأشبه غير المسخن.
وإن خالط الماء طاهر لم يغيره، لم يمنع الطهارة به؛
لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اغتسل هو وزوجته من قصعة فيها أثر العجين» رواه النسائي وابن ماجه والأثرم [و] لأن الماء باق على إطلاقه.
فإن كان معه ماء يكفيه لطهارته فزاده مائعاً لم يغيره، ثم [تطهر] به، صح لما ذكرنا.
وإن كان الماء لا يكفيه لطهارته، فكذلك؛ لأنه المائع استهلك في الماء كالتي قبلها.
وفيه وجه آخر: لا تجوز الطهارة به؛ لأنه أكملها بغير الماء، فأشبه ما لو غسل به بعض أعضائه.
وإن غير الطاهر صفة الماء لم يخل من أوجه أربعة:
أحدها: ما يوافق الماء في الطهورية، كالتراب، وما أصله الماء كالملح المنعقد من الماء، فلا يمنع الطهارة به؛ لأنه يوافق الماء في صفته، أشبه الثلج.
والثاني: ما لا يختلط بالماء كالدهن والكافور والعود، فلا يمنع؛ لأنه تغير عن مجاورة، فأشبه ما لو تغير الماء بجيفة بقربه.
الثالث: ما لا يمكن التحرز منه، كالطحلب وسائر ما ينبت في الماء، وما يجري عليه الماء من الكبريت والقار وغيرهما، وورق الشجر على السواقي والبرك، وما تلقيه الرياح والسيول في الماء من الحشيش والتبن ونحوهما، فلا يمنع؛ لأنه لا يمكن صون الماء عنه.
الرابع: ما سوى هذه الأنواع، كالزعفران والأشنان والملح المعدني، وما لا ينجس بالموت كالخنافس والزنابير، وما عفي عنه لمشقة التحرز إذا ألقي في الماء قصداً، فهذا إن غلب على أجزاء الماء مثل أن جعله صبغاً، أو حبراً، أو طبخ فيه، سلبه الطهورية
[بغير] خلاف؛ لأنه زال اسم الماء، فأشبه الخل.
وإن غير إحدى صفاته طعمه أو لونه أو ريحه، ولم يطبخ فيه، فأكثر الروايات عن أحمد أنه لا يمنع؛ لقول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] ، ولأنه خالطه طاهر لم يسلبه اسمه، ولا رقته، ولا جريانه، أشبه سائر الأنواع. وعنه: لا تجوز الطهارة به؛ لأنه سلب إطلاق اسم الماء، أشبه ماء الباقلاء المغلي، وهذا اختيار الخرقي، وأكثر الأصحاب.
فصل:
فإن استعمل في رفع الحدث، فهو طاهر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صب على جابر من وضوئه» رواه البخاري. ولأنه لم يصبه نجاسة فكان طاهراً، كالذي تبرد به.
وهل تزول طهوريته؟
فيه روايتان:
أشهرهما: زوالها؛ لأنه زال عنه إطلاق اسم الماء أشبه المتغير بالزعفران.
والثانية: لا تزول؛ لأنه استعمال لم يغير الماء، أشبه التبرد به.
وإن استعمل في طهارة مستحبة، كالتجديد وغسل الجمعة، والغسلة الثانية والثالثة، فهو باق على إطلاقه؛ لأنه لم يرفع حدثاً، ولم يزل نجساً.
وعنه: أنه غير مطهر؛ لأنه مستعمل في طهارة شرعية، أشبه المستعمل في رفع الحدث.
فصل:
وإن استعمل في غسل نجاسة، فانفصل متغيراً بها، أو قبل زوالها، فهو نجس؛ لأنه متغير بنجاسة، أو ملاق لنجاسة لم يطهرها، فكان نجساً، كما لو وردت عليه.
وما انفصل من الغسلة التي طهرت المحل غير متغير، فهو طاهر إن كان المحل أرضاً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أمر أن يصب على بول الأعرابي ذنوب من ماء» متفق عليه.
فلو كان المنفصل نجساً لكان تكثيراً للنجاسة.
وإن كان غير الأرض، ففيه وجهان:
أظهرهما: طهارته كالمنفصل عن الأرض، ولأن البلل الباقي في المحل طاهر، والمنفصل بعض المتصل، فكان حكمه حكمه.
والثاني: هو نجس؛ لأنه ماء يسير لاقى نجاسة فتنجس بها، كما لو وردت عليه.
فإن قلنا بطهارته، فهل يكون مطهراً؟ على وجهين بناء على الروايتين في المستعمل
في رفع الحدث، وقد مضى توجيههما.
فصل:
وإذا انغمس المحدث في ماء يسير ينوي به رفع الحدث، صار مستعملاً؛ لأنه استعمل في رفع الحدث، ولم يرتفع حدثه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه وهو جنب» رواه مسلم. والنهي يقتضي فساد المنهي عنه،
ولأنه بأول جزء انفصل منه صار مستعملاً، فلم يرتفع الحدث عن سائره.
فصل:
وما سوى الماء من المائعات كالخل والمرق والنبيذ، وماء الورد، والمعتصر من الشجر، لا يرفع حدثاً، ولا يزيل نجساً؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] فأوجب التيمم على من لم يجد ماء، «وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأسماء في دم الحيض يصيب الثوب: تحتيه ثم تقرصيه ثم تنضحيه بالماء ثم تصلي فيه» متفق عليه. فدل على أنه لا يجوز بغيره. والله أعلم.
[باب حكم الماء الطاهر]
[كتاب] الطهارة باب حكم الماء الطاهر يجوز التطهر من الحدث والنجاسة بكل ماء نزل من السماء: من
المطر، وذوب الثلج والبرد؛ لقول الله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]
وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم طهرني بالماء والثلج والبرد» متفق عليه. وبكل ماء نبع من الأرض، من العيون، والبحار، والآبار، لما
روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سأل رجل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هو الطهور ماؤه الحل ميتته» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
و «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ من بئر بضاعة» رواه النسائي.
فصل:
فإن سخن بالشمس، أو بطاهر، لم تكره الطهارة به؛ لأنها صفة خلق عليها الماء، فأشبه ما لو برده، وإن سخن بنجاسة يحتمل وصولها إليه، ولم
يتحقق فهو طاهر؛ لأن الأصل طهارته، فلا تزول بالشك، ويكره استعماله لاحتمال النجاسة. وذكر أبو الخطاب رواية أخرى: أنه لا يكره؛ لأن الأصل عدم الكراهة. وإن كانت النجاسة لا تصل إليه غالباً، ففيه وجهان:
أحدهما: يكره؛ لأنه يحتمل النجاسة، فكره كالتي قبلها.
والثاني: لا يكره؛ لأن احتمال النجاسة بعيد، فأشبه غير المسخن.
وإن خالط الماء طاهر لم يغيره، لم يمنع الطهارة به؛
لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اغتسل هو وزوجته من قصعة فيها أثر العجين» رواه النسائي وابن ماجه والأثرم [و] لأن الماء باق على إطلاقه.
فإن كان معه ماء يكفيه لطهارته فزاده مائعاً لم يغيره، ثم [تطهر] به، صح لما ذكرنا.
وإن كان الماء لا يكفيه لطهارته، فكذلك؛ لأنه المائع استهلك في الماء كالتي قبلها.
وفيه وجه آخر: لا تجوز الطهارة به؛ لأنه أكملها بغير الماء، فأشبه ما لو غسل به بعض أعضائه.
وإن غير الطاهر صفة الماء لم يخل من أوجه أربعة:
أحدها: ما يوافق الماء في الطهورية، كالتراب، وما أصله الماء كالملح المنعقد من الماء، فلا يمنع الطهارة به؛ لأنه يوافق الماء في صفته، أشبه الثلج.
والثاني: ما لا يختلط بالماء كالدهن والكافور والعود، فلا يمنع؛ لأنه تغير عن مجاورة، فأشبه ما لو تغير الماء بجيفة بقربه.
الثالث: ما لا يمكن التحرز منه، كالطحلب وسائر ما ينبت في الماء، وما يجري عليه الماء من الكبريت والقار وغيرهما، وورق الشجر على السواقي والبرك، وما تلقيه الرياح والسيول في الماء من الحشيش والتبن ونحوهما، فلا يمنع؛ لأنه لا يمكن صون الماء عنه.
الرابع: ما سوى هذه الأنواع، كالزعفران والأشنان والملح المعدني، وما لا ينجس بالموت كالخنافس والزنابير، وما عفي عنه لمشقة التحرز إذا ألقي في الماء قصداً، فهذا إن غلب على أجزاء الماء مثل أن جعله صبغاً، أو حبراً، أو طبخ فيه، سلبه الطهورية
[بغير] خلاف؛ لأنه زال اسم الماء، فأشبه الخل.
وإن غير إحدى صفاته طعمه أو لونه أو ريحه، ولم يطبخ فيه، فأكثر الروايات عن أحمد أنه لا يمنع؛ لقول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] ، ولأنه خالطه طاهر لم يسلبه اسمه، ولا رقته، ولا جريانه، أشبه سائر الأنواع. وعنه: لا تجوز الطهارة به؛ لأنه سلب إطلاق اسم الماء، أشبه ماء الباقلاء المغلي، وهذا اختيار الخرقي، وأكثر الأصحاب.
فصل:
فإن استعمل في رفع الحدث، فهو طاهر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صب على جابر من وضوئه» رواه البخاري. ولأنه لم يصبه نجاسة فكان طاهراً، كالذي تبرد به.
وهل تزول طهوريته؟
فيه روايتان:
أشهرهما: زوالها؛ لأنه زال عنه إطلاق اسم الماء أشبه المتغير بالزعفران.
والثانية: لا تزول؛ لأنه استعمال لم يغير الماء، أشبه التبرد به.
وإن استعمل في طهارة مستحبة، كالتجديد وغسل الجمعة، والغسلة الثانية والثالثة، فهو باق على إطلاقه؛ لأنه لم يرفع حدثاً، ولم يزل نجساً.
وعنه: أنه غير مطهر؛ لأنه مستعمل في طهارة شرعية، أشبه المستعمل في رفع الحدث.
فصل:
وإن استعمل في غسل نجاسة، فانفصل متغيراً بها، أو قبل زوالها، فهو نجس؛ لأنه متغير بنجاسة، أو ملاق لنجاسة لم يطهرها، فكان نجساً، كما لو وردت عليه.
وما انفصل من الغسلة التي طهرت المحل غير متغير، فهو طاهر إن كان المحل أرضاً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أمر أن يصب على بول الأعرابي ذنوب من ماء» متفق عليه.
فلو كان المنفصل نجساً لكان تكثيراً للنجاسة.
وإن كان غير الأرض، ففيه وجهان:
أظهرهما: طهارته كالمنفصل عن الأرض، ولأن البلل الباقي في المحل طاهر، والمنفصل بعض المتصل، فكان حكمه حكمه.
والثاني: هو نجس؛ لأنه ماء يسير لاقى نجاسة فتنجس بها، كما لو وردت عليه.
فإن قلنا بطهارته، فهل يكون مطهراً؟ على وجهين بناء على الروايتين في المستعمل
في رفع الحدث، وقد مضى توجيههما.
فصل:
وإذا انغمس المحدث في ماء يسير ينوي به رفع الحدث، صار مستعملاً؛ لأنه استعمل في رفع الحدث، ولم يرتفع حدثه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه وهو جنب» رواه مسلم. والنهي يقتضي فساد المنهي عنه،
ولأنه بأول جزء انفصل منه صار مستعملاً، فلم يرتفع الحدث عن سائره.
فصل:
وما سوى الماء من المائعات كالخل والمرق والنبيذ، وماء الورد، والمعتصر من الشجر، لا يرفع حدثاً، ولا يزيل نجساً؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] فأوجب التيمم على من لم يجد ماء، «وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأسماء في دم الحيض يصيب الثوب: تحتيه ثم تقرصيه ثم تنضحيه بالماء ثم تصلي فيه» متفق عليه. فدل على أنه لا يجوز بغيره. والله أعلم.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب الماء النجس]
[باب الماء النجس]
إذا وقع في الماء نجاسة فغيرته، نجس بغير خلاف؛ لأن تغيره لظهور أجزاء النجاسة فيه.
وإن لم تغيره لم يخل من حالين:
أحدهما: أن يكون قلتين فصاعداً، فهو طاهر لما روى ابن عمر رضي الله
عنهما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «سئل عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع، فقال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث» رواه الأئمة. وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وفي لفظ: «لم ينجسه شيء» وروى أبو سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قيل: يا رسول
الله، أتتوضأ من بئر بضاعة وهي: بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال: الماء طهور لا ينجسه شيء» . قال أحمد: حديث بئر بضاعة صحيح.
قال أبو داود: قدرت بئر بضاعة بردائي فوجدتها ستة أذرع، ولأن الماء الكثير لا يمكن حفظه في الأوعية، فعفي عنه كالذي لا يمكن نزحه.
الثاني: ما دون القلتين، ففيه روايتان:
أظهرهما: نجاسته؛ لأن قوله: «إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء» يدل على أن ما لم يبلغهما ينجس، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فليغسله سبع مرات» متفق عليه. فدل على نجاسته من غير تغيير، ولأن الماء اليسير يمكن حفظه [في الأوعية] فلم يعف عنه، وجعلت القلتان حداً بين القليل والكثير.
والثانية: هو طاهر؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الماء طهور لا ينجسه شيء» . وروى أبو
أمامة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الماء طهور لا ينجسه إلا ما غلب على لونه أو طعمه أو ريحه» رواه ابن ماجه. ولأنه لم يتغير بالنجاسة أشبه الكثير.
فصل:
وفي قدر القلتين روايتان:
إحداهما: [أنهما] أربعمائة رطل بالعراقي؛ لأنه روي عن ابن جريج ويحيى بن عقيل: أن القلة تأخذ قربتين، وقرب الحجاز كبار تسع كل قربة مائة رطل فصارت القلتان بهذه المقدمات أربعمائة رطل.
والثانية: هما خمسمائة رطل؛ لأنه يروى عن ابن جريج أنه قال: رأيت قلال هجر، فرأيت القلة منها تسع قربتين أو قربتين وشيئاً. فالاحتياط أن يجعل الشيء نصفاً فيكونان خمس قرب.
وهل ذلك تحديد أو تقريب؟
فيه وجهان:
أظهرهما: أنه تقريب، فلو نقص رطل أو رطلان لم يؤثر؛ لأن القربة إنما جعلت مائة رطل تقريباً، والشيء إنما جعل نصفاً احتياطاً، والغالب أنه يستعمل فيما دون النصف، وهذا لا تحديد فيه.
والثاني: أنه تحديد، فلو نقص شيئاً يسيراً تنجس بالنجاسة؛ لأنا جعلنا ذلك احتياطاً، وما وجب الاحتياط به صار فرضاً، كغسل جزء من الرأس مع الوجه.
فصل:
وجميع النجاسات في هذا سواء إلا بول الآدميين، وعذرتهم المائعة، فإن أكثر الروايات عن أحمد أنها تنجس الماء الكثير؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه» متفق عليه. إلا أن يبلغ حداً
فيه وجهان:
أظهرهما: أنه تقريب، فلو نقص رطل أو رطلان لم يؤثر؛ لأن القربة إنما جعلت مائة رطل تقريباً، والشيء إنما جعل نصفاً احتياطاً، والغالب أنه يستعمل فيما دون النصف، وهذا لا تحديد فيه.
والثاني: أنه تحديد، فلو نقص شيئاً يسيراً تنجس بالنجاسة؛ لأنا جعلنا ذلك احتياطاً، وما وجب الاحتياط به صار فرضاً، كغسل جزء من الرأس مع الوجه.
فصل:
وجميع النجاسات في هذا سواء إلا بول الآدميين، وعذرتهم المائعة، فإن أكثر الروايات عن أحمد أنها تنجس الماء الكثير؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه» متفق عليه. إلا أن يبلغ حداً
لا يمكن نزحه، كالغدران والمصانع بطريق مكة، فذلك الذي لا ينجسه شيء؛ لأن «نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن البول في الماء الدائم» ينصرف إلى ما كان في أرضه على عهده من آبار المدينة ونحوها.
وعنه أنه كسائر النجاسات لعموم الأحاديث التي ذكرناها، ولأن البول كغيره من النجاسات في سائر الأحكام، فكذلك في تنجيس الماء، وحديث البول لا بد من تخصيصه، فنخصه بخبر القلتين.
فصل:
وإذا وقعت النجاسة في ماء فغيرت بعضه فالمتغير نجس، وما لم يتغير إن بلغ قلتين فهو طاهر لعموم الأخبار فيه، ولأنه ماء كثير لم يتغير بالنجاسة، فكان طاهراً كما لو لم يتغير فيه شيء. وإن نقص عنهما فهو نجس؛ لأنه ماء يسير لاقى ماء نجسا فنجس به. فإذا كان بين الغديرين ساقية فيها ماء يتصل بهما فهما ماء واحد.
فصل:
فأما الماء الجاري إذا تغير بعض جريانه بالنجاسة، فالجرية المتغيرة نجسة، وما أمامها طاهر؛ لأنها لم تصل إليه، وما وراءها طاهر؛ لأنه لم يصل إليها. وإن لم يتغير منه شيء، احتمل أنه لا ينجس؛ لأنه ماء كثير يتصل بعضه ببعض فيدخل في عموم الأخبار السابقة أولاً، فلم ينجس كالراكد. ولو كان ماء الساقية راكداً لم ينجس إلا بالتغير، فالجاري أولى لأنه أحسن حالاً.
وجعل أصحابنا المتأخرون كل جرية كالماء المنفرد، فإذا كانت النجاسة في جرية تبلغ قلتين، فهي طاهرة ما لم تتغير. وإن كان دون القلتين فهي نجسة، وإن كانت النجاسة واقفة، فكل جرية تمر عليها إن بلغت قلتين، فهي طاهرة وإلا فهي نجسة. وإن اجتمعت الجريات، فكان في الماء قلتان طاهرتان، متصلة لاحقة، أو سابقة، فالمجتمع كله طاهر، إلا أن يتغير بالنجاسة؛ لأن القلتين تدفعان النجاسة عن نفسهما ويطهرهما ما اجتمع معهما، وإن لم يكن فالجميع نجس، والجرية ما يحيط بالنجاسة من فوقها وتحتها ويمينها وشمالها وما قرب منها مع ما يحاذي ذلك فيما بين طرفي النهر.
فصل:
وهو ثلاثة أقسام:
ما دون القلتين: فتطهيره بالمكاثرة بقلتين طاهرتين، إما أن ينبع فيه، أو يصب عليه، وسواء كان متغيراً فزال تغيره أو غير متغير فبقي بحاله.
الثاني: قدر القلتين، فتطهيره بالمكاثرة المذكورة، أو بزوال تغيره بمكثه.
الثالث: الزائد عن القلتين، فتطهيره بهذين الأمرين، أو بنزح يزيل تغيره ويبقى بعده قلتان، ولا يعتبر صب الماء دفعة واحدة؛ لأن ذلك يشق، لكن يصبه على حسب ما أمكنه من المتابعة، إما أن يجريه من ساقية، أو يصبه دلواً فدلواً. وإن كوثر بماء دون القلتين، أو طرح فيه تراب، أو غير الماء، لم يطهره؛ لأن ذلك لا يدفع النجاسة عن نفسه، فلم يطهره الماء، كما لو طرح فيه مسك، ويتخرج أن يطهره؛ لأنه تغير الماء، فأشبه ما لو زال بنفسه، ولأن علة التنجيس في الماء الكثير التغير، فإذا زالت زال حكمها، كما لو زال تغير المتغير بالطاهرات.
فأما ما دون القلتين، فلا يطهر بزوال التغير؛ لأن العلة فيه المخالطة لا التغير.
فصل:
فإن اجتمع نجس إلى نجس، فالجميع نجس وإن كثر؛ لأن اجتماع النجس إلى النجس لا يتولد بينهما طاهر، كالمتولد بين الكلب والخنزير، ويتخرج أن يطهر إذا زال التغير، وبلغ القلتين، لما ذكرناه، وإن اجتمع مستعمل إلى مثله، فهو باق على المنع، فإن اجتمع إلى طهور يبلغ قلتين، فالكل طهور؛ لأن القلتين تزيل حكم النجاسة، فالاستعمال أولى، فإن اجتمع مستعمل إلى طهور دون القلتين، وكان المستعمل يسيراً، عفي عنه؛ لأنه لو كان مائعاً غير الماء، عفي عنه، فالمستعمل أولى وإن كثر؛ بحيث لو كان مائعاً غلب على أجزاء الماء، منع كغيره من الطاهرات.
إذا وقع في الماء نجاسة فغيرته، نجس بغير خلاف؛ لأن تغيره لظهور أجزاء النجاسة فيه.
وإن لم تغيره لم يخل من حالين:
أحدهما: أن يكون قلتين فصاعداً، فهو طاهر لما روى ابن عمر رضي الله
عنهما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «سئل عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع، فقال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث» رواه الأئمة. وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وفي لفظ: «لم ينجسه شيء» وروى أبو سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قيل: يا رسول
الله، أتتوضأ من بئر بضاعة وهي: بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال: الماء طهور لا ينجسه شيء» . قال أحمد: حديث بئر بضاعة صحيح.
قال أبو داود: قدرت بئر بضاعة بردائي فوجدتها ستة أذرع، ولأن الماء الكثير لا يمكن حفظه في الأوعية، فعفي عنه كالذي لا يمكن نزحه.
الثاني: ما دون القلتين، ففيه روايتان:
أظهرهما: نجاسته؛ لأن قوله: «إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء» يدل على أن ما لم يبلغهما ينجس، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فليغسله سبع مرات» متفق عليه. فدل على نجاسته من غير تغيير، ولأن الماء اليسير يمكن حفظه [في الأوعية] فلم يعف عنه، وجعلت القلتان حداً بين القليل والكثير.
والثانية: هو طاهر؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الماء طهور لا ينجسه شيء» . وروى أبو
أمامة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الماء طهور لا ينجسه إلا ما غلب على لونه أو طعمه أو ريحه» رواه ابن ماجه. ولأنه لم يتغير بالنجاسة أشبه الكثير.
فصل:
وفي قدر القلتين روايتان:
إحداهما: [أنهما] أربعمائة رطل بالعراقي؛ لأنه روي عن ابن جريج ويحيى بن عقيل: أن القلة تأخذ قربتين، وقرب الحجاز كبار تسع كل قربة مائة رطل فصارت القلتان بهذه المقدمات أربعمائة رطل.
والثانية: هما خمسمائة رطل؛ لأنه يروى عن ابن جريج أنه قال: رأيت قلال هجر، فرأيت القلة منها تسع قربتين أو قربتين وشيئاً. فالاحتياط أن يجعل الشيء نصفاً فيكونان خمس قرب.
وهل ذلك تحديد أو تقريب؟
فيه وجهان:
أظهرهما: أنه تقريب، فلو نقص رطل أو رطلان لم يؤثر؛ لأن القربة إنما جعلت مائة رطل تقريباً، والشيء إنما جعل نصفاً احتياطاً، والغالب أنه يستعمل فيما دون النصف، وهذا لا تحديد فيه.
والثاني: أنه تحديد، فلو نقص شيئاً يسيراً تنجس بالنجاسة؛ لأنا جعلنا ذلك احتياطاً، وما وجب الاحتياط به صار فرضاً، كغسل جزء من الرأس مع الوجه.
فصل:
وجميع النجاسات في هذا سواء إلا بول الآدميين، وعذرتهم المائعة، فإن أكثر الروايات عن أحمد أنها تنجس الماء الكثير؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه» متفق عليه. إلا أن يبلغ حداً
فيه وجهان:
أظهرهما: أنه تقريب، فلو نقص رطل أو رطلان لم يؤثر؛ لأن القربة إنما جعلت مائة رطل تقريباً، والشيء إنما جعل نصفاً احتياطاً، والغالب أنه يستعمل فيما دون النصف، وهذا لا تحديد فيه.
والثاني: أنه تحديد، فلو نقص شيئاً يسيراً تنجس بالنجاسة؛ لأنا جعلنا ذلك احتياطاً، وما وجب الاحتياط به صار فرضاً، كغسل جزء من الرأس مع الوجه.
فصل:
وجميع النجاسات في هذا سواء إلا بول الآدميين، وعذرتهم المائعة، فإن أكثر الروايات عن أحمد أنها تنجس الماء الكثير؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه» متفق عليه. إلا أن يبلغ حداً
لا يمكن نزحه، كالغدران والمصانع بطريق مكة، فذلك الذي لا ينجسه شيء؛ لأن «نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن البول في الماء الدائم» ينصرف إلى ما كان في أرضه على عهده من آبار المدينة ونحوها.
وعنه أنه كسائر النجاسات لعموم الأحاديث التي ذكرناها، ولأن البول كغيره من النجاسات في سائر الأحكام، فكذلك في تنجيس الماء، وحديث البول لا بد من تخصيصه، فنخصه بخبر القلتين.
فصل:
وإذا وقعت النجاسة في ماء فغيرت بعضه فالمتغير نجس، وما لم يتغير إن بلغ قلتين فهو طاهر لعموم الأخبار فيه، ولأنه ماء كثير لم يتغير بالنجاسة، فكان طاهراً كما لو لم يتغير فيه شيء. وإن نقص عنهما فهو نجس؛ لأنه ماء يسير لاقى ماء نجسا فنجس به. فإذا كان بين الغديرين ساقية فيها ماء يتصل بهما فهما ماء واحد.
فصل:
فأما الماء الجاري إذا تغير بعض جريانه بالنجاسة، فالجرية المتغيرة نجسة، وما أمامها طاهر؛ لأنها لم تصل إليه، وما وراءها طاهر؛ لأنه لم يصل إليها. وإن لم يتغير منه شيء، احتمل أنه لا ينجس؛ لأنه ماء كثير يتصل بعضه ببعض فيدخل في عموم الأخبار السابقة أولاً، فلم ينجس كالراكد. ولو كان ماء الساقية راكداً لم ينجس إلا بالتغير، فالجاري أولى لأنه أحسن حالاً.
وجعل أصحابنا المتأخرون كل جرية كالماء المنفرد، فإذا كانت النجاسة في جرية تبلغ قلتين، فهي طاهرة ما لم تتغير. وإن كان دون القلتين فهي نجسة، وإن كانت النجاسة واقفة، فكل جرية تمر عليها إن بلغت قلتين، فهي طاهرة وإلا فهي نجسة. وإن اجتمعت الجريات، فكان في الماء قلتان طاهرتان، متصلة لاحقة، أو سابقة، فالمجتمع كله طاهر، إلا أن يتغير بالنجاسة؛ لأن القلتين تدفعان النجاسة عن نفسهما ويطهرهما ما اجتمع معهما، وإن لم يكن فالجميع نجس، والجرية ما يحيط بالنجاسة من فوقها وتحتها ويمينها وشمالها وما قرب منها مع ما يحاذي ذلك فيما بين طرفي النهر.
فصل:
وهو ثلاثة أقسام:
ما دون القلتين: فتطهيره بالمكاثرة بقلتين طاهرتين، إما أن ينبع فيه، أو يصب عليه، وسواء كان متغيراً فزال تغيره أو غير متغير فبقي بحاله.
الثاني: قدر القلتين، فتطهيره بالمكاثرة المذكورة، أو بزوال تغيره بمكثه.
الثالث: الزائد عن القلتين، فتطهيره بهذين الأمرين، أو بنزح يزيل تغيره ويبقى بعده قلتان، ولا يعتبر صب الماء دفعة واحدة؛ لأن ذلك يشق، لكن يصبه على حسب ما أمكنه من المتابعة، إما أن يجريه من ساقية، أو يصبه دلواً فدلواً. وإن كوثر بماء دون القلتين، أو طرح فيه تراب، أو غير الماء، لم يطهره؛ لأن ذلك لا يدفع النجاسة عن نفسه، فلم يطهره الماء، كما لو طرح فيه مسك، ويتخرج أن يطهره؛ لأنه تغير الماء، فأشبه ما لو زال بنفسه، ولأن علة التنجيس في الماء الكثير التغير، فإذا زالت زال حكمها، كما لو زال تغير المتغير بالطاهرات.
فأما ما دون القلتين، فلا يطهر بزوال التغير؛ لأن العلة فيه المخالطة لا التغير.
فصل:
فإن اجتمع نجس إلى نجس، فالجميع نجس وإن كثر؛ لأن اجتماع النجس إلى النجس لا يتولد بينهما طاهر، كالمتولد بين الكلب والخنزير، ويتخرج أن يطهر إذا زال التغير، وبلغ القلتين، لما ذكرناه، وإن اجتمع مستعمل إلى مثله، فهو باق على المنع، فإن اجتمع إلى طهور يبلغ قلتين، فالكل طهور؛ لأن القلتين تزيل حكم النجاسة، فالاستعمال أولى، فإن اجتمع مستعمل إلى طهور دون القلتين، وكان المستعمل يسيراً، عفي عنه؛ لأنه لو كان مائعاً غير الماء، عفي عنه، فالمستعمل أولى وإن كثر؛ بحيث لو كان مائعاً غلب على أجزاء الماء، منع كغيره من الطاهرات.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب الشك في الماء]
[باب الشك في الماء]
إذا شك في نجاسته لم يمنع الطهارة به، سواء وجده متغيراً أو غير متغير؛ لأن الأصل الطهارة، والتغير يحتمل أن يكون من مكثه، أو بما لا يمنع، فلا يزول بالشك.
وإن تيقن نجاسته، ثم شك في طهارته، فهو نجس؛ لأن الأصل نجاسته.
وإن علم وقوع النجاسة فيه، ثم وجده متغيراً تغيراً يجوز أن يكون منها، فهو نجس؛ لأن الظاهر تغيره بها.
وإن أخبره ثقة بنجاسة الماء، لم يقبل حين يعين سببها لاحتمال اعتقاده نجاسته بما لا ينجسه، كموت ذبابة فيه، وإن عين سببها، لزمه القبول، رجلاً كان أو امرأة، بصيراً أو أعمى؛ لأنه خبر ديني، فلزمه قبوله كرواية الحديث، ولأن للأعمى طريقاً إلى العلم بالحس والخبر، ولا يقبل خبر كافر، ولا صبي ولا مجنون ولا فاسق؛ لأن روايتهم غير مقبولة.
وإن أخبره أن كلباً ولغ في هذا الإناء دون هذا وقال آخر: إنما ولغ في هذا الإناء دون ذاك حكم بنجاستهما؛ لأنه يمكن صدقهما، لكونهما في وقتين. أو كانا كلبين. وإن عينا كلباً ووقتاً لا يمكن شربه فيه منهما، تعارضا وسقط قولهما؛ لأنه لا يمكن صدقهما، ولم يترجح أحدهما.
إذا شك في نجاسته لم يمنع الطهارة به، سواء وجده متغيراً أو غير متغير؛ لأن الأصل الطهارة، والتغير يحتمل أن يكون من مكثه، أو بما لا يمنع، فلا يزول بالشك.
وإن تيقن نجاسته، ثم شك في طهارته، فهو نجس؛ لأن الأصل نجاسته.
وإن علم وقوع النجاسة فيه، ثم وجده متغيراً تغيراً يجوز أن يكون منها، فهو نجس؛ لأن الظاهر تغيره بها.
وإن أخبره ثقة بنجاسة الماء، لم يقبل حين يعين سببها لاحتمال اعتقاده نجاسته بما لا ينجسه، كموت ذبابة فيه، وإن عين سببها، لزمه القبول، رجلاً كان أو امرأة، بصيراً أو أعمى؛ لأنه خبر ديني، فلزمه قبوله كرواية الحديث، ولأن للأعمى طريقاً إلى العلم بالحس والخبر، ولا يقبل خبر كافر، ولا صبي ولا مجنون ولا فاسق؛ لأن روايتهم غير مقبولة.
وإن أخبره أن كلباً ولغ في هذا الإناء دون هذا وقال آخر: إنما ولغ في هذا الإناء دون ذاك حكم بنجاستهما؛ لأنه يمكن صدقهما، لكونهما في وقتين. أو كانا كلبين. وإن عينا كلباً ووقتاً لا يمكن شربه فيه منهما، تعارضا وسقط قولهما؛ لأنه لا يمكن صدقهما، ولم يترجح أحدهما.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[فصل في اشتباه الماء النجس بالطاهر]
[فصل في اشتباه الماء النجس بالطاهر]
فصل:
وإن اشتبه الماء النجس بالطاهر، تيمم، ولم يجز له استعمال أحدهما، سواء كثر عدد الطاهر أو لم يكثر. وحكي عن أبي علي النجاد أنه إذا كثر عدد الطاهر، فله أن يتحرى ويتوضأ بالطاهر عنده؛ لأن احتمال إصابة الطاهر أكثر، والأول المذهب؛ لأنه اشتبه المباح بالمحظور فيما لا تبيحه الضرورة، فلم يجز التحري كما لو كان النجس بولاً، أو كثر عدد النجس أو اشتبهت أخته بأجنبيات، ولأنه لو توضأ بأحدهما ثم تغير اجتهاده في الوضوء الثاني، فتوضأ بالأول، لتوضأ بماء يعتقد نجاسته، وإن توضأ بالثاني من غير غسل أثر الأول، تنجس يقيناً، وإن غسل أثر الأول، نقض اجتهاده باجتهاده، وفيه حرج ينتفي بقوله سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] فتركهما أولاً أولى.
وهل يشترط لصحة التيمم إراقتهما أو خلطهما؟ فيه روايتان:
إحداهما: يشترط ليتحقق عدم الطاهر.
والثانية: لا يشترط؛ لأن الوصول إلى الطاهر متعذر، واستعماله ممنوع منه، فلم يشترط عدمه كماء الغير.
وإن اشتبه مطلق بمستعمل، توضأ من كل إناء وضوءاً لتحصل له الطهارة بيقين، وصلى صلاة واحدة. وإن اشتبهت الثياب الطاهرة بالنجسة، وأمكنه الصلاة في عدد النجس، وزيادة صلاة، لزمه ذلك؛ لأنه أمكنه تأدية فرضه يقيناً من غير مشقة، فلزمه كما لو اشتبه المطلق بالمستعمل، وإن كثر عدد النجس، فذكر ابن عقيل أنه يصلي في أحدها بالتحري؛ لأن اعتبار اليقين يشق، فاكتفي بالظاهر، كما لو اشتبهت القبلة.
فصل:
وإن اشتبه الماء النجس بالطاهر، تيمم، ولم يجز له استعمال أحدهما، سواء كثر عدد الطاهر أو لم يكثر. وحكي عن أبي علي النجاد أنه إذا كثر عدد الطاهر، فله أن يتحرى ويتوضأ بالطاهر عنده؛ لأن احتمال إصابة الطاهر أكثر، والأول المذهب؛ لأنه اشتبه المباح بالمحظور فيما لا تبيحه الضرورة، فلم يجز التحري كما لو كان النجس بولاً، أو كثر عدد النجس أو اشتبهت أخته بأجنبيات، ولأنه لو توضأ بأحدهما ثم تغير اجتهاده في الوضوء الثاني، فتوضأ بالأول، لتوضأ بماء يعتقد نجاسته، وإن توضأ بالثاني من غير غسل أثر الأول، تنجس يقيناً، وإن غسل أثر الأول، نقض اجتهاده باجتهاده، وفيه حرج ينتفي بقوله سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] فتركهما أولاً أولى.
وهل يشترط لصحة التيمم إراقتهما أو خلطهما؟ فيه روايتان:
إحداهما: يشترط ليتحقق عدم الطاهر.
والثانية: لا يشترط؛ لأن الوصول إلى الطاهر متعذر، واستعماله ممنوع منه، فلم يشترط عدمه كماء الغير.
وإن اشتبه مطلق بمستعمل، توضأ من كل إناء وضوءاً لتحصل له الطهارة بيقين، وصلى صلاة واحدة. وإن اشتبهت الثياب الطاهرة بالنجسة، وأمكنه الصلاة في عدد النجس، وزيادة صلاة، لزمه ذلك؛ لأنه أمكنه تأدية فرضه يقيناً من غير مشقة، فلزمه كما لو اشتبه المطلق بالمستعمل، وإن كثر عدد النجس، فذكر ابن عقيل أنه يصلي في أحدها بالتحري؛ لأن اعتبار اليقين يشق، فاكتفي بالظاهر، كما لو اشتبهت القبلة.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[أقسام الحيوان]
[أقسام الحيوان]
فصل:
وهو ثلاثة أقسام:
طاهر، وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: الآدمي متطهراً كان، أو محدثاً، لما روى أبو هريرة، قال: «لقيني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا جنب فانخنست منه، فاغتسلت، ثم جئت، فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ قلت: يا رسول الله ! كنت جنباً، فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال: سبحان الله! إن المؤمن ليس بنجس» متفق عليه. وعن عائشة: «أنها كانت تشرب من الإناء، وهي حائض فيأخذه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيضع فاه على موضع فيها فيشرب» رواه مسلم.
النوع الثاني: ما يؤكل لحمه، فهو طاهر بلا خلاف.
الثالث: ما لا يمكن التحرز منه، وهو السنور، وما دونها في الخلقة، لما روت كبشة بنت كعب بن مالك، قالت: «دخل علي أبو قتادة، فسكبت له وضوءاً، فجاءت هرة، فأصغى لها الإناء حتى شربت، فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟! قلت: نعم، قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. دل بمنطوقه على طهارة الهرة، وبتعليله على طهارة ما دونها، لكونه مما يطوف علينا، ولا يمكن التحرز عنه، كالفأرة ونحوها، فهذا سؤره وعرقه وغيرهما طاهر.
القسم الثاني: نجس، وهو: الكلب والخنزير، وما تولد منهما فسؤره نجس، وجميع أجزائه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبعاً»
متفق عليه. ولولا نجاسته ما وجب غسله، والخنزير شر منه؛ لأنه منصوص على تحريمه، ولا يباح إنقاذه بحال. وكذلك ما تولد من النجاسات كدود الكنيف وصراصره؛ لأنه متولد من نجاسة، فكان نجساً، كولد الكلب.
القسم الثالث: مختلف فيه، وهو ثلاثة أنواع كذلك:
أحدها: سائر سباع البهائم والطير، وفيهما روايتان:
إحداهما: أنها نجسة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سئل عن الماء وما ينوبه من السباع فقال: إذا كان الماء قلتين، لم ينجسه شيء» فمفهومه: أنه ينجس إذا لم يبلغهما، ولأنه حيوان حرم لخبثه يمكن التحرز عنه، فكان نجساً كالكلب.
والثانية: أنها طاهرة لما روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة، تردها السباع والكلاب والحمر، وعن الطهارة بها، فقال: لها ما أخذت في أفواهها، ولنا ما غبر طهور» رواه ابن ماجه.
ومر عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص بحوض، فقال عمرو: يا صاحب الحوض! ترد على حوضك السباع؟ فقال عمر: يا صاحب الحوض! لا تخبرنا، فإنا نرد عليها، وترد علينا. رواه مالك في الموطأ.
النوع الثاني: الحمار الأهلي والبغل، ففيهما روايتان:
إحداهما: نجاستهما، «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحمر يوم خيبر: إنها رجس» متفق عليه، ولما ذكرنا في السباع.
والثانية: أنها طاهرة؛ لأنه قال: إذا لم يجد غير سؤرهما، تيمم معه، ولو شك في نجاسته، لم يبح استعماله، ووجهها ما روى جابر أن رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سئل: أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: نعم، وبما أفضلت السباع كلها» رواه الشافعي في مسنده. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يركب الحمار والبغال، وكان الصحابة يقتنونها ويصحبونها في أسفارهم، فلو كانت نجسة، لبين لهم نجاستها، ولأنه لا يمكن التحرز عنها لمقتنيها، فأشبهت الهر ويحكم بطهارته، ويجوز بيعها، فأشبهت مأكول اللحم.
النوع الثالث: الجلالة وهي: التي أكثر علفها النجاسة، ففيها روايتان:
إحداهما: نجاستها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن ركوب الجلالة وألبانها» ، رواه أبو داود. ولأنها تنجست بالنجاسة، والريق لا يطهر.
والثانية: أنها طاهرة؛ لأن الضبع والهر يأكلان النجاسة، وهما طاهران.
وحكم أجزاء الحيوان من جلده وشعره وريشه حكم سؤره؛ لأنه من أجزائه، فأشبه فمه، فإذا وقع في الماء ثم خرج حياً، فحكم ذلك حكم سؤره.
قال أحمد في فأرة سقطت في ماء، ثم خرجت حية: لا بأس به.
فصل:
إذا أكلت الهرة نجاسة، ثم شربت من ماء بعد غيبتها، لم ينجس؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنها ليست بنجس» مع علمه بأكلها النجاسات. وإن شربت قبل الغيبة، فقال أبو الحسن الآمدي: ظاهر قول أصحابنا: طهارته؛ للخبر. ولأننا حكمنا بطهارتها بعد الغيبة، واحتمال طهارتها بها شك لا يزيل يقين النجاسة.
وقال القاضي: ينجس؛ لأن أثر النجاسة في فمها، بخلاف ما بعد الغيبة، فإنه يحتمل أن تشرب من ماء يطهر فاها، فلا ينجس ما تيقنا طهارته بالشك.
فصل:
وهو ثلاثة أقسام:
طاهر، وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: الآدمي متطهراً كان، أو محدثاً، لما روى أبو هريرة، قال: «لقيني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا جنب فانخنست منه، فاغتسلت، ثم جئت، فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ قلت: يا رسول الله ! كنت جنباً، فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال: سبحان الله! إن المؤمن ليس بنجس» متفق عليه. وعن عائشة: «أنها كانت تشرب من الإناء، وهي حائض فيأخذه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيضع فاه على موضع فيها فيشرب» رواه مسلم.
النوع الثاني: ما يؤكل لحمه، فهو طاهر بلا خلاف.
الثالث: ما لا يمكن التحرز منه، وهو السنور، وما دونها في الخلقة، لما روت كبشة بنت كعب بن مالك، قالت: «دخل علي أبو قتادة، فسكبت له وضوءاً، فجاءت هرة، فأصغى لها الإناء حتى شربت، فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟! قلت: نعم، قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. دل بمنطوقه على طهارة الهرة، وبتعليله على طهارة ما دونها، لكونه مما يطوف علينا، ولا يمكن التحرز عنه، كالفأرة ونحوها، فهذا سؤره وعرقه وغيرهما طاهر.
القسم الثاني: نجس، وهو: الكلب والخنزير، وما تولد منهما فسؤره نجس، وجميع أجزائه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبعاً»
متفق عليه. ولولا نجاسته ما وجب غسله، والخنزير شر منه؛ لأنه منصوص على تحريمه، ولا يباح إنقاذه بحال. وكذلك ما تولد من النجاسات كدود الكنيف وصراصره؛ لأنه متولد من نجاسة، فكان نجساً، كولد الكلب.
القسم الثالث: مختلف فيه، وهو ثلاثة أنواع كذلك:
أحدها: سائر سباع البهائم والطير، وفيهما روايتان:
إحداهما: أنها نجسة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سئل عن الماء وما ينوبه من السباع فقال: إذا كان الماء قلتين، لم ينجسه شيء» فمفهومه: أنه ينجس إذا لم يبلغهما، ولأنه حيوان حرم لخبثه يمكن التحرز عنه، فكان نجساً كالكلب.
والثانية: أنها طاهرة لما روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة، تردها السباع والكلاب والحمر، وعن الطهارة بها، فقال: لها ما أخذت في أفواهها، ولنا ما غبر طهور» رواه ابن ماجه.
ومر عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص بحوض، فقال عمرو: يا صاحب الحوض! ترد على حوضك السباع؟ فقال عمر: يا صاحب الحوض! لا تخبرنا، فإنا نرد عليها، وترد علينا. رواه مالك في الموطأ.
النوع الثاني: الحمار الأهلي والبغل، ففيهما روايتان:
إحداهما: نجاستهما، «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحمر يوم خيبر: إنها رجس» متفق عليه، ولما ذكرنا في السباع.
والثانية: أنها طاهرة؛ لأنه قال: إذا لم يجد غير سؤرهما، تيمم معه، ولو شك في نجاسته، لم يبح استعماله، ووجهها ما روى جابر أن رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سئل: أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: نعم، وبما أفضلت السباع كلها» رواه الشافعي في مسنده. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يركب الحمار والبغال، وكان الصحابة يقتنونها ويصحبونها في أسفارهم، فلو كانت نجسة، لبين لهم نجاستها، ولأنه لا يمكن التحرز عنها لمقتنيها، فأشبهت الهر ويحكم بطهارته، ويجوز بيعها، فأشبهت مأكول اللحم.
النوع الثالث: الجلالة وهي: التي أكثر علفها النجاسة، ففيها روايتان:
إحداهما: نجاستها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن ركوب الجلالة وألبانها» ، رواه أبو داود. ولأنها تنجست بالنجاسة، والريق لا يطهر.
والثانية: أنها طاهرة؛ لأن الضبع والهر يأكلان النجاسة، وهما طاهران.
وحكم أجزاء الحيوان من جلده وشعره وريشه حكم سؤره؛ لأنه من أجزائه، فأشبه فمه، فإذا وقع في الماء ثم خرج حياً، فحكم ذلك حكم سؤره.
قال أحمد في فأرة سقطت في ماء، ثم خرجت حية: لا بأس به.
فصل:
إذا أكلت الهرة نجاسة، ثم شربت من ماء بعد غيبتها، لم ينجس؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنها ليست بنجس» مع علمه بأكلها النجاسات. وإن شربت قبل الغيبة، فقال أبو الحسن الآمدي: ظاهر قول أصحابنا: طهارته؛ للخبر. ولأننا حكمنا بطهارتها بعد الغيبة، واحتمال طهارتها بها شك لا يزيل يقين النجاسة.
وقال القاضي: ينجس؛ لأن أثر النجاسة في فمها، بخلاف ما بعد الغيبة، فإنه يحتمل أن تشرب من ماء يطهر فاها، فلا ينجس ما تيقنا طهارته بالشك.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[فصل في أقسام الحيوان الطاهر]
[فصل في أقسام الحيوان الطاهر]
فصل:
والحيوان الطاهر على أربعة أضرب:
أحدها: ما تباح ميتته، كالسمك ونحوه، والجراد وشبهه فميتته طاهرة؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والحل ميتته» .
والثاني: ما ليست له نفس سائلة، كالذباب والعقارب والخنافس، فهو طاهر حياً وميتاً، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم، فامقلوه، فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء» رواه البخاري بمعناه فأمر بمقله؛ ليكون شفاء
لنا إذا أكلنا، ولأنه لا نفس له سائلة، أشبه دود الخل إذا مات فيه.
والثالث: الآدمي، ففيه روايتان:
أظهرهما: أنه طاهر بعد الموت، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن المؤمن ليس بنجس» ولأنه لو كان نجس العين، لم يشرع غسله، كسائر النجاسات.
والثانية: هو نجس، قال أحمد في صبي مات في بئر: تنزح، وذلك لأنه حيوان له نفس سائلة أشبه الشاة.
والرابع: ما عدا ما ذكرنا، مما له نفس سائلة لا تباح ميتته، فميتته نجسة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وقوله [تعالى] : {إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] .
فصل:
والحيوان الطاهر على أربعة أضرب:
أحدها: ما تباح ميتته، كالسمك ونحوه، والجراد وشبهه فميتته طاهرة؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والحل ميتته» .
والثاني: ما ليست له نفس سائلة، كالذباب والعقارب والخنافس، فهو طاهر حياً وميتاً، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم، فامقلوه، فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء» رواه البخاري بمعناه فأمر بمقله؛ ليكون شفاء
لنا إذا أكلنا، ولأنه لا نفس له سائلة، أشبه دود الخل إذا مات فيه.
والثالث: الآدمي، ففيه روايتان:
أظهرهما: أنه طاهر بعد الموت، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن المؤمن ليس بنجس» ولأنه لو كان نجس العين، لم يشرع غسله، كسائر النجاسات.
والثانية: هو نجس، قال أحمد في صبي مات في بئر: تنزح، وذلك لأنه حيوان له نفس سائلة أشبه الشاة.
والرابع: ما عدا ما ذكرنا، مما له نفس سائلة لا تباح ميتته، فميتته نجسة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وقوله [تعالى] : {إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] .
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب الآنية]
[باب الآنية]
وهي ضربان:
مباح من غير كراهة: وهو إناء طاهر من غير جنس الأثمان، ثميناً كان أو
غير ثمين، كالياقوت والبلور والعقيق والخزف والخشب والجلود والصفر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغتسل من جفنة، وتوضأ من تور من صفر، وتور من حجارة، ومن قربة وإداوة.
والثاني: محرم، وهو آنية الذهب والفضة، لما روى حذيفة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا من صحافهما، فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة» ، وقال: «الذي يشرب في آنية الذهب والفضة، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» متفق عليهما. فتوعد عليه بالنار، فدل على تحريمه، ولأن فيه سرفاً وخيلاء، وكسر قلوب الفقراء، ولا يحصل هذا في [ثمين] الجواهر؛ لأنه لا يعرفها إلا خواص الناس، ويحرم اتخاذها، لأن ما حرم استعماله، حرم اتخاذه [على] هيئة الاستعمال، كالطنبور، ويستوي في ذلك الرجال والنساء، لعموم الخبر. وإنما أبيح للنساء التحلي للحاجة إلى الزينة للأزواج، فما عداه تجب التسوية فيه بين الجميع، وما ضبب بالفضة أبيح إذا كان يسيراً، لما روى أنس «أن
قدح الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة.» رواه البخاري.
ولا يباح الكثير؛ لأن فيه سرفاً، فأشبه الإناء الكامل، واشترط أبو الخطاب أن يكون لحاجة؛ لأن الرخصة وردت في شعب القدح، وهو لحاجة. ومعنى الحاجة أن تدعو الحاجة إلى ما فعله به، وإن كان غيره يقوم مقامه. وقال القاضي: يباح من غير حاجة لأنه يسير، إلا أن أحمد كره الحلقة؛ لأنها تستعمل، وتكره مباشرة الفضة بالاستعمال، فأما الذهب، فلا يباح إلا في الضرورة، كأنف الذهب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رخص لعرفجة بن سعد لما قطع أنفه يوم الكلاب واتخذ أنفاً من ورق فأنتن عليه، فأمره أن يتخذ أنفاً من الذهب» . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ويباح ربط أسنانه بالذهب إذا خشي سقوطها؛ لأنه في معنى أنف الذهب. وذكر أبو بكر في " التنبيه " أنه يباح يسير الذهب. وقال أبو الخطاب: ولا بأس بقبيعة السيف بالذهب؛ لأن سيف عمر كان فيه سبائك من ذهب. ذكره الإمام أحمد. وعن مزيدة العصري قال: «دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الفتح وعلى سيفه ذهب وفضة» . رواه الترمذي، وقال: هو حديث غريب.
وهي ضربان:
مباح من غير كراهة: وهو إناء طاهر من غير جنس الأثمان، ثميناً كان أو
غير ثمين، كالياقوت والبلور والعقيق والخزف والخشب والجلود والصفر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغتسل من جفنة، وتوضأ من تور من صفر، وتور من حجارة، ومن قربة وإداوة.
والثاني: محرم، وهو آنية الذهب والفضة، لما روى حذيفة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا من صحافهما، فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة» ، وقال: «الذي يشرب في آنية الذهب والفضة، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» متفق عليهما. فتوعد عليه بالنار، فدل على تحريمه، ولأن فيه سرفاً وخيلاء، وكسر قلوب الفقراء، ولا يحصل هذا في [ثمين] الجواهر؛ لأنه لا يعرفها إلا خواص الناس، ويحرم اتخاذها، لأن ما حرم استعماله، حرم اتخاذه [على] هيئة الاستعمال، كالطنبور، ويستوي في ذلك الرجال والنساء، لعموم الخبر. وإنما أبيح للنساء التحلي للحاجة إلى الزينة للأزواج، فما عداه تجب التسوية فيه بين الجميع، وما ضبب بالفضة أبيح إذا كان يسيراً، لما روى أنس «أن
قدح الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة.» رواه البخاري.
ولا يباح الكثير؛ لأن فيه سرفاً، فأشبه الإناء الكامل، واشترط أبو الخطاب أن يكون لحاجة؛ لأن الرخصة وردت في شعب القدح، وهو لحاجة. ومعنى الحاجة أن تدعو الحاجة إلى ما فعله به، وإن كان غيره يقوم مقامه. وقال القاضي: يباح من غير حاجة لأنه يسير، إلا أن أحمد كره الحلقة؛ لأنها تستعمل، وتكره مباشرة الفضة بالاستعمال، فأما الذهب، فلا يباح إلا في الضرورة، كأنف الذهب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رخص لعرفجة بن سعد لما قطع أنفه يوم الكلاب واتخذ أنفاً من ورق فأنتن عليه، فأمره أن يتخذ أنفاً من الذهب» . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ويباح ربط أسنانه بالذهب إذا خشي سقوطها؛ لأنه في معنى أنف الذهب. وذكر أبو بكر في " التنبيه " أنه يباح يسير الذهب. وقال أبو الخطاب: ولا بأس بقبيعة السيف بالذهب؛ لأن سيف عمر كان فيه سبائك من ذهب. ذكره الإمام أحمد. وعن مزيدة العصري قال: «دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الفتح وعلى سيفه ذهب وفضة» . رواه الترمذي، وقال: هو حديث غريب.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[التطهر من آنية الذهب والفضة][فصل في استعمال آنية أهل الكتاب]
[التطهر من آنية الذهب والفضة]
فصل:
فإن تطهر من آنية الذهب والفضة، ففيه وجهان:
أحدهما: تصح طهارته، وهذا قول الخرقي؛ لأن الوضوء جريان الماء على العضو وليس بمعصية، وإنما المعصية استعمال الإناء.
والثاني: لا تصح، اختاره أبو بكر؛ لأنه استعمال للمعصية في العبادة، أشبه
[التطهر من آنية الذهب والفضة]
فصل:
فإن تطهر من آنية الذهب والفضة، ففيه وجهان:
أحدهما: تصح طهارته، وهذا قول الخرقي؛ لأن الوضوء جريان الماء على العضو وليس بمعصية، وإنما المعصية استعمال الإناء.
والثاني: لا تصح، اختاره أبو بكر؛ لأنه استعمال للمعصية في العبادة، أشب
[فصل في استعمال آنية أهل الكتاب]
فصل:
وهم ضربان:
أحدهما: من لا يستحل الميتة كاليهود، فأوانيهم طاهرة [مباحة الاستعمال] ؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أضافه يهودي بخبز وإهالة سنخة فأجابه» ، رواه أحمد في المسند وتوضأ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من جرة نصرانية.
والثاني: من يستحل الميتات والنجاسات، كعبد الأوثان والمجوس، وبعض النصارى، فلما لم يستعملوه من آنيتهم، فهو طاهر، وما استعملوه فهو نجس، لما روى أبو ثعلبة الخشني [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: «قلت: يا رسول الله، إنا بأرض قوم أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ قال: لا تأكلوا فيها، إلا أن لا تجدوا غيرها، فاغسلوها، ثم
كلوا فيها» متفق عليه. وما شك في استعماله فهو طاهر، وذكر أبو الخطاب أن أواني الكفار كلها طاهرة.
وفي كراهية استعمالها روايتان:
إحداهما: تكره، لهذا الحديث.
والثانية: لا تكره؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكل فيها.
فصل:
فإن تطهر من آنية الذهب والفضة، ففيه وجهان:
أحدهما: تصح طهارته، وهذا قول الخرقي؛ لأن الوضوء جريان الماء على العضو وليس بمعصية، وإنما المعصية استعمال الإناء.
والثاني: لا تصح، اختاره أبو بكر؛ لأنه استعمال للمعصية في العبادة، أشبه
[التطهر من آنية الذهب والفضة]
فصل:
فإن تطهر من آنية الذهب والفضة، ففيه وجهان:
أحدهما: تصح طهارته، وهذا قول الخرقي؛ لأن الوضوء جريان الماء على العضو وليس بمعصية، وإنما المعصية استعمال الإناء.
والثاني: لا تصح، اختاره أبو بكر؛ لأنه استعمال للمعصية في العبادة، أشب
[فصل في استعمال آنية أهل الكتاب]
فصل:
وهم ضربان:
أحدهما: من لا يستحل الميتة كاليهود، فأوانيهم طاهرة [مباحة الاستعمال] ؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أضافه يهودي بخبز وإهالة سنخة فأجابه» ، رواه أحمد في المسند وتوضأ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من جرة نصرانية.
والثاني: من يستحل الميتات والنجاسات، كعبد الأوثان والمجوس، وبعض النصارى، فلما لم يستعملوه من آنيتهم، فهو طاهر، وما استعملوه فهو نجس، لما روى أبو ثعلبة الخشني [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: «قلت: يا رسول الله، إنا بأرض قوم أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ قال: لا تأكلوا فيها، إلا أن لا تجدوا غيرها، فاغسلوها، ثم
كلوا فيها» متفق عليه. وما شك في استعماله فهو طاهر، وذكر أبو الخطاب أن أواني الكفار كلها طاهرة.
وفي كراهية استعمالها روايتان:
إحداهما: تكره، لهذا الحديث.
والثانية: لا تكره؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكل فيها.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[فصل في حكم ثياب الكفار] / [فصل في حكم طهارة الميتة]
[فصل في حكم ثياب الكفار]
فأما ثياب الكفار، فما لم يلبسوه، أو علا من ثيابهم كالعمامة والطيلسان، فهو طاهر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه كانوا يلبسون ثياباً من نسج الكفار. وما لاقى عوراتهم، فقال أحمد: أحب إلي أن يعيد إذا صلى فيها، فيحتمل وجوب الإعادة، وهو قول القاضي؛ لأنهم يتعبدون بالنجاسة، ويحتمل أن لا تجب، وهو قول أبي الخطاب؛ لأن الأصل الطهارة، فلا تزول بالشك.
[فصل في حكم طهارة الميتة]
فصل:
وجلود الميتة نجسة، ولا تطهر بالدباغ في ظاهر المذهب؛ لقول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] والجلد جزء منها. وروى أحمد عن يحيى بن سعيد عن شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن عبد الله بن عكيم قال: «قرئ علينا كتاب رسول الله في أرض جهينة، وأنا غلام شاب: أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» .
قال أحمد: ما أصلح إسناده، [تعجب منه] . ولأنه جزء من الميتة، نجس بالموت، فلم يطهر كاللحم. وعنه: يطهر منها جلد ما كان طاهراً حال الحياة، لما روى ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وجد شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة، فقال: ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به؟ قالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها» متفق عليه.
ولا يطهر جلد ما كان نجساً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن جلود السباع وعن مياثر النمور» رواه الأثرم. ولأن أثر الدبغ في إزالة نجاسة حادثة بالموت، فيعود الجلد إلى ما كان عليه قبل الموت، كجلد الخنزير.
وهل يعتبر في طهارة الجلد المدبوغ أن يغسل بعد دبغه؟ على وجهين:
أحدهما: لا يعتبر، لما روى ابن عباس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» متفق عليه.
والثاني: يعتبر؛ لأن الجلد محل النجس، فلا يطهر بغير الماء، كالثوب.
فصل:
وعظم الميتة وقرنها وظفرها وحافرها نجس لا يطهر بحال؛ لأنه جزء من
الميتة فيدخل في عموم قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] والدليل على أنه منها قول الله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] . ولأن دليل الحياة الإحساس والألم، والضرس يألم ويحس بالضرس، برد الماء وحرارته، وما فيه حياة يحله الموت، فينجس به كاللحم.
فصل:
وصوفها ووبرها وشعرها وريشها طاهر لأنه لا روح له، فلا يحله الموت؛ لأن الحيوان لا يألم بأخذه، ولا يحس، ولأنه لو كانت فيه حياة لنجس بفصله من الحيوان في حياته، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبين من حي فهو ميت» رواه أبو داود بمعناه.
فصل:
وحكم شعر الحيوان وريشه حكمه في الطهارة والنجاسة، متصلاً كان أو منفصلاً في حياة الحيوان أو موته، فشعر الآدمي طاهر؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناول أبا طلحة شعره فقسمه بين الناس» . رواه الترمذي، وقال: حديث حسن واتفق على معناه. ولولا طهارته لما فعل، ولأنه شعر حيوان طاهر، فأشبه شعر الغنم.
فصل:
ولبن الميتة نجس؛ لأنه مائع في وعاء نجس، وإنفحتها نجسة لذلك، وعنه: أنها طاهرة؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أكلوا من جبن المجوس، وهو يصنع بالإنفحة، وذبائحهم ميتة. فأما البيضة: فإن صلب قشرها، لم تنجس، كما لو وقعت في شيء نجس، وإن لم يصلب، فهي كاللبن.
وقال ابن عقيل: لا تنجس إذا كان عليها جلدة تمنع وصول النجاسة إلى داخلها.
فصل:
وكل ذبح لا يفيد إباحة اللحم لا يفيد طهارة المذبوح، كذبح المجوسي، ومتروك التسمية، وذبح المحرم للصيد، وذبح الحيوان غير المأكول؛ لأنه ذبح غير مشروع، فلم يطهر كذبح المرتد.
فأما ثياب الكفار، فما لم يلبسوه، أو علا من ثيابهم كالعمامة والطيلسان، فهو طاهر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه كانوا يلبسون ثياباً من نسج الكفار. وما لاقى عوراتهم، فقال أحمد: أحب إلي أن يعيد إذا صلى فيها، فيحتمل وجوب الإعادة، وهو قول القاضي؛ لأنهم يتعبدون بالنجاسة، ويحتمل أن لا تجب، وهو قول أبي الخطاب؛ لأن الأصل الطهارة، فلا تزول بالشك.
[فصل في حكم طهارة الميتة]
فصل:
وجلود الميتة نجسة، ولا تطهر بالدباغ في ظاهر المذهب؛ لقول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] والجلد جزء منها. وروى أحمد عن يحيى بن سعيد عن شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن عبد الله بن عكيم قال: «قرئ علينا كتاب رسول الله في أرض جهينة، وأنا غلام شاب: أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» .
قال أحمد: ما أصلح إسناده، [تعجب منه] . ولأنه جزء من الميتة، نجس بالموت، فلم يطهر كاللحم. وعنه: يطهر منها جلد ما كان طاهراً حال الحياة، لما روى ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وجد شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة، فقال: ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به؟ قالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها» متفق عليه.
ولا يطهر جلد ما كان نجساً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن جلود السباع وعن مياثر النمور» رواه الأثرم. ولأن أثر الدبغ في إزالة نجاسة حادثة بالموت، فيعود الجلد إلى ما كان عليه قبل الموت، كجلد الخنزير.
وهل يعتبر في طهارة الجلد المدبوغ أن يغسل بعد دبغه؟ على وجهين:
أحدهما: لا يعتبر، لما روى ابن عباس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» متفق عليه.
والثاني: يعتبر؛ لأن الجلد محل النجس، فلا يطهر بغير الماء، كالثوب.
فصل:
وعظم الميتة وقرنها وظفرها وحافرها نجس لا يطهر بحال؛ لأنه جزء من
الميتة فيدخل في عموم قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] والدليل على أنه منها قول الله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] . ولأن دليل الحياة الإحساس والألم، والضرس يألم ويحس بالضرس، برد الماء وحرارته، وما فيه حياة يحله الموت، فينجس به كاللحم.
فصل:
وصوفها ووبرها وشعرها وريشها طاهر لأنه لا روح له، فلا يحله الموت؛ لأن الحيوان لا يألم بأخذه، ولا يحس، ولأنه لو كانت فيه حياة لنجس بفصله من الحيوان في حياته، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبين من حي فهو ميت» رواه أبو داود بمعناه.
فصل:
وحكم شعر الحيوان وريشه حكمه في الطهارة والنجاسة، متصلاً كان أو منفصلاً في حياة الحيوان أو موته، فشعر الآدمي طاهر؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناول أبا طلحة شعره فقسمه بين الناس» . رواه الترمذي، وقال: حديث حسن واتفق على معناه. ولولا طهارته لما فعل، ولأنه شعر حيوان طاهر، فأشبه شعر الغنم.
فصل:
ولبن الميتة نجس؛ لأنه مائع في وعاء نجس، وإنفحتها نجسة لذلك، وعنه: أنها طاهرة؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أكلوا من جبن المجوس، وهو يصنع بالإنفحة، وذبائحهم ميتة. فأما البيضة: فإن صلب قشرها، لم تنجس، كما لو وقعت في شيء نجس، وإن لم يصلب، فهي كاللبن.
وقال ابن عقيل: لا تنجس إذا كان عليها جلدة تمنع وصول النجاسة إلى داخلها.
فصل:
وكل ذبح لا يفيد إباحة اللحم لا يفيد طهارة المذبوح، كذبح المجوسي، ومتروك التسمية، وذبح المحرم للصيد، وذبح الحيوان غير المأكول؛ لأنه ذبح غير مشروع، فلم يطهر كذبح المرتد.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب السواك وغيره]
[باب السواك وغيره]
السواك سنة مؤكدة، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» متفق عليه. وعنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أنه قال: «السواك مطهرة للفم مرضاة للرب» رواه الإمام أحمد في المسند، ويتأكد استحبابه في أوقات ثلاثة: عند الصلاة؛ لما ذكرنا، وإذا قام من النوم؛ لما روى حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك» ، متفق عليه. ولأن النائم ينطبق فمه ويتغير. والثالث: عند تغير الفم بمأكول أو خلو معدته، ولأن السواك شرع لتنظيف الفم، وإزالة رائحته. ويستحب في سائر الأوقات؛ لما روى شريح بن هانئ، قال: «سألت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بأي شيء كان يبدأ
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك» . رواه مسلم.
قال ابن عقيل: لا يختلف المذهب أنه لا يستحب السواك للصائم بعد الزوال؛ لأنه يزيل خلوف فم الصائم، وخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، ولأنه أثر عبادة مستطاب شرعاً، فلم يستحب إزالته، كدم الشهداء. وهل يكره؟ على روايتين:
إحداهما: يكره لذلك.
والثانية: لا يكره؛ لأن عامر بن ربيعة قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ما لا أحصي يتسوك وهو صائم» . قال الترمذي: هذا حديث حسن، ويستاك بعود لين ينقي الفم، ولا يجرحه ولا يتفتت فيه، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستاك بعود أراك، ولا يستاك بعود رمان؛ لأنه يضر بلحم الفم، ولا عود ريحان؛ لأنه يروى أنه يحرك عرق الجذام، فإن استاك بأصبعه أو خرقة، لم يصب السنة؛ لأنها لم ترد به، ولا يسمى سواكاً، [قال ابن عبد القوي على القول المجود] : ويحتمل أن يصيب؛
لأنه يحصل من الإنقاء بقدره.
فصل:
ومن السنة تقليم الأظفار، وقص الشارب، ونتف الإبط وحلق العانة، لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط» متفق عليه.
فصل:
ويجب الختان؛ لأنه من ملة إبراهيم، فإنه روي «أن إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ختن نفسه» متفق عليه. وقد قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123] ولأنه يجوز كشف العورة من أجله، ولولا أنه واجب ما جاز النظر إليها لفعل مندوب.
فإن كان كبيراً وخاف على نفسه من الختان، سقط وجوبه.
السواك سنة مؤكدة، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» متفق عليه. وعنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أنه قال: «السواك مطهرة للفم مرضاة للرب» رواه الإمام أحمد في المسند، ويتأكد استحبابه في أوقات ثلاثة: عند الصلاة؛ لما ذكرنا، وإذا قام من النوم؛ لما روى حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك» ، متفق عليه. ولأن النائم ينطبق فمه ويتغير. والثالث: عند تغير الفم بمأكول أو خلو معدته، ولأن السواك شرع لتنظيف الفم، وإزالة رائحته. ويستحب في سائر الأوقات؛ لما روى شريح بن هانئ، قال: «سألت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بأي شيء كان يبدأ
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك» . رواه مسلم.
قال ابن عقيل: لا يختلف المذهب أنه لا يستحب السواك للصائم بعد الزوال؛ لأنه يزيل خلوف فم الصائم، وخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، ولأنه أثر عبادة مستطاب شرعاً، فلم يستحب إزالته، كدم الشهداء. وهل يكره؟ على روايتين:
إحداهما: يكره لذلك.
والثانية: لا يكره؛ لأن عامر بن ربيعة قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ما لا أحصي يتسوك وهو صائم» . قال الترمذي: هذا حديث حسن، ويستاك بعود لين ينقي الفم، ولا يجرحه ولا يتفتت فيه، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستاك بعود أراك، ولا يستاك بعود رمان؛ لأنه يضر بلحم الفم، ولا عود ريحان؛ لأنه يروى أنه يحرك عرق الجذام، فإن استاك بأصبعه أو خرقة، لم يصب السنة؛ لأنها لم ترد به، ولا يسمى سواكاً، [قال ابن عبد القوي على القول المجود] : ويحتمل أن يصيب؛
لأنه يحصل من الإنقاء بقدره.
فصل:
ومن السنة تقليم الأظفار، وقص الشارب، ونتف الإبط وحلق العانة، لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط» متفق عليه.
فصل:
ويجب الختان؛ لأنه من ملة إبراهيم، فإنه روي «أن إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ختن نفسه» متفق عليه. وقد قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123] ولأنه يجوز كشف العورة من أجله، ولولا أنه واجب ما جاز النظر إليها لفعل مندوب.
فإن كان كبيراً وخاف على نفسه من الختان، سقط وجوبه.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب فرائض الوضوء وسننه]
[باب فرائض الوضوء وسننه]
أول فرائضه: النية: وهي شرط لطهارة الأحدث كلها، الغسل، والوضوء، والتيمم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» متفق عليه. ولأنها عبادة محضة، فلم تصح من غير نية، كالصلاة.
ومحل النية: القلب؛ لأنها عبارة عن القصد، ويقال: نواك بخير، أي: قصدك به. ومحل القصد القلب، ولا يعتبر أن يقول بلسانه شيئاً، فإن لفظ بما نواه كان آكد. وموضع وجوبها عند المضمضة؛ لأنها أول واجباته، ويستحب تقديمها على غسل اليدين والتسمية، لتشمل مفروض الوضوء ومسنونه. ويستحب استدامة ذكرها في سائر وضوئه، فإن عزبت في أثنائها جاز؛ لأن النية في أول العبادة تشمل جميع أجزائها كالصيام، وإن تقدمت النية الطهارة بزمن يسير، وعزبت عنه في
أولها، جاز؛ لأنها عبادة، فلم يشترط اقتران النية بأولها كالصيام.
وصفتها: أن ينوي رفع الحدث، أي: إزالة المانع من الصلاة أو الطهارة، لأمر لا يستباح إلا بها، كالصلاة والطواف ومس المصحف، وإن نوى الجنب بغسله قراءة القرآن صح؛ لأنه يتضمن رفع الحدث، وإن نوى بطهارته ما لا تشرع له الطهارة، كلبس ثوبه ودخول بيته والأكل، لم يرتفع حدثه؛ لأنه ليس بمشروع، أشبه التبرد، وإن نوى ما يستحب له الطهارة، كقراءة القرآن، وتجديد الوضوء وغسل الجمعة والجلوس في المسجد والنوم، فكذلك في إحدى الروايتين؛ لأنه لا يفتقر إلى رفع الحدث أشبه لبس الثوب، والأخرى: يرتفع حدثه؛ لأنه يشرع له فعل هذا، وهو غير محدث، وقد نوى ذلك، فينبغي أن تحصل له، ولأنها طهارة صحيحة، فرفعت الحدث، كما لو نوى رفعه. وإن نوى رفع الحدث والتبرد، صحت طهارته؛ لأنه أتى بما يجزئه، وضم إليه ما لا ينافيه، فأشبه ما لو نوى بالصلاة العبادة والإدمان على السهر، فإن نوى طهارة مطلقة، لم يصح؛ لأن منها ما لا يرفع الحدث، وهو الطهارة من النجاسة. وإن نوى رفع حدث بعينه، فهل يرتفع غيره؟ على وجهين: قال أبو بكر: لا يرتفع؛ لأنه لم ينوه، أشبه إذا لم ينو شيئاً. وقال القاضي: يرتفع؛ لأن الأحداث تتداخل، فإن ارتفع بعضها ارتفع جميعها، وإن نوى صلاة واحدة نفلاً
أو فرضاً لا يصلي غيرها، ارتفع حدثه، ويصلي ما شاء؛ لأن الحدث إذا ارتفع لم يعد إلا لسبب جديد، ونيته للصلاة تضمنت رفع الحدث، وإن نوى نية صحيحة ثم غير نيته، فنوى التبرد في غسل بعض الأعضاء، لم يصح ما غسله للتبرد، فإن أعاد غسل العضو بنية الطهارة، صح، ما لم يطل الفصل.
فصل:
ثم يقول: بسم الله. وفيها روايتان:
إحداهما: أنها واجبة في طهارات [الأحداث] كلها، اختارها أبو بكر، لما روى أبو سعيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» . قال أحمد: حديث أبي سعيد أحسن شيء في الباب.
والثانية: أنها سنة اختارها الخرقي. قال الخلال: الذي استقرت الروايات عنه: أنه لا بأس به إذا ترك التسمية؛ لأنها عبادة، فلا تجب فيها التسمية كغيرها، وضعف أحمد الحديث فيها، وقال: ليس يثبت في هذا حديث، واختلف من أوجبها في سقوطها بالسهو، فمنهم من قال: لا تسقط كسائر واجبات الطهارة ومنهم من أسقطها؛ لأن الطهارة عبادة تشتمل على مفروض ومسنون، فكان من فروضها ما يسقطه السهو، كالصلاة والحج، فإن ذكرها في أثناء وضوئه، سمى حيث
ذكر.
ومحل التسمية اللسان؛ لأنها ذكر، وموضعها بعد النية، ليكون مسمياً على جميع الوضوء.
فصل:
في غسل الكفين: ثم يغسل كفيه ثلاثاً؛ «لأن عثمان وعبد الله بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وصفا وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالا: فأفرغ على يديه من إنائه، فغسلهما ثلاث مرات» . متفق عليهما، ولأن اليدين آلة نقل الماء إلى الأعضاء ففي غسلهما احتياط لجميع الوضوء، ثم إن كان لم يقم من نوم الليل، فغسلهما مستحب؛ لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فليغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده» متفق عليه. ولم يذكر البخاري "ثلاثاً". فتخصيصه هذه الحالة بالأمر، دليل على عدم الوجوب في غيرها.
وإن قام في نوم الليل ففيه روايتان:
إحداهما: أنه واجب، اختارها أبو بكر لظاهر الأمر، فإن غمسهما قبل
غسلهما، صار الماء مستعملاً؛ لأن النهي عن غمسهما يدل على أنه يفيد منعاً، وإن غسلهما دون الثلاث، ثم غمسهما، فكذلك؛ لأن النهي باق، وغمس بعض يده كغمس جميعها، ويفتقر غسلهما إلى النية؛ لأنه غسل وجب تعبداً، أشبه الوضوء.
والرواية الثانية: ليس بواجب، اختارها الخرقي؛ لأن اليد عضو لا حدث عليه ولا نجاسة، فأشبهت سائر الأعضاء، وتعليل الحديث يدل على أنه أريد به الاستحباب؛ لأنه علل بوهم النجاسة، ولا يزال اليقين بالشك، فإن غمسهما في الماء فهو باق على إطلاقه.
فصل:
ثم يتمضمض ويستنشق؛ لأن كل من وصف وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ذكر أنه مضمض واستنشق، وهما واجبان في الطهارتين؛ لقول الله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ، وهما داخلان في حد الوجه، ظاهران، يفطر الصائم بوصول القيء إليهما، ولا يفطر بوضع الطعام فيهما، ولا يحد بوضع الخمر فيهما، ولا يحصل الرضاع بوصول اللبن إليهما، ويجب غسلهما من النجاسة، فيدخلان في عموم الآية.
وعنه: الاستنشاق وحده واجب؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -[أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال] : «إذا توضأ أحدكم، فليجعل في أنفه، ثم لينتثر» متفق عليه. وعنه: أنهما واجبان في الكبرى دون الصغرى؛ لأنها طهارة تعم جميع البدن ويجب فيها غسل ما تحت الشعور، وتحت الخفين.
ويستحب المبالغة فيهما، إلا أن يكون صائماً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائماً» حديث صحيح. وصفة المبالغة اجتذاب الماء بالنفس إلى أقصى الأنف، ولا يجعله سعوطاً، وفي المضمضة، إدارة الماء في أقاصي الفم، ولا يجعله وجوراً، وهو مخير بين أن يمضمض ويستنشق ثلاثاً من غرفة أو من ثلاث غرفات؛ لأن في حديث عبد الله بن زيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «مضمض واستنشق من كف واحدة، ففعل ذلك ثلاثاً» ، وفي لفظ: «أدخل يده في الإناء، فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات» ، متفق عليهما. وإن شاء فصل بينهما؛ لأن جد طلحة بن مصرف قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يفصل بين المضمضة والاستنشاق» . رواه أبو داود. ولا يجب الترتيب بينهما وبين الوجه؛ لأنهما منه، لكن تستحب البداءة بهما اقتداءً برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فصل:
ثم يغسل وجهه، وذلك فرض بالإجماع، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]
وحده من منابت شعر الرأس المعتاد إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً، ولا اعتبار بالأصلع الذي ينحسر شعره عن ناصيته، ولا الأفرع الذي ينزل شعره على جبهته.
فإن كان في الوجه شعر كثيف يستر البشرة، لم يجب غسل ما تحته؛ لأنه باطن أشبه [باطن] أقصى الأنف، ويستحب تخليله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلل لحيته. وروى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «كان إذا توضأ، أخذ كفاً من ماء فأدخله تحت حنكه، فخلل به لحيته، وقال: هكذا أمرني ربي، عز وجل» رواه أبو داود.
وإن كان يصف البشرة، وجب غسل الشعر والبشرة.
وإن كان بعضه خفيفا، وبعضه كثيفاً، وجب غسل ظاهر الكثيف، وبشرة الخفيف معه. وسواء في هذا شعر اللحية والحاجبين، والشارب والعنفقة؛ لأنها شعور معتادة في الوجه، أشبهت اللحية.
وفي المسترسل من اللحية عن حد الوجه روايتان:
إحداهما: لا يجب غسله؛ لأنه شعر نازل عن محل الفرض، أشبه الذؤابة في الرأس.
والثاني: يجب؛ لأنه نابت في بشرة الوجه، أشبه الحاجب. ويدخل في حد الوجه العذار، [وهو: الشعر الذي على العظم الناتئ سمت صماخ الأذن إلى الصدغ.
والعارض: الذي تحت العذار] . والذقن: وهو مجتمع اللحيين، ويخرج منه النزعتان، وهما: ما ينحسر عنهما الشعر في فودي الرأس؛ لأنهما من الرأس، لدخولهما فيه. والصدغ: وهو الذي عليه الشعر في حق الغلام، محاذ لطرف الأذن الأعلى؛ لأنه شعر متصل بالرأس ابتداء، فكان من الرأس كسائره، وقد مسحه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع رأسه في حديث الربيع.
ويستحب أن يزيد في ماء الوجه؛ لأن فيه غضوناً وشعوراً، ودواخل وخوارج، ويمسح مآقيه، ويتعاهد المفصل وهو البياض الذي بين اللحية والأذن، فيغسله.
ولا يجب غسل داخل العينين. ولا يستحب؛ لأنه لا يؤمن الضرر من
غسلهما.
فصل:
ثم يغسل يديه إلى المرفقين، وهو فرض بالإجماع، لقول الله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] . ويجب غسل المرفقين؛ لأن جابراً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا توضأ أمر الماء على مرفقيه» ، رواه الدارقطني، وفيه: " دار الماء " وهذا يصلح بياناً؛ لأن " إلى " تكون بمعنى " مع " كقوله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] [أي: مع الله] ، {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] .
ويجب غسل أظفاره، وإن طالت، والأصبع الزائدة، والسلعة؛ لأن ذلك من يده، وإن كانت له يد زائدة أصلها في محل الفرض، وجب غسلها؛ لأنها نابتة في محل الفرض، أشبهت الأصبع، وإن نبتت في العضد أو المنكب، لم يجب غسلها وإن حاذت محل الفرض؛ لأنها في غير محل الفرض، فهي كالقصيرة. وإن كانت له يدان متساويتان على منكب واحد، وجب غسلهما؛ لأن إحداهما ليست أولى من الأخرى.
وإن تقلعت جلدة من الذراع، فتدلت من العضد، لم يجب غسلها؛ لأنها صارت من العضد، وإن تقلعت من العضد، فتدلت من الذراع، وجب غسلها؛ لأنها متدلية من محل الفرض. وإن تقلعت من إحداهما، فالتحم رأسها بالأخرى، وجب غسل ما حاذى محل الفرض منها؛ لأنها كالجلد الذي عليهما، فإن كانت متجافية في وسطها، غسل ما تحتها من محل الفرض. وإن كان أقطع فعليه غسل ما بقي من محل الفرض، فإن لم يبق منه شيء، سقط الغسل، ويستحب أن يمس محل القطع بالماء، لئلا يخلو العضو من طهارة.
وتستحب البداءة بغسل اليمنى من يديه ورجليه؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان يحب التيمن في ترجله وتنعله وطهوره، وفي شأنه كله» . متفق عليه. فإن بدأ باليسرى جاز؛ لأنهما كعضو واحد، بدليل قوله سبحانه: {وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43] {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] فجمع بينهما.
فصل:
ثم يمسح رأسه، وهو فرض بغير خلاف، لقول الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] وهو ما ينبت عليه الشعر المعتاد في الصبي مع النزعتين. ويجب استيعابه بالمسح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] والباء للإلصاق، فكأنه قال: امسحوا رؤوسكم، وصار كقوله سبحانه: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] قال ابن برهان: من زعم أن الباء للتبعيض، فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه. وظاهر قول الإمام أحمد: المرأة يجزئها مسح مقدم الرأس؛ لأن عائشة كانت تمسح مقدم رأسها، وعنه في الرجل: أنه يجزئه مسح بعضه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مسح
بناصيته وعمامته» . رواه مسلم.
وكيفما مسح الرأس أجزأ، بيد واحدة، أو بيدين، إلا أن المستحب أن يمر يديه من مقدم رأسه إلى قفاه، ثم يعيدهما إلى الموضع الذي بدأ منه، لأن عبد الله بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال في صفة وضوء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة» ، متفق عليه. ولا يستحب تكرار المسح، لأن أكثر من وصف وضوء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ذكر أنه مسح مرة واحدة، ولأنه ممسوح في طهارة، أشبه التيمم. وعنه: يستحب تكراره، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «توضأ ثلاثا ثلاثا. وقال: " هذا وضوئي ووضوء المرسلين قبلي» رواه ابن ماجه. ولأنه أصل في الطهارة، أشبه الغسل.
والأذنان في الرأس يمسحان معه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأذنان من الرأس» رواه أبو داود. وروت الربيع بنت معوذ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مسح برأسه، وصدغيه، وأذنيه، مسحة واحدة» . رواه الترمذي، وقال حديث [حسن] صحيح. ويستحب إفرادهما بماء جديد لأنهما كالعضو المنفرد، وإنما هما من الرأس على وجه التبع، ولا يجزئ مسحهما عنه لذلك، وظاهر كلام أحمد أنه لا يجب مسحهما لذلك، ويستحب أن يدخل سبابتيه في صماخي أذنيه، ويجعل إبهاميه لظاهرهما، ولا يجب مسح ما نزل عن الرأس من الشعر، ولا يجزئ مسحه عن الرأس سواء رده فعقده فوق رأسه أو لم يرده، لأن الرأس ما ترأس وعلا، ولو أدخل يده تحت الشعر، فمسح البشرة دون الظاهر لم يجزه، لأن الحكم تعلق بالشعر فلم يجزه مسح غيره، ولو مسح رأسه ثم حلقه، أو غسل عضوا ثم قطع جزعا منه أو جلده، لم يؤثر في طهارته، لأنه ليس ببدل عما تحته، فلم يلزمه بظهوره طهارة، فإن أحدث بعد ذلك غسل ما ظهر لأنه صار ظاهرا، فتعلق الحكم به، ولو حصل في بعض أعضائه شق أو ثقب، لزمه غسله لأنه صار ظاهرا.
فصل:
ثم يغسل رجليه إلى الكعبين، وهو فرض لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]
ويدخل الكعبين في الغسل لما ذكرنا في المرفقين، ولا يجزئ مسح الرجلين، لما روى عمر «أن رجلا ترك موضع ظفر في قدمه اليمنى فأبصره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " ارجع فأحسن وضوءك " فرجع ثم صلى» رواه مسلم. وإن كان الرجل أقطع اليدين فقدر على أن يستأجر من يوضئه بأجرة مثله، لزمه كما يلزمه شراء الماء. ولا يعفى عن شيء من طهارة الحدث، وإن كان يسيرا لما ذكرنا من حديث عمر.
ويستحب أن يخلل أصابعه، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «إذا توضأت فخلل بين أصابع يديك ورجليك» رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن.
فصل:
ويجب ترتيب الوضوء على ما ذكرنا في ظاهر المذهب، وحكي عنه أنه ليس بواجب، لأن الله سبحانه وتعالى عطف الأعضاء المغسولة بالواو، ولا ترتيب فيها.
ولنا أن في الآية قرينة تدل على الترتيب، لأنه أدخل الممسوح بين المغسولات، وقطع النظير عن نظيره، ولا يفعل الفصحاء هذا إلا لفائدة، ولا نعلم هنا فائدة سوى الترتيب، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينقل عنه الوضوء إلا مرتبا، وهو يفسر كلام الله سبحانه بقوله مرة وبفعله مرة أخرى. فإن نكس وضوءه فختم بوجهه لم يصح إلا غسل وجهه، وإن غسل وجهه ويديه، ثم غسل رجليه ثم مسح برأسه، صح وضوءه إلا غسل رجليه، فيغسلهما ويتم وضوءه.
فصل:
ويوالي بين غسل الأعضاء، وفي وجوب الموالاة روايتان:
إحداهما: يجب، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رأى رجلا يصلي وفي رجله لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة» . رواه أبو داود. ولو لم تجب الموالاة لأجزأه غسلها، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والى بين الغسل.
والثانية: لا تجب، لأن المأمور به الغسل، وقد أتى به، وقد روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه توضأ وترك مسح خفيه حتى دخل المسجد، فدعي لجنازة، فمسح عليهما وصلى عليها. والتفريق المختلف فيه: أن يؤخر غسل عضو حتى يمضي زمن ينشف فيه الذي قبله في الزمان المعتدل فإن أخر غسل عضو لأمر في الطهارة من إزالة الوسخ، أو عرك عضو لم يقدح في طهارته.
فصل:
والوضوء مرة مرة يجزئ، والثلاث أفضل، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، توضأ مرة مرة، وقال: " هذا وضوء من لم يتوضأه لم يقبل الله له صلاة "، ثم توضأ مرتين، ثم قال: " هذا وضوء من توضأه أعطاه الله كفلين من الأجر "، ثم توضأ ثلاثا ثلاثا،، ثم قال: " هذا وضوئي ووضوء المرسلين من قبلي» أخرجه ابن ماجه. وإن غسل بعض أعضائه أكثر من بعض فلا بأس، فقد «حكى عبد الله بن زيد وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فغسل يديه مرتين، ثم مضمض واستنثر ثلاثا [وغسل وجهه ثلاثا] ثم غسل يديه مرتين إلى
المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما ثم رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه» ، متفق عليه. ولا يزيد على ثلاث لأن «أعرابيا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوضوء، فأراه ثلاثا ثلاثا ثم قال: " هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم» رواه أبو داود، ويكره الإسراف في الماء لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر على سعد وهو يتوضأ فقال: " لا تسرف " قال: يا رسول الله: في الماء إسراف؟ قال: " نعم وإن كنت على نهر جار» رواه ابن ماجه.
فصل:
ويستحب إسباغ الوضوء، ومجاوزة قدر الواجب بالغسل، لأن «أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - توضأ فغسل يديه حتى أشرع في العضد، ورجله حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ، وقال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله» متفق عليه.
فصل:
ولا بأس بالمعاونة على الوضوء والغسل بتقريب الماء، وحمله وصبه لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحمل له الماء، ويصب عليه. قال أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ينطلق لحاجته فآتيه أنا وغلام من الأنصار بإداوة من ماء يستنجي به» ، وعن المغيرة
بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمشى حتى توارى عني في سواد الليل، ثم جاء فصببت عليه من الإداوة، فغسل وجهه وذكر بقية الوضوء» ، متفق عليهما. وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كنا نعد لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة آنية من الليل مخمرة، إناء لطهره، وإنا لسواكه، وإنا لشرابه» ، أخرجه ابن ماجه.
فصل:
وفي تنشيف بلل الغسل والوضوء روايتان:
إحداهما: يكره، لأن «ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وصفت غسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالت: فأتيته بالمنديل فلم يردها، وجعل ينفض الماء بيده» ، متفق عليه.
والأخرى: لا بأس به، لأنه إزالة الماء عن بدنه، أشبه نفضه بيديه.
فصل:
ويستحب أن يقول بعد فراغه من الوضوء: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله لما روى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «من توضأ فأحسن وضوئه ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد
أن محمدا عبده ورسوله فتح الله له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» رواه مسلم.
فصل:
والمفروض من ذلك بغير خلاف خمسة: النية، وغسل الوجه، وغسل اليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين.
وخمسة فيها روايتان: الترتيب، والموالاة، والمضمضة والاستنشاق، والتسمية.
والسنن سبعة: غسل الكفين والمبالغة في المضمضة والاستنشاق، وتخليل اللحية، وأخذ ماء جديد للأذنين، وتخليل الأصابع، والبداءة باليمنى والدفعة الثانية والثالثة.
أول فرائضه: النية: وهي شرط لطهارة الأحدث كلها، الغسل، والوضوء، والتيمم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» متفق عليه. ولأنها عبادة محضة، فلم تصح من غير نية، كالصلاة.
ومحل النية: القلب؛ لأنها عبارة عن القصد، ويقال: نواك بخير، أي: قصدك به. ومحل القصد القلب، ولا يعتبر أن يقول بلسانه شيئاً، فإن لفظ بما نواه كان آكد. وموضع وجوبها عند المضمضة؛ لأنها أول واجباته، ويستحب تقديمها على غسل اليدين والتسمية، لتشمل مفروض الوضوء ومسنونه. ويستحب استدامة ذكرها في سائر وضوئه، فإن عزبت في أثنائها جاز؛ لأن النية في أول العبادة تشمل جميع أجزائها كالصيام، وإن تقدمت النية الطهارة بزمن يسير، وعزبت عنه في
أولها، جاز؛ لأنها عبادة، فلم يشترط اقتران النية بأولها كالصيام.
وصفتها: أن ينوي رفع الحدث، أي: إزالة المانع من الصلاة أو الطهارة، لأمر لا يستباح إلا بها، كالصلاة والطواف ومس المصحف، وإن نوى الجنب بغسله قراءة القرآن صح؛ لأنه يتضمن رفع الحدث، وإن نوى بطهارته ما لا تشرع له الطهارة، كلبس ثوبه ودخول بيته والأكل، لم يرتفع حدثه؛ لأنه ليس بمشروع، أشبه التبرد، وإن نوى ما يستحب له الطهارة، كقراءة القرآن، وتجديد الوضوء وغسل الجمعة والجلوس في المسجد والنوم، فكذلك في إحدى الروايتين؛ لأنه لا يفتقر إلى رفع الحدث أشبه لبس الثوب، والأخرى: يرتفع حدثه؛ لأنه يشرع له فعل هذا، وهو غير محدث، وقد نوى ذلك، فينبغي أن تحصل له، ولأنها طهارة صحيحة، فرفعت الحدث، كما لو نوى رفعه. وإن نوى رفع الحدث والتبرد، صحت طهارته؛ لأنه أتى بما يجزئه، وضم إليه ما لا ينافيه، فأشبه ما لو نوى بالصلاة العبادة والإدمان على السهر، فإن نوى طهارة مطلقة، لم يصح؛ لأن منها ما لا يرفع الحدث، وهو الطهارة من النجاسة. وإن نوى رفع حدث بعينه، فهل يرتفع غيره؟ على وجهين: قال أبو بكر: لا يرتفع؛ لأنه لم ينوه، أشبه إذا لم ينو شيئاً. وقال القاضي: يرتفع؛ لأن الأحداث تتداخل، فإن ارتفع بعضها ارتفع جميعها، وإن نوى صلاة واحدة نفلاً
أو فرضاً لا يصلي غيرها، ارتفع حدثه، ويصلي ما شاء؛ لأن الحدث إذا ارتفع لم يعد إلا لسبب جديد، ونيته للصلاة تضمنت رفع الحدث، وإن نوى نية صحيحة ثم غير نيته، فنوى التبرد في غسل بعض الأعضاء، لم يصح ما غسله للتبرد، فإن أعاد غسل العضو بنية الطهارة، صح، ما لم يطل الفصل.
فصل:
ثم يقول: بسم الله. وفيها روايتان:
إحداهما: أنها واجبة في طهارات [الأحداث] كلها، اختارها أبو بكر، لما روى أبو سعيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» . قال أحمد: حديث أبي سعيد أحسن شيء في الباب.
والثانية: أنها سنة اختارها الخرقي. قال الخلال: الذي استقرت الروايات عنه: أنه لا بأس به إذا ترك التسمية؛ لأنها عبادة، فلا تجب فيها التسمية كغيرها، وضعف أحمد الحديث فيها، وقال: ليس يثبت في هذا حديث، واختلف من أوجبها في سقوطها بالسهو، فمنهم من قال: لا تسقط كسائر واجبات الطهارة ومنهم من أسقطها؛ لأن الطهارة عبادة تشتمل على مفروض ومسنون، فكان من فروضها ما يسقطه السهو، كالصلاة والحج، فإن ذكرها في أثناء وضوئه، سمى حيث
ذكر.
ومحل التسمية اللسان؛ لأنها ذكر، وموضعها بعد النية، ليكون مسمياً على جميع الوضوء.
فصل:
في غسل الكفين: ثم يغسل كفيه ثلاثاً؛ «لأن عثمان وعبد الله بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وصفا وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالا: فأفرغ على يديه من إنائه، فغسلهما ثلاث مرات» . متفق عليهما، ولأن اليدين آلة نقل الماء إلى الأعضاء ففي غسلهما احتياط لجميع الوضوء، ثم إن كان لم يقم من نوم الليل، فغسلهما مستحب؛ لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فليغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده» متفق عليه. ولم يذكر البخاري "ثلاثاً". فتخصيصه هذه الحالة بالأمر، دليل على عدم الوجوب في غيرها.
وإن قام في نوم الليل ففيه روايتان:
إحداهما: أنه واجب، اختارها أبو بكر لظاهر الأمر، فإن غمسهما قبل
غسلهما، صار الماء مستعملاً؛ لأن النهي عن غمسهما يدل على أنه يفيد منعاً، وإن غسلهما دون الثلاث، ثم غمسهما، فكذلك؛ لأن النهي باق، وغمس بعض يده كغمس جميعها، ويفتقر غسلهما إلى النية؛ لأنه غسل وجب تعبداً، أشبه الوضوء.
والرواية الثانية: ليس بواجب، اختارها الخرقي؛ لأن اليد عضو لا حدث عليه ولا نجاسة، فأشبهت سائر الأعضاء، وتعليل الحديث يدل على أنه أريد به الاستحباب؛ لأنه علل بوهم النجاسة، ولا يزال اليقين بالشك، فإن غمسهما في الماء فهو باق على إطلاقه.
فصل:
ثم يتمضمض ويستنشق؛ لأن كل من وصف وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ذكر أنه مضمض واستنشق، وهما واجبان في الطهارتين؛ لقول الله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ، وهما داخلان في حد الوجه، ظاهران، يفطر الصائم بوصول القيء إليهما، ولا يفطر بوضع الطعام فيهما، ولا يحد بوضع الخمر فيهما، ولا يحصل الرضاع بوصول اللبن إليهما، ويجب غسلهما من النجاسة، فيدخلان في عموم الآية.
وعنه: الاستنشاق وحده واجب؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -[أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال] : «إذا توضأ أحدكم، فليجعل في أنفه، ثم لينتثر» متفق عليه. وعنه: أنهما واجبان في الكبرى دون الصغرى؛ لأنها طهارة تعم جميع البدن ويجب فيها غسل ما تحت الشعور، وتحت الخفين.
ويستحب المبالغة فيهما، إلا أن يكون صائماً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائماً» حديث صحيح. وصفة المبالغة اجتذاب الماء بالنفس إلى أقصى الأنف، ولا يجعله سعوطاً، وفي المضمضة، إدارة الماء في أقاصي الفم، ولا يجعله وجوراً، وهو مخير بين أن يمضمض ويستنشق ثلاثاً من غرفة أو من ثلاث غرفات؛ لأن في حديث عبد الله بن زيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «مضمض واستنشق من كف واحدة، ففعل ذلك ثلاثاً» ، وفي لفظ: «أدخل يده في الإناء، فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات» ، متفق عليهما. وإن شاء فصل بينهما؛ لأن جد طلحة بن مصرف قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يفصل بين المضمضة والاستنشاق» . رواه أبو داود. ولا يجب الترتيب بينهما وبين الوجه؛ لأنهما منه، لكن تستحب البداءة بهما اقتداءً برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فصل:
ثم يغسل وجهه، وذلك فرض بالإجماع، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]
وحده من منابت شعر الرأس المعتاد إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً، ولا اعتبار بالأصلع الذي ينحسر شعره عن ناصيته، ولا الأفرع الذي ينزل شعره على جبهته.
فإن كان في الوجه شعر كثيف يستر البشرة، لم يجب غسل ما تحته؛ لأنه باطن أشبه [باطن] أقصى الأنف، ويستحب تخليله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلل لحيته. وروى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «كان إذا توضأ، أخذ كفاً من ماء فأدخله تحت حنكه، فخلل به لحيته، وقال: هكذا أمرني ربي، عز وجل» رواه أبو داود.
وإن كان يصف البشرة، وجب غسل الشعر والبشرة.
وإن كان بعضه خفيفا، وبعضه كثيفاً، وجب غسل ظاهر الكثيف، وبشرة الخفيف معه. وسواء في هذا شعر اللحية والحاجبين، والشارب والعنفقة؛ لأنها شعور معتادة في الوجه، أشبهت اللحية.
وفي المسترسل من اللحية عن حد الوجه روايتان:
إحداهما: لا يجب غسله؛ لأنه شعر نازل عن محل الفرض، أشبه الذؤابة في الرأس.
والثاني: يجب؛ لأنه نابت في بشرة الوجه، أشبه الحاجب. ويدخل في حد الوجه العذار، [وهو: الشعر الذي على العظم الناتئ سمت صماخ الأذن إلى الصدغ.
والعارض: الذي تحت العذار] . والذقن: وهو مجتمع اللحيين، ويخرج منه النزعتان، وهما: ما ينحسر عنهما الشعر في فودي الرأس؛ لأنهما من الرأس، لدخولهما فيه. والصدغ: وهو الذي عليه الشعر في حق الغلام، محاذ لطرف الأذن الأعلى؛ لأنه شعر متصل بالرأس ابتداء، فكان من الرأس كسائره، وقد مسحه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع رأسه في حديث الربيع.
ويستحب أن يزيد في ماء الوجه؛ لأن فيه غضوناً وشعوراً، ودواخل وخوارج، ويمسح مآقيه، ويتعاهد المفصل وهو البياض الذي بين اللحية والأذن، فيغسله.
ولا يجب غسل داخل العينين. ولا يستحب؛ لأنه لا يؤمن الضرر من
غسلهما.
فصل:
ثم يغسل يديه إلى المرفقين، وهو فرض بالإجماع، لقول الله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] . ويجب غسل المرفقين؛ لأن جابراً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا توضأ أمر الماء على مرفقيه» ، رواه الدارقطني، وفيه: " دار الماء " وهذا يصلح بياناً؛ لأن " إلى " تكون بمعنى " مع " كقوله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] [أي: مع الله] ، {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] .
ويجب غسل أظفاره، وإن طالت، والأصبع الزائدة، والسلعة؛ لأن ذلك من يده، وإن كانت له يد زائدة أصلها في محل الفرض، وجب غسلها؛ لأنها نابتة في محل الفرض، أشبهت الأصبع، وإن نبتت في العضد أو المنكب، لم يجب غسلها وإن حاذت محل الفرض؛ لأنها في غير محل الفرض، فهي كالقصيرة. وإن كانت له يدان متساويتان على منكب واحد، وجب غسلهما؛ لأن إحداهما ليست أولى من الأخرى.
وإن تقلعت جلدة من الذراع، فتدلت من العضد، لم يجب غسلها؛ لأنها صارت من العضد، وإن تقلعت من العضد، فتدلت من الذراع، وجب غسلها؛ لأنها متدلية من محل الفرض. وإن تقلعت من إحداهما، فالتحم رأسها بالأخرى، وجب غسل ما حاذى محل الفرض منها؛ لأنها كالجلد الذي عليهما، فإن كانت متجافية في وسطها، غسل ما تحتها من محل الفرض. وإن كان أقطع فعليه غسل ما بقي من محل الفرض، فإن لم يبق منه شيء، سقط الغسل، ويستحب أن يمس محل القطع بالماء، لئلا يخلو العضو من طهارة.
وتستحب البداءة بغسل اليمنى من يديه ورجليه؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان يحب التيمن في ترجله وتنعله وطهوره، وفي شأنه كله» . متفق عليه. فإن بدأ باليسرى جاز؛ لأنهما كعضو واحد، بدليل قوله سبحانه: {وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43] {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] فجمع بينهما.
فصل:
ثم يمسح رأسه، وهو فرض بغير خلاف، لقول الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] وهو ما ينبت عليه الشعر المعتاد في الصبي مع النزعتين. ويجب استيعابه بالمسح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] والباء للإلصاق، فكأنه قال: امسحوا رؤوسكم، وصار كقوله سبحانه: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] قال ابن برهان: من زعم أن الباء للتبعيض، فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه. وظاهر قول الإمام أحمد: المرأة يجزئها مسح مقدم الرأس؛ لأن عائشة كانت تمسح مقدم رأسها، وعنه في الرجل: أنه يجزئه مسح بعضه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مسح
بناصيته وعمامته» . رواه مسلم.
وكيفما مسح الرأس أجزأ، بيد واحدة، أو بيدين، إلا أن المستحب أن يمر يديه من مقدم رأسه إلى قفاه، ثم يعيدهما إلى الموضع الذي بدأ منه، لأن عبد الله بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال في صفة وضوء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة» ، متفق عليه. ولا يستحب تكرار المسح، لأن أكثر من وصف وضوء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ذكر أنه مسح مرة واحدة، ولأنه ممسوح في طهارة، أشبه التيمم. وعنه: يستحب تكراره، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «توضأ ثلاثا ثلاثا. وقال: " هذا وضوئي ووضوء المرسلين قبلي» رواه ابن ماجه. ولأنه أصل في الطهارة، أشبه الغسل.
والأذنان في الرأس يمسحان معه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأذنان من الرأس» رواه أبو داود. وروت الربيع بنت معوذ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مسح برأسه، وصدغيه، وأذنيه، مسحة واحدة» . رواه الترمذي، وقال حديث [حسن] صحيح. ويستحب إفرادهما بماء جديد لأنهما كالعضو المنفرد، وإنما هما من الرأس على وجه التبع، ولا يجزئ مسحهما عنه لذلك، وظاهر كلام أحمد أنه لا يجب مسحهما لذلك، ويستحب أن يدخل سبابتيه في صماخي أذنيه، ويجعل إبهاميه لظاهرهما، ولا يجب مسح ما نزل عن الرأس من الشعر، ولا يجزئ مسحه عن الرأس سواء رده فعقده فوق رأسه أو لم يرده، لأن الرأس ما ترأس وعلا، ولو أدخل يده تحت الشعر، فمسح البشرة دون الظاهر لم يجزه، لأن الحكم تعلق بالشعر فلم يجزه مسح غيره، ولو مسح رأسه ثم حلقه، أو غسل عضوا ثم قطع جزعا منه أو جلده، لم يؤثر في طهارته، لأنه ليس ببدل عما تحته، فلم يلزمه بظهوره طهارة، فإن أحدث بعد ذلك غسل ما ظهر لأنه صار ظاهرا، فتعلق الحكم به، ولو حصل في بعض أعضائه شق أو ثقب، لزمه غسله لأنه صار ظاهرا.
فصل:
ثم يغسل رجليه إلى الكعبين، وهو فرض لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]
ويدخل الكعبين في الغسل لما ذكرنا في المرفقين، ولا يجزئ مسح الرجلين، لما روى عمر «أن رجلا ترك موضع ظفر في قدمه اليمنى فأبصره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " ارجع فأحسن وضوءك " فرجع ثم صلى» رواه مسلم. وإن كان الرجل أقطع اليدين فقدر على أن يستأجر من يوضئه بأجرة مثله، لزمه كما يلزمه شراء الماء. ولا يعفى عن شيء من طهارة الحدث، وإن كان يسيرا لما ذكرنا من حديث عمر.
ويستحب أن يخلل أصابعه، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «إذا توضأت فخلل بين أصابع يديك ورجليك» رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن.
فصل:
ويجب ترتيب الوضوء على ما ذكرنا في ظاهر المذهب، وحكي عنه أنه ليس بواجب، لأن الله سبحانه وتعالى عطف الأعضاء المغسولة بالواو، ولا ترتيب فيها.
ولنا أن في الآية قرينة تدل على الترتيب، لأنه أدخل الممسوح بين المغسولات، وقطع النظير عن نظيره، ولا يفعل الفصحاء هذا إلا لفائدة، ولا نعلم هنا فائدة سوى الترتيب، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينقل عنه الوضوء إلا مرتبا، وهو يفسر كلام الله سبحانه بقوله مرة وبفعله مرة أخرى. فإن نكس وضوءه فختم بوجهه لم يصح إلا غسل وجهه، وإن غسل وجهه ويديه، ثم غسل رجليه ثم مسح برأسه، صح وضوءه إلا غسل رجليه، فيغسلهما ويتم وضوءه.
فصل:
ويوالي بين غسل الأعضاء، وفي وجوب الموالاة روايتان:
إحداهما: يجب، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رأى رجلا يصلي وفي رجله لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة» . رواه أبو داود. ولو لم تجب الموالاة لأجزأه غسلها، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والى بين الغسل.
والثانية: لا تجب، لأن المأمور به الغسل، وقد أتى به، وقد روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه توضأ وترك مسح خفيه حتى دخل المسجد، فدعي لجنازة، فمسح عليهما وصلى عليها. والتفريق المختلف فيه: أن يؤخر غسل عضو حتى يمضي زمن ينشف فيه الذي قبله في الزمان المعتدل فإن أخر غسل عضو لأمر في الطهارة من إزالة الوسخ، أو عرك عضو لم يقدح في طهارته.
فصل:
والوضوء مرة مرة يجزئ، والثلاث أفضل، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، توضأ مرة مرة، وقال: " هذا وضوء من لم يتوضأه لم يقبل الله له صلاة "، ثم توضأ مرتين، ثم قال: " هذا وضوء من توضأه أعطاه الله كفلين من الأجر "، ثم توضأ ثلاثا ثلاثا،، ثم قال: " هذا وضوئي ووضوء المرسلين من قبلي» أخرجه ابن ماجه. وإن غسل بعض أعضائه أكثر من بعض فلا بأس، فقد «حكى عبد الله بن زيد وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فغسل يديه مرتين، ثم مضمض واستنثر ثلاثا [وغسل وجهه ثلاثا] ثم غسل يديه مرتين إلى
المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما ثم رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه» ، متفق عليه. ولا يزيد على ثلاث لأن «أعرابيا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوضوء، فأراه ثلاثا ثلاثا ثم قال: " هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم» رواه أبو داود، ويكره الإسراف في الماء لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر على سعد وهو يتوضأ فقال: " لا تسرف " قال: يا رسول الله: في الماء إسراف؟ قال: " نعم وإن كنت على نهر جار» رواه ابن ماجه.
فصل:
ويستحب إسباغ الوضوء، ومجاوزة قدر الواجب بالغسل، لأن «أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - توضأ فغسل يديه حتى أشرع في العضد، ورجله حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ، وقال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله» متفق عليه.
فصل:
ولا بأس بالمعاونة على الوضوء والغسل بتقريب الماء، وحمله وصبه لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحمل له الماء، ويصب عليه. قال أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ينطلق لحاجته فآتيه أنا وغلام من الأنصار بإداوة من ماء يستنجي به» ، وعن المغيرة
بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمشى حتى توارى عني في سواد الليل، ثم جاء فصببت عليه من الإداوة، فغسل وجهه وذكر بقية الوضوء» ، متفق عليهما. وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كنا نعد لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة آنية من الليل مخمرة، إناء لطهره، وإنا لسواكه، وإنا لشرابه» ، أخرجه ابن ماجه.
فصل:
وفي تنشيف بلل الغسل والوضوء روايتان:
إحداهما: يكره، لأن «ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وصفت غسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالت: فأتيته بالمنديل فلم يردها، وجعل ينفض الماء بيده» ، متفق عليه.
والأخرى: لا بأس به، لأنه إزالة الماء عن بدنه، أشبه نفضه بيديه.
فصل:
ويستحب أن يقول بعد فراغه من الوضوء: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله لما روى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «من توضأ فأحسن وضوئه ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد
أن محمدا عبده ورسوله فتح الله له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» رواه مسلم.
فصل:
والمفروض من ذلك بغير خلاف خمسة: النية، وغسل الوجه، وغسل اليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين.
وخمسة فيها روايتان: الترتيب، والموالاة، والمضمضة والاستنشاق، والتسمية.
والسنن سبعة: غسل الكفين والمبالغة في المضمضة والاستنشاق، وتخليل اللحية، وأخذ ماء جديد للأذنين، وتخليل الأصابع، والبداءة باليمنى والدفعة الثانية والثالثة.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب المسح على الخفين]
[باب المسح على الخفين]
وهو جائز بغير خلاف لما روى جرير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بال، ثم توضأ، ومسح على خفيه» ، متفق عليه. قال إبراهيم: فكان يعجبهم هذا، لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة، ولأن الحاجة تدعو إلى لبسه، وتلحق المشقة بنزعه، فجاز المسح عليه كالجبائر ويختص جوازه بالوضوء دون الغسل، لما روى صفوان بن عسال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا إذا كنا مسافرين، أو سفر أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم» . أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. ولأن الغسل يقل فلا
تدعو الحاجة إلى المسح على الخف فيه بخلاف الوضوء، ولجواز المسح عليه شروط أربعة:
أحدها: أن يكون ساترا لمحل الفرض من القدم كله، فإن ظهر منه شيء لم يجز المسح، لأن حكم ما استتر المسح، وحكم ما ظهر الغسل، ولا سبيل إلى الجمع بينهما، فغلب الغسل، كما لو ظهرت إحدى الرجلين، فإن تخرقت البطانة دون الظهارة، أو الظهارة دون البطانة جاز المسح، لأن القدم مستور به، وإن كان فيه شق مستطيل ينضم لا يظهر منه القدم، جاز المسح [عليه] لذلك، وإن كان الخف رقيقا يصف لم يجز المسح عليه، لأنه غير ساتر، وإن كان ذي شرج في موضع القدم، وكان مشدودا لا يظهر شيء من القدم إذا مشى جاز المسح عليه، لأنه كالمخيط.
فصل:
الثاني: أن يمكن متابعة المشي فيه، فإن كان يسقط من القدم لسعته، أو ثقله لم يجز المسح عليه، لأن الذي تدعو الحاجة إليه هو الذي يمكن متابعة المشي فيه، وسواء في ذلك الجلود والخرق والجوارب لما روى المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مسح على الجوربين والنعلين» . أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. قال الإمام أحمد: يذكر المسح على الجوربين عن سبعة أو ثمانية من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأنه ملبوس ساتر للقدم يمكن متابعة المشي فيه، أشبه الخف. فإن شد على رجليه لفائف، لم يجز المسح عليها، لأنها لا تثبت
بنفسها إنما تثبت بشدها.
فصل:
الثالث: أن يكون مباحا فلا يجوز المسح على المغصوب والحرير، لأن لبسه معصية، فلا تستباح به الرخصة، كسفر المعصية.
فصل:
الرابع: أن تلبسهما على طهارة كاملة، لما روى المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في سفر فأهويت لأنزع خفيه، قال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما» متفق عليه. فإن تيمم، ثم لبس الخف، لم يجز المسح عليه، لأن طهارته لا ترفع الحدث. وإن لبست المستحاضة، ومن به سلس البول خفا على طهارتهما فلهما المسح، نص عليه، لأن طهارتهما كاملة في حقهما فإن عوفيا لم يجز المسح؛ لأنها صارت ناقصة في حقهما، فأشبهت التيمم.
وإن غسل إحدى رجليه، فأدخلها الخف، ثم غسل الأخرى فأدخلها، لم يجز المسح، لأنه لبس الأول قبل كمال الطهارة.
وعنه: يجوز لأنه أحدث بعد كمال الطهارة واللبس، فأشبه ما لو نزع الأول، ثم لبسه بعد أن غسل الأخرى.
وإن تطهر ولبس خفيه، فأحدث قبل بلوغ الرجل قدم الخف، لم يجز المسح،
لأن الرجل حصلت في مقرها وهو محدث فأشبه من بدأ اللبس محدثا، وإن لبس خفا على طهارة، ثم لبس فوقه آخر، أو جرموقا قبل أن يحدث جاز المسح على الفوقاني سواء كان التحتاني صحيحا أو مخرقا، لأنه خف صحيح يمكن متابعة المشي فيه لبسه على طهارة كاملة، أشبه المنفرد، وإن لبس الثاني بعد الحدث، لم يجز المسح عليه لأنه لبسه على غير طهارة، وإن مسح الأول، ثم لبس الثاني، لم يجز المسح عليه، لأن المسح لم يزل الحدث عن الرجل فلم تكمل الطهارة.
وإن كان التحتاني صحيحا، والفوقاني مخرقا، فالمنصوص جواز المسح لأن القدم مستور بخف صحيح. وقال بعض أصحابنا: لا يجوز، لأن الحكم تعلق بالفوقاني، فاعتبرت صحته كالمنفرد. وإن لبس المخرق فوق لفافة، لم يجز المسح عليه، لأن القدم لم يستتر بخف صحيح، وإن لبس مخرقا فوق مخرق فاستتر القدم بهما احتمل أن لا يجوز المسح لذلك، واحتمل أن يجوز، لأن القدم استتر بهما فصارا كالخف الواحد.
وهو جائز بغير خلاف لما روى جرير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بال، ثم توضأ، ومسح على خفيه» ، متفق عليه. قال إبراهيم: فكان يعجبهم هذا، لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة، ولأن الحاجة تدعو إلى لبسه، وتلحق المشقة بنزعه، فجاز المسح عليه كالجبائر ويختص جوازه بالوضوء دون الغسل، لما روى صفوان بن عسال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا إذا كنا مسافرين، أو سفر أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم» . أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. ولأن الغسل يقل فلا
تدعو الحاجة إلى المسح على الخف فيه بخلاف الوضوء، ولجواز المسح عليه شروط أربعة:
أحدها: أن يكون ساترا لمحل الفرض من القدم كله، فإن ظهر منه شيء لم يجز المسح، لأن حكم ما استتر المسح، وحكم ما ظهر الغسل، ولا سبيل إلى الجمع بينهما، فغلب الغسل، كما لو ظهرت إحدى الرجلين، فإن تخرقت البطانة دون الظهارة، أو الظهارة دون البطانة جاز المسح، لأن القدم مستور به، وإن كان فيه شق مستطيل ينضم لا يظهر منه القدم، جاز المسح [عليه] لذلك، وإن كان الخف رقيقا يصف لم يجز المسح عليه، لأنه غير ساتر، وإن كان ذي شرج في موضع القدم، وكان مشدودا لا يظهر شيء من القدم إذا مشى جاز المسح عليه، لأنه كالمخيط.
فصل:
الثاني: أن يمكن متابعة المشي فيه، فإن كان يسقط من القدم لسعته، أو ثقله لم يجز المسح عليه، لأن الذي تدعو الحاجة إليه هو الذي يمكن متابعة المشي فيه، وسواء في ذلك الجلود والخرق والجوارب لما روى المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مسح على الجوربين والنعلين» . أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. قال الإمام أحمد: يذكر المسح على الجوربين عن سبعة أو ثمانية من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأنه ملبوس ساتر للقدم يمكن متابعة المشي فيه، أشبه الخف. فإن شد على رجليه لفائف، لم يجز المسح عليها، لأنها لا تثبت
بنفسها إنما تثبت بشدها.
فصل:
الثالث: أن يكون مباحا فلا يجوز المسح على المغصوب والحرير، لأن لبسه معصية، فلا تستباح به الرخصة، كسفر المعصية.
فصل:
الرابع: أن تلبسهما على طهارة كاملة، لما روى المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في سفر فأهويت لأنزع خفيه، قال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما» متفق عليه. فإن تيمم، ثم لبس الخف، لم يجز المسح عليه، لأن طهارته لا ترفع الحدث. وإن لبست المستحاضة، ومن به سلس البول خفا على طهارتهما فلهما المسح، نص عليه، لأن طهارتهما كاملة في حقهما فإن عوفيا لم يجز المسح؛ لأنها صارت ناقصة في حقهما، فأشبهت التيمم.
وإن غسل إحدى رجليه، فأدخلها الخف، ثم غسل الأخرى فأدخلها، لم يجز المسح، لأنه لبس الأول قبل كمال الطهارة.
وعنه: يجوز لأنه أحدث بعد كمال الطهارة واللبس، فأشبه ما لو نزع الأول، ثم لبسه بعد أن غسل الأخرى.
وإن تطهر ولبس خفيه، فأحدث قبل بلوغ الرجل قدم الخف، لم يجز المسح،
لأن الرجل حصلت في مقرها وهو محدث فأشبه من بدأ اللبس محدثا، وإن لبس خفا على طهارة، ثم لبس فوقه آخر، أو جرموقا قبل أن يحدث جاز المسح على الفوقاني سواء كان التحتاني صحيحا أو مخرقا، لأنه خف صحيح يمكن متابعة المشي فيه لبسه على طهارة كاملة، أشبه المنفرد، وإن لبس الثاني بعد الحدث، لم يجز المسح عليه لأنه لبسه على غير طهارة، وإن مسح الأول، ثم لبس الثاني، لم يجز المسح عليه، لأن المسح لم يزل الحدث عن الرجل فلم تكمل الطهارة.
وإن كان التحتاني صحيحا، والفوقاني مخرقا، فالمنصوص جواز المسح لأن القدم مستور بخف صحيح. وقال بعض أصحابنا: لا يجوز، لأن الحكم تعلق بالفوقاني، فاعتبرت صحته كالمنفرد. وإن لبس المخرق فوق لفافة، لم يجز المسح عليه، لأن القدم لم يستتر بخف صحيح، وإن لبس مخرقا فوق مخرق فاستتر القدم بهما احتمل أن لا يجوز المسح لذلك، واحتمل أن يجوز، لأن القدم استتر بهما فصارا كالخف الواحد.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[فصل في مدة المسح على الخفين] / [فصل في نواقض المسح على الخفين]
[فصل في مدة المسح على الخفين]
فصل:
ويتوقت المسح بيوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، لما روى عوف بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم» . قال الإمام أحمد: هذا أجود حديث في المسح على الخفين لأنه في غزوة تبوك، آخر غزاة غزاها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو آخر فعله.
وسفر المعصية كالحضر، لأن ما زاد يستفاد بالسفر، وهو معصية فلم يجز أن يستفاد به الرخصة.
ويعتبر ابتداء المدة من حين الحدث بعد اللبس في إحدى الروايتين، لأنهما عبادة مؤقتة فاعتبر أول وقتها من حين جواز فعلها، كالصلاة. والأخرى من حين المسح، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أمر بالمسح ثلاثة أيام، فاقتضى أن تكون الثلاثة كلها يمسح فيها.
وإن أحدث في الحضر، ثم سافر قبل المسح، أتم مسح مسافر، لأنه بدأ العبادة في السفر.
وإن مسح في الحضر، ثم سافر، أو مسح في السفر ثم أقام، أتم مسح مقيم، لأنها عبادة يختلف حكمها بالحضر والسفر، فإذا وجد أحد طرفيها في الحضر غلب حكم كالصلاة، وإن مسح المسافر أكثر من يوم وليلة، ثم أقام، انقضت مدته في الحال. وإن شك هل بدأ المسح في الحضر، أو في السفر بنى على مسح الحضر، لأن الأصل الغسل والمسح رخصة، فإذا شككنا في شرطها رجعنا إلى الأصل. وإن لبس وأحدث، وصلى الظهر ثم شك هل مسح قبل الظهر أو بعدها، وقلنا: ابتداء المدة من حين المسح بنى الأمر في المسح على أنه قبل الظهر، وفي الصلاة على أنه مسح بعدها، لأن الأصل بقاء الصلاة، في ذمته، ووجوب غسل الرجل فرددنا كل واحد منهما إلى أصله.
فصل:
والسنة أن يمسح أعلى الخف دون أسفله وعقبه، فيضع يديه مفرجتي الأصابع على
أصابع قدميه، ثم يجرهما إلى ساقيه، لما روى المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح على الخفين على ظاهرهما» ، حديث حسن صحيح. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح على ظاهر خفيه» . رواه أبو داود.
فإن اقتصر على مسح الأكثر من أعلاه أجزأه، وإن اقتصر على مسح أسفله لم يجزه لأنه ليس محلا للمسح أشبه الساق.
[فصل في نواقض المسح على الخفين]
فصل:
إذا انقضت مدة المسح، أو خلع خفيه، أو أحدهما بعد المسح، بطلت طهارته في أشهر الروايتين، ولزمه خلعهما، لأن المسح أقيم مقام الغسل، فإذا زال بطلت الطهارة في القدمين، فتبطل في جميعها لكونها لا تتبعض.
والثانية، يجزئه غسل قدميه، لأنه زال بدل غسلهما فأجزأه المبدل كالمتيمم يجد الماء. وإن أخرج قدمه إلى ساق الخف، بطل المسح، لأن استباحة المسح تعلقت باستقرارهما، فبطلت بزواله كاللبس.
وإن مسح على الخف الفوقاني، ثم نزعه، بطل مسحه، ولزمه نزع التحتاني، لأنه زال الممسوح عليه، فأشبه المنفرد.
فصل:
ويتوقت المسح بيوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، لما روى عوف بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم» . قال الإمام أحمد: هذا أجود حديث في المسح على الخفين لأنه في غزوة تبوك، آخر غزاة غزاها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو آخر فعله.
وسفر المعصية كالحضر، لأن ما زاد يستفاد بالسفر، وهو معصية فلم يجز أن يستفاد به الرخصة.
ويعتبر ابتداء المدة من حين الحدث بعد اللبس في إحدى الروايتين، لأنهما عبادة مؤقتة فاعتبر أول وقتها من حين جواز فعلها، كالصلاة. والأخرى من حين المسح، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أمر بالمسح ثلاثة أيام، فاقتضى أن تكون الثلاثة كلها يمسح فيها.
وإن أحدث في الحضر، ثم سافر قبل المسح، أتم مسح مسافر، لأنه بدأ العبادة في السفر.
وإن مسح في الحضر، ثم سافر، أو مسح في السفر ثم أقام، أتم مسح مقيم، لأنها عبادة يختلف حكمها بالحضر والسفر، فإذا وجد أحد طرفيها في الحضر غلب حكم كالصلاة، وإن مسح المسافر أكثر من يوم وليلة، ثم أقام، انقضت مدته في الحال. وإن شك هل بدأ المسح في الحضر، أو في السفر بنى على مسح الحضر، لأن الأصل الغسل والمسح رخصة، فإذا شككنا في شرطها رجعنا إلى الأصل. وإن لبس وأحدث، وصلى الظهر ثم شك هل مسح قبل الظهر أو بعدها، وقلنا: ابتداء المدة من حين المسح بنى الأمر في المسح على أنه قبل الظهر، وفي الصلاة على أنه مسح بعدها، لأن الأصل بقاء الصلاة، في ذمته، ووجوب غسل الرجل فرددنا كل واحد منهما إلى أصله.
فصل:
والسنة أن يمسح أعلى الخف دون أسفله وعقبه، فيضع يديه مفرجتي الأصابع على
أصابع قدميه، ثم يجرهما إلى ساقيه، لما روى المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح على الخفين على ظاهرهما» ، حديث حسن صحيح. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح على ظاهر خفيه» . رواه أبو داود.
فإن اقتصر على مسح الأكثر من أعلاه أجزأه، وإن اقتصر على مسح أسفله لم يجزه لأنه ليس محلا للمسح أشبه الساق.
[فصل في نواقض المسح على الخفين]
فصل:
إذا انقضت مدة المسح، أو خلع خفيه، أو أحدهما بعد المسح، بطلت طهارته في أشهر الروايتين، ولزمه خلعهما، لأن المسح أقيم مقام الغسل، فإذا زال بطلت الطهارة في القدمين، فتبطل في جميعها لكونها لا تتبعض.
والثانية، يجزئه غسل قدميه، لأنه زال بدل غسلهما فأجزأه المبدل كالمتيمم يجد الماء. وإن أخرج قدمه إلى ساق الخف، بطل المسح، لأن استباحة المسح تعلقت باستقرارهما، فبطلت بزواله كاللبس.
وإن مسح على الخف الفوقاني، ثم نزعه، بطل مسحه، ولزمه نزع التحتاني، لأنه زال الممسوح عليه، فأشبه المنفرد.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[فصل في المسح على العمامة]
[فصل في المسح على العمامة]
فصل:
في المسح على العمامة: ويجوز المسح على العمامة لما روى المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «توضأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومسح على الخفين والعمامة» . حديث [حسن]
صحيح. وعن عمرو بن أمية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح على عمامته وخفيه» . رواهما البخاري. وروى الخلال بإسناده عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره الله. ولأن الرأس عضو سقط فرضه في التيمم، فجاز المسح على حائله كالقدمين. ويشترط أن تكون ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه، لأنه جرت العادة بكشفه في العمائم، فعفي عنه بخلاف بعض القدم، ويشترط أن تكون لها ذؤابة أو تكون تحت الحنك، لأن ما لا ذؤابة لها ولا حنك تشبه عمائم أهل الذمة، وقد نهي عن التشبه بهم، فلم تستبح بها الرخصة، كالخف المغصوب، فإن كانت ذات حنك جاز المسح عليها، وإن لم يكن لها ذؤابة، لأنها تفارق عمائم أهل الذمة.
وإن أرخى لها ذؤابة، ولم يتحنك، ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز المسح عليها لذلك.
والثاني: لا يجوز، لأنه يروى «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أمر بالتلحي ونهى عن الاقتعاط» ، قال أبو عبيد: الاقتعاط أن لا يكون تحت الحنك منها شيء.
فصل:
وحكمها في التوقيت، واشتراط تقديم الطهارة، وبطلان الطهارة بخلعها،
كحكم الخف لأنها أحد الممسوحين على سبيل البدل، وفيما يجزئه مسحه منها؟ روايتان:
إحداهما: مسح أكثرها لما ذكرنا.
والثاني: يلزمه استيعابها، لأنها بدل من جنس المبدل، فاعتبر كونه مثله، كما لو عجز عن قراءة الفاتحة، وقدر على قراءة غيرها اعتبر أن يكون بقدرها، ولو عجز عن القراءة فأبدلها بالتسبيح لم يعتبر كونه بقدرها. وإن خلع العمامة بعد مسحها. وقلنا لا يبطل الخلع الطهارة. لزمه مسح رأسه، وغسل قدميه، ليأتي بالترتيب.
وإن قلنا بوجوب استيعاب مسح الرأس، فظهرت ناصيته، ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه مسحها معه، لأن المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين» . ولأنه جزء من الرأس ظاهر، فلزم مسحه، كما لو ظهر سائر رأسه.
والثاني: لا يلزمه، لأن الفرض تعلق بالعمامة، فلم يجب مسح غيرها، كما لو ظهرت أذناه.
وإن انتقض من العمامة كور، ففيه روايتان:
إحداهما: يبطل المسح لزوال الممسوح عليه.
والأخرى: لا يبطل، لأن العمامة باقية، أشبه كشط الخف مع بقاء البطانة.
فصل:
ولا يجوز المسح على الكلوتة ولا وقاية المرأة لأنها لا تستر جميع الرأس، ولا يشق نزعها، فأما القلانس المبطنات، كدنيات القضاة والنوميات، وخمار المرأة، ففيها روايتان:
إحداهما: يجوز المسح عليها؛ لأن أنسا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مسح على قلنسوته. وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن شاء حسر عن رأسه، وإن شاء مسح على قلنسوته وعمامته. وكانت أم سلمة تمسح على الخمار. وقال الخلال: قد روي المسح على القلنسوة من رجلين من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأسانيد صحاح، واختاره لأنه ملبوس للرأس معتاد أشبه العمامة.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه لا يشق نزع القلنسوة، ولا يشق على المرأة المسح من تحت خمارها، فأشبه الكلوتة والوقاية.
فصل:
في المسح على العمامة: ويجوز المسح على العمامة لما روى المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «توضأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومسح على الخفين والعمامة» . حديث [حسن]
صحيح. وعن عمرو بن أمية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح على عمامته وخفيه» . رواهما البخاري. وروى الخلال بإسناده عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره الله. ولأن الرأس عضو سقط فرضه في التيمم، فجاز المسح على حائله كالقدمين. ويشترط أن تكون ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه، لأنه جرت العادة بكشفه في العمائم، فعفي عنه بخلاف بعض القدم، ويشترط أن تكون لها ذؤابة أو تكون تحت الحنك، لأن ما لا ذؤابة لها ولا حنك تشبه عمائم أهل الذمة، وقد نهي عن التشبه بهم، فلم تستبح بها الرخصة، كالخف المغصوب، فإن كانت ذات حنك جاز المسح عليها، وإن لم يكن لها ذؤابة، لأنها تفارق عمائم أهل الذمة.
وإن أرخى لها ذؤابة، ولم يتحنك، ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز المسح عليها لذلك.
والثاني: لا يجوز، لأنه يروى «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أمر بالتلحي ونهى عن الاقتعاط» ، قال أبو عبيد: الاقتعاط أن لا يكون تحت الحنك منها شيء.
فصل:
وحكمها في التوقيت، واشتراط تقديم الطهارة، وبطلان الطهارة بخلعها،
كحكم الخف لأنها أحد الممسوحين على سبيل البدل، وفيما يجزئه مسحه منها؟ روايتان:
إحداهما: مسح أكثرها لما ذكرنا.
والثاني: يلزمه استيعابها، لأنها بدل من جنس المبدل، فاعتبر كونه مثله، كما لو عجز عن قراءة الفاتحة، وقدر على قراءة غيرها اعتبر أن يكون بقدرها، ولو عجز عن القراءة فأبدلها بالتسبيح لم يعتبر كونه بقدرها. وإن خلع العمامة بعد مسحها. وقلنا لا يبطل الخلع الطهارة. لزمه مسح رأسه، وغسل قدميه، ليأتي بالترتيب.
وإن قلنا بوجوب استيعاب مسح الرأس، فظهرت ناصيته، ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه مسحها معه، لأن المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين» . ولأنه جزء من الرأس ظاهر، فلزم مسحه، كما لو ظهر سائر رأسه.
والثاني: لا يلزمه، لأن الفرض تعلق بالعمامة، فلم يجب مسح غيرها، كما لو ظهرت أذناه.
وإن انتقض من العمامة كور، ففيه روايتان:
إحداهما: يبطل المسح لزوال الممسوح عليه.
والأخرى: لا يبطل، لأن العمامة باقية، أشبه كشط الخف مع بقاء البطانة.
فصل:
ولا يجوز المسح على الكلوتة ولا وقاية المرأة لأنها لا تستر جميع الرأس، ولا يشق نزعها، فأما القلانس المبطنات، كدنيات القضاة والنوميات، وخمار المرأة، ففيها روايتان:
إحداهما: يجوز المسح عليها؛ لأن أنسا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مسح على قلنسوته. وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن شاء حسر عن رأسه، وإن شاء مسح على قلنسوته وعمامته. وكانت أم سلمة تمسح على الخمار. وقال الخلال: قد روي المسح على القلنسوة من رجلين من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأسانيد صحاح، واختاره لأنه ملبوس للرأس معتاد أشبه العمامة.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه لا يشق نزع القلنسوة، ولا يشق على المرأة المسح من تحت خمارها، فأشبه الكلوتة والوقاية.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[فصل في المسح على الجبيرة]
[فصل في المسح على الجبيرة]
فصل:
ويجوز المسح على الجبائر الموضوعة على الكسر، لأنه يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «انكسرت إحدى زندي فأمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أمسح عليها» . رواه ابن ماجه، ولأنه ملبوس يشق نزعه، فجاز المسح عليه كالخف، ولا إعادة على الماسح لما ذكرنا.
ويشترط أن لا يتجاوز بالشد موضع الحاجة لأن المسح عليها إنما جاز للضرورة، فوجب أن يتقيد الجواز بموضع الضرورة.
وتفارق الجبيرة الخف في ثلاثة أشياء:
أحدها: أنه يجب مسح جميعها، لأنه مسح للضرورة أشبه التيمم، ولأن استيعابها بالمسح لا يضر بخلاف الخف.
الثاني: أن مسحها لا يتوقف، لأنه جاز لأجل الضرورة فيبقى ببقائه.
الثالث: أنه يجوز في الطهارة الكبرى، لأنه مسح أجيز للضرورة أشبه التيمم.
وفي تقدم الطهارة روايتان:
إحداهما: يشترط لأنه حائل منفصل يمسح عليه، أشبه الخف، فإن لبسها على غير طهارة، أو تجاوز بشدها موضع الحاجة، وخاف الضرر بنزعها تيمم لها، كالجريح العاجز عن غسل جرحه.
والثانية: لا يشترط، لأنه مسح أجيز للضرورة، فلم يشترط تقدم الطهارة له كالتيمم.
فصل: ولا فرق بين الجبيرة على كسر، أو جرح يخاف الضرر بغسله؛ لأنه موضع يحتاج إلى الشد عليه، فأشبه الكسر، ولو وضع على الجرح دواء، وخاف الضرر
بنزعه، مسح عليه، نص عليه. وقد روى الأثرم بإسناده عن ابن عمر أنه خرجت بإبهامه قرحة، فألقمها مرارة، فكان يتوضأ عليها.
فصل:
ويجوز المسح على الجبائر الموضوعة على الكسر، لأنه يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «انكسرت إحدى زندي فأمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أمسح عليها» . رواه ابن ماجه، ولأنه ملبوس يشق نزعه، فجاز المسح عليه كالخف، ولا إعادة على الماسح لما ذكرنا.
ويشترط أن لا يتجاوز بالشد موضع الحاجة لأن المسح عليها إنما جاز للضرورة، فوجب أن يتقيد الجواز بموضع الضرورة.
وتفارق الجبيرة الخف في ثلاثة أشياء:
أحدها: أنه يجب مسح جميعها، لأنه مسح للضرورة أشبه التيمم، ولأن استيعابها بالمسح لا يضر بخلاف الخف.
الثاني: أن مسحها لا يتوقف، لأنه جاز لأجل الضرورة فيبقى ببقائه.
الثالث: أنه يجوز في الطهارة الكبرى، لأنه مسح أجيز للضرورة أشبه التيمم.
وفي تقدم الطهارة روايتان:
إحداهما: يشترط لأنه حائل منفصل يمسح عليه، أشبه الخف، فإن لبسها على غير طهارة، أو تجاوز بشدها موضع الحاجة، وخاف الضرر بنزعها تيمم لها، كالجريح العاجز عن غسل جرحه.
والثانية: لا يشترط، لأنه مسح أجيز للضرورة، فلم يشترط تقدم الطهارة له كالتيمم.
فصل: ولا فرق بين الجبيرة على كسر، أو جرح يخاف الضرر بغسله؛ لأنه موضع يحتاج إلى الشد عليه، فأشبه الكسر، ولو وضع على الجرح دواء، وخاف الضرر
بنزعه، مسح عليه، نص عليه. وقد روى الأثرم بإسناده عن ابن عمر أنه خرجت بإبهامه قرحة، فألقمها مرارة، فكان يتوضأ عليها.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب نواقض الطهارة الصغرى]
[باب نواقض الطهارة الصغرى]
وهي ثمانية: الخارج من السبيلين، وهو نوعان:
معتاد فينقض بلا خلاف، لقول الله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6] ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولكن من غائط وبول ونوم» وقوله: «فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا» وقال في المذي: «يغسل ذكره ويتوضأ» متفق عليه.
النوع الثاني: نادر كالحصى والدود والشعر والدم، فينقض أيضا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال للمستحاضة: «تتوضأ عند كل صلاة» رواه أبو داود، ودمها غير معتاد، ولأنه خارج من السبيل، أشبه المعتاد، ولا فرق بين القليل والكثير.
فصل:
الثاني: خروج النجاسة من سائر البدن، وهو نوعان:
غائط وبول فينقض قليله وكثيره، لدخوله في النصوص المذكورة.
الثاني: دم وقيح وصديد وغيره، فينقض كثيره، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال لفاطمة بنت أبي حبيش: «إنه دم عرق فتوضئي لكل صلاة» رواه الترمذي، فعلل بكونه دم عرق، وهذا كذلك، ولأنها نجاسة خارجة من البدن، أشبهت الخارج من السبيل. ولا ينقض يسيره لقول ابن عباس في الدم: إذا كان فاحشا فعليه الإعادة، قال الإمام أحمد: عدة من الصحابة تكلموا فيه، ابن عمر عصر بثرة فخرج دم، فصلى ولم يتوضأ، وابن أبي أوفى عصر دملا، وذكر غيرهما، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعا.
وظاهر مذهب أحمد أنه لا حد للكثير إلا ما فحش، لقول ابن عباس.
وقال ابن عقيل: إنما يعتبر الفاحش في نفوس أوساط الناس، لا المتبذلين، ولا الموسوسين، كما رجعنا في يسير اللقطة الذي لا يجب تعريفه إلى ما لا تتبعه نفوس الأوساط.
وعن أحمد: أن الكثير شبر في شبر.
وعنه: قدر الكف فاحش.
وعنه: قدر عشر أصابع كثير، وما يرفعه بأصابعه الخمس يسير.
قال الخلال: والذي استقر عليه قوله: إن الفاحش ما يستفحشه كل إنسان في نفسه.
فصل:
الثالث: زوال العقل، وهو نوعان:
أحدهما: النوم فينقض، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولكن من غائط وبول ونوم» . وعنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «العين وكاء السه فمن نام فليتوضأ» رواه أبو داود. ولأن النوم مظنة الحدث، فقام مقامه كسائر المظان. ولا يخلو من أربع أحوال:
أحدها: أن يكون مضجعا أو متكئا أو معتمدا على شيء، فينقض الوضوء قليله وكثيره، لما رويناه.
والثاني: أن يكون جالسا غير معتمد على شيء فلا ينقض قليله، لما روى أنس «أن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا ينتظرون العشاء فينامون قعودا ثم يصلون، ولا يتوضؤون» رواه مسلم بمعناه. ولأن النوم إنما نقض، لأنه مظنة لخروج الريح من غير علمه، ولا يحصل ذلك ههنا، لأنه يشق التحرز منه لكثرة وجوده من منتظري الصلاة، فعفي عنه، وإن كثر واستثقل، نقض، لأنه لا يعلم بالخارج مع استثقاله ويمكن التحرز منه.
الحال الثالث: القائم، ففيه روايتان:
إحداهما: إلحاقه بحالة الجلوس، لأنه في معناه.
والثانية: ينقض يسيره، لأنه لا يتحفظ حفاظ الجالس.
الرابع: الراكع والساجد، وفيه روايتان:
أولاهما: أنه كالمضطجع لأنه ينفرج محل الحدث، فلا يتحفظ، فأشبه المضطجع.
والثانية: أنه كالجالس، لأنه على حال من أحوال الصلاة، أشبه الجالس.
والمرجع في اليسير والكثير إلى العرف، ما عد كثيرا فهو كثير، وما لا فلا، لأنه لا حد له في الشرع فيرجع فيه إلى العرف، كالقبض والإحراز، وإن تغير عن هيئته انتقض وضوءه لأنه دليل على كثرته استثقال فيه.
النوع الثاني: زوال العقل بجنون أو إغماء أو سكر ينقض الوضوء، لأنه لما نص على نقضه بالنوم نبه على نقضه بهذه الأشياء، لأنها أبلغ في إزالة العقل، ولا فرق بين الجالس وغيره، والقليل والكثير، لأن صاحب هذه الأمور لا يحس بحال، بخلاف النائم فإنه إذا نبه انتبه، وإن خرج منه شيء قبل استثقاله في نومه أحس به.
فصل:
الرابع: أكل لحم الجزور فينقض الوضوء، لما روى جابر بن سمرة «أن رجلا سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: " إن شئت توضأ، وإن شئت فلا تتوضأ " قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: " نعم توضأ من لحوم الإبل» رواه مسلم. قال أبو عبد الله: فيه حديثان صحيحان عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حديث البراء بن عازب، وجابر بن سمرة. ولا فرق بين قليله وكثيره، ونيئه ومطبوخه، لعموم الحديث.
وعنه في من أكل وصلى ولم يتوضأ: إن كان يعلم أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بالوضوء منه، فعليه الإعادة، وإن كان جاهلا فلا إعادة عليه.
وفي اللبن روايتان:
إحداهما: لا ينقض؛ لأنه ليس بلحم.
والثانية: ينقض، لما روى أسيد بن حضير أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «توضؤوا من لحوم الإبل وألبانها» رواه أحمد في المسند.
وفي الكبد والطحال، وما لا يسمى لحما وجهان:
أحدهما: لا ينقض؛ لأنه ليس بلحم.
والثاني: ينقض، لأنه من جملته، فأشبه اللحم، وقد نص الله على تحريم لحم الخنزير فدخل فيه سائر أجزائه.
ولا ينقض الوضوء مأكول غير لحم الإبل، ولا ما غيرت الناس لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في لحم الغنم: «وإن شئت فلا توضأ» ويروى أن آخر الأمرين من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ترك الوضوء مما غيرت النار» . رواه أبو داود.
فصل:
والخامس: لمس الذكر فيه ثلاث روايات:
إحداهن: لا ينقض [الوضوء] ، لما روى قيس بن طلق [عن أبيه] «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سئل عن الرجل يمس ذكره، وهو في الصلاة. قال: " هل هو إلا بضعة منك» رواه أبو داود. ولأنه جزء من جسده، أشبه يده.
والثانية: ينقض وهي أصح، لما روت بسرة بنت صفوان أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مس ذكره فليتوضأ» . قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هو حديث صحيح. وروى أبو هريرة نحوه، وهو متأخر عن حديث طلق، لأن في حديث طلق أنه قدم، وهم يؤسسون المسجد، وأبو هريرة قدم حين فتحت خيبر فيكون ناسخا له.
والثالثة: إن قصد إلي مسه نقض، ولا ينقض من غير قصد، لأنه لمس فلم ينقض بغير قصد كلمس النساء.
وفي لمس حلقة الدبر، ومس المرأة فرجها روايتان:
إحداهما: لا ينقض لأن تخصيص الذكر بالنقض دليل على عدمه من غيره.
والثانية: ينقض، لأن أبا أيوب وأم حبيبة قالا: سمعنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من مس فرجه فليتوضأ» قال أحمد: حديث أم حبيبة صحيح. وهذا عام؛ ولأنه سبيل فأشبه الذكر.
وحكم لمسه فرج غيره حكم لمس فرج نفسه صغيرا كان أو كبيرا، لأن نصه على نقض الوضوء بمس ذكر نفسه، ولم يهتك به حرمة وهذا تنبيه على نقضه بمسه من غيره.
وفي مس الذكر المقطوع وجهان:
أحدهما: لا ينقض كمس يد المرأة المقطوعة.
والآخر: ينقض، لأنه مس ذكر. وإن انسد المخرج وانفتح غيره لم ينقض مسه، لأنه ليس بفرج. ولا ينقض مس فرج البهيمة، لأنه لا حرمة لها، ولا مس ذكر الخنثى المشكل، ولا قبله، لأنه لا يتحقق كونه فرجا. وإن مسهما معا نقض لأن أحدهما فرج. وإن مس رجل ذكره لشهوة نقض، لأنه إن كان ذكرا فقد مس ذكره، وإن كانت امرأة فقد مسها لشهوة. وإن مست امرأة قبله لشهوة فكذلك
لما ذكرنا. واللمس الذي ينقض هو اللمس بيده إلى الكوع، ولا فرق بين ظهر الكف وبطنه، لأن أبا هريرة روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره ليس بينهما شيء فليتوضأ» من " المسند "، ورواه الدارقطني بمعناه. واليد المطلقة تتناول اليد إلى الكوع لما نذكره في التيمم.
ولا ينقض غير الفرج كالعانة والأنثيين وغيرهما، لأن تخصيص الفرج به دليل على عدمه فيما سواه.
فصل:
السادس: لمس النساء وهو أن تمس بشرته بشرة أنثى، وفيه ثلاث روايات:
إحداهن: ينقض بكل حال، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]
الثانية: لا ينقض لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل عائشة ثم صلى ولم يتوضأ» . رواه أبو داود، وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «فقدت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجعلت أطلبه فوقعت يدي على قدميه، وهما منصوبتان، وهو ساجد» . رواه النسائي ومسلم. ولو بطل وضوءه لفسدت صلاته.
والثالثة: هي ظاهر المذهب أنه ينقض إذا كان لشهوة، ولا ينقض لغيرها جمعا بين الآية والأخبار، ولأن اللمس ليس بحدث، إنما هو داع إلى الحدث، فاعتبرت فيه الحالة التي تدعو فيها إلى الحدث كالنوم.
ولا فرق بين الصغيرة والكبيرة، وذوات المحارم وغيرهن، لعموم الأدلة فيه.
وإن لمست امرأة رجلا ففيه روايتان:
إحداهما: أنها كالرجل، لأنها ملامسة توجب طهارة فاستوى فيها الرجل والمرأة كالجماع.
والثانية: لا ينقض وضوءها، لأن النص لم يرد فيها، ولا يصح قياسها على المنصوص، لأن اللمس منه أدعى إلى الخروج.
وهل ينقض وضوء الملموس؟ فيه روايتان.
وإن لمس سن امرأة أو شعرها أو ظفرها لم ينقض وضوءه. لأنه لا يقع عليها
الطلاق بإيقاعه عليه، وإن لمس عضوا مقطوعا، لم ينقض وضوءه، لأنه لا يقع عليه اسم امرأة، وإن مس غلاما أو بهيمة أو مست امرأة امرأة، لم ينقض الوضوء، لأنه ليس محلا لشهوة الآخر شرعا.
فصل:
السابع: الردة عن الإسلام، وهو أن ينطق بكلمة الكفر، أو يعتقدها، أو يشك شكا يخرجه عن الإسلام، فينتقض وضوءه لقول الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ولأن الردة حدث لقول ابن عباس: الحدث حدثان وأشدهما حدث اللسان. فيدخل في عموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ» متفق عليه. ولأنها طهارة من حدث، فأبطلتها الردة كالتيمم.
فصل:
الثامن: غسل الميت. عده أصحابنا من نواقض الوضوء، لأن ابن عمر وابن عباس كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء. وقال أبو هريرة: أقل ما فيه الوضوء، لأنه مظنة لمس الفرج فأقيم مقامه كالنوم مع الحدث. ولا فرق بين الميت المسلم، والكافر، والصغير والكبير في ذلك، لعموم الأمر والمعنى.
وكلام أحمد يدل على أنه مستحب غير واجب، فإنه قال: أحب إلي أن يتوضأ. وعلل نفي وجوب الغسل من غسل الميت بكون الحديث موقوفا على أبي هريرة والوضوء كذلك، ولأنه ليس بمنصوص عليه، ولا هو في معنى المنصوص، والأصل عدم وجوبه، فيبقى عليه، وما عدا هذا لا ينقض بحال.
فصل:
ومن تيقن الطهارة وشك هل أحدث أم لا فهو على طهارته، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه هل خرج شيء أو لم يخرج؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا» رواه مسلم والبخاري، ولأن اليقين لا يزال بالشك.
وإن تيقن الحدث، شك في الطهارة، فهو محدث لذلك.
وإن تيقنهما، وشك في السابق منهما نظر في حاله قبلهما فإن كان متطهرا فهو محدث الآن لأنه تيقن زوال تلك الطهارة، بحدث وشك هل زال أم لا، فلم يزل يقين الحدث بشك الطهارة، وإن كان قبلهما محدثا، فهو الآن متطهر لما ذكرنا في التي قبلها.
فصل:
ولا تشترط الطهارتان معا إلا لثلاثة أشياء:
الصلاة: لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ» .
والطواف: لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام» رواه
الشافعي في مسنده.
ومس المصحف: لقول الله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] . وفي كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» رواه الأثرم. ولا بأس بحمله في كمه أو بعلاقته، وتصفحه بعود، لأنه ليس بمس له، ولذلك لو فعله بامرأة لم ينتقض وضوءه.
وإن مس المحدث كتاب فقه، أو رسالة فيها آي من القرآن جاز لأنه لا يسمى مصحفا، والقصد منه غير القرآن، ولذلك «كتب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قيصر في رسالته: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] الآية» متفق عليه. وكذلك إن مس ثوبا مطرزا بآية من القرآن.
وإن مس درهما مكتوبا عليه آية فكذلك في أحد الوجهين لما ذكرنا.
والثاني: لا يجوز لأنه معظم ما فيه من القرآن.
وفي مس الصبيان ألواحهم، وحملها على غير طهارة وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنهم محدثون، فأشبهوا البالغين.
والثاني: يجوز؛ لأن حاجتهم ماسة إلى ذلك ولا تتحفظ طهارتهم، فأشبه الدرهم.
ومن كان طاهرا وبعض أعضائه نجس فمس المصحف بالعضو الطاهر جاز، لأن حكم النجاسة لا يتعدى محلها بخلاف الحدث.
فصل:
ويستحب تجديد الطهارة، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتوضأ لكل صلاة» طلبا للفضل. رواه البخاري.
" «وصلى يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد» ليبين الجواز. رواه مسلم.
وهي ثمانية: الخارج من السبيلين، وهو نوعان:
معتاد فينقض بلا خلاف، لقول الله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6] ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولكن من غائط وبول ونوم» وقوله: «فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا» وقال في المذي: «يغسل ذكره ويتوضأ» متفق عليه.
النوع الثاني: نادر كالحصى والدود والشعر والدم، فينقض أيضا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال للمستحاضة: «تتوضأ عند كل صلاة» رواه أبو داود، ودمها غير معتاد، ولأنه خارج من السبيل، أشبه المعتاد، ولا فرق بين القليل والكثير.
فصل:
الثاني: خروج النجاسة من سائر البدن، وهو نوعان:
غائط وبول فينقض قليله وكثيره، لدخوله في النصوص المذكورة.
الثاني: دم وقيح وصديد وغيره، فينقض كثيره، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال لفاطمة بنت أبي حبيش: «إنه دم عرق فتوضئي لكل صلاة» رواه الترمذي، فعلل بكونه دم عرق، وهذا كذلك، ولأنها نجاسة خارجة من البدن، أشبهت الخارج من السبيل. ولا ينقض يسيره لقول ابن عباس في الدم: إذا كان فاحشا فعليه الإعادة، قال الإمام أحمد: عدة من الصحابة تكلموا فيه، ابن عمر عصر بثرة فخرج دم، فصلى ولم يتوضأ، وابن أبي أوفى عصر دملا، وذكر غيرهما، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعا.
وظاهر مذهب أحمد أنه لا حد للكثير إلا ما فحش، لقول ابن عباس.
وقال ابن عقيل: إنما يعتبر الفاحش في نفوس أوساط الناس، لا المتبذلين، ولا الموسوسين، كما رجعنا في يسير اللقطة الذي لا يجب تعريفه إلى ما لا تتبعه نفوس الأوساط.
وعن أحمد: أن الكثير شبر في شبر.
وعنه: قدر الكف فاحش.
وعنه: قدر عشر أصابع كثير، وما يرفعه بأصابعه الخمس يسير.
قال الخلال: والذي استقر عليه قوله: إن الفاحش ما يستفحشه كل إنسان في نفسه.
فصل:
الثالث: زوال العقل، وهو نوعان:
أحدهما: النوم فينقض، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولكن من غائط وبول ونوم» . وعنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «العين وكاء السه فمن نام فليتوضأ» رواه أبو داود. ولأن النوم مظنة الحدث، فقام مقامه كسائر المظان. ولا يخلو من أربع أحوال:
أحدها: أن يكون مضجعا أو متكئا أو معتمدا على شيء، فينقض الوضوء قليله وكثيره، لما رويناه.
والثاني: أن يكون جالسا غير معتمد على شيء فلا ينقض قليله، لما روى أنس «أن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا ينتظرون العشاء فينامون قعودا ثم يصلون، ولا يتوضؤون» رواه مسلم بمعناه. ولأن النوم إنما نقض، لأنه مظنة لخروج الريح من غير علمه، ولا يحصل ذلك ههنا، لأنه يشق التحرز منه لكثرة وجوده من منتظري الصلاة، فعفي عنه، وإن كثر واستثقل، نقض، لأنه لا يعلم بالخارج مع استثقاله ويمكن التحرز منه.
الحال الثالث: القائم، ففيه روايتان:
إحداهما: إلحاقه بحالة الجلوس، لأنه في معناه.
والثانية: ينقض يسيره، لأنه لا يتحفظ حفاظ الجالس.
الرابع: الراكع والساجد، وفيه روايتان:
أولاهما: أنه كالمضطجع لأنه ينفرج محل الحدث، فلا يتحفظ، فأشبه المضطجع.
والثانية: أنه كالجالس، لأنه على حال من أحوال الصلاة، أشبه الجالس.
والمرجع في اليسير والكثير إلى العرف، ما عد كثيرا فهو كثير، وما لا فلا، لأنه لا حد له في الشرع فيرجع فيه إلى العرف، كالقبض والإحراز، وإن تغير عن هيئته انتقض وضوءه لأنه دليل على كثرته استثقال فيه.
النوع الثاني: زوال العقل بجنون أو إغماء أو سكر ينقض الوضوء، لأنه لما نص على نقضه بالنوم نبه على نقضه بهذه الأشياء، لأنها أبلغ في إزالة العقل، ولا فرق بين الجالس وغيره، والقليل والكثير، لأن صاحب هذه الأمور لا يحس بحال، بخلاف النائم فإنه إذا نبه انتبه، وإن خرج منه شيء قبل استثقاله في نومه أحس به.
فصل:
الرابع: أكل لحم الجزور فينقض الوضوء، لما روى جابر بن سمرة «أن رجلا سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: " إن شئت توضأ، وإن شئت فلا تتوضأ " قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: " نعم توضأ من لحوم الإبل» رواه مسلم. قال أبو عبد الله: فيه حديثان صحيحان عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حديث البراء بن عازب، وجابر بن سمرة. ولا فرق بين قليله وكثيره، ونيئه ومطبوخه، لعموم الحديث.
وعنه في من أكل وصلى ولم يتوضأ: إن كان يعلم أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بالوضوء منه، فعليه الإعادة، وإن كان جاهلا فلا إعادة عليه.
وفي اللبن روايتان:
إحداهما: لا ينقض؛ لأنه ليس بلحم.
والثانية: ينقض، لما روى أسيد بن حضير أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «توضؤوا من لحوم الإبل وألبانها» رواه أحمد في المسند.
وفي الكبد والطحال، وما لا يسمى لحما وجهان:
أحدهما: لا ينقض؛ لأنه ليس بلحم.
والثاني: ينقض، لأنه من جملته، فأشبه اللحم، وقد نص الله على تحريم لحم الخنزير فدخل فيه سائر أجزائه.
ولا ينقض الوضوء مأكول غير لحم الإبل، ولا ما غيرت الناس لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في لحم الغنم: «وإن شئت فلا توضأ» ويروى أن آخر الأمرين من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ترك الوضوء مما غيرت النار» . رواه أبو داود.
فصل:
والخامس: لمس الذكر فيه ثلاث روايات:
إحداهن: لا ينقض [الوضوء] ، لما روى قيس بن طلق [عن أبيه] «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سئل عن الرجل يمس ذكره، وهو في الصلاة. قال: " هل هو إلا بضعة منك» رواه أبو داود. ولأنه جزء من جسده، أشبه يده.
والثانية: ينقض وهي أصح، لما روت بسرة بنت صفوان أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مس ذكره فليتوضأ» . قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هو حديث صحيح. وروى أبو هريرة نحوه، وهو متأخر عن حديث طلق، لأن في حديث طلق أنه قدم، وهم يؤسسون المسجد، وأبو هريرة قدم حين فتحت خيبر فيكون ناسخا له.
والثالثة: إن قصد إلي مسه نقض، ولا ينقض من غير قصد، لأنه لمس فلم ينقض بغير قصد كلمس النساء.
وفي لمس حلقة الدبر، ومس المرأة فرجها روايتان:
إحداهما: لا ينقض لأن تخصيص الذكر بالنقض دليل على عدمه من غيره.
والثانية: ينقض، لأن أبا أيوب وأم حبيبة قالا: سمعنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من مس فرجه فليتوضأ» قال أحمد: حديث أم حبيبة صحيح. وهذا عام؛ ولأنه سبيل فأشبه الذكر.
وحكم لمسه فرج غيره حكم لمس فرج نفسه صغيرا كان أو كبيرا، لأن نصه على نقض الوضوء بمس ذكر نفسه، ولم يهتك به حرمة وهذا تنبيه على نقضه بمسه من غيره.
وفي مس الذكر المقطوع وجهان:
أحدهما: لا ينقض كمس يد المرأة المقطوعة.
والآخر: ينقض، لأنه مس ذكر. وإن انسد المخرج وانفتح غيره لم ينقض مسه، لأنه ليس بفرج. ولا ينقض مس فرج البهيمة، لأنه لا حرمة لها، ولا مس ذكر الخنثى المشكل، ولا قبله، لأنه لا يتحقق كونه فرجا. وإن مسهما معا نقض لأن أحدهما فرج. وإن مس رجل ذكره لشهوة نقض، لأنه إن كان ذكرا فقد مس ذكره، وإن كانت امرأة فقد مسها لشهوة. وإن مست امرأة قبله لشهوة فكذلك
لما ذكرنا. واللمس الذي ينقض هو اللمس بيده إلى الكوع، ولا فرق بين ظهر الكف وبطنه، لأن أبا هريرة روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره ليس بينهما شيء فليتوضأ» من " المسند "، ورواه الدارقطني بمعناه. واليد المطلقة تتناول اليد إلى الكوع لما نذكره في التيمم.
ولا ينقض غير الفرج كالعانة والأنثيين وغيرهما، لأن تخصيص الفرج به دليل على عدمه فيما سواه.
فصل:
السادس: لمس النساء وهو أن تمس بشرته بشرة أنثى، وفيه ثلاث روايات:
إحداهن: ينقض بكل حال، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]
الثانية: لا ينقض لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل عائشة ثم صلى ولم يتوضأ» . رواه أبو داود، وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «فقدت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجعلت أطلبه فوقعت يدي على قدميه، وهما منصوبتان، وهو ساجد» . رواه النسائي ومسلم. ولو بطل وضوءه لفسدت صلاته.
والثالثة: هي ظاهر المذهب أنه ينقض إذا كان لشهوة، ولا ينقض لغيرها جمعا بين الآية والأخبار، ولأن اللمس ليس بحدث، إنما هو داع إلى الحدث، فاعتبرت فيه الحالة التي تدعو فيها إلى الحدث كالنوم.
ولا فرق بين الصغيرة والكبيرة، وذوات المحارم وغيرهن، لعموم الأدلة فيه.
وإن لمست امرأة رجلا ففيه روايتان:
إحداهما: أنها كالرجل، لأنها ملامسة توجب طهارة فاستوى فيها الرجل والمرأة كالجماع.
والثانية: لا ينقض وضوءها، لأن النص لم يرد فيها، ولا يصح قياسها على المنصوص، لأن اللمس منه أدعى إلى الخروج.
وهل ينقض وضوء الملموس؟ فيه روايتان.
وإن لمس سن امرأة أو شعرها أو ظفرها لم ينقض وضوءه. لأنه لا يقع عليها
الطلاق بإيقاعه عليه، وإن لمس عضوا مقطوعا، لم ينقض وضوءه، لأنه لا يقع عليه اسم امرأة، وإن مس غلاما أو بهيمة أو مست امرأة امرأة، لم ينقض الوضوء، لأنه ليس محلا لشهوة الآخر شرعا.
فصل:
السابع: الردة عن الإسلام، وهو أن ينطق بكلمة الكفر، أو يعتقدها، أو يشك شكا يخرجه عن الإسلام، فينتقض وضوءه لقول الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ولأن الردة حدث لقول ابن عباس: الحدث حدثان وأشدهما حدث اللسان. فيدخل في عموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ» متفق عليه. ولأنها طهارة من حدث، فأبطلتها الردة كالتيمم.
فصل:
الثامن: غسل الميت. عده أصحابنا من نواقض الوضوء، لأن ابن عمر وابن عباس كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء. وقال أبو هريرة: أقل ما فيه الوضوء، لأنه مظنة لمس الفرج فأقيم مقامه كالنوم مع الحدث. ولا فرق بين الميت المسلم، والكافر، والصغير والكبير في ذلك، لعموم الأمر والمعنى.
وكلام أحمد يدل على أنه مستحب غير واجب، فإنه قال: أحب إلي أن يتوضأ. وعلل نفي وجوب الغسل من غسل الميت بكون الحديث موقوفا على أبي هريرة والوضوء كذلك، ولأنه ليس بمنصوص عليه، ولا هو في معنى المنصوص، والأصل عدم وجوبه، فيبقى عليه، وما عدا هذا لا ينقض بحال.
فصل:
ومن تيقن الطهارة وشك هل أحدث أم لا فهو على طهارته، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه هل خرج شيء أو لم يخرج؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا» رواه مسلم والبخاري، ولأن اليقين لا يزال بالشك.
وإن تيقن الحدث، شك في الطهارة، فهو محدث لذلك.
وإن تيقنهما، وشك في السابق منهما نظر في حاله قبلهما فإن كان متطهرا فهو محدث الآن لأنه تيقن زوال تلك الطهارة، بحدث وشك هل زال أم لا، فلم يزل يقين الحدث بشك الطهارة، وإن كان قبلهما محدثا، فهو الآن متطهر لما ذكرنا في التي قبلها.
فصل:
ولا تشترط الطهارتان معا إلا لثلاثة أشياء:
الصلاة: لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ» .
والطواف: لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام» رواه
الشافعي في مسنده.
ومس المصحف: لقول الله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] . وفي كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» رواه الأثرم. ولا بأس بحمله في كمه أو بعلاقته، وتصفحه بعود، لأنه ليس بمس له، ولذلك لو فعله بامرأة لم ينتقض وضوءه.
وإن مس المحدث كتاب فقه، أو رسالة فيها آي من القرآن جاز لأنه لا يسمى مصحفا، والقصد منه غير القرآن، ولذلك «كتب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قيصر في رسالته: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] الآية» متفق عليه. وكذلك إن مس ثوبا مطرزا بآية من القرآن.
وإن مس درهما مكتوبا عليه آية فكذلك في أحد الوجهين لما ذكرنا.
والثاني: لا يجوز لأنه معظم ما فيه من القرآن.
وفي مس الصبيان ألواحهم، وحملها على غير طهارة وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنهم محدثون، فأشبهوا البالغين.
والثاني: يجوز؛ لأن حاجتهم ماسة إلى ذلك ولا تتحفظ طهارتهم، فأشبه الدرهم.
ومن كان طاهرا وبعض أعضائه نجس فمس المصحف بالعضو الطاهر جاز، لأن حكم النجاسة لا يتعدى محلها بخلاف الحدث.
فصل:
ويستحب تجديد الطهارة، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتوضأ لكل صلاة» طلبا للفضل. رواه البخاري.
" «وصلى يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد» ليبين الجواز. رواه مسلم.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب آداب التخلي]
[باب آداب التخلي]
يستحب لمن أراد قضاء الحاجة أن يقول: بسم الله. لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن
يقول: بسم الله» رواه ابن ماجه والترمذي. ويقول: «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» لما روى أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان إذا دخل الخلاء قال ذلك. متفق عليه.
فإذا خرج قال: «غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني» " لما روت عائشة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج من الخلاء قال: " غفرانك» حديث حسن. وعن أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج من الخلاء قال: «الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني» رواه ابن ماجه، ويقدم رجله اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج، لأن اليسرى للأذى واليمنى لما سواه، ويضع ما فيه ذكر الله أو قرآن
صيانة له، فإذا كان ذلك دراهم، فقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أرجو أن لا يكون به بأس. قال: والخاتم فيه اسم الله يجعله في بطن كفه، ويدخل الخلاء.
فصل:
وإن كان في الفضاء أبعد لما روى جابر قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد» .
ويستتر عن العيون، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «من أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من رمل فليستدبره» .
ويرتاد لبوله مكانا رخوا لئلا يترشش عليه. ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه كان إذا أراد حاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض» أخرج هذه الأحاديث الثلاثة أبو داود.
ويبول قاعدا لأنه أستر له، وأبعد من أن يترشش عليه.
فصل:
ولا يجوز استقبال القبلة في الفضاء بغائط ولا بول، لما روى أبو أيوب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا ". قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، فننحرف عنها، ونستغفر الله» ، متفق عليه.
وفي استدبارها روايتان:
إحداهما: لا يجوز، لهذا الحديث.
والأخرى: يجوز، لما روى ابن عمر قال: «رقيت يوما على بيت حفصة فرأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالسا على حاجته، مستقبل الشام، مستدبر الكعبة.» متفق عليه.
وفي استدبارها في البنيان روايتان:
إحداهما: لا يجوز لعموم النهي.
والثانية: يجوز، لما روى عراك بن مالك عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «ذكر عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن قوما يكرهون استقبال القبلة بفروجهم، فقال: " أو قد فعلوها؟ ! استقبلوا بمقعدتي القبلة» رواه الإمام أحمد وابن ماجه. قال أحمد: أحسن حديث يروى في الرخصة حديث عراك، وإن كان مرسلا فإن مخرجه حسن. سماه مرسلا، لأن عراكا لم يسمع من عائشة. وعن مروان الأصفر أنه قال: «أناخ ابن عمر بعيره مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليه فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن هذا؟ قال: بلى إنما نهي عن هذا في الفضاء أما إذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس» . رواه أبو داود.
ويكره أن يستقبل الشمس والقمر تكريما لهما، وأن يستقبل الريح لئلا ترد
البول عليه.
فصل:
ويكره أن يبول في شق أو ثقب، لما روى عبد الله بن سرجس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نهى أن يبال في الجحر» رواه أبو داود. ولأنه لا يأمن أن يكون مسكنا للجن، أو يكون فيه دابة تلسعه، ويكره البول في طريق أو ظل ينتفع به، أو مورد ماء، لما روى معاذ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل» رواه أبو داود، ويكره البول في موضع تسقط فيه الثمرة لئلا تتنجس به، والبول في المغتسل، لما روى عبد الله بن مغفل قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبول الرجل في مغتسله» رواه ابن ماجه. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن صب عليه الماء فجرى في البالوعة فذهب فلا بأس.
فصل:
يكره أن يتكلم على البول أو يسلم، أو يذكر الله تعالى بلسانه «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلم عليه رجل، وهو يبول، فلم يرد عليه حتى توضأ ثم قال: " كرهت أن أذكر الله إلا على طهر» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. ويكره الإطالة أكثر من
الحاجة، لأنه يقال: إن ذلك يدمي الكبد، ويأخذ منه الباسور. ويتوكأ في جلوسه على الرجل اليسرى، لما روى سراقة بن مالك قال: «علمنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أتينا الخلاء أن نتوكأ على اليسرى، وننصب اليمنى.» رواه الطبراني في معجمه، ولأنه أسهل لخروج الخارج، ويتنحنح ليخرج ما تم، ثم يسلت من أصل ذكره فيما بين المخرجين، ثم ينتره برفق ثلاثا فإذا أراد الاستنجاء تحول من موضعه لئلا يرش على نفسه.
فصل:
والاستنجاء واجب من كل خارج من السبيل معتادا كان أو نادرا، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المذي: «يغسل ذكره ويتوضأ» وقال: «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه» رواه أبو داود عن ابن أبي أوفى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والنسائي وأحمد والدارقطني وقال: إسناده حسن صحيح. ولأن المعتاد نجاسة لا مشقة في إزالتها فلم تصح الصلاة معها كالكثير، والنادر لا يخلو من رطوبة تصحبه غالبا، ولا يجب من الريح، لأنها ليست نجسة، ولا يصحبها نجاسة، وقد روي: «من استنجى من الريح فليس منا» رواه الطبراني في المعجم الصغير.
فصل:
وإن تعدت النجاسة المخرج بما لم تجر العادة به، كالصفحتين ومعظم الحشفة لم يجزئه إلا الماء، لأن ذلك نادر، فلم يجز فيه المسح، كيده وإن لم يتجاوز قدر العادة جاز بالماء والحجر، نادرا كان أو معتادا، لحديث ابن أبي أوفى، ولأن النادر
خارج يوجب الاستنجاء أشبه المعتاد. والأفضل الجمع بين الماء والحجر يبدأ بالحجر، لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «مرن أزواجكن أن يتبعوا الحجارة الماء من أثر الغائط والبول، فإني أستحييهم، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان يفعله» . حديث صحيح. ولأنه أبلغ في الإنقاء وأنظف. ولأن الحجر يزيل عين النجاسة، فلا تباشرها يده، فإن اقتصر على أحدهما جاز، والماء أفضل، لأن أنسا قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج لحاجة أجيء أنا وغلام معنا إداوة من ماء، يعني: يستنجي به» متفق عليه. ولأنه يزيل عين النجاسة وأثرها، ويطهر المحل.
وإن اقتصر على الحجر أجزأ بشرطين:
أحدهما: الإنقاء وهو أن لا يبقى إلا أثر لا يزيله إلا الماء بحيث يخرج الآخر نقيا.
والثاني: استيفاء ثلاثة أحجار، لقول سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «لقد نهانا - يعني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نستنجي باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستنجي برجيع أو عظم» . رواه مسلم. وإن كان الحجر كبيرا فمسح بجوانبه ثلاث مسحات أجزأه. ذكره الخرقي، لأن المقصود عدد المسحات دون عدد الأحجار بدليل أنا لم نقتصر على الأحجار بل عديناه إلى ما في معناه من الخشب والخرق.
وقال أبو بكر لا يجزئه اتباعا للفظ الحديث، وقال: لا يجزئه الاستجمار
بغير الأحجار، لأن الأمر ورد بها على الخصوص، ولا يصح، لأن في سياقه «وأن نستنجي برجيع أو عظم» فيدل على أنه أراد الحجر، وما في معناه، ولولا ذلك لم يخص هذين بالنهي، وروى طاوس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «فليستطب بثلاثة أحجار، أو ثلاثة أعواد، أو ثلاثة حثيات من تراب» رواه الدارقطني. ولأنه نص على الأحجار لمعنى معقول، فيتعداه الحكم كنصه على الغضب في منع القضاء.
فصل:
ويجوز الاستجمار بكل جامد طاهر منق، غير مطعوم، لا حرمة له، ولا متصل بحيوان، فيدخل فيه الحجر، وما قام مقامه من الخشب والخرق والتراب، ويخرج منه المائع، لأنه يتنجس بإصابة النجاسة، فيزيد المحل تنجسا، ويخرج منه النجس، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ألقى الروثة، وقال: «إنها ركس» رواه البخاري. ولأنه يكسب المحل نجاسة. فإن استجمر به، والمحل رطب، لم يجزه الاستجمار بعده، لأن المحل صار نجسا بنجاسة واردة عليه، فلزم غسله، كما لو تنجس بذلك في حال طهارته، ويخرج ما لا ينقي كالزجاج والفحم الرخو لأن الإنقاء شرط، ولا يحصل به، ويخرج المطعومات والروث والرمة، وإن كانا ظاهرين لما روى ابن مسعود أن النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قال: «لا تستنجوا بالروث، ولا بالعظام فإنه زاد إخوانكم من الجن» رواه مسلم. علل
النهي بكونه زادا للجن فزادنا أولى. ويخرج ما له حرمة كالورق المكتوب، لأن له حرمة، أشبه المطعوم، ويخرج منه ما يتصل بحيوان، كيده، وذنب بهيمة وصوفها المتصل بها، لأنه ذو حرمة، فأشبه سائر أعضاءها. وإن استجمر بما نهي عنه لم يصح، لأن الاستجمار رخصة فلا تستباح بالمحرم كسائر الرخص.
فصل:
ولا يستجمر بيمينه، ولا يستعين بها فيه، لحديث سلمان وروى أبو قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه» متفق عليه. فيأخذ ذكره بيساره، ويمسح به الحجر أو الأرض، فإن
كان الحجر صغيرا أمسكه بعقبيه، أو بإبهامي قدميه، فمسح عليه، فإن لم يمكنه، أخذ الحجر بيمينه، والذكر بيساره، فمسحه على الحجر.
ولا يكره الاستعانة باليمنى في الماء، لأن الحاجة داعية إليه، فإذا استجمر بيمينه أجزأه، لأن الاستجمار بالحجر لا باليد، فلم يقع النهي على ما يستنجى به.
فصل:
وكيف حصل الإنقاء في الاستجمار أجزأه إلا أن المستحب أن يمر حجرا من مقدم صفحته اليمنى إلى مؤخرها، ثم يمره على صفحته اليسرى حتى يرجع به إلى الموضع الذي بدأ منه، ثم يمر الثاني من مقدم صفحته اليسرى كذلك، ثم يمر الثالث على المسربة والصفحتين، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «أو لا يجد أحدكم حجرين للصفحتين، وحجرا للمسربة» رواه الدارقطني، وقال إسناد حسن. ويبدأ بالقبل لينظفه لئلا تتنجس يده به عند الاستجمار في الدبر، والمرأة مخيرة في البداءة بأيهما شاءت لعدم ذلك فيها.
فصل:
فإن توضأ قبل الاستنجاء ففيه روايتان:
إحداهما: لا يجزئه، لأنها طهارة يبطلها الحدث، فاشترط تقديم الاستنجاء عليها كالتيمم.
والثانية: يصح لأنها نجاسة فلم يشترط تقديم إزالتها كالتي على ساقه، فعلى هذه الرواية إن قدم التيمم على الاستجمار ففيه وجهان:
أحدهما: يصح قياسا على الوضوء.
والثاني: لا يصح لأنه لا يرفع الحدث، وإنما تستباح به الصلاة، فلا تباح مع قيام المانع. وإن تيمم وعلى بدنه نجاسة في غير الفرج، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح قياسا على نجاسة الفرج.
والثاني: يصح لأنها نجاسة لم توجب التيمم فلم تمنع صحته كالتي على ثوبه.
يستحب لمن أراد قضاء الحاجة أن يقول: بسم الله. لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن
يقول: بسم الله» رواه ابن ماجه والترمذي. ويقول: «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» لما روى أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان إذا دخل الخلاء قال ذلك. متفق عليه.
فإذا خرج قال: «غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني» " لما روت عائشة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج من الخلاء قال: " غفرانك» حديث حسن. وعن أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج من الخلاء قال: «الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني» رواه ابن ماجه، ويقدم رجله اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج، لأن اليسرى للأذى واليمنى لما سواه، ويضع ما فيه ذكر الله أو قرآن
صيانة له، فإذا كان ذلك دراهم، فقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أرجو أن لا يكون به بأس. قال: والخاتم فيه اسم الله يجعله في بطن كفه، ويدخل الخلاء.
فصل:
وإن كان في الفضاء أبعد لما روى جابر قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد» .
ويستتر عن العيون، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «من أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من رمل فليستدبره» .
ويرتاد لبوله مكانا رخوا لئلا يترشش عليه. ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه كان إذا أراد حاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض» أخرج هذه الأحاديث الثلاثة أبو داود.
ويبول قاعدا لأنه أستر له، وأبعد من أن يترشش عليه.
فصل:
ولا يجوز استقبال القبلة في الفضاء بغائط ولا بول، لما روى أبو أيوب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا ". قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، فننحرف عنها، ونستغفر الله» ، متفق عليه.
وفي استدبارها روايتان:
إحداهما: لا يجوز، لهذا الحديث.
والأخرى: يجوز، لما روى ابن عمر قال: «رقيت يوما على بيت حفصة فرأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالسا على حاجته، مستقبل الشام، مستدبر الكعبة.» متفق عليه.
وفي استدبارها في البنيان روايتان:
إحداهما: لا يجوز لعموم النهي.
والثانية: يجوز، لما روى عراك بن مالك عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «ذكر عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن قوما يكرهون استقبال القبلة بفروجهم، فقال: " أو قد فعلوها؟ ! استقبلوا بمقعدتي القبلة» رواه الإمام أحمد وابن ماجه. قال أحمد: أحسن حديث يروى في الرخصة حديث عراك، وإن كان مرسلا فإن مخرجه حسن. سماه مرسلا، لأن عراكا لم يسمع من عائشة. وعن مروان الأصفر أنه قال: «أناخ ابن عمر بعيره مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليه فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن هذا؟ قال: بلى إنما نهي عن هذا في الفضاء أما إذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس» . رواه أبو داود.
ويكره أن يستقبل الشمس والقمر تكريما لهما، وأن يستقبل الريح لئلا ترد
البول عليه.
فصل:
ويكره أن يبول في شق أو ثقب، لما روى عبد الله بن سرجس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نهى أن يبال في الجحر» رواه أبو داود. ولأنه لا يأمن أن يكون مسكنا للجن، أو يكون فيه دابة تلسعه، ويكره البول في طريق أو ظل ينتفع به، أو مورد ماء، لما روى معاذ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل» رواه أبو داود، ويكره البول في موضع تسقط فيه الثمرة لئلا تتنجس به، والبول في المغتسل، لما روى عبد الله بن مغفل قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبول الرجل في مغتسله» رواه ابن ماجه. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن صب عليه الماء فجرى في البالوعة فذهب فلا بأس.
فصل:
يكره أن يتكلم على البول أو يسلم، أو يذكر الله تعالى بلسانه «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلم عليه رجل، وهو يبول، فلم يرد عليه حتى توضأ ثم قال: " كرهت أن أذكر الله إلا على طهر» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. ويكره الإطالة أكثر من
الحاجة، لأنه يقال: إن ذلك يدمي الكبد، ويأخذ منه الباسور. ويتوكأ في جلوسه على الرجل اليسرى، لما روى سراقة بن مالك قال: «علمنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أتينا الخلاء أن نتوكأ على اليسرى، وننصب اليمنى.» رواه الطبراني في معجمه، ولأنه أسهل لخروج الخارج، ويتنحنح ليخرج ما تم، ثم يسلت من أصل ذكره فيما بين المخرجين، ثم ينتره برفق ثلاثا فإذا أراد الاستنجاء تحول من موضعه لئلا يرش على نفسه.
فصل:
والاستنجاء واجب من كل خارج من السبيل معتادا كان أو نادرا، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المذي: «يغسل ذكره ويتوضأ» وقال: «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه» رواه أبو داود عن ابن أبي أوفى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والنسائي وأحمد والدارقطني وقال: إسناده حسن صحيح. ولأن المعتاد نجاسة لا مشقة في إزالتها فلم تصح الصلاة معها كالكثير، والنادر لا يخلو من رطوبة تصحبه غالبا، ولا يجب من الريح، لأنها ليست نجسة، ولا يصحبها نجاسة، وقد روي: «من استنجى من الريح فليس منا» رواه الطبراني في المعجم الصغير.
فصل:
وإن تعدت النجاسة المخرج بما لم تجر العادة به، كالصفحتين ومعظم الحشفة لم يجزئه إلا الماء، لأن ذلك نادر، فلم يجز فيه المسح، كيده وإن لم يتجاوز قدر العادة جاز بالماء والحجر، نادرا كان أو معتادا، لحديث ابن أبي أوفى، ولأن النادر
خارج يوجب الاستنجاء أشبه المعتاد. والأفضل الجمع بين الماء والحجر يبدأ بالحجر، لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «مرن أزواجكن أن يتبعوا الحجارة الماء من أثر الغائط والبول، فإني أستحييهم، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان يفعله» . حديث صحيح. ولأنه أبلغ في الإنقاء وأنظف. ولأن الحجر يزيل عين النجاسة، فلا تباشرها يده، فإن اقتصر على أحدهما جاز، والماء أفضل، لأن أنسا قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج لحاجة أجيء أنا وغلام معنا إداوة من ماء، يعني: يستنجي به» متفق عليه. ولأنه يزيل عين النجاسة وأثرها، ويطهر المحل.
وإن اقتصر على الحجر أجزأ بشرطين:
أحدهما: الإنقاء وهو أن لا يبقى إلا أثر لا يزيله إلا الماء بحيث يخرج الآخر نقيا.
والثاني: استيفاء ثلاثة أحجار، لقول سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «لقد نهانا - يعني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نستنجي باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستنجي برجيع أو عظم» . رواه مسلم. وإن كان الحجر كبيرا فمسح بجوانبه ثلاث مسحات أجزأه. ذكره الخرقي، لأن المقصود عدد المسحات دون عدد الأحجار بدليل أنا لم نقتصر على الأحجار بل عديناه إلى ما في معناه من الخشب والخرق.
وقال أبو بكر لا يجزئه اتباعا للفظ الحديث، وقال: لا يجزئه الاستجمار
بغير الأحجار، لأن الأمر ورد بها على الخصوص، ولا يصح، لأن في سياقه «وأن نستنجي برجيع أو عظم» فيدل على أنه أراد الحجر، وما في معناه، ولولا ذلك لم يخص هذين بالنهي، وروى طاوس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «فليستطب بثلاثة أحجار، أو ثلاثة أعواد، أو ثلاثة حثيات من تراب» رواه الدارقطني. ولأنه نص على الأحجار لمعنى معقول، فيتعداه الحكم كنصه على الغضب في منع القضاء.
فصل:
ويجوز الاستجمار بكل جامد طاهر منق، غير مطعوم، لا حرمة له، ولا متصل بحيوان، فيدخل فيه الحجر، وما قام مقامه من الخشب والخرق والتراب، ويخرج منه المائع، لأنه يتنجس بإصابة النجاسة، فيزيد المحل تنجسا، ويخرج منه النجس، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ألقى الروثة، وقال: «إنها ركس» رواه البخاري. ولأنه يكسب المحل نجاسة. فإن استجمر به، والمحل رطب، لم يجزه الاستجمار بعده، لأن المحل صار نجسا بنجاسة واردة عليه، فلزم غسله، كما لو تنجس بذلك في حال طهارته، ويخرج ما لا ينقي كالزجاج والفحم الرخو لأن الإنقاء شرط، ولا يحصل به، ويخرج المطعومات والروث والرمة، وإن كانا ظاهرين لما روى ابن مسعود أن النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قال: «لا تستنجوا بالروث، ولا بالعظام فإنه زاد إخوانكم من الجن» رواه مسلم. علل
النهي بكونه زادا للجن فزادنا أولى. ويخرج ما له حرمة كالورق المكتوب، لأن له حرمة، أشبه المطعوم، ويخرج منه ما يتصل بحيوان، كيده، وذنب بهيمة وصوفها المتصل بها، لأنه ذو حرمة، فأشبه سائر أعضاءها. وإن استجمر بما نهي عنه لم يصح، لأن الاستجمار رخصة فلا تستباح بالمحرم كسائر الرخص.
فصل:
ولا يستجمر بيمينه، ولا يستعين بها فيه، لحديث سلمان وروى أبو قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه» متفق عليه. فيأخذ ذكره بيساره، ويمسح به الحجر أو الأرض، فإن
كان الحجر صغيرا أمسكه بعقبيه، أو بإبهامي قدميه، فمسح عليه، فإن لم يمكنه، أخذ الحجر بيمينه، والذكر بيساره، فمسحه على الحجر.
ولا يكره الاستعانة باليمنى في الماء، لأن الحاجة داعية إليه، فإذا استجمر بيمينه أجزأه، لأن الاستجمار بالحجر لا باليد، فلم يقع النهي على ما يستنجى به.
فصل:
وكيف حصل الإنقاء في الاستجمار أجزأه إلا أن المستحب أن يمر حجرا من مقدم صفحته اليمنى إلى مؤخرها، ثم يمره على صفحته اليسرى حتى يرجع به إلى الموضع الذي بدأ منه، ثم يمر الثاني من مقدم صفحته اليسرى كذلك، ثم يمر الثالث على المسربة والصفحتين، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «أو لا يجد أحدكم حجرين للصفحتين، وحجرا للمسربة» رواه الدارقطني، وقال إسناد حسن. ويبدأ بالقبل لينظفه لئلا تتنجس يده به عند الاستجمار في الدبر، والمرأة مخيرة في البداءة بأيهما شاءت لعدم ذلك فيها.
فصل:
فإن توضأ قبل الاستنجاء ففيه روايتان:
إحداهما: لا يجزئه، لأنها طهارة يبطلها الحدث، فاشترط تقديم الاستنجاء عليها كالتيمم.
والثانية: يصح لأنها نجاسة فلم يشترط تقديم إزالتها كالتي على ساقه، فعلى هذه الرواية إن قدم التيمم على الاستجمار ففيه وجهان:
أحدهما: يصح قياسا على الوضوء.
والثاني: لا يصح لأنه لا يرفع الحدث، وإنما تستباح به الصلاة، فلا تباح مع قيام المانع. وإن تيمم وعلى بدنه نجاسة في غير الفرج، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح قياسا على نجاسة الفرج.
والثاني: يصح لأنها نجاسة لم توجب التيمم فلم تمنع صحته كالتي على ثوبه.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب ما يوجب الغسل]
[باب ما يوجب الغسل]
والموجب له في حق الرجل ثلاثة أشياء:
الأول: إنزال المني، وهو الماء الدافق تشتد الشهوة عند خروجه، ويفتر البدن بعده. وماء الرجل أبيض ثخين، وماء المرأة أصفر رقيق، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر» رواه مسلم. فيجب الغسل بخروجه في
النوم واليقظة، «لأن أم سليم قالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : " نعم إذا رأت الماء» متفق عليه. فإن خرج لمرض من غير شهوة لم يوجب، لأن النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وصف المني الموجب بأنه غليظ أبيض، ولا يخرج في المرض إلا رقيقا. فإن احتلم فلم ير بللا فلا غسل عليه، لحديث أم سليم. وإن رأى منيا ولم يذكر احتلاما فعليه الغسل، لما روت عائشة قالت: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل يجد البلل، ولا يذكر احتلاما، فقال: " يغتسل» ". «وسئل عن الرجل يرى أنه قد احتلم، ولا يجد البلل، فقال: " لا غسل عليه» رواه أبو داود. فإن وجد منيا في ثوب ينام فيه هو وغيره، فلا غسل عليه، لأن الأصل عدم وجوبه، فلا يجب بالشك.
وإن لم يكن ينام فيه غيره، وهو ممن يمكن أن يحتلم كابن اثني عشر سنة فعليه الغسل،
وإعادة الصلاة من أحدث نومة نامها، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رأى في ثوبه منيا بعد أن صلى، فاغتسل وأعاد الصلاة.
فصل:
والمذي: ماء رقيق يخرج بعد الشهوة متسببا لا يحس بخروجه، فلا غسل فيه، ويجب منه الوضوء، لما روى سهل بن حنيف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كنت ألقى من المذي شدة وعناء، فكنت أكثر منه الاغتسال، فذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسألته عنه، فقال: " يجزيك من ذلك الوضوء» ، حديث صحيح. وهل يوجب غسل الذكر والأنثيين؟ على روايتين:
إحداهما: لا يوجب، لحديث سهل.
والثانية: يوجب لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كنت رجلا مذاء، فاستحييت أن أسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمكان ابنته، فأمرت المقداد فسأله، فقال: " يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ» رواه أبو داود.
والودي: ماء أبيض يخرج عقيب البول، فليس فيه إلا الوضوء، لأن الشرع لم يرد فيه بزيادة عليه.
فإن خرج منه شيء ولم يدر، أمنى هو أو غيره؟ في يقظة فلا غسل فيه، لأن المني الموجب للغسل يخرج دفقا بشهوة، فلا يشتبه بغيره، وإن كان في نوم، وكان نومه عقيب شهوة بملاعبة أهله، أو تذكر فهو مذي، لأن ذلك سبب المذي، والظاهر أنه
مذي، وإن لم يكن كذلك اغتسل، لحديث عائشة في الذي يجد البلل، ولأن خروج المني في النوم معتاد، وغيره نادر، فحمل الأمر على المعتاد.
فصل:
وإن أحس بانتقال المني من ظهره، فأمسك ذكره فلم يخرج، ففيه روايتان:
إحداهما: لا غسل عليه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رأت الماء» .
والثانية: يجب، لأنه خرج من مقره، أشبه ما لو ظهر.
فإن اغتسل فخرج بعد ذلك، وجب الغسل على الرواية الأولى، لأن الواجب متعلق بخروجه، ولم يجب على الثانية، لأنه تعلق بانتقاله، وقد اغتسل له.
وعنه: إن خرج قبل البول، وجب الغسل، لأنا نعلم أنه المني المنتقل، فإن خرج بعده لم يجب لأنه يحتمل أنه غيره، وهو خارج لغير شهوة، وفي فضلة المني الخارجة بعد الغسل الروايات الثلاث.
فصل:
والثاني: التقاء الختانين، وهو تغيب الحشفة في الفرج يوجب الغسل وإن عري عن الإنزال، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جلس بين شعبها الأربع
ومس الختان الختان فقد وجب الغسل» رواه مسلم. وختان الرجل: الجلدة التي تبقى بعد الختان، وختان المرأة، جلدة كعرف الديك في أعلى الفرج يقطع منها في الختان، فإذا غابت الحشفة في الفرج تحاذى ختاناهما فيقال: التقيا وإن لم يتماسا.
ويجب الغسل في الإيلاج في كل فرج، قبل أو دبر، من آدمي، أو بهيمة، حي أو ميت، لأنه فرج أشبه قبل المرأة.
فإن أولج من قبل الخنثى المشكل، فلا غسل عليهما لأنه لا يتيقن كونه فرجا فلا يجب الغسل بالشك.
فصل:
والثالث: إسلام الكافر وفيه روايتان:
إحداهما: يوجب الغسل، اختارها الخرقي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر ثمامة بن أثال، وقيس بن عاصم أن يغتسلا حين أسلما، ولأن الكافر لا يسلم من حدث لا يرتفع حكمه باغتساله، فقامت مظنة ذلك مقامه، ولا يلزمه أن يغتسل للجنابة، لأن الحكم تعلق بالمظنة، فسقط حكم المظنة كالمشقة في السفر.
والثانية: لا غسل عليه اختارها أبو بكر، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذ: «إنك تأتي قوما أهل كتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات» متفق عليه. ولم يأمرهم بالغسل، ولو كان أول الفروض لأمر به، ولأنه أسلم العدد الكثير، والجم الغفير، فلو أمروا بالغسل لنقل نقلا متواترا.
فإن أجنب في حال كفره احتمل أن لا يجب الغسل عليه لما ذكرناه، واحتمل أن يجب، وهو قول أبي بكر، لأن حكم الحدث باق.
فصل:
فأما المرأة فيجب من حقها الأغسال المذكورة، وتزيد بالغسل من الحيض، والنفاس، ونذكره في بابه.
ولا يجب الغسل بالولادة العارية عن دم، لأن الإيجاب من الشرع، ولم يوجب لها، ولا هي في معنى المنصوص عليه.
وعنه يجب بها، لأنها لا تكاد تعرى من نفاس موجب، فكانت مظنة له، فأقيمت مقامه كاتقاء الختانين مع الإنزال.
فصل:
ولا يجب الغسل بغير ذلك، من غسل ميت، أو إفاقة مجنون، أو مغمى عليه، لما ذكرناه.
والموجب له في حق الرجل ثلاثة أشياء:
الأول: إنزال المني، وهو الماء الدافق تشتد الشهوة عند خروجه، ويفتر البدن بعده. وماء الرجل أبيض ثخين، وماء المرأة أصفر رقيق، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر» رواه مسلم. فيجب الغسل بخروجه في
النوم واليقظة، «لأن أم سليم قالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : " نعم إذا رأت الماء» متفق عليه. فإن خرج لمرض من غير شهوة لم يوجب، لأن النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وصف المني الموجب بأنه غليظ أبيض، ولا يخرج في المرض إلا رقيقا. فإن احتلم فلم ير بللا فلا غسل عليه، لحديث أم سليم. وإن رأى منيا ولم يذكر احتلاما فعليه الغسل، لما روت عائشة قالت: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل يجد البلل، ولا يذكر احتلاما، فقال: " يغتسل» ". «وسئل عن الرجل يرى أنه قد احتلم، ولا يجد البلل، فقال: " لا غسل عليه» رواه أبو داود. فإن وجد منيا في ثوب ينام فيه هو وغيره، فلا غسل عليه، لأن الأصل عدم وجوبه، فلا يجب بالشك.
وإن لم يكن ينام فيه غيره، وهو ممن يمكن أن يحتلم كابن اثني عشر سنة فعليه الغسل،
وإعادة الصلاة من أحدث نومة نامها، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رأى في ثوبه منيا بعد أن صلى، فاغتسل وأعاد الصلاة.
فصل:
والمذي: ماء رقيق يخرج بعد الشهوة متسببا لا يحس بخروجه، فلا غسل فيه، ويجب منه الوضوء، لما روى سهل بن حنيف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كنت ألقى من المذي شدة وعناء، فكنت أكثر منه الاغتسال، فذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسألته عنه، فقال: " يجزيك من ذلك الوضوء» ، حديث صحيح. وهل يوجب غسل الذكر والأنثيين؟ على روايتين:
إحداهما: لا يوجب، لحديث سهل.
والثانية: يوجب لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كنت رجلا مذاء، فاستحييت أن أسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمكان ابنته، فأمرت المقداد فسأله، فقال: " يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ» رواه أبو داود.
والودي: ماء أبيض يخرج عقيب البول، فليس فيه إلا الوضوء، لأن الشرع لم يرد فيه بزيادة عليه.
فإن خرج منه شيء ولم يدر، أمنى هو أو غيره؟ في يقظة فلا غسل فيه، لأن المني الموجب للغسل يخرج دفقا بشهوة، فلا يشتبه بغيره، وإن كان في نوم، وكان نومه عقيب شهوة بملاعبة أهله، أو تذكر فهو مذي، لأن ذلك سبب المذي، والظاهر أنه
مذي، وإن لم يكن كذلك اغتسل، لحديث عائشة في الذي يجد البلل، ولأن خروج المني في النوم معتاد، وغيره نادر، فحمل الأمر على المعتاد.
فصل:
وإن أحس بانتقال المني من ظهره، فأمسك ذكره فلم يخرج، ففيه روايتان:
إحداهما: لا غسل عليه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رأت الماء» .
والثانية: يجب، لأنه خرج من مقره، أشبه ما لو ظهر.
فإن اغتسل فخرج بعد ذلك، وجب الغسل على الرواية الأولى، لأن الواجب متعلق بخروجه، ولم يجب على الثانية، لأنه تعلق بانتقاله، وقد اغتسل له.
وعنه: إن خرج قبل البول، وجب الغسل، لأنا نعلم أنه المني المنتقل، فإن خرج بعده لم يجب لأنه يحتمل أنه غيره، وهو خارج لغير شهوة، وفي فضلة المني الخارجة بعد الغسل الروايات الثلاث.
فصل:
والثاني: التقاء الختانين، وهو تغيب الحشفة في الفرج يوجب الغسل وإن عري عن الإنزال، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جلس بين شعبها الأربع
ومس الختان الختان فقد وجب الغسل» رواه مسلم. وختان الرجل: الجلدة التي تبقى بعد الختان، وختان المرأة، جلدة كعرف الديك في أعلى الفرج يقطع منها في الختان، فإذا غابت الحشفة في الفرج تحاذى ختاناهما فيقال: التقيا وإن لم يتماسا.
ويجب الغسل في الإيلاج في كل فرج، قبل أو دبر، من آدمي، أو بهيمة، حي أو ميت، لأنه فرج أشبه قبل المرأة.
فإن أولج من قبل الخنثى المشكل، فلا غسل عليهما لأنه لا يتيقن كونه فرجا فلا يجب الغسل بالشك.
فصل:
والثالث: إسلام الكافر وفيه روايتان:
إحداهما: يوجب الغسل، اختارها الخرقي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر ثمامة بن أثال، وقيس بن عاصم أن يغتسلا حين أسلما، ولأن الكافر لا يسلم من حدث لا يرتفع حكمه باغتساله، فقامت مظنة ذلك مقامه، ولا يلزمه أن يغتسل للجنابة، لأن الحكم تعلق بالمظنة، فسقط حكم المظنة كالمشقة في السفر.
والثانية: لا غسل عليه اختارها أبو بكر، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذ: «إنك تأتي قوما أهل كتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات» متفق عليه. ولم يأمرهم بالغسل، ولو كان أول الفروض لأمر به، ولأنه أسلم العدد الكثير، والجم الغفير، فلو أمروا بالغسل لنقل نقلا متواترا.
فإن أجنب في حال كفره احتمل أن لا يجب الغسل عليه لما ذكرناه، واحتمل أن يجب، وهو قول أبي بكر، لأن حكم الحدث باق.
فصل:
فأما المرأة فيجب من حقها الأغسال المذكورة، وتزيد بالغسل من الحيض، والنفاس، ونذكره في بابه.
ولا يجب الغسل بالولادة العارية عن دم، لأن الإيجاب من الشرع، ولم يوجب لها، ولا هي في معنى المنصوص عليه.
وعنه يجب بها، لأنها لا تكاد تعرى من نفاس موجب، فكانت مظنة له، فأقيمت مقامه كاتقاء الختانين مع الإنزال.
فصل:
ولا يجب الغسل بغير ذلك، من غسل ميت، أو إفاقة مجنون، أو مغمى عليه، لما ذكرناه.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[فصل فيما يحرم على الجنب]
[فصل فيما يحرم على الجنب]
فصل:
ومن لزمه الغسل حرم عليه ما حرم على المحدث، ويحرم عليه قراءة آية
فصاعدا، لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجبه. أو قال: يحجزه عن قراءة القرآن شيء ليس الجنابة» . رواه أبو داود. وفي بعض آية روايتان:
إحداهما: يحرم قراءته، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تقرأ الحائض والجنب شيئا من القرآن» رواه أبو داود.
والأخرى: يجوز، لأن الجنب لا يمنع من قول: بسم الله، والحمد لله، وذلك بعض آية.
فصل:
ويحرم عليه اللبث في المسجد لقول الله تعالى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] ، يعني مواضع الصلاة. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا أحل المسجد لحائض، ولا جنب» رواه أبو داود. ولا يحرم العبور في المسجد، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43]
ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة: «ناوليني الخمرة من المسجد " قالت: إني حائض، قال: " إن حيضتك ليست في يدك» .
قال بعض أصحابنا: إذا توضأ الجنب حل له اللبث في المسجد، لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كان أحدهم إذا أراد أن يتحدث في المسجد وهو جنب، توضأ ثم دخل فجلس فيه، ولأن الوضوء يخفف بعض حدثه فيزول بعض ما منعه.
فصل:
ويستحب للجنب إذا أراد أن ينام أن يتوضأ وضوءه للصلاة، لما روى ابن عمر «أن عمر قال: يا رسول الله أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: " نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد» متفق عليه. ويستحب له الوضوء إذا أراد أن يأكل أو يعود للجماع، ويغسل فرجه، فأما الحائض فلا يستحب لها شيء من ذلك، لأن الوضوء لا يؤثر في حدثها، ولا يصح منها.
فصل:
ومن لزمه الغسل حرم عليه ما حرم على المحدث، ويحرم عليه قراءة آية
فصاعدا، لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجبه. أو قال: يحجزه عن قراءة القرآن شيء ليس الجنابة» . رواه أبو داود. وفي بعض آية روايتان:
إحداهما: يحرم قراءته، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تقرأ الحائض والجنب شيئا من القرآن» رواه أبو داود.
والأخرى: يجوز، لأن الجنب لا يمنع من قول: بسم الله، والحمد لله، وذلك بعض آية.
فصل:
ويحرم عليه اللبث في المسجد لقول الله تعالى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] ، يعني مواضع الصلاة. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا أحل المسجد لحائض، ولا جنب» رواه أبو داود. ولا يحرم العبور في المسجد، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43]
ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة: «ناوليني الخمرة من المسجد " قالت: إني حائض، قال: " إن حيضتك ليست في يدك» .
قال بعض أصحابنا: إذا توضأ الجنب حل له اللبث في المسجد، لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كان أحدهم إذا أراد أن يتحدث في المسجد وهو جنب، توضأ ثم دخل فجلس فيه، ولأن الوضوء يخفف بعض حدثه فيزول بعض ما منعه.
فصل:
ويستحب للجنب إذا أراد أن ينام أن يتوضأ وضوءه للصلاة، لما روى ابن عمر «أن عمر قال: يا رسول الله أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: " نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد» متفق عليه. ويستحب له الوضوء إذا أراد أن يأكل أو يعود للجماع، ويغسل فرجه، فأما الحائض فلا يستحب لها شيء من ذلك، لأن الوضوء لا يؤثر في حدثها، ولا يصح منها.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب صفة الغسل من الجنابة]
[باب صفة الغسل من الجنابة]
باب الغسل من الجنابة وهي على ضربين: كامل، ومجزئ.
الضرب الأول: الكامل، يأتي فيه بتسعة أشياء: النية، وهو أن ينوي الغسل للجنابة، أو استباحة ما لا يستباح إلا بالغسل، كقراءة القرآن، واللبث في المسجد ثم يسمي، ثم يغسل يديه ثلاثا قبل إدخالهما الإناء. ثم يغسل ما به من أذى، ويغسل فرجه وما يليه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات يروي بها أصول شعره، ويخلله بيده، ثم يفيض الماء على سائر جسده، ثم يدلك بدنه بيده، وإن توضأ إلا غسل رجليه، ثم غسل قدميه آخرا، فحسن. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الغسل من الجنابة على حديث عائشة، يعني قولها: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يخلل شعره بيديه، حتى إذا ظن أنه
قد أروى بشرته، أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده» .
وقالت ميمونة: «وضع لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضوء الجنابة، فأفرغ على يديه فغسلهما مرتين أو ثلاثا، ثم تمضمض، واستنشق، وغسل وجهه، وذراعيه، ثم أفاض على رأسه، ثم غسل جسده، فأتيته بالمنديل فلم يردها، وجعل ينفض الماء بيده» . متفق عليهما.
الضرب الثاني: المجزئ، وهو أن ينوي، ويعم بدنه وشعره بالغسل، والتسمية ههنا كالتسمية في الوضوء فيما ذكرنا، ويجب إيصال الماء إلى البشرة التي تحت الشعر وإن كان كثيفا، لحديث عائشة، ولا يجب نقضه إن كان مضفورا؛ لما روت أم سلمة قالت: «قلت: يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: " لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين» رواه مسلم، ولا ترتيب الغسل، لأن الله تعالى قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ولم يقدم بعض البدن على بعض لكن يستحب البداءة بما ذكرناه، والبداءة بغسل الشق الأيمن، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحب التيامن في طهوره، ولا موالاة فيه، لأنه طهارة لا ترتيب فيها فلم يكن فيها موالاة كغسل النجاسة.
فصل:
فأما غسل الحيض، فهو كغسل الجنابة سواء إلا أنه يستحب لها أن تأخذ شيئا
من المسك أو طيب أو غيره، فتتبع به أثر الدم، ليزيل [زفورته] لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن امرأة جاءت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسأله عن الغسل من الحيض، فقال: " خذي فرصة من مسك، فتطهري بها " فقالت: كيف أتطهر
بها؟ فقالت عائشة: قلت: تتبعي بها أثر الدم» . رواه مسلم. فإن لم تجد مسكا فغيره من الطيب، فإن لم تجد فالماء كاف.
وهل عليها نقض شعرها للغسل منه؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا يجب، لأنه غسل واجب أشبه الجنابة.
والثانية: يجب، ليتيقن وصول الماء إلى ما تحته، وإنما عفي عنه في الجنابة، لأنه يتكرر فيشق النقض فيه، بخلاف الحيض.
فصل:
والأفضل تقديم الوضوء على الغسل، للخبر الوارد، فإن اقتصر على الغسل ونواهما أجزأه عنهما لقول الله تعالى: [ {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ولم يأمر بالوضوء معه] ، ولأنهما عبادتان من جنس: صغرى وكبرى، فدخلت الصغرى في الكبرى في
الأفعال دون النية، كالحج، والعمرة.
وعنه: لا يجزئه عن الحدث الأصغر حتى يتوضأ، لأنهما نوعان يجبان بسببين، فلم يدخل إحداهما في الآخر، كالحدود. وإن نوى إحداهما دون الأخرى، فليس له غيرها، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وإنما لكل امرئ ما نوى» .
فصل:
ويجوز للرجل والمرأة أن يغتسلا، ويتوضآ من إناء واحد، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغتسل هو وزوجته من إناء واحد، يغرفان منه جميعا» ، متفق عليه. وقال ابن عمر: «كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد» ، رواه أبو داود، ويجوز للمرأة التطهر بفضل طهور الرجل وفضل طهور المرأة، وللرجل التطهر بفضل طهور الرجل وفضل طهور المرأة ما لم تخل به.
فإن خلت به، ففيه وجهان:
إحداهما: يجوز أيضا، لما روت ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «أجنبت فاغتسلت من جفنة، ففضلت فيها فضلة، فجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليغتسل منه، فقلت: إني
اغتسلت منه فقال: " إن الماء ليس عليه جنابة» رواه أبو داود، ولأنه ماء لم ينجس، ولم يزل عن إطلاقه، فأشبه فضله الرجل.
والثانية: لا يجوز للرجل التطهر به، لما روى الحكم بن عمرو قال: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة» ، حديث حسن. قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: جماعة من الصحابة كرهوه ذكر منهم ابن عمر وعبد الله بن سرجس، وخص ما خلت به، لقول عبد الله بن سرجس: توضأ أنت ههنا، وهي ههنا، فأما إذا خلت به فلا تقربنه.
ومعنى الخلوة: أن لا يشاهدها إنسان تخرج بحضوره عن الخلوة في النكاح.
وذكر القاضي أنها لا تخرج عن الخلوة ما لم يشاهدها رجل.
وإنما تؤثر خلوتها في الماء اليسير، لأن النجاسة لا تؤثر في الكثير، فهذا أولى.
ولا يخرج الماء الذي خلت به المرأة عن إطلاقه. بل يجوز للنساء التطهر به من الحدث والنجاسة،
وللرجل إزالة النجاسة به، لأن منع الرجل من الوضوء به تعبد، فوجب قصره على مورده.
وذكر القاضي أنه لا يزيل النجاسة، لأن ما لا يرفع الحدث لا يزيل النجس، كالخل.
وهذا لا يمكن القول بموجبه، فإن هذا يرفع حدث المرأة بخلاف الخل.
باب الغسل من الجنابة وهي على ضربين: كامل، ومجزئ.
الضرب الأول: الكامل، يأتي فيه بتسعة أشياء: النية، وهو أن ينوي الغسل للجنابة، أو استباحة ما لا يستباح إلا بالغسل، كقراءة القرآن، واللبث في المسجد ثم يسمي، ثم يغسل يديه ثلاثا قبل إدخالهما الإناء. ثم يغسل ما به من أذى، ويغسل فرجه وما يليه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات يروي بها أصول شعره، ويخلله بيده، ثم يفيض الماء على سائر جسده، ثم يدلك بدنه بيده، وإن توضأ إلا غسل رجليه، ثم غسل قدميه آخرا، فحسن. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الغسل من الجنابة على حديث عائشة، يعني قولها: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يخلل شعره بيديه، حتى إذا ظن أنه
قد أروى بشرته، أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده» .
وقالت ميمونة: «وضع لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضوء الجنابة، فأفرغ على يديه فغسلهما مرتين أو ثلاثا، ثم تمضمض، واستنشق، وغسل وجهه، وذراعيه، ثم أفاض على رأسه، ثم غسل جسده، فأتيته بالمنديل فلم يردها، وجعل ينفض الماء بيده» . متفق عليهما.
الضرب الثاني: المجزئ، وهو أن ينوي، ويعم بدنه وشعره بالغسل، والتسمية ههنا كالتسمية في الوضوء فيما ذكرنا، ويجب إيصال الماء إلى البشرة التي تحت الشعر وإن كان كثيفا، لحديث عائشة، ولا يجب نقضه إن كان مضفورا؛ لما روت أم سلمة قالت: «قلت: يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: " لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين» رواه مسلم، ولا ترتيب الغسل، لأن الله تعالى قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ولم يقدم بعض البدن على بعض لكن يستحب البداءة بما ذكرناه، والبداءة بغسل الشق الأيمن، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحب التيامن في طهوره، ولا موالاة فيه، لأنه طهارة لا ترتيب فيها فلم يكن فيها موالاة كغسل النجاسة.
فصل:
فأما غسل الحيض، فهو كغسل الجنابة سواء إلا أنه يستحب لها أن تأخذ شيئا
من المسك أو طيب أو غيره، فتتبع به أثر الدم، ليزيل [زفورته] لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن امرأة جاءت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسأله عن الغسل من الحيض، فقال: " خذي فرصة من مسك، فتطهري بها " فقالت: كيف أتطهر
بها؟ فقالت عائشة: قلت: تتبعي بها أثر الدم» . رواه مسلم. فإن لم تجد مسكا فغيره من الطيب، فإن لم تجد فالماء كاف.
وهل عليها نقض شعرها للغسل منه؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا يجب، لأنه غسل واجب أشبه الجنابة.
والثانية: يجب، ليتيقن وصول الماء إلى ما تحته، وإنما عفي عنه في الجنابة، لأنه يتكرر فيشق النقض فيه، بخلاف الحيض.
فصل:
والأفضل تقديم الوضوء على الغسل، للخبر الوارد، فإن اقتصر على الغسل ونواهما أجزأه عنهما لقول الله تعالى: [ {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ولم يأمر بالوضوء معه] ، ولأنهما عبادتان من جنس: صغرى وكبرى، فدخلت الصغرى في الكبرى في
الأفعال دون النية، كالحج، والعمرة.
وعنه: لا يجزئه عن الحدث الأصغر حتى يتوضأ، لأنهما نوعان يجبان بسببين، فلم يدخل إحداهما في الآخر، كالحدود. وإن نوى إحداهما دون الأخرى، فليس له غيرها، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وإنما لكل امرئ ما نوى» .
فصل:
ويجوز للرجل والمرأة أن يغتسلا، ويتوضآ من إناء واحد، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغتسل هو وزوجته من إناء واحد، يغرفان منه جميعا» ، متفق عليه. وقال ابن عمر: «كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد» ، رواه أبو داود، ويجوز للمرأة التطهر بفضل طهور الرجل وفضل طهور المرأة، وللرجل التطهر بفضل طهور الرجل وفضل طهور المرأة ما لم تخل به.
فإن خلت به، ففيه وجهان:
إحداهما: يجوز أيضا، لما روت ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «أجنبت فاغتسلت من جفنة، ففضلت فيها فضلة، فجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليغتسل منه، فقلت: إني
اغتسلت منه فقال: " إن الماء ليس عليه جنابة» رواه أبو داود، ولأنه ماء لم ينجس، ولم يزل عن إطلاقه، فأشبه فضله الرجل.
والثانية: لا يجوز للرجل التطهر به، لما روى الحكم بن عمرو قال: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة» ، حديث حسن. قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: جماعة من الصحابة كرهوه ذكر منهم ابن عمر وعبد الله بن سرجس، وخص ما خلت به، لقول عبد الله بن سرجس: توضأ أنت ههنا، وهي ههنا، فأما إذا خلت به فلا تقربنه.
ومعنى الخلوة: أن لا يشاهدها إنسان تخرج بحضوره عن الخلوة في النكاح.
وذكر القاضي أنها لا تخرج عن الخلوة ما لم يشاهدها رجل.
وإنما تؤثر خلوتها في الماء اليسير، لأن النجاسة لا تؤثر في الكثير، فهذا أولى.
ولا يخرج الماء الذي خلت به المرأة عن إطلاقه. بل يجوز للنساء التطهر به من الحدث والنجاسة،
وللرجل إزالة النجاسة به، لأن منع الرجل من الوضوء به تعبد، فوجب قصره على مورده.
وذكر القاضي أنه لا يزيل النجاسة، لأن ما لا يرفع الحدث لا يزيل النجس، كالخل.
وهذا لا يمكن القول بموجبه، فإن هذا يرفع حدث المرأة بخلاف الخل.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب التيمم] [فصل في فرائض التيمم] [فصل فيما يباح بالتيمم]
[باب التيمم]
التيمم طهارة بالتراب يقوم مقام الطهارة بالماء عند العجز عن استعماله، لعدم، أو مرض، لقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6] إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] وروى عمار قال: «أجنبت فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة ثم أتيت النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، فذكرت ذلك له فقال: " إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا " ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه , ووج
واحدة، ثم يمسح بهما وجهه، ويديه إلى الكوعين، للخبر، ولأن الله تعالى أمر بمسح اليدين. واليد عند الإطلاق في الشرع تتناول اليد إلى الكوع، بدليل قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . وإن مسح يديه إلى المرفقين، فلا بأس، لأنه قد روي عن النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وسواء فعل ذلك بضربتين أو أكثر. ويستحب تفريق أصابعه عند الضرب ليدخل الغبار فيما بينهما، وإن كان التراب ناعما فوضع اليدين عليه وضعا أجزأه، ويمسح جميع ما يجب غسله من الوجه، مما لا يشق، مثل باطن الفم، والأنف، وما تحت الشعور الخفيفة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [المائدة: 6] وكيفما مسح بعد أن يستوعب الوجه والكفين إلى الكوعين، جاز لأن المستحب في الضربة الواحدة أن يمسح وجهه بباطن أصابع يديه، وظاهر كفيه بباطن راحتيه، وإن مسح بضربتين، مسح بأولاهما وجهه، وبالثانية يديه، فإن مسح إلى المرفقين، وضع بطون أصابع اليسرى على ظهور أصابع اليمنى، ثم يمرهما إلى مرفقيه، ثم يدير بطن كفه إلى بطن الذراع، ويمر عليه، ويرفع إبهامه، فإن بلغ الكوع أمر إبهام يده اليسرى على إبهام يده اليمنى ثم مسح بيده اليمنى يده اليسرى كذلك، ثم مسح إحدى الراحتين بالأخرى، ويخلل بين أصابعه، وإن يممه غير جاز، كما يجوز أن يوضئه.
وإن أثارت الريح عليه ترابا، فمسح وجهه بما على يديه جاز، وإن مسح وجهه بما عليه لم يجز، لأن الله تعالى أمر بقصد الصعيد والمسح به، ويحتمل أن يجزئه إذا صمد للريح، لأنه بمنزلة مسح غيره له.
[فصل في فرائض التيمم]
فصل:
وفرائض التيمم: النية، لما ذكرنا في الوضوء، ومسح الوجه والكفين، للأمر به، وترتيب اليدين على الوجه قياسا على الوضوء، وفي التسمية والموالاة روايتان، كالوضوء.
فأما النية، فهو أن ينوي استباحة ما لا يباح إلا به، فإن نوى صلاة مكتوبة أبيح له سائر الأشياء لأنه تابع لها، فيدخل في نية المتبوع، وإن نوى نفلا أو صلاة مطلقة، لم يبح له الفرض، لأن التيمم لا يرفع الحدث، وإنما تستباح به الصلاة، فلا يستبيح به الفرض حتى ينويه، وله قراءة القرآن لأن النافلة تتضمن القرآن، وليس له الجنازة المتعينة، لأنها فرض ولو كانت نفلا فله فعلها.
وإن نوى قراءة القرآن لم يكن له التنفل لأنه أعلى.
فإن نوى رفع الحدث لم يجزئه. لأن التيمم لا يرفع الحدث.
وعنه: ما يدل على أنه يرفع الحدث، فيكون حكمه حكم الوضوء في نيته.
ولا بد له من تعيين ما يتيمم له من الحدث الموجب للغسل، أو الوضوء أو النجاسة، فإن تيمم للحدث ونسي الجنابة، أو الجنابة ونسي الحدث، لم يجزئه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإنما لكل امرئ ما نوى» ولأن ذلك لا يجزئ في الماء وهو الأصل، ففي البدل أولى.
[فصل فيما يباح بالتيمم]
فصل:
ويجوز التيمم عن جميع الأحداث لظاهر الآية، وحديث عمار وروى عمران بن حصين «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا معتزلا لم يصل مع القوم، فقال: " يا فلان، ما
منعك أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء عندي، قال: عليك بالصعيد فإنك يكفيك» متفق عليه.
ويجوز التيمم للنجاسة على البدن، لأنها طهارة مشترطة للصلاة، فناب فيها التيمم، كطهارة الحدث.
واختار أبو الخطاب أنه يلزمه الإعادة إذا تيمم لها عند عدم الماء.
وقيل في وجوب الإعادة روايتان:
إحداهما: لا يجب، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «التراب كافيك ما لم تجد الماء» وقياسا على التيمم الحدث.
والأخرى: تجب الإعادة، لأنه صلى بالنجاسة، فلزمته الإعادة، كما لو تيمم.
ولا يجوز التيمم عن النجاسة في غير البدن، لأنها طهارة في البدن فلا تؤثر في غيره كالوضوء.
هه» . متفق عليه. والسنة في التيمم أن يضرب بيديه على الأرض ضربة
التيمم طهارة بالتراب يقوم مقام الطهارة بالماء عند العجز عن استعماله، لعدم، أو مرض، لقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6] إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] وروى عمار قال: «أجنبت فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة ثم أتيت النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، فذكرت ذلك له فقال: " إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا " ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه , ووج
واحدة، ثم يمسح بهما وجهه، ويديه إلى الكوعين، للخبر، ولأن الله تعالى أمر بمسح اليدين. واليد عند الإطلاق في الشرع تتناول اليد إلى الكوع، بدليل قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . وإن مسح يديه إلى المرفقين، فلا بأس، لأنه قد روي عن النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وسواء فعل ذلك بضربتين أو أكثر. ويستحب تفريق أصابعه عند الضرب ليدخل الغبار فيما بينهما، وإن كان التراب ناعما فوضع اليدين عليه وضعا أجزأه، ويمسح جميع ما يجب غسله من الوجه، مما لا يشق، مثل باطن الفم، والأنف، وما تحت الشعور الخفيفة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [المائدة: 6] وكيفما مسح بعد أن يستوعب الوجه والكفين إلى الكوعين، جاز لأن المستحب في الضربة الواحدة أن يمسح وجهه بباطن أصابع يديه، وظاهر كفيه بباطن راحتيه، وإن مسح بضربتين، مسح بأولاهما وجهه، وبالثانية يديه، فإن مسح إلى المرفقين، وضع بطون أصابع اليسرى على ظهور أصابع اليمنى، ثم يمرهما إلى مرفقيه، ثم يدير بطن كفه إلى بطن الذراع، ويمر عليه، ويرفع إبهامه، فإن بلغ الكوع أمر إبهام يده اليسرى على إبهام يده اليمنى ثم مسح بيده اليمنى يده اليسرى كذلك، ثم مسح إحدى الراحتين بالأخرى، ويخلل بين أصابعه، وإن يممه غير جاز، كما يجوز أن يوضئه.
وإن أثارت الريح عليه ترابا، فمسح وجهه بما على يديه جاز، وإن مسح وجهه بما عليه لم يجز، لأن الله تعالى أمر بقصد الصعيد والمسح به، ويحتمل أن يجزئه إذا صمد للريح، لأنه بمنزلة مسح غيره له.
[فصل في فرائض التيمم]
فصل:
وفرائض التيمم: النية، لما ذكرنا في الوضوء، ومسح الوجه والكفين، للأمر به، وترتيب اليدين على الوجه قياسا على الوضوء، وفي التسمية والموالاة روايتان، كالوضوء.
فأما النية، فهو أن ينوي استباحة ما لا يباح إلا به، فإن نوى صلاة مكتوبة أبيح له سائر الأشياء لأنه تابع لها، فيدخل في نية المتبوع، وإن نوى نفلا أو صلاة مطلقة، لم يبح له الفرض، لأن التيمم لا يرفع الحدث، وإنما تستباح به الصلاة، فلا يستبيح به الفرض حتى ينويه، وله قراءة القرآن لأن النافلة تتضمن القرآن، وليس له الجنازة المتعينة، لأنها فرض ولو كانت نفلا فله فعلها.
وإن نوى قراءة القرآن لم يكن له التنفل لأنه أعلى.
فإن نوى رفع الحدث لم يجزئه. لأن التيمم لا يرفع الحدث.
وعنه: ما يدل على أنه يرفع الحدث، فيكون حكمه حكم الوضوء في نيته.
ولا بد له من تعيين ما يتيمم له من الحدث الموجب للغسل، أو الوضوء أو النجاسة، فإن تيمم للحدث ونسي الجنابة، أو الجنابة ونسي الحدث، لم يجزئه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإنما لكل امرئ ما نوى» ولأن ذلك لا يجزئ في الماء وهو الأصل، ففي البدل أولى.
[فصل فيما يباح بالتيمم]
فصل:
ويجوز التيمم عن جميع الأحداث لظاهر الآية، وحديث عمار وروى عمران بن حصين «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا معتزلا لم يصل مع القوم، فقال: " يا فلان، ما
منعك أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء عندي، قال: عليك بالصعيد فإنك يكفيك» متفق عليه.
ويجوز التيمم للنجاسة على البدن، لأنها طهارة مشترطة للصلاة، فناب فيها التيمم، كطهارة الحدث.
واختار أبو الخطاب أنه يلزمه الإعادة إذا تيمم لها عند عدم الماء.
وقيل في وجوب الإعادة روايتان:
إحداهما: لا يجب، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «التراب كافيك ما لم تجد الماء» وقياسا على التيمم الحدث.
والأخرى: تجب الإعادة، لأنه صلى بالنجاسة، فلزمته الإعادة، كما لو تيمم.
ولا يجوز التيمم عن النجاسة في غير البدن، لأنها طهارة في البدن فلا تؤثر في غيره كالوضوء.
هه» . متفق عليه. والسنة في التيمم أن يضرب بيديه على الأرض ضربة
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[فصل في شرائط التيمم]
[فصل في شرائط التيمم]
فصل:
ولجواز التيمم ثلاث شروط:
أحدها: العجز عن استعمال الماء، وهو نوعان:
أحدهما: عدم الماء، لقول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] . ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإن وجدت الماء فأمسه جلدك» رواه أبو داود.
النوع الثاني: الخوف على نفسه باستعمال الماء، لمرض أو قرح يخاف باستعمال الماء تلفا أو زيادة مرض أو تباطؤ البرء أو شيئا فاحشا في جسمه، لقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] ، وقَوْله تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] وإن وجد ماء يحتاج إلى شربه للعطش، أو شرب رفيقه أو بهائمه، أو بينه وبينه سبع أو عدو يخافه على نفسه أو ماله، أو خاف على ماله إن تركه وذهب إلى الماء، فله التيمم لأنه خائف الضرر باستعماله، فهو كالمريض. وإن خاف لشدة البرد تيمم وصلى، لما روى عمرو بن العاص قال: «احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت وصليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " يا عمرو أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ " فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، ثم قلت سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يقل شيئا» . رواه أبو داود.
ولأنه خائف على نفس، أشبه المريض، ولا إعادة عليه إن كان مسافرا، لما ذكرنا.
فإن علم أن في رحله ماء نسيه، فعليه الإعادة، لأنها طهارة واجبة، فلم تسقط بالنسيان، كما لو نسي عضوا لم يغسله، وإن ضل عن رحله، أو ضل عنه غلامه الذي معه الماء، فلا إعادة عليه، لأنه غير مفرط، وإن وجد بقربه بئرا أو غديرا علامته ظاهرة، أعاد لأنه مفرط في الطلب، وإن كانت أعلامه خفية لم يعد لعدم تفريطه.
فصل:
وإن وجد ماء لا يكفيه لزمه استعماله، وتيمم للباقي إن كان جنبا، لقول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] وهذا واجد، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» رواه البخاري. وقال: «إذا وجدت الماء فأمسه جلدك» ولأنه مسح أبيح للضرورة، فلم يبح في غير موضعها كمسح الجبيرة.
وإن كان محدثا ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه استعماله لذلك.
والآخر: لا يلزمه، لأن الموالاة شرط يفوت بترك غسل الباقي، فبطلت طهارته، بخلاف غسل الجنابة.
وإن كان بعض بدنه صحيحا، وبعضه جريحا، غسل الصحيح، وتيمم للجريح جنبا كان أو محدثا، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي أصابته الشجة: «إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده» رواه أبو داود، لأن العجز ههنا ببعض البدن، وفي الإعواز العجز ببعض الأصل، فاختلفا، كما أن الحر إذا عجز عن بعض الرقبة في الكفارة، فله العدول إلى الصوم، ولو كان بعضه حرا فملك بنصفه الحر مالا، لزمه التكفير بالمال، ولم تكن كالتي قبلها.
فإن علم أن في رحله ماء نسيه، فعليه الإعادة، لأنها طهارة واجبة، فلم تسقط بالنسيان، كما لو نسي عضوا لم يغسله، وإن ضل عن رحله، أو ضل عنه غلامه الذي معه الماء، فلا إعادة عليه، لأنه غير مفرط، وإن وجد بقربه بئرا أو غديرا علامته ظاهرة، أعاد لأنه مفرط في الطلب، وإن كانت أعلامه خفية لم يعد لعدم تفريطه.
فصل:
وإن وجد ماء لا يكفيه لزمه استعماله، وتيمم للباقي إن كان جنبا، لقول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] وهذا واجد، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» رواه البخاري. وقال: «إذا وجدت الماء فأمسه جلدك» ولأنه مسح أبيح للضرورة، فلم يبح في غير موضعها كمسح الجبيرة.
وإن كان محدثا ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه استعماله لذلك.
والآخر: لا يلزمه، لأن الموالاة شرط يفوت بترك غسل الباقي، فبطلت طهارته، بخلاف غسل الجنابة.
وإن كان بعض بدنه صحيحا، وبعضه جريحا، غسل الصحيح، وتيمم للجريح جنبا كان أو محدثا، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي أصابته الشجة: «إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده» رواه أبو داود، لأن العجز ههنا ببعض البدن، وفي الإعواز العجز ببعض الأصل، فاختلفا، كما أن الحر إذا عجز عن بعض الرقبة في الكفارة، فله العدول إلى الصوم، ولو كان بعضه حرا فملك بنصفه الحر مالا، لزمه التكفير بالمال، ولم تكن كالتي قبلها.
إحداهما: لا يلزمه الإعادة لذلك.
والثانية: يلزمه، لأنه ليس بمريض، ولا مسافر، فلا يدخل في عموم الآية، ولأن الحضر مظنة إمكان إسخان الماء، فالعجز عنه عذر غير متصل.
وإن قدر على إسخان الماء، لزمه كما يلزمه شراء الماء، ومن كان واجدا للماء فخاف فوت الوقت لتشاغله بتحصيله، أو استسقائه لم يبح له التيمم، لأن الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] وهذا واجد.
وإن خاف فوات الجنازة فليس له التيمم لذلك.
وعنه: يجوز، لأنه لا يمكن استدراكها.
فصل:
والثاني: طلب الماء شرط في الرواية المشهورة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] ، ولا يقال: لم يجد إلا لمن طلب، ولأنه بدل، فلم يجز العدول إليه قبل طلب المبدل، كالصيام في الظهار.
وعنه: ليس بشرط، لأنه ليس بواجب قبل الطلب، فيدخل في الآية.
وصفة الطلب أن ينظر يمينه، وشماله، وأمامه، ووراءه، وإن كان قريبا من حائل، من ربوة، أو حائط، علاه فنظر حوله. وإن رأى خضرة أو نحوها استبرأها.
وإن كان معه رفيق، سأله الماء فإن بذله له لزمه قبوله. لأن المنة لا تكثر في قبوله.
وإن وجد ماء يباع بثمن المثل أو بزيادة غير مجحفة بماله، وهو واجد للثمن، غير محتاج إليه، لزمه شراؤه، كما يلزمه شراء الرقبة في الكفارة.
فإن لم يبذله له صاحبه، لم يكن له أخذه قهرا، وإن استغنى عنه صاحبه، لأن له بدلا، وإن علم بماء قريب، لزمه قصده ما لم يخف على نفسه أو ماله أو فوت الوقت أو الرفقة وإن تيمم ثم رأى ركبا، أو خضرة، أو شيئا يدل على الماء، أو سرابا ظنه ماء قبل الصلاة، لزمه الطلب؛ لأنه وجد دليل الماء، وبطل تيممه، لأنه وجب عليه الطلب، فبطل تيممه، كما لو رأى ماء. وإن رأى الركب ونحوه في الصلاة، لم تبطل؛ لأنه شرع فيها بطهارة متيقنة، فلا يبطلها بالشك.
فصل:
الثالث: دخول الوقت شرط، لأنه قبل الوقت مستغن عن التيمم، فلم يصح تيممه، كما لو تيمم وهو واجد للماء، وإن كان التيمم لنافلة، لم يجز في وقت النهي عن فعلها، لأنه قبل وقتها، وإن تيمم لفائتة أو نافلة قبل وقت الصلاة، ثم دخل الوقت بطل تيممه، وإن تيمم لمكتوبة في وقتها، فله أن يصليها وما شاء من النوافل قبلها وبعدها، ويقضي فوائت، ويجمع بين الصلاتين، لأنها طهارة أباحت فرضا، فأباحت سائر ما ذكرناه، كالوضوء.
ومتى خرج الوقت بطل التيمم في ظاهر المذهب، لأنها طهارة عذر وضرورة، فتقدرت بالوقت كطهارة المستحاضة.
وعنه: يصلي بالتيمم حتى يحدث، قياسا على طهارة الماء.
فصل:
والأفضل تأخير التيمم إلى آخر الوقت إن رجا وجود الماء، لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الجنب: يتلوم ما بينه وبين آخر الوقت، ولأن الطهارة بالماء فريضة. وأول الوقت فضيلة، وانتظار الفريضة أولى. وإن يئس من الماء، استحب تقديمه لئلا يترك فضيلة متيقنة لأمر غير مرجو.
ومتى تيمم وصلى صحت صلاته، ولا إعادة عليه، وإن وجد الماء في الوقت، لما روى عطاء بن يسار، قال: «خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة، وليس معهما ماء، فتيمما صعيدا طيبا، فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة، ولم يعد الآخر، ثم أتيا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: " أجزأتك صلاتك " وقال للذي أعاد: " لك الأجر مرتين» رواه أبو داود. وقال: قد روي عن أبي سعيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والصحيح أنه مرسل، ولأنه أدى فريضة بطهارة، فأشبه ما لو أداها بطهارة الماء.
وإن كان حاضرا ففيه روايتان:
فصل:
ولجواز التيمم ثلاث شروط:
أحدها: العجز عن استعمال الماء، وهو نوعان:
أحدهما: عدم الماء، لقول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] . ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإن وجدت الماء فأمسه جلدك» رواه أبو داود.
النوع الثاني: الخوف على نفسه باستعمال الماء، لمرض أو قرح يخاف باستعمال الماء تلفا أو زيادة مرض أو تباطؤ البرء أو شيئا فاحشا في جسمه، لقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] ، وقَوْله تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] وإن وجد ماء يحتاج إلى شربه للعطش، أو شرب رفيقه أو بهائمه، أو بينه وبينه سبع أو عدو يخافه على نفسه أو ماله، أو خاف على ماله إن تركه وذهب إلى الماء، فله التيمم لأنه خائف الضرر باستعماله، فهو كالمريض. وإن خاف لشدة البرد تيمم وصلى، لما روى عمرو بن العاص قال: «احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت وصليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " يا عمرو أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ " فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، ثم قلت سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يقل شيئا» . رواه أبو داود.
ولأنه خائف على نفس، أشبه المريض، ولا إعادة عليه إن كان مسافرا، لما ذكرنا.
فإن علم أن في رحله ماء نسيه، فعليه الإعادة، لأنها طهارة واجبة، فلم تسقط بالنسيان، كما لو نسي عضوا لم يغسله، وإن ضل عن رحله، أو ضل عنه غلامه الذي معه الماء، فلا إعادة عليه، لأنه غير مفرط، وإن وجد بقربه بئرا أو غديرا علامته ظاهرة، أعاد لأنه مفرط في الطلب، وإن كانت أعلامه خفية لم يعد لعدم تفريطه.
فصل:
وإن وجد ماء لا يكفيه لزمه استعماله، وتيمم للباقي إن كان جنبا، لقول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] وهذا واجد، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» رواه البخاري. وقال: «إذا وجدت الماء فأمسه جلدك» ولأنه مسح أبيح للضرورة، فلم يبح في غير موضعها كمسح الجبيرة.
وإن كان محدثا ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه استعماله لذلك.
والآخر: لا يلزمه، لأن الموالاة شرط يفوت بترك غسل الباقي، فبطلت طهارته، بخلاف غسل الجنابة.
وإن كان بعض بدنه صحيحا، وبعضه جريحا، غسل الصحيح، وتيمم للجريح جنبا كان أو محدثا، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي أصابته الشجة: «إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده» رواه أبو داود، لأن العجز ههنا ببعض البدن، وفي الإعواز العجز ببعض الأصل، فاختلفا، كما أن الحر إذا عجز عن بعض الرقبة في الكفارة، فله العدول إلى الصوم، ولو كان بعضه حرا فملك بنصفه الحر مالا، لزمه التكفير بالمال، ولم تكن كالتي قبلها.
فإن علم أن في رحله ماء نسيه، فعليه الإعادة، لأنها طهارة واجبة، فلم تسقط بالنسيان، كما لو نسي عضوا لم يغسله، وإن ضل عن رحله، أو ضل عنه غلامه الذي معه الماء، فلا إعادة عليه، لأنه غير مفرط، وإن وجد بقربه بئرا أو غديرا علامته ظاهرة، أعاد لأنه مفرط في الطلب، وإن كانت أعلامه خفية لم يعد لعدم تفريطه.
فصل:
وإن وجد ماء لا يكفيه لزمه استعماله، وتيمم للباقي إن كان جنبا، لقول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] وهذا واجد، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» رواه البخاري. وقال: «إذا وجدت الماء فأمسه جلدك» ولأنه مسح أبيح للضرورة، فلم يبح في غير موضعها كمسح الجبيرة.
وإن كان محدثا ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه استعماله لذلك.
والآخر: لا يلزمه، لأن الموالاة شرط يفوت بترك غسل الباقي، فبطلت طهارته، بخلاف غسل الجنابة.
وإن كان بعض بدنه صحيحا، وبعضه جريحا، غسل الصحيح، وتيمم للجريح جنبا كان أو محدثا، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي أصابته الشجة: «إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده» رواه أبو داود، لأن العجز ههنا ببعض البدن، وفي الإعواز العجز ببعض الأصل، فاختلفا، كما أن الحر إذا عجز عن بعض الرقبة في الكفارة، فله العدول إلى الصوم، ولو كان بعضه حرا فملك بنصفه الحر مالا، لزمه التكفير بالمال، ولم تكن كالتي قبلها.
إحداهما: لا يلزمه الإعادة لذلك.
والثانية: يلزمه، لأنه ليس بمريض، ولا مسافر، فلا يدخل في عموم الآية، ولأن الحضر مظنة إمكان إسخان الماء، فالعجز عنه عذر غير متصل.
وإن قدر على إسخان الماء، لزمه كما يلزمه شراء الماء، ومن كان واجدا للماء فخاف فوت الوقت لتشاغله بتحصيله، أو استسقائه لم يبح له التيمم، لأن الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] وهذا واجد.
وإن خاف فوات الجنازة فليس له التيمم لذلك.
وعنه: يجوز، لأنه لا يمكن استدراكها.
فصل:
والثاني: طلب الماء شرط في الرواية المشهورة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] ، ولا يقال: لم يجد إلا لمن طلب، ولأنه بدل، فلم يجز العدول إليه قبل طلب المبدل، كالصيام في الظهار.
وعنه: ليس بشرط، لأنه ليس بواجب قبل الطلب، فيدخل في الآية.
وصفة الطلب أن ينظر يمينه، وشماله، وأمامه، ووراءه، وإن كان قريبا من حائل، من ربوة، أو حائط، علاه فنظر حوله. وإن رأى خضرة أو نحوها استبرأها.
وإن كان معه رفيق، سأله الماء فإن بذله له لزمه قبوله. لأن المنة لا تكثر في قبوله.
وإن وجد ماء يباع بثمن المثل أو بزيادة غير مجحفة بماله، وهو واجد للثمن، غير محتاج إليه، لزمه شراؤه، كما يلزمه شراء الرقبة في الكفارة.
فإن لم يبذله له صاحبه، لم يكن له أخذه قهرا، وإن استغنى عنه صاحبه، لأن له بدلا، وإن علم بماء قريب، لزمه قصده ما لم يخف على نفسه أو ماله أو فوت الوقت أو الرفقة وإن تيمم ثم رأى ركبا، أو خضرة، أو شيئا يدل على الماء، أو سرابا ظنه ماء قبل الصلاة، لزمه الطلب؛ لأنه وجد دليل الماء، وبطل تيممه، لأنه وجب عليه الطلب، فبطل تيممه، كما لو رأى ماء. وإن رأى الركب ونحوه في الصلاة، لم تبطل؛ لأنه شرع فيها بطهارة متيقنة، فلا يبطلها بالشك.
فصل:
الثالث: دخول الوقت شرط، لأنه قبل الوقت مستغن عن التيمم، فلم يصح تيممه، كما لو تيمم وهو واجد للماء، وإن كان التيمم لنافلة، لم يجز في وقت النهي عن فعلها، لأنه قبل وقتها، وإن تيمم لفائتة أو نافلة قبل وقت الصلاة، ثم دخل الوقت بطل تيممه، وإن تيمم لمكتوبة في وقتها، فله أن يصليها وما شاء من النوافل قبلها وبعدها، ويقضي فوائت، ويجمع بين الصلاتين، لأنها طهارة أباحت فرضا، فأباحت سائر ما ذكرناه، كالوضوء.
ومتى خرج الوقت بطل التيمم في ظاهر المذهب، لأنها طهارة عذر وضرورة، فتقدرت بالوقت كطهارة المستحاضة.
وعنه: يصلي بالتيمم حتى يحدث، قياسا على طهارة الماء.
فصل:
والأفضل تأخير التيمم إلى آخر الوقت إن رجا وجود الماء، لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الجنب: يتلوم ما بينه وبين آخر الوقت، ولأن الطهارة بالماء فريضة. وأول الوقت فضيلة، وانتظار الفريضة أولى. وإن يئس من الماء، استحب تقديمه لئلا يترك فضيلة متيقنة لأمر غير مرجو.
ومتى تيمم وصلى صحت صلاته، ولا إعادة عليه، وإن وجد الماء في الوقت، لما روى عطاء بن يسار، قال: «خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة، وليس معهما ماء، فتيمما صعيدا طيبا، فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة، ولم يعد الآخر، ثم أتيا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: " أجزأتك صلاتك " وقال للذي أعاد: " لك الأجر مرتين» رواه أبو داود. وقال: قد روي عن أبي سعيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والصحيح أنه مرسل، ولأنه أدى فريضة بطهارة، فأشبه ما لو أداها بطهارة الماء.
وإن كان حاضرا ففيه روايتان:
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[فصل في مبطلات التيمم][فصل فيما يجوز التيمم به]
[فصل في مبطلات التيمم]
فصل:
ويبطل التيمم بجميع مبطلات الطهارة التي تيمم عنها، لأنه بدل عنها. فإن تيمم لجنابة، ثم أحدث منع ما يمنعه المحدث من الصلاة والطواف، ومس المصحف، لأن التيمم ناب عن الغسل، فأشبه المغتسل إذا أحدث، ويزيد التيمم بمبطلين:
أحدهما: القدرة على استعمال الماء سواء وجدت في الصلاة أو قبلها أو بعدها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك» دل بمفهومه على أنه ليس بطهور عند وجود الماء، وبمنطوقه على وجوب استعماله عند وجوده، ولأنه قدر على استعمال الماء، فأشبه الخارج من الصلاة.
فعلى هذا إن وجده في الصلاة خرج، وتوضأ، واغتسل إن كان جنبا، واستقبل الصلاة، كما لو أحدث في أثنائها.
وعنه: إذا وجده في الصلاة لم تبطل، لأنه شرع في المقصود، فأشبه المكفر يقدر على الإعتاق بعد شروعه في الصيام، إلا أن المروذي روي عنه أنه قال: كنت أقول: إنه يمضي ثم تدبرت فإذا أكثر الأحاديث أنه يخرج. وهذا يدل على رجوعه عن هذه الرواية.
والثاني: خروج الوقت يبطلها لما ذكرناه، فإن خرج وهو في الصلاة بطل، كما لو أحدث.
ومن تيمم وهو لابس خفا أو عمامة، يجوز المسح عليهما، ثم خلع أحدهما، فقد ذكر أصحابنا أنه يبطل تيممه، لأنه من مبطلات الوضوء، ولا يقوى ذلك عندي، لأنها طهارة لم يمسح عليهما، فلم تبطل بخلعهما، كالملبوس على غير طهارة بخلاف الوضوء.
فصل
ويجوز التيمم في السفر الطويل والقصير، وهو ما بين قريتين قريبتين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] ولأن الماء يعدم في القصير غالباً، أشبه الطويل، ويجوز في الحضر للمرض للآية، ولأنه عذر غالب يتصل، أشبه السفر.
وإن عدم الماء في الحضر لحبس، تيمم ولا إعادة عليه؛ لأنه في عدم الماء، وعجزه عن طلبه كالمسافر، وأبلغ منه فألحق به، وإن عدمه لغير ذلك، وكان يرجوه قريباً، تشاغل بطلبه ولم يتيمم، وإن كان ذلك يتمادى، تيمم وصلى وأعاد؛ لأنه عذر نادر غير متصل، ويحتمل أن لا يعيد؛ لأنه في معنى عادم الماء في السفر، فألحق به.
وإن كان مع المسافر ماء، فأراقه قبل الوقت، أو مر بماء قبل الوقت، فتركه، ثم عدم الماء في الوقت تيمم وصلى ولا إعادة عليه؛ لأنه لم يخاطب باستعماله.
وإن كان ذلك في الوقت، ففيه وجهان: أحدهما: تلزمه الإعادة؛ لأنه مفرط.
والثاني: لا تلزمه؛ لأنه عادم للماء أشبه ما قبل الوقت.
[فصل فيما يجوز التيمم به]
فصل
ولا يجوز التيمم إلا بتراب طاهر له غبار يعلق باليد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] وما لا غبار له لا يمسح شيء منه.
وقال ابن عباس: الصعيد تراب الحرث، والطيب: هو الطاهر، وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أعطيت ما لم يعط نبي من أنبياء الله تعالى قبلي جعل لي التراب طهوراً» رواه الشافعي في " مسنده " ولو كان غيره طهوراً ذكره فيما من الله به عليه.
وعنه: يجوز التيمم بالرمل والسبخة، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال:
«جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» رواه البخاري ومسلم، وقال ابن أبي موسى: إن لم يجد غيرهما، تيمم بهما، وإن دق الخزف أو الحجارة، وتيمم به لم يجزئه؛ لأنه ليس بتراب.
وإن خالط التراب جص، أو دقيق، أو زرنيخ، فحكمه حكم الماء إذا خالطته الطاهرات، وإن خالط ما لم يعلق باليد، كالرمل والحصى، لم يمنع التيمم به؛ لأنه لا يمنع وصول الغبار إلى اليد، وإن ضرب بيده على صخرة عليها غبار، أو حائط، أو لبد، فعلا يديه غبار، أبيح التيمم به؛ لأن المقصود التراب الذي يمسح به وجهه ويديه، وقد روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ضرب بيديه على الحائط، ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه» رواه أبو داود.
ولا بأس أن يتيمم الجماعة من موضع واحد، كما يتوضئون من حوض واحد، وإن تناثر من التراب عن العضو بعد استعماله شيء: احتمل أن يمنع من استعماله مرة ثانية؛ لأنه كالماء المستعمل، واحتمل أن يجوز؛ لأنه لم يرفع حدثاً ولم يزل نجساً، بخلاف الماء.
فصل:
ويبطل التيمم بجميع مبطلات الطهارة التي تيمم عنها، لأنه بدل عنها. فإن تيمم لجنابة، ثم أحدث منع ما يمنعه المحدث من الصلاة والطواف، ومس المصحف، لأن التيمم ناب عن الغسل، فأشبه المغتسل إذا أحدث، ويزيد التيمم بمبطلين:
أحدهما: القدرة على استعمال الماء سواء وجدت في الصلاة أو قبلها أو بعدها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك» دل بمفهومه على أنه ليس بطهور عند وجود الماء، وبمنطوقه على وجوب استعماله عند وجوده، ولأنه قدر على استعمال الماء، فأشبه الخارج من الصلاة.
فعلى هذا إن وجده في الصلاة خرج، وتوضأ، واغتسل إن كان جنبا، واستقبل الصلاة، كما لو أحدث في أثنائها.
وعنه: إذا وجده في الصلاة لم تبطل، لأنه شرع في المقصود، فأشبه المكفر يقدر على الإعتاق بعد شروعه في الصيام، إلا أن المروذي روي عنه أنه قال: كنت أقول: إنه يمضي ثم تدبرت فإذا أكثر الأحاديث أنه يخرج. وهذا يدل على رجوعه عن هذه الرواية.
والثاني: خروج الوقت يبطلها لما ذكرناه، فإن خرج وهو في الصلاة بطل، كما لو أحدث.
ومن تيمم وهو لابس خفا أو عمامة، يجوز المسح عليهما، ثم خلع أحدهما، فقد ذكر أصحابنا أنه يبطل تيممه، لأنه من مبطلات الوضوء، ولا يقوى ذلك عندي، لأنها طهارة لم يمسح عليهما، فلم تبطل بخلعهما، كالملبوس على غير طهارة بخلاف الوضوء.
فصل
ويجوز التيمم في السفر الطويل والقصير، وهو ما بين قريتين قريبتين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] ولأن الماء يعدم في القصير غالباً، أشبه الطويل، ويجوز في الحضر للمرض للآية، ولأنه عذر غالب يتصل، أشبه السفر.
وإن عدم الماء في الحضر لحبس، تيمم ولا إعادة عليه؛ لأنه في عدم الماء، وعجزه عن طلبه كالمسافر، وأبلغ منه فألحق به، وإن عدمه لغير ذلك، وكان يرجوه قريباً، تشاغل بطلبه ولم يتيمم، وإن كان ذلك يتمادى، تيمم وصلى وأعاد؛ لأنه عذر نادر غير متصل، ويحتمل أن لا يعيد؛ لأنه في معنى عادم الماء في السفر، فألحق به.
وإن كان مع المسافر ماء، فأراقه قبل الوقت، أو مر بماء قبل الوقت، فتركه، ثم عدم الماء في الوقت تيمم وصلى ولا إعادة عليه؛ لأنه لم يخاطب باستعماله.
وإن كان ذلك في الوقت، ففيه وجهان: أحدهما: تلزمه الإعادة؛ لأنه مفرط.
والثاني: لا تلزمه؛ لأنه عادم للماء أشبه ما قبل الوقت.
[فصل فيما يجوز التيمم به]
فصل
ولا يجوز التيمم إلا بتراب طاهر له غبار يعلق باليد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] وما لا غبار له لا يمسح شيء منه.
وقال ابن عباس: الصعيد تراب الحرث، والطيب: هو الطاهر، وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أعطيت ما لم يعط نبي من أنبياء الله تعالى قبلي جعل لي التراب طهوراً» رواه الشافعي في " مسنده " ولو كان غيره طهوراً ذكره فيما من الله به عليه.
وعنه: يجوز التيمم بالرمل والسبخة، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال:
«جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» رواه البخاري ومسلم، وقال ابن أبي موسى: إن لم يجد غيرهما، تيمم بهما، وإن دق الخزف أو الحجارة، وتيمم به لم يجزئه؛ لأنه ليس بتراب.
وإن خالط التراب جص، أو دقيق، أو زرنيخ، فحكمه حكم الماء إذا خالطته الطاهرات، وإن خالط ما لم يعلق باليد، كالرمل والحصى، لم يمنع التيمم به؛ لأنه لا يمنع وصول الغبار إلى اليد، وإن ضرب بيده على صخرة عليها غبار، أو حائط، أو لبد، فعلا يديه غبار، أبيح التيمم به؛ لأن المقصود التراب الذي يمسح به وجهه ويديه، وقد روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ضرب بيديه على الحائط، ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه» رواه أبو داود.
ولا بأس أن يتيمم الجماعة من موضع واحد، كما يتوضئون من حوض واحد، وإن تناثر من التراب عن العضو بعد استعماله شيء: احتمل أن يمنع من استعماله مرة ثانية؛ لأنه كالماء المستعمل، واحتمل أن يجوز؛ لأنه لم يرفع حدثاً ولم يزل نجساً، بخلاف الماء.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[فصل في حكم فاقد الطهورين]
[فصل في حكم فاقد الطهورين]
فصل
فإن عدم الماء والتراب ووجد طيناً، لم يستعمله، وصلى على حسب حاله
ولم يترك الصلاة؛ لأن الطهارة شرط، فتعذرها لا يبيح ترك الصلاة، كالسترة، والقبلة، وفي الإعادة روايتان: إحداهما: لا تلزمه؛ لأن الطهارة شرط، فأشبهت السترة والقبلة.
والثانية: تلزمه؛ لأنه عذر نادر غير متصل، أشبه نسيان الطهارة.
فصل
إذا اجتمع جنب، وميت، وحائض، معهم ماء لأحدهم لا يفضل عنه، فهو أحق به، ولا يجوز أن يؤثر به؛ لأنه واجد للماء، فلم يجزئه التيمم، فإن آثر به وتيمم، لم يصح تيممه مع وجوده لذلك، وإن استعمله الآخر، فحكم المؤثر به حكم من أراق الماء، وإن كان الماء لهم، فهم فيه سواء، وإن وجدوه، فهو للأحياء دون الميت؛ لأنه لا وجدان له، وإن كان لغيرهم فأراد أن يجود به، فالميت أولى به؛ لأن غسله خاتمة طهارته، وصاحباه يرجعان إلى الماء ويغتسلان.
وإن فضل عنه ما يكفي أحدهما، فالحائض أحق به؛ لأن حدثها آكد، وتستبيح بغسلها ما يستبيحه الجنب وزيادة الوطء، وإن اجتمع على رجل حدث ونجاسة، فغسل النجاسة أولى؛ لأن طهارة الحدث لها بدل مجمع عليه، بخلاف النجاسة.
وإن اجتمع محدث وجنب، فلم يجدا إلا ما يكفي المحدث، فهو أحق به؛ لأنه يرفع جميع حدثه، وإن كان يكفي الجنب وحده، فهو أحق به، لما ذكرنا في الحائض، وإن كان يفضل عن كل واحد منهما فضلة لا تكفي صاحبه، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يقدم الجنب لما ذكرنا.
والثاني: المحدث؛ لأن فضلته يلزم الجنب [استعمالها] فلا تضيع، بخلاف فضلة الجنب.
والثالث: التسوية: لأنه تقابل الترجيحان فتساويا، فتدفع إلى من شاء منهما، أو يقرع بينهما والله أعلم.
فصل
فإن عدم الماء والتراب ووجد طيناً، لم يستعمله، وصلى على حسب حاله
ولم يترك الصلاة؛ لأن الطهارة شرط، فتعذرها لا يبيح ترك الصلاة، كالسترة، والقبلة، وفي الإعادة روايتان: إحداهما: لا تلزمه؛ لأن الطهارة شرط، فأشبهت السترة والقبلة.
والثانية: تلزمه؛ لأنه عذر نادر غير متصل، أشبه نسيان الطهارة.
فصل
إذا اجتمع جنب، وميت، وحائض، معهم ماء لأحدهم لا يفضل عنه، فهو أحق به، ولا يجوز أن يؤثر به؛ لأنه واجد للماء، فلم يجزئه التيمم، فإن آثر به وتيمم، لم يصح تيممه مع وجوده لذلك، وإن استعمله الآخر، فحكم المؤثر به حكم من أراق الماء، وإن كان الماء لهم، فهم فيه سواء، وإن وجدوه، فهو للأحياء دون الميت؛ لأنه لا وجدان له، وإن كان لغيرهم فأراد أن يجود به، فالميت أولى به؛ لأن غسله خاتمة طهارته، وصاحباه يرجعان إلى الماء ويغتسلان.
وإن فضل عنه ما يكفي أحدهما، فالحائض أحق به؛ لأن حدثها آكد، وتستبيح بغسلها ما يستبيحه الجنب وزيادة الوطء، وإن اجتمع على رجل حدث ونجاسة، فغسل النجاسة أولى؛ لأن طهارة الحدث لها بدل مجمع عليه، بخلاف النجاسة.
وإن اجتمع محدث وجنب، فلم يجدا إلا ما يكفي المحدث، فهو أحق به؛ لأنه يرفع جميع حدثه، وإن كان يكفي الجنب وحده، فهو أحق به، لما ذكرنا في الحائض، وإن كان يفضل عن كل واحد منهما فضلة لا تكفي صاحبه، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يقدم الجنب لما ذكرنا.
والثاني: المحدث؛ لأن فضلته يلزم الجنب [استعمالها] فلا تضيع، بخلاف فضلة الجنب.
والثالث: التسوية: لأنه تقابل الترجيحان فتساويا، فتدفع إلى من شاء منهما، أو يقرع بينهما والله أعلم.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب الحيض]
[باب الحيض]
وهو دم ترخيه الرحم يخرج من المرأة في أوقات معتادة يتعلق به ثلاثة عشر حكماً:
أحدها: تحريم فعل الصلاة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة» متفق عليه.
والثاني: سقوط فرضها؛ لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كنا نحيض على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة» ، متفق عليه.
والثالث: تحريم الصيام، ولا يسقط وجوبه، لحديث عائشة، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أليس إحداكن إذا حاضت لم تصم ولم تصل؟ "
قلن: بلى» ، رواه البخاري.
والرابع: تحريم الطواف؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة إذ حاضت: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري» متفق عليه.
والخامس: تحريم قراءة القرآن؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن» رواه الترمذي.
والسادس: تحريم مس المصحف؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» رواه الأثرم.
والسابع: تحريم اللبث في المسجد، لما ذكرناه من قبل.
والثامن: تحريم الطلاق، لما نذكره في النكاح.
والتاسع: تحريم الوطء في الفرج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] .
ولا يحرم الاستمتاع بها في غير الفرج؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اصنعوا كل شيء غير
النكاح» رواه مسلم.
وقالت عائشة: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرني فأتزر فيباشرني، وأنا حائض» ، متفق عليه، ولأنه وطء حرم للأذى، فاختص بمحله، كالوطء في الدبر.
والعاشر: منع صحة الطهارة؛ لأنه حدث يوجب الطهارة فاستمراره يمنع صحتها كالبول.
والحادي عشر: وجوب الغسل؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي» متفق عليه.
الثاني عشر: وجوب الاعتداد به، لما نذكره في العدد.
الثالث عشر: حصول البلوغ به لما نذكره في موضعه.
فإذا انقطع دمها ولم تغتسل زالت أربعة أحكام: سقوط فرض الصلاة؛ لأن سقوطه بالحيض قد زال، ومنع صحة الطهارة لذلك، وتحريم الصيام؛ لأن وجوب الغسل لا يمنع
فعله، كالجنابة، وتحريم الطلاق؛ لأن تحريمه لتطويل العدة، وقد زال هذا المعنى.
وسائر المحرمات باقية؛ لأنها تثبت في حق المحدث الحدث الأكبر، وحدثها باق، وتحريم الوطء باق؛ لأن الله تعالى قال: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] قال مجاهد: حتى يغتسلن.
فإن لم تجد الماء تيممت، وحل وطؤها؛ لأنه قائم مقام الغسل، فحل به ما يحل بالغسل، وإن تيممت للصلاة حل وطؤها؛ لأن ما أباح الصلاة أباح ما دونها.
وإن وطئ الحائض قبل طهرها؛ فعليه كفارة [دينار أو] نصف دينار، لما روى ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «في الذي يأتي امرأته وهي حائض، قال: " يتصدق بدينار أو بنصف دينار» ، قال أبو داود: كذا الرواية الصحيحة.
وعن أحمد: لا كفارة فيه؛ لأنه وطء حرم للأذى، فلم تجب به كفارة كالوطء في الدبر، والحديث توقف أحمد عنه للشك في عدالة راويه.
وإن وطئها بعد انقطاع دمها، فلا كفارة عليه؛ لأن حكمه أخف ولم يرد الشرع بالكفارة فيه.
فصل
وأقل سن تحيض له المرأة تسع سنين، فإن رأت قبل ذلك دماً فليس
بحيض، ولا يتعلق به أحكامه؛ لأنه لم يثبت في الوجود لامرأة حيض قبل ذلك، وقد روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة.
وأقل الحيض يوم وليلة.
وعنه: يوم؛ لأن الشرع علق على الحيض أحكاماً ولم يبين قدره، فعلم أنه رده إلى العادة، كالقبض والحرز، وقد وجد حيض معتاد يوماً، ولم يوجد أقل منه.
قال عطاء: رأيت من تحيض يوماً، وتحيض خمسة عشر.
قال أبو عبد الله الزبيري: كان في نسائنا من تحيض يوماً، وتحيض خمسة عشر يوماً.
[وأكثره خمسة عشر يوماً] لما ذكرنا، وعنه سبعة عشرة يوماً.
وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل عن امرأة ادعت انقضاء عدتها في شهر، فقال لشريح: قل فيها، فقال: إن جاءت ببطانة من أهلها يشهدن أنها حاضت في شهر ثلاث مرات تترك
الصلاة فيها، وإلا فهي كاذبة، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قالون " يعني جيد، وهذا اتفاق منهما على إمكان ثلاث حيضات في شهر، ولا يمكن إلا بما ذكرنا من أقل الحيض، وأقل الطهر.
وعنه: أقله خمسة عشر؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تمكث إحداكن شطر عمرها لا تصلي» وليس لأكثره حد، وغالب الحيض ست أو سبع؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحمنة بنت جحش: «تحيضي - في علم الله - ستة أيام أو سبعة، ثم اغتسلي وصلي أربعة وعشرين يوماً، أو ثلاثة وعشرين كما تحيض النساء، وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن» حديث حسن، وغالب الطهر أربعة وعشرون أو ثلاثة وعشرون، لهذا الحديث.
وإذا بلغت المرأة ستين عاماً يئست من المحيض؛ لأنه لم يوجد لمثلها حيض معتاد، فإن رأت دماً فهو دم فاسد، وإن رأته بعد الخمسين، ففيه روايتان:
إحداهما: هو دم فاسد أيضاً؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: إذا بلغت المرأة خمسين سنة خرجت من حد الحيض.
والثانية: إن تكرر بها الدم فهو حيض، وهذا أصح؛ لأنه قد وجد ذلك، وعنه: أن نساء العجم ييأسن في خمسين، ونساء العرب إلى ستين؛ لأنهن أقوى جبلة.
وقال الخرقي: إذا رأت الدم، ولها خمسون سنة، فلا تدع الصلاة، ولا الصوم، وتقضي الصوم احتياطاً، وإن رأته بعد الستين، فقد زال الإشكال، فتصوم وتصلي، ولا تقضي.
والحامل لا تحيض، فإن رأت دماً، فهو دم فاسد؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «في سبايا أوطاس: " لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة» يعني تستعلم براءتها من الحمل بالحيضة، فدل على أنها لا تجتمع معه.
فصل
والمبتدأ بها الدم في سن تحيض لمثله تترك الصلاة والصوم؛ لأن دم الحيض جبلة وعادة، ودم الفساد عارض لمرض ونحوه، والأصل عدمه، فإن انقطع لدون يوم وليلة، فهو دم فساد، وإن بلغ ذلك جلست يوماً وليلة، فإن انقطع دمها لذلك اغتسلت وصلت، وكان ذلك حيضها.
وإن زاد عليه، ففيه أربع روايات: أشهرهن: أنها تغتسل عقيب اليوم والليلة، وتصلي؛ لأن العبادة واجبة بيقين، وما زاد على أقل الحيض مشكوك فيه، فلا تسقطها بالشك، فإن انقطع دمها، ولم يعبر أكثر الحيض، اغتسلت غسلاً ثانياً، ثم تفعل ذلك في شهر آخر، وعنه: تفعله في شهرين آخرين.
فإن كان في الأشهر كلها مدة واحدة، علمت أن ذلك حيضها، فانتقلت إليه، وعملت عليه، وأعادت ما صامت الفرض فيه؛ لأننا تبينا أنها صامته في حيضها.
والثانية: تجلس ما تراه من الدم إلى أكثر الحيض؛ لأنه دم يصلح حيضاً، فتجلسه كاليوم والليلة.
والثالثة: تجلس ستاً أو سبعاً؛ لأن الغالب من النساء هكذا يحضن، ثم تغتسل وتصلي.
والرابعة: تجلس عادة نسائها؛ لأن الغالب أنها تشبههن في جميع ذلك، فإذا انقطع الدم لأكثر الحيض فما دون وتكرر، صار عادة، فانتقلت إليه، وأعادت ما صامته من الفرض فيه.
وإن عبر دمها أكثر الحيض، علمنا استحاضتها فنظر في دمها، فإن كان متميزاً بعضه أسود ثخين منتن، وبعضه رقيق أحمر، وكان الأسود لا يزيد على أكثر الحيض، ولا ينقص عن أقله، فهذه مدة حيضها زمن الدم الأسود، فتجلسه، فإذا خلفته اغتسلت وصلت، لما روي أن فاطمة بنت أبي حبيش «قالت: يا رسول الله، إني أستحاض، فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: " لا إنما ذلك عرق، ليس بالحيض، فإذا أقبلت الحيضة، فدعي الصلاة، وإذا أدبرت، فاغسلي عنك الدم، وصلي» متفق عليه.
يعني بإقباله: سواده ونتنه، وبإدباره: رقته وحمرته، وفي لفظ، قال: «إذا كان دم الحيض، فإنه أسود، يعرف فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الأحمر فتوضئي إنما هو عرق» رواه النسائي , وقال ابن عباس: ما رأت الدم البحراني، فإنها تدع الصلاة، إنها والله لن ترى الدم بعد أيام محيضها إلا كغسالة ماء اللحم، ولأنه خارج من الفرج يوجب الغسل، فرجع إلى صفته عند الاشتباه، كالمني والمذي، وإن لم تكن مميزة
جلست من كل شهر ستة أيام، أو سبعة، لما روي أن حمنة بنت جحش «قالت: يا رسول الله، إني أستحاض حيضة شديدة، منكرة، قد منعتني الصوم والصلاة، فقال لها: " تحيضي ستة أيام، أو سبعة أيام، في علم الله، ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت، فصلي ثلاثاً وعشرين ليلة أو أربعاً وعشرين ليلة وأيامها، وصومي فإن ذلك يجزئك، وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
وذكر أبو الخطاب في المبتدأة هذه الروايات الأربع، وحكي عن ابن عقيل في المبتدأة المميزة أنها تجلس بالتمييز في أول مرة، لما ذكرنا من الأخبار؛ ولأن التمييز يجري مجرى العادة، والمعتادة تجلس عدة أيام عادتها، كذلك المميزة.
فصل
وإن استقرت لها عادة، فما رأت من الدم فيها، فهو حيض سواء كان كدرة أو صفرة أو غيرهما، لما روى مالك عن علقمة عن أمه: أن النساء كن يرسلن بالدرجة، فيها الشيء من الصفرة، إلى عائشة فتقول: لا تصلين حتى ترين القصة البيضاء.
قال مالك وأحمد: هو ماء أبيض يتبع الحيضة، ولأنه دم في زمن العادة أشبه الأسود، فإن تغيرت العادة، لم تخل من ثلاثة أقسام: أحدها: أن ترى الطهر قبل تمامها، فإنها تغتسل وتصلي؛ لأن ابن عباس قال: لا يحل لها ما رأت الطهر ساعة إلا أن تغتسل، ولأنها طاهر فتلزمها الصلاة، كسائر الطاهرات.
وإن عاودها الدم في عادتها، ففيه روايتان: إحداهما: تتحيض فيه، وهي الأولى؛ لأنه دم صادف العادة، فكان حيضاً كالأول.
والثانية: لا تجلسه حتى يتكرر؛ لأنه جاء بعد طهر، فلم يكن حيضاً بغير تكرار، كالخارج عن العادة، وإن عاودها بعد العادة، وعبر أكثر الحيض، فهو استحاضة، وإن لم يعبر ذلك وتكرر، فهو حيض، وإلا فلا؛ لأنه لم يصادف عادة، فلا يكون حيضاً بغير تكرار.
القسم الثاني: أن ترى الدم في غير عادتها، قبلها أو بعدها مع بقاء عادتها، أو طهرها فيها، أو في بعضها، فالمذهب أنها لا تجلس ما خرج عن العادة حتى يتكرر، وفي قدره روايتان: إحداهما: ثلاثاً؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دعي الصلاة أيام أقرائك» وأقل ذلك ثلاثاً.
والثانية: مرتان؛ لأن العادة مأخوذة من المعاودة، وذلك يحصل بمرتين، فعلى هذا تصوم وتصلي فيما خرج عن العادة مرتين أو ثلاثاً، فإذا تكرر، انتقلت إليه، وصار عادة، وأعادت ما صامته من الفرض فيه؛ لأنا تبينا أنها صامته في حيضها.
قال الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويقوى عندي أنها تجلس متى رأت دماً يمكن أن يكون حيضاً، وافق العادة أو خالفها؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء، ولم تقيده بالعادة وظاهر الأخبار تدل على أن النساء كن يعددن ما يرينه من الدم حيضاً من غير افتقاد عادة، ولم ينقل عنهن ذكر العادة، ولا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بيان لها ولا الاستفصال عنها إلا في التي قالت: إني أستحاض فلا أطهر، وشبهها من المستحاضات، أما في امرأة يأتي دمها في وقت يمكن أن يكون حيضاً، ثم يطهر فلا، والظاهر أنهن جرين على العرف في اعتقاد ذلك حيضاً، ولم يأت من الشرع تغيير، ولذلك أجلسنا المبتدأة من غير تقدم عادة، ورجعنا في أكثر أحكام الحيض إلى العرف، والعرف أن الحيضة تتقدم وتتأخر وتزيد وتنقص، وفي اعتبار العادة على هذا الوجه، إخلال ببعض المنتقلات عن الحيض بالكلية، مع رؤيتها للدم في وقت الحيض على صفته، وهذا لا سبيل إليه.
فصل
القسم الثالث: أن ينضم إلى العادة ما يزيدان بمجموعهما على أكثر الحيض، فلا تخلو من حالين: أحدهما: أن تكون ذاكرة لعادتها، فإن كانت غير مميزة، جلست قدر عادتها، واغتسلت بعدها وصلت وصامت؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت أبي حبيش: «دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي» متفق عليه، وإن كانت مميزة ففيها روايتان:
إحداهما: تعمل بالعادة، لهذا الحديث، والأخرى: تعمل بالتمييز، وهو اختيار الخرقي، لما تقدم من أدلته.
الحال الثاني: أن تكون ناسية لعادتها: فإن كانت مميزة، عملت بتمييزها؛ لأنه دليل لا معارض له، فوجب العمل به كالمبتدأة.
وإن لم تكن مميزة فهي على ثلاثة أضرب: إحداهن: المتحيرة وهي الناسية لوقتها وعددها، فهذه تتحيض في كل شهر ستة أيام أو سبعة، على حديث حمنة بنت جحش، ولأنه غالب عادات النساء، فالظاهر، أنه حيضها، وعنه: أنها ترد إلى عادة نسائها، كما تقدم، وقيل: فيها الروايات الأربع.
ويجعل حيضها من أول كل شهر في أحد الوجهين؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحيضي في علم الله ستة أيام، أو سبعة أيام، من كل شهر، ثم اغتسلي، وصلي ثلاثة وعشرين يوماً» فجعل حيضها من أوله، والصلاة في بقيته.
والآخر: تجلسه بالاجتهاد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ردها إلى الاجتهاد في العدد بين الست والسبع، فكذلك في الوقت.
وإن علمت أن حيضها في وقت من الشهر كالنصف الأول ولم تعلم موضعه منه، ولا عدده فكذلك، إلا أن اجتهادها يختص بذلك الوقت دون غيره.
الضرب الثاني: أن تعلم عددها وتنسى وقتها، نحو أن تعلم أن حيضها خمس ولا تعلم لها وقتاً، فهذه تجلس قدر أيامها من أول كل شهر في أحد الوجهين، وفي الآخر تجلسه بالتحري.
وإن علمته في وقت من الشهر، مثل أن علمت أن حيضها في العشر الأول من الشهر أو العشر الأوسط، جلست قدر أيامها من ذلك الوقت دون غيره.
الضرب الثالث: ذكرت وقتها ونسيت عددها، مثل أن تعلم أن اليوم العاشر من حيضها، ولا تدري قدره، فحكمها في قدر ما تجلسه حكم المتحيرة، واليوم العاشر حيض بيقين، فإن علمته أول حيضها، جلست بقية أيامها بعده، وإن علمته آخر حيضها، جلست الباقي قبله.
وإن لم تعلم أوله ولا آخره جلست مما يلي أول الشهر في أحد الوجهين، وفي الآخر تجلس بالتحري.
فصل
ومتى ذكرت الناسية عادتها، رجعت إليها؛ لأنها تركتها للعجز عنها، فإذا زال العجز، وجب العمل بها لزوال العارض، فإن كانت مخالفة لما عملت قضت ما صامت من الفرض في مدة العادة، وما تركت من الصلاة والصيام فيما خرج عنها؛ لأننا تبينا أنها تركتها وهي طاهرة.
فصل
ولا تصير المرأة معتادة حتى تعلم حيضها وطهرها وشهرها، ويتكرر.
وشهرها: هو المدة التي يجتمع لها فيه حيض وطهر، وأقل ذلك أربعة عشر يوماً، يوم للحيض وثلاثة عشر للطهر، وغالبه الشهر المعروف، لحديث حمنة، ولأنه غالب عادات النساء، وأكثره، لا حد له [لأن أكثر الحيض لا يتعداه] وتثبت العادة بالتمييز، كما تثبت بانقطاع الدم، فلو رأت المبتدأة خمسة أيام دماً أسود، ثم احمر وعبر أكثر الحيض، وتكرر ذلك ثلاثاً، ثم رأت في الرابع دماً مبهماً، كان حيضها أيام الدم الأسود؛ لأنه صار عادة لها.
فصل
والعادة على ضربين: متفقة ومختلفة.
فالمتفقة: مثل من تحيض خمسة من كل شهر، والمختلفة مثل من تحيض في شهر ثلاثة، وفي الثاني أربعة، وفي الثالث خمسة، ثم يعود إلى الثلاثة، ثم إلى أربعة على هذا الترتيب، أو في شهر ثلاثة، وفي الثاني خمسة، وفي الثالث أربعة، ثم تعود إلى الثلاثة، فكل ما أمكن ضبطه من ذلك، فهو عادة مستقرة، وما لم يمكن ضبطه نظرت إلى القدر الذي تكرر منه، فجعلته عادة، كأنها رأت في شهر ثلاثة، وفي شهر أربعة، وفي شهر خمسة، فالثلاثة حيض، لتكررها ثلاثاً.
فإذا رأت في الرابع ستة، فالأربعة حيض: لتكررها ثلاثاً، فإذا رأت في الخامس سبعة، فالخمسة حيض، وعلى هذا ما تكرر، فهو حيض، وما لا فلا.
فصل
في التلفيق: إذا رأت يوماً دماً، ويوم طهراً، فإنها تغتسل، وتصلي في زمن الطهر، لقول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يحل لها إذا رأت الطهر ساعة إلا أن تغتسل، ثم إن انقطع الدم لخمسة عشر فما دون، فجميعه حيض، تغتسل عقيب كل يوم وتصلي في الطهر، وإن عبر الخمسة عشر، فهي مستحاضة ترد إلى عادتها، فإن كانت عادتها، سبعة متوالية، جلست ما وافقها من الدم، فيكون حيضها منه ثلاثة أيام، أو أربعة، وإن كانت ناسية، فأجلسناها سبعة فكذلك، وإن أجلسناها أقل الحيض، جلست
يوماً وليلة لا غير، وإن كانت مميزة، ترى يوماً دماً أسود، ثم ترى نقاء ثم ترى أسود إلى عشرة أيام، ثم ترى دماً أحمر وعبر، ردت إلى التمييز، فيكون حيضها زمن الدم الأسود دون غيره، ولا فرق بين أن ترى الدم زمناً يمكن يكون أن يكون حيضاً كيوم وليلة، أو دون ذلك، كنصف يوم، ونصف ليلة، فإن كان النقاء أقل من ساعة، فالظاهر أنه ليس بطهر؛ لأن الدم يجري تارة، وينقطع أخرى، وقد قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء.
فصل
وإذا رأت ثلاثة أيام دماً، ثم طهرت اثني عشر يوماً، ثم رأته ثلاثة دماً، فالأول حيض؛ لأنها رأته في زمان إمكانه، والثاني استحاضة؛ لأنه لا يمكن أن يكون ابتداء حيض، لكونه لم يتقدمه أقل الطهر، ولا من الحيض الأول؛ لأنه يخرج عن الخمسة عشر.
والحيضة الواحدة لا يكون بين طرفيها أكثر من خمسة عشر يوماً. فإن كان بين الدمين ثلاثة عشر يوماً فأكثر وتكرر، فهما حيضتان؛ لأنه أمكن جعل كل واحد منهما حيضة منفردة، لفصل أقل الطهر بينهما، وإن أمكن جعلهما حيضة واحدة بأن لا يكون بين طرفيهما أكثر من خمسة عشر يوماً مثل أن ترى يومين دماً وتطهر عشرة، وترى ثلاثة دماً وتكرر، فهما حيضة واحدة؛ لأنه لم يخرج زمنهما عن مدة أكثر الحيض. وعلى هذا يعتبر ما ألقي من المسائل في التلفيق.
فصل
في المستحاضة وهي:
التي ترى دماً ليس بحيض ولا نفاس. وحكمها حكم الطاهرات في وجوب العبادات وفعلها؛ لأنها نجاسة غير معتادة، أشبه سلس البول، فإن اختلط حيضها باستحاضتها، فعليها الغسل عند انقطاع الحيض، لحديث فاطمة، ومتى أرادت الصلاة؛ غسلت فرجها، وما أصابها من الدم، حتى إذا استنقأت عصبت فرجها، واستوثقت بالشد، والتلجم، ثم توضأت وصلت، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قال لحمنة بنت جحش حين شكت إليه كثرة الدم: " أنعت لك الكرسف " يعني القطن، تحشي به المكان. قالت: إنه أشد من ذلك، فقال: " تلجمي» .
وعن أم سلمة «أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاستفتت لها أم سلمة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر، قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة، قدر ذلك من الشهر فإذا خلفت ذلك فلتغتسل، ثم لتستثفر بثوب، ثم لتصل» رواه أبو داود، فإن خرج الدم بعد الوضوء لتفريط في الشد، أعادت الوضوء؛ لأنه حدث أمكن التحرز عنه.
وإن خرج لغير تفريط، فلا شيء عليها لما روت «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: اعتكفت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امرأة من أزواجه، فكانت ترى الدم، والصفرة والطست تحتها، وهي تصلي» رواه البخاري.
ولأنه لا يمكن التحرز منه فسقط، وتصلي بطهارتها ما شاءت من الفرائض والنوافل قبل الفريضة وبعدها، حتى يخرج الوقت فتبطل بها طهارتها، وتستأنف الطهارة لصلاة أخرى، لما روي في حديث «فاطمة أن النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قال لها: "اغتسلي ثم توضئي لكل صلاة وصلي» قال الترمذي: هذا حديث صحيح، ولأنها طهارة عذر وضرورة، فتقيدت بالوقت كالتيمم، وإن توضأت قبل الوقت، بطل وضوءها بدخوله، كما في التيمم، وإن انقطع دمها بعد الوضوء، وكانت عادتها انقطاعه وقتاً لا يتسع للصلاة لم يؤثر انقطاعه؛ لأنه لا يمكن الصلاة فيه، وإن لم تكن به عادة أو كانت عادتها انقطاعه مدة طويلة، لزمها استئناف الوضوء، وإن كانت في الصلاة، بطلت؛ لأن العفو عن الدم، لضرورة جريانه فيزول بزواله، وحكم من به سلس البول أو المذي أو الريح أو الجرح الذي لا يرقأ دمه حكمها في ذلك إلا أن ما
لا يمكن عصبه يصلي بحاله، فقد صلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وجرحه يثعب دماً.
فصل
قال أصحابنا: ولا توطأ مستحاضة لغير ضرورة؛ لأنه أذى في الفرج، أشبه دم الحيض، فإن الله تعالى قال: {هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] فعلله بكونه أذى، وإن خاف على نفسه العنت، أبيح الوطء؛ لأنه يتطاول، فيشق التحرز منه، وحكمه أخف، لعدم ثبوت أحكام الحيض فيه، وحكى أبو الخطاب فيه عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روايتان: إحداهما: كما ذكرنا.
والثانية: يحل مطلقاً لعموم النص في حل الزوجات، وامتناع قياس المستحاضة على الحائض، لمخالفتها لها في أكثر أحكامها، ولأن وطء الحائض ربما يتعدى ضرره إلى الولد، فإنه قد قيل: إنه يكون مجذوماً بخلاف دم المستحاضة.
فصل
ويستحب لها الغسل لكل صلاة؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - روت: «أن أم حبيبة استحيضت، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمرها أن تغتسل لكل صلاة.» [رواه أبو داود] ، وإن جمعت بين الصلاتين بغسل واحد، فهو حسن، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لحمنة: «فإن قويت أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر، ثم تغتسلين حتى تطهرين، وتصلين الظهر والعصر جميعاً، ثم تؤخرين المغرب، وتعجلين العشاء، ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين، وتغتسلين مع الصبح، كذلك فافعلي إن قويت على
ذلك هو أعجب الأمرين إلي» وهو حديث صحيح، وإن توضأت لوقت كل صلاة أجزأها لما ذكرنا سابقاً.
وهو دم ترخيه الرحم يخرج من المرأة في أوقات معتادة يتعلق به ثلاثة عشر حكماً:
أحدها: تحريم فعل الصلاة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة» متفق عليه.
والثاني: سقوط فرضها؛ لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كنا نحيض على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة» ، متفق عليه.
والثالث: تحريم الصيام، ولا يسقط وجوبه، لحديث عائشة، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أليس إحداكن إذا حاضت لم تصم ولم تصل؟ "
قلن: بلى» ، رواه البخاري.
والرابع: تحريم الطواف؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة إذ حاضت: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري» متفق عليه.
والخامس: تحريم قراءة القرآن؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن» رواه الترمذي.
والسادس: تحريم مس المصحف؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» رواه الأثرم.
والسابع: تحريم اللبث في المسجد، لما ذكرناه من قبل.
والثامن: تحريم الطلاق، لما نذكره في النكاح.
والتاسع: تحريم الوطء في الفرج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] .
ولا يحرم الاستمتاع بها في غير الفرج؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اصنعوا كل شيء غير
النكاح» رواه مسلم.
وقالت عائشة: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرني فأتزر فيباشرني، وأنا حائض» ، متفق عليه، ولأنه وطء حرم للأذى، فاختص بمحله، كالوطء في الدبر.
والعاشر: منع صحة الطهارة؛ لأنه حدث يوجب الطهارة فاستمراره يمنع صحتها كالبول.
والحادي عشر: وجوب الغسل؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي» متفق عليه.
الثاني عشر: وجوب الاعتداد به، لما نذكره في العدد.
الثالث عشر: حصول البلوغ به لما نذكره في موضعه.
فإذا انقطع دمها ولم تغتسل زالت أربعة أحكام: سقوط فرض الصلاة؛ لأن سقوطه بالحيض قد زال، ومنع صحة الطهارة لذلك، وتحريم الصيام؛ لأن وجوب الغسل لا يمنع
فعله، كالجنابة، وتحريم الطلاق؛ لأن تحريمه لتطويل العدة، وقد زال هذا المعنى.
وسائر المحرمات باقية؛ لأنها تثبت في حق المحدث الحدث الأكبر، وحدثها باق، وتحريم الوطء باق؛ لأن الله تعالى قال: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] قال مجاهد: حتى يغتسلن.
فإن لم تجد الماء تيممت، وحل وطؤها؛ لأنه قائم مقام الغسل، فحل به ما يحل بالغسل، وإن تيممت للصلاة حل وطؤها؛ لأن ما أباح الصلاة أباح ما دونها.
وإن وطئ الحائض قبل طهرها؛ فعليه كفارة [دينار أو] نصف دينار، لما روى ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «في الذي يأتي امرأته وهي حائض، قال: " يتصدق بدينار أو بنصف دينار» ، قال أبو داود: كذا الرواية الصحيحة.
وعن أحمد: لا كفارة فيه؛ لأنه وطء حرم للأذى، فلم تجب به كفارة كالوطء في الدبر، والحديث توقف أحمد عنه للشك في عدالة راويه.
وإن وطئها بعد انقطاع دمها، فلا كفارة عليه؛ لأن حكمه أخف ولم يرد الشرع بالكفارة فيه.
فصل
وأقل سن تحيض له المرأة تسع سنين، فإن رأت قبل ذلك دماً فليس
بحيض، ولا يتعلق به أحكامه؛ لأنه لم يثبت في الوجود لامرأة حيض قبل ذلك، وقد روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة.
وأقل الحيض يوم وليلة.
وعنه: يوم؛ لأن الشرع علق على الحيض أحكاماً ولم يبين قدره، فعلم أنه رده إلى العادة، كالقبض والحرز، وقد وجد حيض معتاد يوماً، ولم يوجد أقل منه.
قال عطاء: رأيت من تحيض يوماً، وتحيض خمسة عشر.
قال أبو عبد الله الزبيري: كان في نسائنا من تحيض يوماً، وتحيض خمسة عشر يوماً.
[وأكثره خمسة عشر يوماً] لما ذكرنا، وعنه سبعة عشرة يوماً.
وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل عن امرأة ادعت انقضاء عدتها في شهر، فقال لشريح: قل فيها، فقال: إن جاءت ببطانة من أهلها يشهدن أنها حاضت في شهر ثلاث مرات تترك
الصلاة فيها، وإلا فهي كاذبة، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قالون " يعني جيد، وهذا اتفاق منهما على إمكان ثلاث حيضات في شهر، ولا يمكن إلا بما ذكرنا من أقل الحيض، وأقل الطهر.
وعنه: أقله خمسة عشر؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تمكث إحداكن شطر عمرها لا تصلي» وليس لأكثره حد، وغالب الحيض ست أو سبع؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحمنة بنت جحش: «تحيضي - في علم الله - ستة أيام أو سبعة، ثم اغتسلي وصلي أربعة وعشرين يوماً، أو ثلاثة وعشرين كما تحيض النساء، وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن» حديث حسن، وغالب الطهر أربعة وعشرون أو ثلاثة وعشرون، لهذا الحديث.
وإذا بلغت المرأة ستين عاماً يئست من المحيض؛ لأنه لم يوجد لمثلها حيض معتاد، فإن رأت دماً فهو دم فاسد، وإن رأته بعد الخمسين، ففيه روايتان:
إحداهما: هو دم فاسد أيضاً؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: إذا بلغت المرأة خمسين سنة خرجت من حد الحيض.
والثانية: إن تكرر بها الدم فهو حيض، وهذا أصح؛ لأنه قد وجد ذلك، وعنه: أن نساء العجم ييأسن في خمسين، ونساء العرب إلى ستين؛ لأنهن أقوى جبلة.
وقال الخرقي: إذا رأت الدم، ولها خمسون سنة، فلا تدع الصلاة، ولا الصوم، وتقضي الصوم احتياطاً، وإن رأته بعد الستين، فقد زال الإشكال، فتصوم وتصلي، ولا تقضي.
والحامل لا تحيض، فإن رأت دماً، فهو دم فاسد؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «في سبايا أوطاس: " لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة» يعني تستعلم براءتها من الحمل بالحيضة، فدل على أنها لا تجتمع معه.
فصل
والمبتدأ بها الدم في سن تحيض لمثله تترك الصلاة والصوم؛ لأن دم الحيض جبلة وعادة، ودم الفساد عارض لمرض ونحوه، والأصل عدمه، فإن انقطع لدون يوم وليلة، فهو دم فساد، وإن بلغ ذلك جلست يوماً وليلة، فإن انقطع دمها لذلك اغتسلت وصلت، وكان ذلك حيضها.
وإن زاد عليه، ففيه أربع روايات: أشهرهن: أنها تغتسل عقيب اليوم والليلة، وتصلي؛ لأن العبادة واجبة بيقين، وما زاد على أقل الحيض مشكوك فيه، فلا تسقطها بالشك، فإن انقطع دمها، ولم يعبر أكثر الحيض، اغتسلت غسلاً ثانياً، ثم تفعل ذلك في شهر آخر، وعنه: تفعله في شهرين آخرين.
فإن كان في الأشهر كلها مدة واحدة، علمت أن ذلك حيضها، فانتقلت إليه، وعملت عليه، وأعادت ما صامت الفرض فيه؛ لأننا تبينا أنها صامته في حيضها.
والثانية: تجلس ما تراه من الدم إلى أكثر الحيض؛ لأنه دم يصلح حيضاً، فتجلسه كاليوم والليلة.
والثالثة: تجلس ستاً أو سبعاً؛ لأن الغالب من النساء هكذا يحضن، ثم تغتسل وتصلي.
والرابعة: تجلس عادة نسائها؛ لأن الغالب أنها تشبههن في جميع ذلك، فإذا انقطع الدم لأكثر الحيض فما دون وتكرر، صار عادة، فانتقلت إليه، وأعادت ما صامته من الفرض فيه.
وإن عبر دمها أكثر الحيض، علمنا استحاضتها فنظر في دمها، فإن كان متميزاً بعضه أسود ثخين منتن، وبعضه رقيق أحمر، وكان الأسود لا يزيد على أكثر الحيض، ولا ينقص عن أقله، فهذه مدة حيضها زمن الدم الأسود، فتجلسه، فإذا خلفته اغتسلت وصلت، لما روي أن فاطمة بنت أبي حبيش «قالت: يا رسول الله، إني أستحاض، فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: " لا إنما ذلك عرق، ليس بالحيض، فإذا أقبلت الحيضة، فدعي الصلاة، وإذا أدبرت، فاغسلي عنك الدم، وصلي» متفق عليه.
يعني بإقباله: سواده ونتنه، وبإدباره: رقته وحمرته، وفي لفظ، قال: «إذا كان دم الحيض، فإنه أسود، يعرف فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الأحمر فتوضئي إنما هو عرق» رواه النسائي , وقال ابن عباس: ما رأت الدم البحراني، فإنها تدع الصلاة، إنها والله لن ترى الدم بعد أيام محيضها إلا كغسالة ماء اللحم، ولأنه خارج من الفرج يوجب الغسل، فرجع إلى صفته عند الاشتباه، كالمني والمذي، وإن لم تكن مميزة
جلست من كل شهر ستة أيام، أو سبعة، لما روي أن حمنة بنت جحش «قالت: يا رسول الله، إني أستحاض حيضة شديدة، منكرة، قد منعتني الصوم والصلاة، فقال لها: " تحيضي ستة أيام، أو سبعة أيام، في علم الله، ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت، فصلي ثلاثاً وعشرين ليلة أو أربعاً وعشرين ليلة وأيامها، وصومي فإن ذلك يجزئك، وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
وذكر أبو الخطاب في المبتدأة هذه الروايات الأربع، وحكي عن ابن عقيل في المبتدأة المميزة أنها تجلس بالتمييز في أول مرة، لما ذكرنا من الأخبار؛ ولأن التمييز يجري مجرى العادة، والمعتادة تجلس عدة أيام عادتها، كذلك المميزة.
فصل
وإن استقرت لها عادة، فما رأت من الدم فيها، فهو حيض سواء كان كدرة أو صفرة أو غيرهما، لما روى مالك عن علقمة عن أمه: أن النساء كن يرسلن بالدرجة، فيها الشيء من الصفرة، إلى عائشة فتقول: لا تصلين حتى ترين القصة البيضاء.
قال مالك وأحمد: هو ماء أبيض يتبع الحيضة، ولأنه دم في زمن العادة أشبه الأسود، فإن تغيرت العادة، لم تخل من ثلاثة أقسام: أحدها: أن ترى الطهر قبل تمامها، فإنها تغتسل وتصلي؛ لأن ابن عباس قال: لا يحل لها ما رأت الطهر ساعة إلا أن تغتسل، ولأنها طاهر فتلزمها الصلاة، كسائر الطاهرات.
وإن عاودها الدم في عادتها، ففيه روايتان: إحداهما: تتحيض فيه، وهي الأولى؛ لأنه دم صادف العادة، فكان حيضاً كالأول.
والثانية: لا تجلسه حتى يتكرر؛ لأنه جاء بعد طهر، فلم يكن حيضاً بغير تكرار، كالخارج عن العادة، وإن عاودها بعد العادة، وعبر أكثر الحيض، فهو استحاضة، وإن لم يعبر ذلك وتكرر، فهو حيض، وإلا فلا؛ لأنه لم يصادف عادة، فلا يكون حيضاً بغير تكرار.
القسم الثاني: أن ترى الدم في غير عادتها، قبلها أو بعدها مع بقاء عادتها، أو طهرها فيها، أو في بعضها، فالمذهب أنها لا تجلس ما خرج عن العادة حتى يتكرر، وفي قدره روايتان: إحداهما: ثلاثاً؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دعي الصلاة أيام أقرائك» وأقل ذلك ثلاثاً.
والثانية: مرتان؛ لأن العادة مأخوذة من المعاودة، وذلك يحصل بمرتين، فعلى هذا تصوم وتصلي فيما خرج عن العادة مرتين أو ثلاثاً، فإذا تكرر، انتقلت إليه، وصار عادة، وأعادت ما صامته من الفرض فيه؛ لأنا تبينا أنها صامته في حيضها.
قال الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويقوى عندي أنها تجلس متى رأت دماً يمكن أن يكون حيضاً، وافق العادة أو خالفها؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء، ولم تقيده بالعادة وظاهر الأخبار تدل على أن النساء كن يعددن ما يرينه من الدم حيضاً من غير افتقاد عادة، ولم ينقل عنهن ذكر العادة، ولا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بيان لها ولا الاستفصال عنها إلا في التي قالت: إني أستحاض فلا أطهر، وشبهها من المستحاضات، أما في امرأة يأتي دمها في وقت يمكن أن يكون حيضاً، ثم يطهر فلا، والظاهر أنهن جرين على العرف في اعتقاد ذلك حيضاً، ولم يأت من الشرع تغيير، ولذلك أجلسنا المبتدأة من غير تقدم عادة، ورجعنا في أكثر أحكام الحيض إلى العرف، والعرف أن الحيضة تتقدم وتتأخر وتزيد وتنقص، وفي اعتبار العادة على هذا الوجه، إخلال ببعض المنتقلات عن الحيض بالكلية، مع رؤيتها للدم في وقت الحيض على صفته، وهذا لا سبيل إليه.
فصل
القسم الثالث: أن ينضم إلى العادة ما يزيدان بمجموعهما على أكثر الحيض، فلا تخلو من حالين: أحدهما: أن تكون ذاكرة لعادتها، فإن كانت غير مميزة، جلست قدر عادتها، واغتسلت بعدها وصلت وصامت؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت أبي حبيش: «دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي» متفق عليه، وإن كانت مميزة ففيها روايتان:
إحداهما: تعمل بالعادة، لهذا الحديث، والأخرى: تعمل بالتمييز، وهو اختيار الخرقي، لما تقدم من أدلته.
الحال الثاني: أن تكون ناسية لعادتها: فإن كانت مميزة، عملت بتمييزها؛ لأنه دليل لا معارض له، فوجب العمل به كالمبتدأة.
وإن لم تكن مميزة فهي على ثلاثة أضرب: إحداهن: المتحيرة وهي الناسية لوقتها وعددها، فهذه تتحيض في كل شهر ستة أيام أو سبعة، على حديث حمنة بنت جحش، ولأنه غالب عادات النساء، فالظاهر، أنه حيضها، وعنه: أنها ترد إلى عادة نسائها، كما تقدم، وقيل: فيها الروايات الأربع.
ويجعل حيضها من أول كل شهر في أحد الوجهين؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحيضي في علم الله ستة أيام، أو سبعة أيام، من كل شهر، ثم اغتسلي، وصلي ثلاثة وعشرين يوماً» فجعل حيضها من أوله، والصلاة في بقيته.
والآخر: تجلسه بالاجتهاد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ردها إلى الاجتهاد في العدد بين الست والسبع، فكذلك في الوقت.
وإن علمت أن حيضها في وقت من الشهر كالنصف الأول ولم تعلم موضعه منه، ولا عدده فكذلك، إلا أن اجتهادها يختص بذلك الوقت دون غيره.
الضرب الثاني: أن تعلم عددها وتنسى وقتها، نحو أن تعلم أن حيضها خمس ولا تعلم لها وقتاً، فهذه تجلس قدر أيامها من أول كل شهر في أحد الوجهين، وفي الآخر تجلسه بالتحري.
وإن علمته في وقت من الشهر، مثل أن علمت أن حيضها في العشر الأول من الشهر أو العشر الأوسط، جلست قدر أيامها من ذلك الوقت دون غيره.
الضرب الثالث: ذكرت وقتها ونسيت عددها، مثل أن تعلم أن اليوم العاشر من حيضها، ولا تدري قدره، فحكمها في قدر ما تجلسه حكم المتحيرة، واليوم العاشر حيض بيقين، فإن علمته أول حيضها، جلست بقية أيامها بعده، وإن علمته آخر حيضها، جلست الباقي قبله.
وإن لم تعلم أوله ولا آخره جلست مما يلي أول الشهر في أحد الوجهين، وفي الآخر تجلس بالتحري.
فصل
ومتى ذكرت الناسية عادتها، رجعت إليها؛ لأنها تركتها للعجز عنها، فإذا زال العجز، وجب العمل بها لزوال العارض، فإن كانت مخالفة لما عملت قضت ما صامت من الفرض في مدة العادة، وما تركت من الصلاة والصيام فيما خرج عنها؛ لأننا تبينا أنها تركتها وهي طاهرة.
فصل
ولا تصير المرأة معتادة حتى تعلم حيضها وطهرها وشهرها، ويتكرر.
وشهرها: هو المدة التي يجتمع لها فيه حيض وطهر، وأقل ذلك أربعة عشر يوماً، يوم للحيض وثلاثة عشر للطهر، وغالبه الشهر المعروف، لحديث حمنة، ولأنه غالب عادات النساء، وأكثره، لا حد له [لأن أكثر الحيض لا يتعداه] وتثبت العادة بالتمييز، كما تثبت بانقطاع الدم، فلو رأت المبتدأة خمسة أيام دماً أسود، ثم احمر وعبر أكثر الحيض، وتكرر ذلك ثلاثاً، ثم رأت في الرابع دماً مبهماً، كان حيضها أيام الدم الأسود؛ لأنه صار عادة لها.
فصل
والعادة على ضربين: متفقة ومختلفة.
فالمتفقة: مثل من تحيض خمسة من كل شهر، والمختلفة مثل من تحيض في شهر ثلاثة، وفي الثاني أربعة، وفي الثالث خمسة، ثم يعود إلى الثلاثة، ثم إلى أربعة على هذا الترتيب، أو في شهر ثلاثة، وفي الثاني خمسة، وفي الثالث أربعة، ثم تعود إلى الثلاثة، فكل ما أمكن ضبطه من ذلك، فهو عادة مستقرة، وما لم يمكن ضبطه نظرت إلى القدر الذي تكرر منه، فجعلته عادة، كأنها رأت في شهر ثلاثة، وفي شهر أربعة، وفي شهر خمسة، فالثلاثة حيض، لتكررها ثلاثاً.
فإذا رأت في الرابع ستة، فالأربعة حيض: لتكررها ثلاثاً، فإذا رأت في الخامس سبعة، فالخمسة حيض، وعلى هذا ما تكرر، فهو حيض، وما لا فلا.
فصل
في التلفيق: إذا رأت يوماً دماً، ويوم طهراً، فإنها تغتسل، وتصلي في زمن الطهر، لقول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يحل لها إذا رأت الطهر ساعة إلا أن تغتسل، ثم إن انقطع الدم لخمسة عشر فما دون، فجميعه حيض، تغتسل عقيب كل يوم وتصلي في الطهر، وإن عبر الخمسة عشر، فهي مستحاضة ترد إلى عادتها، فإن كانت عادتها، سبعة متوالية، جلست ما وافقها من الدم، فيكون حيضها منه ثلاثة أيام، أو أربعة، وإن كانت ناسية، فأجلسناها سبعة فكذلك، وإن أجلسناها أقل الحيض، جلست
يوماً وليلة لا غير، وإن كانت مميزة، ترى يوماً دماً أسود، ثم ترى نقاء ثم ترى أسود إلى عشرة أيام، ثم ترى دماً أحمر وعبر، ردت إلى التمييز، فيكون حيضها زمن الدم الأسود دون غيره، ولا فرق بين أن ترى الدم زمناً يمكن يكون أن يكون حيضاً كيوم وليلة، أو دون ذلك، كنصف يوم، ونصف ليلة، فإن كان النقاء أقل من ساعة، فالظاهر أنه ليس بطهر؛ لأن الدم يجري تارة، وينقطع أخرى، وقد قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء.
فصل
وإذا رأت ثلاثة أيام دماً، ثم طهرت اثني عشر يوماً، ثم رأته ثلاثة دماً، فالأول حيض؛ لأنها رأته في زمان إمكانه، والثاني استحاضة؛ لأنه لا يمكن أن يكون ابتداء حيض، لكونه لم يتقدمه أقل الطهر، ولا من الحيض الأول؛ لأنه يخرج عن الخمسة عشر.
والحيضة الواحدة لا يكون بين طرفيها أكثر من خمسة عشر يوماً. فإن كان بين الدمين ثلاثة عشر يوماً فأكثر وتكرر، فهما حيضتان؛ لأنه أمكن جعل كل واحد منهما حيضة منفردة، لفصل أقل الطهر بينهما، وإن أمكن جعلهما حيضة واحدة بأن لا يكون بين طرفيهما أكثر من خمسة عشر يوماً مثل أن ترى يومين دماً وتطهر عشرة، وترى ثلاثة دماً وتكرر، فهما حيضة واحدة؛ لأنه لم يخرج زمنهما عن مدة أكثر الحيض. وعلى هذا يعتبر ما ألقي من المسائل في التلفيق.
فصل
في المستحاضة وهي:
التي ترى دماً ليس بحيض ولا نفاس. وحكمها حكم الطاهرات في وجوب العبادات وفعلها؛ لأنها نجاسة غير معتادة، أشبه سلس البول، فإن اختلط حيضها باستحاضتها، فعليها الغسل عند انقطاع الحيض، لحديث فاطمة، ومتى أرادت الصلاة؛ غسلت فرجها، وما أصابها من الدم، حتى إذا استنقأت عصبت فرجها، واستوثقت بالشد، والتلجم، ثم توضأت وصلت، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قال لحمنة بنت جحش حين شكت إليه كثرة الدم: " أنعت لك الكرسف " يعني القطن، تحشي به المكان. قالت: إنه أشد من ذلك، فقال: " تلجمي» .
وعن أم سلمة «أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاستفتت لها أم سلمة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر، قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة، قدر ذلك من الشهر فإذا خلفت ذلك فلتغتسل، ثم لتستثفر بثوب، ثم لتصل» رواه أبو داود، فإن خرج الدم بعد الوضوء لتفريط في الشد، أعادت الوضوء؛ لأنه حدث أمكن التحرز عنه.
وإن خرج لغير تفريط، فلا شيء عليها لما روت «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: اعتكفت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امرأة من أزواجه، فكانت ترى الدم، والصفرة والطست تحتها، وهي تصلي» رواه البخاري.
ولأنه لا يمكن التحرز منه فسقط، وتصلي بطهارتها ما شاءت من الفرائض والنوافل قبل الفريضة وبعدها، حتى يخرج الوقت فتبطل بها طهارتها، وتستأنف الطهارة لصلاة أخرى، لما روي في حديث «فاطمة أن النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قال لها: "اغتسلي ثم توضئي لكل صلاة وصلي» قال الترمذي: هذا حديث صحيح، ولأنها طهارة عذر وضرورة، فتقيدت بالوقت كالتيمم، وإن توضأت قبل الوقت، بطل وضوءها بدخوله، كما في التيمم، وإن انقطع دمها بعد الوضوء، وكانت عادتها انقطاعه وقتاً لا يتسع للصلاة لم يؤثر انقطاعه؛ لأنه لا يمكن الصلاة فيه، وإن لم تكن به عادة أو كانت عادتها انقطاعه مدة طويلة، لزمها استئناف الوضوء، وإن كانت في الصلاة، بطلت؛ لأن العفو عن الدم، لضرورة جريانه فيزول بزواله، وحكم من به سلس البول أو المذي أو الريح أو الجرح الذي لا يرقأ دمه حكمها في ذلك إلا أن ما
لا يمكن عصبه يصلي بحاله، فقد صلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وجرحه يثعب دماً.
فصل
قال أصحابنا: ولا توطأ مستحاضة لغير ضرورة؛ لأنه أذى في الفرج، أشبه دم الحيض، فإن الله تعالى قال: {هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] فعلله بكونه أذى، وإن خاف على نفسه العنت، أبيح الوطء؛ لأنه يتطاول، فيشق التحرز منه، وحكمه أخف، لعدم ثبوت أحكام الحيض فيه، وحكى أبو الخطاب فيه عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روايتان: إحداهما: كما ذكرنا.
والثانية: يحل مطلقاً لعموم النص في حل الزوجات، وامتناع قياس المستحاضة على الحائض، لمخالفتها لها في أكثر أحكامها، ولأن وطء الحائض ربما يتعدى ضرره إلى الولد، فإنه قد قيل: إنه يكون مجذوماً بخلاف دم المستحاضة.
فصل
ويستحب لها الغسل لكل صلاة؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - روت: «أن أم حبيبة استحيضت، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمرها أن تغتسل لكل صلاة.» [رواه أبو داود] ، وإن جمعت بين الصلاتين بغسل واحد، فهو حسن، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لحمنة: «فإن قويت أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر، ثم تغتسلين حتى تطهرين، وتصلين الظهر والعصر جميعاً، ثم تؤخرين المغرب، وتعجلين العشاء، ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين، وتغتسلين مع الصبح، كذلك فافعلي إن قويت على
ذلك هو أعجب الأمرين إلي» وهو حديث صحيح، وإن توضأت لوقت كل صلاة أجزأها لما ذكرنا سابقاً.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب النفاس][باب أحكام النجاسات]
[باب النفاس]
وهو خروج الدم، بسبب الولادة، وحكمه حكم الحيض فيما يحرم ويجب ويسقط به؛ لأنه دم حيض مجتمع، احتبس لأجل الحمل، فإن خرج قبل الولادة بيومين، أو ثلاثة، فهو نفاس؛ لأن سبب خروجه الولادة، وإن خرج قبل ذلك، فهو دم فساد؛ لأنه ليس بنفاس، لبعده من الولادة، ولا حيض؛ لأن الحامل لا تحيض.
وأكثر النفاس أربعون يوماً لما روت أم سلمة قالت: «كانت النفساء على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقعد بعد نفاسها أربعين يوماً أو أربعين ليلة» رواه أبو داود.
وليس لأقله حد فأي وقت رأت الطهر فهي طاهر تغتسل وتصلي، ويستحب لزوجها الإمساك عن وطئها حتى تتم الأربعين، فإن عاودها الدم في مدة النفاس، فهو نفاس؛ لأنه في مدته أشبه الأول، وعنه: أنه مشكوك فيه، تصوم وتصلي وتقضي الصوم احتياطاً؛ لأن الصوم واجب بيقين، فلا يجوز تركه لعارض مشكوك فيه، ويجب قضاؤه لأنه ثابت بيقين فلا يسقط بفعل مشكوك فيه، ويفارق الحيض المشكوك فيه، لكثرته وتكرره ومشقة إيجاب القضاء فيه، وما زاد على الأربعين، فليس بنفاس، وحكمها فيه حكم غير النفساء، إذا رأت الدم وصادف عادة الحيض فهو حيض، وإلا فلا.
فصل
وإذا ولدت توأمين، فالنفاس من الأول؛ لأنه دم خرج عقيب الولادة، فكان نفاساً، كما لو كان منفرداً، وآخره منه، فإذا أكملت أربعين من ولادة الأول انقضت مدتها؛ لأنه نفاس واحد، لحمل واحد، فلم تزد العادة منه على أربعين.
وعنه: أنه من الأول، ثم تستأنفه في الثاني؛ لأن كل واحد منهما سبب للمدة، فإذا اجتمعا اعتبر أولها من الأول، وآخرها من الثاني، كالوطء في إيجاب العدة.
[باب أحكام النجاسات]
بول الآدمي نجس؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الذي يعذب في قبره: «إنه كان لا يستتر
من بوله» متفق عليه، والغائط مثله.
والودي: ماء أبيض يخرج عقيب البول، حكمه حكم البول لأنه في معناه.
والمذي نجس؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المذي: «اغسل ذكرك» ولأنه خارج من الذكر لا يخلق منه الولد، أشبه البول، وعنه: أنه كالمني: لأنه خارج بسبب الشهوة، أشبه المني.
وبول ما لا يؤكل لحمه، ورجيعه نجس؛ لأنه بول حيوان غير مأكول، أشبه بول الآدمي إلا بول ما لا نفس له سائلة، فإن ميتته طاهرة فأشبه الجراد.
وبول ما يؤكل لحمه ورجيعه طاهر، وعنه أنه كالدم؛ لأنه رجيع، والمذهب الأول؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلوا في مرابض الغنم» حديث صحيح، وكان يصلي فيها قبل بناء
مسجده، وقال للعرنيين: «انطلقوا إلى إبل الصدقة فاشربوا من ألبانها وأبوالها» متفق عليه.
ومني الآدمي طاهر؛ لأن عائشة قالت: «كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيصلي فيه» ، متفق عليه، ولأنه بدء خلق آدمي، فكان طاهراً كالطين، وعنه: أنه نجس، يجزئ فرك يابسه، ويعفى عن يسيره لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، «أنها كانت تغسل المني من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» هذا حديث صحيح؛ لأنه خارج من مخرج البول أشبه المذي.
وفي رطوبة فرج المرأة روايتان: إحداهما: أنها نجس؛ لأنها بلل من الفرج، لا يخلق منه الولد، أشبه المذي.
والثانية: أنها طاهرة؛ لأن عائشة كانت تفرك المني من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو من جماع؛ لأن الأنبياء لا يحتلمون، وهو يصيب رطوبة الفرج.
والقيء نجس؛ لأنه طعام استحال في الجوف إلى الفساد، أشبه الغائط.
وفي كل حيوان غير الآدمي ومنيه، في حكم بوله في الطهارة والنجاسة؛ لأنه في معناه.
والنخامة طاهرة، سواء خرجت من رأس، أو صدر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره أو تحت قدمه، فإن لم يجد، فليقل هكذا ووصف القاسم، وتفل في ثوبه ومسح بعضه على بعض» رواه مسلم.
وذكر أبو الخطاب: أن البلغم نجس، قياساً على القيء، والأول أصح، والبصاق والمخاط والعرق، وسائر رطوبات بدن الآدمي طاهرة؛ لأنه من جسم طاهر، وكذلك هذه الفضلات، من كل حيوان طاهر.
فصل
والدم نجس؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأسماء في الدم: «اغسليه بالماء» متفق عليه، ولأنه نجس لعينه، بنص القرآن، أشبه الميتة، إلا دم السمك، فإنه طاهر؛ لأن ميتته طاهرة مباحة.
وفي دم ما لا نفس له سائلة، كالذباب والبق والبراغيث والقمل، روايتان: إحداهما: نجاسته؛ لأنه دم أشبه المسفوح.
والثانية: طهارته؛ لأنه دم حيوان، لا ينجس بالموت، أشبه دم السمك، وإنما حرم الدم المسفوح.
والعلقة نجسة؛ لأنها دم خارج من الفرج، أشبه الحيض، وعنه: إنها طاهرة؛ لأنها بدء خلق آدمي، أشبهت المني.
والقيح نجس؛ لأنه دم استحال إلى نتن وفساد، والصديد مثله، إلا أن أحمد قال: هما أخف حكماً من الدم، لوقوع الخلاف في نجاستهما، وعدم النص فيهما.
وما بقي من الدم في اللحم معفو عنه، ولو علت حمرة الدم في القدر، لم يكن نجساً؛ لأنه لا يمكن التحرز منه.
فصل
والخمر نجس؛ لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] ولأنه يحرم تناوله من غير ضرر، فكان نجساً كالدم، والنبيذ مثله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» رواه مسلم، ولأنه شراب فيه شدة مطربة، أشبه الخمر، فإن انقلبت الخمرة خلاً بنفسها طهرت؛ لأن نجاستها لشدتها المسكرة، وقد
زال ذلك، من غير نجاسة خلفتها فوجب أن تطهر، كالماء الذي تنجس بالتغير [إذا زال تغيره] .
وإن خللت لم تطهر لما روي: «أن أبا طلحة، سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عن أيتام ورثوا خمراً فقال: أهرقها، قال: أفلا أخللها؟ قال: لا» ، رواه أحمد في مسنده والترمذي، ولو جاز التخليل، لم ينه عنه، ويتخرج أن تطهر لزوال علة التحريم، كما لو تخللت، ولا يطهر غيرها من النجاسات بالاستحالة، فلو أحرقت فصارت رماداً أو تركت في ملاحة، فصارت ملحاً لم تطهر؛ لأن نجاستها لعينها بخلاف الخمر، فإن نجاستها لمعنى زال بالانقلاب.
ودخان النجاسة وبخارها نجس، فإن اجتمع منه شيء، أو لاقى جسماً صقيلاً، فصار ماءً، فهو نجس.
وما أصاب الإنسان من دخان النجاسة، وغبارها، فلم يجتمع منه شيء، ولا ظهرت صفته فهو معفو عنه، لعدم إمكان التحرز منه.
فصل
ولا يختلف المذهب، في نجاسة الكلب والخنزير، وما تولد منهما، إذا
أصابت غير الأرض أنه يجب غسلها سبعاً إحداهن بالتراب، سواء كان من ولوغه أو غيره، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن بالتراب» متفق عليه، ولمسلم: «أولاهن بالتراب» .
وعنه: «يغسله سبعاً، وواحدة بالتراب» ، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ولغ الكلب في الإناء، فاغسلوه سبعاً وعفروه الثامنة بالتراب» رواه مسلم والأولى أصح؛ لأنه يحتمل أنه عد التراب ثامنة، لكونه مع الماء، من غير جنسه، والأولى جعل التراب، في الأولى للخبر، وليكون الماء بعده، فينظفه، وحيث جعله جاز، لقوله في اللفظ الآخر: «وعفروه الثامنة بالتراب» فيدل على أن عين الغسلة غير مرادة.
وإن جعل مكان التراب جامداً آخر كالأشنان، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يجزئه؛ لأن نصه على التراب تنبيه على ما هو أبلغ منه في التنظيف.
والثاني: لا يجزئه؛ لأنه تطهير ورد الشرع فيه بالتراب، فلم يقم غيره مقامه كالتيمم.
والثالث: يجزئه إن عدم التراب، أو كان مفسداً للمغسول للحاجة، وإلا فلا.
وإن جعل مكانه غسلة ثامنة، لم يجزه؛ لأنه أمر بالتراب معونة للماء، في قلع النجاسة، أو للتعبد، ولا يحصل بالماء وحده، وقد ذكر فيه الأوجه الثلاثة، وإن ولغ في الإناء كلاب، أو وقعت فيه نجاسة أخرى، لم تغير حكمه؛ لأن الغسل لا يزداد بتكرار النجاسة، كما لو ولغ الكلب فيه مرات.
وإن أصاب الثوب من ماء الغسلات، ففيه وجهان: أحدهما: يغسل سبعاً إحداهن بالتراب؛ لأنها نجاسة كلب.
والثاني: حكمه حكم المحل الذي انفصل عنه في الغسل بالتراب وفي عدد الغسلات؛ لأن المنفصل كالبلل الباقي، وهو يطهر بباقي العدد كذلك هذا.
فصل
والنجاسات كلها على الأرض، يطهرها أن يغمرها الماء، فيذهب عينها ولونها؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صبوا على بول الأعرابي ذنوباً من ماء» متفق عليه، ولو كانت أرض البئر نجسة فنبع عليها الماء طهرها.
ولا تطهر الأرض النجسة بشمس، ولا ريح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أمر بغسل بول الأعرابي، ولأنه محل نجس، أشبه الثوب.
وإن طبخ اللبن المخلوط بالزبل النجس، لم يطهر، لكن ما يظهر منه يحترق فيذهب عينه، ويبقى أثره، فإذا غسل طهر ظاهره، وبقي باطنه نجساً لو حمله مصل، لم تصح صلاته، وإن ظهر من باطنه شيء فهو نجس.
فصل
إذا أصاب أسفل الخف، أو الحذاء نجاسة، ففيه ثلاث روايات: إحداهن: يجزئ دلكه بالأرض، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه، فطهورهما التراب» وفي لفظ: «إذا وطئ بنعله» ، رواه أبو داود؛ لأنه محل تتكرر فيه النجاسة، فأجزأ فيه المسح، كمحل الاستنجاء.
والثانية: يجب غسله؛ لأنه ملبوس فلم يجز فيه المسح كظاهره.
والثالثة: يجب غسله من البول والعذرة لفحشهما، ويجزئ دلكه من غيرهما، فإن قلنا: يجزئ المسح، ففيه وجهان: أحدهما: يطهر اختاره ابن حامد، للخبر.
والثاني: لا يطهر؛ لأنه محل نجس فلم يطهره المسح كغيره، وفي محل الاستنجاء بعد الاستجمار وجهان أيضاً: أحدهما: يطهر، قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المستجمر: يعرق في سراويله: لا بأس به، «وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الروث والرمة: لا يطهران» دليل على أن غيرهما يطهر.
والثاني: لا يطهر، لما ذكرنا من القياس.
فصل
ويجزئ في بول الغلام الذي لم يطعم الطعام النضح، وهو أن يغمره بالماء، وإن لم يزل عنه لما «روت أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير، لم يأكل الطعام، إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأجلسه في حجره، فبال على ثوبه
فدعا بماء فنضحه ولم يغسله» متفق عليه.
ولا يجزئ في بول الجارية إلا الغسل، لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بول الغلام ينضح، وبول الجارية يغسل» رواه أحمد في
المسند " فإن أكلا الطعام وتغذيا به غسل بولهما؛ لأن الرخصة وردت فيمن لم يطعم، فبقي من عداه على الأصل.
وفي المذي روايتان: إحداهما: يجزئ نضحه، لما «روى سهل بن حنيف، قال: كنت ألقى من المذي شدة وعناء، فقلت: يا رسول الله، فكيف بما أصاب ثوبي منه؟ قال: يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء، فتنضح به حيث ترى أنه أصاب منه» ، قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
والثانية: يجب غسله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بغسل الذكر منه، ولأنه نجاسة من كبير، أشبه البول.
فصل
وما عدا المذكور من النجاسات، في سائر المحال، فيه روايتان: إحداهما: يجزئ مكاثرتها بالماء حتى تذهب عين النجاسة ولونها من غير عدد، قياساً على نجاسة الأرض، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأسماء في الدم: «اغسليه بالماء» ولم يذكر عدداً، «وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كان غسل الثوب من النجاسة سبع مرات، فلم يزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل، حتى جعل الغسل من البول مرة» رواه أبو داود.
والثانية: يجب فيها العدد، وفي قدره روايتان: إحداهما: سبع؛ لأنها نجاسة في غير الأرض، فأشبهت نجاسة الكلب، وفي اشتراط التراب وجهان.
والثانية: ثلاث؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء، حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده» أمر بالثلاث، وعلل بوهم النجاسة، ولا يرفع وهمها إلا ما يرفع حقيقتها.
فإن قلنا بالعدد، لم يحتسب برفع الثوب من الماء غسلة، حتى يعصره، وعصر كل شيء بحسبه، فإن كان بساطاً ثقيلاً أو زلياً فعصره بتقليبه ودقه، حتى يذهب أكثر ما فيه من الماء.
فصل
وإذا غسل النجاسة، فلم يذهب لونها أو ريحها لمشقة إزالته، عفي عنه، لما «روي
أن خولة بنت يسار قالت: يا رسول الله، أرأيت لو بقي أثره، تعني: الدم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الماء يكفيك، ولا يضرك أثره» رواه أبو داود بمعناه.
فصل
ويعفى عن يسير الدم في غير المائعات؛ لأنه لا يمكن التحرز منه، فإن الغالب أن الإنسان، لا يخلو من حبة وبثرة، فألحق نادره بغالبه، وقد روي عن جماعة من الصحابة الصلاة مع الدم، ولم يعرف لهم مخالف، وحد اليسير ما لا ينقض مثله الوضوء، وقد ذكر في موضعه.
والقيح والصديد كالدم لأنه مستحيل منه، وفي المني إذا حكمنا بنجاسته روايتان: إحداهما: أنه كالدم؛ لأنه مستحيل منه.
والثانية: لا يعفى عنه؛ لأنه يمكن التحرز منه.
وفي المذي، وريق البغل والحمار وعرقهما، وسباع البهائم وجوارح الطير وبول الخفاش، روايتان: إحداهما: يعفى عن يسيره، لمشقة التحرز منه، فإن المذي يكثر من الشباب، ولا يكاد يسلم مقتني هذه الحيوانات من بللها، فعفي عن يسيرها كالدم.
والثانية: لا يعفى عنها، لعدم ورود الشرع فيها.
وفي النبيذ روايتان: إحداهما: يعفى عن يسيره، لوقوع الخلاف فيه.
والثانية: لا يعفى عنه؛ لأن التحرز عنه ممكن.
وما عدا هذا من النجاسة، لا يعفى عن شيء منه، ما أدركه الطرف منها، وما لم يدركه؛ لأنها نجاسة، لا يشق التحرز منها، فلم يعف عنها كالكثير.
وهو خروج الدم، بسبب الولادة، وحكمه حكم الحيض فيما يحرم ويجب ويسقط به؛ لأنه دم حيض مجتمع، احتبس لأجل الحمل، فإن خرج قبل الولادة بيومين، أو ثلاثة، فهو نفاس؛ لأن سبب خروجه الولادة، وإن خرج قبل ذلك، فهو دم فساد؛ لأنه ليس بنفاس، لبعده من الولادة، ولا حيض؛ لأن الحامل لا تحيض.
وأكثر النفاس أربعون يوماً لما روت أم سلمة قالت: «كانت النفساء على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقعد بعد نفاسها أربعين يوماً أو أربعين ليلة» رواه أبو داود.
وليس لأقله حد فأي وقت رأت الطهر فهي طاهر تغتسل وتصلي، ويستحب لزوجها الإمساك عن وطئها حتى تتم الأربعين، فإن عاودها الدم في مدة النفاس، فهو نفاس؛ لأنه في مدته أشبه الأول، وعنه: أنه مشكوك فيه، تصوم وتصلي وتقضي الصوم احتياطاً؛ لأن الصوم واجب بيقين، فلا يجوز تركه لعارض مشكوك فيه، ويجب قضاؤه لأنه ثابت بيقين فلا يسقط بفعل مشكوك فيه، ويفارق الحيض المشكوك فيه، لكثرته وتكرره ومشقة إيجاب القضاء فيه، وما زاد على الأربعين، فليس بنفاس، وحكمها فيه حكم غير النفساء، إذا رأت الدم وصادف عادة الحيض فهو حيض، وإلا فلا.
فصل
وإذا ولدت توأمين، فالنفاس من الأول؛ لأنه دم خرج عقيب الولادة، فكان نفاساً، كما لو كان منفرداً، وآخره منه، فإذا أكملت أربعين من ولادة الأول انقضت مدتها؛ لأنه نفاس واحد، لحمل واحد، فلم تزد العادة منه على أربعين.
وعنه: أنه من الأول، ثم تستأنفه في الثاني؛ لأن كل واحد منهما سبب للمدة، فإذا اجتمعا اعتبر أولها من الأول، وآخرها من الثاني، كالوطء في إيجاب العدة.
[باب أحكام النجاسات]
بول الآدمي نجس؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الذي يعذب في قبره: «إنه كان لا يستتر
من بوله» متفق عليه، والغائط مثله.
والودي: ماء أبيض يخرج عقيب البول، حكمه حكم البول لأنه في معناه.
والمذي نجس؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المذي: «اغسل ذكرك» ولأنه خارج من الذكر لا يخلق منه الولد، أشبه البول، وعنه: أنه كالمني: لأنه خارج بسبب الشهوة، أشبه المني.
وبول ما لا يؤكل لحمه، ورجيعه نجس؛ لأنه بول حيوان غير مأكول، أشبه بول الآدمي إلا بول ما لا نفس له سائلة، فإن ميتته طاهرة فأشبه الجراد.
وبول ما يؤكل لحمه ورجيعه طاهر، وعنه أنه كالدم؛ لأنه رجيع، والمذهب الأول؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلوا في مرابض الغنم» حديث صحيح، وكان يصلي فيها قبل بناء
مسجده، وقال للعرنيين: «انطلقوا إلى إبل الصدقة فاشربوا من ألبانها وأبوالها» متفق عليه.
ومني الآدمي طاهر؛ لأن عائشة قالت: «كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيصلي فيه» ، متفق عليه، ولأنه بدء خلق آدمي، فكان طاهراً كالطين، وعنه: أنه نجس، يجزئ فرك يابسه، ويعفى عن يسيره لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، «أنها كانت تغسل المني من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» هذا حديث صحيح؛ لأنه خارج من مخرج البول أشبه المذي.
وفي رطوبة فرج المرأة روايتان: إحداهما: أنها نجس؛ لأنها بلل من الفرج، لا يخلق منه الولد، أشبه المذي.
والثانية: أنها طاهرة؛ لأن عائشة كانت تفرك المني من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو من جماع؛ لأن الأنبياء لا يحتلمون، وهو يصيب رطوبة الفرج.
والقيء نجس؛ لأنه طعام استحال في الجوف إلى الفساد، أشبه الغائط.
وفي كل حيوان غير الآدمي ومنيه، في حكم بوله في الطهارة والنجاسة؛ لأنه في معناه.
والنخامة طاهرة، سواء خرجت من رأس، أو صدر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره أو تحت قدمه، فإن لم يجد، فليقل هكذا ووصف القاسم، وتفل في ثوبه ومسح بعضه على بعض» رواه مسلم.
وذكر أبو الخطاب: أن البلغم نجس، قياساً على القيء، والأول أصح، والبصاق والمخاط والعرق، وسائر رطوبات بدن الآدمي طاهرة؛ لأنه من جسم طاهر، وكذلك هذه الفضلات، من كل حيوان طاهر.
فصل
والدم نجس؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأسماء في الدم: «اغسليه بالماء» متفق عليه، ولأنه نجس لعينه، بنص القرآن، أشبه الميتة، إلا دم السمك، فإنه طاهر؛ لأن ميتته طاهرة مباحة.
وفي دم ما لا نفس له سائلة، كالذباب والبق والبراغيث والقمل، روايتان: إحداهما: نجاسته؛ لأنه دم أشبه المسفوح.
والثانية: طهارته؛ لأنه دم حيوان، لا ينجس بالموت، أشبه دم السمك، وإنما حرم الدم المسفوح.
والعلقة نجسة؛ لأنها دم خارج من الفرج، أشبه الحيض، وعنه: إنها طاهرة؛ لأنها بدء خلق آدمي، أشبهت المني.
والقيح نجس؛ لأنه دم استحال إلى نتن وفساد، والصديد مثله، إلا أن أحمد قال: هما أخف حكماً من الدم، لوقوع الخلاف في نجاستهما، وعدم النص فيهما.
وما بقي من الدم في اللحم معفو عنه، ولو علت حمرة الدم في القدر، لم يكن نجساً؛ لأنه لا يمكن التحرز منه.
فصل
والخمر نجس؛ لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] ولأنه يحرم تناوله من غير ضرر، فكان نجساً كالدم، والنبيذ مثله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» رواه مسلم، ولأنه شراب فيه شدة مطربة، أشبه الخمر، فإن انقلبت الخمرة خلاً بنفسها طهرت؛ لأن نجاستها لشدتها المسكرة، وقد
زال ذلك، من غير نجاسة خلفتها فوجب أن تطهر، كالماء الذي تنجس بالتغير [إذا زال تغيره] .
وإن خللت لم تطهر لما روي: «أن أبا طلحة، سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عن أيتام ورثوا خمراً فقال: أهرقها، قال: أفلا أخللها؟ قال: لا» ، رواه أحمد في مسنده والترمذي، ولو جاز التخليل، لم ينه عنه، ويتخرج أن تطهر لزوال علة التحريم، كما لو تخللت، ولا يطهر غيرها من النجاسات بالاستحالة، فلو أحرقت فصارت رماداً أو تركت في ملاحة، فصارت ملحاً لم تطهر؛ لأن نجاستها لعينها بخلاف الخمر، فإن نجاستها لمعنى زال بالانقلاب.
ودخان النجاسة وبخارها نجس، فإن اجتمع منه شيء، أو لاقى جسماً صقيلاً، فصار ماءً، فهو نجس.
وما أصاب الإنسان من دخان النجاسة، وغبارها، فلم يجتمع منه شيء، ولا ظهرت صفته فهو معفو عنه، لعدم إمكان التحرز منه.
فصل
ولا يختلف المذهب، في نجاسة الكلب والخنزير، وما تولد منهما، إذا
أصابت غير الأرض أنه يجب غسلها سبعاً إحداهن بالتراب، سواء كان من ولوغه أو غيره، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن بالتراب» متفق عليه، ولمسلم: «أولاهن بالتراب» .
وعنه: «يغسله سبعاً، وواحدة بالتراب» ، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ولغ الكلب في الإناء، فاغسلوه سبعاً وعفروه الثامنة بالتراب» رواه مسلم والأولى أصح؛ لأنه يحتمل أنه عد التراب ثامنة، لكونه مع الماء، من غير جنسه، والأولى جعل التراب، في الأولى للخبر، وليكون الماء بعده، فينظفه، وحيث جعله جاز، لقوله في اللفظ الآخر: «وعفروه الثامنة بالتراب» فيدل على أن عين الغسلة غير مرادة.
وإن جعل مكان التراب جامداً آخر كالأشنان، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يجزئه؛ لأن نصه على التراب تنبيه على ما هو أبلغ منه في التنظيف.
والثاني: لا يجزئه؛ لأنه تطهير ورد الشرع فيه بالتراب، فلم يقم غيره مقامه كالتيمم.
والثالث: يجزئه إن عدم التراب، أو كان مفسداً للمغسول للحاجة، وإلا فلا.
وإن جعل مكانه غسلة ثامنة، لم يجزه؛ لأنه أمر بالتراب معونة للماء، في قلع النجاسة، أو للتعبد، ولا يحصل بالماء وحده، وقد ذكر فيه الأوجه الثلاثة، وإن ولغ في الإناء كلاب، أو وقعت فيه نجاسة أخرى، لم تغير حكمه؛ لأن الغسل لا يزداد بتكرار النجاسة، كما لو ولغ الكلب فيه مرات.
وإن أصاب الثوب من ماء الغسلات، ففيه وجهان: أحدهما: يغسل سبعاً إحداهن بالتراب؛ لأنها نجاسة كلب.
والثاني: حكمه حكم المحل الذي انفصل عنه في الغسل بالتراب وفي عدد الغسلات؛ لأن المنفصل كالبلل الباقي، وهو يطهر بباقي العدد كذلك هذا.
فصل
والنجاسات كلها على الأرض، يطهرها أن يغمرها الماء، فيذهب عينها ولونها؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صبوا على بول الأعرابي ذنوباً من ماء» متفق عليه، ولو كانت أرض البئر نجسة فنبع عليها الماء طهرها.
ولا تطهر الأرض النجسة بشمس، ولا ريح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أمر بغسل بول الأعرابي، ولأنه محل نجس، أشبه الثوب.
وإن طبخ اللبن المخلوط بالزبل النجس، لم يطهر، لكن ما يظهر منه يحترق فيذهب عينه، ويبقى أثره، فإذا غسل طهر ظاهره، وبقي باطنه نجساً لو حمله مصل، لم تصح صلاته، وإن ظهر من باطنه شيء فهو نجس.
فصل
إذا أصاب أسفل الخف، أو الحذاء نجاسة، ففيه ثلاث روايات: إحداهن: يجزئ دلكه بالأرض، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه، فطهورهما التراب» وفي لفظ: «إذا وطئ بنعله» ، رواه أبو داود؛ لأنه محل تتكرر فيه النجاسة، فأجزأ فيه المسح، كمحل الاستنجاء.
والثانية: يجب غسله؛ لأنه ملبوس فلم يجز فيه المسح كظاهره.
والثالثة: يجب غسله من البول والعذرة لفحشهما، ويجزئ دلكه من غيرهما، فإن قلنا: يجزئ المسح، ففيه وجهان: أحدهما: يطهر اختاره ابن حامد، للخبر.
والثاني: لا يطهر؛ لأنه محل نجس فلم يطهره المسح كغيره، وفي محل الاستنجاء بعد الاستجمار وجهان أيضاً: أحدهما: يطهر، قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المستجمر: يعرق في سراويله: لا بأس به، «وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الروث والرمة: لا يطهران» دليل على أن غيرهما يطهر.
والثاني: لا يطهر، لما ذكرنا من القياس.
فصل
ويجزئ في بول الغلام الذي لم يطعم الطعام النضح، وهو أن يغمره بالماء، وإن لم يزل عنه لما «روت أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير، لم يأكل الطعام، إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأجلسه في حجره، فبال على ثوبه
فدعا بماء فنضحه ولم يغسله» متفق عليه.
ولا يجزئ في بول الجارية إلا الغسل، لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بول الغلام ينضح، وبول الجارية يغسل» رواه أحمد في
المسند " فإن أكلا الطعام وتغذيا به غسل بولهما؛ لأن الرخصة وردت فيمن لم يطعم، فبقي من عداه على الأصل.
وفي المذي روايتان: إحداهما: يجزئ نضحه، لما «روى سهل بن حنيف، قال: كنت ألقى من المذي شدة وعناء، فقلت: يا رسول الله، فكيف بما أصاب ثوبي منه؟ قال: يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء، فتنضح به حيث ترى أنه أصاب منه» ، قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
والثانية: يجب غسله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بغسل الذكر منه، ولأنه نجاسة من كبير، أشبه البول.
فصل
وما عدا المذكور من النجاسات، في سائر المحال، فيه روايتان: إحداهما: يجزئ مكاثرتها بالماء حتى تذهب عين النجاسة ولونها من غير عدد، قياساً على نجاسة الأرض، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأسماء في الدم: «اغسليه بالماء» ولم يذكر عدداً، «وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كان غسل الثوب من النجاسة سبع مرات، فلم يزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل، حتى جعل الغسل من البول مرة» رواه أبو داود.
والثانية: يجب فيها العدد، وفي قدره روايتان: إحداهما: سبع؛ لأنها نجاسة في غير الأرض، فأشبهت نجاسة الكلب، وفي اشتراط التراب وجهان.
والثانية: ثلاث؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء، حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده» أمر بالثلاث، وعلل بوهم النجاسة، ولا يرفع وهمها إلا ما يرفع حقيقتها.
فإن قلنا بالعدد، لم يحتسب برفع الثوب من الماء غسلة، حتى يعصره، وعصر كل شيء بحسبه، فإن كان بساطاً ثقيلاً أو زلياً فعصره بتقليبه ودقه، حتى يذهب أكثر ما فيه من الماء.
فصل
وإذا غسل النجاسة، فلم يذهب لونها أو ريحها لمشقة إزالته، عفي عنه، لما «روي
أن خولة بنت يسار قالت: يا رسول الله، أرأيت لو بقي أثره، تعني: الدم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الماء يكفيك، ولا يضرك أثره» رواه أبو داود بمعناه.
فصل
ويعفى عن يسير الدم في غير المائعات؛ لأنه لا يمكن التحرز منه، فإن الغالب أن الإنسان، لا يخلو من حبة وبثرة، فألحق نادره بغالبه، وقد روي عن جماعة من الصحابة الصلاة مع الدم، ولم يعرف لهم مخالف، وحد اليسير ما لا ينقض مثله الوضوء، وقد ذكر في موضعه.
والقيح والصديد كالدم لأنه مستحيل منه، وفي المني إذا حكمنا بنجاسته روايتان: إحداهما: أنه كالدم؛ لأنه مستحيل منه.
والثانية: لا يعفى عنه؛ لأنه يمكن التحرز منه.
وفي المذي، وريق البغل والحمار وعرقهما، وسباع البهائم وجوارح الطير وبول الخفاش، روايتان: إحداهما: يعفى عن يسيره، لمشقة التحرز منه، فإن المذي يكثر من الشباب، ولا يكاد يسلم مقتني هذه الحيوانات من بللها، فعفي عن يسيرها كالدم.
والثانية: لا يعفى عنها، لعدم ورود الشرع فيها.
وفي النبيذ روايتان: إحداهما: يعفى عن يسيره، لوقوع الخلاف فيه.
والثانية: لا يعفى عنه؛ لأن التحرز عنه ممكن.
وما عدا هذا من النجاسة، لا يعفى عن شيء منه، ما أدركه الطرف منها، وما لم يدركه؛ لأنها نجاسة، لا يشق التحرز منها، فلم يعف عنها كالكثير.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[كتاب الصلاة]
[كتاب الصلاة]
الصلوات المكتوبات خمس، لما «روى طلحة بن عبيد الله، أن أعرابياً قال: يا رسول الله، ماذا فرض الله علي من الصلاة؟ قال: خمس صلوات في اليوم والليلة قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع
شيئاً» متفق عليه، ولا تجب إلا على مسلم عاقل بالغ، فأما الكافر، فلا تجب عليه، أصلياً
كان أو مرتداً.
وخرج أبو إسحاق بن شاقلا رواية أخرى: أنها تجب على المرتد، ويؤمر بقضائها؛ لأنه اعتقد وجوبها، وأمكنه التسبب إلى أدائها، فأشبه المسلم.
والمذهب الأول؛ لقول الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ،
ولأنه قد أسلم كثير في عصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبعده، فلم يؤمروا بقضاء، ولأن في إيجاب القضاء تنفيراً له عن الإسلام، فعفي عنه.
ولا تجب على مجنون؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» حديث حسن، ولأن
مدته تتطاول، فيشق إيجاب القضاء عليه، فعفي عنه.
ولا تجب على الصبي حتى يبلغ، للحديث، ولأن الطفل لا يعقل، والمدة التي يكمل فيها عقله وبنيته تخفى وتختلف، فنصب الشرع عليه علامة ظاهرة، وهي البلوغ لكنه يؤمر بها لسبع، ويضرب عليها لعشر، ليتمرن ويعتادها فلا يتركها عند بلوغه، وتصح صلاته، ويستحب له فعلها، لما ذكرنا.
وعنه: أنها تجب عليه إذا بلغ عشراً، لكونه يعاقب على تركها، والواجب ما عوقب على تركه.
والأول المذهب، فإن بلغ في أثنائها أو بعدها في الوقت، لزمته إعادتها؛ لأنه صلاها نفلاً، فلم تجزه عما أدرك وقته من الفرض، كما لو نواها نفلاً.
وإن بلغ الصبي، أو أفاق المجنون، أو أسلم الكافر، أو طهرت الحائض قبل
غروب الشمس، لزمته الظهر والعصر، وإن كان ذلك قبل طلوع الفجر، لزمته المغرب والعشاء؛ لأن ذلك يروى عن عبد الرحمن بن عوف، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأن وقتهما وقت لكل واحدة منهما حال العذر، فأشبه ما [لو] أدرك جزءاً من وقت الأولى.
وإن بلغ في وقت الفجر لم يلزمه غيرها؛ لأن وقتها مختص بها.
وتجب الصلاة على المغمى عليه لمرض، أو شرب دواء، وعلى السكران؛ لأن عماراً أغمي عليه فقضى ما فاته، ولأن مدته لا تتطاول، ولا تثبت
الولاية عليه، فوجبت عليه كالنائم.
فصل
ومن وجبت عليه الصلاة لم يجز له تأخيرها عن وقتها إذا كان ذاكراً لها، قادراً على فعلها إلا المتشاغل بتحقيق شرطها، ومن أراد الجمع لعذر، فإن جحد وجوبها كفر؛ لأنه كذب الله تعالى في خبره.
وإن تركها متهاوناً بها معتقداً وجوبها وجب قتله؛ لقول الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] فدل على أنهم إذا لم يقيموا الصلاة يقتلون، ولأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أجمعوا على قتال مانعي الزكاة والصلاة آكد منها.
ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثة أيام، ويضيق عليه، ويدعى إلى فعل كل صلاة في وقتها، ويقال له: إن صليت وإلا قتلناك؛ لأنه قتل لترك واجب فيتقدمه الاستتابة، كقتل المرتد، فإن تاب، وإلا قتل بالسيف، وهل يقتل حداً أو لكفره؟ .
فيه روايتان: إحداهما: لكفره، وهو كالمتمرد في أحكامه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» رواه مسلم، ولأنها من دعائم الإسلام لا تدخلها نيابة بنفس، ولا مال، فيكفر تاركها كالشهادتين.
والثانية: يقتل حداً كالزاني المحصن، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة من لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد إن
شاء عذبه وإن شاء غفر له» من المسند، ولو كفر لم يدخله في المشيئة.
ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة» ، «ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله» متفق عليهما، ولأنها فعل واجب في الإسلام، فلم يكفر تاركها المعتقد لوجوبها كالحج
الصلوات المكتوبات خمس، لما «روى طلحة بن عبيد الله، أن أعرابياً قال: يا رسول الله، ماذا فرض الله علي من الصلاة؟ قال: خمس صلوات في اليوم والليلة قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع
شيئاً» متفق عليه، ولا تجب إلا على مسلم عاقل بالغ، فأما الكافر، فلا تجب عليه، أصلياً
كان أو مرتداً.
وخرج أبو إسحاق بن شاقلا رواية أخرى: أنها تجب على المرتد، ويؤمر بقضائها؛ لأنه اعتقد وجوبها، وأمكنه التسبب إلى أدائها، فأشبه المسلم.
والمذهب الأول؛ لقول الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ،
ولأنه قد أسلم كثير في عصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبعده، فلم يؤمروا بقضاء، ولأن في إيجاب القضاء تنفيراً له عن الإسلام، فعفي عنه.
ولا تجب على مجنون؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» حديث حسن، ولأن
مدته تتطاول، فيشق إيجاب القضاء عليه، فعفي عنه.
ولا تجب على الصبي حتى يبلغ، للحديث، ولأن الطفل لا يعقل، والمدة التي يكمل فيها عقله وبنيته تخفى وتختلف، فنصب الشرع عليه علامة ظاهرة، وهي البلوغ لكنه يؤمر بها لسبع، ويضرب عليها لعشر، ليتمرن ويعتادها فلا يتركها عند بلوغه، وتصح صلاته، ويستحب له فعلها، لما ذكرنا.
وعنه: أنها تجب عليه إذا بلغ عشراً، لكونه يعاقب على تركها، والواجب ما عوقب على تركه.
والأول المذهب، فإن بلغ في أثنائها أو بعدها في الوقت، لزمته إعادتها؛ لأنه صلاها نفلاً، فلم تجزه عما أدرك وقته من الفرض، كما لو نواها نفلاً.
وإن بلغ الصبي، أو أفاق المجنون، أو أسلم الكافر، أو طهرت الحائض قبل
غروب الشمس، لزمته الظهر والعصر، وإن كان ذلك قبل طلوع الفجر، لزمته المغرب والعشاء؛ لأن ذلك يروى عن عبد الرحمن بن عوف، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأن وقتهما وقت لكل واحدة منهما حال العذر، فأشبه ما [لو] أدرك جزءاً من وقت الأولى.
وإن بلغ في وقت الفجر لم يلزمه غيرها؛ لأن وقتها مختص بها.
وتجب الصلاة على المغمى عليه لمرض، أو شرب دواء، وعلى السكران؛ لأن عماراً أغمي عليه فقضى ما فاته، ولأن مدته لا تتطاول، ولا تثبت
الولاية عليه، فوجبت عليه كالنائم.
فصل
ومن وجبت عليه الصلاة لم يجز له تأخيرها عن وقتها إذا كان ذاكراً لها، قادراً على فعلها إلا المتشاغل بتحقيق شرطها، ومن أراد الجمع لعذر، فإن جحد وجوبها كفر؛ لأنه كذب الله تعالى في خبره.
وإن تركها متهاوناً بها معتقداً وجوبها وجب قتله؛ لقول الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] فدل على أنهم إذا لم يقيموا الصلاة يقتلون، ولأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أجمعوا على قتال مانعي الزكاة والصلاة آكد منها.
ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثة أيام، ويضيق عليه، ويدعى إلى فعل كل صلاة في وقتها، ويقال له: إن صليت وإلا قتلناك؛ لأنه قتل لترك واجب فيتقدمه الاستتابة، كقتل المرتد، فإن تاب، وإلا قتل بالسيف، وهل يقتل حداً أو لكفره؟ .
فيه روايتان: إحداهما: لكفره، وهو كالمتمرد في أحكامه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» رواه مسلم، ولأنها من دعائم الإسلام لا تدخلها نيابة بنفس، ولا مال، فيكفر تاركها كالشهادتين.
والثانية: يقتل حداً كالزاني المحصن، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة من لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد إن
شاء عذبه وإن شاء غفر له» من المسند، ولو كفر لم يدخله في المشيئة.
ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة» ، «ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله» متفق عليهما، ولأنها فعل واجب في الإسلام، فلم يكفر تاركها المعتقد لوجوبها كالحج
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب أوقات الصلوات]
[باب أوقات الصلوات]
الأولى هي الظهر، لما روى أبو برزة الأسلمي قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض
الشمس، يعني: تزول» في حديث طويل، متفق عليه، وأول وقتها إذا زالت الشمس، وآخره إذا كان ظل كل شيء مثله بعد القدر الذي زالت الشمس عليه، لما روى [ابن عباس] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمني جبريل عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر في المرة الأولى حين زالت الشمس، والفيء مثل الشراك، ثم صلى بي في المرة الأخيرة حين صار ظل كل شيء مثله، وقال: الوقت ما بين هذين» في حديث طويل، قال الترمذي: هو حديث حسن.
ويعرف زوال الشمس بطول الظل بعد
تناهي قصره، والأفضل تعجيلها، لحديث أبي برزة إلا في شدة الحر فإنه يستحب، الإبراد بها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أبردوا [بالظهر]
في شدة الحر، فإن شدة الحر من فيح جهنم» متفق عليه.
فصل
ثم العصر، وهي الوسطى لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً» متفق عليه، وأول وقتها إذا صار ظل كل شيء مثله، وآخره إذا صار ظل كل شيء مثليه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث جبريل: «وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم صلى بي المرة الآخرة حين صار ظل كل شيء مثليه»
وعنه: أن آخره ما لم تصفر الشمس، لما روى عبد الله بن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وقت العصر ما لم تصفر الشمس» رواه مسلم، ثم يذهب وقت الاختيار ويبقى وقت الجواز إلى غروب الشمس.
ومن أدرك منها جزءاً قبل الغروب، فقد أدركها، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أدرك سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته» متفق عليه، وتعجيلها أفضل بكل حال، لقول أبي برزة في حديثه: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يصلي العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية» ، متفق عليه.
فصل
ثم المغرب وهي الوتر وأول وقتها، إذا غابت الشمس، وآخره إذا غاب الشفق الأحمر، لما روى بريدة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بلالاً فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى المغرب في اليوم الثاني حين غاب الشفق، ثم قال: وقت وصلاتكم بين ما رأيتم» رواه مسلم، وفي حديث عبد الله بن عمرو أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وقت المغرب ما لم يغب الشفق» ويكره تأخيرها عن وقتها؛ لأن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلاها بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
اليومين في أول وقتها، وقال جابر: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي المغرب إذا وجبت الشمس» ، متفق عليه.
فصل
ثم العشاء وأول وقتها إذا غاب الشفق الأحمر، وآخره ثلث الليل، لما روى بريدة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى العشاء في اليوم الأول حين غاب الشفق، وصلاها في اليوم الثاني حين ذهب ثلث الليل» ، وحديث ابن عباس في صلاة جبريل مثله، وعن ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الشفق الحمرة، فإذا غاب الشفق، وجبت الصلاة» رواه الدارقطني.
وعنه: آخره نصف الليل، لما روى عبد الله بن عمرو: أن النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قال: «وقت العشاء إلى نصف الليل» رواه مسلم وأبو داود، والأفضل تأخيرها لقول أبي برزة: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستحب أن يؤخر العشاء» متفق عليه.
ويستحب أن يراعى حال المأمومين، لقول جابر: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العشاء أحياناً يقدمها وأحياناً يؤخرها إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطؤوا، أخر»
متفق عليه، ثم يذهب وقت الاختيار، ويبقى وقت الجواز إلى طلوع الفجر الثاني، على ما ذكرنا في وقت العصر.
فصل
ثم الفجر، وأول وقتها إذا طلع الفجر الثاني بغير خلاف، وهو البياض الذي يبدو من قبل المشرق معترضاً لا ظلمة بعده، وآخره إذا طلعت الشمس، لما روى بريدة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه أمر بلالاً فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما كان اليوم الثاني صلى الفجر، فأسفر بها، ثم قال: وقت صلاتكم ما بين ما رأيتم» ، وفي حديث ابن عباس في حديث جبريل مثله.
والأفضل تعجيلها، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الفجر، فيشهد
معه نساء من المؤمنات، ثم ينصرفن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس» .
متفق عليه.
وعنه: يراعي حال المأمومين، فإن أسفروا فالإسفار أفضل، لما ذكرنا في العشاء.
فصل:
وتجب الصلاة بأول الوقت، لأن الأمر بها يتعلق بأول وقتها، والأمر يقتضي الوجوب، ولأنه سبب الوجوب، فتثبت عقبيه، كسائر الأسباب، ويستقر الوجوب بذلك.
فلو جن بعد دخول جزء من وقت الصلاة، أو حاضت المرأة، لزمها القضاء، لأنه إدراك جزء تجب بها الصلاة، فاستقرت به، كآخر الوقت.
وهل تجب العصر بإدراك جزء من وقت الظهر؟ فيه وجهان:
أحدهما: تجب، لأنه أدرك جزءاً من وقت إحدى صلاتي الجمع، فلزمته الأخرى، كإدراك جزء من وقت العصر.
والثاني: لا تجب، لأنه لم يدرك شيئاً من وقتها، ولا وقت تبعها، فأشبه من لم يدرك شيئاً بخلاف العصر، فإنها تفعل تبعاً للظهر، فمدرك وقتها مدرك لجزء من وقت تبع الظهر، وهكذا القول في المغرب والعشاء.
ومن أدرك ركعة من الصلاة قبل خروج الوقت، فهو مدرك لها لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» وفي لفظ: «إذا أدرك أحدكم سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح، فليتم صلاته» متفق عليه.
وفي مدرك أقل من ركعة وجهان:
أحدهما: يكون مدركاً لها لأنه إدراك جزء من الصلاة، فاستوى فيه الركعة وما دونها، كإدراك الجماعة.
والثاني: لا يكون مدركاً لها، لتخصيصه الإدراك بركعة، وقياساً على إدراك الجمعة.
فصل:
ويجوز تأخير الصلاة إلى آخر وقتها، لأن «جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
اليوم الثاني في آخر الوقت» .
فإن أخرها عن وقتها، لزمه قضاؤها على الفور، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» متفق عليه. فإن فاتته صلوات، لزمه قضاؤهن مرتبات، لأنها صلوات مؤقتات، فوجب الترتيب فيها، كالمجموعتين.
فإن خشي فوات الحاضرة، قدمها لئلا تصير فائتة، ولأن فعل الحاضرة آكد، بدليل أنه يقتل بتركها، بخلاف الفائتة.
وعنه: لا يسقط الترتيب، لما ذكرنا من القياس.
وإن نسي الفائتة حتى صلى الحاضرة سقط الترتيب، وقضى الفائتة وحدها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان» رواه النسائي. وإن ذكرها في الحاضرة، والوقت ضيق، فكذلك.
وإن كان متسعاً وهو مأموم، أتمها وقضى الفائتة، وأعاد الحاضرة، لما روى
ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام، فليصل مع الإمام، فإذا فرغ من صلاته، فليعد التي نسي ثم ليعد الصلاة التي صلاها مع الإمام» رواه أبو حفص العكبري وأبو يعلى الموصلي. وروي موقوفاً على ابن عمر.
وفي المنفرد روايتان:
إحداهما: أنه كذلك.
والأخرى: يقطعها.
وعنه في الإمام: أنه ينصرف، ويستأنف المأمومون، قال أبو بكر: لم ينقلها غير حرب.
وإن كثرت الفوائت، قضاها متتابعة ما لم تشغله عن معيشته، أو تضعفه في بدنه حتى يخشى فوات الحاضرة، فليصلها، ثم يعود إلى القضاء.
وعنه: إذا كثرت الفوائت فلم يمكنه فعلها قبل فوات الحاضرة، فله فعل الحاضرة في أول وقتها، لعدم الفائدة في التأخير، مع لزوم الإخلال في الترتيب.
فصل:
ومن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها، لزمه خمس صلوات، ينوي في كل واحدة أنها المكتوبة، ليحصل له تأدية فرضه بيقين.
وإن نسي ظهراً وعصراً من يومين لا يدري أيتهما الأولى، لزمه ثلاث صلوات ظهراً، ثم عصراً، ثم ظهراً، [أو] عصراً، ثم ظهراً ثم عصراً، ليحصل له ترتيبها بيقين.
فصل:
ومن شك في دخول الوقت، لم يصل حتى يتيقن، أو يغلب على ظنه ذلك، بدليل.
فإن أخبره ثقة عن علم، عمل به، وإن أخبره عن اجتهاد لم يقلده، واجتهد حتى يغلب على ظنه دخوله، فإن صلى فبان أنه وافق الوقت أو بعده، أجزأه، لأنه صلى بعد الوجوب.
وإن وافق قبله، لم يجزه، لأنه صلى قبل الوجوب.
الأولى هي الظهر، لما روى أبو برزة الأسلمي قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض
الشمس، يعني: تزول» في حديث طويل، متفق عليه، وأول وقتها إذا زالت الشمس، وآخره إذا كان ظل كل شيء مثله بعد القدر الذي زالت الشمس عليه، لما روى [ابن عباس] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمني جبريل عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر في المرة الأولى حين زالت الشمس، والفيء مثل الشراك، ثم صلى بي في المرة الأخيرة حين صار ظل كل شيء مثله، وقال: الوقت ما بين هذين» في حديث طويل، قال الترمذي: هو حديث حسن.
ويعرف زوال الشمس بطول الظل بعد
تناهي قصره، والأفضل تعجيلها، لحديث أبي برزة إلا في شدة الحر فإنه يستحب، الإبراد بها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أبردوا [بالظهر]
في شدة الحر، فإن شدة الحر من فيح جهنم» متفق عليه.
فصل
ثم العصر، وهي الوسطى لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً» متفق عليه، وأول وقتها إذا صار ظل كل شيء مثله، وآخره إذا صار ظل كل شيء مثليه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث جبريل: «وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم صلى بي المرة الآخرة حين صار ظل كل شيء مثليه»
وعنه: أن آخره ما لم تصفر الشمس، لما روى عبد الله بن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وقت العصر ما لم تصفر الشمس» رواه مسلم، ثم يذهب وقت الاختيار ويبقى وقت الجواز إلى غروب الشمس.
ومن أدرك منها جزءاً قبل الغروب، فقد أدركها، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أدرك سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته» متفق عليه، وتعجيلها أفضل بكل حال، لقول أبي برزة في حديثه: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يصلي العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية» ، متفق عليه.
فصل
ثم المغرب وهي الوتر وأول وقتها، إذا غابت الشمس، وآخره إذا غاب الشفق الأحمر، لما روى بريدة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بلالاً فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى المغرب في اليوم الثاني حين غاب الشفق، ثم قال: وقت وصلاتكم بين ما رأيتم» رواه مسلم، وفي حديث عبد الله بن عمرو أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وقت المغرب ما لم يغب الشفق» ويكره تأخيرها عن وقتها؛ لأن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلاها بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
اليومين في أول وقتها، وقال جابر: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي المغرب إذا وجبت الشمس» ، متفق عليه.
فصل
ثم العشاء وأول وقتها إذا غاب الشفق الأحمر، وآخره ثلث الليل، لما روى بريدة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى العشاء في اليوم الأول حين غاب الشفق، وصلاها في اليوم الثاني حين ذهب ثلث الليل» ، وحديث ابن عباس في صلاة جبريل مثله، وعن ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الشفق الحمرة، فإذا غاب الشفق، وجبت الصلاة» رواه الدارقطني.
وعنه: آخره نصف الليل، لما روى عبد الله بن عمرو: أن النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قال: «وقت العشاء إلى نصف الليل» رواه مسلم وأبو داود، والأفضل تأخيرها لقول أبي برزة: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستحب أن يؤخر العشاء» متفق عليه.
ويستحب أن يراعى حال المأمومين، لقول جابر: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العشاء أحياناً يقدمها وأحياناً يؤخرها إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطؤوا، أخر»
متفق عليه، ثم يذهب وقت الاختيار، ويبقى وقت الجواز إلى طلوع الفجر الثاني، على ما ذكرنا في وقت العصر.
فصل
ثم الفجر، وأول وقتها إذا طلع الفجر الثاني بغير خلاف، وهو البياض الذي يبدو من قبل المشرق معترضاً لا ظلمة بعده، وآخره إذا طلعت الشمس، لما روى بريدة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه أمر بلالاً فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما كان اليوم الثاني صلى الفجر، فأسفر بها، ثم قال: وقت صلاتكم ما بين ما رأيتم» ، وفي حديث ابن عباس في حديث جبريل مثله.
والأفضل تعجيلها، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الفجر، فيشهد
معه نساء من المؤمنات، ثم ينصرفن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس» .
متفق عليه.
وعنه: يراعي حال المأمومين، فإن أسفروا فالإسفار أفضل، لما ذكرنا في العشاء.
فصل:
وتجب الصلاة بأول الوقت، لأن الأمر بها يتعلق بأول وقتها، والأمر يقتضي الوجوب، ولأنه سبب الوجوب، فتثبت عقبيه، كسائر الأسباب، ويستقر الوجوب بذلك.
فلو جن بعد دخول جزء من وقت الصلاة، أو حاضت المرأة، لزمها القضاء، لأنه إدراك جزء تجب بها الصلاة، فاستقرت به، كآخر الوقت.
وهل تجب العصر بإدراك جزء من وقت الظهر؟ فيه وجهان:
أحدهما: تجب، لأنه أدرك جزءاً من وقت إحدى صلاتي الجمع، فلزمته الأخرى، كإدراك جزء من وقت العصر.
والثاني: لا تجب، لأنه لم يدرك شيئاً من وقتها، ولا وقت تبعها، فأشبه من لم يدرك شيئاً بخلاف العصر، فإنها تفعل تبعاً للظهر، فمدرك وقتها مدرك لجزء من وقت تبع الظهر، وهكذا القول في المغرب والعشاء.
ومن أدرك ركعة من الصلاة قبل خروج الوقت، فهو مدرك لها لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» وفي لفظ: «إذا أدرك أحدكم سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح، فليتم صلاته» متفق عليه.
وفي مدرك أقل من ركعة وجهان:
أحدهما: يكون مدركاً لها لأنه إدراك جزء من الصلاة، فاستوى فيه الركعة وما دونها، كإدراك الجماعة.
والثاني: لا يكون مدركاً لها، لتخصيصه الإدراك بركعة، وقياساً على إدراك الجمعة.
فصل:
ويجوز تأخير الصلاة إلى آخر وقتها، لأن «جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
اليوم الثاني في آخر الوقت» .
فإن أخرها عن وقتها، لزمه قضاؤها على الفور، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» متفق عليه. فإن فاتته صلوات، لزمه قضاؤهن مرتبات، لأنها صلوات مؤقتات، فوجب الترتيب فيها، كالمجموعتين.
فإن خشي فوات الحاضرة، قدمها لئلا تصير فائتة، ولأن فعل الحاضرة آكد، بدليل أنه يقتل بتركها، بخلاف الفائتة.
وعنه: لا يسقط الترتيب، لما ذكرنا من القياس.
وإن نسي الفائتة حتى صلى الحاضرة سقط الترتيب، وقضى الفائتة وحدها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان» رواه النسائي. وإن ذكرها في الحاضرة، والوقت ضيق، فكذلك.
وإن كان متسعاً وهو مأموم، أتمها وقضى الفائتة، وأعاد الحاضرة، لما روى
ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام، فليصل مع الإمام، فإذا فرغ من صلاته، فليعد التي نسي ثم ليعد الصلاة التي صلاها مع الإمام» رواه أبو حفص العكبري وأبو يعلى الموصلي. وروي موقوفاً على ابن عمر.
وفي المنفرد روايتان:
إحداهما: أنه كذلك.
والأخرى: يقطعها.
وعنه في الإمام: أنه ينصرف، ويستأنف المأمومون، قال أبو بكر: لم ينقلها غير حرب.
وإن كثرت الفوائت، قضاها متتابعة ما لم تشغله عن معيشته، أو تضعفه في بدنه حتى يخشى فوات الحاضرة، فليصلها، ثم يعود إلى القضاء.
وعنه: إذا كثرت الفوائت فلم يمكنه فعلها قبل فوات الحاضرة، فله فعل الحاضرة في أول وقتها، لعدم الفائدة في التأخير، مع لزوم الإخلال في الترتيب.
فصل:
ومن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها، لزمه خمس صلوات، ينوي في كل واحدة أنها المكتوبة، ليحصل له تأدية فرضه بيقين.
وإن نسي ظهراً وعصراً من يومين لا يدري أيتهما الأولى، لزمه ثلاث صلوات ظهراً، ثم عصراً، ثم ظهراً، [أو] عصراً، ثم ظهراً ثم عصراً، ليحصل له ترتيبها بيقين.
فصل:
ومن شك في دخول الوقت، لم يصل حتى يتيقن، أو يغلب على ظنه ذلك، بدليل.
فإن أخبره ثقة عن علم، عمل به، وإن أخبره عن اجتهاد لم يقلده، واجتهد حتى يغلب على ظنه دخوله، فإن صلى فبان أنه وافق الوقت أو بعده، أجزأه، لأنه صلى بعد الوجوب.
وإن وافق قبله، لم يجزه، لأنه صلى قبل الوجوب.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب الأذان]
[باب الأذان]
الأذان مشروع للصلوات الخمس دون غيرها، وهو من فروض الكفاية؛ لأنه من شعائر الإسلام الظاهرة، فلم يجز تعطيله، كالجهاد، فإن اتفق أهل بلد على تركه، قوتلوا عليه، وإن أذن واحد في المصر أسقط الفرض عن أهله، ولا يجزئ الأذان قبل الوقت، لأنه لا يحصل المقصود منه، إلا الفجر، فإنه يجزئ الأذان لها بعد نصف الليل؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن بلالاً يؤذن بليل؛ فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم»
متفق عليه. ولأنه وقت النوم فيحتاج إلى التأذين قبل الوقت، لينتبه النائم ويتأهب للصلاة، بخلاف سائر الصلوات.
ولا يؤذن قبل الوقت، إلا من يتخذه عادة لئلا يغر الناس. ويكون معه من يؤذن في الوقت، كفعل بلال وابن أم مكتوم.
ولا يجوز تقديم الإقامة على الوقت، لأنها تراد لافتتاح الصلاة ولا تفتتح قبل الوقت.
فصل:
ويذهب أبو عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أذان بلال الذي أريه عبد الله بن زيد، كما روي عنه أنه قال: «لما أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالناقوس ليضرب به للناس لجمع الصلاة، طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً، فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة، فال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت: بلى، فقال: تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله
أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، قال: ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال: تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. فلما أصبحت أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته بما رأيت، فقال: إنها رؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى طوتاً منك» رواه أبو داود. فهذه صفة الأذان والإقامة المستحب، لأن بلالاً كان يؤذن به حضراً وسفراً مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أن مات.
وإن رجع في الأذان، أو ثنى الإقامة، فلا بأس لأنه من الاختلاف المباح.
ويستحب أن يقول في أذان الصبح بعد حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم، مرتين، لما روى أبو محذورة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «إن كان في أذان الصبح، قلت: الصلاة خير من النوم، مرتين» رواه النسائي. ويكره التثويب في غيره، لما روى بلال قال: «أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أثوب في الفجر، ونهاني أن أثوب في العشاء» . رواه ابن ماجه.
ودخل ابن عمر مسجداً يصلي فيه، فسمع رجلاً يثوب في أذان الظهر، فخرج وقال: أخرجتني البدعة.
فصل:
ويسن الأذان للفائتة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاتته الصبح فقال: «يا بلال قم فأذن ثم صلى ركعتين، ثم أقام، ثم صلى الغداة» . متفق عليه.
وإن كثرت الفوائت، أذَّن وأقام للأولى، ثم أقام للتي بعدها، لما روى ابن
مسعود أن «المشركين شغلوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أربع صلوات حتى ذهب من الليل ما شاء الله، ثم أمر بلالاً، فأذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء» ، رواه الأثرم.
وإن جمع بين الصلاتين، فكذلك، لما روى جابر أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر والعصر بعرفة بأذان وإقامتين» . رواه مسلم.
وإن ترك الأذان للفائتة، أو المجموعتين في وقت الآخرة منهما، فلا بأس، لما روي أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى المغرب والعشاء بإقامة لكل صلاة من غير أذان» ، متفق عليه.
فصل:
ولا يصح الأذان إلا من مسلم عاقل، ولا يصح من كافر ولا طفل ولا مجنون، لأنهم من غير أهل العبادات. ولا يشرع الأذان للنساء، ولا الإقامة، ولا يصح منهن، لأنه يشرع فيه رفع الصوت، ولسن من أهل ذلك، ولا لخنثى مشكل، لأنه لا يعلم كونه رجلاً.
وفي أذان الفاسق والصبي العاقل وجهان:
أحدهما: يصح، لأنه مشروع لصلاتهما، وهما من أهل العبادات.
والثاني: لا يصح لأنه إعلام بالوقت، ولا يقبل فيه خبرهما. وفي الأذان الملحَّن وجهان:
أحدهما: يصح، لأنه أتى به مرتباً فصح كغيره.
والثاني: لا يصح، لما روى ابن عباس، قال: «كان لرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤذن يطرب، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الأذان سهل سمح فإن كان أذانك سهلاً سمحاً وإلا فلا تؤذن» رواه الدارقطني.
وفي أذان الجنب وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنه أحد الحدثين، فلم يمنع صحته، كالحدث الأصغر.
والثاني: لا يصح؛ لأنه ذكر مشروع للصلاة يتقدمها، أشبه الخطبة.
فصل:
ويستحب للمؤذن أن يكون أميناً لأنه مؤتمن على الأوقات. صيتاً، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الله بن زيد: ألقه على بلال فإنه أندى صوتاً منك» رواه أبو داود. ولأنه أبلغ في الإعلام المقصود بالأذان. وأن يكون عالماً بالأوقات، ليتمكن من الأذان في أوائلها. وأن يكون بصيراً، لأن الأعمى لا يعلم، إلا أن يكون
معه بصير يؤذن قبله، كبلال مع ابن أم مكتوم، فإن تشاح اثنان في الأذان، قدم أكملهما في هذه الخصال، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم بلالا على عبد الله بن زيد، لكونه أندى صوتاً، وقسنا عليه باقي الخصال. فإن استويا في ذلك، أقرع بينهما لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه
لاستهموا» متفق عليه. وتشاح الناس في الأذان يوم القادسية، فأقرع بينهم سعد.
وعنه: يقدم من يرضاه الجيران، لأن الأذان لإعلامهم، فكان لرضاهم أثر في التقديم.
ولا بأس أن يؤذن اثنان أحدهما بعد الآخر، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يؤذن له بلال وابن أم مكتوم، إذا نزل هذا طلع هذا» . ولا يسن أكثر من هذا إلا أن تدعو إليه حاجة فيجوز، لأن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اتخذ أربعة مؤذنين.
فصل:
يستحب أن يؤذن قائماً، «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبلال: قم فأذن» ولأنه أبلغ في الإسماع، فإن أذن قاعداً أو راكباً في السفر جاز، لأن الصلاة آكد منه، وهي تجوز كذلك. وأن يؤذن على موضع عال، لأنه أبلغ في الإعلام. وروي أن «بلالاً كان يؤذن على سطح امرأة، ويرفع صوته» ، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «قال للمؤذن: يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس» رواه أبو داود. ولا يجهد نفسه فوق طاقته؛ لئلا ينقطع صوته، ويؤذي نفسه. وإن أذن لفائتة أو لنفسه في مصر، لم يجهر لأنه لا يدعو أحداً وربما غر الناس. وإن كان في الصحراء جهر في الوقت، فإن أبا
سعيد قال: «إذا كنت في غنمك أو باديتك، فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا أنس ولا شيء، إلا شهد له يوم القيامة سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ،
رواه البخاري، ويستحب أن يؤذن متوضئاً، لأن أبا هريرة قال: «لا يؤذن إلا متوضئ» ، وروي مرفوعاً، أخرجه الترمذي. ويستحب أن يؤذن مستقبل القبلة، ويلتفت يميناً إذا قال: حي على الصلاة، ويساراً إذا قال: حي على الفلاح، ولا يزيل قدميه، ويجعل إصبعيه في أذنيه، لما روى أبو جحيفة قال: «أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو في قبة حمراء من أدم، وأذن بلال، فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا، يقول يميناً وشمالاً: حي على الصلاة، حي على الفلاح» . متفق عليه. وفي لفظ: «ولم يستدر وأصبعاه في أذنيه» ، رواه الترمذي.
ويستحب أن يترسل في الأذان ويحدر الإقامة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا بلال إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر» رواه أبو داود. ولأن الأذان إعلام الغائبين والترسل فيه أبلغ في الإسماع، والإقامة إعلام الحاضرين، فلم يحتج إلى الترسل
فيه، ويكره التمطيط والتلحين لما تقدم.
فصل:
ولا يصح الأذان إلا مرتباً متوالياً، لأنه لا يعلم أنه أذان بدونهما، فإن سكت فيه سكوتاً طويلاً أعاد. ولا يصح أن يبني على أذان غيره، لأنه عبادة بدنية، فلم يبن فعله على فعل غيره، كالصلاة، فإن أغمي عليه، ثم أفاق قريباً بنى، وإن طال الفصل ابتدأ لتحصيل الموالاة. وإن ارتد في أثنائه بطل أذانه لقول الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] . ويكره الكلام فيه، فإن تكلم بكلام طويل ابتدأ، لإخلاله بالموالاة، وإن كان يسيراً بنى، لأن ذلك لا يبطل الخطبة، وهي آكد منه، إلا أن يكون كلاماً محرماً، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يبطل، لأنه لا يخل بالمقصود.
والثاني: يبطل، لأنه فعل محرماً فيه.
فصل:
ويستحب أن يؤذن في أول الوقت ليعلم الناس بوقت الصلاة فيتهيؤوا لها، وقد روي أن «بلالا كان يؤذن في أول الوقت، وربما أخر الإقامة شيئاً» . رواه ابن ماجه.
ويؤخر الإقامة. لما روى جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبلال: «اجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله، والشارب من شربه، والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته» رواه أبو داود. ولأن الإقامة لافتتاح الصلاة فينبغي أن تتأخر قدراً يتهيؤون فيه للصلاة. فإن كان للمغرب جلس جلسة خفيفة، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جلوس المؤذن بين الأذان والإقامة في المغرب سنة» رواه تمام في الفوائد.
ويستحب أن يقيم في موضع أذانه إلا أن يشق عليه، لكونه قد أذن في مكان بعيد، «لقول بلال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تسبقني بآمين» . لأنه لو أقام في موضع صلاته لم يخف سبقه بذلك.
ويستحب لمن أذن أن يقيم لما «روى زياد بن الحارث الصدائي أنه أذن فجاء بلال ليقيم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم» من المسند. وإن أقام غيره جاز لما روى أبو داود في حديث الأذان أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألقه على بلال فألقاه عليه فأذن بلال، فقال عبد الله: أنا رأيته، وأنا كنت أريده قال: فأقم أنت» .
فصل:
ولا يجوز أخذ الأجرة عليه، لما روي عن عثمان بن أبي العاص أنه قال: «إن آخر ما عهد إلي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن اتخذ مؤذناً لا يأخذ على الأذان أجراً» . قال الترمذي:
هذا حديث حسن. ولأنه قربة لفاعله، أشبه الإمامة، وإن لم يوجد من يتطوع به رزق الإمام من بيت المال من يقوم به، لأن الحاجة داعية إليه، فجاز أخذ الرزق عليه، كالجهاد. وإن وجد متطوعاً به لم يرزق
لأن المال للمصلحة فلا يعطى في غير مصلحة.
فصل:
ويستحب لمن سمع المؤذن أن يقول مثل ما يقول، لما روى أبو سعيد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول» متفق عليه.
ويقول عند الحيعلة: لا حول ولا قوة إلا بالله، لما روى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله، فقال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر، الله أكبر، قال: الله
أكبر، الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله، خالصاً من قلبه، دخل الجنة» رواه مسلم. قال الأثرم: هذا من الأحاديث الجياد.
فإن سمع الأذان في الصلاة لم يقل مثل قوله، لأن في الصلاة شغلاً، فإذا فرغ قال ذلك.
وإن كان في قراءة قطعها، وقال ذلك، لأن القراءة لا تفوت وهذا يفوت. وعن جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قال حين يسمع النداء:
اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود
الذي وعدته، حلت له الشفاعة يوم القيامة» أخرجه البخاري. وروى [سعد] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قال حين يسمع النداء: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، غفر له ذنبه» رواه
مسلم. ويستحب الدعاء بين الأذان والإقامة، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد» حديث حسن.
الأذان مشروع للصلوات الخمس دون غيرها، وهو من فروض الكفاية؛ لأنه من شعائر الإسلام الظاهرة، فلم يجز تعطيله، كالجهاد، فإن اتفق أهل بلد على تركه، قوتلوا عليه، وإن أذن واحد في المصر أسقط الفرض عن أهله، ولا يجزئ الأذان قبل الوقت، لأنه لا يحصل المقصود منه، إلا الفجر، فإنه يجزئ الأذان لها بعد نصف الليل؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن بلالاً يؤذن بليل؛ فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم»
متفق عليه. ولأنه وقت النوم فيحتاج إلى التأذين قبل الوقت، لينتبه النائم ويتأهب للصلاة، بخلاف سائر الصلوات.
ولا يؤذن قبل الوقت، إلا من يتخذه عادة لئلا يغر الناس. ويكون معه من يؤذن في الوقت، كفعل بلال وابن أم مكتوم.
ولا يجوز تقديم الإقامة على الوقت، لأنها تراد لافتتاح الصلاة ولا تفتتح قبل الوقت.
فصل:
ويذهب أبو عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أذان بلال الذي أريه عبد الله بن زيد، كما روي عنه أنه قال: «لما أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالناقوس ليضرب به للناس لجمع الصلاة، طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً، فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة، فال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت: بلى، فقال: تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله
أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، قال: ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال: تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. فلما أصبحت أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته بما رأيت، فقال: إنها رؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى طوتاً منك» رواه أبو داود. فهذه صفة الأذان والإقامة المستحب، لأن بلالاً كان يؤذن به حضراً وسفراً مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أن مات.
وإن رجع في الأذان، أو ثنى الإقامة، فلا بأس لأنه من الاختلاف المباح.
ويستحب أن يقول في أذان الصبح بعد حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم، مرتين، لما روى أبو محذورة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «إن كان في أذان الصبح، قلت: الصلاة خير من النوم، مرتين» رواه النسائي. ويكره التثويب في غيره، لما روى بلال قال: «أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أثوب في الفجر، ونهاني أن أثوب في العشاء» . رواه ابن ماجه.
ودخل ابن عمر مسجداً يصلي فيه، فسمع رجلاً يثوب في أذان الظهر، فخرج وقال: أخرجتني البدعة.
فصل:
ويسن الأذان للفائتة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاتته الصبح فقال: «يا بلال قم فأذن ثم صلى ركعتين، ثم أقام، ثم صلى الغداة» . متفق عليه.
وإن كثرت الفوائت، أذَّن وأقام للأولى، ثم أقام للتي بعدها، لما روى ابن
مسعود أن «المشركين شغلوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أربع صلوات حتى ذهب من الليل ما شاء الله، ثم أمر بلالاً، فأذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء» ، رواه الأثرم.
وإن جمع بين الصلاتين، فكذلك، لما روى جابر أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر والعصر بعرفة بأذان وإقامتين» . رواه مسلم.
وإن ترك الأذان للفائتة، أو المجموعتين في وقت الآخرة منهما، فلا بأس، لما روي أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى المغرب والعشاء بإقامة لكل صلاة من غير أذان» ، متفق عليه.
فصل:
ولا يصح الأذان إلا من مسلم عاقل، ولا يصح من كافر ولا طفل ولا مجنون، لأنهم من غير أهل العبادات. ولا يشرع الأذان للنساء، ولا الإقامة، ولا يصح منهن، لأنه يشرع فيه رفع الصوت، ولسن من أهل ذلك، ولا لخنثى مشكل، لأنه لا يعلم كونه رجلاً.
وفي أذان الفاسق والصبي العاقل وجهان:
أحدهما: يصح، لأنه مشروع لصلاتهما، وهما من أهل العبادات.
والثاني: لا يصح لأنه إعلام بالوقت، ولا يقبل فيه خبرهما. وفي الأذان الملحَّن وجهان:
أحدهما: يصح، لأنه أتى به مرتباً فصح كغيره.
والثاني: لا يصح، لما روى ابن عباس، قال: «كان لرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤذن يطرب، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الأذان سهل سمح فإن كان أذانك سهلاً سمحاً وإلا فلا تؤذن» رواه الدارقطني.
وفي أذان الجنب وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنه أحد الحدثين، فلم يمنع صحته، كالحدث الأصغر.
والثاني: لا يصح؛ لأنه ذكر مشروع للصلاة يتقدمها، أشبه الخطبة.
فصل:
ويستحب للمؤذن أن يكون أميناً لأنه مؤتمن على الأوقات. صيتاً، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الله بن زيد: ألقه على بلال فإنه أندى صوتاً منك» رواه أبو داود. ولأنه أبلغ في الإعلام المقصود بالأذان. وأن يكون عالماً بالأوقات، ليتمكن من الأذان في أوائلها. وأن يكون بصيراً، لأن الأعمى لا يعلم، إلا أن يكون
معه بصير يؤذن قبله، كبلال مع ابن أم مكتوم، فإن تشاح اثنان في الأذان، قدم أكملهما في هذه الخصال، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم بلالا على عبد الله بن زيد، لكونه أندى صوتاً، وقسنا عليه باقي الخصال. فإن استويا في ذلك، أقرع بينهما لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه
لاستهموا» متفق عليه. وتشاح الناس في الأذان يوم القادسية، فأقرع بينهم سعد.
وعنه: يقدم من يرضاه الجيران، لأن الأذان لإعلامهم، فكان لرضاهم أثر في التقديم.
ولا بأس أن يؤذن اثنان أحدهما بعد الآخر، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يؤذن له بلال وابن أم مكتوم، إذا نزل هذا طلع هذا» . ولا يسن أكثر من هذا إلا أن تدعو إليه حاجة فيجوز، لأن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اتخذ أربعة مؤذنين.
فصل:
يستحب أن يؤذن قائماً، «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبلال: قم فأذن» ولأنه أبلغ في الإسماع، فإن أذن قاعداً أو راكباً في السفر جاز، لأن الصلاة آكد منه، وهي تجوز كذلك. وأن يؤذن على موضع عال، لأنه أبلغ في الإعلام. وروي أن «بلالاً كان يؤذن على سطح امرأة، ويرفع صوته» ، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «قال للمؤذن: يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس» رواه أبو داود. ولا يجهد نفسه فوق طاقته؛ لئلا ينقطع صوته، ويؤذي نفسه. وإن أذن لفائتة أو لنفسه في مصر، لم يجهر لأنه لا يدعو أحداً وربما غر الناس. وإن كان في الصحراء جهر في الوقت، فإن أبا
سعيد قال: «إذا كنت في غنمك أو باديتك، فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا أنس ولا شيء، إلا شهد له يوم القيامة سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ،
رواه البخاري، ويستحب أن يؤذن متوضئاً، لأن أبا هريرة قال: «لا يؤذن إلا متوضئ» ، وروي مرفوعاً، أخرجه الترمذي. ويستحب أن يؤذن مستقبل القبلة، ويلتفت يميناً إذا قال: حي على الصلاة، ويساراً إذا قال: حي على الفلاح، ولا يزيل قدميه، ويجعل إصبعيه في أذنيه، لما روى أبو جحيفة قال: «أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو في قبة حمراء من أدم، وأذن بلال، فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا، يقول يميناً وشمالاً: حي على الصلاة، حي على الفلاح» . متفق عليه. وفي لفظ: «ولم يستدر وأصبعاه في أذنيه» ، رواه الترمذي.
ويستحب أن يترسل في الأذان ويحدر الإقامة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا بلال إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر» رواه أبو داود. ولأن الأذان إعلام الغائبين والترسل فيه أبلغ في الإسماع، والإقامة إعلام الحاضرين، فلم يحتج إلى الترسل
فيه، ويكره التمطيط والتلحين لما تقدم.
فصل:
ولا يصح الأذان إلا مرتباً متوالياً، لأنه لا يعلم أنه أذان بدونهما، فإن سكت فيه سكوتاً طويلاً أعاد. ولا يصح أن يبني على أذان غيره، لأنه عبادة بدنية، فلم يبن فعله على فعل غيره، كالصلاة، فإن أغمي عليه، ثم أفاق قريباً بنى، وإن طال الفصل ابتدأ لتحصيل الموالاة. وإن ارتد في أثنائه بطل أذانه لقول الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] . ويكره الكلام فيه، فإن تكلم بكلام طويل ابتدأ، لإخلاله بالموالاة، وإن كان يسيراً بنى، لأن ذلك لا يبطل الخطبة، وهي آكد منه، إلا أن يكون كلاماً محرماً، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يبطل، لأنه لا يخل بالمقصود.
والثاني: يبطل، لأنه فعل محرماً فيه.
فصل:
ويستحب أن يؤذن في أول الوقت ليعلم الناس بوقت الصلاة فيتهيؤوا لها، وقد روي أن «بلالا كان يؤذن في أول الوقت، وربما أخر الإقامة شيئاً» . رواه ابن ماجه.
ويؤخر الإقامة. لما روى جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبلال: «اجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله، والشارب من شربه، والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته» رواه أبو داود. ولأن الإقامة لافتتاح الصلاة فينبغي أن تتأخر قدراً يتهيؤون فيه للصلاة. فإن كان للمغرب جلس جلسة خفيفة، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جلوس المؤذن بين الأذان والإقامة في المغرب سنة» رواه تمام في الفوائد.
ويستحب أن يقيم في موضع أذانه إلا أن يشق عليه، لكونه قد أذن في مكان بعيد، «لقول بلال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تسبقني بآمين» . لأنه لو أقام في موضع صلاته لم يخف سبقه بذلك.
ويستحب لمن أذن أن يقيم لما «روى زياد بن الحارث الصدائي أنه أذن فجاء بلال ليقيم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم» من المسند. وإن أقام غيره جاز لما روى أبو داود في حديث الأذان أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألقه على بلال فألقاه عليه فأذن بلال، فقال عبد الله: أنا رأيته، وأنا كنت أريده قال: فأقم أنت» .
فصل:
ولا يجوز أخذ الأجرة عليه، لما روي عن عثمان بن أبي العاص أنه قال: «إن آخر ما عهد إلي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن اتخذ مؤذناً لا يأخذ على الأذان أجراً» . قال الترمذي:
هذا حديث حسن. ولأنه قربة لفاعله، أشبه الإمامة، وإن لم يوجد من يتطوع به رزق الإمام من بيت المال من يقوم به، لأن الحاجة داعية إليه، فجاز أخذ الرزق عليه، كالجهاد. وإن وجد متطوعاً به لم يرزق
لأن المال للمصلحة فلا يعطى في غير مصلحة.
فصل:
ويستحب لمن سمع المؤذن أن يقول مثل ما يقول، لما روى أبو سعيد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول» متفق عليه.
ويقول عند الحيعلة: لا حول ولا قوة إلا بالله، لما روى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله، فقال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر، الله أكبر، قال: الله
أكبر، الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله، خالصاً من قلبه، دخل الجنة» رواه مسلم. قال الأثرم: هذا من الأحاديث الجياد.
فإن سمع الأذان في الصلاة لم يقل مثل قوله، لأن في الصلاة شغلاً، فإذا فرغ قال ذلك.
وإن كان في قراءة قطعها، وقال ذلك، لأن القراءة لا تفوت وهذا يفوت. وعن جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قال حين يسمع النداء:
اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود
الذي وعدته، حلت له الشفاعة يوم القيامة» أخرجه البخاري. وروى [سعد] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قال حين يسمع النداء: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، غفر له ذنبه» رواه
مسلم. ويستحب الدعاء بين الأذان والإقامة، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد» حديث حسن.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب شرائط الصلاة]
[باب شرائط الصلاة]
وهي ستة:
الطهارة من الحدث، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» رواه مسلم.
والثاني: الطهارة من النجس، «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأسماء في دم الحيض: حتيه، ثم اقرصيه، ثم اغسليه، وصلي فيه» فدل على أنها ممنوعة من الصلاة فيه قبل غسله،
فمتى كانت عليه في بدنه أو ثيابه نجاسة مقدور على إزالتها غير معفو عنها، لم تصح صلاته.
وإن جبر عظمه بعظم نجس، فجبر، لم يلزمه قلعه إذا خاف الضرر وأجزأته صلاته، لأن ذلك يبيح ترك التطهر من الحدث، وهو آكد.
ويحتمل أن يلزمه قلعه إذا لم يخف التلف، لأنه لا يخاف التلف، أشبه إذا لم يخف الضرر.
وإن أكل نجاسة، لم يلزمه فيها، لأنها حصلت في معدته، فصارت كالمستحيل في المعدة.
وإن عجز عن إزالة النجاسة عن بدنه، أو خلع الثوب النجس، لكونه مربوطاً، أو نحو ذلك، صلى ولا إعادة عليه، لأنه شرط عجز عنه فسقط، كالسترة.
وإن لم يجد إلا ثوباً نجساً صلى فيه، لأن ستر العورة آكد لوجوبه في الصلاة وغيرها، وتعلق حق الآدمي به في ستر عورته، وصيانة نفسه.
والمنصوص أن يعيد، لأنه ترك شرطاً مقدوراً عليه.
ويتخرج أن لا يعيد، كما لو عجز عن خلعه، أو صلى في موضع نجس، لا يمكنه الخروج منه. وإن خفي عليه موضع النجاسة لم يزل حكمها حتى يغسل ما يتيقن به أن التطهر قد لحقها، لأنه تيقن النجاسة، فلا يزول إلا بيقين غسلها.
فإن صلى على منديل طرفه نجس على الطاهر منه صحت صلاته، فإن كان المنديل عليه، أو متعلقاً به، بحيث ينجر معه إذا مشى، لم تصح صلاته، لأنه حامل لها وإن كان في يده حبل مشدود في شيء نجس ينجر معه إذا مشى، لم تصح صلاته، لأنه كالحامل لها، وإن كان لا ينجر معه كالفيل والسفينة النجسة، لم تبطل صلاته، لأنه غير حامل لها، فأشبه ما لو كان مشدوداً في دار فيها حش.
وإن حمل في الصلاة حيواناً طاهراً لم تبطل صلاته، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى حاملاً أمامة بنت زينب ابنته» . متفق عليه. ولأن ما في الحيوان من النجاسة في معدته، فأشبه ما في جوف المصلي.
ولو حمل قارورة فيها نجاسة، لم تصح صلاته، لأنه حامل لنجاسة في غير معدتها، أشبه ما لو حملها في كمه.
فصل:
ويشترط طهارة موضع صلاته، لأنه يحتاج إليه في الصلاة، أشبه الثوب فإن كان بدنه أو ثوبه يقع على موضع نجس، لم تصح صلاته. وإن لاصقها على حائط، أو ثوب إنسان، فذكر ابن عقيل أن صلاته صحيحة، لأنه ليس بموضع لصلاته، ولا محمولاً فيها.
وإن سقطت عليه نجاسة يابسة فزالت، أو أزالها بسرعة، لم تبطل صلاته، لأنه زمن يسير، فعفي عنه، كاليسير في القدر وإن كانت النجاسة محاذية لبدنه في سجوده، لا تصيب بدنه، ولا ثوبه، صحت صلاته.
وإن بسط على الأرض النجسة ثوباً أو طينها، صحت صلاته عليها مع الكراهة، لأنه ليس بحامل للنجاسة، ولا مباشر لها.
وقيل: لا تصح لأن اعتماده على الأرض النجسة.
وإن خفيت النجاسة في موضع معين، حكمه حكم الثوب. وإن خفيت في صحراء صلى حيث شاء، لأنه لا يمكنه حفظها من النجاسة، ولا غسل جميعها.
فإن حبس في مكان نجس صلى ولا إعادة عليه، لأنه صلى على حسب حاله، أشبه المربوط إلى غير القبلة فإن كانت رطبة يخاف تعديها إليه أومأ بالسجود، وإن لم يخف سجد بالأرض.
فصل:
إذا رأى عليه نجاسة بعد الصلاة، وجوز حدوثها بعدها، لم تلزمه الإعادة لأن الأصل عدمها في الصلاة.
وإن علم أنها كانت عليه في الصلاة، ففيه روايتان:
إحداهما: يعيد، لأنها طهارة واجبة، فلم تسقط بالجهل، كالوضوء وقياساً على سائر الشرائط.
والثانية: لا يلزمه، لما روى أبو سعيد أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلع نعليه في الصلاة، فخلع الناس نعالهم، فقال: ما لكم خلعتم؟ فقالوا: رأيناك خلعت نعليك، فخلعنا نعالنا، فقال: أتاني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأخبرني أن فيهما قذراً» رواه أبو داود. ولو بطلت لاستأنفها، فعلى هذا إن علم بها في الصلاة، فأمكنه إزالتها بغير عمل طويل، فعل كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن علم بها قبل الصلاة ثم نسيها، فقال القاضي: يعيد، لأنه فرط في تركها. وقال أبو الخطاب: فيها روايتان، كالتي قبلها، لأن ما عذر فيه بالجهل عذر فيه بالنسيان، كواجبات الصلاة.
فصل:
ولا تصح الصلاة في خمسة مواضع:
المقبرة، حديثة كانت أو قديمة، والحمام داخله وخارجه، لما روى أبو سعيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام» رواه أبو داود. وروى أبو مرثد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها» رواه مسلم.
وأعطان الإبل، وهي التي تقيم فيها وتأوي إليها، لما روى جابر بن سمرة أن رجلاً قال: «يا رسول الله أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم، قال: أنصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا.» رواه مسلم. ولأن هذه المواضع مظنة للنجاسة فأقيمت مقامها.
والحش، لأن النهي عن هذه المواضع تنبيه على النهي عنه، ولأن احتمال النجاسة فيه أكثر وأغلب.
والموضع المغصوب، لأن قيامه وقعوده ولبثه فيه محرم، منهي عنه، فلم يقع عبادة، كالصلاة في زمن الحيض.
وعنه: أن الصلاة في هذه المواضع تصح مع التحريم، لأن النهي لمعنى في غير الصلاة، أشبه المصلي وفي يده خاتم من ذهب، وعنه: إن علم النهي لم تصح صلاته، لارتكابه للنهي، وإن لم يعلم صحت. وضم بعض أصحابنا إلى هذه المواضع أربعة أخر، المجزرة، وهي موضع الذبح، والمزبلة، وقارعة الطريق، وظهر البيت الحرام، فجعل فيها الروايات الثلاث، لما روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سبعة مواطن لا تجوز فيها الصلاة، المجزرة والمزبلة، والمقبرة ومعاطن الإبل، والحمام وقارعة الطريق، وفوق بيت الله العتيق» رواه ابن ماجه. وفيه ضعف، ولأن قارعة الطريق والمجزرة والمزبلة مظان للنجاسة، أشبهت
الحش والحمام، وفي الكعبة يكون مستدبراً لبعض القبلة. وإن صلى النافلة في الكعبة، أو على ظهرها وبين يديه شيء منها، صحت صلاته، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في البيت ركعتين» . متفق عليه.
والصلاة إلى هذه المواضع صحيحة، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فحيثما أدركتك الصلاة فصل» متفق عليه. إلا المقبرة فإن ابن حامد قال: لا تصح الصلاة إليها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تصلوا إليها» وإن صلى في مسجد بني في المقبرة، فحكمه حكمها. وإن حدثت المقبرة حوله صحت الصلاة فيه، لأنه ليس بمقبرة.
وفي أسطحة هذه المواضع وجهان:
أحدهما: أن حكمها حكمها، لأنها تابعة لها.
والثاني: تصح، لأنه ليس بمظنة للنجاسة، ولا يتناوله النهي.
وهي ستة:
الطهارة من الحدث، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» رواه مسلم.
والثاني: الطهارة من النجس، «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأسماء في دم الحيض: حتيه، ثم اقرصيه، ثم اغسليه، وصلي فيه» فدل على أنها ممنوعة من الصلاة فيه قبل غسله،
فمتى كانت عليه في بدنه أو ثيابه نجاسة مقدور على إزالتها غير معفو عنها، لم تصح صلاته.
وإن جبر عظمه بعظم نجس، فجبر، لم يلزمه قلعه إذا خاف الضرر وأجزأته صلاته، لأن ذلك يبيح ترك التطهر من الحدث، وهو آكد.
ويحتمل أن يلزمه قلعه إذا لم يخف التلف، لأنه لا يخاف التلف، أشبه إذا لم يخف الضرر.
وإن أكل نجاسة، لم يلزمه فيها، لأنها حصلت في معدته، فصارت كالمستحيل في المعدة.
وإن عجز عن إزالة النجاسة عن بدنه، أو خلع الثوب النجس، لكونه مربوطاً، أو نحو ذلك، صلى ولا إعادة عليه، لأنه شرط عجز عنه فسقط، كالسترة.
وإن لم يجد إلا ثوباً نجساً صلى فيه، لأن ستر العورة آكد لوجوبه في الصلاة وغيرها، وتعلق حق الآدمي به في ستر عورته، وصيانة نفسه.
والمنصوص أن يعيد، لأنه ترك شرطاً مقدوراً عليه.
ويتخرج أن لا يعيد، كما لو عجز عن خلعه، أو صلى في موضع نجس، لا يمكنه الخروج منه. وإن خفي عليه موضع النجاسة لم يزل حكمها حتى يغسل ما يتيقن به أن التطهر قد لحقها، لأنه تيقن النجاسة، فلا يزول إلا بيقين غسلها.
فإن صلى على منديل طرفه نجس على الطاهر منه صحت صلاته، فإن كان المنديل عليه، أو متعلقاً به، بحيث ينجر معه إذا مشى، لم تصح صلاته، لأنه حامل لها وإن كان في يده حبل مشدود في شيء نجس ينجر معه إذا مشى، لم تصح صلاته، لأنه كالحامل لها، وإن كان لا ينجر معه كالفيل والسفينة النجسة، لم تبطل صلاته، لأنه غير حامل لها، فأشبه ما لو كان مشدوداً في دار فيها حش.
وإن حمل في الصلاة حيواناً طاهراً لم تبطل صلاته، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى حاملاً أمامة بنت زينب ابنته» . متفق عليه. ولأن ما في الحيوان من النجاسة في معدته، فأشبه ما في جوف المصلي.
ولو حمل قارورة فيها نجاسة، لم تصح صلاته، لأنه حامل لنجاسة في غير معدتها، أشبه ما لو حملها في كمه.
فصل:
ويشترط طهارة موضع صلاته، لأنه يحتاج إليه في الصلاة، أشبه الثوب فإن كان بدنه أو ثوبه يقع على موضع نجس، لم تصح صلاته. وإن لاصقها على حائط، أو ثوب إنسان، فذكر ابن عقيل أن صلاته صحيحة، لأنه ليس بموضع لصلاته، ولا محمولاً فيها.
وإن سقطت عليه نجاسة يابسة فزالت، أو أزالها بسرعة، لم تبطل صلاته، لأنه زمن يسير، فعفي عنه، كاليسير في القدر وإن كانت النجاسة محاذية لبدنه في سجوده، لا تصيب بدنه، ولا ثوبه، صحت صلاته.
وإن بسط على الأرض النجسة ثوباً أو طينها، صحت صلاته عليها مع الكراهة، لأنه ليس بحامل للنجاسة، ولا مباشر لها.
وقيل: لا تصح لأن اعتماده على الأرض النجسة.
وإن خفيت النجاسة في موضع معين، حكمه حكم الثوب. وإن خفيت في صحراء صلى حيث شاء، لأنه لا يمكنه حفظها من النجاسة، ولا غسل جميعها.
فإن حبس في مكان نجس صلى ولا إعادة عليه، لأنه صلى على حسب حاله، أشبه المربوط إلى غير القبلة فإن كانت رطبة يخاف تعديها إليه أومأ بالسجود، وإن لم يخف سجد بالأرض.
فصل:
إذا رأى عليه نجاسة بعد الصلاة، وجوز حدوثها بعدها، لم تلزمه الإعادة لأن الأصل عدمها في الصلاة.
وإن علم أنها كانت عليه في الصلاة، ففيه روايتان:
إحداهما: يعيد، لأنها طهارة واجبة، فلم تسقط بالجهل، كالوضوء وقياساً على سائر الشرائط.
والثانية: لا يلزمه، لما روى أبو سعيد أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلع نعليه في الصلاة، فخلع الناس نعالهم، فقال: ما لكم خلعتم؟ فقالوا: رأيناك خلعت نعليك، فخلعنا نعالنا، فقال: أتاني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأخبرني أن فيهما قذراً» رواه أبو داود. ولو بطلت لاستأنفها، فعلى هذا إن علم بها في الصلاة، فأمكنه إزالتها بغير عمل طويل، فعل كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن علم بها قبل الصلاة ثم نسيها، فقال القاضي: يعيد، لأنه فرط في تركها. وقال أبو الخطاب: فيها روايتان، كالتي قبلها، لأن ما عذر فيه بالجهل عذر فيه بالنسيان، كواجبات الصلاة.
فصل:
ولا تصح الصلاة في خمسة مواضع:
المقبرة، حديثة كانت أو قديمة، والحمام داخله وخارجه، لما روى أبو سعيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام» رواه أبو داود. وروى أبو مرثد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها» رواه مسلم.
وأعطان الإبل، وهي التي تقيم فيها وتأوي إليها، لما روى جابر بن سمرة أن رجلاً قال: «يا رسول الله أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم، قال: أنصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا.» رواه مسلم. ولأن هذه المواضع مظنة للنجاسة فأقيمت مقامها.
والحش، لأن النهي عن هذه المواضع تنبيه على النهي عنه، ولأن احتمال النجاسة فيه أكثر وأغلب.
والموضع المغصوب، لأن قيامه وقعوده ولبثه فيه محرم، منهي عنه، فلم يقع عبادة، كالصلاة في زمن الحيض.
وعنه: أن الصلاة في هذه المواضع تصح مع التحريم، لأن النهي لمعنى في غير الصلاة، أشبه المصلي وفي يده خاتم من ذهب، وعنه: إن علم النهي لم تصح صلاته، لارتكابه للنهي، وإن لم يعلم صحت. وضم بعض أصحابنا إلى هذه المواضع أربعة أخر، المجزرة، وهي موضع الذبح، والمزبلة، وقارعة الطريق، وظهر البيت الحرام، فجعل فيها الروايات الثلاث، لما روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سبعة مواطن لا تجوز فيها الصلاة، المجزرة والمزبلة، والمقبرة ومعاطن الإبل، والحمام وقارعة الطريق، وفوق بيت الله العتيق» رواه ابن ماجه. وفيه ضعف، ولأن قارعة الطريق والمجزرة والمزبلة مظان للنجاسة، أشبهت
الحش والحمام، وفي الكعبة يكون مستدبراً لبعض القبلة. وإن صلى النافلة في الكعبة، أو على ظهرها وبين يديه شيء منها، صحت صلاته، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في البيت ركعتين» . متفق عليه.
والصلاة إلى هذه المواضع صحيحة، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فحيثما أدركتك الصلاة فصل» متفق عليه. إلا المقبرة فإن ابن حامد قال: لا تصح الصلاة إليها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تصلوا إليها» وإن صلى في مسجد بني في المقبرة، فحكمه حكمها. وإن حدثت المقبرة حوله صحت الصلاة فيه، لأنه ليس بمقبرة.
وفي أسطحة هذه المواضع وجهان:
أحدهما: أن حكمها حكمها، لأنها تابعة لها.
والثاني: تصح، لأنه ليس بمظنة للنجاسة، ولا يتناوله النهي.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب ستر العورة]
[باب ستر العورة]
وهو الشرط الثالث للصلاة، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» رواه أبو داود. وعورة الرجل ما بين سرته وركبتيه لما روى أبو أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسفل السرة وفوق الركبتين من العورة» رواه أبو بكر بإسناده. وعن جرهد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «غط فخذك فإن الفخذ من العورة» رواه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المسند، وليست السرة والركبة من العورة، لما ذكرنا.
وعنه: أنها الفرجان، لما روى أنس أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر حسر الإزار عن فخذه حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه البخاري. وعورة الحر والعبد سواء، لعموم الأحاديث.
فصل:
والمرأة كلها عورة إلا الوجه، وفي الكفين روايتان: لقول الله تعالى:
{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]
قال ابن عباس: وجهها وكفيها، ولأنه يحرم ستر الوجه في الإحرام، وستر الكفين بالقفازين، ولو كانا عورة، لم يحرم سترهما.
والثانية: أن الكفين عورة لأن المشقة لا تلحق في سترهما فأشبها سائر بدنها، وما عدا هذا عورة؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» وعن أم سلمة قالت: «يا رسول الله تصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار؟ فقال: نعم إذا كان سابغاً يغطي ظهور قدميها» رواه أبو داود.
فصل:
وما يظهر غالباً من الأمة، كالرأس واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الركبتين، ليس بعورة، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نهى الأمة عن التقنع والتشبه بالحرائر، قال القاضي في الجامع: وما عدا ذلك عورة، لأنه لا يظهر غالباً، أشبه ما تحت السرة.
وقال ابن حامد: عورتها كعورة الرجل، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا زوج أحدكم أمته عبده أو أجيره فلا ينظر إلى شيء من عورته، فإن ما تحت السرة إلى الركبة عورة يريد عورة الأمة» ، رواه الدارقطني. ولأنه من لم يكن رأسه عورة لم يكن صدره عورة، كالرجل والمدبرة والمعلق عتقها بصفة كالقن، لأنهما مثلها في البيع وغيره. وأم الولد والمعتق بعضها كذلك، لأن الرق باق فيهما إلا أنه يستحب لهما التستر، لما فيهما من شبه الأحرار.
وعنه: أنها كالحرة لذلك.
فصل:
ويجب ستر العورة بما يستر لون البشرة من الثياب أو الجلود أو غيرها، فإن وصف لون البشرة، لم يعتد به. لأنه ليس بساتر. ويجب أن يجعل على عاتقه شيئاً من اللباس في الصلاة المفروضة، لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يصلي الرجل في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء» متفق عليه. فإن ترك عليه شيئاً من اللباس أجزأه وإن لم يسترها؛ استدلالاً بمفهوم الحديث. وقال القاضي: ستر المنكبين واجب في الفرض، وقيل: يجزئه وضع خيط، وظاهر الحديث يدل على ما ذكرناه.
فصل:
ويستحب للرجل أن يصلي في قميص ورداء أو إزار وسراويل، لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو قال: قال عمر: «إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما» . رواه أبو داود. فإن اقتصر على ثوب واحد أجزأه؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في ثوب واحد» . متفق عليه. والقميص أولى من الرداء، لأنه أعم في الستر، فإن كان واسع الجيب ترى منه عورته، لم يجزئه، لما روى سلمة بن الأكوع قال: قلت: «يا رسول الله إنا نصيد أفنصلي في القميص الواحد؟ قال: نعم وازرره ولو بشوكة» حديث حسن. فإن كان ذا لحية تسد جيبه فلا ترى عورته جاز. وإن صلى في رداء، وكان واسعاً، التحف به. وإن كان
ضيقاً خالف بين طرفيه على منكبيه، كالقصار، لما روى عمر بن أبي سلمة قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في ثوب واحد، قد ألقى طرفيه على عاتقيه» . متفق عليه. وإن لم يجد ما يستر عورته أو منكبيه، ستر عورته، لما روى جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان الثوب واسعاً، فالتحف به، وإن كان ضيقاً فاتزر به» رواه البخاري.
ويستحب للمرأة أن تصلي في درع وخمار وجلباب تلتحف به، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: تصلي المرأة في ثلاثة أثواب: درع وخمار وإزار. وإن صلت في درع وخمار يستر جميع بدنها أجزأ، لما روينا من حديث أم سلمة وقد روي عن أم سلمة وميمونة أنهما كانا يصليان في درع وخمار، ليس عليهما أزار. رواه مالك.
فصل:
فإن عدم السترة، وأمكنه الاستتار بحشيش بربطه عليه، أو ورق، لزمه، لأنه ساتر للبشرة، أشبه الثياب. وإن وجد طيناً لم يلزمه أن يطين عورته، لأنه يلوثه ولا يغيب الخلقة. وإن وجد بارية تؤذي جسمه، ويدخل القصب فيه، لم يلزمه لبسها، لما فيه من الضرر. وإن وجد ماء لم يلزمه النزول فيه، وإن كان كدر، لأنه ليس يستره، ويمنعه التمكن من الصلاة.
فصل:
فإن لم يجد إلا ما يستر بعض العورة ستر الفرجين، لأنهما أغلظ، وإن لم يكف إلا أحدها ستر الدبر في أحد الوجهين لأنه أفحش، وفي الآخر القبل، لأنه به يستقبل القبلة، والدبر يستتر بالأليتين، وأيهما ستر أجزأه.
فصل:
فإن عدم بكل حال صلى عرياناً جالساً يومئ بالسجود، لأنه يحصل به ستر أغلظ العورة , وهو آكد لما ذكرناه، وعنه يصلي قائماً ويركع ويسجد لأن المحافظة على ثلاثة أركان أولى من المحافظة على بعض شرط. يصلي العراة جماعة صفاً واحداً لئلا يرى
بعضهم عورات بعض، ويقوم إمامهم في وسطهم ليكون أستر له، فإن لم يسعهم صف واحد صلوا صفين وغضوا أبصارهم، فإن كان فيهم نساء صلى كل نوع لأنفسهم، فإن ضاق المكان صلى الرجال واستدبرهم النساء ثم صلى النساء واستدبرهن الرجال.
فصل:
وإن وجد السترة بعد الصلاة لم يعد لأنه شرط للصلاة عجز عنه، أشبه القبلة، وإن وجدها في أثناء الصلاة قريبة، ستر وبنى، لأنه عمل قليل، وإن كانت بعيدة بطلت صلاته لأنه يفتقر إلى عمل كثير. وإن عتقت الأمة في الصلاة وهي مكشوفة الرأس فكذلك، فإن لم تعلم حتى صلت أعادت، كما لو بدت عورتها ولم تعلم بها.
فصل:
إذا كان معهم ثوب لأحدهم لزمته الصلاة فيه، فإن آثر غيره وصلى عرياناً لم تصح لأنه قادر على السترة، فإذا صلى استحب أن يعيره لرفقته، فإن لم يفعل لم يغصب لأن صلاتهم تصح بدونه. وإن أعاره لواحد لزمه قبوله وصار بمنزلته لأن المنة لا تلحق به، ولو وهبه له لم يلزمه قبوله، لأن فيه منة، فإن أعاره لجميعهم صلى فيه واحد بعد واحد إلا أن يخاف ضيق الوقت، فيصلي فيه واحد والباقون عراة. ويستحب أن يعيره لمن يصلح لإمامتهم حتى يؤمهم، ويقوم بين أيديهم فإن أعاره لغيره، جاز.
قال القاضي: ويصلي وحده، لأنه قادر على شرط الصلاة، فلم يجز أن يأتم بالعاجز عنه، كالمعافى يأتم بمن به سلس البول.
وإن صلى في عمامة محرمة، أو خاتم ذهب، صحت صلاته، لأن النهي لا يعود إلى شرط الصلاة.
ولا بأس في صلاة المرأة في الحرير والذهب، لحله لها. ولا بأس بلبس الرجل الخز، لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لبسوه. ومن لم يجد إلا ثوب حرير، صلى فيه، ولا يعيد، لأنه مباح له في تلك الحال، ويباح علم الحرير في الثوب إذا كان أربع أصابع فما دون لما روى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحرير إلا موضع إصبعين، أو ثلاث أو أربع» . حديث صحيح.
وقال أبو بكر: يباح وإن كان مذهباً، وكذلك الرقاع، ولبنة الجيب، وسجف الفراء، وما نسج من الحرير وغيره، جاز لبسه إذا قل الحرير عن النصف، لما روي عن ابن عباس أنه قال: «إنما نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الثوب المصمت، أما العلم وسدى الثوب، فليس به بأس» . رواه أبو داود. وإن زاد على النصف حرم لأن الحكم للأغلب، وإن استويا ففيه وجهان:
أحدهما: إباحته للخبر.
والثاني: تحريمه، لعموم خبر التحريم.
ويباح لبس الحرير للقمل والحكة، لأن أنساً روى أن «عبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام شكوا القمل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرخص لهما في قميص الحرير» . متفق عليه.
وعنه: لا يباح، لعموم التحريم، واحتمال اختصاصهم بذلك. وهل يباح لبسه في الحرب، فيه روايتان:
إحداهما: لا يجوز لعموم الخبر.
والثانية: يجوز، لأن المنع منه للخيلاء، وهي غير مذمومة في الحرب، وكان لعروة يلمق من ديباج، بطانته من سندس، يلبسه في الحرب.
وليس لولي الصبي أن يلبسه الحرير، لأنه ذكر فيدخل في عموم الخبر.
وعنه: يباح، لأن الصبي غير مكلف، فأشبه ما لو ألبسه الدابة.
فصل:
ويكره للرجل لبس المزعفر والمعصفر. لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى أن يتزعفر الرجل» . متفق عليه. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهاني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لباس المعصفر» . رواه مسلم. ولا بأس بذلك للنساء. فأما ما عليه صور الحيوان فقال أبو الخطاب: يحرم لبسه، لأن أبا طلحة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب، ولا صورة» . وقال ابن عقيل: يكره وليس بمحرم، لأن في سياق الحديث: «إلا رقم في ثوب» متفق عليه.
فصل:
ويكره اشتمال الصماء، لما روى أبو سعيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «نهى عن اشتمال
الصماء» . رواه البخاري. ومعنى الصماء: أن يجعل الرداء تحت كتفه الأيمن، ويرد طرفيه على الأيسر، فيبقى منكبه الأيمن مكشوفاً.
وعنه: إنما نهي عنه إذا لم يكن عليه إزار فيبدو فرجه، أما إذا كان عليه إزار فتلك لبسة المحرم، لا بأس بها.
ويكره إسبال القميص والإزار والسراويل اختيالاً، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه» متفق عليه.
ويكره تغطية الفم في الصلاة، لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نهى عن السدل في الصلاة، وأن يغطي الرجل فاه» . رواه أبو داود.
ويكره شد الوسط بما يشبه شد الزنار، لما فيه من التشبه بالنصارى، فأما شده بغير ذلك، فلا بأس به. ويكره لف الكم، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ولا أكف شعراً ولا ثوباً» متفق عليه.
وهو الشرط الثالث للصلاة، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» رواه أبو داود. وعورة الرجل ما بين سرته وركبتيه لما روى أبو أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسفل السرة وفوق الركبتين من العورة» رواه أبو بكر بإسناده. وعن جرهد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «غط فخذك فإن الفخذ من العورة» رواه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المسند، وليست السرة والركبة من العورة، لما ذكرنا.
وعنه: أنها الفرجان، لما روى أنس أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر حسر الإزار عن فخذه حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه البخاري. وعورة الحر والعبد سواء، لعموم الأحاديث.
فصل:
والمرأة كلها عورة إلا الوجه، وفي الكفين روايتان: لقول الله تعالى:
{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]
قال ابن عباس: وجهها وكفيها، ولأنه يحرم ستر الوجه في الإحرام، وستر الكفين بالقفازين، ولو كانا عورة، لم يحرم سترهما.
والثانية: أن الكفين عورة لأن المشقة لا تلحق في سترهما فأشبها سائر بدنها، وما عدا هذا عورة؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» وعن أم سلمة قالت: «يا رسول الله تصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار؟ فقال: نعم إذا كان سابغاً يغطي ظهور قدميها» رواه أبو داود.
فصل:
وما يظهر غالباً من الأمة، كالرأس واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الركبتين، ليس بعورة، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نهى الأمة عن التقنع والتشبه بالحرائر، قال القاضي في الجامع: وما عدا ذلك عورة، لأنه لا يظهر غالباً، أشبه ما تحت السرة.
وقال ابن حامد: عورتها كعورة الرجل، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا زوج أحدكم أمته عبده أو أجيره فلا ينظر إلى شيء من عورته، فإن ما تحت السرة إلى الركبة عورة يريد عورة الأمة» ، رواه الدارقطني. ولأنه من لم يكن رأسه عورة لم يكن صدره عورة، كالرجل والمدبرة والمعلق عتقها بصفة كالقن، لأنهما مثلها في البيع وغيره. وأم الولد والمعتق بعضها كذلك، لأن الرق باق فيهما إلا أنه يستحب لهما التستر، لما فيهما من شبه الأحرار.
وعنه: أنها كالحرة لذلك.
فصل:
ويجب ستر العورة بما يستر لون البشرة من الثياب أو الجلود أو غيرها، فإن وصف لون البشرة، لم يعتد به. لأنه ليس بساتر. ويجب أن يجعل على عاتقه شيئاً من اللباس في الصلاة المفروضة، لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يصلي الرجل في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء» متفق عليه. فإن ترك عليه شيئاً من اللباس أجزأه وإن لم يسترها؛ استدلالاً بمفهوم الحديث. وقال القاضي: ستر المنكبين واجب في الفرض، وقيل: يجزئه وضع خيط، وظاهر الحديث يدل على ما ذكرناه.
فصل:
ويستحب للرجل أن يصلي في قميص ورداء أو إزار وسراويل، لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو قال: قال عمر: «إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما» . رواه أبو داود. فإن اقتصر على ثوب واحد أجزأه؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في ثوب واحد» . متفق عليه. والقميص أولى من الرداء، لأنه أعم في الستر، فإن كان واسع الجيب ترى منه عورته، لم يجزئه، لما روى سلمة بن الأكوع قال: قلت: «يا رسول الله إنا نصيد أفنصلي في القميص الواحد؟ قال: نعم وازرره ولو بشوكة» حديث حسن. فإن كان ذا لحية تسد جيبه فلا ترى عورته جاز. وإن صلى في رداء، وكان واسعاً، التحف به. وإن كان
ضيقاً خالف بين طرفيه على منكبيه، كالقصار، لما روى عمر بن أبي سلمة قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في ثوب واحد، قد ألقى طرفيه على عاتقيه» . متفق عليه. وإن لم يجد ما يستر عورته أو منكبيه، ستر عورته، لما روى جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان الثوب واسعاً، فالتحف به، وإن كان ضيقاً فاتزر به» رواه البخاري.
ويستحب للمرأة أن تصلي في درع وخمار وجلباب تلتحف به، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: تصلي المرأة في ثلاثة أثواب: درع وخمار وإزار. وإن صلت في درع وخمار يستر جميع بدنها أجزأ، لما روينا من حديث أم سلمة وقد روي عن أم سلمة وميمونة أنهما كانا يصليان في درع وخمار، ليس عليهما أزار. رواه مالك.
فصل:
فإن عدم السترة، وأمكنه الاستتار بحشيش بربطه عليه، أو ورق، لزمه، لأنه ساتر للبشرة، أشبه الثياب. وإن وجد طيناً لم يلزمه أن يطين عورته، لأنه يلوثه ولا يغيب الخلقة. وإن وجد بارية تؤذي جسمه، ويدخل القصب فيه، لم يلزمه لبسها، لما فيه من الضرر. وإن وجد ماء لم يلزمه النزول فيه، وإن كان كدر، لأنه ليس يستره، ويمنعه التمكن من الصلاة.
فصل:
فإن لم يجد إلا ما يستر بعض العورة ستر الفرجين، لأنهما أغلظ، وإن لم يكف إلا أحدها ستر الدبر في أحد الوجهين لأنه أفحش، وفي الآخر القبل، لأنه به يستقبل القبلة، والدبر يستتر بالأليتين، وأيهما ستر أجزأه.
فصل:
فإن عدم بكل حال صلى عرياناً جالساً يومئ بالسجود، لأنه يحصل به ستر أغلظ العورة , وهو آكد لما ذكرناه، وعنه يصلي قائماً ويركع ويسجد لأن المحافظة على ثلاثة أركان أولى من المحافظة على بعض شرط. يصلي العراة جماعة صفاً واحداً لئلا يرى
بعضهم عورات بعض، ويقوم إمامهم في وسطهم ليكون أستر له، فإن لم يسعهم صف واحد صلوا صفين وغضوا أبصارهم، فإن كان فيهم نساء صلى كل نوع لأنفسهم، فإن ضاق المكان صلى الرجال واستدبرهم النساء ثم صلى النساء واستدبرهن الرجال.
فصل:
وإن وجد السترة بعد الصلاة لم يعد لأنه شرط للصلاة عجز عنه، أشبه القبلة، وإن وجدها في أثناء الصلاة قريبة، ستر وبنى، لأنه عمل قليل، وإن كانت بعيدة بطلت صلاته لأنه يفتقر إلى عمل كثير. وإن عتقت الأمة في الصلاة وهي مكشوفة الرأس فكذلك، فإن لم تعلم حتى صلت أعادت، كما لو بدت عورتها ولم تعلم بها.
فصل:
إذا كان معهم ثوب لأحدهم لزمته الصلاة فيه، فإن آثر غيره وصلى عرياناً لم تصح لأنه قادر على السترة، فإذا صلى استحب أن يعيره لرفقته، فإن لم يفعل لم يغصب لأن صلاتهم تصح بدونه. وإن أعاره لواحد لزمه قبوله وصار بمنزلته لأن المنة لا تلحق به، ولو وهبه له لم يلزمه قبوله، لأن فيه منة، فإن أعاره لجميعهم صلى فيه واحد بعد واحد إلا أن يخاف ضيق الوقت، فيصلي فيه واحد والباقون عراة. ويستحب أن يعيره لمن يصلح لإمامتهم حتى يؤمهم، ويقوم بين أيديهم فإن أعاره لغيره، جاز.
قال القاضي: ويصلي وحده، لأنه قادر على شرط الصلاة، فلم يجز أن يأتم بالعاجز عنه، كالمعافى يأتم بمن به سلس البول.
وإن صلى في عمامة محرمة، أو خاتم ذهب، صحت صلاته، لأن النهي لا يعود إلى شرط الصلاة.
ولا بأس في صلاة المرأة في الحرير والذهب، لحله لها. ولا بأس بلبس الرجل الخز، لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لبسوه. ومن لم يجد إلا ثوب حرير، صلى فيه، ولا يعيد، لأنه مباح له في تلك الحال، ويباح علم الحرير في الثوب إذا كان أربع أصابع فما دون لما روى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحرير إلا موضع إصبعين، أو ثلاث أو أربع» . حديث صحيح.
وقال أبو بكر: يباح وإن كان مذهباً، وكذلك الرقاع، ولبنة الجيب، وسجف الفراء، وما نسج من الحرير وغيره، جاز لبسه إذا قل الحرير عن النصف، لما روي عن ابن عباس أنه قال: «إنما نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الثوب المصمت، أما العلم وسدى الثوب، فليس به بأس» . رواه أبو داود. وإن زاد على النصف حرم لأن الحكم للأغلب، وإن استويا ففيه وجهان:
أحدهما: إباحته للخبر.
والثاني: تحريمه، لعموم خبر التحريم.
ويباح لبس الحرير للقمل والحكة، لأن أنساً روى أن «عبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام شكوا القمل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرخص لهما في قميص الحرير» . متفق عليه.
وعنه: لا يباح، لعموم التحريم، واحتمال اختصاصهم بذلك. وهل يباح لبسه في الحرب، فيه روايتان:
إحداهما: لا يجوز لعموم الخبر.
والثانية: يجوز، لأن المنع منه للخيلاء، وهي غير مذمومة في الحرب، وكان لعروة يلمق من ديباج، بطانته من سندس، يلبسه في الحرب.
وليس لولي الصبي أن يلبسه الحرير، لأنه ذكر فيدخل في عموم الخبر.
وعنه: يباح، لأن الصبي غير مكلف، فأشبه ما لو ألبسه الدابة.
فصل:
ويكره للرجل لبس المزعفر والمعصفر. لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى أن يتزعفر الرجل» . متفق عليه. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهاني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لباس المعصفر» . رواه مسلم. ولا بأس بذلك للنساء. فأما ما عليه صور الحيوان فقال أبو الخطاب: يحرم لبسه، لأن أبا طلحة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب، ولا صورة» . وقال ابن عقيل: يكره وليس بمحرم، لأن في سياق الحديث: «إلا رقم في ثوب» متفق عليه.
فصل:
ويكره اشتمال الصماء، لما روى أبو سعيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «نهى عن اشتمال
الصماء» . رواه البخاري. ومعنى الصماء: أن يجعل الرداء تحت كتفه الأيمن، ويرد طرفيه على الأيسر، فيبقى منكبه الأيمن مكشوفاً.
وعنه: إنما نهي عنه إذا لم يكن عليه إزار فيبدو فرجه، أما إذا كان عليه إزار فتلك لبسة المحرم، لا بأس بها.
ويكره إسبال القميص والإزار والسراويل اختيالاً، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه» متفق عليه.
ويكره تغطية الفم في الصلاة، لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نهى عن السدل في الصلاة، وأن يغطي الرجل فاه» . رواه أبو داود.
ويكره شد الوسط بما يشبه شد الزنار، لما فيه من التشبه بالنصارى، فأما شده بغير ذلك، فلا بأس به. ويكره لف الكم، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ولا أكف شعراً ولا ثوباً» متفق عليه.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب استقبال القبلة]
[باب استقبال القبلة]
وهو الشرط الرابع للصلاة، لقول الله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] . والناس في القبلة على ضربين:
منهم من يلزمه إصابة العين، وهو المعاين للكعبة.
أو من بمكة أو قريباً منها من وراء حائل، فمتى علم أنه مستقبل الكعبة عمل بعلمه، وإن لم يعلم كالأعمى، والغريب بمكة، أجزأه الخبر عن يقين، أو مشاهدة أنه مصل إلى عين الكعبة.
الثاني: من فرضه إصابة جهة الكعبة، وهو البعيد عنها فلا يلزمه إصابة العين، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» . قال الترمذي: هذا حديث صحيح. ولأن الإجماع انعقد على صحة صلاة الاثنين المتباعدين، يستقبلان قبلة واحدة، ولا يمكن أن يصيب العين إلا أحدهما، وهذا ينقسم ثلاثة أقسام:
أحدها: الحاضر في قرية أو من يجد من يخبره عن يقين، ففرضه التوجه إلى محاريبهم أو الرجوع إلى خبرهم، لأن هذا بمنزلة النص، فلا يجوز الرجوع إلى الاجتهاد معه، كالحاكم إذا وجد النص.
الثاني: من عدم ذلك، وهو عارف بأدلة القبلة، ففرضه الاجتهاد، لأن له طريقاً إلى معرفتها بالاجتهاد، فلزمه ذلك، كالعالم في الحادثة.
الثالث: من عجز عن ذلك، لعدم بصره أو بصيرته، أو لرمد أو حبس، ففرضه تقليد المجتهد، لأنه عجز عن معرفة الصواب باجتهاده، فلزمه التقليد، كالعامي في الأحكام، وإن أمكنه تعرف الأدلة، والاستدلال بها قبل خروج الوقت، لزمه ذلك، لأنه قدر على التوجه باجتهاد نفسه، فلم يجز له تقليد غيره كالعالم، فإن اختلف مجتهدان قلد العامي أوثقهما عنده، فإن قلد الآخر احتمل أن يجوز، لأنه دليل مع عدم غيره، فكذلك مع وجوده، واحتمل أن لا يجوز، لأنه عمل بما يغلب على ظنه خطؤه، فأشبه المجتهد إذا خالف جهة ظنه، فإن استويا عنده، قلد من شاء منهما كالعامي في الأحكام.
فصل:
ومن ترك فرضه في الاستقبال وصلى، لم تصح صلاته، وإن أصاب؛ لأنه تارك لفرضه، فأشبه ما لو أخطأ، وإن أتى بفرضه فبان أنه أخطأ، وكان في الحضر، أعاد، لأن ذلك لا يكون إلا لتفريط، وإن كان مسافراً لم يعده، لأنه أتى بما أمر من غير تفريط، فلم تلزمه إعادة، كما لو أصاب. وإن بان له الخطأ في الصلاة، استقبل جهة القبلة، وبنى على صلاته، لأن «أهل قباء بلغهم تحويل القبلة، وهم في الصلاة، فاستداروا إليها، وأتموا صلاتهم» . متفق عليه. وإن اختلف اجتهاد رجلين، لم يجز لأحدهما
الائتمام بصاحبه، لأنه يعتقد خطأه، وإن اتفق اجتهادهما فصليا جميعاً، فبان الخطأ لأحدهما، استدار وحده، ونوى كل واحد منهما مفارقة صاحبه، فإن كان معهما مقلد تبع الذي قلده منهما، فدار بدورانه، وأقام بإقامته، وإن قلدهما جميعاً لم يدر إلا بدورانهما لأنه دخل في الصلاة بظاهر، فلا يزول إلا بمثله. وإن تغير اجتهاده في الصلاة رجع إليه كما لو بان له الخطأ، نص عليه لأنه مجتهد أداه اجتهاده إلى جهة، فلم يجز له تركها. وقال ابن أبي موسى: لا يرجع ويبني على الأول كيلا ينقض اجتهاده باجتهاده، والأول أولى. وإن شك في الصلاة مضى على ما هو عليه لأنه دخل فيها بظاهر فلا يزول عنه بالشك. وإن تبين له الخطأ، ولم يعلم جهة القبلة، فسدت صلاته، لأنه لا يمكن إتمامها إلى جهة يعلم الخطأ فيها، ولا التوجه إلى جهة أخرى بغير دليل، وإن صلى بالاجتهاد، ثم أراد صلاة أخرى لزمه الاجتهاد لها، كالحاكم إذا اجتهد في حادثة، ثم حدثت مرة أخرى.
فصل:
فإن خفيت الأدلة على المجتهد بغيم أو غيره، صلى على حسب حاله، ولا إعادة عليه، لما روى عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال: «كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزل قَوْله تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] » رواه ابن ماجة والترمذي. ولأنه أتى بما أمر به فأشبه المجتهد مع ظهور الأدلة. وإن لم يجد المقلد من يقلده صلى، وفي الإعادة روايتان:
إحداهما: لا يعيد، لما ذكرنا.
والثاني: يعيد، لأنه صلى بغير دليل.
وقال ابن حامد: إن أخطأ أعاد وإلا ففيها وجهان.
ويجوز للأعمى الاستدلال باللمس، فإذا لمس المحراب جاز له استقباله لأنه يحصل بذلك العلم، فأشبه البصير، فإن شرع في الصلاة بخبر غيره، فأبصر في أثنائها وهو ممن فرضه الخبر، بنى على صلاته، لأن فرضه لم يتغير، وإن كان فرضه الاجتهاد فشاهد ما يدل على القبلة من شمس أو محراب أو نحوه، أتم صلاته، وإن لم يشاهد
شيئاً وكان قلد مجتهداً فسدت صلاته لأن فرضه الاجتهاد، فلا تجوز صلاته باجتهاد غيره.
فصل:
ولا يقبل خبر كافر ولا فاسق ولا صبي ولا مجنون، لما تقدم، ويقبل خبر من سواهم من الرجال والنساء والعبيد والأحرار، لأنه خبر من أخبار الديانة فأشبه الرواية، وإن رأى محاريب لا يعلم أهي للمسلمين أم لغيرهم؟ لم يلتفت إليها لأنه لا دلالة له فيها.
فصل:
والمجتهد في القبلة العالم بأدلتها وإن كان عامياً، ومن لا يعرفها، فهو مقلد وإن كان فقيهاً، فإن من علم دليل شيء كان مجتهداً فيه، وأوثق أدلتها النجوم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] ، وآكدها القطب، وهو نجم خفي حوله أنجم دائرة كفراشة الرحى إحدى طرفيها الفرقدان. وفي طرفها الآخر الجدي، وبين ذلك أنجم صغار ثلاثة من فوق وثلاثة من أسفل، تدور هذه الفراشة حول القطب دوران الرحى حول قطبها في كل يوم وليلة دورة، وحول الفراشة بنات نعش مما يلي الفرقدين، وهي سبعة أنجم متفرقة مضيئة، والقطب في وسط الفراشة لا يبرح مكانه، إذا جعله إنسان وراء ظهره في الشام، كان مستقبلاً للكعبة، وإن استدبر الفرقدين أو الجدي كان مستقبلاً للجهة، وكذلك بنات نعش، إلا أن انحرافه يكون أكثر، والشمس والقمر ومنازلهما، وهي ثمانية وعشرون منزلاً تطلع كلها من المشرق، وتغرب من المغرب، يكون في طلوعها على ميسرة المصلي، وفي غروبها عن يمينه.
ويستدل من الرياح بأربع تهب من زوايا السماء، الدبور تهب مما بين المغرب والقبلة، مستقبلة شطر وجه المصلي الأيمن، والصبا مقابلتها تهب من ظهره إلى كتفه اليسرى مارة إلى مهب الدبور، والجنوب تهب مما بين المشرق والقبلة مارة إلى الزاوية المقابلة لها، والشمال تهب من مقابلتها مارة إلى مهب الجنوب.
فصل:
ويسقط الاستقبال في ثلاثة مواضع:
أحدها: عند العجز لكونه مربوطاً إلى غير القبلة، يصلي على حسب حاله، لأنه فرض عجز عنه أشبه القيام.
والثاني: في شدة الخوف مثل حال التحام الحرب، والهرب المباح من عدو أو سيل أو سبع لا يمكنه التخلص منه إلا بالهرب، فيجوز له ترك القبلة، ويصلي حيث أمكنه راجلاً وراكباً، لقول الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] . قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مستقبلي القبلة وغير مستقبليها» رواه البخاري.
ولأنه عاجز عن الاستقبال، فأشبه المربوط، فإن كان طالباً للعدو يخاف فوته، ففيه روايتان:
إحداهما: يجوز له صلاة الخائف كالمطلوب، لأن عبد الله بن أنيس قال: «بعثني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى سفيان بن خالد الهذلي لأقتله، فانطلقت أمشي فحضرت العصر، وأنا أصلي أومئ إيماء نحوه» . رواه أبو داود، وظاهره أنه أخبر بذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم ينكره. وقال الأوزاعي: قال شرحبيل بن حسنة: لا تصلوا الصبح إلا على ظهر، فنزل الأشتر فصلى على الأرض، فمر به شرحبيل، فقال: مخالف خالف الله به، فخرج الأشتر في الفتنة. ولأنها إحدى حالتي الخوف، فأشبهت حالة المطلوب.
والثانية: لا يجوز، لأنه آمن.
الثالث: النافلة في السفر، فإن كان راكباً، فله الصلاة على دابته، لما روى ابن عمر أن «رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه، يومئ برأسه، وكان يوتر على بعيره» . متفق عليه. وكان يصلي على حماره، ولا فرق بين السفر الطويل والقصير، لأن ذلك تخفيف في التطوع كيلا يؤدي إلى قطعه وتقليله، فيستوي فيه الطويل والقصير، فإن أمكنه الاستقبال والركوع والسجود، كالذي في العمارية، لزمه ذلك، لأنه كراكب السفينة، ويحتمل أن لا يلزمه، لأن الرخصة العامة يستوي فيها ذو الحاجة وغيره. وإن شق عليه، صلى حيث كان وجهه يومئ بالركوع والسجود، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه، وإن شق عليه استقبال القبلة في تكبيرة الإحرام كراكب
الجمل المقطور لا يمكنه إدارته، لم يلزمه. وإن كان سهلاً ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه ذلك، اختاره الخرقي، لأنه أمكنه الاستقبال في ابتداء الصلاة، فلزمه كالماشي.
والثاني: لا يلزمه، اختاره أبو بكر، لأنه جزء من الصلاة، فأشبه سائرها، فإن عدلت به البهيمة عن جهة مقصده إلى جهة القبلة، جاز لأنها الأصل، وإن عدلت إلى غيرها، وهو عالم بذلك مختار له، بطلت صلاته، لأنه ترك قبلته لغير عذر. وإن ظنها طريقه أو غلبته الدابة، لم تبطل.
فأما الماشي ففيه روايتان:
إحداهما: له الصلاة حيث توجه لأنها إحدى حالتي سير المسافر، فأشبه الراكب، لكنه يلزمه الركوع والسجود على الأرض، مستقبلاً لإمكان ذلك.
والثانية: لا يجوز، وهو ظاهر قول الخرقي، لأن الرخصة وردت في الراكب، والماشي يخالفه، لأنه يأتي في الصلاة يمشي وذلك عمل كثير، فإن دخل المسافر في طريقه بلداً جاز أن يصلي فيه، وإن كان في البلد الذي يقصده، أتم صلاته ولم يبتدئ فيه صلاة.
وهو الشرط الرابع للصلاة، لقول الله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] . والناس في القبلة على ضربين:
منهم من يلزمه إصابة العين، وهو المعاين للكعبة.
أو من بمكة أو قريباً منها من وراء حائل، فمتى علم أنه مستقبل الكعبة عمل بعلمه، وإن لم يعلم كالأعمى، والغريب بمكة، أجزأه الخبر عن يقين، أو مشاهدة أنه مصل إلى عين الكعبة.
الثاني: من فرضه إصابة جهة الكعبة، وهو البعيد عنها فلا يلزمه إصابة العين، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» . قال الترمذي: هذا حديث صحيح. ولأن الإجماع انعقد على صحة صلاة الاثنين المتباعدين، يستقبلان قبلة واحدة، ولا يمكن أن يصيب العين إلا أحدهما، وهذا ينقسم ثلاثة أقسام:
أحدها: الحاضر في قرية أو من يجد من يخبره عن يقين، ففرضه التوجه إلى محاريبهم أو الرجوع إلى خبرهم، لأن هذا بمنزلة النص، فلا يجوز الرجوع إلى الاجتهاد معه، كالحاكم إذا وجد النص.
الثاني: من عدم ذلك، وهو عارف بأدلة القبلة، ففرضه الاجتهاد، لأن له طريقاً إلى معرفتها بالاجتهاد، فلزمه ذلك، كالعالم في الحادثة.
الثالث: من عجز عن ذلك، لعدم بصره أو بصيرته، أو لرمد أو حبس، ففرضه تقليد المجتهد، لأنه عجز عن معرفة الصواب باجتهاده، فلزمه التقليد، كالعامي في الأحكام، وإن أمكنه تعرف الأدلة، والاستدلال بها قبل خروج الوقت، لزمه ذلك، لأنه قدر على التوجه باجتهاد نفسه، فلم يجز له تقليد غيره كالعالم، فإن اختلف مجتهدان قلد العامي أوثقهما عنده، فإن قلد الآخر احتمل أن يجوز، لأنه دليل مع عدم غيره، فكذلك مع وجوده، واحتمل أن لا يجوز، لأنه عمل بما يغلب على ظنه خطؤه، فأشبه المجتهد إذا خالف جهة ظنه، فإن استويا عنده، قلد من شاء منهما كالعامي في الأحكام.
فصل:
ومن ترك فرضه في الاستقبال وصلى، لم تصح صلاته، وإن أصاب؛ لأنه تارك لفرضه، فأشبه ما لو أخطأ، وإن أتى بفرضه فبان أنه أخطأ، وكان في الحضر، أعاد، لأن ذلك لا يكون إلا لتفريط، وإن كان مسافراً لم يعده، لأنه أتى بما أمر من غير تفريط، فلم تلزمه إعادة، كما لو أصاب. وإن بان له الخطأ في الصلاة، استقبل جهة القبلة، وبنى على صلاته، لأن «أهل قباء بلغهم تحويل القبلة، وهم في الصلاة، فاستداروا إليها، وأتموا صلاتهم» . متفق عليه. وإن اختلف اجتهاد رجلين، لم يجز لأحدهما
الائتمام بصاحبه، لأنه يعتقد خطأه، وإن اتفق اجتهادهما فصليا جميعاً، فبان الخطأ لأحدهما، استدار وحده، ونوى كل واحد منهما مفارقة صاحبه، فإن كان معهما مقلد تبع الذي قلده منهما، فدار بدورانه، وأقام بإقامته، وإن قلدهما جميعاً لم يدر إلا بدورانهما لأنه دخل في الصلاة بظاهر، فلا يزول إلا بمثله. وإن تغير اجتهاده في الصلاة رجع إليه كما لو بان له الخطأ، نص عليه لأنه مجتهد أداه اجتهاده إلى جهة، فلم يجز له تركها. وقال ابن أبي موسى: لا يرجع ويبني على الأول كيلا ينقض اجتهاده باجتهاده، والأول أولى. وإن شك في الصلاة مضى على ما هو عليه لأنه دخل فيها بظاهر فلا يزول عنه بالشك. وإن تبين له الخطأ، ولم يعلم جهة القبلة، فسدت صلاته، لأنه لا يمكن إتمامها إلى جهة يعلم الخطأ فيها، ولا التوجه إلى جهة أخرى بغير دليل، وإن صلى بالاجتهاد، ثم أراد صلاة أخرى لزمه الاجتهاد لها، كالحاكم إذا اجتهد في حادثة، ثم حدثت مرة أخرى.
فصل:
فإن خفيت الأدلة على المجتهد بغيم أو غيره، صلى على حسب حاله، ولا إعادة عليه، لما روى عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال: «كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزل قَوْله تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] » رواه ابن ماجة والترمذي. ولأنه أتى بما أمر به فأشبه المجتهد مع ظهور الأدلة. وإن لم يجد المقلد من يقلده صلى، وفي الإعادة روايتان:
إحداهما: لا يعيد، لما ذكرنا.
والثاني: يعيد، لأنه صلى بغير دليل.
وقال ابن حامد: إن أخطأ أعاد وإلا ففيها وجهان.
ويجوز للأعمى الاستدلال باللمس، فإذا لمس المحراب جاز له استقباله لأنه يحصل بذلك العلم، فأشبه البصير، فإن شرع في الصلاة بخبر غيره، فأبصر في أثنائها وهو ممن فرضه الخبر، بنى على صلاته، لأن فرضه لم يتغير، وإن كان فرضه الاجتهاد فشاهد ما يدل على القبلة من شمس أو محراب أو نحوه، أتم صلاته، وإن لم يشاهد
شيئاً وكان قلد مجتهداً فسدت صلاته لأن فرضه الاجتهاد، فلا تجوز صلاته باجتهاد غيره.
فصل:
ولا يقبل خبر كافر ولا فاسق ولا صبي ولا مجنون، لما تقدم، ويقبل خبر من سواهم من الرجال والنساء والعبيد والأحرار، لأنه خبر من أخبار الديانة فأشبه الرواية، وإن رأى محاريب لا يعلم أهي للمسلمين أم لغيرهم؟ لم يلتفت إليها لأنه لا دلالة له فيها.
فصل:
والمجتهد في القبلة العالم بأدلتها وإن كان عامياً، ومن لا يعرفها، فهو مقلد وإن كان فقيهاً، فإن من علم دليل شيء كان مجتهداً فيه، وأوثق أدلتها النجوم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] ، وآكدها القطب، وهو نجم خفي حوله أنجم دائرة كفراشة الرحى إحدى طرفيها الفرقدان. وفي طرفها الآخر الجدي، وبين ذلك أنجم صغار ثلاثة من فوق وثلاثة من أسفل، تدور هذه الفراشة حول القطب دوران الرحى حول قطبها في كل يوم وليلة دورة، وحول الفراشة بنات نعش مما يلي الفرقدين، وهي سبعة أنجم متفرقة مضيئة، والقطب في وسط الفراشة لا يبرح مكانه، إذا جعله إنسان وراء ظهره في الشام، كان مستقبلاً للكعبة، وإن استدبر الفرقدين أو الجدي كان مستقبلاً للجهة، وكذلك بنات نعش، إلا أن انحرافه يكون أكثر، والشمس والقمر ومنازلهما، وهي ثمانية وعشرون منزلاً تطلع كلها من المشرق، وتغرب من المغرب، يكون في طلوعها على ميسرة المصلي، وفي غروبها عن يمينه.
ويستدل من الرياح بأربع تهب من زوايا السماء، الدبور تهب مما بين المغرب والقبلة، مستقبلة شطر وجه المصلي الأيمن، والصبا مقابلتها تهب من ظهره إلى كتفه اليسرى مارة إلى مهب الدبور، والجنوب تهب مما بين المشرق والقبلة مارة إلى الزاوية المقابلة لها، والشمال تهب من مقابلتها مارة إلى مهب الجنوب.
فصل:
ويسقط الاستقبال في ثلاثة مواضع:
أحدها: عند العجز لكونه مربوطاً إلى غير القبلة، يصلي على حسب حاله، لأنه فرض عجز عنه أشبه القيام.
والثاني: في شدة الخوف مثل حال التحام الحرب، والهرب المباح من عدو أو سيل أو سبع لا يمكنه التخلص منه إلا بالهرب، فيجوز له ترك القبلة، ويصلي حيث أمكنه راجلاً وراكباً، لقول الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] . قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مستقبلي القبلة وغير مستقبليها» رواه البخاري.
ولأنه عاجز عن الاستقبال، فأشبه المربوط، فإن كان طالباً للعدو يخاف فوته، ففيه روايتان:
إحداهما: يجوز له صلاة الخائف كالمطلوب، لأن عبد الله بن أنيس قال: «بعثني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى سفيان بن خالد الهذلي لأقتله، فانطلقت أمشي فحضرت العصر، وأنا أصلي أومئ إيماء نحوه» . رواه أبو داود، وظاهره أنه أخبر بذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم ينكره. وقال الأوزاعي: قال شرحبيل بن حسنة: لا تصلوا الصبح إلا على ظهر، فنزل الأشتر فصلى على الأرض، فمر به شرحبيل، فقال: مخالف خالف الله به، فخرج الأشتر في الفتنة. ولأنها إحدى حالتي الخوف، فأشبهت حالة المطلوب.
والثانية: لا يجوز، لأنه آمن.
الثالث: النافلة في السفر، فإن كان راكباً، فله الصلاة على دابته، لما روى ابن عمر أن «رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه، يومئ برأسه، وكان يوتر على بعيره» . متفق عليه. وكان يصلي على حماره، ولا فرق بين السفر الطويل والقصير، لأن ذلك تخفيف في التطوع كيلا يؤدي إلى قطعه وتقليله، فيستوي فيه الطويل والقصير، فإن أمكنه الاستقبال والركوع والسجود، كالذي في العمارية، لزمه ذلك، لأنه كراكب السفينة، ويحتمل أن لا يلزمه، لأن الرخصة العامة يستوي فيها ذو الحاجة وغيره. وإن شق عليه، صلى حيث كان وجهه يومئ بالركوع والسجود، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه، وإن شق عليه استقبال القبلة في تكبيرة الإحرام كراكب
الجمل المقطور لا يمكنه إدارته، لم يلزمه. وإن كان سهلاً ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه ذلك، اختاره الخرقي، لأنه أمكنه الاستقبال في ابتداء الصلاة، فلزمه كالماشي.
والثاني: لا يلزمه، اختاره أبو بكر، لأنه جزء من الصلاة، فأشبه سائرها، فإن عدلت به البهيمة عن جهة مقصده إلى جهة القبلة، جاز لأنها الأصل، وإن عدلت إلى غيرها، وهو عالم بذلك مختار له، بطلت صلاته، لأنه ترك قبلته لغير عذر. وإن ظنها طريقه أو غلبته الدابة، لم تبطل.
فأما الماشي ففيه روايتان:
إحداهما: له الصلاة حيث توجه لأنها إحدى حالتي سير المسافر، فأشبه الراكب، لكنه يلزمه الركوع والسجود على الأرض، مستقبلاً لإمكان ذلك.
والثانية: لا يجوز، وهو ظاهر قول الخرقي، لأن الرخصة وردت في الراكب، والماشي يخالفه، لأنه يأتي في الصلاة يمشي وذلك عمل كثير، فإن دخل المسافر في طريقه بلداً جاز أن يصلي فيه، وإن كان في البلد الذي يقصده، أتم صلاته ولم يبتدئ فيه صلاة.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب اشتراط دخول الوقت لصحة الصلاة]
[باب اشتراط دخول الوقت لصحة الصلاة]
باب في الشرط الخامس: وهو الوقت وقد ذكرنا أوقات المكتوبات، ولا تصح الصلاة قبل وقتها بغير خلاف، فإن أحرم بها فبان أنه لم يدخل وقتها، انقلبت نفلاً، لأنه لما بطلت نية الفريضة، بقيت نية الصلاة. ووقت سنة كل صلاة مكتوبة متقدمة عليها من دخول وقتها إلى فعلها، ووقت التي بعدها من فعلها إلى آخر وقتها، فأما النوافل المطلقة، فجميع الزمان وقت لها إلا خمسة أوقات، بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد طلوعها حتى ترتفع قيد رمح، وعند قيامها حتى تنزل، وبعد العصر حتى تتضيف الشمس للغروب، وإذا تضيفت حتى تغرب، فلا يجوز التطوع في هذه الأوقات بصلاة لا سبب لها، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس» متفق عليه. وروى عقبة بن عامر قال: «ثلاث ساعات، كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهانا أن نصلي
فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول، وحين تضيف الشمس للغروب» . رواه مسلم. والنهي عما بعد العصر يتعلق بالفعل، فلو لم يصل فله التنفل، وإن صلى غيره، لأن لفظ العصر بإطلاقه ينصرف إلى الصلاة. وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما بعد الصبح مثل ذلك، لأنها إحدى الصلاتين، فكان النهي متعلقاً بفعلها، كالعصر. والمشهور في المذهب أنه متعلق بالوقت، لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليبلغ الشاهد الغائب أن لا تصلوا بعد الفجر إلا سجدتين» . رواه أبو داود. وسواء في هذا مكة، ويوم الجمعة وغيرهما، لعموم النهي في الجميع.
فصل:
ويجوز قضاء المكتوبات في كل وقت، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» متفق عليه. وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته» ويجوز في وقتين منهما، وهما بعد الفجر، وبعد العصر، الصلاة على الجنازة، لأنهما وقتان طويلان، فالانتظار فيهما يضر بالميت، وركعتا الطواف بعده، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلى في أي ساعة شاء من ليل أو نهار» رواه الشافعي والأثرم. وإعادة الجماعة لما روى يزيد بن الأسود أنه قال: «صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الفجر، فلما قضى صلاته إذا هو برجلين لم يصليا معه، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: يا رسول الله قد صلينا في رحالنا، قال: لا تفعلا، إذا صليتما في رحلكما ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم فإنها لكم نافلة» رواه الأثرم.
فأما فعل هذه الصلوات الثلاث في الأوقات الثلاثة الباقية، ففيها روايتان:
إحداهما: يجوز لعموم الأدلة المجوزة، ولأنها صلاة جازت في بعض أوقات
النهي، فجازت في جميعها، كالقضاء.
والثانية: لا يجوز، لقول عقبة في حديثه: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا» .
وذكر الصلاة مع الدفن ظاهر في الصلاة على الميت، ولأن النهي في هذه الأوقات آكد لتخصيصهن بالنهي في أحاديث، ولأنها أوقات خفيفة، لا يخاف على الميت فيها، ولا يشق تأخير الركوع للطواف فيها بخلاف غيرها.
فصل:
ومتى أعاد المغرب شفعها برابعة نص عليه، لأنها نافلة، ولا يشرع التنفل بوتر في غير الوتر، ومتى أقيمت الصلاة في وقت نهي، وهو خارج من المسجد، لم يستحب له الدخول، فإن دخل صلى معهم، لما روي عن ابن عمر أنه خرج من دار عبد الله بن خالد حتى إذا نظر إلى باب المسجد إذا الناس في الصلاة فلم يزل واقفاً حتى صلى الناس، وقال: إني قد صليت في البيت.
فصل:
فأما سائر الصلوات ذوات الأسباب، كتحية المسجد، وصلاة الكسوف، وسجود التلاوة، وقضاء السنن، ففيها روايتان:
إحداهما: المنع لعموم النهي، ولأنها نافلة، فأشبهت ما لا سبب له.
والثانية: يجوز فعلها، لما روت أم سلمة، قالت: «دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم بعد العصر، فصلى ركعتين، فقلت: يا رسول الله صليت صلاة لم أكن أراك تصليها، فقال: إني كنت أصلي ركعتين بعد الظهر، وإنما قدم وفد بني تميم، فشغلوني عنهما، فهما هاتان الركعتان» رواه مسلم. وعن قيس بن عمر قال: «رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يصلي بعد الصبح ركعتين، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصلاة الصبح مرتين؟ فقال له الرجل: إني لم أكن صليت ركعتين قبلها، فصليتهما الآن، فسكت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
رواه أبو داود. ولأنها صلاة ذات سبب، فأشبهت ركعتي الطواف، والمنصوص عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الوتر أنه يفعله قبل الفجر، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن «الله زادكم صلاة فصلوها ما بين العشاء إلى صلاة الصبح» رواه الأثرم. وقال في ركعتي الفجر: إن صلاهما بعد الفجر أجزأه. قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وأما أنا فأختار تأخيرهما إلى الضحى، لما روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعدما تطلع الشمس» .
باب في الشرط الخامس: وهو الوقت وقد ذكرنا أوقات المكتوبات، ولا تصح الصلاة قبل وقتها بغير خلاف، فإن أحرم بها فبان أنه لم يدخل وقتها، انقلبت نفلاً، لأنه لما بطلت نية الفريضة، بقيت نية الصلاة. ووقت سنة كل صلاة مكتوبة متقدمة عليها من دخول وقتها إلى فعلها، ووقت التي بعدها من فعلها إلى آخر وقتها، فأما النوافل المطلقة، فجميع الزمان وقت لها إلا خمسة أوقات، بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد طلوعها حتى ترتفع قيد رمح، وعند قيامها حتى تنزل، وبعد العصر حتى تتضيف الشمس للغروب، وإذا تضيفت حتى تغرب، فلا يجوز التطوع في هذه الأوقات بصلاة لا سبب لها، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس» متفق عليه. وروى عقبة بن عامر قال: «ثلاث ساعات، كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهانا أن نصلي
فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول، وحين تضيف الشمس للغروب» . رواه مسلم. والنهي عما بعد العصر يتعلق بالفعل، فلو لم يصل فله التنفل، وإن صلى غيره، لأن لفظ العصر بإطلاقه ينصرف إلى الصلاة. وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما بعد الصبح مثل ذلك، لأنها إحدى الصلاتين، فكان النهي متعلقاً بفعلها، كالعصر. والمشهور في المذهب أنه متعلق بالوقت، لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليبلغ الشاهد الغائب أن لا تصلوا بعد الفجر إلا سجدتين» . رواه أبو داود. وسواء في هذا مكة، ويوم الجمعة وغيرهما، لعموم النهي في الجميع.
فصل:
ويجوز قضاء المكتوبات في كل وقت، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» متفق عليه. وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته» ويجوز في وقتين منهما، وهما بعد الفجر، وبعد العصر، الصلاة على الجنازة، لأنهما وقتان طويلان، فالانتظار فيهما يضر بالميت، وركعتا الطواف بعده، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلى في أي ساعة شاء من ليل أو نهار» رواه الشافعي والأثرم. وإعادة الجماعة لما روى يزيد بن الأسود أنه قال: «صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الفجر، فلما قضى صلاته إذا هو برجلين لم يصليا معه، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: يا رسول الله قد صلينا في رحالنا، قال: لا تفعلا، إذا صليتما في رحلكما ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم فإنها لكم نافلة» رواه الأثرم.
فأما فعل هذه الصلوات الثلاث في الأوقات الثلاثة الباقية، ففيها روايتان:
إحداهما: يجوز لعموم الأدلة المجوزة، ولأنها صلاة جازت في بعض أوقات
النهي، فجازت في جميعها، كالقضاء.
والثانية: لا يجوز، لقول عقبة في حديثه: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا» .
وذكر الصلاة مع الدفن ظاهر في الصلاة على الميت، ولأن النهي في هذه الأوقات آكد لتخصيصهن بالنهي في أحاديث، ولأنها أوقات خفيفة، لا يخاف على الميت فيها، ولا يشق تأخير الركوع للطواف فيها بخلاف غيرها.
فصل:
ومتى أعاد المغرب شفعها برابعة نص عليه، لأنها نافلة، ولا يشرع التنفل بوتر في غير الوتر، ومتى أقيمت الصلاة في وقت نهي، وهو خارج من المسجد، لم يستحب له الدخول، فإن دخل صلى معهم، لما روي عن ابن عمر أنه خرج من دار عبد الله بن خالد حتى إذا نظر إلى باب المسجد إذا الناس في الصلاة فلم يزل واقفاً حتى صلى الناس، وقال: إني قد صليت في البيت.
فصل:
فأما سائر الصلوات ذوات الأسباب، كتحية المسجد، وصلاة الكسوف، وسجود التلاوة، وقضاء السنن، ففيها روايتان:
إحداهما: المنع لعموم النهي، ولأنها نافلة، فأشبهت ما لا سبب له.
والثانية: يجوز فعلها، لما روت أم سلمة، قالت: «دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم بعد العصر، فصلى ركعتين، فقلت: يا رسول الله صليت صلاة لم أكن أراك تصليها، فقال: إني كنت أصلي ركعتين بعد الظهر، وإنما قدم وفد بني تميم، فشغلوني عنهما، فهما هاتان الركعتان» رواه مسلم. وعن قيس بن عمر قال: «رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يصلي بعد الصبح ركعتين، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصلاة الصبح مرتين؟ فقال له الرجل: إني لم أكن صليت ركعتين قبلها، فصليتهما الآن، فسكت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
رواه أبو داود. ولأنها صلاة ذات سبب، فأشبهت ركعتي الطواف، والمنصوص عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الوتر أنه يفعله قبل الفجر، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن «الله زادكم صلاة فصلوها ما بين العشاء إلى صلاة الصبح» رواه الأثرم. وقال في ركعتي الفجر: إن صلاهما بعد الفجر أجزأه. قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وأما أنا فأختار تأخيرهما إلى الضحى، لما روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعدما تطلع الشمس» .
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب النية في الصلاة][باب صفة الصلاة]
[باب النية في الصلاة]
باب النية
وهي الشرط السادس، فلا تصح الصلاة إلا بها بغير خلاف، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» ولأنها عبادة محضة، فلم تصح بغير نية، كالصوم. ومحل النية: القلب، فإذا نوى بقلبه أجزأه، وإن لم يلفظ بلسانه. وإن نوى صلاة فسبق لسانه إلى غيرها، لم تفسد صلاته.
والأفضل النية مع تكبيرة الإحرام، لأنها أول الصلاة لتكون النية مقارنة للعبادة، ويستحب استصحاب ذكرها في سائر الصلوات، لأنها أبلغ في الإخلاص، وإن تقدمت النية التكبير بزمن يسير، جاز ما لم يفسخها، لأن أولها من أجزائها، فكفى استصحاب النية فيها كسائر أجزائها. وإن كانت فرضاً لزمه أن ينوي الصلاة بعينها، ظهراً أو عصراً لتتميز عن غيرها. قال ابن حامد: ويلزمه أن ينوي فرضاً، لتتميز عن ظهر الصبي، والمعادة. وقال غيره: لا يلزمه لأن ظهر هذا لا يكون إلا فرضاً، وينوي الأداء في الحاضرة والقضاء في الفائتة، وفي وجوب ذلك وجهان:
أولاهما: أنه لا يجب لأنه لا يختلف المذهب في من صلى في الغيم بالاجتهاد، فبان بعد الوقت أن صلاته صحيحة، وقد نواها أداء، فإن كانت سنة معينة كالوتر ونحوه، لزم تعيينها أيضاً، وإن كانت نافلة مطلقة أجزأته نية الصلاة. ومتى شك في أثناء الصلاة هل نواها أم لا؟ لزمه استئنافها، لأن الأصل عدمها، فإن ذكر أنه نوى قبل أن يحدث شيئاً من أفعال الصلاة أجزأه. وإن فعل شيئا قبل ذكره بطلت صلاته، لأنه فعله شاكاً في صلاته. وإن نوى الخروج من الصلاة بطلت؛ لأن النية شرط في جميع الصلاة وقد قطعها. وإن تردد في قطعها فعلى وجهين:
أحدهما: تبطل لما ذكرنا.
والثاني: لا تبطل، لأنه دخل فيها بنية متيقنة، فلا يخرج منها بالشك.
وإذا نوى في صلاة الظهر ثم قلبها عصراً فسدتا جميعاً، لأنه قطع نية الظهر ولم تصح العصر، لأنه ما نواها عند الإحرام. وإن قلبها نفلاً لعذر، مثل أن يحرم بها منفرداً، فتحضر جماعة فيجعلها نفلاً ليصلي فرضه في الجماعة، صح لأن نية النفل تتضمنها نية الفرض. وإن فعل ذلك لغير غرض كره، وصح قلبها لما ذكرنا، ويحتمل أن لا يصح لما ذكرنا في الظهر والعصر.
[باب صفة الصلاة]
وأركانها خمسة عشر:
القيام وهو واجب في الفرض، لقول الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمران بن حصين: «صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب» رواه البخاري.
فإن كبر للإحرام قاعداً، أو في حال نهوضه إلى القيام، لم يعتد به، لأنه أتى به في غير محله.
ويستحب القيام للمكتوبة عند قول المؤذن: قد قامت الصلاة، لأنه دعاء إلى القيام، فاستحب المبادرة إليه.
ويستحب للإمام تسوية الصفوف، لما روى أنس بن مالك قال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قام إلى الصلاة أخذ بيمينه - يعني عوداً في المحراب - ثم فقال التفت وقال: اعتدلوا سووا صفوفكم، ثم أخذ بيساره، وقال: اعتدلوا سووا صفوفكم» رواه أبو داود.
فصل:
ثم يكبر للإحرام، وهو الركن الثاني، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للمسيء في صلاته: «إذا
قمت إلى الصلاة فكبر» وقال: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» رواه أبو داود. وقال: «لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الوضوء مواضعه، ثم يستقبل القبلة، ويقول: الله أكبر» ولا يجزئه غيره من الذكر، ولا قول: الله أكبر، ولا التكبير بغير العربية، لما ذكرنا، فإن لم يحسن العربية، لزمه التعلم. فإن خشي خروج الوقت، ففيه وجهان:
أحدهما: يكبر بلغته، لأنه عجز عن اللفظ، فلزمه الإتيان بمعناه، كلفظة النكاح.
والثاني: لا يكبر بغير العربية، لأنه ذكر تنعقد به الصلاة، فلم يجز التعبير عنه بغير العربية، كالقراءة، فعلى هذا يكون حكمه حكم الأخرس، فإن عجز عن بعض اللفظ، أو عن بعض الحروف، أتى بما يمكنه، وإن كان أخرس، فعليه تحريك لسانه، لأن ذلك كان يلزمه مع النطق، فإذا عجز عن أحدهما بقي الآخر. ذكره القاضي. ويقوى عندي أن لا يلزمه تحريك لسانه، لأن ذلك إنما وجب على الناطق ضرورة القراءة، وإذا سقطت سقط ما هو من ضرورتها، كالجاهل الذي لا يحسن شيئاً من الذكر، ولأن تحريك لسانه بغير القراءة عبث مجرد، فلا يرد الشرع به، ويبين التكبير، ولا يمططه، فإن مططه تمطيطاً يغير المعنى، مثل أن يمد الهمزة في اسم الله تعالى، فيجعله استفهاماً، أو يمد أكبار، فيزيد ألفاً فيصير جمع كبير. وهو الطبل، لم تجزه، ويجهر بالتكبير إن كان إماماً بقدر ما يسمع من خلفه، وإن لم يكن إماماً بقدر ما يسمع نفسه كالقراءة.
فصل:
ويستحب أن يرفع يده، ممدودة الأصابع، مضموماً بعضها إلى بعض حتى يحاذي بهما منكبيه، أو فروع أذنيه لما روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، ولا يفعل ذلك في السجود» . متفق عليه. ويكون ابتداء الرفع مع ابتداء التكبير، وانتهاؤه مع انتهائه، لأن الرفع للتكبير، فيكون معه فإن سبق رفعه التكبير، أثبتهما حتى يكبر، ولا يحطهما في حال التكبير. وإن لم يرفع حتى فرغ التكبير، لم يرفع لأنه سنة فات
محلها. وإن ذكر في الثانية، رفع لأن محله باق، وإن عجز عن الرفع إلى حذو المنكبين، رفع قدر ما يمكنه، وإن عجز عن رفع إحدى اليدين رفع الأخرى، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» .
فصل:
فإذا فرغ استحب وضع يمينه على شماله، لما روى هلب، قال، «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه» . قال الترمذي: هذا حديث حسن. ويجعلهما تحت السرة، لما روي عن علي أنه قال: «السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة» . رواه أبو داود. وعنه: فوق السرة. وعنه: أنه مخير. ويستحب جعل نظره إلى موضع سجوده، لأنه أخشع للمصلي، وأكف لنظره.
فصل:
ويستحب أن يستفتح. قال أحمد: أما أنا فأذهب إلى ما روي عن عمر - يعني ما رواه الأسود - أنه صلى خلف عمر، فسمعه كبر، فقال: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك» . رواه مسلم. ولو أن رجلاً استفتح ببعض ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الاستفتاح كان حسناً، أو قال: جائزاً. وإنما اختاره أحمد، لأن عائشة وأبا سعيد، قالا: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا استفتح الصلاة، قال ذلك. وعمل به عمر بمحضر من الصحابة، فكان أولى من غيره، وصوب الاستفتاح بغيره مثل ما روى أبو هريرة قال: «قلت: يا رسول الله أرأيت إسكاتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي
بالثلج والماء والبرد» متفق عليه. قال أحمد: ولا يجهر الإمام بالاستفتاح، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجهر به.
فصل:
ثم يستعيذ بالله، فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] . قال ابن المنذر: وجاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «كان يقول قبل القراءة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» .
فصل:
ثم يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ولا يجهر بها، لما روى أنس بن مالك قال: «صليت خلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحداً منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم» . رواه البخاري ومسلم. وفيها روايتان:
إحداهما: أنها آية من الفاتحة، اختارها أبو عبد الله بن بطة، وأبو حفص، لما روت أم سلمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قرأ في الصلاة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وعدها آية، والحمد لله رب العالمين آيتين» ، ولأن الصحابة أثبتوها في المصاحف فيما جمعوا من القرآن، فدل على أنها منها.
والثانية: ليست منها، لما روى أبو هريرة قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال مجدني عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك
نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين
... إلى آخرها، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» رواه مسلم. ولو كانت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ منها لبدأ بها، ولم يتحقق التنصيف، ولأن مواضع الآي كالآي في أنها لا تثبت إلا بالتواتر، ولا تواتر فيما نحن فيه، ومن نسي الاستفتاح حتى شرع في الاستعاذة أو نسي الاستعاذة حتى شرع في البسملة، أو البسملة حتى شرع في الفاتحة على الرواية التي تقول: ليست من الفاتحة، لم يرجع إليها لأنها سنة فات محلها.
فصل:
ثم يقرأ الفاتحة، وهو الركن الثالث في حق الإمام المنفرد، لما روى عبادة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب» متفق عليه.
ولا تجب على المأموم لقول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] . وروى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما لي أنازع القرآن قال: فانتهى الناس أن يقرأوا فيما جهر فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه مالك في الموطأ. ولأنها لو وجبت عليه لم تسقط عن المسبوق، كسائر الأركان لكن إن سمع قراءة الإمام أنصت له، ويقرأ في سكاته وإسراره، لأن مفهوم قوله: فانتهى الناس أن يقرؤوا فيما جهر فيه، أنهم يقرأون في غيره.
وتجب قراءة الفاتحة في كل ركعة، لما روى أبو قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان يقرأ في الأخيرتين بأم الكتاب» . متفق عليه. وروي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم المسيء في صلاته، فقال: «اقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر، ثم قال: اصنع في كل ركعة مثل ذلك» ولأنه ركن لا تفتتح به الصلاة فتكرر في كل ركعة، كالركوع. وعنه: لا تجب إلا في الأوليين، لأنها لو وجبت في غيرهما لسن الجهر بها في بعض الصلوات كالأوليين.
ويجب أن يقرأ الفاتحة مرتبة متوالية، فإن قطع قراءتها بذكر كثير، أو سكوت
طويل عامداً، أعادها وإن فعل ذلك ناسياً، أو كان الذكر أو السكوت يسيراً، أتمها لأن الموالاة لا تفوت بذاك. وإن نوى قطعها، لم تنقطع، لأن القراءة باللسان فلم تنقطع بالنية بخلاف نية الصلاة.
ويأتي فيها بإحدى عشرة تشديدة، فإن أخل بحرف منها أو شدة، لم تصح، لأنه لم يقرأها كلها، والشدة أقيمت مقام حرف، وإن خفف الشدة صح، لأنه كالنطق به مع العجلة.
فصل:
فإذا فرغ منها، قال: آمين، يجهر بها فيما يجهر فيه بالقراءة، لما روى وائل بن حجر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا قال: ولا الضالين قال: آمين، ورفع بها صوته» . رواه أبو داود. ويؤمن المأمومون مع تأمينه، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال الإمام {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ، فقولوا: آمين» ، وفي لفظ: «إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له» متفق عليه. ويجهرون بها لما روى عطاء أن ابن الزبير كان يؤمن ويؤمنون حتى إن للمسجد للجة. رواه الشافعي في مسنده. فإن نسيه الإمام جهر به المأموم، ليذكره فإن لم يذكره حتى شرع في القراءة لم يأت به، لأنه سنة فات محلها.
وفي آمين لغتان: قصر الألف ومدها مع التخفيف، فإن شدد الميم لم يجزئه لأنه يغير معناها.
فصل:
فإن لم يحسن الفاتحة، لزمه تعلمها، فإن ضاق الوقت عن ذلك، قرأ سبع آيات من غيرها. وهل يجب أن يكون في عدد حروفها؟ على وجهين:
أحدهما: [يجب] لأن الثواب مقدر بالحروف، فاعتبرت كالآي.
والآخر: لا يعتبر، لأنه من فاته صوم يوم طويل لم يعتبر كون القضاء في يوم طويل مثله، فإن لم يحسن سبعاً كرر ما يحسن بقدرها، فإن لم يحسن إلا آية من الفاتحة وشيئاً من غيرها، ففيه وجهان:
أحدهما: يكرر آية الفاتحة، لأنها أقرب إليها.
والثاني: يقرأ تمام السبع من غيرها، لأنه لو لم يحسن شيئاً من الفاتحة، قرأ من غيرها فما عجز عنه منها وجب أن يأتي ببدله من غيرها، فإن لم يحسن الفاتحة بالعربية، لم يجز أن يترجم عنها بلسان آخر، لأن الله تعالى جعل القرآن عربياً، ويلزمه أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لما روى عبد الله بن أبي أوفى قال: «جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: إني لا أستطيع أن آخذ شيئاً من القرآن، فعلمني ما يجزئني، فقال: قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله» رواه أبو داود. ولأنه ركن من الصلاة، فقام غيره مقامه عند العجز عنه، كالقيام، فإن لم يحسن إلا بعض ذلك، كرره بقدره، فإن لم يحسن شيئاً وقف بقدر القراءة.
فصل:
ويستحب للإمام أن يسكت بعد الفاتحة سكتة، يقرأ فيها من خلفه، لما روى سمرة: أنه حفظ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سكتتين، سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من قراءة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] رواه أبو داود. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: للإمام سكتتان، فاغتنموا فيهما القراءة بفاتحة الكتاب، إذا افتتح الصلاة، وإذا قال: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] .
المغرب من قصاره، وفي سائرهن من أوساطه، لما روى جابر بن سمرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يقرأ في الفجر بـ "ق» رواه مسلم.
وعنه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يقرأ في الظهر والعصر بـ {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] و {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1] ونحوهما من السور» . رواه أبو داود.
وعنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دحضت الشمس، صلى الظهر، ويقرأ بنحو: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] والعصر كذلك، والصلوات كلها إلا الصبح، فإنه كان يطيلها» . رواه أبو داود. وما قرأ به بعد أم كتاب في ذلك كله أجزأه.
ويستحب له أن يطيل الركعة الأولى من كل صلاة، لما روى أبو قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر، بفاتحة الكتاب وسورتين، يطول في الأولى، ويقصر في الثانية، ويسمع الآية أحياناً، وكان يقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب، وكان يقرأ في العصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب، وسورتين، يطول في الأولى، ويقصر في الثانية، وكان يطول في الركعة الأولى من الصبح، ويقصر في الثانية» . متفق عليه. وفي رواية: «فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى، ولا يزيد على أم الكتاب في الأخيرتين من الرباعية، ولا الثالثة من المغرب» ، لهذا الحديث.
فصل:
ويسن للإمام الجهر بالقراءة في الصبح، والأوليين من المغرب والعشاء، والإسرار فيما وراء ذلك، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل ذلك. ولا يسن الجهر لغير الإمام، لأنه لا يقصد إسماع غيره، وإن جهر المنفرد فلا بأس، لأنه لا ينازع غيره، وكذلك القائم لقضاء ما فاته من الجماعة. وإن فاتته الصلاة ليلاً فقضاها نهاراً، لم يجهر، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاة النهار عجماء» فإن فاتته صلاة نهار فقصاها ليلاً لم يجهر، لأنها صلاة نهار، وإن فاتته ليلاً، فقضاها ليلاً في جماعة جهر.
وإذا فرغ من القراءة استحب له أن يسكت سكتة قبل الركوع، لأن في حديث سمرة في بعض رواياته: «وإذا فرغ من القراءة سكت» .
فصل:
ثم يركع وهو الركن الرابع، لقول الله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] ويكبر للركوع، لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا قام إلى الصلاة كبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، يفعل ذلك في صلاته كلها» ، رواه البخاري. وفي هذه التكبيرات روايتان:
إحداهما: أنها واجبة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعلها، وقد قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» متفق عليه. ولأن الهوي إلى الركوع فعل، فلم يخل من ذكر واجب، كالقيام.
والثانية: لا يجب، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعلمها المسيء في صلاته، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. ويستحب أن يرفع يديه مع التكبير لحديث ابن عمر، وقدر الإجزاء: الانحناء حتى يمكنه مس ركبتيه بيديه، لأنه لا يسمى راكعاً بدونه.
ويجب أن يطمئن راكعاً وهو الركن الخامس، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمسيء في صلاته: «ثم اركع حتى تطمئن راكعاً» متفق عليه. ويستحب أن يضع يديه على ركبتيه، قابضاً لهما، ويسوي ظهره، ولا يرفع رأسه، ولا يخفضه، ويجافي يديه على جنبيه، لما روى أبو حميد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره» ، وفي لفظ: «ركع ثم اعتدل، فلم يصوب رأسه ولم يقنع» . وفي رواية: «ووضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما، ووتر يديه، فنحاهما عن جنبيه» . حديث صحيح.
فصل:
ثم يقول: سبحان ربي العظيم، وفيه روايتان:
إحداهما: يجب، لما روى عقبة بن عامر أنه «لما نزل: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجعلوها في ركوعكم فلما نزل: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] قال: اجعلوها في سجودكم رواه» أبو داود. ولأنه فعل في الصلاة، فلم يخل من ذكر واجب، كالقيام.
والثانية: ليس بواجب، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعلمه المسيء في صلاته، وأدنى الكمال ثلاث، لما روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ركع أحدكم فليقل: سبحان ربي
العظيم ثلاثاً، وذلك أدناه، وإذا سجد فليقل: سبحان ربي الأعلى ثلاثاً، وذلك أدناه» رواه الأثرم والترمذي. وإن اقتصر على واحدة أجزأه، لأنه ذكر مكرر، فأجزأت الواحدة، كسائر الأذكار.
فصل:
ثم يرفع رأسه قائلاً: سمع الله لمن حمده، حتى يعتدل قائماً، وهذا الرفع والاعتدال الركن السادس والسابع، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمسيء في صلاته: «ثم ارفع حتى تعتدل قائماً» وفي حديث أبي حميد «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سمع الله لمن حمده ورفع يديه، واعتدل حتى رجع كل عظم في موضعه معتدلاً» . وفي وجوب التسميع روايتان، لما ذكرنا في التكبير، ولا يشرع للمأموم، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال: الإمام سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد» ويقول في اعتداله: ربنا ولك الحمد. وفي وجوبه روايتان. لما ذكرنا. قال الأثرم: وسمعت أبا عبد الله يثبت أمر الواو. وقال: قد روى فيه الزهري ثلاثة أحاديث عن أنس، وعن سعيد عن أبي هريرة، وعن سالم عن أبيه. وإن قال: ربنا لك الحمد، جاز، نص عليه، لأنه قد صحت به السنة.
ويستوي في ذلك كل مصل، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاله، وأمر به المأمومين. ويستحب أن يقول: ملء السماء وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، لما روى أبو سعيد، وابن أبي أوفى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا رفع رأسه قال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد» متفق عليه. ولا يستحب للمأموم الزيادة على «ربنا ولك الحمد» نص عليه لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فقولوا: ربنا ولك الحمد» ولم يأمره بغيره. وعنه: ما يدل على استحباب قول: «ملء السماء» وهو اختيار أبي الخطاب لأنه ذكر مشروع للإمام، فشرع للمأموم كالتكبير. وموضع ربنا ولك الحمد، من حق الإمام المنفرد بعد اعتداله، وللمأموم حال رفعه، لأن قوله: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد» يقتضي تعقيب قول الإمام قول المأموم، وهي حال رفعه.
فصل:
في السجود: ثم يخر ساجداً ويطمئن في سجوده، وهما الركن الثامن والتاسع، لقول الله تعالى: {اسْجُدُوا} [البقرة: 34] ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: «ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً» وينحط إلى السجود مكبراً لحديث أبي هريرة، ولا يرفع يديه، لحديث ابن عمر. ويكون أول ما يقع منه على الأرض ركبتاه، ثم يداه، ثم جبهته وأنفه، لما روى وائل بن حجر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه» رواه أبو داود. والسجود على هذه الأعضاء واجب، لما روى ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمرت أن أسجد على سبع أعظم، الجبهة، وأشار بيده إلى أنفه، واليدين والركبتين، وأطراف القدمين» متفق عليه.
وفي الأنف روايتان:
إحداهما: لا يجب السجود عليه، لأنه ليس من السبعة المذكورة.
والثانية: تجب، لإشارة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أنفه عند بيان أعضاء السجود. ولا يجب مباشرة المصلي بشيء من هذه الأعضاء إلا الجبهة، فإن فيها روايتين:
إحداهما: يجب، لما روي عن خباب قال: «شكونا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا، فلم يشكنا» . رواه مسلم.
والثانية: لا يجب، وهو ظاهر المذهب، لما روى أنس قال: «كنا نصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود» . رواه البخاري ومسلم. ولأنها من أعضاء السجود، فجاز السجود على حائلها كالقدمين. ويستحب أن يجافي عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، لما روى أبو حميد «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جافى عضديه عن إبطيه» . «ووصف البراء سجود النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوضع يديه واعتمد على ركبتيه ورفع عجيزته وقال: هكذا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسجد» . رواه أبو
داود. ويستحب أن يضم أصابع يديه بعضها إلى بعض، ويضعها على الأرض حذو منكبيه، ويرفع مرفقيه، ويكون على أطراف أصابع قدميه، ويثنيها نحو القبلة، لما روى أبو حميد «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضع كفيه حذو منكبيه» . وفي لفظ: «سجد غير مفترش، ولا قابضهما، واستقبل بأطراف رجليه القبلة» . وفي رواية: «فسجد فانتصب على كفيه وركبتيه، وصدور قدميه، وهو ساجد» . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا سجد أحدكم فليعتدل ولا يفترش افتراش الكلب» ، صحيح متفق على معناه. ويقول: سبحان ربي الأعلى، وحكمه حكم تسبيح الركوع في عدده ووجوبه لما مضى. فإذا أراد السجود فهوى على وجهه، فوقعت جبهته على الأرض، أجزأه لأنه قد نواه. وإن انقلب على جنبه، ثم انقلب فمست جبهته الأرض ناوياً السجود، أجزأه، وإن لم ينو لم يجزئه، ويأتي بالسجود بعده.
فصل: ثم يرفع رأسه مكبراً، ويعتدل جالساً، وهما الركن العاشر والحادي عشر، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: «ثم ارفع حتى تطمئن جالساً» ويجلس مفترشاً، يفرش رجله اليسرى، ويجلس عليها، وينصب اليمنى، لقول أبي حميد في وصف صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم ثنى رجله اليسرى، وقعد عليها، ثم اعتدل حتى رجع كل عظم في موضعه» . وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى، وينهى عن عقبة الشيطان» . رواه مسلم. ويسن أن يثني أصابع اليمنى نحو القبلة، لما روى النسائي عن ابن عمر أنه قال: «من سنة الصلاة أن ينصب القدم اليمنى، واستقباله
بأصابعها القبلة» . ويكره الإقعاء وهو أن يفترش قدميه، ويجلس على عقبيه، بهذا فسره أحمد، لحديث أبي حميد وعائشة. وعن أحمد أنه قال: لا أفعله، ولا أعيب في فعله، العبادلة كانوا يفعلونه، وقال ابن عباس: «هو سنة نبيك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه مسلم. ويقول: رب اغفر لي، لما روى حذيفة «أنه صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان يقول بين السجدتين: رب اغفر لي رب اغفر لي» رواه النسائي. والقول في وجوبه وعدده، كالقول في تسبيح الركوع. وإن قال ما روى ابن عباس: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني، واهدني، وعافني وارزقني فلا بأس» . رواه أبو داود.
فصل:
ثم يسجد السجدة الثانية كالأولى سواء، وفيها ركنان، ثم يرفع رأسه مكبراً لحديث أبي هريرة. وهل يجلس للاستراحة فيه؟ فيه روايتان:
إحداهما: يجلس، اختارها الخلال، لما روى مالك بن الحويرث أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض» . متفق عليه. وصفة جلوسه مثل جلسة الفصل، لما روى أبو حميد في صفة صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم ثنى رجله وقعد واعتدل حتى رجع كل عظم في موضعه، ثم نهض» . حديث صحيح. وقال الخلال: روى عن أحمد من لا أحصيه كثرة أنه يجلس على إليته. وقال الآمدي: يجلس على قدميه، ولا يلصق إليته بالأرض.
والرواية الثانية: لا يجلس بل ينهض على صدور قدميه معتمداً على ركبتيه، لما روى أبو هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينهض على صدور قدميه» . وفي حديث وائل بن حجر: «وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه» . وفي لفظ: «فإذا نهض، نهض على ركبتيه، واعتمد
على فخذيه» . رواه أبو داود. ولا يعتمد بيده على الأرض، لما ذكرنا، إلا أن يشق ذلك عليه، لضعف أو كبر. ولا يكبر لقيامه من جلس الاستراحة لأنه قد كبر لرفعه من السجود.
فصل:
ثم يصلي الركعة الثانية كالأولى، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: «ثم اصنع ذلك في صلاتك كلها» إلا في النية والاستفتاح، لأنه يراد لافتتاح الصلاة، وفي الاستعاذة روايتان:
إحداهما: يستعيذ، لقول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] فيقتضي أن يستعيذ عند كل قراءة.
والثانية: لا يستعيذ لما روى أبو هريرة قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا نهض من الركعة الثانية، استفتح القراءة بالحمد لله رب العالمين، ولم يسكت» . رواه مسلم.
ولأن الصلاة جملة واحدة، فإذا أتى بالاستعاذة من أولها، كفى كالاستفتاح، فإن نسيها في أول الصلاة، أتى بها في الثانية، والاستفتاح خلاف ذلك، نص عليه.
فصل:
ثم يجلس مفترشاً، لقول أبي حميد في صفة صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «فإذا جلس في الركعتين، جلس على اليسرى ونصب الأخرى» ، وفي لفظ: «فافترش رجله اليسرى، وأقبل بصدر اليمنى على قبلته» . صحيح. ويستحب أن يضع يده اليسرى على فخذه اليسرى مبسوطة مضمومة الأصابع مستقبلاً بأطرافها القبلة، أو يلقمها ركبته، ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، يعقد الوسطى مع الإبهام عقد ثلاث وخمسين، ويشير بالسبابة عند ذكر الله تعالى، ويقبض الخنصر والبنصر، لما روى ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثاً وخمسين، وأشار بالسبابة» . رواه مسلم.
وعنه: يبسط الخنصر والبنصر، لما روى ابن الزبير قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قعد يدعو وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بإصبعه السبابة يدعو، ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى يدعو» ، وفي لفظ: «وألقم كفه اليسرى ركبته» ، رواه مسلم. وفي لفظ: «وكان يشير بإصبعه إذا دعا، ولا يحركها» ، رواه أبو داود.
فصل:
ثم يتشهد لما روى ابن مسعود قال: «علمني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التشهد، كفي بين كفيه، كما يعلمني السورة من القرآن: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» . متفق عليه. قال الترمذي هذا أصح حديث روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد، فاختاره أحمد لذلك، فإن تشهد بغيره مما صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتشهد ابن عباس وغيره جاز، نص عليه. ومقتضى هذا أنه متى أخل بلفظة ساقطة في بعض التشهدات، فلا بأس، فإذا فرغ منه، وكانت الصلاة أكثر من ركعتين، لم يزد عليه، لما روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان يجلس في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف.» رواه أبو داود. لشدة تخفيفه، ثم نهض مبكراً كنهوضه من السجود، ويصلي الثالثة والرابعة كالأوليين إلا في الجهرية، ولا يزيد على فاتحة الكتاب لما قدمناه.
فصل:
فإذا فرغ جلس فتشهد، وهما الركن الثاني والثالث عشر، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر به
وعلمه ابن مسعود، ثم قال: «فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك» رواه أبو داود.
وعن ابن مسعود قال: «كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله قبل عباده، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تقولوا: السلام على الله، ولكن قولوا: التحيات لله» فدل هذا على أنه فرض، ويجلس متوركًا يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى، ويخرجهما عن يمينه؛ لقول أبي حميد في وصفه: «فإذا جلس في الركعتين جلس على اليسرى، ونصب اليمنى، فإذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخر رجله اليسرى، وجلس متوركًا على شقه الأيسر، وقعد على مقعدته» . رواه البخاري.
وقال الخرقي: يجعل باطن رجله اليسرى تحت فخذه اليمنى، ويجعل إليته على الأرض؛ لأن في بعض لفظ حديث أبي حميد: «جلس على إليتيه، وجعل باطن قدمه اليسرى عند مأبض اليمنى، ونصب قدمه اليمنى» .
وقال ابن الزبير: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى تحت فخذه وساقه» ، رواهما أبو داود: وأيهما فعل جاز، ولا يتورك إلا في صلاة فيها تشهدان في الأخير منهما؛ لأنه جعل للفرق، ولا حاجة إليه مع عدم الاشتباه.
فصل:
ثم يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيها روايتان:
إحداهما: ليست واجبة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد: «فإذا فعلت فقد تمت صلاتك» .
والثانية: أنها واجبة، قال أبو زرعة الدمشقي، عن أحمد قال: كنت أتهيب ذلك، ثم تبينت، فإذا الصلاة واجبة، ووجهها ما روى كعب بن عجرة قال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج علينا فقلنا: يا رسول الله، قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: «قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد
مجيد» متفق عليه، قال بعض أصحابنا: وتجب الصلاة على هذه الصفة، لأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها، والأولى أن يكون هذا الأفضل، وكيفما أتى بالصلاة أجزأه؛ لأنها رويت بألفاظ مختلفة، فوجب أن يجزئ منها ما اجتمعت عليه الأحاديث.
فصل:
ويستحب أن يتعوذ من أربع؛ لما روى أبو هريرة قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال» متفق عليه، ولمسلم: «إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع» وذكره، وما دعا به مما ورد في القرآن والأخبار فلا بأس إلا أن يكون إمامًا، فلا يستحب له التطويل، كيلا يشق على المأمومين إلا أن يؤثروا ذلك، وقد روي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» متفق عليه.
فصل:
ولا يجوز أن يدعو فيها بالملاذ وشهوات الدنيا، وما يشبه كلام الآدميين، مثل: اللهم ارزقني زوجة حسناء، وطعامًا طيبًا؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» رواه مسلم، ولأن هذا يتخاطب بمثله الآدميون أشبه تشميت العاطس، ورد السلام.
الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» رواه أبو داود، والترمذي، ولأنه أحد طرفي الصلاة، فكان فيه نطق واجب كالأول، ويسلم تسليمتين، فيقول: السلام عليكم ورحمة الله، ويلتفت عن يمينه وعن يساره كذلك، لما «روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم عن يمينه، السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله، وفي لفظ: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم حتى يرى بياض خده عن يمينه وعن يساره» ، رواه مسلم.
ويكون التفاته في الثانية أوفى، قال ابن عقيل يبتدئ بقوله: السلام عليكم إلى القبلة، ثم يلتفت قائلًا: ورحمة الله عن يمينه ويساره؛ «لقول عائشة كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم تلقاء وجهه» ، معناه ابتداء السلام، ويستحب أن يجهر بالأولى أكثر من الثانية، نص عليه، واختاره الخلال، وحمل أحمد «حديث عائشة، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم تسليمة واحدة» ، على أنه كان يجهر بواحدة، ويستحب أن لا يمد السلام؛ لأن أبا هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حذف السلام سنة» رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح. قال ابن المبارك: معناه لا يمده مدًا. قال أحمد: معناه لا يطول به صوته.
فصل:
والواجب تسليمة واحدة، والثانية سنة؛ لأن عائشة وسهل بن سعد وسلمة بن الأكوع رووا أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فسلم مرة واحدة» ، ولأنه إجماع حكاه ابن المنذر، وعنه أن الثانية واجبة؛ لأن جابرًا قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله» رواه مسلم، ولأنها عبادة لها تحللان، فكان الثاني واجبًا كالحج.
فصل:
فإن اقتصر على قول: السلام عليكم، فقال القاضي: ظاهر كلام أحمد أنه يجزئه،
نص عليه في صلاة الجنازة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تحليلها التسليم» وهو حاصل بدون الرحمة، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يسلم عن يمينه وعن يساره السلام عليكم، السلام عليكم. وقال ابن عقيل: الصحيح أنه لا يجزئ؛ لأن من وصف سلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الصحابة، قال فيه: " ورحمة الله " ولأنه سلام ورد فيه ذكر الرحمة، فلم يجزئه بدونها، كالسلام على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد، ويأتي بالسلام مرتبًا فإن نكسه، فقال: عليكم السلام، أو نكس التشهد لم تصح.
وذكر القاضي وجهًا من صحته؛ لأن المقصود يحصل، وهو بعيد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال مرتبًا، وعلمهم إياه مرتبًا، ولأنه ذكر يؤتى به في أحد طرفي الصلاة، فاعتبر ترتيبه كالتكبير.
فصل:
وينوي بسلامه الخروج من الصلاة، فإن لم ينو لم تبطل صلاته، نص عليه؛ لأن نية الصلاة قد شملت جميعها، والسلام من جملتها، ولأنها عبادة فلم تجب النية للخروج منها كسائر العبادات، وقال ابن حامد: تبطل صلاته؛ لأنه أحد طرفي الصلاة، فوجبت فيه النية كالآخر، وإن نوى بالسلام على الحفظة وعلى المصلين معه فلا بأس، نص عليه؛ لحديث جابر الذي قدمناه، وفي لفظ: «أمرنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نرد على الإمام، وأن يسلم بعضنا على بعض» رواه أبو داود.
فصل:
ويستحب ذكر الله تعالى بعد انصرافه من الصلاة ودعائه واستغفاره، قال المغيرة: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» متفق عليه.
وقال ثوبان: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثًا، وقال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» رواه مسلم. «وقال ابن عباس:
إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته» متفق عليه.
فصل:
ويكره للإمام إطالة الجلوس في مكانه مستقبل القبلة؛ لأن عائشة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» رواه ابن ماجه. فإن أحب قام، وإن شاء انحرف عن قبلته، لما روى سمرة قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى أقبل علينا بوجهه» ، رواه مسلم.
وينصرف حيث شاء، عن يمين أو شمال؛ لقول ابن مسعود: «لا يجعل أحدكم للشيطان حظًا من صلاته، يرى أن لا ينصرف إلا عن يمينه، لقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر ما ينصرف عن يساره» . متفق عليه.
فإن كان مع الإمام رجال ونساء، فالمستحب أن تثب النساء، ويثبت هو والرجال، بقدر ما ينصرف النساء؛ لقول أم سلمة: «إن النساء في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كن إذا سلمن من المكتوبة قمن، وثبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام الرجال، قال الزهري: فنرى أن ذلك لكي ينفذ من ينصرف من النساء» ، رواه البخاري. ولأن الإخلال بذلك يفضي إلى اختلاط الرجال بالنساء، ولا يثب المأمومون قبل انصراف الإمام، لئلا يذكر سهوًا فيسجد، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إني إمامكم فلا تبادروني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف» رواه
مسلم.
فإن انحرف عن قبلته أو خالف السنة في إطالة الجلوس مستقبل القبلة، فلا بأس أن يقوم المأموم ويدعه.
فصل:
ويكره للإمام التطوع في موضع صلاة مكتوبة، نص عليه، وقال: كذا قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وللمأموم أن يتطوع في موضع صلاته، فعله ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وروى المغيرة بن شعبة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يتطوع الإمام في مقامه الذي يصلي به الناس» رواه أبو داود. فإن دعت إليه ضرورة، لضيق المسجد انحرف قليلًا عن مصلاه، ثم صلى.
فصل:
وترتيب الصلاة على ما ذكرنا، وهو الركن الخامس عشر، فصارت أركان الصلاة خمسة عشر، لا يسامح بها في عمد ولا سهو.
وواجباتها المختلف فيها: تسعة؛ التكبير سوى تكبيرة الإحرام، التسبيح في الركوع والسجود مرة مرة، وقول: سمع الله لمن حمده، وقول: ربنا ولك الحمد، وقول: رب اغفر لي، بين السجدتين مرة، والتشهد الأول، والجلوس له، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والتسليمة الثانية: وقد ذكرنا في وجوب جميعها روايتين.
وما عدا ذلك فسنن، تتنوع ثلاثة أنواع:
سنن الأقوال، وهي اثنتا عشرة: الاستفتاح، والاستعاذة، وقراءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وقول آمين، وقراءة السورة بعد الفاتحة، والجهر والإخفات في موضعهما، وما زاد على التسبيحة الواحدة في الركوع والسجود، وعلى المرة في سؤال المغفرة، وقول ملء السماء بعد التحميد، والدعاء، والتعوذ في التشهد الأخير، وقنوت الوتر.
النوع الثاني: سنن الأفعال، وهي اثنتان وعشرون: رفع اليدين عند الإحرام، الركوع والرفع منه، ووضع اليمنى على اليسرى، وجعلهما فوق السرة، والنظر إلى موضع سجوده، ووضع اليدين على الركبتين في الركوع، ومد الظهر والتسوية بين رأسه وظهره، والتجافي فيه، والبداءة بوضع الركبتين قبل اليدين في السجود، ورفع اليدين قبل الركبتين في النهوض، والتجافي فيه، وفتح أصابع رجليه فيه، وفي الجلوس، ووضع يديه حذو منكبيه مضمومة، مستقبلًا بها القبلة، والتورك في التشهد الأخير، والافتراش في الأول، وفي سائر الجلوس، ووضع اليد اليمنى على الفخذ اليمنى مقبوضة محلقة، والإشارة بالسبابة، ووضع اليسرى على الفخذ اليسرى مبسوطة، والالتفات عن يمينه وشماله في التسليم، والسجود على أنفه، وجلسة الاستراحة على إحدى الروايتين فيهما.
والنوع الثالث: ما يتعلق بالقلب: وهو الخشوع، ونية الخروج في سلامه.
فصل:
ولا يسن القنوت في صلاة فرض؛ لأن أبا مالك الأشجعي، قال: قلت لأبي: «يا أبت، إنك قد صليت خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، هاهنا في الكوفة نحوًا من خمس سنين، أكانوا يقنتون؟ قال: أي بني، محدث» ، قال الترمذي: هذا حديث حسن. وعن أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت شهرًا يدعو على حي من أحياء العرب، ثم تركه» . رواه مسلم، فإن نزل بالمسلمين نازلة فللإمام القنوت في صلاة الصبح بعد الركوع، اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لما روى أبو هريرة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يقنت في صلاة الفجر إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم» ، رواه سعيد في سننه، وليس ذلك لآحاد المسلمين، ويقول في قنوته نحوًا من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقول عمر رضي
الله عنه وكان عمر يقول في القنوت: " اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم العن كفرة أهل الكتاب، الذين يكذبون رسلك، ويقاتلون أولياءك، اللهم خالف بين كلمتهم، وزلزل أقدامهم وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللهم إنا نستعينك " رواه أبو داود.
باب النية
وهي الشرط السادس، فلا تصح الصلاة إلا بها بغير خلاف، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» ولأنها عبادة محضة، فلم تصح بغير نية، كالصوم. ومحل النية: القلب، فإذا نوى بقلبه أجزأه، وإن لم يلفظ بلسانه. وإن نوى صلاة فسبق لسانه إلى غيرها، لم تفسد صلاته.
والأفضل النية مع تكبيرة الإحرام، لأنها أول الصلاة لتكون النية مقارنة للعبادة، ويستحب استصحاب ذكرها في سائر الصلوات، لأنها أبلغ في الإخلاص، وإن تقدمت النية التكبير بزمن يسير، جاز ما لم يفسخها، لأن أولها من أجزائها، فكفى استصحاب النية فيها كسائر أجزائها. وإن كانت فرضاً لزمه أن ينوي الصلاة بعينها، ظهراً أو عصراً لتتميز عن غيرها. قال ابن حامد: ويلزمه أن ينوي فرضاً، لتتميز عن ظهر الصبي، والمعادة. وقال غيره: لا يلزمه لأن ظهر هذا لا يكون إلا فرضاً، وينوي الأداء في الحاضرة والقضاء في الفائتة، وفي وجوب ذلك وجهان:
أولاهما: أنه لا يجب لأنه لا يختلف المذهب في من صلى في الغيم بالاجتهاد، فبان بعد الوقت أن صلاته صحيحة، وقد نواها أداء، فإن كانت سنة معينة كالوتر ونحوه، لزم تعيينها أيضاً، وإن كانت نافلة مطلقة أجزأته نية الصلاة. ومتى شك في أثناء الصلاة هل نواها أم لا؟ لزمه استئنافها، لأن الأصل عدمها، فإن ذكر أنه نوى قبل أن يحدث شيئاً من أفعال الصلاة أجزأه. وإن فعل شيئا قبل ذكره بطلت صلاته، لأنه فعله شاكاً في صلاته. وإن نوى الخروج من الصلاة بطلت؛ لأن النية شرط في جميع الصلاة وقد قطعها. وإن تردد في قطعها فعلى وجهين:
أحدهما: تبطل لما ذكرنا.
والثاني: لا تبطل، لأنه دخل فيها بنية متيقنة، فلا يخرج منها بالشك.
وإذا نوى في صلاة الظهر ثم قلبها عصراً فسدتا جميعاً، لأنه قطع نية الظهر ولم تصح العصر، لأنه ما نواها عند الإحرام. وإن قلبها نفلاً لعذر، مثل أن يحرم بها منفرداً، فتحضر جماعة فيجعلها نفلاً ليصلي فرضه في الجماعة، صح لأن نية النفل تتضمنها نية الفرض. وإن فعل ذلك لغير غرض كره، وصح قلبها لما ذكرنا، ويحتمل أن لا يصح لما ذكرنا في الظهر والعصر.
[باب صفة الصلاة]
وأركانها خمسة عشر:
القيام وهو واجب في الفرض، لقول الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمران بن حصين: «صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب» رواه البخاري.
فإن كبر للإحرام قاعداً، أو في حال نهوضه إلى القيام، لم يعتد به، لأنه أتى به في غير محله.
ويستحب القيام للمكتوبة عند قول المؤذن: قد قامت الصلاة، لأنه دعاء إلى القيام، فاستحب المبادرة إليه.
ويستحب للإمام تسوية الصفوف، لما روى أنس بن مالك قال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قام إلى الصلاة أخذ بيمينه - يعني عوداً في المحراب - ثم فقال التفت وقال: اعتدلوا سووا صفوفكم، ثم أخذ بيساره، وقال: اعتدلوا سووا صفوفكم» رواه أبو داود.
فصل:
ثم يكبر للإحرام، وهو الركن الثاني، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للمسيء في صلاته: «إذا
قمت إلى الصلاة فكبر» وقال: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» رواه أبو داود. وقال: «لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الوضوء مواضعه، ثم يستقبل القبلة، ويقول: الله أكبر» ولا يجزئه غيره من الذكر، ولا قول: الله أكبر، ولا التكبير بغير العربية، لما ذكرنا، فإن لم يحسن العربية، لزمه التعلم. فإن خشي خروج الوقت، ففيه وجهان:
أحدهما: يكبر بلغته، لأنه عجز عن اللفظ، فلزمه الإتيان بمعناه، كلفظة النكاح.
والثاني: لا يكبر بغير العربية، لأنه ذكر تنعقد به الصلاة، فلم يجز التعبير عنه بغير العربية، كالقراءة، فعلى هذا يكون حكمه حكم الأخرس، فإن عجز عن بعض اللفظ، أو عن بعض الحروف، أتى بما يمكنه، وإن كان أخرس، فعليه تحريك لسانه، لأن ذلك كان يلزمه مع النطق، فإذا عجز عن أحدهما بقي الآخر. ذكره القاضي. ويقوى عندي أن لا يلزمه تحريك لسانه، لأن ذلك إنما وجب على الناطق ضرورة القراءة، وإذا سقطت سقط ما هو من ضرورتها، كالجاهل الذي لا يحسن شيئاً من الذكر، ولأن تحريك لسانه بغير القراءة عبث مجرد، فلا يرد الشرع به، ويبين التكبير، ولا يمططه، فإن مططه تمطيطاً يغير المعنى، مثل أن يمد الهمزة في اسم الله تعالى، فيجعله استفهاماً، أو يمد أكبار، فيزيد ألفاً فيصير جمع كبير. وهو الطبل، لم تجزه، ويجهر بالتكبير إن كان إماماً بقدر ما يسمع من خلفه، وإن لم يكن إماماً بقدر ما يسمع نفسه كالقراءة.
فصل:
ويستحب أن يرفع يده، ممدودة الأصابع، مضموماً بعضها إلى بعض حتى يحاذي بهما منكبيه، أو فروع أذنيه لما روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، ولا يفعل ذلك في السجود» . متفق عليه. ويكون ابتداء الرفع مع ابتداء التكبير، وانتهاؤه مع انتهائه، لأن الرفع للتكبير، فيكون معه فإن سبق رفعه التكبير، أثبتهما حتى يكبر، ولا يحطهما في حال التكبير. وإن لم يرفع حتى فرغ التكبير، لم يرفع لأنه سنة فات
محلها. وإن ذكر في الثانية، رفع لأن محله باق، وإن عجز عن الرفع إلى حذو المنكبين، رفع قدر ما يمكنه، وإن عجز عن رفع إحدى اليدين رفع الأخرى، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» .
فصل:
فإذا فرغ استحب وضع يمينه على شماله، لما روى هلب، قال، «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه» . قال الترمذي: هذا حديث حسن. ويجعلهما تحت السرة، لما روي عن علي أنه قال: «السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة» . رواه أبو داود. وعنه: فوق السرة. وعنه: أنه مخير. ويستحب جعل نظره إلى موضع سجوده، لأنه أخشع للمصلي، وأكف لنظره.
فصل:
ويستحب أن يستفتح. قال أحمد: أما أنا فأذهب إلى ما روي عن عمر - يعني ما رواه الأسود - أنه صلى خلف عمر، فسمعه كبر، فقال: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك» . رواه مسلم. ولو أن رجلاً استفتح ببعض ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الاستفتاح كان حسناً، أو قال: جائزاً. وإنما اختاره أحمد، لأن عائشة وأبا سعيد، قالا: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا استفتح الصلاة، قال ذلك. وعمل به عمر بمحضر من الصحابة، فكان أولى من غيره، وصوب الاستفتاح بغيره مثل ما روى أبو هريرة قال: «قلت: يا رسول الله أرأيت إسكاتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي
بالثلج والماء والبرد» متفق عليه. قال أحمد: ولا يجهر الإمام بالاستفتاح، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجهر به.
فصل:
ثم يستعيذ بالله، فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] . قال ابن المنذر: وجاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «كان يقول قبل القراءة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» .
فصل:
ثم يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ولا يجهر بها، لما روى أنس بن مالك قال: «صليت خلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحداً منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم» . رواه البخاري ومسلم. وفيها روايتان:
إحداهما: أنها آية من الفاتحة، اختارها أبو عبد الله بن بطة، وأبو حفص، لما روت أم سلمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قرأ في الصلاة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وعدها آية، والحمد لله رب العالمين آيتين» ، ولأن الصحابة أثبتوها في المصاحف فيما جمعوا من القرآن، فدل على أنها منها.
والثانية: ليست منها، لما روى أبو هريرة قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال مجدني عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك
نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين
... إلى آخرها، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» رواه مسلم. ولو كانت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ منها لبدأ بها، ولم يتحقق التنصيف، ولأن مواضع الآي كالآي في أنها لا تثبت إلا بالتواتر، ولا تواتر فيما نحن فيه، ومن نسي الاستفتاح حتى شرع في الاستعاذة أو نسي الاستعاذة حتى شرع في البسملة، أو البسملة حتى شرع في الفاتحة على الرواية التي تقول: ليست من الفاتحة، لم يرجع إليها لأنها سنة فات محلها.
فصل:
ثم يقرأ الفاتحة، وهو الركن الثالث في حق الإمام المنفرد، لما روى عبادة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب» متفق عليه.
ولا تجب على المأموم لقول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] . وروى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما لي أنازع القرآن قال: فانتهى الناس أن يقرأوا فيما جهر فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه مالك في الموطأ. ولأنها لو وجبت عليه لم تسقط عن المسبوق، كسائر الأركان لكن إن سمع قراءة الإمام أنصت له، ويقرأ في سكاته وإسراره، لأن مفهوم قوله: فانتهى الناس أن يقرؤوا فيما جهر فيه، أنهم يقرأون في غيره.
وتجب قراءة الفاتحة في كل ركعة، لما روى أبو قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان يقرأ في الأخيرتين بأم الكتاب» . متفق عليه. وروي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم المسيء في صلاته، فقال: «اقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر، ثم قال: اصنع في كل ركعة مثل ذلك» ولأنه ركن لا تفتتح به الصلاة فتكرر في كل ركعة، كالركوع. وعنه: لا تجب إلا في الأوليين، لأنها لو وجبت في غيرهما لسن الجهر بها في بعض الصلوات كالأوليين.
ويجب أن يقرأ الفاتحة مرتبة متوالية، فإن قطع قراءتها بذكر كثير، أو سكوت
طويل عامداً، أعادها وإن فعل ذلك ناسياً، أو كان الذكر أو السكوت يسيراً، أتمها لأن الموالاة لا تفوت بذاك. وإن نوى قطعها، لم تنقطع، لأن القراءة باللسان فلم تنقطع بالنية بخلاف نية الصلاة.
ويأتي فيها بإحدى عشرة تشديدة، فإن أخل بحرف منها أو شدة، لم تصح، لأنه لم يقرأها كلها، والشدة أقيمت مقام حرف، وإن خفف الشدة صح، لأنه كالنطق به مع العجلة.
فصل:
فإذا فرغ منها، قال: آمين، يجهر بها فيما يجهر فيه بالقراءة، لما روى وائل بن حجر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا قال: ولا الضالين قال: آمين، ورفع بها صوته» . رواه أبو داود. ويؤمن المأمومون مع تأمينه، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال الإمام {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ، فقولوا: آمين» ، وفي لفظ: «إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له» متفق عليه. ويجهرون بها لما روى عطاء أن ابن الزبير كان يؤمن ويؤمنون حتى إن للمسجد للجة. رواه الشافعي في مسنده. فإن نسيه الإمام جهر به المأموم، ليذكره فإن لم يذكره حتى شرع في القراءة لم يأت به، لأنه سنة فات محلها.
وفي آمين لغتان: قصر الألف ومدها مع التخفيف، فإن شدد الميم لم يجزئه لأنه يغير معناها.
فصل:
فإن لم يحسن الفاتحة، لزمه تعلمها، فإن ضاق الوقت عن ذلك، قرأ سبع آيات من غيرها. وهل يجب أن يكون في عدد حروفها؟ على وجهين:
أحدهما: [يجب] لأن الثواب مقدر بالحروف، فاعتبرت كالآي.
والآخر: لا يعتبر، لأنه من فاته صوم يوم طويل لم يعتبر كون القضاء في يوم طويل مثله، فإن لم يحسن سبعاً كرر ما يحسن بقدرها، فإن لم يحسن إلا آية من الفاتحة وشيئاً من غيرها، ففيه وجهان:
أحدهما: يكرر آية الفاتحة، لأنها أقرب إليها.
والثاني: يقرأ تمام السبع من غيرها، لأنه لو لم يحسن شيئاً من الفاتحة، قرأ من غيرها فما عجز عنه منها وجب أن يأتي ببدله من غيرها، فإن لم يحسن الفاتحة بالعربية، لم يجز أن يترجم عنها بلسان آخر، لأن الله تعالى جعل القرآن عربياً، ويلزمه أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لما روى عبد الله بن أبي أوفى قال: «جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: إني لا أستطيع أن آخذ شيئاً من القرآن، فعلمني ما يجزئني، فقال: قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله» رواه أبو داود. ولأنه ركن من الصلاة، فقام غيره مقامه عند العجز عنه، كالقيام، فإن لم يحسن إلا بعض ذلك، كرره بقدره، فإن لم يحسن شيئاً وقف بقدر القراءة.
فصل:
ويستحب للإمام أن يسكت بعد الفاتحة سكتة، يقرأ فيها من خلفه، لما روى سمرة: أنه حفظ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سكتتين، سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من قراءة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] رواه أبو داود. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: للإمام سكتتان، فاغتنموا فيهما القراءة بفاتحة الكتاب، إذا افتتح الصلاة، وإذا قال: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] .
المغرب من قصاره، وفي سائرهن من أوساطه، لما روى جابر بن سمرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يقرأ في الفجر بـ "ق» رواه مسلم.
وعنه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يقرأ في الظهر والعصر بـ {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] و {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1] ونحوهما من السور» . رواه أبو داود.
وعنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دحضت الشمس، صلى الظهر، ويقرأ بنحو: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] والعصر كذلك، والصلوات كلها إلا الصبح، فإنه كان يطيلها» . رواه أبو داود. وما قرأ به بعد أم كتاب في ذلك كله أجزأه.
ويستحب له أن يطيل الركعة الأولى من كل صلاة، لما روى أبو قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر، بفاتحة الكتاب وسورتين، يطول في الأولى، ويقصر في الثانية، ويسمع الآية أحياناً، وكان يقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب، وكان يقرأ في العصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب، وسورتين، يطول في الأولى، ويقصر في الثانية، وكان يطول في الركعة الأولى من الصبح، ويقصر في الثانية» . متفق عليه. وفي رواية: «فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى، ولا يزيد على أم الكتاب في الأخيرتين من الرباعية، ولا الثالثة من المغرب» ، لهذا الحديث.
فصل:
ويسن للإمام الجهر بالقراءة في الصبح، والأوليين من المغرب والعشاء، والإسرار فيما وراء ذلك، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل ذلك. ولا يسن الجهر لغير الإمام، لأنه لا يقصد إسماع غيره، وإن جهر المنفرد فلا بأس، لأنه لا ينازع غيره، وكذلك القائم لقضاء ما فاته من الجماعة. وإن فاتته الصلاة ليلاً فقضاها نهاراً، لم يجهر، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاة النهار عجماء» فإن فاتته صلاة نهار فقصاها ليلاً لم يجهر، لأنها صلاة نهار، وإن فاتته ليلاً، فقضاها ليلاً في جماعة جهر.
وإذا فرغ من القراءة استحب له أن يسكت سكتة قبل الركوع، لأن في حديث سمرة في بعض رواياته: «وإذا فرغ من القراءة سكت» .
فصل:
ثم يركع وهو الركن الرابع، لقول الله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] ويكبر للركوع، لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا قام إلى الصلاة كبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، يفعل ذلك في صلاته كلها» ، رواه البخاري. وفي هذه التكبيرات روايتان:
إحداهما: أنها واجبة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعلها، وقد قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» متفق عليه. ولأن الهوي إلى الركوع فعل، فلم يخل من ذكر واجب، كالقيام.
والثانية: لا يجب، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعلمها المسيء في صلاته، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. ويستحب أن يرفع يديه مع التكبير لحديث ابن عمر، وقدر الإجزاء: الانحناء حتى يمكنه مس ركبتيه بيديه، لأنه لا يسمى راكعاً بدونه.
ويجب أن يطمئن راكعاً وهو الركن الخامس، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمسيء في صلاته: «ثم اركع حتى تطمئن راكعاً» متفق عليه. ويستحب أن يضع يديه على ركبتيه، قابضاً لهما، ويسوي ظهره، ولا يرفع رأسه، ولا يخفضه، ويجافي يديه على جنبيه، لما روى أبو حميد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره» ، وفي لفظ: «ركع ثم اعتدل، فلم يصوب رأسه ولم يقنع» . وفي رواية: «ووضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما، ووتر يديه، فنحاهما عن جنبيه» . حديث صحيح.
فصل:
ثم يقول: سبحان ربي العظيم، وفيه روايتان:
إحداهما: يجب، لما روى عقبة بن عامر أنه «لما نزل: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجعلوها في ركوعكم فلما نزل: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] قال: اجعلوها في سجودكم رواه» أبو داود. ولأنه فعل في الصلاة، فلم يخل من ذكر واجب، كالقيام.
والثانية: ليس بواجب، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعلمه المسيء في صلاته، وأدنى الكمال ثلاث، لما روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ركع أحدكم فليقل: سبحان ربي
العظيم ثلاثاً، وذلك أدناه، وإذا سجد فليقل: سبحان ربي الأعلى ثلاثاً، وذلك أدناه» رواه الأثرم والترمذي. وإن اقتصر على واحدة أجزأه، لأنه ذكر مكرر، فأجزأت الواحدة، كسائر الأذكار.
فصل:
ثم يرفع رأسه قائلاً: سمع الله لمن حمده، حتى يعتدل قائماً، وهذا الرفع والاعتدال الركن السادس والسابع، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمسيء في صلاته: «ثم ارفع حتى تعتدل قائماً» وفي حديث أبي حميد «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سمع الله لمن حمده ورفع يديه، واعتدل حتى رجع كل عظم في موضعه معتدلاً» . وفي وجوب التسميع روايتان، لما ذكرنا في التكبير، ولا يشرع للمأموم، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال: الإمام سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد» ويقول في اعتداله: ربنا ولك الحمد. وفي وجوبه روايتان. لما ذكرنا. قال الأثرم: وسمعت أبا عبد الله يثبت أمر الواو. وقال: قد روى فيه الزهري ثلاثة أحاديث عن أنس، وعن سعيد عن أبي هريرة، وعن سالم عن أبيه. وإن قال: ربنا لك الحمد، جاز، نص عليه، لأنه قد صحت به السنة.
ويستوي في ذلك كل مصل، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاله، وأمر به المأمومين. ويستحب أن يقول: ملء السماء وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، لما روى أبو سعيد، وابن أبي أوفى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا رفع رأسه قال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد» متفق عليه. ولا يستحب للمأموم الزيادة على «ربنا ولك الحمد» نص عليه لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فقولوا: ربنا ولك الحمد» ولم يأمره بغيره. وعنه: ما يدل على استحباب قول: «ملء السماء» وهو اختيار أبي الخطاب لأنه ذكر مشروع للإمام، فشرع للمأموم كالتكبير. وموضع ربنا ولك الحمد، من حق الإمام المنفرد بعد اعتداله، وللمأموم حال رفعه، لأن قوله: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد» يقتضي تعقيب قول الإمام قول المأموم، وهي حال رفعه.
فصل:
في السجود: ثم يخر ساجداً ويطمئن في سجوده، وهما الركن الثامن والتاسع، لقول الله تعالى: {اسْجُدُوا} [البقرة: 34] ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: «ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً» وينحط إلى السجود مكبراً لحديث أبي هريرة، ولا يرفع يديه، لحديث ابن عمر. ويكون أول ما يقع منه على الأرض ركبتاه، ثم يداه، ثم جبهته وأنفه، لما روى وائل بن حجر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه» رواه أبو داود. والسجود على هذه الأعضاء واجب، لما روى ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمرت أن أسجد على سبع أعظم، الجبهة، وأشار بيده إلى أنفه، واليدين والركبتين، وأطراف القدمين» متفق عليه.
وفي الأنف روايتان:
إحداهما: لا يجب السجود عليه، لأنه ليس من السبعة المذكورة.
والثانية: تجب، لإشارة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أنفه عند بيان أعضاء السجود. ولا يجب مباشرة المصلي بشيء من هذه الأعضاء إلا الجبهة، فإن فيها روايتين:
إحداهما: يجب، لما روي عن خباب قال: «شكونا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا، فلم يشكنا» . رواه مسلم.
والثانية: لا يجب، وهو ظاهر المذهب، لما روى أنس قال: «كنا نصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود» . رواه البخاري ومسلم. ولأنها من أعضاء السجود، فجاز السجود على حائلها كالقدمين. ويستحب أن يجافي عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، لما روى أبو حميد «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جافى عضديه عن إبطيه» . «ووصف البراء سجود النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوضع يديه واعتمد على ركبتيه ورفع عجيزته وقال: هكذا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسجد» . رواه أبو
داود. ويستحب أن يضم أصابع يديه بعضها إلى بعض، ويضعها على الأرض حذو منكبيه، ويرفع مرفقيه، ويكون على أطراف أصابع قدميه، ويثنيها نحو القبلة، لما روى أبو حميد «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضع كفيه حذو منكبيه» . وفي لفظ: «سجد غير مفترش، ولا قابضهما، واستقبل بأطراف رجليه القبلة» . وفي رواية: «فسجد فانتصب على كفيه وركبتيه، وصدور قدميه، وهو ساجد» . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا سجد أحدكم فليعتدل ولا يفترش افتراش الكلب» ، صحيح متفق على معناه. ويقول: سبحان ربي الأعلى، وحكمه حكم تسبيح الركوع في عدده ووجوبه لما مضى. فإذا أراد السجود فهوى على وجهه، فوقعت جبهته على الأرض، أجزأه لأنه قد نواه. وإن انقلب على جنبه، ثم انقلب فمست جبهته الأرض ناوياً السجود، أجزأه، وإن لم ينو لم يجزئه، ويأتي بالسجود بعده.
فصل: ثم يرفع رأسه مكبراً، ويعتدل جالساً، وهما الركن العاشر والحادي عشر، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: «ثم ارفع حتى تطمئن جالساً» ويجلس مفترشاً، يفرش رجله اليسرى، ويجلس عليها، وينصب اليمنى، لقول أبي حميد في وصف صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم ثنى رجله اليسرى، وقعد عليها، ثم اعتدل حتى رجع كل عظم في موضعه» . وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى، وينهى عن عقبة الشيطان» . رواه مسلم. ويسن أن يثني أصابع اليمنى نحو القبلة، لما روى النسائي عن ابن عمر أنه قال: «من سنة الصلاة أن ينصب القدم اليمنى، واستقباله
بأصابعها القبلة» . ويكره الإقعاء وهو أن يفترش قدميه، ويجلس على عقبيه، بهذا فسره أحمد، لحديث أبي حميد وعائشة. وعن أحمد أنه قال: لا أفعله، ولا أعيب في فعله، العبادلة كانوا يفعلونه، وقال ابن عباس: «هو سنة نبيك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه مسلم. ويقول: رب اغفر لي، لما روى حذيفة «أنه صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان يقول بين السجدتين: رب اغفر لي رب اغفر لي» رواه النسائي. والقول في وجوبه وعدده، كالقول في تسبيح الركوع. وإن قال ما روى ابن عباس: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني، واهدني، وعافني وارزقني فلا بأس» . رواه أبو داود.
فصل:
ثم يسجد السجدة الثانية كالأولى سواء، وفيها ركنان، ثم يرفع رأسه مكبراً لحديث أبي هريرة. وهل يجلس للاستراحة فيه؟ فيه روايتان:
إحداهما: يجلس، اختارها الخلال، لما روى مالك بن الحويرث أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض» . متفق عليه. وصفة جلوسه مثل جلسة الفصل، لما روى أبو حميد في صفة صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم ثنى رجله وقعد واعتدل حتى رجع كل عظم في موضعه، ثم نهض» . حديث صحيح. وقال الخلال: روى عن أحمد من لا أحصيه كثرة أنه يجلس على إليته. وقال الآمدي: يجلس على قدميه، ولا يلصق إليته بالأرض.
والرواية الثانية: لا يجلس بل ينهض على صدور قدميه معتمداً على ركبتيه، لما روى أبو هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينهض على صدور قدميه» . وفي حديث وائل بن حجر: «وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه» . وفي لفظ: «فإذا نهض، نهض على ركبتيه، واعتمد
على فخذيه» . رواه أبو داود. ولا يعتمد بيده على الأرض، لما ذكرنا، إلا أن يشق ذلك عليه، لضعف أو كبر. ولا يكبر لقيامه من جلس الاستراحة لأنه قد كبر لرفعه من السجود.
فصل:
ثم يصلي الركعة الثانية كالأولى، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: «ثم اصنع ذلك في صلاتك كلها» إلا في النية والاستفتاح، لأنه يراد لافتتاح الصلاة، وفي الاستعاذة روايتان:
إحداهما: يستعيذ، لقول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] فيقتضي أن يستعيذ عند كل قراءة.
والثانية: لا يستعيذ لما روى أبو هريرة قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا نهض من الركعة الثانية، استفتح القراءة بالحمد لله رب العالمين، ولم يسكت» . رواه مسلم.
ولأن الصلاة جملة واحدة، فإذا أتى بالاستعاذة من أولها، كفى كالاستفتاح، فإن نسيها في أول الصلاة، أتى بها في الثانية، والاستفتاح خلاف ذلك، نص عليه.
فصل:
ثم يجلس مفترشاً، لقول أبي حميد في صفة صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «فإذا جلس في الركعتين، جلس على اليسرى ونصب الأخرى» ، وفي لفظ: «فافترش رجله اليسرى، وأقبل بصدر اليمنى على قبلته» . صحيح. ويستحب أن يضع يده اليسرى على فخذه اليسرى مبسوطة مضمومة الأصابع مستقبلاً بأطرافها القبلة، أو يلقمها ركبته، ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، يعقد الوسطى مع الإبهام عقد ثلاث وخمسين، ويشير بالسبابة عند ذكر الله تعالى، ويقبض الخنصر والبنصر، لما روى ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثاً وخمسين، وأشار بالسبابة» . رواه مسلم.
وعنه: يبسط الخنصر والبنصر، لما روى ابن الزبير قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قعد يدعو وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بإصبعه السبابة يدعو، ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى يدعو» ، وفي لفظ: «وألقم كفه اليسرى ركبته» ، رواه مسلم. وفي لفظ: «وكان يشير بإصبعه إذا دعا، ولا يحركها» ، رواه أبو داود.
فصل:
ثم يتشهد لما روى ابن مسعود قال: «علمني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التشهد، كفي بين كفيه، كما يعلمني السورة من القرآن: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» . متفق عليه. قال الترمذي هذا أصح حديث روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد، فاختاره أحمد لذلك، فإن تشهد بغيره مما صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتشهد ابن عباس وغيره جاز، نص عليه. ومقتضى هذا أنه متى أخل بلفظة ساقطة في بعض التشهدات، فلا بأس، فإذا فرغ منه، وكانت الصلاة أكثر من ركعتين، لم يزد عليه، لما روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان يجلس في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف.» رواه أبو داود. لشدة تخفيفه، ثم نهض مبكراً كنهوضه من السجود، ويصلي الثالثة والرابعة كالأوليين إلا في الجهرية، ولا يزيد على فاتحة الكتاب لما قدمناه.
فصل:
فإذا فرغ جلس فتشهد، وهما الركن الثاني والثالث عشر، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر به
وعلمه ابن مسعود، ثم قال: «فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك» رواه أبو داود.
وعن ابن مسعود قال: «كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله قبل عباده، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تقولوا: السلام على الله، ولكن قولوا: التحيات لله» فدل هذا على أنه فرض، ويجلس متوركًا يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى، ويخرجهما عن يمينه؛ لقول أبي حميد في وصفه: «فإذا جلس في الركعتين جلس على اليسرى، ونصب اليمنى، فإذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخر رجله اليسرى، وجلس متوركًا على شقه الأيسر، وقعد على مقعدته» . رواه البخاري.
وقال الخرقي: يجعل باطن رجله اليسرى تحت فخذه اليمنى، ويجعل إليته على الأرض؛ لأن في بعض لفظ حديث أبي حميد: «جلس على إليتيه، وجعل باطن قدمه اليسرى عند مأبض اليمنى، ونصب قدمه اليمنى» .
وقال ابن الزبير: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى تحت فخذه وساقه» ، رواهما أبو داود: وأيهما فعل جاز، ولا يتورك إلا في صلاة فيها تشهدان في الأخير منهما؛ لأنه جعل للفرق، ولا حاجة إليه مع عدم الاشتباه.
فصل:
ثم يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيها روايتان:
إحداهما: ليست واجبة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد: «فإذا فعلت فقد تمت صلاتك» .
والثانية: أنها واجبة، قال أبو زرعة الدمشقي، عن أحمد قال: كنت أتهيب ذلك، ثم تبينت، فإذا الصلاة واجبة، ووجهها ما روى كعب بن عجرة قال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج علينا فقلنا: يا رسول الله، قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: «قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد
مجيد» متفق عليه، قال بعض أصحابنا: وتجب الصلاة على هذه الصفة، لأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها، والأولى أن يكون هذا الأفضل، وكيفما أتى بالصلاة أجزأه؛ لأنها رويت بألفاظ مختلفة، فوجب أن يجزئ منها ما اجتمعت عليه الأحاديث.
فصل:
ويستحب أن يتعوذ من أربع؛ لما روى أبو هريرة قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال» متفق عليه، ولمسلم: «إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع» وذكره، وما دعا به مما ورد في القرآن والأخبار فلا بأس إلا أن يكون إمامًا، فلا يستحب له التطويل، كيلا يشق على المأمومين إلا أن يؤثروا ذلك، وقد روي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» متفق عليه.
فصل:
ولا يجوز أن يدعو فيها بالملاذ وشهوات الدنيا، وما يشبه كلام الآدميين، مثل: اللهم ارزقني زوجة حسناء، وطعامًا طيبًا؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» رواه مسلم، ولأن هذا يتخاطب بمثله الآدميون أشبه تشميت العاطس، ورد السلام.
الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» رواه أبو داود، والترمذي، ولأنه أحد طرفي الصلاة، فكان فيه نطق واجب كالأول، ويسلم تسليمتين، فيقول: السلام عليكم ورحمة الله، ويلتفت عن يمينه وعن يساره كذلك، لما «روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم عن يمينه، السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله، وفي لفظ: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم حتى يرى بياض خده عن يمينه وعن يساره» ، رواه مسلم.
ويكون التفاته في الثانية أوفى، قال ابن عقيل يبتدئ بقوله: السلام عليكم إلى القبلة، ثم يلتفت قائلًا: ورحمة الله عن يمينه ويساره؛ «لقول عائشة كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم تلقاء وجهه» ، معناه ابتداء السلام، ويستحب أن يجهر بالأولى أكثر من الثانية، نص عليه، واختاره الخلال، وحمل أحمد «حديث عائشة، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم تسليمة واحدة» ، على أنه كان يجهر بواحدة، ويستحب أن لا يمد السلام؛ لأن أبا هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حذف السلام سنة» رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح. قال ابن المبارك: معناه لا يمده مدًا. قال أحمد: معناه لا يطول به صوته.
فصل:
والواجب تسليمة واحدة، والثانية سنة؛ لأن عائشة وسهل بن سعد وسلمة بن الأكوع رووا أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فسلم مرة واحدة» ، ولأنه إجماع حكاه ابن المنذر، وعنه أن الثانية واجبة؛ لأن جابرًا قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله» رواه مسلم، ولأنها عبادة لها تحللان، فكان الثاني واجبًا كالحج.
فصل:
فإن اقتصر على قول: السلام عليكم، فقال القاضي: ظاهر كلام أحمد أنه يجزئه،
نص عليه في صلاة الجنازة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تحليلها التسليم» وهو حاصل بدون الرحمة، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يسلم عن يمينه وعن يساره السلام عليكم، السلام عليكم. وقال ابن عقيل: الصحيح أنه لا يجزئ؛ لأن من وصف سلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الصحابة، قال فيه: " ورحمة الله " ولأنه سلام ورد فيه ذكر الرحمة، فلم يجزئه بدونها، كالسلام على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد، ويأتي بالسلام مرتبًا فإن نكسه، فقال: عليكم السلام، أو نكس التشهد لم تصح.
وذكر القاضي وجهًا من صحته؛ لأن المقصود يحصل، وهو بعيد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال مرتبًا، وعلمهم إياه مرتبًا، ولأنه ذكر يؤتى به في أحد طرفي الصلاة، فاعتبر ترتيبه كالتكبير.
فصل:
وينوي بسلامه الخروج من الصلاة، فإن لم ينو لم تبطل صلاته، نص عليه؛ لأن نية الصلاة قد شملت جميعها، والسلام من جملتها، ولأنها عبادة فلم تجب النية للخروج منها كسائر العبادات، وقال ابن حامد: تبطل صلاته؛ لأنه أحد طرفي الصلاة، فوجبت فيه النية كالآخر، وإن نوى بالسلام على الحفظة وعلى المصلين معه فلا بأس، نص عليه؛ لحديث جابر الذي قدمناه، وفي لفظ: «أمرنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نرد على الإمام، وأن يسلم بعضنا على بعض» رواه أبو داود.
فصل:
ويستحب ذكر الله تعالى بعد انصرافه من الصلاة ودعائه واستغفاره، قال المغيرة: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» متفق عليه.
وقال ثوبان: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثًا، وقال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» رواه مسلم. «وقال ابن عباس:
إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته» متفق عليه.
فصل:
ويكره للإمام إطالة الجلوس في مكانه مستقبل القبلة؛ لأن عائشة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» رواه ابن ماجه. فإن أحب قام، وإن شاء انحرف عن قبلته، لما روى سمرة قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى أقبل علينا بوجهه» ، رواه مسلم.
وينصرف حيث شاء، عن يمين أو شمال؛ لقول ابن مسعود: «لا يجعل أحدكم للشيطان حظًا من صلاته، يرى أن لا ينصرف إلا عن يمينه، لقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر ما ينصرف عن يساره» . متفق عليه.
فإن كان مع الإمام رجال ونساء، فالمستحب أن تثب النساء، ويثبت هو والرجال، بقدر ما ينصرف النساء؛ لقول أم سلمة: «إن النساء في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كن إذا سلمن من المكتوبة قمن، وثبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام الرجال، قال الزهري: فنرى أن ذلك لكي ينفذ من ينصرف من النساء» ، رواه البخاري. ولأن الإخلال بذلك يفضي إلى اختلاط الرجال بالنساء، ولا يثب المأمومون قبل انصراف الإمام، لئلا يذكر سهوًا فيسجد، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إني إمامكم فلا تبادروني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف» رواه
مسلم.
فإن انحرف عن قبلته أو خالف السنة في إطالة الجلوس مستقبل القبلة، فلا بأس أن يقوم المأموم ويدعه.
فصل:
ويكره للإمام التطوع في موضع صلاة مكتوبة، نص عليه، وقال: كذا قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وللمأموم أن يتطوع في موضع صلاته، فعله ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وروى المغيرة بن شعبة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يتطوع الإمام في مقامه الذي يصلي به الناس» رواه أبو داود. فإن دعت إليه ضرورة، لضيق المسجد انحرف قليلًا عن مصلاه، ثم صلى.
فصل:
وترتيب الصلاة على ما ذكرنا، وهو الركن الخامس عشر، فصارت أركان الصلاة خمسة عشر، لا يسامح بها في عمد ولا سهو.
وواجباتها المختلف فيها: تسعة؛ التكبير سوى تكبيرة الإحرام، التسبيح في الركوع والسجود مرة مرة، وقول: سمع الله لمن حمده، وقول: ربنا ولك الحمد، وقول: رب اغفر لي، بين السجدتين مرة، والتشهد الأول، والجلوس له، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والتسليمة الثانية: وقد ذكرنا في وجوب جميعها روايتين.
وما عدا ذلك فسنن، تتنوع ثلاثة أنواع:
سنن الأقوال، وهي اثنتا عشرة: الاستفتاح، والاستعاذة، وقراءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وقول آمين، وقراءة السورة بعد الفاتحة، والجهر والإخفات في موضعهما، وما زاد على التسبيحة الواحدة في الركوع والسجود، وعلى المرة في سؤال المغفرة، وقول ملء السماء بعد التحميد، والدعاء، والتعوذ في التشهد الأخير، وقنوت الوتر.
النوع الثاني: سنن الأفعال، وهي اثنتان وعشرون: رفع اليدين عند الإحرام، الركوع والرفع منه، ووضع اليمنى على اليسرى، وجعلهما فوق السرة، والنظر إلى موضع سجوده، ووضع اليدين على الركبتين في الركوع، ومد الظهر والتسوية بين رأسه وظهره، والتجافي فيه، والبداءة بوضع الركبتين قبل اليدين في السجود، ورفع اليدين قبل الركبتين في النهوض، والتجافي فيه، وفتح أصابع رجليه فيه، وفي الجلوس، ووضع يديه حذو منكبيه مضمومة، مستقبلًا بها القبلة، والتورك في التشهد الأخير، والافتراش في الأول، وفي سائر الجلوس، ووضع اليد اليمنى على الفخذ اليمنى مقبوضة محلقة، والإشارة بالسبابة، ووضع اليسرى على الفخذ اليسرى مبسوطة، والالتفات عن يمينه وشماله في التسليم، والسجود على أنفه، وجلسة الاستراحة على إحدى الروايتين فيهما.
والنوع الثالث: ما يتعلق بالقلب: وهو الخشوع، ونية الخروج في سلامه.
فصل:
ولا يسن القنوت في صلاة فرض؛ لأن أبا مالك الأشجعي، قال: قلت لأبي: «يا أبت، إنك قد صليت خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، هاهنا في الكوفة نحوًا من خمس سنين، أكانوا يقنتون؟ قال: أي بني، محدث» ، قال الترمذي: هذا حديث حسن. وعن أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت شهرًا يدعو على حي من أحياء العرب، ثم تركه» . رواه مسلم، فإن نزل بالمسلمين نازلة فللإمام القنوت في صلاة الصبح بعد الركوع، اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لما روى أبو هريرة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يقنت في صلاة الفجر إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم» ، رواه سعيد في سننه، وليس ذلك لآحاد المسلمين، ويقول في قنوته نحوًا من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقول عمر رضي
الله عنه وكان عمر يقول في القنوت: " اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم العن كفرة أهل الكتاب، الذين يكذبون رسلك، ويقاتلون أولياءك، اللهم خالف بين كلمتهم، وزلزل أقدامهم وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللهم إنا نستعينك " رواه أبو داود.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب صلاة التطوع]
[باب صلاة التطوع]
وهي من أفضل تطوع البدن؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «واعلموا أن من خير أعمالكم الصلاة» رواه ابن ماجه، ولأن فرضها آكد الفروض، فتطوعها آكد التطوع.
وهي تنقسم أربعة أقسام:
القسم الأول: السنن الرواتب، وهي ثلاثة أنواع:
النوع الأول: الرواتب مع الفرائض، وآكدها عشر ركعات، وذكرها ابن عمر، قال: «حفظت من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح، كانت ساعة لا يدخل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها أحد حدثتني حفصة، أنه كان إذا أذن المؤذن، وطلع الفجر، صلى ركعتين» ، متفق عليه.
وآكدها ركعتا الفجر؛ قالت عائشة: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتي الفجر» ، وقال: «ركعتا الفجر أحب إلي من الدنيا وما فيها» رواهما مسلم، وقال: «صلوهما ولو طردتكم الخيل» رواه أبو داود، ويستحب له تخفيفها، لقول عائشة: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يصلي ركعتي الفجر فيخفف، حتى إني لأقول هل قرأ فيهما بفاتحة الكتاب؟» متفق عليه.
ويقرأ فيهما وفي ركعتي المغرب: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، قال أبو هريرة: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في ركعتي الفجر: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] رواه مسلم. وعن ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان يقرأ في الركعتين بعد المغرب {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » رواه ابن ماجه.
ويستحب ركوعهن في البيت؛ لحديث ابن عمر، ولما روى رافع بن خديج قال: «أتانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بني عبد الأشهل فصلى المغرب في مسجدنا، ثم قال: اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم» رواه ابن ماجه. قال أحمد: ليس
هاهنا شيء آكد من الركعتين بعد المغرب، يعني فعلها في البيت.
ويستحب المحافظة على أربع قبل الظهر، وأربع بعدها، لما روت أم حبيبة قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار» وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.
وعلى أربع قبل العصر، لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعًا» رواه أبو داود.
وعلى ست بعد المغرب، لما روي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صلى بعد المغرب ستًا لم يتكلم بينهن بسوء، عدلن له عبادة ثنتي عشرة سنة» رواه الترمذي.
وعلى أربع بعد العشاء؛ لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «ما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشاء قط إلا صلى أربع ركعات، أو ست ركعات» ، رواه أبو داود.
فصل:
في الوتر:
النوع الثاني: الوتر. وهو سنة مؤكدة، لمداومة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حضره وسفره، وروى أبو أيوب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الوتر حق، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل» رواه أبو داود. وحكي عن أبي بكر أنه واجب لذلك، والصحيح أنه ليس بواجب؛ لأنه يصلى على الراحلة من غير ضرورة، ولا يجوز ذلك في واجب.
والكلام فيه في ثلاثة أشياء: وقته، وعدده، وقنوته.
أما وقته: فمن صلاة العشاء إلى صلاة الصبح، لما روى أبو بصرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله زادكم صلاة، فصلوها ما بين صلاة العشاء إلى صلاة الصبح، الوتر» رواه الإمام أحمد. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة» متفق عليه.
والأفضل فعله سحرًا؛ لقول عائشة: «من كل الليل قد أوتر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فانتهى وتره إلى السحر» . متفق عليه، فمن كان له تهجد جعل الوتر بعده، ومن خشي أن لا يقوم أوتر قبل أن ينام؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر من أوله، ومن طمع أن يقوم من آخره، فليوتر من آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل» رواه مسلم.
فمن أوتر قبل النوم، ثم قام للتهجد لم ينقض وتره، وصلى شفعًا حتى يصبح؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وتران في ليلة» وهذا حديث حسن. ومن أحب تأخير الوتر، فصلى مع الإمام التراويح والوتر، قام إذا سلم الإمام، فضم إلى الوتر ركعة أخرى؛ لتكون شفعًا، ومن فاته الوتر حتى يصبح صلاه قبل الفجر، لما ذكرنا متقدمًا.
وأما عدده، فأقله ركعة لحديث أبي أيوب، وأكثره إحدى عشرة يسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة لما روت عائشة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي ما بين صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة» . متفق عليه. وأدنى الكمال: ثلاث بتسليمتين، لما روى ابن عمر أن «رجلًا سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوتر، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: افصل بين الواحدة والثنتين بالتسليم» رواه الأثرم.
فإن أوتر خلف الإمام تابعه فيما يفعله، لئلا يخالفه، قال أحمد: يعجبني أن يسلم في الركعتين، وإن أوتر بثلاث لم يضيق عليه عندي.
ويستحب أن يقرأ في الأولى بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وفي الثانية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وفي الثالثة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] لما روى أبي بن كعب قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » رواه أبو داود.
وإن أوتر بخمس سردهن، فلم يجلس إلا في آخرهن؛ لأن عائشة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر في ذلك بخمس، لا يجلس إلا في آخرهن» . متفق عليه. وإن أوتر بتسع لم يجلس إلا بعد الثامنة، ولم يسلم، ثم جلس بعد التاسعة، فتشهد وسلم، وكذلك يفعل في السبع، لما «روى سعد بن هشام قال: قلت لعائشة: أنبئيني عن وتر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقالت: كنا نعد كل سواكه وطهوره، فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه، فيتسوك ويصلي تسع ركعات، ولا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمد ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيحمد الله ويذكره ويدعوه، ثم يسلم تسليمًا يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني، فلما أسن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخذه اللحم أوتر بسبع، وصنع في الركعتين صنيعه في الأول» رواه مسلم، وأبو داود. وفي حديثه: «أوتر بسبع ركعات لم يجلس فيهن إلا في السادسة والسابعة، ولم يسلم إلا في السابعة» .
وأما القنوت فيه؛ فمسنون في جميع السنة، وعنه: لا يقنت إلا في النصف الأخير من رمضان؛ لأن أبيًا كان يفعل ذلك حين يصلي التراويح، وعن أحمد ما يدل على رجوعه قال في رواية المروذي: قد كنت أذهب إلى أنه في النصف الأخير من رمضان،
ثم إني قنت، هو دعاء وخير، ولأن ما شرع في الوتر في رمضان شرع من غيره كعدده، ويقنت بعد الركوع، لما روى أبو هريرة، وأنس أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت بعد الركوع» ، رواه مسلم.
ويقول في قنوته: ما «روى الحسن بن علي قال: علمني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلمات أقولهن في الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت» رواه الترمذي، وقال: لا نعرف عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القنوت شيئًا أحسن من هذا، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في آخر الوتر: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» رواه الطيالسي.
وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قنت فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللهم إنا نستعينك، ونستهديك، ونستغفرك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، ونشكرك ولا نكفرك، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق، اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك، وهاتان سورتان من مصحف أبي. وقال ابن قتيبة: نحفد: نبادر، وأصل الحفد: مداركة الخطو، والإسراع. والجد بكسر الجيم أي: الحق لا اللعب، وملحق بكسر الحاء لاحق، وإن فتحها جاز.
وإذا قنت الإمام أمن من خلفه، فإن لم يسمع قنوت الإمام، دعا هو، نص عليه.
ويرفع يديه في القنوت إلى صدره؛ لأن ابن مسعود فعله، وإذا فرغ أمر يديه على وجهه، وعنه: لا يفعل، والأولى أولى؛ لأن السائب بن يزيد قال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دعا رفع يديه، ومسح وجهه بيديه» . رواه أبو داود.
ووقتها إذا علت الشمس، واشتد حرها؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «صلاة الأوابين حين ترمض الفصال» رواه مسلم. قال أبو الخطاب: يستحب المداومة عليها؛ لحديث أبي هريرة، ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من حافظ على شفعة الضحى غفرت ذنوبه، وإن كانت مثل زبد البحر» أخرجه الترمذي، ولأن أحب العمل إلى الله أدومه، وقال غيره: لا يستحب ذلك؛ لقول عائشة: «ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الضحى قط.» متفق عليه، ولأن فيه تشبيهًا بالفرائض.
فصل:
والقسم الثاني: ما سن له الجماعة، منها التراويح، وهو قيام رمضان، وهي سنة مؤكدة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صام رمضان، وقامه إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه» متفق عليه، وقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأصحابه ثلاث ليال، ثم تركها خشية أن تفرض، فكان الناس يصلون لأنفسهم، حتى خرج عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عليهم وهم أوزاع يصلون، فجمعهم على أبي بن كعب. قال السائب بن يزيد: لما جمع عمر الناس على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة؛ فالسنة أن يصلي بهم عشرين ركعة في الجماعة لذلك، ويوتر الإمام بهم بثلاث ركعات، لما روى مالك عن يزيد بن رومان قال: كان الناس يقومون في عهد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بثلاث وعشرين ركعة، قال أحمد: يعجبني أن يصلي مع الإمام ويوتر معه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف، حسب له قيام ليلة» قال: ويقرأ بالقوم في شهر رمضان ما يخف على الناس، ولا يشق عليهم، قال القاضي: لا تستحب الزيادة على ختمة، لئلا يشق عليهم، ولا النقصان منها، ليسمعهم جميع القرآن، إلا أن يتفق جماعة يؤثرون الإطالة، فلا بأس بها، وسميت هذه تراويح؛ لأنهم كانوا يجلسون بين كل أربعة يستريحون.
وكره أحمد التطوع بينها، وقال: فيه عن ثلاثة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كراهية، عبادة، وأبو الدرداء وعقبة بن عامر.
ولا يكره التعقيب، وهو أن يصلوا بعد التراويح نافلة في جماعة؛ لأن أنسًا قال: ما يرجعون إلا لخير يرجونه، أو لشر يحذرونه، وعنه: أنه يكره، إلا أنه قول قديم. قال أبو بكر: إن أخروا الصلاة إلى نصف الليل أو آخره لم يكره رواية واحدة، قال أحمد: فإذا أنت فرغت من قراءة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] ، فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع، وادع وأطل القيام، رأيت أهل مكة وسفيان بن عيينة يفعلونه، واختلف أصحابنا في قيام ليلة الشك، فقامها القاضي؛ لأن القيام تبع للصيام، ومنعها أبو حفص العكبري؛ لأن الأصل بقاء شعبان، ترك ذلك في الصيام احتياطًا، ففيما عداه يبقى على الأصل.
فصل:
القسم الثالث: التطوع المطلق، وهو مشروع في الليل والنهار، وتطوع الليل أفضل؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة الليل» وهو حديث حسن. والنصف الأخير أفضل، «قال عمرو بن عبسة: قلت: يا رسول الله، أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الأخير» رواه أبو داود. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحب الصلاة إلى الله، صلاة داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه» متفق عليه.
ويستحب للمتهجد أن يفتتح صلاته بركعتين خفيفتين؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين» رواه مسلم.
ويستحب أن يكون له ركعات معلومة، يقرأ فيها حزبه من القرآن؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أحب العمل إلى الله الذي يدوم عليه صاحبه وإن قل» متفق عليه.
وقالت عائشة: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي ما بين أن يفرغ من صلاة العشاء الآخرة إلى الفجر إحدى عشرة ركعة» . رواه مسلم.
وهو مخير إن شاء خافت، وإن شاء جهر، قالت عائشة: «كل ذلك كان يفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ربما أسر وربما جهر» حديث صحيح، إلا أنه إن كان يسمع ما ينفعه، أو يكون أنشط له وأطيب لقلبه، فالجهر أفضل، وإن كان يؤذي أحدًا، أو يخلط عليه القراءة، فالسر أولى، فإن أبا سعيد قال: «اعتكف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر، وقال: ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضًا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة» رواه أبو داود.
فصل:
ويستحب أن يختم القرآن في كل سبع؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الله بن عمرو: «اقرأ القرآن في كل سبع» متفق عليه.
ويحزبه أحزابًا، لما روى أوس بن حذيفة قال: «قلنا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لقد أبطأت علينا الليلة، قال: إنه طرأ علي حزبي، فكرهت أن أجيء حتى أتمه. قال أوس: فسألت أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيف يحزبون القرآن؟ قال: قالوا: ثلاث وخمس وسبع وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده» . رواه أبو داود.
فصل:
وصلاة الليل مثنى مثنى، لا يزيد على ركعتين؛ لما «روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: صلاة الليل مثنى مثنى قيل لابن عمر: ما مثنى مثنى؟ قال: تسلم من كل ركعتين» . متفق عليه.
وإن تطوع في النهار بأربع فلا بأس؛ لأن تخصيص الليل بالتثنية دليل على إباحة الزيادة عليها في النهار.
والأفضل التثنية؛ لأنه أبعد من السهو.
فصل:
والتطوع في البيت أفضل؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» . رواه مسلم، ولأنه من عمل السر، ويجوز منفردًا وفي جماعة؛ لأن أكثر تطوع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان منفردًا، وقد أم ابن عباس في التطوع مرة، وحذيفة مرة، وأنسًا واليتيم مرة، فدل على جواز الجميع.
فصل:
ويجوز التطوع جالسًا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلاة الرجل قاعدًا نصف الصلاة» رواه مسلم، ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك؛ لأنه يستحب تطويله وتكثيره، فسومح في ترك القيام تكثيرًا له، ويستحب أن يكون في حال القيام متربعًا، ليخالف حالة الجلوس، ويثني رجليه حال السجود؛ لأن حال الركوع كحال القيام، وقال الخرقي: يثنيها في الركوع أيضًا لأن ذلك يروى عن أنس، وإن صلى على غير هذه الهيئة جاز، وإذا بلغ الركوع فإن شاء قام، ثم ركع لما روت عائشة قالت: «لم أر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي صلاة الليل قاعدًا حتى أسن، فكان يقرأ قاعدًا حتى إذا أراد أن يركع، قام فقرأ نحوًا من ثلاثين آية، أو أربعين آية، ثم ركع» . متفق عليه.
وإن شاء ركع من قعود، لما روت عائشة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي ليلًا طويلًا قائمًا، وليلًا طويلًا قاعدًا، وكان إذا قرأ وهو قائم، ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ وهو قاعد ركع وسجد وهو قاعد» . رواه مسلم.
فصل:
القسم الرابع: صلوات لها أسباب، منها تحية المسجد، لما روى أبو قتادة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس» متفق عليه.
ومنها صلاة الاستخارة، قال جابر: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم في الأمر؛ فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي ومعادي وعاقبة أمري - أو قال: في عاجل أمري وآجله - فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي، في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: في عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به» أخرجه البخاري.
فصل:
وسجود التلاوة سنة للقارئ والمستمع؛ لأن ابن عمر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ علينا السورة من غير الصلاة، فيسجد ونسجد معه، حتى لا يجد أحدنا مكانًا لوضع جبهته» متفق عليه. ولا يسن للسامع عن غير قصد؛ لأن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مر بقاص، فقرأ سجدة ليسجد عثمان معه، فلم يسجد، وقال: إنما السجدة على من استمع.
ويشترط كون التالي يصلح إمامًا للمستمع، لما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى إلى نفر من أصحابه، فقرأ رجل منهم سجدة، ثم نظر إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنك كنت إمامنا، ولو سجدت لسجدنا» رواه الشافعي.
ويسجد القارئ لسجود الأمي والقادر على القيام بالعاجز عنه؛ لأن ذلك ليس بواجب فيه، ولا يقوم الركوع مقام السجود؛ لأنه سجود مشروع فأشبه سجود الصلاة، وإن كانت السجدة آخر السورة سجد ثم قام فقرأ شيئًا ثم ركع، وإن أحب قام، ثم ركع من غير قراءة، وإن شاء ركع في آخر السورة؛ لأن السجود يؤتى به عقيب الركوع.
فصل:
[في أن سجود التلاوة غير واجب] :
وسجود التلاوة غير واجب؛ لأن زيد بن ثابت قال: «قرأت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النجم،
فلم يسجد منا أحد» متفق عليه. وقال عمر: يا أيها الناس، إنما نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يكتبها الله علينا.
وله أن يومئ بالسجود على الراحلة، كصلاة السفر، ويشترط له ما يشترط للنافلة، ويكبر للسجود تكبيرة واحدة في الصلاة وفي غيرها؛ لأن ابن عمر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ علينا القرآن، فإذا مر بالسجدة، كبر وسجد، وسجدنا معه» ، ويرفع يديه في غير الصلاة؛ لأنها تكبيرة افتتاح، وإن كان في صلاة، ففيها روايتان، ويكبر للرفع منه؛ لأنه رفع من سجود أشبه سجود الصلاة، ويسلم إذا رفع تسليمة واحدة؛ لأنها صلاة ذات إحرام، فأشبهت صلاة الجنازة.
وعنه: لا سلام له؛ لأنه لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يفتقر إلى تشهد، ولا يسجد فيه لسهو؛ لأنه لا ركوع فيه أشبه صلاة الجنازة، ولا يفتقر إلى قيام؛ لأنه لا قراءة فيه، ويقول فيه ما يقول في سجود الصلاة، فإن قال ما روت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يقول في سجود القرآن: سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته» فحسن، وهذا حديث صحيح. فإن قال غيره مما ورد في الأخبار فحسن.
فصل:
وسجدات القرآن، أربع عشرة سجدة: في (الحج) منها اثنتان، وثلاث في المفصل، وعنه: أنها خمس عشرة سجدة، منها سجدة (ص) ؛ لما «روى عمرو بن العاص أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقرأه خمس عشرة سجدة؛ منها ثلاث في المفصل، وسجدتان في الحج» رواه أبو داود. والصحيح أن سجدة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليست من عزائم السجود؛ لما روى ابن عباس أنه قال: ليست (ص) من عزائم السجود رواه أبو داود.
ومواضع السجدات ثابتة بالإجماع، إلا سجدات المفصل، والثانية من الحج، وقد ثبت ذلك بحديث عمرو. «وروى عقبة بن عامر أنه قال: يا رسول الله، أفي الحج سجدتان؟ قال: نعم، ومن لم يسجدهما لا يقرأهما» رواه أبو داود. وأول السجدات آخر الأعراف، وفي الرعد عند قوله: {بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15] ، وفي النحل عند: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] ، وفي سبحان عند {يَزِيدُهُمْ إِلا} [الإسراء: 41] ، وفي مريم عند: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] ، وفي الحج: الأولى عند: {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18]
والثانية عند: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] وفي الفرقان عند: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60] ، وفي النمل عند: {الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26] ، وفي {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] عند: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15] وفي حم السجدة عند: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] وفي آخر النجم، وفي: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] عند: {لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] ، وآخر اقرأ، ويكره اختصار السجود، وهو أن يجمع آيات السجدات فيقرأها في ركعة، وقيل: أن يحذف آيات السجدات في قراءته، وكلاهما مكروه؛ لأنه محدث، وفيه إخلال بالترتيب.
فصل:
وسجود الشكر مستحب عند تجدد النعم، لما روى أبو بكرة قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جاءه شيء يسر به خر ساجدًا» ، وصفته وشروطه كصفة سجود التلاوة وشروطها، ولا يسجد للشكر في الصلاة؛ لأن سببه ليس منها، فإن فعل بطلت، كما لو سجد في الصلاة لسهو صلاة أخرى.
وهي من أفضل تطوع البدن؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «واعلموا أن من خير أعمالكم الصلاة» رواه ابن ماجه، ولأن فرضها آكد الفروض، فتطوعها آكد التطوع.
وهي تنقسم أربعة أقسام:
القسم الأول: السنن الرواتب، وهي ثلاثة أنواع:
النوع الأول: الرواتب مع الفرائض، وآكدها عشر ركعات، وذكرها ابن عمر، قال: «حفظت من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح، كانت ساعة لا يدخل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها أحد حدثتني حفصة، أنه كان إذا أذن المؤذن، وطلع الفجر، صلى ركعتين» ، متفق عليه.
وآكدها ركعتا الفجر؛ قالت عائشة: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتي الفجر» ، وقال: «ركعتا الفجر أحب إلي من الدنيا وما فيها» رواهما مسلم، وقال: «صلوهما ولو طردتكم الخيل» رواه أبو داود، ويستحب له تخفيفها، لقول عائشة: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يصلي ركعتي الفجر فيخفف، حتى إني لأقول هل قرأ فيهما بفاتحة الكتاب؟» متفق عليه.
ويقرأ فيهما وفي ركعتي المغرب: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، قال أبو هريرة: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في ركعتي الفجر: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] رواه مسلم. وعن ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان يقرأ في الركعتين بعد المغرب {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » رواه ابن ماجه.
ويستحب ركوعهن في البيت؛ لحديث ابن عمر، ولما روى رافع بن خديج قال: «أتانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بني عبد الأشهل فصلى المغرب في مسجدنا، ثم قال: اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم» رواه ابن ماجه. قال أحمد: ليس
هاهنا شيء آكد من الركعتين بعد المغرب، يعني فعلها في البيت.
ويستحب المحافظة على أربع قبل الظهر، وأربع بعدها، لما روت أم حبيبة قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار» وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.
وعلى أربع قبل العصر، لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعًا» رواه أبو داود.
وعلى ست بعد المغرب، لما روي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صلى بعد المغرب ستًا لم يتكلم بينهن بسوء، عدلن له عبادة ثنتي عشرة سنة» رواه الترمذي.
وعلى أربع بعد العشاء؛ لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «ما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشاء قط إلا صلى أربع ركعات، أو ست ركعات» ، رواه أبو داود.
فصل:
في الوتر:
النوع الثاني: الوتر. وهو سنة مؤكدة، لمداومة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حضره وسفره، وروى أبو أيوب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الوتر حق، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل» رواه أبو داود. وحكي عن أبي بكر أنه واجب لذلك، والصحيح أنه ليس بواجب؛ لأنه يصلى على الراحلة من غير ضرورة، ولا يجوز ذلك في واجب.
والكلام فيه في ثلاثة أشياء: وقته، وعدده، وقنوته.
أما وقته: فمن صلاة العشاء إلى صلاة الصبح، لما روى أبو بصرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله زادكم صلاة، فصلوها ما بين صلاة العشاء إلى صلاة الصبح، الوتر» رواه الإمام أحمد. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة» متفق عليه.
والأفضل فعله سحرًا؛ لقول عائشة: «من كل الليل قد أوتر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فانتهى وتره إلى السحر» . متفق عليه، فمن كان له تهجد جعل الوتر بعده، ومن خشي أن لا يقوم أوتر قبل أن ينام؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر من أوله، ومن طمع أن يقوم من آخره، فليوتر من آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل» رواه مسلم.
فمن أوتر قبل النوم، ثم قام للتهجد لم ينقض وتره، وصلى شفعًا حتى يصبح؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وتران في ليلة» وهذا حديث حسن. ومن أحب تأخير الوتر، فصلى مع الإمام التراويح والوتر، قام إذا سلم الإمام، فضم إلى الوتر ركعة أخرى؛ لتكون شفعًا، ومن فاته الوتر حتى يصبح صلاه قبل الفجر، لما ذكرنا متقدمًا.
وأما عدده، فأقله ركعة لحديث أبي أيوب، وأكثره إحدى عشرة يسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة لما روت عائشة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي ما بين صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة» . متفق عليه. وأدنى الكمال: ثلاث بتسليمتين، لما روى ابن عمر أن «رجلًا سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوتر، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: افصل بين الواحدة والثنتين بالتسليم» رواه الأثرم.
فإن أوتر خلف الإمام تابعه فيما يفعله، لئلا يخالفه، قال أحمد: يعجبني أن يسلم في الركعتين، وإن أوتر بثلاث لم يضيق عليه عندي.
ويستحب أن يقرأ في الأولى بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وفي الثانية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وفي الثالثة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] لما روى أبي بن كعب قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » رواه أبو داود.
وإن أوتر بخمس سردهن، فلم يجلس إلا في آخرهن؛ لأن عائشة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر في ذلك بخمس، لا يجلس إلا في آخرهن» . متفق عليه. وإن أوتر بتسع لم يجلس إلا بعد الثامنة، ولم يسلم، ثم جلس بعد التاسعة، فتشهد وسلم، وكذلك يفعل في السبع، لما «روى سعد بن هشام قال: قلت لعائشة: أنبئيني عن وتر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقالت: كنا نعد كل سواكه وطهوره، فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه، فيتسوك ويصلي تسع ركعات، ولا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمد ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيحمد الله ويذكره ويدعوه، ثم يسلم تسليمًا يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني، فلما أسن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخذه اللحم أوتر بسبع، وصنع في الركعتين صنيعه في الأول» رواه مسلم، وأبو داود. وفي حديثه: «أوتر بسبع ركعات لم يجلس فيهن إلا في السادسة والسابعة، ولم يسلم إلا في السابعة» .
وأما القنوت فيه؛ فمسنون في جميع السنة، وعنه: لا يقنت إلا في النصف الأخير من رمضان؛ لأن أبيًا كان يفعل ذلك حين يصلي التراويح، وعن أحمد ما يدل على رجوعه قال في رواية المروذي: قد كنت أذهب إلى أنه في النصف الأخير من رمضان،
ثم إني قنت، هو دعاء وخير، ولأن ما شرع في الوتر في رمضان شرع من غيره كعدده، ويقنت بعد الركوع، لما روى أبو هريرة، وأنس أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت بعد الركوع» ، رواه مسلم.
ويقول في قنوته: ما «روى الحسن بن علي قال: علمني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلمات أقولهن في الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت» رواه الترمذي، وقال: لا نعرف عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القنوت شيئًا أحسن من هذا، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في آخر الوتر: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» رواه الطيالسي.
وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قنت فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللهم إنا نستعينك، ونستهديك، ونستغفرك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، ونشكرك ولا نكفرك، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق، اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك، وهاتان سورتان من مصحف أبي. وقال ابن قتيبة: نحفد: نبادر، وأصل الحفد: مداركة الخطو، والإسراع. والجد بكسر الجيم أي: الحق لا اللعب، وملحق بكسر الحاء لاحق، وإن فتحها جاز.
وإذا قنت الإمام أمن من خلفه، فإن لم يسمع قنوت الإمام، دعا هو، نص عليه.
ويرفع يديه في القنوت إلى صدره؛ لأن ابن مسعود فعله، وإذا فرغ أمر يديه على وجهه، وعنه: لا يفعل، والأولى أولى؛ لأن السائب بن يزيد قال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دعا رفع يديه، ومسح وجهه بيديه» . رواه أبو داود.
ووقتها إذا علت الشمس، واشتد حرها؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «صلاة الأوابين حين ترمض الفصال» رواه مسلم. قال أبو الخطاب: يستحب المداومة عليها؛ لحديث أبي هريرة، ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من حافظ على شفعة الضحى غفرت ذنوبه، وإن كانت مثل زبد البحر» أخرجه الترمذي، ولأن أحب العمل إلى الله أدومه، وقال غيره: لا يستحب ذلك؛ لقول عائشة: «ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الضحى قط.» متفق عليه، ولأن فيه تشبيهًا بالفرائض.
فصل:
والقسم الثاني: ما سن له الجماعة، منها التراويح، وهو قيام رمضان، وهي سنة مؤكدة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صام رمضان، وقامه إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه» متفق عليه، وقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأصحابه ثلاث ليال، ثم تركها خشية أن تفرض، فكان الناس يصلون لأنفسهم، حتى خرج عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عليهم وهم أوزاع يصلون، فجمعهم على أبي بن كعب. قال السائب بن يزيد: لما جمع عمر الناس على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة؛ فالسنة أن يصلي بهم عشرين ركعة في الجماعة لذلك، ويوتر الإمام بهم بثلاث ركعات، لما روى مالك عن يزيد بن رومان قال: كان الناس يقومون في عهد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بثلاث وعشرين ركعة، قال أحمد: يعجبني أن يصلي مع الإمام ويوتر معه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف، حسب له قيام ليلة» قال: ويقرأ بالقوم في شهر رمضان ما يخف على الناس، ولا يشق عليهم، قال القاضي: لا تستحب الزيادة على ختمة، لئلا يشق عليهم، ولا النقصان منها، ليسمعهم جميع القرآن، إلا أن يتفق جماعة يؤثرون الإطالة، فلا بأس بها، وسميت هذه تراويح؛ لأنهم كانوا يجلسون بين كل أربعة يستريحون.
وكره أحمد التطوع بينها، وقال: فيه عن ثلاثة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كراهية، عبادة، وأبو الدرداء وعقبة بن عامر.
ولا يكره التعقيب، وهو أن يصلوا بعد التراويح نافلة في جماعة؛ لأن أنسًا قال: ما يرجعون إلا لخير يرجونه، أو لشر يحذرونه، وعنه: أنه يكره، إلا أنه قول قديم. قال أبو بكر: إن أخروا الصلاة إلى نصف الليل أو آخره لم يكره رواية واحدة، قال أحمد: فإذا أنت فرغت من قراءة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] ، فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع، وادع وأطل القيام، رأيت أهل مكة وسفيان بن عيينة يفعلونه، واختلف أصحابنا في قيام ليلة الشك، فقامها القاضي؛ لأن القيام تبع للصيام، ومنعها أبو حفص العكبري؛ لأن الأصل بقاء شعبان، ترك ذلك في الصيام احتياطًا، ففيما عداه يبقى على الأصل.
فصل:
القسم الثالث: التطوع المطلق، وهو مشروع في الليل والنهار، وتطوع الليل أفضل؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة الليل» وهو حديث حسن. والنصف الأخير أفضل، «قال عمرو بن عبسة: قلت: يا رسول الله، أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الأخير» رواه أبو داود. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحب الصلاة إلى الله، صلاة داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه» متفق عليه.
ويستحب للمتهجد أن يفتتح صلاته بركعتين خفيفتين؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين» رواه مسلم.
ويستحب أن يكون له ركعات معلومة، يقرأ فيها حزبه من القرآن؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أحب العمل إلى الله الذي يدوم عليه صاحبه وإن قل» متفق عليه.
وقالت عائشة: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي ما بين أن يفرغ من صلاة العشاء الآخرة إلى الفجر إحدى عشرة ركعة» . رواه مسلم.
وهو مخير إن شاء خافت، وإن شاء جهر، قالت عائشة: «كل ذلك كان يفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ربما أسر وربما جهر» حديث صحيح، إلا أنه إن كان يسمع ما ينفعه، أو يكون أنشط له وأطيب لقلبه، فالجهر أفضل، وإن كان يؤذي أحدًا، أو يخلط عليه القراءة، فالسر أولى، فإن أبا سعيد قال: «اعتكف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر، وقال: ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضًا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة» رواه أبو داود.
فصل:
ويستحب أن يختم القرآن في كل سبع؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الله بن عمرو: «اقرأ القرآن في كل سبع» متفق عليه.
ويحزبه أحزابًا، لما روى أوس بن حذيفة قال: «قلنا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لقد أبطأت علينا الليلة، قال: إنه طرأ علي حزبي، فكرهت أن أجيء حتى أتمه. قال أوس: فسألت أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيف يحزبون القرآن؟ قال: قالوا: ثلاث وخمس وسبع وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده» . رواه أبو داود.
فصل:
وصلاة الليل مثنى مثنى، لا يزيد على ركعتين؛ لما «روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: صلاة الليل مثنى مثنى قيل لابن عمر: ما مثنى مثنى؟ قال: تسلم من كل ركعتين» . متفق عليه.
وإن تطوع في النهار بأربع فلا بأس؛ لأن تخصيص الليل بالتثنية دليل على إباحة الزيادة عليها في النهار.
والأفضل التثنية؛ لأنه أبعد من السهو.
فصل:
والتطوع في البيت أفضل؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» . رواه مسلم، ولأنه من عمل السر، ويجوز منفردًا وفي جماعة؛ لأن أكثر تطوع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان منفردًا، وقد أم ابن عباس في التطوع مرة، وحذيفة مرة، وأنسًا واليتيم مرة، فدل على جواز الجميع.
فصل:
ويجوز التطوع جالسًا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلاة الرجل قاعدًا نصف الصلاة» رواه مسلم، ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك؛ لأنه يستحب تطويله وتكثيره، فسومح في ترك القيام تكثيرًا له، ويستحب أن يكون في حال القيام متربعًا، ليخالف حالة الجلوس، ويثني رجليه حال السجود؛ لأن حال الركوع كحال القيام، وقال الخرقي: يثنيها في الركوع أيضًا لأن ذلك يروى عن أنس، وإن صلى على غير هذه الهيئة جاز، وإذا بلغ الركوع فإن شاء قام، ثم ركع لما روت عائشة قالت: «لم أر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي صلاة الليل قاعدًا حتى أسن، فكان يقرأ قاعدًا حتى إذا أراد أن يركع، قام فقرأ نحوًا من ثلاثين آية، أو أربعين آية، ثم ركع» . متفق عليه.
وإن شاء ركع من قعود، لما روت عائشة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي ليلًا طويلًا قائمًا، وليلًا طويلًا قاعدًا، وكان إذا قرأ وهو قائم، ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ وهو قاعد ركع وسجد وهو قاعد» . رواه مسلم.
فصل:
القسم الرابع: صلوات لها أسباب، منها تحية المسجد، لما روى أبو قتادة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس» متفق عليه.
ومنها صلاة الاستخارة، قال جابر: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم في الأمر؛ فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي ومعادي وعاقبة أمري - أو قال: في عاجل أمري وآجله - فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي، في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: في عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به» أخرجه البخاري.
فصل:
وسجود التلاوة سنة للقارئ والمستمع؛ لأن ابن عمر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ علينا السورة من غير الصلاة، فيسجد ونسجد معه، حتى لا يجد أحدنا مكانًا لوضع جبهته» متفق عليه. ولا يسن للسامع عن غير قصد؛ لأن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مر بقاص، فقرأ سجدة ليسجد عثمان معه، فلم يسجد، وقال: إنما السجدة على من استمع.
ويشترط كون التالي يصلح إمامًا للمستمع، لما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى إلى نفر من أصحابه، فقرأ رجل منهم سجدة، ثم نظر إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنك كنت إمامنا، ولو سجدت لسجدنا» رواه الشافعي.
ويسجد القارئ لسجود الأمي والقادر على القيام بالعاجز عنه؛ لأن ذلك ليس بواجب فيه، ولا يقوم الركوع مقام السجود؛ لأنه سجود مشروع فأشبه سجود الصلاة، وإن كانت السجدة آخر السورة سجد ثم قام فقرأ شيئًا ثم ركع، وإن أحب قام، ثم ركع من غير قراءة، وإن شاء ركع في آخر السورة؛ لأن السجود يؤتى به عقيب الركوع.
فصل:
[في أن سجود التلاوة غير واجب] :
وسجود التلاوة غير واجب؛ لأن زيد بن ثابت قال: «قرأت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النجم،
فلم يسجد منا أحد» متفق عليه. وقال عمر: يا أيها الناس، إنما نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يكتبها الله علينا.
وله أن يومئ بالسجود على الراحلة، كصلاة السفر، ويشترط له ما يشترط للنافلة، ويكبر للسجود تكبيرة واحدة في الصلاة وفي غيرها؛ لأن ابن عمر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ علينا القرآن، فإذا مر بالسجدة، كبر وسجد، وسجدنا معه» ، ويرفع يديه في غير الصلاة؛ لأنها تكبيرة افتتاح، وإن كان في صلاة، ففيها روايتان، ويكبر للرفع منه؛ لأنه رفع من سجود أشبه سجود الصلاة، ويسلم إذا رفع تسليمة واحدة؛ لأنها صلاة ذات إحرام، فأشبهت صلاة الجنازة.
وعنه: لا سلام له؛ لأنه لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يفتقر إلى تشهد، ولا يسجد فيه لسهو؛ لأنه لا ركوع فيه أشبه صلاة الجنازة، ولا يفتقر إلى قيام؛ لأنه لا قراءة فيه، ويقول فيه ما يقول في سجود الصلاة، فإن قال ما روت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يقول في سجود القرآن: سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته» فحسن، وهذا حديث صحيح. فإن قال غيره مما ورد في الأخبار فحسن.
فصل:
وسجدات القرآن، أربع عشرة سجدة: في (الحج) منها اثنتان، وثلاث في المفصل، وعنه: أنها خمس عشرة سجدة، منها سجدة (ص) ؛ لما «روى عمرو بن العاص أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقرأه خمس عشرة سجدة؛ منها ثلاث في المفصل، وسجدتان في الحج» رواه أبو داود. والصحيح أن سجدة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليست من عزائم السجود؛ لما روى ابن عباس أنه قال: ليست (ص) من عزائم السجود رواه أبو داود.
ومواضع السجدات ثابتة بالإجماع، إلا سجدات المفصل، والثانية من الحج، وقد ثبت ذلك بحديث عمرو. «وروى عقبة بن عامر أنه قال: يا رسول الله، أفي الحج سجدتان؟ قال: نعم، ومن لم يسجدهما لا يقرأهما» رواه أبو داود. وأول السجدات آخر الأعراف، وفي الرعد عند قوله: {بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15] ، وفي النحل عند: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] ، وفي سبحان عند {يَزِيدُهُمْ إِلا} [الإسراء: 41] ، وفي مريم عند: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] ، وفي الحج: الأولى عند: {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18]
والثانية عند: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] وفي الفرقان عند: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60] ، وفي النمل عند: {الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26] ، وفي {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] عند: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15] وفي حم السجدة عند: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] وفي آخر النجم، وفي: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] عند: {لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] ، وآخر اقرأ، ويكره اختصار السجود، وهو أن يجمع آيات السجدات فيقرأها في ركعة، وقيل: أن يحذف آيات السجدات في قراءته، وكلاهما مكروه؛ لأنه محدث، وفيه إخلال بالترتيب.
فصل:
وسجود الشكر مستحب عند تجدد النعم، لما روى أبو بكرة قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جاءه شيء يسر به خر ساجدًا» ، وصفته وشروطه كصفة سجود التلاوة وشروطها، ولا يسجد للشكر في الصلاة؛ لأن سببه ليس منها، فإن فعل بطلت، كما لو سجد في الصلاة لسهو صلاة أخرى.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب سجود السهو]
[باب سجود السهو]
وإنما يشرع لجبر خلل الصلاة، وهو ثلاثة أقسام: زيادة، ونقص، وشك.
والزيادة ضربان: زيادة أقوال، تتنوع ثلاثة أنواع:
أحدها: أن يأتي بذكر مشروع في غير محله، كالقراءة في الركوع والسجود والجلوس، والتشهد في القيام، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد الأول، ونحوه فهذا لا يبطل الصلاة بحال؛ لأنه ذكر مشروع في الصلاة، ولا يجب له سجود؛ لأن عمده غير مبطل، وهل يسن السجود لسهوه؟ فيه روايتان:
إحداهما: يسن؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» .
والثانية: لا يسن؛ لأن عمده غير مبطل، فأشبه العمل اليسير.
الثاني: أن يسلم في الصلاة قبل إتمامها، فإن كان عمدًا بطلت صلاته؛ لأنه تكلم فيها، وإن كان سهوًا، وطال الفصل، بطلت أيضًا، لتعذر بناء الباقي عليها، وإن ذكر قريبًا أتم صلاته، وسجد بعد السلام.
فإن كان قد قام، فعليه أن يجلس لينهض عن جلوس؛ لأن القيام واجب للصلاة، ولم يأت به قاصدًا لها، والأصل فيه، ما روى أبو هريرة قال: «صلى بنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحدى صلاتي العشي، فصلى ركعتين ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد، فوضع يده عليها كأنه غضبان، شبك بين أصابعه، ووضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى، وخرج السرعان من أبواب المسجد، فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهاباه أن يكلماه، وفي
القوم رجل في يديه طول، يقال له: ذو اليدين، فقال له: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: لم أنس ولم تقصر، فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم. قال: فتقدم فصلى ما ترك من صلاته، ثم سلم، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر» متفق عليه.
وإن انتقض وضوؤه أو دخل في صلاة أخرى، أو تكلم من غير شأن الصلاة، كقوله: اسقني ماء فسدت صلاته، وإن تكلم مثل كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذي اليدين، ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: لا تفسد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر وذا اليدين تكلموا ثم أتموا صلاتهم.
لا يمكنه التأسي بأبي بكر وعمر؛ لأنهما تكلما مجيبين للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإجابته واجبة، ولا بذي اليدين؛ لأنه تكلم سائلًا عن قصر الصلاة في زمن يمكن ذلك فيه، فعذر، بخلاف غيره، واختارها الخرقي.
والثالثة: تفسد صلاتهم؛ لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» اختارها أبو بكر، والأول أولى.
النوع الثالث: أن يتكلم من صلب الصلاة، فإن كان عمدًا أبطل الصلاة إجماعًا لما رويناه، ولما روى زيد بن أرقم، قال: «كنا نتكلم في الصلاة؛ يكلم الرجل صاحبه، حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام» متفق عليه. وإن تكلم ناسيًا، أو جاهلًا بتحريمه ففيه روايتان:
إحداهما: يبطلها، لما روينا، ولأنه من غير جنس الصلاة، فأشبه العمل الكثير.
والثانية: لا يفسدها، لما «روى معاوية بن الحكم السلمي، قال: بينما أنا أصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم لكي أسكت، فلما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، ثم قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» رواه مسلم. فلم يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإعادة لجهله، والناسي في معناه.
وإن غلب بكاء، فنشج بما انتظم حروفًا لم تفسد صلاته، نص عليه؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يسمع نشيجه من وراء الصفوف، وإن غلط في القراءة وأتى بكلمة من غيره لم تفسد صلاته؛ لأنه لا يمكنه التحرز منه.
وإن نام فتكلم احتمل وجهين:
أحدهما: لا تفسد صلاته؛ لأنه عن غلبة، أشبه ما تقدم.
والثاني: أنه ككلام الناسي، وإن شمت عطاسًا، أفسد صلاته لحديث معاوية، وكذلك إن رد سلامًا، أو سلم على إنسان؛ لأنه من كلام الآدميين، فأشبه تشميت العاطس، وإن قهقه بطلت صلاته؛ لأن جابرًا روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القهقهة تنقض الصلاة، ولا تنقض الوضوء» رواه الدارقطني.
والكلام المبطل ما انتظم حرفين فصاعدًا؛ لأنه أقل ما ينتظم منه الكلام، وقد «روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نفخ في الصلاة، وتنحنح فيها» ، وهو محمول على أنه لم يأت بحرفين، أو لم يأت بحرفين مختلفين.
فصل:
الثاني: زيادة الأفعال، وهي ثلاثة أنواع:
أحدهما: زيادة من جنس الصلاة، كركعة أو ركوع أو سجود، فمتى كان عمدًا أبطلها، وإن كان سهوًا سجد له؛ لما «روى ابن مسعود، قال: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمسًا، فلما انفتل من الصلاة توشوش القوم بينهم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: يا رسول الله، هل زيد في الصلاة شيء؟ قال: لا قالوا: إنك صليت خمسًا، فانفتل وسجد سجدتين، ثم سلم، ثم قال: إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين، وفي لفظ: فإذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين» رواه مسلم.
ومتى قام الرجل إلى ركعة زائدة، فلم يذكر حتى سلم، سجد للحال، وإن ذكر قبل السلام سجد ثم سلم، وإن ذكر في الركعة، جلس على أي حال كان، فإن كان قيامه قبل التشهد تشهد ثم سجد ثم سلم، وإن كان بعده سجد ثم سلم، وإن كان تشهد ولم يصل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عليه، ثم سجد وسلم.
فصل:
وإذا سها الإمام فزاد أو نقص فعلى المأمومين تنبيهه؛ لما «روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فزاد أو نقص، ثم قال: إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني» ، «وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا نابكم أمر فليسبح الرجال، وليصفح النساء» ، وفي لفظ: «التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء» متفق عليه.
وإذ سبح به اثنان، لزمه الرجوع إليهما؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجع إلى قول أبي بكر وعمر، وأمر بتذكيره ليرجع، فإن لم يرجع بطلت صلاته؛ لأنه ترك الواجب عمدًا، وليس لهم اتباعه لبطلان صلاته، فإن اتبعوه بطلت صلاتهم، إلا أن يكونوا جاهلين، فلا تبطل؛ لأن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تابعوه في الخامسة، وإن فارقوه وسلموا صحت صلاتهم، وذكر القاضي رواية أخرى: أنهم يتابعونه استحبابًا، ورواية ثالثة: أنهم ينتظرونه، اختارها ابن حامد، وإن كان الإمام على يقين من صواب نفسه لم يرجع؛ لأن قولهما: إنما يفيد الظن، واليقين أولى.
وإن سبح به واحد لم يرجع نص عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يرجع بقول ذي اليدين وحده، وإن سبح به من يعلم فسقه لم يرجع؛ لأن خبره غير مقبول، وإن افترق المأمومون طائفتين سقط قولهم؛ لتعارضه عنده، وإن نسي التشهد الأول، فسبحوا به، بعد انتصابه قائمًا، لم يرجع، ويتابعونه في القيام، لما «روى زياد بن علاقة قال: صلى بنا المغيرة بن شعبة، فلما صلى ركعتين، قام ولم يجلس، فسبح به من خلفه، فأشار إليهم قوموا، فلما فرغ من صلاته سلم، وسجد سجدتين وسلم، وقال: هكذا صنع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رواه الإمام أحمد.
وإن رجع بعد شروعه في القراءة لم يتابعوه؛ لأنه خطأ، فإن سبحوا به قبل قيامه لزمه الرجوع، فإن لم يرجع تشهدوا لأنفسهم وتابعوه؛ لأنه ترك واجبًا تعين عليهم، فلم يجز لهم اتباعه في تركه، وإن ذكر التشهد قبل انتصابه فرجع إليه بعد قيام المأمومين وشروعهم في القراءة لزمهم الرجوع؛ لأنه رجع إلى واجب، فلزمهم متابعته، ولا عبرة بما فعلوه قبله.
النوع الثاني: زيادة من غير جنس الصلاة، كالمشي والحك، والتروح، فإن كثر متواليًا أبطل الصلاة إجماعًا، وإن قل لم يبطلها، لما «روى أبو قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع إذا قام حملها، وإذا سجد وضعها» متفق عليه.
وروي عنه أنه فتح الباب لعائشة وهو في الصلاة، ولا فرق بين العمد والسهو فيه؛ لأنه من غير جنس الصلاة، ولا يشرع له سجود لذلك، واليسير: ما شابه فعل
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما رويناه، ومثل تقدمه وتأخره في صلاة الكسوف، والكثير: ما زاد على ذلك مما عد كثيرًا في العرف؛ فيبطل الصلاة، إلا أن يفعله متفرقًا.
النوع الثالث: الأكل والشرب، متى أتى بهما في الفريضة عمدًا بطلت؛ لأنهما ينافيان الصلاة، والنافلة كالفريضة.
وعنه: لا يبطلها اليسير، والأولى أولى؛ لأن ما أبطل الفريضة أبطل النافلة، كالعمل الكثير، وإن فعلها سهوًا وكثر ذلك بطلت الصلاة؛ لأنه عمل كثير، وإن قل فكذلك؛ لأنه من غير جنس الصلاة، فسوى بين عمده وسهوه كالمشي.
وعنه: لا يبطل؛ لأنه سوى بين قليله وكثيره في العمد، فعفي عنه في السهو كالسلام، فعلى هذا يسجد له؛ لأنه تبطل الصلاة بعمده، وعفي عن سهوه، فيسجد له كجنس الصلاة.
ومن ترك في فيه ما يذوب كالسكر، وابتلع ما يذوب منه، فهو أكل، وإن بقي في فمه أو بين أسنانه يسير من بقايا الطعام يجري به الريق فابتلعه، لم تبطل صلاته؛ لأنه لا يمكنه التحرز منه، وإن ترك في فيه لقمة، لم يبلعها لم تبطل صلاته؛ لأنه عمل يسير، ويكره؛ لأنه يشغل عن خشوعها وقراءتها، فإن لاكها فهو كالعمل، وإن كثر أبطل، وإلا فلا.
فصل:
القسم الثاني: النقص، وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: ترك ركن، كركوع أو سجود، فإن كان عمدًا أبطل الصلاة، وإن كان سهوًا فله أربعة أحوال:
أحدها: لم يذكره حتى سلم، وطال الفصل، فتفسد صلاته، لتعذر البناء مع طول الفصل.
الثاني: ذكره قريبًا من التسليم، فإنه يأتي بركعة كاملة؛ لأن الركعة التي ترك الركن منها، بطلت بتركه، والشروع في غيرها، فصارت كالمتروكة.
الثالث: ذكر المتروك قبل شروعه في قراءة الركعة الأخرى، فإنه يعود فيأتي بما تركه، ثم يبني على صلاته، فإن سجد سجدة، ثم قام قبل جلسة الفصل فذكر، جلس للفصل، ثم سجد ثم قام، وإن ترك السجود وحده، سجد ولم يجلس؛ لأنه لم يتركه، ولو جلس للاستراحة لم يجزئه عن جلسة الفصل؛ لأنه نوى بجلوسه النفل، فلم يجزئه
عن الفرض، كمن سجد للتلاوة لم يجزئه عن سجود الصلاة، ويسجد للسهو، فإن لم يعد إلى فعل ما تركه، فسدت صلاته؛ لأنه ترك الواجب عمدًا، إلا أن يكون جاهلًا.
الحال الرابع: ذكر بعد شروعه في قراءة الفاتحة في ركعة أخرى، فتبطل الركعة التي ترك ركنها وحدها، ويجعل الأخرى مكانها، ويتم صلاته، ويسجد قبل السلام.
وإن ترك ركنين مع ركعتين، أتى بركعتين مكانها.
وإن ترك أربع سجدات من أربع ركعات، وذكر وهو في التشهد سجد سجدة، تصح له الركعة الرابعة، ويأتي بثلاث ركعات، ويسجد للسهو، وعنه: أن صلاته تبطل؛ لأنه يفضي إلى عمل كثير غير معتد به.
وإن ذكر وهو في التشهد أنه ترك سجدة من الرابعة، سجد في الحال، ثم تشهد وسجد للسهو، فإن لم يعلم من أي الركعات تركها، جعلها من ركعة قبلها، ليلزمه ركعة، وإن ذكر في الركعة أنه ترك ركنًا لم يعلم أركوع هو أم سجود؟ جعله ركوعًا، ليأتي به، ثم بما بعده كيلا يخرج من الصلاة على شك.
النوع الثاني: ترك واجبا غير ركن عمدًا، كالتكبير غير تكبيرة الإحرام، وتسبيح الركوع والسجود؛ بطلت صلاته إن قلنا بوجوبه، وإن تركه سهوًا سجد للسهو قبل السلام؛ لما «روى عبد الله بن مالك ابن بحينة قال: صلى بنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر، فقام في الركعتين، فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه، كبر فسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم» متفق عليه. فثبت هذا بالخبر، وقسنا عليه سائر الواجبات، وإن ذكر التشهد قبل انتصابه قائمًا، رجع فأتى به، وإن ذكر بعد شروعه في القراءة، لم يرجع لذلك؛ لأنه تلبس بركن مقصود، فلم يرجع إلى واجب، وإن ذكره بعد قيامه، وقبل شروعه في القراءة لم يرجع أيضًا لذلك، لما «روى المغيرة بن شعبة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: إذا قام أحدكم في الركعتين فلم يستتم قائمًا جلس، فإن استتم قائمًا لم يجلس وسجد سجدتي السهو» رواه أبو داود.
وقال أصحابنا: وإن رجع في هذه الحال لم تفسد صلاته، ولا يرجع إلى غيره من الواجبات؛ لأنه لو رجع إلى الركوع لأجل تسبيحة لزاد ركوعًا في صلاته، وأتى بالتسبيح في ركوع غير مشروع.
النوع الثالث: ترك سنة، فلا تبطل الصلاة بتركها عمدًا ولا سهوًا، ولا سجود عليه؛ لأنه شرع للجبر، فإن لم يكن الأصل واجبًا فجبره أولى، ثم إن كان المتروك من سنن الأفعال لم يشرع له السجود؛ لأنه يمكن التحرز منه، وإن كان من سنن الأقوال ففيه روايتان:
أحدهما: لا يسن له السجود كسنن الأفعال.
والثانية: يسن؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» .
فصل:
القسم الثالث: الشك، وفيه ثلاث مسائل:
إحداهن: شك في عدد الركعات، ففيه ثلاثة روايات:
إحداهن: يبني على غالب ظنه، ويتم صلاته، ويسجد بعد السلام؛ لما روى ابن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين متفق عليه، وللبخاري: " بعد التسليم» .
الثانية: يبني على اليقين، لما روى أبو سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثًا أو أربعًا؟ فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته، وإن كان صلى أربعًا كانتا ترغيمًا للشيطان» رواه مسلم.
والرواية الثالثة: يبني الإمام على غالب ظنه، والمنفرد على اليقين؛ لأن للإمام من يذكره إن غلط، فلا يخرج منها على شك، والمنفرد يبني على اليقين؛ لأنه لا يأمن الخطأ، وليس له من يذكره، فلزمه البناء على اليقين، كيلا يخرج من الصلاة شاكًا فيها، وهذا ظاهر المذهب.
المسألة الثانية: شك في ركن من الصلاة، فحكمه حكم تاركه؛ لأن الأصل عدمه.
المسألة الثالثة: شك فيما يوجب سجود السهو، من زيادة أو ترك واجب، ففيه وجهان:
أحدهما: لا سجود عليه؛ لأن الأصل عدم وجوبه، فلا يجب بالشك.
والثاني: إن شك في زيادة لم يسجد؛ لأن الأصل عدمها، وإن شك في ترك واجب لزمه السجود؛ لأن الأصل عدمه، وإنما يؤثر الشك إذا وجد في الصلاة، فإن شك بعد سلامها لم يلتفت إليه؛ لأن الظاهر الإتيان بها على الوجه المشروع؛ لأن ذلك يكثر فيشق الرجوع إليه فسقط، وهكذا الشك في سائر العبادات بعد فراغه منها.
فصل:
وسجود السهو لما يبطل عمده الصلاة واجب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله وأمر به، ولأنه شرع لجبر واجب، فكان واجبًا كجبرانات الحج، وجميعه قبل السلام؛ لأنه من تمامها وشأنها، فكان قبل سلامها كسجود صلبها، إلا في ثلاثة مواضع:
أحدها: إذا سلم من نقصان في صلاته سجد بعد السلام؛ لحديث ذي اليدين.
الثاني: إذا بنى على غالب ظنه سجد بعد السلام لحديث ابن مسعود.
الثالث: إذا نسي السجود قبل السلام سجده بعده؛ لأنه فاته الواجب فقضاه، وعن أحمد: أن جميعه قبل السلام، إلا أن ينساه قبل أن يسلم.
وعنه: ما كان من زيادة فهو بعد السلام؛ لحديث ذي اليدين، وما كان من نقصان أو شك كان قبله؛ لحديث ابن بحينة وأبي سعيد، فمن سجد قبل السلام جعله بعد فراغه من التشهد؛ لحديث ابن بحينة: فيكبر للسجود والرفع منه، ويسجد سجدتين كسجدتي صلب الصلاة، ويسلم عقيبها، وإن سجد بعد السلام كبر للسجود والرفع منه؛ لحديث ذي اليدين، ويتشهد ويسلم، لما «روى عمران بن حصين: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد وسلم» وهذا حديث حسن، ولأنه سجود يسلم له، فكان معه تشهد كسجود صلب الصلاة، فإن نسي السجود فذكره قبل طول الفصل سجد وإن تكلم.
وقال الخرقي: يسجد ما لم يخرج من المسجد، وإن تكلم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد بعد السلام والكلام رواه مسلم.
وإن نسيه حتى طال الفصل، أو خرج من المسجد، على قول الخرقي، سقط؛ وعنه: يعيد الصلاة.
وقال أبو الخطاب: إن ترك المشروع قبل السلام عامدًا بطلت صلاته؛ لأنه ترك واجبًا فيها عمدًا، وإن ترك المشروع بعد السلام عمدًا أو سهوًا لم تبطل صلاته؛ لأنه ترك واجبًا ليس منها، فلم تبطل بتركه كجبرانات الحج.
فصل:
فإن سها سهوين محل سجودهما واحد، كفاه أحدهما؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» ، ولأن السجود إنما أخر ليجمع السهو كله، ولولا ذلك فعله عقيب السهو؛ لأنه سببه، وإن كان أحدهما قبل السلام والآخر بعده ففيه وجهان:
أحدهما: يجزئه سجود واحد لذلك، ويسجد قبل السلام؛ لأنه أسبق وآكد، ولم يسبقه ما يقوم مقامه فلزمه الإتيان بخلاف الثاني.
والثاني: يأتي بهما في محلهما؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لكل سهو سجدتان» رواه أبو داود.
فصل:
وليس على المأموم سجود لسهوه، فإن سها إمامه فعليه السجود معه، لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على من خلف الإمام سهو، فإن سها إمامه فعليه وعلى من خلفه» رواه الدارقطني، ولأن المأموم تابع لإمامه، فلزمه متابعته في السجود وفي تركه.
ويسجد المسبوق مع إمامه في سهوه الذي لم يدركه، فإن كان السجود بعد السلام لم يقم المسبوق حتى يسجد معه.
وعنه: لا سجود عليه هاهنا، والأول المذهب، فإن قام ولم يعلم، فسجد الإمام رجع فسجد معه إن لم يكن استتم قائمًا، وإن استتم قائمًا مضى، ثم سجد في آخر صلاته قبل سلامه؛ لأنه قام عن واجب، فأشبه تارك التشهد الأول، وإن سجد مع الإمام ففيه روايتان:
إحداهما: يعيد السجود؛ لأن محله آخر الصلاة، وإن سجد مع إمامه تبعًا، فلم يسقط المشروع في محله كالتشهد.
والثانية: لا يسجد؛ لأنه قد سجد وانجبرت صلاته، وإن لم يسجد مع إمامه سجد وجهًا واحدًا.
وإن ترك الإمام السجود، فهل يسجد المأموم؟ فيه روايتان:
إحداهما: يسجد لأن صلاته نقصت بسهو إمامه، ولم يجبرها فلزمه جبرها.
والثانية: لا يسجد؛ لأنه إنما يسجد تبعًا، فإن لم يوجد المتبوع لم يجب التبع.
فصل:
والنافلة كالفريضة في السجود؛ لعموم الأخبار، ولأنها في معناها، ولا يسجد لسهو في سجود السهو؛ لأنه يفضي إلى التسلسل، ولا في صلاة جنازة؛ لأنه لا سجود في صلبها، ففي جبرها أولى، ولا يسجد لفعل عمد؛ لأن السجود سجود للسهو، ولأن العمد إن كان لمحرم أفسد الصلاة، وإن كان في غيره فلا عذر عليه، والسجود إنما شرع في محل العذر.
فصل:
ومن أحدث عمدًا بطلت صلاته؛ لأنه أخل بشرطها عمدًا، وإن سبقه الحدث أو طرأ عليه ما يفسد طهارته، كظهور قدمي الماسح، وانقضاء مدة المسح، ومن به سلس لبول؛ بطلت صلاته.
وعنه فيمن سبقه الحدث: يتوضأ ويبني، وهذه الصور في معناها، والمذهب الأول؛ لأن الصلاة لا تصح من محدث في عمد ولا سهو، وله أن يستخلف من يتم بهم الصلاة.
وعنه: ليس له ذلك؛ لأن صلاته باطلة، والمذهب الأول؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين طعن أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فأتم بهم الصلاة، فلم ينكره أحد فكان إجماعًا، وإن لم يستخلف، فاستخلف الجماعة لأنفسهم، أو صلوا وحدانًا جاز.
قال أصحابنا: وله استخلاف من لم يكن معه في الصلاة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل في صلاة أبي بكر، ولم يكن معه، فأخذ من حيث انتهى إليه أبو بكر، فإن كان مسبوقًا ببعض الصلاة، فتمت صلاة المأمومين قبله، وجلسوا يتشهدون، وقام هو فأتم صلاته، ثم أدركهم فسلم بهم، ولا يسلمون قبله؛ لأن الإمام ينتظر المأمومين في صلاة الخوف، فالمأمومون أولى بانتظاره.
والثانية: لا تفسد صلاة الإمام؛ لأن له أسوة بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتفسد صلاة المأموم؛ لأنه
وإنما يشرع لجبر خلل الصلاة، وهو ثلاثة أقسام: زيادة، ونقص، وشك.
والزيادة ضربان: زيادة أقوال، تتنوع ثلاثة أنواع:
أحدها: أن يأتي بذكر مشروع في غير محله، كالقراءة في الركوع والسجود والجلوس، والتشهد في القيام، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد الأول، ونحوه فهذا لا يبطل الصلاة بحال؛ لأنه ذكر مشروع في الصلاة، ولا يجب له سجود؛ لأن عمده غير مبطل، وهل يسن السجود لسهوه؟ فيه روايتان:
إحداهما: يسن؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» .
والثانية: لا يسن؛ لأن عمده غير مبطل، فأشبه العمل اليسير.
الثاني: أن يسلم في الصلاة قبل إتمامها، فإن كان عمدًا بطلت صلاته؛ لأنه تكلم فيها، وإن كان سهوًا، وطال الفصل، بطلت أيضًا، لتعذر بناء الباقي عليها، وإن ذكر قريبًا أتم صلاته، وسجد بعد السلام.
فإن كان قد قام، فعليه أن يجلس لينهض عن جلوس؛ لأن القيام واجب للصلاة، ولم يأت به قاصدًا لها، والأصل فيه، ما روى أبو هريرة قال: «صلى بنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحدى صلاتي العشي، فصلى ركعتين ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد، فوضع يده عليها كأنه غضبان، شبك بين أصابعه، ووضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى، وخرج السرعان من أبواب المسجد، فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهاباه أن يكلماه، وفي
القوم رجل في يديه طول، يقال له: ذو اليدين، فقال له: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: لم أنس ولم تقصر، فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم. قال: فتقدم فصلى ما ترك من صلاته، ثم سلم، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر» متفق عليه.
وإن انتقض وضوؤه أو دخل في صلاة أخرى، أو تكلم من غير شأن الصلاة، كقوله: اسقني ماء فسدت صلاته، وإن تكلم مثل كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذي اليدين، ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: لا تفسد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر وذا اليدين تكلموا ثم أتموا صلاتهم.
لا يمكنه التأسي بأبي بكر وعمر؛ لأنهما تكلما مجيبين للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإجابته واجبة، ولا بذي اليدين؛ لأنه تكلم سائلًا عن قصر الصلاة في زمن يمكن ذلك فيه، فعذر، بخلاف غيره، واختارها الخرقي.
والثالثة: تفسد صلاتهم؛ لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» اختارها أبو بكر، والأول أولى.
النوع الثالث: أن يتكلم من صلب الصلاة، فإن كان عمدًا أبطل الصلاة إجماعًا لما رويناه، ولما روى زيد بن أرقم، قال: «كنا نتكلم في الصلاة؛ يكلم الرجل صاحبه، حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام» متفق عليه. وإن تكلم ناسيًا، أو جاهلًا بتحريمه ففيه روايتان:
إحداهما: يبطلها، لما روينا، ولأنه من غير جنس الصلاة، فأشبه العمل الكثير.
والثانية: لا يفسدها، لما «روى معاوية بن الحكم السلمي، قال: بينما أنا أصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم لكي أسكت، فلما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، ثم قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» رواه مسلم. فلم يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإعادة لجهله، والناسي في معناه.
وإن غلب بكاء، فنشج بما انتظم حروفًا لم تفسد صلاته، نص عليه؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يسمع نشيجه من وراء الصفوف، وإن غلط في القراءة وأتى بكلمة من غيره لم تفسد صلاته؛ لأنه لا يمكنه التحرز منه.
وإن نام فتكلم احتمل وجهين:
أحدهما: لا تفسد صلاته؛ لأنه عن غلبة، أشبه ما تقدم.
والثاني: أنه ككلام الناسي، وإن شمت عطاسًا، أفسد صلاته لحديث معاوية، وكذلك إن رد سلامًا، أو سلم على إنسان؛ لأنه من كلام الآدميين، فأشبه تشميت العاطس، وإن قهقه بطلت صلاته؛ لأن جابرًا روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القهقهة تنقض الصلاة، ولا تنقض الوضوء» رواه الدارقطني.
والكلام المبطل ما انتظم حرفين فصاعدًا؛ لأنه أقل ما ينتظم منه الكلام، وقد «روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نفخ في الصلاة، وتنحنح فيها» ، وهو محمول على أنه لم يأت بحرفين، أو لم يأت بحرفين مختلفين.
فصل:
الثاني: زيادة الأفعال، وهي ثلاثة أنواع:
أحدهما: زيادة من جنس الصلاة، كركعة أو ركوع أو سجود، فمتى كان عمدًا أبطلها، وإن كان سهوًا سجد له؛ لما «روى ابن مسعود، قال: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمسًا، فلما انفتل من الصلاة توشوش القوم بينهم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: يا رسول الله، هل زيد في الصلاة شيء؟ قال: لا قالوا: إنك صليت خمسًا، فانفتل وسجد سجدتين، ثم سلم، ثم قال: إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين، وفي لفظ: فإذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين» رواه مسلم.
ومتى قام الرجل إلى ركعة زائدة، فلم يذكر حتى سلم، سجد للحال، وإن ذكر قبل السلام سجد ثم سلم، وإن ذكر في الركعة، جلس على أي حال كان، فإن كان قيامه قبل التشهد تشهد ثم سجد ثم سلم، وإن كان بعده سجد ثم سلم، وإن كان تشهد ولم يصل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عليه، ثم سجد وسلم.
فصل:
وإذا سها الإمام فزاد أو نقص فعلى المأمومين تنبيهه؛ لما «روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فزاد أو نقص، ثم قال: إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني» ، «وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا نابكم أمر فليسبح الرجال، وليصفح النساء» ، وفي لفظ: «التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء» متفق عليه.
وإذ سبح به اثنان، لزمه الرجوع إليهما؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجع إلى قول أبي بكر وعمر، وأمر بتذكيره ليرجع، فإن لم يرجع بطلت صلاته؛ لأنه ترك الواجب عمدًا، وليس لهم اتباعه لبطلان صلاته، فإن اتبعوه بطلت صلاتهم، إلا أن يكونوا جاهلين، فلا تبطل؛ لأن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تابعوه في الخامسة، وإن فارقوه وسلموا صحت صلاتهم، وذكر القاضي رواية أخرى: أنهم يتابعونه استحبابًا، ورواية ثالثة: أنهم ينتظرونه، اختارها ابن حامد، وإن كان الإمام على يقين من صواب نفسه لم يرجع؛ لأن قولهما: إنما يفيد الظن، واليقين أولى.
وإن سبح به واحد لم يرجع نص عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يرجع بقول ذي اليدين وحده، وإن سبح به من يعلم فسقه لم يرجع؛ لأن خبره غير مقبول، وإن افترق المأمومون طائفتين سقط قولهم؛ لتعارضه عنده، وإن نسي التشهد الأول، فسبحوا به، بعد انتصابه قائمًا، لم يرجع، ويتابعونه في القيام، لما «روى زياد بن علاقة قال: صلى بنا المغيرة بن شعبة، فلما صلى ركعتين، قام ولم يجلس، فسبح به من خلفه، فأشار إليهم قوموا، فلما فرغ من صلاته سلم، وسجد سجدتين وسلم، وقال: هكذا صنع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رواه الإمام أحمد.
وإن رجع بعد شروعه في القراءة لم يتابعوه؛ لأنه خطأ، فإن سبحوا به قبل قيامه لزمه الرجوع، فإن لم يرجع تشهدوا لأنفسهم وتابعوه؛ لأنه ترك واجبًا تعين عليهم، فلم يجز لهم اتباعه في تركه، وإن ذكر التشهد قبل انتصابه فرجع إليه بعد قيام المأمومين وشروعهم في القراءة لزمهم الرجوع؛ لأنه رجع إلى واجب، فلزمهم متابعته، ولا عبرة بما فعلوه قبله.
النوع الثاني: زيادة من غير جنس الصلاة، كالمشي والحك، والتروح، فإن كثر متواليًا أبطل الصلاة إجماعًا، وإن قل لم يبطلها، لما «روى أبو قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع إذا قام حملها، وإذا سجد وضعها» متفق عليه.
وروي عنه أنه فتح الباب لعائشة وهو في الصلاة، ولا فرق بين العمد والسهو فيه؛ لأنه من غير جنس الصلاة، ولا يشرع له سجود لذلك، واليسير: ما شابه فعل
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما رويناه، ومثل تقدمه وتأخره في صلاة الكسوف، والكثير: ما زاد على ذلك مما عد كثيرًا في العرف؛ فيبطل الصلاة، إلا أن يفعله متفرقًا.
النوع الثالث: الأكل والشرب، متى أتى بهما في الفريضة عمدًا بطلت؛ لأنهما ينافيان الصلاة، والنافلة كالفريضة.
وعنه: لا يبطلها اليسير، والأولى أولى؛ لأن ما أبطل الفريضة أبطل النافلة، كالعمل الكثير، وإن فعلها سهوًا وكثر ذلك بطلت الصلاة؛ لأنه عمل كثير، وإن قل فكذلك؛ لأنه من غير جنس الصلاة، فسوى بين عمده وسهوه كالمشي.
وعنه: لا يبطل؛ لأنه سوى بين قليله وكثيره في العمد، فعفي عنه في السهو كالسلام، فعلى هذا يسجد له؛ لأنه تبطل الصلاة بعمده، وعفي عن سهوه، فيسجد له كجنس الصلاة.
ومن ترك في فيه ما يذوب كالسكر، وابتلع ما يذوب منه، فهو أكل، وإن بقي في فمه أو بين أسنانه يسير من بقايا الطعام يجري به الريق فابتلعه، لم تبطل صلاته؛ لأنه لا يمكنه التحرز منه، وإن ترك في فيه لقمة، لم يبلعها لم تبطل صلاته؛ لأنه عمل يسير، ويكره؛ لأنه يشغل عن خشوعها وقراءتها، فإن لاكها فهو كالعمل، وإن كثر أبطل، وإلا فلا.
فصل:
القسم الثاني: النقص، وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: ترك ركن، كركوع أو سجود، فإن كان عمدًا أبطل الصلاة، وإن كان سهوًا فله أربعة أحوال:
أحدها: لم يذكره حتى سلم، وطال الفصل، فتفسد صلاته، لتعذر البناء مع طول الفصل.
الثاني: ذكره قريبًا من التسليم، فإنه يأتي بركعة كاملة؛ لأن الركعة التي ترك الركن منها، بطلت بتركه، والشروع في غيرها، فصارت كالمتروكة.
الثالث: ذكر المتروك قبل شروعه في قراءة الركعة الأخرى، فإنه يعود فيأتي بما تركه، ثم يبني على صلاته، فإن سجد سجدة، ثم قام قبل جلسة الفصل فذكر، جلس للفصل، ثم سجد ثم قام، وإن ترك السجود وحده، سجد ولم يجلس؛ لأنه لم يتركه، ولو جلس للاستراحة لم يجزئه عن جلسة الفصل؛ لأنه نوى بجلوسه النفل، فلم يجزئه
عن الفرض، كمن سجد للتلاوة لم يجزئه عن سجود الصلاة، ويسجد للسهو، فإن لم يعد إلى فعل ما تركه، فسدت صلاته؛ لأنه ترك الواجب عمدًا، إلا أن يكون جاهلًا.
الحال الرابع: ذكر بعد شروعه في قراءة الفاتحة في ركعة أخرى، فتبطل الركعة التي ترك ركنها وحدها، ويجعل الأخرى مكانها، ويتم صلاته، ويسجد قبل السلام.
وإن ترك ركنين مع ركعتين، أتى بركعتين مكانها.
وإن ترك أربع سجدات من أربع ركعات، وذكر وهو في التشهد سجد سجدة، تصح له الركعة الرابعة، ويأتي بثلاث ركعات، ويسجد للسهو، وعنه: أن صلاته تبطل؛ لأنه يفضي إلى عمل كثير غير معتد به.
وإن ذكر وهو في التشهد أنه ترك سجدة من الرابعة، سجد في الحال، ثم تشهد وسجد للسهو، فإن لم يعلم من أي الركعات تركها، جعلها من ركعة قبلها، ليلزمه ركعة، وإن ذكر في الركعة أنه ترك ركنًا لم يعلم أركوع هو أم سجود؟ جعله ركوعًا، ليأتي به، ثم بما بعده كيلا يخرج من الصلاة على شك.
النوع الثاني: ترك واجبا غير ركن عمدًا، كالتكبير غير تكبيرة الإحرام، وتسبيح الركوع والسجود؛ بطلت صلاته إن قلنا بوجوبه، وإن تركه سهوًا سجد للسهو قبل السلام؛ لما «روى عبد الله بن مالك ابن بحينة قال: صلى بنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر، فقام في الركعتين، فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه، كبر فسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم» متفق عليه. فثبت هذا بالخبر، وقسنا عليه سائر الواجبات، وإن ذكر التشهد قبل انتصابه قائمًا، رجع فأتى به، وإن ذكر بعد شروعه في القراءة، لم يرجع لذلك؛ لأنه تلبس بركن مقصود، فلم يرجع إلى واجب، وإن ذكره بعد قيامه، وقبل شروعه في القراءة لم يرجع أيضًا لذلك، لما «روى المغيرة بن شعبة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: إذا قام أحدكم في الركعتين فلم يستتم قائمًا جلس، فإن استتم قائمًا لم يجلس وسجد سجدتي السهو» رواه أبو داود.
وقال أصحابنا: وإن رجع في هذه الحال لم تفسد صلاته، ولا يرجع إلى غيره من الواجبات؛ لأنه لو رجع إلى الركوع لأجل تسبيحة لزاد ركوعًا في صلاته، وأتى بالتسبيح في ركوع غير مشروع.
النوع الثالث: ترك سنة، فلا تبطل الصلاة بتركها عمدًا ولا سهوًا، ولا سجود عليه؛ لأنه شرع للجبر، فإن لم يكن الأصل واجبًا فجبره أولى، ثم إن كان المتروك من سنن الأفعال لم يشرع له السجود؛ لأنه يمكن التحرز منه، وإن كان من سنن الأقوال ففيه روايتان:
أحدهما: لا يسن له السجود كسنن الأفعال.
والثانية: يسن؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» .
فصل:
القسم الثالث: الشك، وفيه ثلاث مسائل:
إحداهن: شك في عدد الركعات، ففيه ثلاثة روايات:
إحداهن: يبني على غالب ظنه، ويتم صلاته، ويسجد بعد السلام؛ لما روى ابن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين متفق عليه، وللبخاري: " بعد التسليم» .
الثانية: يبني على اليقين، لما روى أبو سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثًا أو أربعًا؟ فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته، وإن كان صلى أربعًا كانتا ترغيمًا للشيطان» رواه مسلم.
والرواية الثالثة: يبني الإمام على غالب ظنه، والمنفرد على اليقين؛ لأن للإمام من يذكره إن غلط، فلا يخرج منها على شك، والمنفرد يبني على اليقين؛ لأنه لا يأمن الخطأ، وليس له من يذكره، فلزمه البناء على اليقين، كيلا يخرج من الصلاة شاكًا فيها، وهذا ظاهر المذهب.
المسألة الثانية: شك في ركن من الصلاة، فحكمه حكم تاركه؛ لأن الأصل عدمه.
المسألة الثالثة: شك فيما يوجب سجود السهو، من زيادة أو ترك واجب، ففيه وجهان:
أحدهما: لا سجود عليه؛ لأن الأصل عدم وجوبه، فلا يجب بالشك.
والثاني: إن شك في زيادة لم يسجد؛ لأن الأصل عدمها، وإن شك في ترك واجب لزمه السجود؛ لأن الأصل عدمه، وإنما يؤثر الشك إذا وجد في الصلاة، فإن شك بعد سلامها لم يلتفت إليه؛ لأن الظاهر الإتيان بها على الوجه المشروع؛ لأن ذلك يكثر فيشق الرجوع إليه فسقط، وهكذا الشك في سائر العبادات بعد فراغه منها.
فصل:
وسجود السهو لما يبطل عمده الصلاة واجب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله وأمر به، ولأنه شرع لجبر واجب، فكان واجبًا كجبرانات الحج، وجميعه قبل السلام؛ لأنه من تمامها وشأنها، فكان قبل سلامها كسجود صلبها، إلا في ثلاثة مواضع:
أحدها: إذا سلم من نقصان في صلاته سجد بعد السلام؛ لحديث ذي اليدين.
الثاني: إذا بنى على غالب ظنه سجد بعد السلام لحديث ابن مسعود.
الثالث: إذا نسي السجود قبل السلام سجده بعده؛ لأنه فاته الواجب فقضاه، وعن أحمد: أن جميعه قبل السلام، إلا أن ينساه قبل أن يسلم.
وعنه: ما كان من زيادة فهو بعد السلام؛ لحديث ذي اليدين، وما كان من نقصان أو شك كان قبله؛ لحديث ابن بحينة وأبي سعيد، فمن سجد قبل السلام جعله بعد فراغه من التشهد؛ لحديث ابن بحينة: فيكبر للسجود والرفع منه، ويسجد سجدتين كسجدتي صلب الصلاة، ويسلم عقيبها، وإن سجد بعد السلام كبر للسجود والرفع منه؛ لحديث ذي اليدين، ويتشهد ويسلم، لما «روى عمران بن حصين: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد وسلم» وهذا حديث حسن، ولأنه سجود يسلم له، فكان معه تشهد كسجود صلب الصلاة، فإن نسي السجود فذكره قبل طول الفصل سجد وإن تكلم.
وقال الخرقي: يسجد ما لم يخرج من المسجد، وإن تكلم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد بعد السلام والكلام رواه مسلم.
وإن نسيه حتى طال الفصل، أو خرج من المسجد، على قول الخرقي، سقط؛ وعنه: يعيد الصلاة.
وقال أبو الخطاب: إن ترك المشروع قبل السلام عامدًا بطلت صلاته؛ لأنه ترك واجبًا فيها عمدًا، وإن ترك المشروع بعد السلام عمدًا أو سهوًا لم تبطل صلاته؛ لأنه ترك واجبًا ليس منها، فلم تبطل بتركه كجبرانات الحج.
فصل:
فإن سها سهوين محل سجودهما واحد، كفاه أحدهما؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» ، ولأن السجود إنما أخر ليجمع السهو كله، ولولا ذلك فعله عقيب السهو؛ لأنه سببه، وإن كان أحدهما قبل السلام والآخر بعده ففيه وجهان:
أحدهما: يجزئه سجود واحد لذلك، ويسجد قبل السلام؛ لأنه أسبق وآكد، ولم يسبقه ما يقوم مقامه فلزمه الإتيان بخلاف الثاني.
والثاني: يأتي بهما في محلهما؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لكل سهو سجدتان» رواه أبو داود.
فصل:
وليس على المأموم سجود لسهوه، فإن سها إمامه فعليه السجود معه، لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على من خلف الإمام سهو، فإن سها إمامه فعليه وعلى من خلفه» رواه الدارقطني، ولأن المأموم تابع لإمامه، فلزمه متابعته في السجود وفي تركه.
ويسجد المسبوق مع إمامه في سهوه الذي لم يدركه، فإن كان السجود بعد السلام لم يقم المسبوق حتى يسجد معه.
وعنه: لا سجود عليه هاهنا، والأول المذهب، فإن قام ولم يعلم، فسجد الإمام رجع فسجد معه إن لم يكن استتم قائمًا، وإن استتم قائمًا مضى، ثم سجد في آخر صلاته قبل سلامه؛ لأنه قام عن واجب، فأشبه تارك التشهد الأول، وإن سجد مع الإمام ففيه روايتان:
إحداهما: يعيد السجود؛ لأن محله آخر الصلاة، وإن سجد مع إمامه تبعًا، فلم يسقط المشروع في محله كالتشهد.
والثانية: لا يسجد؛ لأنه قد سجد وانجبرت صلاته، وإن لم يسجد مع إمامه سجد وجهًا واحدًا.
وإن ترك الإمام السجود، فهل يسجد المأموم؟ فيه روايتان:
إحداهما: يسجد لأن صلاته نقصت بسهو إمامه، ولم يجبرها فلزمه جبرها.
والثانية: لا يسجد؛ لأنه إنما يسجد تبعًا، فإن لم يوجد المتبوع لم يجب التبع.
فصل:
والنافلة كالفريضة في السجود؛ لعموم الأخبار، ولأنها في معناها، ولا يسجد لسهو في سجود السهو؛ لأنه يفضي إلى التسلسل، ولا في صلاة جنازة؛ لأنه لا سجود في صلبها، ففي جبرها أولى، ولا يسجد لفعل عمد؛ لأن السجود سجود للسهو، ولأن العمد إن كان لمحرم أفسد الصلاة، وإن كان في غيره فلا عذر عليه، والسجود إنما شرع في محل العذر.
فصل:
ومن أحدث عمدًا بطلت صلاته؛ لأنه أخل بشرطها عمدًا، وإن سبقه الحدث أو طرأ عليه ما يفسد طهارته، كظهور قدمي الماسح، وانقضاء مدة المسح، ومن به سلس لبول؛ بطلت صلاته.
وعنه فيمن سبقه الحدث: يتوضأ ويبني، وهذه الصور في معناها، والمذهب الأول؛ لأن الصلاة لا تصح من محدث في عمد ولا سهو، وله أن يستخلف من يتم بهم الصلاة.
وعنه: ليس له ذلك؛ لأن صلاته باطلة، والمذهب الأول؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين طعن أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فأتم بهم الصلاة، فلم ينكره أحد فكان إجماعًا، وإن لم يستخلف، فاستخلف الجماعة لأنفسهم، أو صلوا وحدانًا جاز.
قال أصحابنا: وله استخلاف من لم يكن معه في الصلاة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل في صلاة أبي بكر، ولم يكن معه، فأخذ من حيث انتهى إليه أبو بكر، فإن كان مسبوقًا ببعض الصلاة، فتمت صلاة المأمومين قبله، وجلسوا يتشهدون، وقام هو فأتم صلاته، ثم أدركهم فسلم بهم، ولا يسلمون قبله؛ لأن الإمام ينتظر المأمومين في صلاة الخوف، فالمأمومون أولى بانتظاره.
والثانية: لا تفسد صلاة الإمام؛ لأن له أسوة بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتفسد صلاة المأموم؛ لأنه
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب ما يكره في الصلاة]
[باب سجود السهو]
وإنما يشرع لجبر خلل الصلاة، وهو ثلاثة أقسام: زيادة، ونقص، وشك.
والزيادة ضربان: زيادة أقوال، تتنوع ثلاثة أنواع:
أحدها: أن يأتي بذكر مشروع في غير محله، كالقراءة في الركوع والسجود والجلوس، والتشهد في القيام، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد الأول، ونحوه فهذا لا يبطل الصلاة بحال؛ لأنه ذكر مشروع في الصلاة، ولا يجب له سجود؛ لأن عمده غير مبطل، وهل يسن السجود لسهوه؟ فيه روايتان:
إحداهما: يسن؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» .
والثانية: لا يسن؛ لأن عمده غير مبطل، فأشبه العمل اليسير.
الثاني: أن يسلم في الصلاة قبل إتمامها، فإن كان عمدًا بطلت صلاته؛ لأنه تكلم فيها، وإن كان سهوًا، وطال الفصل، بطلت أيضًا، لتعذر بناء الباقي عليها، وإن ذكر قريبًا أتم صلاته، وسجد بعد السلام.
فإن كان قد قام، فعليه أن يجلس لينهض عن جلوس؛ لأن القيام واجب للصلاة، ولم يأت به قاصدًا لها، والأصل فيه، ما روى أبو هريرة قال: «صلى بنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحدى صلاتي العشي، فصلى ركعتين ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد، فوضع يده عليها كأنه غضبان، شبك بين أصابعه، ووضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى، وخرج السرعان من أبواب المسجد، فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهاباه أن يكلماه، وفي
القوم رجل في يديه طول، يقال له: ذو اليدين، فقال له: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: لم أنس ولم تقصر، فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم. قال: فتقدم فصلى ما ترك من صلاته، ثم سلم، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر» متفق عليه.
وإن انتقض وضوؤه أو دخل في صلاة أخرى، أو تكلم من غير شأن الصلاة، كقوله: اسقني ماء فسدت صلاته، وإن تكلم مثل كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذي اليدين، ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: لا تفسد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر وذا اليدين تكلموا ثم أتموا صلاتهم.
لا يمكنه التأسي بأبي بكر وعمر؛ لأنهما تكلما مجيبين للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإجابته واجبة، ولا بذي اليدين؛ لأنه تكلم سائلًا عن قصر الصلاة في زمن يمكن ذلك فيه، فعذر، بخلاف غيره، واختارها الخرقي.
والثالثة: تفسد صلاتهم؛ لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» اختارها أبو بكر، والأول أولى.
النوع الثالث: أن يتكلم من صلب الصلاة، فإن كان عمدًا أبطل الصلاة إجماعًا لما رويناه، ولما روى زيد بن أرقم، قال: «كنا نتكلم في الصلاة؛ يكلم الرجل صاحبه، حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام» متفق عليه. وإن تكلم ناسيًا، أو جاهلًا بتحريمه ففيه روايتان:
إحداهما: يبطلها، لما روينا، ولأنه من غير جنس الصلاة، فأشبه العمل الكثير.
والثانية: لا يفسدها، لما «روى معاوية بن الحكم السلمي، قال: بينما أنا أصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم لكي أسكت، فلما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، ثم قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» رواه مسلم. فلم يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإعادة لجهله، والناسي في معناه.
وإن غلب بكاء، فنشج بما انتظم حروفًا لم تفسد صلاته، نص عليه؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يسمع نشيجه من وراء الصفوف، وإن غلط في القراءة وأتى بكلمة من غيره لم تفسد صلاته؛ لأنه لا يمكنه التحرز منه.
وإن نام فتكلم احتمل وجهين:
أحدهما: لا تفسد صلاته؛ لأنه عن غلبة، أشبه ما تقدم.
والثاني: أنه ككلام الناسي، وإن شمت عطاسًا، أفسد صلاته لحديث معاوية، وكذلك إن رد سلامًا، أو سلم على إنسان؛ لأنه من كلام الآدميين، فأشبه تشميت العاطس، وإن قهقه بطلت صلاته؛ لأن جابرًا روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القهقهة تنقض الصلاة، ولا تنقض الوضوء» رواه الدارقطني.
والكلام المبطل ما انتظم حرفين فصاعدًا؛ لأنه أقل ما ينتظم منه الكلام، وقد «روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نفخ في الصلاة، وتنحنح فيها» ، وهو محمول على أنه لم يأت بحرفين، أو لم يأت بحرفين مختلفين.
فصل:
الثاني: زيادة الأفعال، وهي ثلاثة أنواع:
أحدهما: زيادة من جنس الصلاة، كركعة أو ركوع أو سجود، فمتى كان عمدًا أبطلها، وإن كان سهوًا سجد له؛ لما «روى ابن مسعود، قال: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمسًا، فلما انفتل من الصلاة توشوش القوم بينهم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: يا رسول الله، هل زيد في الصلاة شيء؟ قال: لا قالوا: إنك صليت خمسًا، فانفتل وسجد سجدتين، ثم سلم، ثم قال: إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين، وفي لفظ: فإذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين» رواه مسلم.
ومتى قام الرجل إلى ركعة زائدة، فلم يذكر حتى سلم، سجد للحال، وإن ذكر قبل السلام سجد ثم سلم، وإن ذكر في الركعة، جلس على أي حال كان، فإن كان قيامه قبل التشهد تشهد ثم سجد ثم سلم، وإن كان بعده سجد ثم سلم، وإن كان تشهد ولم يصل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عليه، ثم سجد وسلم.
فصل:
وإذا سها الإمام فزاد أو نقص فعلى المأمومين تنبيهه؛ لما «روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فزاد أو نقص، ثم قال: إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني» ، «وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا نابكم أمر فليسبح الرجال، وليصفح النساء» ، وفي لفظ: «التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء» متفق عليه.
وإذ سبح به اثنان، لزمه الرجوع إليهما؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجع إلى قول أبي بكر وعمر، وأمر بتذكيره ليرجع، فإن لم يرجع بطلت صلاته؛ لأنه ترك الواجب عمدًا، وليس لهم اتباعه لبطلان صلاته، فإن اتبعوه بطلت صلاتهم، إلا أن يكونوا جاهلين، فلا تبطل؛ لأن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تابعوه في الخامسة، وإن فارقوه وسلموا صحت صلاتهم، وذكر القاضي رواية أخرى: أنهم يتابعونه استحبابًا، ورواية ثالثة: أنهم ينتظرونه، اختارها ابن حامد، وإن كان الإمام على يقين من صواب نفسه لم يرجع؛ لأن قولهما: إنما يفيد الظن، واليقين أولى.
وإن سبح به واحد لم يرجع نص عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يرجع بقول ذي اليدين وحده، وإن سبح به من يعلم فسقه لم يرجع؛ لأن خبره غير مقبول، وإن افترق المأمومون طائفتين سقط قولهم؛ لتعارضه عنده، وإن نسي التشهد الأول، فسبحوا به، بعد انتصابه قائمًا، لم يرجع، ويتابعونه في القيام، لما «روى زياد بن علاقة قال: صلى بنا المغيرة بن شعبة، فلما صلى ركعتين، قام ولم يجلس، فسبح به من خلفه، فأشار إليهم قوموا، فلما فرغ من صلاته سلم، وسجد سجدتين وسلم، وقال: هكذا صنع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رواه الإمام أحمد.
وإن رجع بعد شروعه في القراءة لم يتابعوه؛ لأنه خطأ، فإن سبحوا به قبل قيامه لزمه الرجوع، فإن لم يرجع تشهدوا لأنفسهم وتابعوه؛ لأنه ترك واجبًا تعين عليهم، فلم يجز لهم اتباعه في تركه، وإن ذكر التشهد قبل انتصابه فرجع إليه بعد قيام المأمومين وشروعهم في القراءة لزمهم الرجوع؛ لأنه رجع إلى واجب، فلزمهم متابعته، ولا عبرة بما فعلوه قبله.
النوع الثاني: زيادة من غير جنس الصلاة، كالمشي والحك، والتروح، فإن كثر متواليًا أبطل الصلاة إجماعًا، وإن قل لم يبطلها، لما «روى أبو قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع إذا قام حملها، وإذا سجد وضعها» متفق عليه.
وروي عنه أنه فتح الباب لعائشة وهو في الصلاة، ولا فرق بين العمد والسهو فيه؛ لأنه من غير جنس الصلاة، ولا يشرع له سجود لذلك، واليسير: ما شابه فعل
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما رويناه، ومثل تقدمه وتأخره في صلاة الكسوف، والكثير: ما زاد على ذلك مما عد كثيرًا في العرف؛ فيبطل الصلاة، إلا أن يفعله متفرقًا.
النوع الثالث: الأكل والشرب، متى أتى بهما في الفريضة عمدًا بطلت؛ لأنهما ينافيان الصلاة، والنافلة كالفريضة.
وعنه: لا يبطلها اليسير، والأولى أولى؛ لأن ما أبطل الفريضة أبطل النافلة، كالعمل الكثير، وإن فعلها سهوًا وكثر ذلك بطلت الصلاة؛ لأنه عمل كثير، وإن قل فكذلك؛ لأنه من غير جنس الصلاة، فسوى بين عمده وسهوه كالمشي.
وعنه: لا يبطل؛ لأنه سوى بين قليله وكثيره في العمد، فعفي عنه في السهو كالسلام، فعلى هذا يسجد له؛ لأنه تبطل الصلاة بعمده، وعفي عن سهوه، فيسجد له كجنس الصلاة.
ومن ترك في فيه ما يذوب كالسكر، وابتلع ما يذوب منه، فهو أكل، وإن بقي في فمه أو بين أسنانه يسير من بقايا الطعام يجري به الريق فابتلعه، لم تبطل صلاته؛ لأنه لا يمكنه التحرز منه، وإن ترك في فيه لقمة، لم يبلعها لم تبطل صلاته؛ لأنه عمل يسير، ويكره؛ لأنه يشغل عن خشوعها وقراءتها، فإن لاكها فهو كالعمل، وإن كثر أبطل، وإلا فلا.
فصل:
القسم الثاني: النقص، وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: ترك ركن، كركوع أو سجود، فإن كان عمدًا أبطل الصلاة، وإن كان سهوًا فله أربعة أحوال:
أحدها: لم يذكره حتى سلم، وطال الفصل، فتفسد صلاته، لتعذر البناء مع طول الفصل.
الثاني: ذكره قريبًا من التسليم، فإنه يأتي بركعة كاملة؛ لأن الركعة التي ترك الركن منها، بطلت بتركه، والشروع في غيرها، فصارت كالمتروكة.
الثالث: ذكر المتروك قبل شروعه في قراءة الركعة الأخرى، فإنه يعود فيأتي بما تركه، ثم يبني على صلاته، فإن سجد سجدة، ثم قام قبل جلسة الفصل فذكر، جلس للفصل، ثم سجد ثم قام، وإن ترك السجود وحده، سجد ولم يجلس؛ لأنه لم يتركه، ولو جلس للاستراحة لم يجزئه عن جلسة الفصل؛ لأنه نوى بجلوسه النفل، فلم يجزئه
عن الفرض، كمن سجد للتلاوة لم يجزئه عن سجود الصلاة، ويسجد للسهو، فإن لم يعد إلى فعل ما تركه، فسدت صلاته؛ لأنه ترك الواجب عمدًا، إلا أن يكون جاهلًا.
الحال الرابع: ذكر بعد شروعه في قراءة الفاتحة في ركعة أخرى، فتبطل الركعة التي ترك ركنها وحدها، ويجعل الأخرى مكانها، ويتم صلاته، ويسجد قبل السلام.
وإن ترك ركنين مع ركعتين، أتى بركعتين مكانها.
وإن ترك أربع سجدات من أربع ركعات، وذكر وهو في التشهد سجد سجدة، تصح له الركعة الرابعة، ويأتي بثلاث ركعات، ويسجد للسهو، وعنه: أن صلاته تبطل؛ لأنه يفضي إلى عمل كثير غير معتد به.
وإن ذكر وهو في التشهد أنه ترك سجدة من الرابعة، سجد في الحال، ثم تشهد وسجد للسهو، فإن لم يعلم من أي الركعات تركها، جعلها من ركعة قبلها، ليلزمه ركعة، وإن ذكر في الركعة أنه ترك ركنًا لم يعلم أركوع هو أم سجود؟ جعله ركوعًا، ليأتي به، ثم بما بعده كيلا يخرج من الصلاة على شك.
النوع الثاني: ترك واجبا غير ركن عمدًا، كالتكبير غير تكبيرة الإحرام، وتسبيح الركوع والسجود؛ بطلت صلاته إن قلنا بوجوبه، وإن تركه سهوًا سجد للسهو قبل السلام؛ لما «روى عبد الله بن مالك ابن بحينة قال: صلى بنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر، فقام في الركعتين، فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه، كبر فسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم» متفق عليه. فثبت هذا بالخبر، وقسنا عليه سائر الواجبات، وإن ذكر التشهد قبل انتصابه قائمًا، رجع فأتى به، وإن ذكر بعد شروعه في القراءة، لم يرجع لذلك؛ لأنه تلبس بركن مقصود، فلم يرجع إلى واجب، وإن ذكره بعد قيامه، وقبل شروعه في القراءة لم يرجع أيضًا لذلك، لما «روى المغيرة بن شعبة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: إذا قام أحدكم في الركعتين فلم يستتم قائمًا جلس، فإن استتم قائمًا لم يجلس وسجد سجدتي السهو» رواه أبو داود.
وقال أصحابنا: وإن رجع في هذه الحال لم تفسد صلاته، ولا يرجع إلى غيره من الواجبات؛ لأنه لو رجع إلى الركوع لأجل تسبيحة لزاد ركوعًا في صلاته، وأتى بالتسبيح في ركوع غير مشروع.
النوع الثالث: ترك سنة، فلا تبطل الصلاة بتركها عمدًا ولا سهوًا، ولا سجود عليه؛ لأنه شرع للجبر، فإن لم يكن الأصل واجبًا فجبره أولى، ثم إن كان المتروك من سنن الأفعال لم يشرع له السجود؛ لأنه يمكن التحرز منه، وإن كان من سنن الأقوال ففيه روايتان:
أحدهما: لا يسن له السجود كسنن الأفعال.
والثانية: يسن؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» .
فصل:
القسم الثالث: الشك، وفيه ثلاث مسائل:
إحداهن: شك في عدد الركعات، ففيه ثلاثة روايات:
إحداهن: يبني على غالب ظنه، ويتم صلاته، ويسجد بعد السلام؛ لما روى ابن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين متفق عليه، وللبخاري: " بعد التسليم» .
الثانية: يبني على اليقين، لما روى أبو سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثًا أو أربعًا؟ فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته، وإن كان صلى أربعًا كانتا ترغيمًا للشيطان» رواه مسلم.
والرواية الثالثة: يبني الإمام على غالب ظنه، والمنفرد على اليقين؛ لأن للإمام من يذكره إن غلط، فلا يخرج منها على شك، والمنفرد يبني على اليقين؛ لأنه لا يأمن الخطأ، وليس له من يذكره، فلزمه البناء على اليقين، كيلا يخرج من الصلاة شاكًا فيها، وهذا ظاهر المذهب.
المسألة الثانية: شك في ركن من الصلاة، فحكمه حكم تاركه؛ لأن الأصل عدمه.
المسألة الثالثة: شك فيما يوجب سجود السهو، من زيادة أو ترك واجب، ففيه وجهان:
أحدهما: لا سجود عليه؛ لأن الأصل عدم وجوبه، فلا يجب بالشك.
والثاني: إن شك في زيادة لم يسجد؛ لأن الأصل عدمها، وإن شك في ترك واجب لزمه السجود؛ لأن الأصل عدمه، وإنما يؤثر الشك إذا وجد في الصلاة، فإن شك بعد سلامها لم يلتفت إليه؛ لأن الظاهر الإتيان بها على الوجه المشروع؛ لأن ذلك يكثر فيشق الرجوع إليه فسقط، وهكذا الشك في سائر العبادات بعد فراغه منها.
فصل:
وسجود السهو لما يبطل عمده الصلاة واجب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله وأمر به، ولأنه شرع لجبر واجب، فكان واجبًا كجبرانات الحج، وجميعه قبل السلام؛ لأنه من تمامها وشأنها، فكان قبل سلامها كسجود صلبها، إلا في ثلاثة مواضع:
أحدها: إذا سلم من نقصان في صلاته سجد بعد السلام؛ لحديث ذي اليدين.
الثاني: إذا بنى على غالب ظنه سجد بعد السلام لحديث ابن مسعود.
الثالث: إذا نسي السجود قبل السلام سجده بعده؛ لأنه فاته الواجب فقضاه، وعن أحمد: أن جميعه قبل السلام، إلا أن ينساه قبل أن يسلم.
وعنه: ما كان من زيادة فهو بعد السلام؛ لحديث ذي اليدين، وما كان من نقصان أو شك كان قبله؛ لحديث ابن بحينة وأبي سعيد، فمن سجد قبل السلام جعله بعد فراغه من التشهد؛ لحديث ابن بحينة: فيكبر للسجود والرفع منه، ويسجد سجدتين كسجدتي صلب الصلاة، ويسلم عقيبها، وإن سجد بعد السلام كبر للسجود والرفع منه؛ لحديث ذي اليدين، ويتشهد ويسلم، لما «روى عمران بن حصين: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد وسلم» وهذا حديث حسن، ولأنه سجود يسلم له، فكان معه تشهد كسجود صلب الصلاة، فإن نسي السجود فذكره قبل طول الفصل سجد وإن تكلم.
وقال الخرقي: يسجد ما لم يخرج من المسجد، وإن تكلم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد بعد السلام والكلام رواه مسلم.
وإن نسيه حتى طال الفصل، أو خرج من المسجد، على قول الخرقي، سقط؛ وعنه: يعيد الصلاة.
وقال أبو الخطاب: إن ترك المشروع قبل السلام عامدًا بطلت صلاته؛ لأنه ترك واجبًا فيها عمدًا، وإن ترك المشروع بعد السلام عمدًا أو سهوًا لم تبطل صلاته؛ لأنه ترك واجبًا ليس منها، فلم تبطل بتركه كجبرانات الحج.
فصل:
فإن سها سهوين محل سجودهما واحد، كفاه أحدهما؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» ، ولأن السجود إنما أخر ليجمع السهو كله، ولولا ذلك فعله عقيب السهو؛ لأنه سببه، وإن كان أحدهما قبل السلام والآخر بعده ففيه وجهان:
أحدهما: يجزئه سجود واحد لذلك، ويسجد قبل السلام؛ لأنه أسبق وآكد، ولم يسبقه ما يقوم مقامه فلزمه الإتيان بخلاف الثاني.
والثاني: يأتي بهما في محلهما؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لكل سهو سجدتان» رواه أبو داود.
فصل:
وليس على المأموم سجود لسهوه، فإن سها إمامه فعليه السجود معه، لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على من خلف الإمام سهو، فإن سها إمامه فعليه وعلى من خلفه» رواه الدارقطني، ولأن المأموم تابع لإمامه، فلزمه متابعته في السجود وفي تركه.
ويسجد المسبوق مع إمامه في سهوه الذي لم يدركه، فإن كان السجود بعد السلام لم يقم المسبوق حتى يسجد معه.
وعنه: لا سجود عليه هاهنا، والأول المذهب، فإن قام ولم يعلم، فسجد الإمام رجع فسجد معه إن لم يكن استتم قائمًا، وإن استتم قائمًا مضى، ثم سجد في آخر صلاته قبل سلامه؛ لأنه قام عن واجب، فأشبه تارك التشهد الأول، وإن سجد مع الإمام ففيه روايتان:
إحداهما: يعيد السجود؛ لأن محله آخر الصلاة، وإن سجد مع إمامه تبعًا، فلم يسقط المشروع في محله كالتشهد.
والثانية: لا يسجد؛ لأنه قد سجد وانجبرت صلاته، وإن لم يسجد مع إمامه سجد وجهًا واحدًا.
وإن ترك الإمام السجود، فهل يسجد المأموم؟ فيه روايتان:
إحداهما: يسجد لأن صلاته نقصت بسهو إمامه، ولم يجبرها فلزمه جبرها.
والثانية: لا يسجد؛ لأنه إنما يسجد تبعًا، فإن لم يوجد المتبوع لم يجب التبع.
فصل:
والنافلة كالفريضة في السجود؛ لعموم الأخبار، ولأنها في معناها، ولا يسجد لسهو في سجود السهو؛ لأنه يفضي إلى التسلسل، ولا في صلاة جنازة؛ لأنه لا سجود في صلبها، ففي جبرها أولى، ولا يسجد لفعل عمد؛ لأن السجود سجود للسهو، ولأن العمد إن كان لمحرم أفسد الصلاة، وإن كان في غيره فلا عذر عليه، والسجود إنما شرع في محل العذر.
فصل:
ومن أحدث عمدًا بطلت صلاته؛ لأنه أخل بشرطها عمدًا، وإن سبقه الحدث أو طرأ عليه ما يفسد طهارته، كظهور قدمي الماسح، وانقضاء مدة المسح، ومن به سلس لبول؛ بطلت صلاته.
وعنه فيمن سبقه الحدث: يتوضأ ويبني، وهذه الصور في معناها، والمذهب الأول؛ لأن الصلاة لا تصح من محدث في عمد ولا سهو، وله أن يستخلف من يتم بهم الصلاة.
وعنه: ليس له ذلك؛ لأن صلاته باطلة، والمذهب الأول؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين طعن أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فأتم بهم الصلاة، فلم ينكره أحد فكان إجماعًا، وإن لم يستخلف، فاستخلف الجماعة لأنفسهم، أو صلوا وحدانًا جاز.
قال أصحابنا: وله استخلاف من لم يكن معه في الصلاة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل في صلاة أبي بكر، ولم يكن معه، فأخذ من حيث انتهى إليه أبو بكر، فإن كان مسبوقًا ببعض الصلاة، فتمت صلاة المأمومين قبله، وجلسوا يتشهدون، وقام هو فأتم صلاته، ثم أدركهم فسلم بهم، ولا يسلمون قبله؛ لأن الإمام ينتظر المأمومين في صلاة الخوف، فالمأمومون أولى بانتظاره.
والثانية: لا تفسد صلاة الإمام؛ لأن له أسوة بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتفسد صلاة المأموم؛ لأنه
وإنما يشرع لجبر خلل الصلاة، وهو ثلاثة أقسام: زيادة، ونقص، وشك.
والزيادة ضربان: زيادة أقوال، تتنوع ثلاثة أنواع:
أحدها: أن يأتي بذكر مشروع في غير محله، كالقراءة في الركوع والسجود والجلوس، والتشهد في القيام، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد الأول، ونحوه فهذا لا يبطل الصلاة بحال؛ لأنه ذكر مشروع في الصلاة، ولا يجب له سجود؛ لأن عمده غير مبطل، وهل يسن السجود لسهوه؟ فيه روايتان:
إحداهما: يسن؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» .
والثانية: لا يسن؛ لأن عمده غير مبطل، فأشبه العمل اليسير.
الثاني: أن يسلم في الصلاة قبل إتمامها، فإن كان عمدًا بطلت صلاته؛ لأنه تكلم فيها، وإن كان سهوًا، وطال الفصل، بطلت أيضًا، لتعذر بناء الباقي عليها، وإن ذكر قريبًا أتم صلاته، وسجد بعد السلام.
فإن كان قد قام، فعليه أن يجلس لينهض عن جلوس؛ لأن القيام واجب للصلاة، ولم يأت به قاصدًا لها، والأصل فيه، ما روى أبو هريرة قال: «صلى بنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحدى صلاتي العشي، فصلى ركعتين ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد، فوضع يده عليها كأنه غضبان، شبك بين أصابعه، ووضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى، وخرج السرعان من أبواب المسجد، فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهاباه أن يكلماه، وفي
القوم رجل في يديه طول، يقال له: ذو اليدين، فقال له: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: لم أنس ولم تقصر، فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم. قال: فتقدم فصلى ما ترك من صلاته، ثم سلم، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر» متفق عليه.
وإن انتقض وضوؤه أو دخل في صلاة أخرى، أو تكلم من غير شأن الصلاة، كقوله: اسقني ماء فسدت صلاته، وإن تكلم مثل كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذي اليدين، ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: لا تفسد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر وذا اليدين تكلموا ثم أتموا صلاتهم.
لا يمكنه التأسي بأبي بكر وعمر؛ لأنهما تكلما مجيبين للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإجابته واجبة، ولا بذي اليدين؛ لأنه تكلم سائلًا عن قصر الصلاة في زمن يمكن ذلك فيه، فعذر، بخلاف غيره، واختارها الخرقي.
والثالثة: تفسد صلاتهم؛ لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» اختارها أبو بكر، والأول أولى.
النوع الثالث: أن يتكلم من صلب الصلاة، فإن كان عمدًا أبطل الصلاة إجماعًا لما رويناه، ولما روى زيد بن أرقم، قال: «كنا نتكلم في الصلاة؛ يكلم الرجل صاحبه، حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام» متفق عليه. وإن تكلم ناسيًا، أو جاهلًا بتحريمه ففيه روايتان:
إحداهما: يبطلها، لما روينا، ولأنه من غير جنس الصلاة، فأشبه العمل الكثير.
والثانية: لا يفسدها، لما «روى معاوية بن الحكم السلمي، قال: بينما أنا أصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم لكي أسكت، فلما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، ثم قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» رواه مسلم. فلم يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإعادة لجهله، والناسي في معناه.
وإن غلب بكاء، فنشج بما انتظم حروفًا لم تفسد صلاته، نص عليه؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يسمع نشيجه من وراء الصفوف، وإن غلط في القراءة وأتى بكلمة من غيره لم تفسد صلاته؛ لأنه لا يمكنه التحرز منه.
وإن نام فتكلم احتمل وجهين:
أحدهما: لا تفسد صلاته؛ لأنه عن غلبة، أشبه ما تقدم.
والثاني: أنه ككلام الناسي، وإن شمت عطاسًا، أفسد صلاته لحديث معاوية، وكذلك إن رد سلامًا، أو سلم على إنسان؛ لأنه من كلام الآدميين، فأشبه تشميت العاطس، وإن قهقه بطلت صلاته؛ لأن جابرًا روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القهقهة تنقض الصلاة، ولا تنقض الوضوء» رواه الدارقطني.
والكلام المبطل ما انتظم حرفين فصاعدًا؛ لأنه أقل ما ينتظم منه الكلام، وقد «روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نفخ في الصلاة، وتنحنح فيها» ، وهو محمول على أنه لم يأت بحرفين، أو لم يأت بحرفين مختلفين.
فصل:
الثاني: زيادة الأفعال، وهي ثلاثة أنواع:
أحدهما: زيادة من جنس الصلاة، كركعة أو ركوع أو سجود، فمتى كان عمدًا أبطلها، وإن كان سهوًا سجد له؛ لما «روى ابن مسعود، قال: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمسًا، فلما انفتل من الصلاة توشوش القوم بينهم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: يا رسول الله، هل زيد في الصلاة شيء؟ قال: لا قالوا: إنك صليت خمسًا، فانفتل وسجد سجدتين، ثم سلم، ثم قال: إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين، وفي لفظ: فإذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين» رواه مسلم.
ومتى قام الرجل إلى ركعة زائدة، فلم يذكر حتى سلم، سجد للحال، وإن ذكر قبل السلام سجد ثم سلم، وإن ذكر في الركعة، جلس على أي حال كان، فإن كان قيامه قبل التشهد تشهد ثم سجد ثم سلم، وإن كان بعده سجد ثم سلم، وإن كان تشهد ولم يصل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عليه، ثم سجد وسلم.
فصل:
وإذا سها الإمام فزاد أو نقص فعلى المأمومين تنبيهه؛ لما «روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فزاد أو نقص، ثم قال: إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني» ، «وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا نابكم أمر فليسبح الرجال، وليصفح النساء» ، وفي لفظ: «التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء» متفق عليه.
وإذ سبح به اثنان، لزمه الرجوع إليهما؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجع إلى قول أبي بكر وعمر، وأمر بتذكيره ليرجع، فإن لم يرجع بطلت صلاته؛ لأنه ترك الواجب عمدًا، وليس لهم اتباعه لبطلان صلاته، فإن اتبعوه بطلت صلاتهم، إلا أن يكونوا جاهلين، فلا تبطل؛ لأن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تابعوه في الخامسة، وإن فارقوه وسلموا صحت صلاتهم، وذكر القاضي رواية أخرى: أنهم يتابعونه استحبابًا، ورواية ثالثة: أنهم ينتظرونه، اختارها ابن حامد، وإن كان الإمام على يقين من صواب نفسه لم يرجع؛ لأن قولهما: إنما يفيد الظن، واليقين أولى.
وإن سبح به واحد لم يرجع نص عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يرجع بقول ذي اليدين وحده، وإن سبح به من يعلم فسقه لم يرجع؛ لأن خبره غير مقبول، وإن افترق المأمومون طائفتين سقط قولهم؛ لتعارضه عنده، وإن نسي التشهد الأول، فسبحوا به، بعد انتصابه قائمًا، لم يرجع، ويتابعونه في القيام، لما «روى زياد بن علاقة قال: صلى بنا المغيرة بن شعبة، فلما صلى ركعتين، قام ولم يجلس، فسبح به من خلفه، فأشار إليهم قوموا، فلما فرغ من صلاته سلم، وسجد سجدتين وسلم، وقال: هكذا صنع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رواه الإمام أحمد.
وإن رجع بعد شروعه في القراءة لم يتابعوه؛ لأنه خطأ، فإن سبحوا به قبل قيامه لزمه الرجوع، فإن لم يرجع تشهدوا لأنفسهم وتابعوه؛ لأنه ترك واجبًا تعين عليهم، فلم يجز لهم اتباعه في تركه، وإن ذكر التشهد قبل انتصابه فرجع إليه بعد قيام المأمومين وشروعهم في القراءة لزمهم الرجوع؛ لأنه رجع إلى واجب، فلزمهم متابعته، ولا عبرة بما فعلوه قبله.
النوع الثاني: زيادة من غير جنس الصلاة، كالمشي والحك، والتروح، فإن كثر متواليًا أبطل الصلاة إجماعًا، وإن قل لم يبطلها، لما «روى أبو قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع إذا قام حملها، وإذا سجد وضعها» متفق عليه.
وروي عنه أنه فتح الباب لعائشة وهو في الصلاة، ولا فرق بين العمد والسهو فيه؛ لأنه من غير جنس الصلاة، ولا يشرع له سجود لذلك، واليسير: ما شابه فعل
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما رويناه، ومثل تقدمه وتأخره في صلاة الكسوف، والكثير: ما زاد على ذلك مما عد كثيرًا في العرف؛ فيبطل الصلاة، إلا أن يفعله متفرقًا.
النوع الثالث: الأكل والشرب، متى أتى بهما في الفريضة عمدًا بطلت؛ لأنهما ينافيان الصلاة، والنافلة كالفريضة.
وعنه: لا يبطلها اليسير، والأولى أولى؛ لأن ما أبطل الفريضة أبطل النافلة، كالعمل الكثير، وإن فعلها سهوًا وكثر ذلك بطلت الصلاة؛ لأنه عمل كثير، وإن قل فكذلك؛ لأنه من غير جنس الصلاة، فسوى بين عمده وسهوه كالمشي.
وعنه: لا يبطل؛ لأنه سوى بين قليله وكثيره في العمد، فعفي عنه في السهو كالسلام، فعلى هذا يسجد له؛ لأنه تبطل الصلاة بعمده، وعفي عن سهوه، فيسجد له كجنس الصلاة.
ومن ترك في فيه ما يذوب كالسكر، وابتلع ما يذوب منه، فهو أكل، وإن بقي في فمه أو بين أسنانه يسير من بقايا الطعام يجري به الريق فابتلعه، لم تبطل صلاته؛ لأنه لا يمكنه التحرز منه، وإن ترك في فيه لقمة، لم يبلعها لم تبطل صلاته؛ لأنه عمل يسير، ويكره؛ لأنه يشغل عن خشوعها وقراءتها، فإن لاكها فهو كالعمل، وإن كثر أبطل، وإلا فلا.
فصل:
القسم الثاني: النقص، وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: ترك ركن، كركوع أو سجود، فإن كان عمدًا أبطل الصلاة، وإن كان سهوًا فله أربعة أحوال:
أحدها: لم يذكره حتى سلم، وطال الفصل، فتفسد صلاته، لتعذر البناء مع طول الفصل.
الثاني: ذكره قريبًا من التسليم، فإنه يأتي بركعة كاملة؛ لأن الركعة التي ترك الركن منها، بطلت بتركه، والشروع في غيرها، فصارت كالمتروكة.
الثالث: ذكر المتروك قبل شروعه في قراءة الركعة الأخرى، فإنه يعود فيأتي بما تركه، ثم يبني على صلاته، فإن سجد سجدة، ثم قام قبل جلسة الفصل فذكر، جلس للفصل، ثم سجد ثم قام، وإن ترك السجود وحده، سجد ولم يجلس؛ لأنه لم يتركه، ولو جلس للاستراحة لم يجزئه عن جلسة الفصل؛ لأنه نوى بجلوسه النفل، فلم يجزئه
عن الفرض، كمن سجد للتلاوة لم يجزئه عن سجود الصلاة، ويسجد للسهو، فإن لم يعد إلى فعل ما تركه، فسدت صلاته؛ لأنه ترك الواجب عمدًا، إلا أن يكون جاهلًا.
الحال الرابع: ذكر بعد شروعه في قراءة الفاتحة في ركعة أخرى، فتبطل الركعة التي ترك ركنها وحدها، ويجعل الأخرى مكانها، ويتم صلاته، ويسجد قبل السلام.
وإن ترك ركنين مع ركعتين، أتى بركعتين مكانها.
وإن ترك أربع سجدات من أربع ركعات، وذكر وهو في التشهد سجد سجدة، تصح له الركعة الرابعة، ويأتي بثلاث ركعات، ويسجد للسهو، وعنه: أن صلاته تبطل؛ لأنه يفضي إلى عمل كثير غير معتد به.
وإن ذكر وهو في التشهد أنه ترك سجدة من الرابعة، سجد في الحال، ثم تشهد وسجد للسهو، فإن لم يعلم من أي الركعات تركها، جعلها من ركعة قبلها، ليلزمه ركعة، وإن ذكر في الركعة أنه ترك ركنًا لم يعلم أركوع هو أم سجود؟ جعله ركوعًا، ليأتي به، ثم بما بعده كيلا يخرج من الصلاة على شك.
النوع الثاني: ترك واجبا غير ركن عمدًا، كالتكبير غير تكبيرة الإحرام، وتسبيح الركوع والسجود؛ بطلت صلاته إن قلنا بوجوبه، وإن تركه سهوًا سجد للسهو قبل السلام؛ لما «روى عبد الله بن مالك ابن بحينة قال: صلى بنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر، فقام في الركعتين، فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه، كبر فسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم» متفق عليه. فثبت هذا بالخبر، وقسنا عليه سائر الواجبات، وإن ذكر التشهد قبل انتصابه قائمًا، رجع فأتى به، وإن ذكر بعد شروعه في القراءة، لم يرجع لذلك؛ لأنه تلبس بركن مقصود، فلم يرجع إلى واجب، وإن ذكره بعد قيامه، وقبل شروعه في القراءة لم يرجع أيضًا لذلك، لما «روى المغيرة بن شعبة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: إذا قام أحدكم في الركعتين فلم يستتم قائمًا جلس، فإن استتم قائمًا لم يجلس وسجد سجدتي السهو» رواه أبو داود.
وقال أصحابنا: وإن رجع في هذه الحال لم تفسد صلاته، ولا يرجع إلى غيره من الواجبات؛ لأنه لو رجع إلى الركوع لأجل تسبيحة لزاد ركوعًا في صلاته، وأتى بالتسبيح في ركوع غير مشروع.
النوع الثالث: ترك سنة، فلا تبطل الصلاة بتركها عمدًا ولا سهوًا، ولا سجود عليه؛ لأنه شرع للجبر، فإن لم يكن الأصل واجبًا فجبره أولى، ثم إن كان المتروك من سنن الأفعال لم يشرع له السجود؛ لأنه يمكن التحرز منه، وإن كان من سنن الأقوال ففيه روايتان:
أحدهما: لا يسن له السجود كسنن الأفعال.
والثانية: يسن؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» .
فصل:
القسم الثالث: الشك، وفيه ثلاث مسائل:
إحداهن: شك في عدد الركعات، ففيه ثلاثة روايات:
إحداهن: يبني على غالب ظنه، ويتم صلاته، ويسجد بعد السلام؛ لما روى ابن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين متفق عليه، وللبخاري: " بعد التسليم» .
الثانية: يبني على اليقين، لما روى أبو سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثًا أو أربعًا؟ فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته، وإن كان صلى أربعًا كانتا ترغيمًا للشيطان» رواه مسلم.
والرواية الثالثة: يبني الإمام على غالب ظنه، والمنفرد على اليقين؛ لأن للإمام من يذكره إن غلط، فلا يخرج منها على شك، والمنفرد يبني على اليقين؛ لأنه لا يأمن الخطأ، وليس له من يذكره، فلزمه البناء على اليقين، كيلا يخرج من الصلاة شاكًا فيها، وهذا ظاهر المذهب.
المسألة الثانية: شك في ركن من الصلاة، فحكمه حكم تاركه؛ لأن الأصل عدمه.
المسألة الثالثة: شك فيما يوجب سجود السهو، من زيادة أو ترك واجب، ففيه وجهان:
أحدهما: لا سجود عليه؛ لأن الأصل عدم وجوبه، فلا يجب بالشك.
والثاني: إن شك في زيادة لم يسجد؛ لأن الأصل عدمها، وإن شك في ترك واجب لزمه السجود؛ لأن الأصل عدمه، وإنما يؤثر الشك إذا وجد في الصلاة، فإن شك بعد سلامها لم يلتفت إليه؛ لأن الظاهر الإتيان بها على الوجه المشروع؛ لأن ذلك يكثر فيشق الرجوع إليه فسقط، وهكذا الشك في سائر العبادات بعد فراغه منها.
فصل:
وسجود السهو لما يبطل عمده الصلاة واجب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله وأمر به، ولأنه شرع لجبر واجب، فكان واجبًا كجبرانات الحج، وجميعه قبل السلام؛ لأنه من تمامها وشأنها، فكان قبل سلامها كسجود صلبها، إلا في ثلاثة مواضع:
أحدها: إذا سلم من نقصان في صلاته سجد بعد السلام؛ لحديث ذي اليدين.
الثاني: إذا بنى على غالب ظنه سجد بعد السلام لحديث ابن مسعود.
الثالث: إذا نسي السجود قبل السلام سجده بعده؛ لأنه فاته الواجب فقضاه، وعن أحمد: أن جميعه قبل السلام، إلا أن ينساه قبل أن يسلم.
وعنه: ما كان من زيادة فهو بعد السلام؛ لحديث ذي اليدين، وما كان من نقصان أو شك كان قبله؛ لحديث ابن بحينة وأبي سعيد، فمن سجد قبل السلام جعله بعد فراغه من التشهد؛ لحديث ابن بحينة: فيكبر للسجود والرفع منه، ويسجد سجدتين كسجدتي صلب الصلاة، ويسلم عقيبها، وإن سجد بعد السلام كبر للسجود والرفع منه؛ لحديث ذي اليدين، ويتشهد ويسلم، لما «روى عمران بن حصين: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد وسلم» وهذا حديث حسن، ولأنه سجود يسلم له، فكان معه تشهد كسجود صلب الصلاة، فإن نسي السجود فذكره قبل طول الفصل سجد وإن تكلم.
وقال الخرقي: يسجد ما لم يخرج من المسجد، وإن تكلم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد بعد السلام والكلام رواه مسلم.
وإن نسيه حتى طال الفصل، أو خرج من المسجد، على قول الخرقي، سقط؛ وعنه: يعيد الصلاة.
وقال أبو الخطاب: إن ترك المشروع قبل السلام عامدًا بطلت صلاته؛ لأنه ترك واجبًا فيها عمدًا، وإن ترك المشروع بعد السلام عمدًا أو سهوًا لم تبطل صلاته؛ لأنه ترك واجبًا ليس منها، فلم تبطل بتركه كجبرانات الحج.
فصل:
فإن سها سهوين محل سجودهما واحد، كفاه أحدهما؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» ، ولأن السجود إنما أخر ليجمع السهو كله، ولولا ذلك فعله عقيب السهو؛ لأنه سببه، وإن كان أحدهما قبل السلام والآخر بعده ففيه وجهان:
أحدهما: يجزئه سجود واحد لذلك، ويسجد قبل السلام؛ لأنه أسبق وآكد، ولم يسبقه ما يقوم مقامه فلزمه الإتيان بخلاف الثاني.
والثاني: يأتي بهما في محلهما؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لكل سهو سجدتان» رواه أبو داود.
فصل:
وليس على المأموم سجود لسهوه، فإن سها إمامه فعليه السجود معه، لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على من خلف الإمام سهو، فإن سها إمامه فعليه وعلى من خلفه» رواه الدارقطني، ولأن المأموم تابع لإمامه، فلزمه متابعته في السجود وفي تركه.
ويسجد المسبوق مع إمامه في سهوه الذي لم يدركه، فإن كان السجود بعد السلام لم يقم المسبوق حتى يسجد معه.
وعنه: لا سجود عليه هاهنا، والأول المذهب، فإن قام ولم يعلم، فسجد الإمام رجع فسجد معه إن لم يكن استتم قائمًا، وإن استتم قائمًا مضى، ثم سجد في آخر صلاته قبل سلامه؛ لأنه قام عن واجب، فأشبه تارك التشهد الأول، وإن سجد مع الإمام ففيه روايتان:
إحداهما: يعيد السجود؛ لأن محله آخر الصلاة، وإن سجد مع إمامه تبعًا، فلم يسقط المشروع في محله كالتشهد.
والثانية: لا يسجد؛ لأنه قد سجد وانجبرت صلاته، وإن لم يسجد مع إمامه سجد وجهًا واحدًا.
وإن ترك الإمام السجود، فهل يسجد المأموم؟ فيه روايتان:
إحداهما: يسجد لأن صلاته نقصت بسهو إمامه، ولم يجبرها فلزمه جبرها.
والثانية: لا يسجد؛ لأنه إنما يسجد تبعًا، فإن لم يوجد المتبوع لم يجب التبع.
فصل:
والنافلة كالفريضة في السجود؛ لعموم الأخبار، ولأنها في معناها، ولا يسجد لسهو في سجود السهو؛ لأنه يفضي إلى التسلسل، ولا في صلاة جنازة؛ لأنه لا سجود في صلبها، ففي جبرها أولى، ولا يسجد لفعل عمد؛ لأن السجود سجود للسهو، ولأن العمد إن كان لمحرم أفسد الصلاة، وإن كان في غيره فلا عذر عليه، والسجود إنما شرع في محل العذر.
فصل:
ومن أحدث عمدًا بطلت صلاته؛ لأنه أخل بشرطها عمدًا، وإن سبقه الحدث أو طرأ عليه ما يفسد طهارته، كظهور قدمي الماسح، وانقضاء مدة المسح، ومن به سلس لبول؛ بطلت صلاته.
وعنه فيمن سبقه الحدث: يتوضأ ويبني، وهذه الصور في معناها، والمذهب الأول؛ لأن الصلاة لا تصح من محدث في عمد ولا سهو، وله أن يستخلف من يتم بهم الصلاة.
وعنه: ليس له ذلك؛ لأن صلاته باطلة، والمذهب الأول؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين طعن أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فأتم بهم الصلاة، فلم ينكره أحد فكان إجماعًا، وإن لم يستخلف، فاستخلف الجماعة لأنفسهم، أو صلوا وحدانًا جاز.
قال أصحابنا: وله استخلاف من لم يكن معه في الصلاة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل في صلاة أبي بكر، ولم يكن معه، فأخذ من حيث انتهى إليه أبو بكر، فإن كان مسبوقًا ببعض الصلاة، فتمت صلاة المأمومين قبله، وجلسوا يتشهدون، وقام هو فأتم صلاته، ثم أدركهم فسلم بهم، ولا يسلمون قبله؛ لأن الإمام ينتظر المأمومين في صلاة الخوف، فالمأمومون أولى بانتظاره.
والثانية: لا تفسد صلاة الإمام؛ لأن له أسوة بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتفسد صلاة المأموم؛ لأنه
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب صلاة الجماعة]
[باب صلاة الجماعة]
باب الجماعة الجماعة واجبة على الرجال، لكل صلاة مكتوبة؛ لما روى أبو هريرة: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر بالصلاة، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» متفق عليه. وليست شرطًا للصحة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة» متفق عليه. وتنعقد باثنين؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الاثنان فما فوقهما جماعة» رواه ابن ماجه. فإن أم الرجل عبده أو زوجته كانا جماعة لذلك، وإن أَمَّ صبيًا في النفل جاز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم ابن عباس في التهجد، وإن أَمَّهُ في فرض، فقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يكون مسقطًا له؛ لأنه ليس من أهله، وعنه: يصح كما لو أم رجلًا متنفلًا.
فصل:
ويجوز فعلها في البيت والصحراء؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أينما أدركتك الصلاة فَصَلِّ، فإنه مسجد» متفق عليه. وعنه أن حضور المسجد واجب؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» وفعلها فيما كثر الجمع أفضل؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى» من المسند. وإن كان في جواره مسجد، تختل الجماعة فيه بغيبته عنه، ففعلها فيه أفضل، وإن لم تختل بذلك، وثم مسجد آخر فالعتيق أفضل؛ لأن الطاعة فيه أسبق، وإن كانا سواء، فهل الأفضل قصد الأبعد أو الأقرب على روايتين، وإن كان البلد ثغرًا فالأفضل اجتماع الناس في مسجد واحد؛ لأنه أعلى للكلمة، وأوقع للهيبة، وبيت المرأة خير لها، فإن أرادت المسجد لم تمنع منه، ولا تتطيب له؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير
لهن» رواه أحمد. وفي رواية: «ليخرجن تفلات» يعني غير متطيبات، ولا بأس أن تصلي المرأة بالنساء؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لأم ورقة أن تؤم أهل دارها» رواه أبو داود.
فصل:
ويعذر في ترك الجماعة والجمعة بثمانية أشياء:
المرض: لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر، قالوا: يا رسول الله، وما العذر؟ قال: خوف أو مرض» رواه أبو داود.
والخوف: لهذا الحديث، وسواء خاف على نفسه من سلطان، أو لص، أو سبع، أو غريم يلزمه، ولا شيء معه يعطيه، أو على ماله من تلف أو ضياع أو سرقة، أو يكون له دين على غريم يخاف سفره، أو وديعة عنده إن تشاغل بالجماعة مضى وتركه، أو يخاف شرود دابته، أو احتراق خبزه أو طبخه، أو ناطور بستان يخاف سرقة شيء منه، أو مسافر يخاف فوت رفقته، أو يكون له مريض يخاف ضياعه، أو صغير أو حرمة يخاف عليها.
والثالث، والرابع: المطر والوحل: لما «روي عن ابن عباس أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت: أشهد أن محمدًا رسول الله، فلا تقل حي على الصلاة، وقل: صلوا في بيوتكم، فعل ذلك من هو خير مني، إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطين والدحض» متفق عليه.
والخامس: الريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة، وهذا يختص بالجماعة؛ لما روى ابن عمر: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر مناديًا فيؤذن، ثم يقول على إثر ذلك: ألا صلوا في الرحال في الليلة الباردة أو المطيرة في السفر» متفق عليه.
السادس: أن يحضر الطعام ونفسه تتوق إليه.
السابع: أن يدافع الأخبثين أو أحدهما؛ لما روت عائشة قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يصلي أحدكم بحضرة الطعام، ولا وهو يدافع الأخبثين» رواه البخاري ومسلم.
الثامن: أن يكون له قريب يخاف موته ولا يحضره، لما روى ابن عمر رضي الله
عنهما: استصرخ علي سعيد بن زيد، وقد تجهز للجمعة، فذهب إليه وتركها.
فأما الأعمى فلا يعذر إذا أمكنه الحضور؛ لما روى أبو هريرة قال: «أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل أعمى فقال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأله أن يرخص له، فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: أتسمع النداء بالصلاة، قال: نعم، قال: فأجب» رواه مسلم.
فصل:
ومن شرط صحة الجماعة أن ينوي الإمام والمأموم حالهما، فإن نوى أحدهما دون صاحبه لم تصح؛ لأن الجماعة إنما انعقدت بالنية، فيعتبر وجودها منهما، وإن نوى كل واحد منهما أنه إمام صاحبه لم يصح؛ لأنه لا مأموم له، وإن نوى كل واحد منهما أنه مأموم لم يصح؛ لأنه لا إمام له، وإن نوى أن يأتم بأحد الإمامين لا بعينه لم يصح؛ لأنه لا يمكنه اتباعه، وإن نوى الائتمام بهما لم يصح لذلك، وإن نوى الائتمام بالمأموم أو المنفرد لم يصح؛ لأنه ليس بإمام.
فصل:
فإن أحرم على صفة، ثم انتقل عنها، ففيه ست مسائل:
إحداهن: أحرم منفردًا، ثم جاء إنسان فأحرم معه، فنوى إمامته، فيجوز في النفل؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام يصلي في التهجد، فجاء ابن عباس فأحرم معه، فصلى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» متفق عليه.
وإن كان في فرض وكان يرجو مجيء من يصلي معه، جاز أيضًا، نص عليه؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم بالصلاة وحده، فجاء جابر وجبار فصلى بهما» رواه أبو داود. وإن لم يكن كذلك؛ فعن أحمد لا يجزئه؛ لأنه لم ينو الإمامة في ابتداء الصلاة، وعنه ما يدل على الإجزاء؛ لأنه يصح في النفل والفرض في معناه.
الثانية: أحرم منفردًا فحضرت جماعة، فأحب أن يصلي معهم، فقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أحب إلي أن يقطع الصلاة، ويدخل مع الإمام، فإن لم يفعل ودخل معهم ففيه روايتان:
إحداهما: لا يجزئه؛ لأنه لم ينو الائتمام في ابتداء الصلاة.
والثانية: يجزئه لأنه لما جاز أن يجعل نفسه إمامًا، جاز أن يجعلها مأمومًا.
الثالثة: أحرم مأمومًا، ثم نوى الانفراد لعذر جاز، نحو أن يطول الإمام، أو تفسد
صلاته لعذر من سبق حدث أو نحوه؛ لما «روى جابر قال: صلى معاذ بقومه، فقرأ بسورة البقرة فتأخر رجل، وصلى وحده، فقيل له: نافقت يا فلان، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر له ذلك، فقال: أفتان أنت يا معاذ؟ مرتين» متفق عليه.
فإن نوى الانفراد لغير عذر فسدت صلاته؛ لأنه ترك متابعة إمامه لغير عذر، فأشبه ما لو تركها بغير نية المفارقة، وفيه وجه أنه يصح، بناء على المنفرد إذا نوى الإمامة.
الرابعة: أحرم مأمومًا ثم صار إمامًا لعذر، مثل أن سبق إمامه الحدث فيستخلفه فإنه يصح.
وعنه: لا يصح، وإن أدرك نفسان بعض الصلاة مع الإمام، فلما سلم ائتم أحدهما بصاحبه في بقيتها؟ ففيه وجهان، فإن كان لغير عذر لم تصح.
الخامسة: أحرم إمامًا ثم صار منفردًا لعذر، مثل أن يسبق الإمام الحدث أو تفسد صلاته لعذر، فينوي الإمام المنفرد فيصح، وإن كان لغير عذر لم يصح.
السادسة: أحرم إمامًا ثم صار مأمومًا لعذر، مثل أن يؤم غير إمام الحي، فيزول عذر الإمام، فيتقدم في أثناء الصلاة، ويبني على صلاة الأول، ويصير الأول مأمومًا ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لما روى سهل بن سعد قال: «ذهب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس في الصلاة، فتخلص حتى وقف في الصف، فاستأخر أبو بكر حتى استوى في الصف وتقدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصلى ثم انصرف» متفق عليه.
والثانية: لا يصح؛ لأنه لا حاجة إلى ذلك، وفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحتمل أن يكون خاصًا له؛ لأن أحدًا لا يساويه.
فصل:
وإذا أقيمت الصلاة لم يشتغل عنها بغيرها؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» رواه مسلم. وإن أقيمت وهو في نافلة خففها وأتمها، إلا أن يخاف فوات الجماعة فيقطعها؛ لأن الفريضة أهم، وعنه يتمها لقول الله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] .
وإن أقيمت قبل مجيئه لم يسع إليها؛ لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا وروي: فاقضوا» متفق عليه. ولا بأس أن يسرع شيئًا إذا خاف فوات الركعة؛ لأنه جاء عن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم كانوا يعجلون شيئًا إذا خافوا الفوات، فإن أدركه راكعًا كبر للإحرام وهو قائم، ثم كبر أخرى للركوع، فإن كبر واحدة أجزأه، نص عليه، واحتج أنه فعل زيد بن ثابت، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وإن أدرك قدر ما يجزئ في الركوع مع الإمام أدرك الركعة، فإن لم يدرك ذلك لم يكن مدركًا لها، لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أدركتم الإمام في السجود فاسجدوا، ولا تعدوها شيئًا، ومن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة» رواه أبو داود. وإن أدركه في سجود أو جلوس كبر الإحرام، وانحط من غير تكبير؛ لأنه لم يدرك محل التكبير في السجود.
فصل:
وإذا أحس بداخل في القيام أو الركوع استحب له انتظاره، ما لم يشق على المأمومين؛ لما «روى ابن أبي أوفى: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر، حتى لا يسمع وقع قدم» ، ولأنه انتظار ليدرك المأموم على وجه لا يشق، فلم يكره، كالانتظار في صلاة الخوف، إلا أن يكون الجمع كثيرًا فأنه لا يستحب؛ لأنه يتعذر أن يكون فيهم من يشق عليه، ولأنه يفوت حق جماعة كثيرة لأجل واحد، ومن كبر قبل سلام الإمام، فقد أدرك فضيلة الجماعة ويبني عليها.
فصل:
وما يدركه المأموم مع الإمام آخر صلاته لا يستفتح فيه، وما يقضيه أولها يستفتح إذا قام إليه ويستعيد؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما فاتكم فاقضوا» والمقضي هو الفائت.
وعنه: إن ما يدركه أولها ما يقضيه آخرها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما فاتكم فأتموا» والأول المشهور؛ لأنه يقرأ فيما يقضيه بالسورة بعد الفاتحة، فكان أول صلاته كما لو بدأ به، فإن لم يدرك إلا ركعة من المغرب، أو الرباعية ففي موضع تشهده روايتان:
إحداهما: يأتي بركعتين متواليتين ثم يتشهد؛ لأن المقضي أول صلاته، وهذا صفة أول الصلاة، ولأنهما ركعتان يقرأ فيهما بالسورة، فكانتا متواليتين كغير المسبوق.
والثانية: يأتي بركعة ثم يجلس؛ لأنه يروى عن ابن مسعود، وسعيد بن المسيب، ومسروق: فإذا جلس مع الإمام في تشهده الأخير كرر التشهد الأول، فإذا قضى ما عليه تشهد، وصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم سلم.
فصل:
وإن فاتته الجماعة استحب أن يصلي في جماعة أخرى، فإن لم يجد إلا من قد صلى استحب لبعضهم أن يصلي معه، لما «روى أبو سعيد: أن رجلًا جاء وقد صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: من يتصدق على هذا فيصلي معه؟» وهذا حديث حسن؛ ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» ويجوز ذلك في جميع المساجد، إلا أن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كرهه في المسجد الحرام ومسجد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فصل:
ويتبع المأموم الإمام، فيجعل أفعاله بعد أفعاله؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا» متفق عليه. والفاء للتعقيب، وقال في حديث أبي موسى: «فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم» رواه مسلم. «وقال البراء بن عازب: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قال: سمع الله لمن حمده لم يحن أحد منا ظهره، حتى يقع ساجدًا، ثم نقع سجودًا بعده» متفق عليه.
فإن كبر للإحرام مع إمامه أو قبله لم يصح؛ لأنه ائتم بمن لم تنعقد صلاته، وإن فعل سائر الأفعال معه كره لمخالفة السنة، ولم تفسد صلاته؛ لأنه اجتمع معه في الركن، وإن ركع أو رفع قبله عمدًا أتم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، ولا بالقيام» والنهي يقتضي التحريم.
وروى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار» متفق عليه. وظاهر كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن صلاته تبطل لهذا الحديث. قال: لو كان له صلاة لرجي له الثواب، ولم يخش عليه العقاب.
وقال القاضي: تصح صلاته؛ لأنه اجتمع معه في الركن، أشبه ما لو وافقه، وإن فعله جاهلًا أو ناسيًا فلا بأس. وعليه أن يعود ليأتي بذلك معه، فإن لم يفعل صحت
صلاته؛ لأنه سبق يسير لا يمكن التحرز منه، فإن ركع ورفع قبل أن يركع إمامه، وسجد قبل رفعه عمدًا عالمًا بتحريمه بطلت صلاته؛ لأنه لم يأتم بإمامه في معظم الركعة، وإن كان جاهلًا أو ناسيًا لم تبطل صلاته للعذر، ولم يعتد بتلك الركعة لما ذكرنا، فإن ركع قبله فلما ركع رفع، ففي بطلان الصلاة لعمد ذلك والاعتداد بالركعة مع جهله ونسيانه وجهان. فإن ركع الإمام، ورفع قبل ركوع المأموم عمدًا، بطلت صلاته، لتركه المتابعة، وإن كان لنوم أو غفلة ونحو ذلك لم تبطل؛ لأنه سبق يسير، ويركع ثم يدركه، فإن سبقه بأكثر من ذلك لعذر ففيه وجهان:
أحدهما: يفعله ويلحق، كالمزحوم في الجمعة.
والثاني: تبطل الركعة؛ لأنها مفارقة كثيرة.
باب الجماعة الجماعة واجبة على الرجال، لكل صلاة مكتوبة؛ لما روى أبو هريرة: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر بالصلاة، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» متفق عليه. وليست شرطًا للصحة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة» متفق عليه. وتنعقد باثنين؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الاثنان فما فوقهما جماعة» رواه ابن ماجه. فإن أم الرجل عبده أو زوجته كانا جماعة لذلك، وإن أَمَّ صبيًا في النفل جاز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم ابن عباس في التهجد، وإن أَمَّهُ في فرض، فقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يكون مسقطًا له؛ لأنه ليس من أهله، وعنه: يصح كما لو أم رجلًا متنفلًا.
فصل:
ويجوز فعلها في البيت والصحراء؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أينما أدركتك الصلاة فَصَلِّ، فإنه مسجد» متفق عليه. وعنه أن حضور المسجد واجب؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» وفعلها فيما كثر الجمع أفضل؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى» من المسند. وإن كان في جواره مسجد، تختل الجماعة فيه بغيبته عنه، ففعلها فيه أفضل، وإن لم تختل بذلك، وثم مسجد آخر فالعتيق أفضل؛ لأن الطاعة فيه أسبق، وإن كانا سواء، فهل الأفضل قصد الأبعد أو الأقرب على روايتين، وإن كان البلد ثغرًا فالأفضل اجتماع الناس في مسجد واحد؛ لأنه أعلى للكلمة، وأوقع للهيبة، وبيت المرأة خير لها، فإن أرادت المسجد لم تمنع منه، ولا تتطيب له؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير
لهن» رواه أحمد. وفي رواية: «ليخرجن تفلات» يعني غير متطيبات، ولا بأس أن تصلي المرأة بالنساء؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لأم ورقة أن تؤم أهل دارها» رواه أبو داود.
فصل:
ويعذر في ترك الجماعة والجمعة بثمانية أشياء:
المرض: لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر، قالوا: يا رسول الله، وما العذر؟ قال: خوف أو مرض» رواه أبو داود.
والخوف: لهذا الحديث، وسواء خاف على نفسه من سلطان، أو لص، أو سبع، أو غريم يلزمه، ولا شيء معه يعطيه، أو على ماله من تلف أو ضياع أو سرقة، أو يكون له دين على غريم يخاف سفره، أو وديعة عنده إن تشاغل بالجماعة مضى وتركه، أو يخاف شرود دابته، أو احتراق خبزه أو طبخه، أو ناطور بستان يخاف سرقة شيء منه، أو مسافر يخاف فوت رفقته، أو يكون له مريض يخاف ضياعه، أو صغير أو حرمة يخاف عليها.
والثالث، والرابع: المطر والوحل: لما «روي عن ابن عباس أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت: أشهد أن محمدًا رسول الله، فلا تقل حي على الصلاة، وقل: صلوا في بيوتكم، فعل ذلك من هو خير مني، إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطين والدحض» متفق عليه.
والخامس: الريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة، وهذا يختص بالجماعة؛ لما روى ابن عمر: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر مناديًا فيؤذن، ثم يقول على إثر ذلك: ألا صلوا في الرحال في الليلة الباردة أو المطيرة في السفر» متفق عليه.
السادس: أن يحضر الطعام ونفسه تتوق إليه.
السابع: أن يدافع الأخبثين أو أحدهما؛ لما روت عائشة قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يصلي أحدكم بحضرة الطعام، ولا وهو يدافع الأخبثين» رواه البخاري ومسلم.
الثامن: أن يكون له قريب يخاف موته ولا يحضره، لما روى ابن عمر رضي الله
عنهما: استصرخ علي سعيد بن زيد، وقد تجهز للجمعة، فذهب إليه وتركها.
فأما الأعمى فلا يعذر إذا أمكنه الحضور؛ لما روى أبو هريرة قال: «أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل أعمى فقال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأله أن يرخص له، فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: أتسمع النداء بالصلاة، قال: نعم، قال: فأجب» رواه مسلم.
فصل:
ومن شرط صحة الجماعة أن ينوي الإمام والمأموم حالهما، فإن نوى أحدهما دون صاحبه لم تصح؛ لأن الجماعة إنما انعقدت بالنية، فيعتبر وجودها منهما، وإن نوى كل واحد منهما أنه إمام صاحبه لم يصح؛ لأنه لا مأموم له، وإن نوى كل واحد منهما أنه مأموم لم يصح؛ لأنه لا إمام له، وإن نوى أن يأتم بأحد الإمامين لا بعينه لم يصح؛ لأنه لا يمكنه اتباعه، وإن نوى الائتمام بهما لم يصح لذلك، وإن نوى الائتمام بالمأموم أو المنفرد لم يصح؛ لأنه ليس بإمام.
فصل:
فإن أحرم على صفة، ثم انتقل عنها، ففيه ست مسائل:
إحداهن: أحرم منفردًا، ثم جاء إنسان فأحرم معه، فنوى إمامته، فيجوز في النفل؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام يصلي في التهجد، فجاء ابن عباس فأحرم معه، فصلى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» متفق عليه.
وإن كان في فرض وكان يرجو مجيء من يصلي معه، جاز أيضًا، نص عليه؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم بالصلاة وحده، فجاء جابر وجبار فصلى بهما» رواه أبو داود. وإن لم يكن كذلك؛ فعن أحمد لا يجزئه؛ لأنه لم ينو الإمامة في ابتداء الصلاة، وعنه ما يدل على الإجزاء؛ لأنه يصح في النفل والفرض في معناه.
الثانية: أحرم منفردًا فحضرت جماعة، فأحب أن يصلي معهم، فقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أحب إلي أن يقطع الصلاة، ويدخل مع الإمام، فإن لم يفعل ودخل معهم ففيه روايتان:
إحداهما: لا يجزئه؛ لأنه لم ينو الائتمام في ابتداء الصلاة.
والثانية: يجزئه لأنه لما جاز أن يجعل نفسه إمامًا، جاز أن يجعلها مأمومًا.
الثالثة: أحرم مأمومًا، ثم نوى الانفراد لعذر جاز، نحو أن يطول الإمام، أو تفسد
صلاته لعذر من سبق حدث أو نحوه؛ لما «روى جابر قال: صلى معاذ بقومه، فقرأ بسورة البقرة فتأخر رجل، وصلى وحده، فقيل له: نافقت يا فلان، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر له ذلك، فقال: أفتان أنت يا معاذ؟ مرتين» متفق عليه.
فإن نوى الانفراد لغير عذر فسدت صلاته؛ لأنه ترك متابعة إمامه لغير عذر، فأشبه ما لو تركها بغير نية المفارقة، وفيه وجه أنه يصح، بناء على المنفرد إذا نوى الإمامة.
الرابعة: أحرم مأمومًا ثم صار إمامًا لعذر، مثل أن سبق إمامه الحدث فيستخلفه فإنه يصح.
وعنه: لا يصح، وإن أدرك نفسان بعض الصلاة مع الإمام، فلما سلم ائتم أحدهما بصاحبه في بقيتها؟ ففيه وجهان، فإن كان لغير عذر لم تصح.
الخامسة: أحرم إمامًا ثم صار منفردًا لعذر، مثل أن يسبق الإمام الحدث أو تفسد صلاته لعذر، فينوي الإمام المنفرد فيصح، وإن كان لغير عذر لم يصح.
السادسة: أحرم إمامًا ثم صار مأمومًا لعذر، مثل أن يؤم غير إمام الحي، فيزول عذر الإمام، فيتقدم في أثناء الصلاة، ويبني على صلاة الأول، ويصير الأول مأمومًا ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لما روى سهل بن سعد قال: «ذهب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس في الصلاة، فتخلص حتى وقف في الصف، فاستأخر أبو بكر حتى استوى في الصف وتقدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصلى ثم انصرف» متفق عليه.
والثانية: لا يصح؛ لأنه لا حاجة إلى ذلك، وفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحتمل أن يكون خاصًا له؛ لأن أحدًا لا يساويه.
فصل:
وإذا أقيمت الصلاة لم يشتغل عنها بغيرها؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» رواه مسلم. وإن أقيمت وهو في نافلة خففها وأتمها، إلا أن يخاف فوات الجماعة فيقطعها؛ لأن الفريضة أهم، وعنه يتمها لقول الله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] .
وإن أقيمت قبل مجيئه لم يسع إليها؛ لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا وروي: فاقضوا» متفق عليه. ولا بأس أن يسرع شيئًا إذا خاف فوات الركعة؛ لأنه جاء عن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم كانوا يعجلون شيئًا إذا خافوا الفوات، فإن أدركه راكعًا كبر للإحرام وهو قائم، ثم كبر أخرى للركوع، فإن كبر واحدة أجزأه، نص عليه، واحتج أنه فعل زيد بن ثابت، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وإن أدرك قدر ما يجزئ في الركوع مع الإمام أدرك الركعة، فإن لم يدرك ذلك لم يكن مدركًا لها، لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أدركتم الإمام في السجود فاسجدوا، ولا تعدوها شيئًا، ومن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة» رواه أبو داود. وإن أدركه في سجود أو جلوس كبر الإحرام، وانحط من غير تكبير؛ لأنه لم يدرك محل التكبير في السجود.
فصل:
وإذا أحس بداخل في القيام أو الركوع استحب له انتظاره، ما لم يشق على المأمومين؛ لما «روى ابن أبي أوفى: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر، حتى لا يسمع وقع قدم» ، ولأنه انتظار ليدرك المأموم على وجه لا يشق، فلم يكره، كالانتظار في صلاة الخوف، إلا أن يكون الجمع كثيرًا فأنه لا يستحب؛ لأنه يتعذر أن يكون فيهم من يشق عليه، ولأنه يفوت حق جماعة كثيرة لأجل واحد، ومن كبر قبل سلام الإمام، فقد أدرك فضيلة الجماعة ويبني عليها.
فصل:
وما يدركه المأموم مع الإمام آخر صلاته لا يستفتح فيه، وما يقضيه أولها يستفتح إذا قام إليه ويستعيد؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما فاتكم فاقضوا» والمقضي هو الفائت.
وعنه: إن ما يدركه أولها ما يقضيه آخرها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما فاتكم فأتموا» والأول المشهور؛ لأنه يقرأ فيما يقضيه بالسورة بعد الفاتحة، فكان أول صلاته كما لو بدأ به، فإن لم يدرك إلا ركعة من المغرب، أو الرباعية ففي موضع تشهده روايتان:
إحداهما: يأتي بركعتين متواليتين ثم يتشهد؛ لأن المقضي أول صلاته، وهذا صفة أول الصلاة، ولأنهما ركعتان يقرأ فيهما بالسورة، فكانتا متواليتين كغير المسبوق.
والثانية: يأتي بركعة ثم يجلس؛ لأنه يروى عن ابن مسعود، وسعيد بن المسيب، ومسروق: فإذا جلس مع الإمام في تشهده الأخير كرر التشهد الأول، فإذا قضى ما عليه تشهد، وصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم سلم.
فصل:
وإن فاتته الجماعة استحب أن يصلي في جماعة أخرى، فإن لم يجد إلا من قد صلى استحب لبعضهم أن يصلي معه، لما «روى أبو سعيد: أن رجلًا جاء وقد صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: من يتصدق على هذا فيصلي معه؟» وهذا حديث حسن؛ ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» ويجوز ذلك في جميع المساجد، إلا أن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كرهه في المسجد الحرام ومسجد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فصل:
ويتبع المأموم الإمام، فيجعل أفعاله بعد أفعاله؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا» متفق عليه. والفاء للتعقيب، وقال في حديث أبي موسى: «فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم» رواه مسلم. «وقال البراء بن عازب: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قال: سمع الله لمن حمده لم يحن أحد منا ظهره، حتى يقع ساجدًا، ثم نقع سجودًا بعده» متفق عليه.
فإن كبر للإحرام مع إمامه أو قبله لم يصح؛ لأنه ائتم بمن لم تنعقد صلاته، وإن فعل سائر الأفعال معه كره لمخالفة السنة، ولم تفسد صلاته؛ لأنه اجتمع معه في الركن، وإن ركع أو رفع قبله عمدًا أتم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، ولا بالقيام» والنهي يقتضي التحريم.
وروى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار» متفق عليه. وظاهر كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن صلاته تبطل لهذا الحديث. قال: لو كان له صلاة لرجي له الثواب، ولم يخش عليه العقاب.
وقال القاضي: تصح صلاته؛ لأنه اجتمع معه في الركن، أشبه ما لو وافقه، وإن فعله جاهلًا أو ناسيًا فلا بأس. وعليه أن يعود ليأتي بذلك معه، فإن لم يفعل صحت
صلاته؛ لأنه سبق يسير لا يمكن التحرز منه، فإن ركع ورفع قبل أن يركع إمامه، وسجد قبل رفعه عمدًا عالمًا بتحريمه بطلت صلاته؛ لأنه لم يأتم بإمامه في معظم الركعة، وإن كان جاهلًا أو ناسيًا لم تبطل صلاته للعذر، ولم يعتد بتلك الركعة لما ذكرنا، فإن ركع قبله فلما ركع رفع، ففي بطلان الصلاة لعمد ذلك والاعتداد بالركعة مع جهله ونسيانه وجهان. فإن ركع الإمام، ورفع قبل ركوع المأموم عمدًا، بطلت صلاته، لتركه المتابعة، وإن كان لنوم أو غفلة ونحو ذلك لم تبطل؛ لأنه سبق يسير، ويركع ثم يدركه، فإن سبقه بأكثر من ذلك لعذر ففيه وجهان:
أحدهما: يفعله ويلحق، كالمزحوم في الجمعة.
والثاني: تبطل الركعة؛ لأنها مفارقة كثيرة.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب صفة الأئمة]
[باب صفة الأئمة]
الكلام فيها في ثلاثة أمور:
أحدها: صحة الإمامة: والناس فيها على خمسة أقسام:
أحدها: من تصح إمامته بكل حال، وهو الرجل المسلم العدل القائم بأركان الصلاة وشرائطها، فتصح إمامته وإن كان عبدًا؛ لأن أبا ذر، وابن مسعود، وحذيفة، وناسًا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدموا أبا سعيد مملوكًا لأبي أسيد فصلى بهم، ولأنه من أهل الأذان لهم، فأشبه الحر، وتصح إمامة الأعمى؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستخلف ابن أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى» رواه أبو داود.
ولأن الأعمى فقد حاسة فأشبه فقد الشم، وتصح إمامة الأصم لذلك، فإن كان أصم أعمى فقال بعض أصحابنا: لا تصح إمامته؛ لأنه قد يسهو فلا يمكن تنبيهه، والأولى صحتها؛ لأنه لا يخل بشيء من واجبات الصلاة، والسهو عارض لا يبطل الصلاة احتمال وجوده كالجهل بحكم السجود، وتصح إمامة ولد الزنا، والجندي، والخصي، والأعرابي، إذا سلموا في دينهم؛ لدخولهم في عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يؤم القوم أقرؤهم» وتصح إمامة المتيمم بالمتوضئ؛ «لأن عمرو بن العاص صلى بأصحابه متيممًا، وأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضحك، ولم ينكر عليه» ؛ لأن طهارته صحيحة أشبه الماسح.
فصل:
القسم الثاني: من لا تصح إمامته؛ وهم نوعان:
أحدهما: من لا تصح صلاته لنفسه كالكافر والمجنون، ومن أخل بشرط أو واجب
لغير عذر، فلا تصح إمامته بحال؛ لأنه لا صلاة له في نفسه أشبه اللاعب إلا في المحدث والنجس إذ لم يعلم هو والمأموم حتى فرغوا من الصلاة أعاد وحده؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه صلى بالناس الصبح، ثم خرج إلى الجرف، فأهراق الماء فوجد في ثوبه احتلامًا، فأعاد ولم يعد الناس. وروى الأثرم نحو هذا عن عثمان وعلي وابن عمر، ولم يعرف لهم مخالف فكان إجماعًا، ولأن هذا مما يخفى، فكان المأموم معذورًا في الاقتداء به، والنجاسة كالحدث؛ لأنها مما تخفى ولا يعفى عن سائر الشروط؛ لأنها ليست في مظنة الخفاء، فإن علم الإمام والمأموم ذلك في أثناء الصلاة لزمهم الاستئناف، وحكي عنه في المأموم أنه يبني على ما مضى لو سبق الإمام الحدث والمذهب الأول؛ لأن ما مضى بني على غير طهارة بخلاف من سبقه الحدث، وإن علم بعض المأمومين دون بعض، فالمنصوص أنهم يعيدون جميعًا لعدم المشقة فيه، ويحتمل أن تختص الإعادة بمن علم؛ لأنه اختص بالعلم المبطل، فاختص البطلان كما لو أحدث.
النوع الثاني: الفاسق إما بالأفعال أو ببدعة لا تكفره؛ ففي إمامته روايتان:
إحداهما: تصح «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذر: كيف أنت إذا كانت عليك أمراء، يميتون الصلاة عن وقتها. قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل، فإنها لك نافلة» من المسند. وكان ابن عمر يصلي وراء الحجاج، والحسن والحسين يصليان وراء مروان.
والثانية: لا يصح؛ لأن جابرًا قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تؤمن امرأة رجلًا، ولا فاجر مؤمنًا إلا أن يقهره بسلطان، أو يخاف سوطه أو سيفه» رواه ابن ماجه.
ولأنه لا يؤمن على شرائط الصلاة، ويحتمل أن تصح الجمعة والعيد دون غيرهما؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بهما خلف كل بر وفاجر؛ لأنها لا تختص بإمام واحد، فالمنع منها خلف الفاسق يفضي إلى تفويتها، فسومح فيها دون سائر الصلوات.
فصل:
القسم الثالث: من تصح إمامته بمثله، ولا تصح بغيره، وهم ثلاثة أنواع:
إحداها: المرأة يجوز أن تؤم النساء لما تقدم، ولا يجوز أن تؤم رجلًا، ولا خنثى مشكلًا، في فرض ولا صلاة نفل؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تؤمن امرأة رجلًا» ولأنها لا تؤذن للرجال، فلم يجز لها أن تؤمهم كالمجنون.
والثاني: الأمي وهو: من لا يحسن الفاتحة، أو يخل بترتيلها أو حرف منها، أو يبدله بغيره كالألثغ الذي يجعل الراء غينًا، ومن يلحن لحنًا يحيل المعنى مثل أن يضم
تاء {أَنْعَمْتَ} [الفاتحة: 7] أو يكسر كاف {إِيَّاكَ} [الفاتحة: 5] ، أو يخل بشدة، فإن الشدة قامت مقام حرف، بدليل أن شدة راء الرحيم قامت مقام اللام، لكن إذا خففها أجزأته، فهؤلاء إن لم يقدروا على إصلاح قراءتهم أميون تصح صلاتهم بمثلهم، ولا تصح بقارئ؛ لأنه عجز عن ركن الصلاة فأشبه العاجز عن السجود، فإن أم أميين وقارئًا صحت صلاة الأميين وفسدت صلاة القارئ.
وفي معنى هذا النوع من يخل بشرط أو ركن كالأخرس والعاجز عن الركوع والسجود، والقيام والقعود، والمستحاضة ومن به سلس البول وأشباههم تصح صلاتهم في أنفسهم، وبمن حاله كحالهم، ولا تصح بغيرهم؛ لأنهم أخلوا بفرض الصلاة، فأشبه المضجع يؤم القائم، إلا في موضع واحد وهو العاجز عن القيام يؤم القادر عليه بشرطين:
أحدهما: أن يكون إمام الحي.
والثاني: أن يرجى زوال مرضه، ويصلون خلفه جلوسًا؛ لأن النبي «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم جالسًا، فصلى وراءه قوم قيامًا، فأشار إليهم أن اجلسوا، ثم قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون» متفق عليه. فإن صلوا قيامًا ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح للنهي عنه.
والثاني: يصح لأن القيام هو الأصل، وقد أتوا به، فإن ابتدأ بهم قائمًا، ثم اعتل فجلس أتموا قيامًا؛ «لأن عائشة قالت: لما ثقل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فلما دخل أبو بكر في الصلاة خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجاء رسول الله حتى جلس عن يسار أبي بكر، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس جالسًا، وأبو بكر قائمًا يقتدي برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر» متفق عليه.
فأتموا قيامًا لابتدائهم إياها قيامًا، فأما غير إمام الحي، فلا يصح أن يؤم قادرًا على القيام، وهو جالس لعدم الحاجة إلى تقديمه مع عجزه، وإن لم يرج برؤه لم تجز إمامته؛ لأنه لا يجوز استبقاؤه إمامًا دائمًا مع عجزه، واحتمل هذا في القيام دون سائر الأركان لخفته؛ بدليل سقوطه في النفل دونها، فإن كان أقطع اليدين فقال أبو بكر: لا تصح إمامته لإخلاله بالسجود على عضوين من أعضاء السجود، فأشبه العاجز عن السجود على جبهته، وفي معناه: اقطع اليد الواحدة.
وقال القاضي: تصح إمامته؛ لأنه لا يخل بركن الصلاة بخلاف تارك السجود على الجبهة.
النوع الثالث: الصبي تصح إمامته بمثله؛ لأنه بمنزلته، ولا تصح إمامته ببالغ في فرض، نص عليه؛ لأن ذلك روي عن ابن مسعود، وابن عباس، ولأنه ليس من أهل
الكمال، فلا يؤم الرجال كالمرأة، وهل يؤمهم في النفل على روايتين.
إحداهما: لا تصح لذلك.
والثانية: تصح لأن صلاته نافلة، فيؤم من هو في مثل حاله، ويخرج أن تصح إمامته لهم في الفرض بناء على إمامة المتنفل للمفترض، «ولأن عمر بن سلمة الجرمي كان يؤم قومه وهو غلام في عصر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» أخرجه البخاري.
فصل:
القسم الرابع: من تصح إمامته ممن دونه ولا تصح بمثله ولا أعلى منه، وهو الخنثى المشكل، تصح إمامته بالنساء؛ لأن أدنى أحواله أن يكون امرأة، ولا تصح برجل؛ لأنه يحتمل أن يكون امرأة، ولا خنثى مشكل؛ لأنه يحتمل كون المأموم رجلًا.
فصل:
القسم الخامس: المتنفل يصح أن يؤم متنفلًا، وهل يصح أن يؤم مفترضًا؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا يصح؛ لأن صلاة المأموم لا يتأدى بنية الإمام، فأشبه الجمعة خلف من يصلي الظهر.
والثانية: يصح، وهي أولى؛ «لأن جابرًا روى أن معاذًا كان يصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة» متفق عليه. «وصلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الخوف بطائفة ركعتين، ثم سلم، ثم صلى بالأخرى ركعتين ثم سلم» رواه أبو داود. وهو في الثانية متنفل، ويؤم مفترضين، ولأنهما صلاتان اتفقتا في الأفعال، فأشبه المتنفل يأتم بمفترض، وإن صلى الظهر خلف من يصلي العصر، أو صلى العشاء خلف من يصلي التراويح ففيه روايتان، وجههما ما تقدم، فإن كانت إحدى الصلاتين تخالف الأخرى، كصلاة الكسوف والجمعة، خلف من يصلي غيرهما، أو غيرهما خلف من يصليهما لم يصح.
رواية واحدة؛ لأنه يفضي إلى المخالفة في الأفعال، فيدخل في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عنه» وإن صلى من يؤدي صلاة خلف من يقضيها، أو من يقضيها خلف من يؤديها صحت، رواية واحدة، ذكره الخلال؛ لأن الصلاة واحدة، وإنما اختلف الوقت، وخرج بعض أصحابنا فيها روايتين كالتي قبلها.
فصل:
الأمر الثاني في أولى الناس بالإمامة، وأتم ما روي فيه حديث أبي مسعود البدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنًا، أو قال: سلمًا، ولا يؤمن الرجل في بيته، ولا في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه» رواه مسلم.
فأولى الناس بالإمامة السلطان، للحديث وهو الخليفة أو الوالي من قبله أو نائبهما، فإن لم يكن سلطان، فصاحب البيت أحق للخبر. وقال أبو سعيد مولى أبو أسيد: تزوجت وأنا مملوك، فدعوت ناسًا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيهم أبو ذر، وابن مسعود، وحذيفة، فحضرت الصلاة، فتقدم أبو ذر فقالوا له: وراءك، فالتفت إلى أصحابه فقال: أكذلك؟ قالوا: نعم فقدموني، رواه صالح، بإسناده في مسائله.
فإن أذن صاحب البيت لرجل فهو بمنزلته، وإن اجتمع السلطان وصاحب البيت فالسلطان أولى؛ لأن ولايته على البيت وصاحبه، وإن اجتمع السلطان وخليفته فالسلطان أولى؛ لأن ولايته أعم، وإن اجتمع العبد وسيده في بيت العبد فالسيد أولى؛ لأنه مالك للعبد وبيته، وإن اجتمع المؤجر والمستأجر في الدار، فالمستأجر أولى لأنه أحق بالمنفعة، وإمام المسجد الراتب فيه بمنزلة صاحب البيت، لا يجوز لأحد أن يؤم فيه، بغير إذنه لذلك، ويجوز في غيبته؛ لأن أبا بكر صلى حين غاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «وفعل ذلك عبد الرحمن بن عوف مرة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أحسنتم» رواه مسلم. فإن لم يكن ذو مزية من هؤلاء، فأولاهم أقرؤهم لكتاب الله للخبر، ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم» رواه مسلم.
ويرجع في القراءة بجودتها وكثرة القرآن، فإن كان أحدهم أجود والآخر أكثر قرآنًا، فالأجود أولى؛ لأنه أعظم أجرًا؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قرأ القرآن فأعربه، فله بكل حرف منه عشر حسنات، ومن قرأه ولحن فيه، فله بكل حرف حسنة» حديث حسن صحيح.
وقال أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه، فإن اجتمع قارئ لا يعرف أحكام الصلاة وفقيه أمي، فالقارئ أولى للخبر، ولأنه لا تصح صلاته خلف الأمي، وإن كان الفقيه يقرأ ما يجزئ في الصلاة فكذلك الخبر.
وقال ابن عقيل: الفقيه أولى؛ لأنه تميز بما لا يستغنى عنه في الصلاة، فإن استويا في القراءة فأولاهما أفقههما للخبر، ولأن الفقيه يحتاج إليه في الصلاة، فأشبه القراءة،
وإن استويا في ذلك فأولاهما أقدمهما هجرة، وهو المهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام، فإن استويا في ذلك فأكبرهما سنًا للخبر، ولأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمالك بن الحويرث: إذا حضرت الصلاة فليؤذن إحداكما، وليؤمكما أكبركما» حديث صحيح. ولأنه أقرب إلى الخشوع وإجابة الدعاء، ويرجح بتقدم الإسلام؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقدمهم سلمًا» لأنه إذا رجح بتقدم السن فبالإسلام أولى، فإن استويا في ذلك قدم أشرفهما نسبًا، وأفضلهما في أنفسهما، وأعلاهما قدرًا؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قدموا قريشًا ولا تقدموها» هذا ظاهر كلام أحمد. وقال الخرقي: إذا استويا في الفقه فقدم أكبرهما سنًا، فإن استويا فأقدمهما هجرة، وقال ابن حامد يقدم الشرف بعد الفقه ثم الهجرة، ثم السن، فإن استووا قدم أتقاهم وأورعهم؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ولأنه أقربهم إلى الإجابة.
فإن استووا قدم أعمرهم للمسجد، وأتمهم مراعاة له، ويقدم الحر على العبد؛ لأنه من أهل المناصب، والحاضر يقدم على المسافر؛ لأنه إذا أم حصل جميع الصلاة في جماعة، بخلاف المسافر.
والحضري على البدوي؛ لأنه أجدر بمعرفة حدود الله تعالى، وأحرى بإصابة الحق.
والبصير على الأعمى؛ لأنه أقدر على توقي النجاسات، واستقبال القبلة بعلم نفسه.
وقال القاضي: هما سواء؛ لأن الضرير لا يرى ما يلهيه ويشغله، فذلك يقابل البصر فيستويان، والأولى لإمام الحي إذا عجز عن القيام أن يستنيب، لئلا يلزمهم ترك ركن، فإن استووا أقرع بينهم؛ لأن سعدًا أقرع بين أهل القادسية في الأذان، ولا يرجح بحسن الوجه؛ لأنه لا مدخل له في الإمامة.
فصل:
الثالث: أنه يكره إمامة اللحان؛ لأنه نقص يذهب ببعض من الثواب، وإمامة من لا يفصح ببعض الحروف، كالضاد والقاف، وإمامة التمتام، وهو من يكرر التاء والفأفاء، فالذي يكرر الفاء؛ لأنهما يزيدان في الحروف، وتصح الصلاة خلفهما؛ لأنهما يأتيان بالحروف على الكمال، فإن كان يجعل الضاد ظاء في الفاتحة، فقياس المذهب أنه كالأمي؛ لأنه يبدل حرفًا بغيره، ويحيل المعنى، فإنه يقال: ظل يفعل كذا، إذا فعله نهارًا.
ويكره أن يؤم قومًا أكثرهم له كارهون؛ لما روى أبو أمامة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون» وهذا الحديث حسن.
فإن كانوا يكرهونه لسنته أو دينه فلا يكره، قال منصور: قيل لنا: إنما عنى بهذا أئمة الظلم، فأما من أقام بالسنة، فإنما الإثم على من كرهه.
ويكره أن يؤم نساء أجانب لا رجل معهن، ويكره أن يتقدم المفضول من هو أولى منه؛ لأنه جاء في الحديث: «إذا أم الرجل القوم وفيهم من هو خير منه لم يزالوا في سفال» احتج به أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
الكلام فيها في ثلاثة أمور:
أحدها: صحة الإمامة: والناس فيها على خمسة أقسام:
أحدها: من تصح إمامته بكل حال، وهو الرجل المسلم العدل القائم بأركان الصلاة وشرائطها، فتصح إمامته وإن كان عبدًا؛ لأن أبا ذر، وابن مسعود، وحذيفة، وناسًا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدموا أبا سعيد مملوكًا لأبي أسيد فصلى بهم، ولأنه من أهل الأذان لهم، فأشبه الحر، وتصح إمامة الأعمى؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستخلف ابن أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى» رواه أبو داود.
ولأن الأعمى فقد حاسة فأشبه فقد الشم، وتصح إمامة الأصم لذلك، فإن كان أصم أعمى فقال بعض أصحابنا: لا تصح إمامته؛ لأنه قد يسهو فلا يمكن تنبيهه، والأولى صحتها؛ لأنه لا يخل بشيء من واجبات الصلاة، والسهو عارض لا يبطل الصلاة احتمال وجوده كالجهل بحكم السجود، وتصح إمامة ولد الزنا، والجندي، والخصي، والأعرابي، إذا سلموا في دينهم؛ لدخولهم في عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يؤم القوم أقرؤهم» وتصح إمامة المتيمم بالمتوضئ؛ «لأن عمرو بن العاص صلى بأصحابه متيممًا، وأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضحك، ولم ينكر عليه» ؛ لأن طهارته صحيحة أشبه الماسح.
فصل:
القسم الثاني: من لا تصح إمامته؛ وهم نوعان:
أحدهما: من لا تصح صلاته لنفسه كالكافر والمجنون، ومن أخل بشرط أو واجب
لغير عذر، فلا تصح إمامته بحال؛ لأنه لا صلاة له في نفسه أشبه اللاعب إلا في المحدث والنجس إذ لم يعلم هو والمأموم حتى فرغوا من الصلاة أعاد وحده؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه صلى بالناس الصبح، ثم خرج إلى الجرف، فأهراق الماء فوجد في ثوبه احتلامًا، فأعاد ولم يعد الناس. وروى الأثرم نحو هذا عن عثمان وعلي وابن عمر، ولم يعرف لهم مخالف فكان إجماعًا، ولأن هذا مما يخفى، فكان المأموم معذورًا في الاقتداء به، والنجاسة كالحدث؛ لأنها مما تخفى ولا يعفى عن سائر الشروط؛ لأنها ليست في مظنة الخفاء، فإن علم الإمام والمأموم ذلك في أثناء الصلاة لزمهم الاستئناف، وحكي عنه في المأموم أنه يبني على ما مضى لو سبق الإمام الحدث والمذهب الأول؛ لأن ما مضى بني على غير طهارة بخلاف من سبقه الحدث، وإن علم بعض المأمومين دون بعض، فالمنصوص أنهم يعيدون جميعًا لعدم المشقة فيه، ويحتمل أن تختص الإعادة بمن علم؛ لأنه اختص بالعلم المبطل، فاختص البطلان كما لو أحدث.
النوع الثاني: الفاسق إما بالأفعال أو ببدعة لا تكفره؛ ففي إمامته روايتان:
إحداهما: تصح «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذر: كيف أنت إذا كانت عليك أمراء، يميتون الصلاة عن وقتها. قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل، فإنها لك نافلة» من المسند. وكان ابن عمر يصلي وراء الحجاج، والحسن والحسين يصليان وراء مروان.
والثانية: لا يصح؛ لأن جابرًا قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تؤمن امرأة رجلًا، ولا فاجر مؤمنًا إلا أن يقهره بسلطان، أو يخاف سوطه أو سيفه» رواه ابن ماجه.
ولأنه لا يؤمن على شرائط الصلاة، ويحتمل أن تصح الجمعة والعيد دون غيرهما؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بهما خلف كل بر وفاجر؛ لأنها لا تختص بإمام واحد، فالمنع منها خلف الفاسق يفضي إلى تفويتها، فسومح فيها دون سائر الصلوات.
فصل:
القسم الثالث: من تصح إمامته بمثله، ولا تصح بغيره، وهم ثلاثة أنواع:
إحداها: المرأة يجوز أن تؤم النساء لما تقدم، ولا يجوز أن تؤم رجلًا، ولا خنثى مشكلًا، في فرض ولا صلاة نفل؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تؤمن امرأة رجلًا» ولأنها لا تؤذن للرجال، فلم يجز لها أن تؤمهم كالمجنون.
والثاني: الأمي وهو: من لا يحسن الفاتحة، أو يخل بترتيلها أو حرف منها، أو يبدله بغيره كالألثغ الذي يجعل الراء غينًا، ومن يلحن لحنًا يحيل المعنى مثل أن يضم
تاء {أَنْعَمْتَ} [الفاتحة: 7] أو يكسر كاف {إِيَّاكَ} [الفاتحة: 5] ، أو يخل بشدة، فإن الشدة قامت مقام حرف، بدليل أن شدة راء الرحيم قامت مقام اللام، لكن إذا خففها أجزأته، فهؤلاء إن لم يقدروا على إصلاح قراءتهم أميون تصح صلاتهم بمثلهم، ولا تصح بقارئ؛ لأنه عجز عن ركن الصلاة فأشبه العاجز عن السجود، فإن أم أميين وقارئًا صحت صلاة الأميين وفسدت صلاة القارئ.
وفي معنى هذا النوع من يخل بشرط أو ركن كالأخرس والعاجز عن الركوع والسجود، والقيام والقعود، والمستحاضة ومن به سلس البول وأشباههم تصح صلاتهم في أنفسهم، وبمن حاله كحالهم، ولا تصح بغيرهم؛ لأنهم أخلوا بفرض الصلاة، فأشبه المضجع يؤم القائم، إلا في موضع واحد وهو العاجز عن القيام يؤم القادر عليه بشرطين:
أحدهما: أن يكون إمام الحي.
والثاني: أن يرجى زوال مرضه، ويصلون خلفه جلوسًا؛ لأن النبي «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم جالسًا، فصلى وراءه قوم قيامًا، فأشار إليهم أن اجلسوا، ثم قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون» متفق عليه. فإن صلوا قيامًا ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح للنهي عنه.
والثاني: يصح لأن القيام هو الأصل، وقد أتوا به، فإن ابتدأ بهم قائمًا، ثم اعتل فجلس أتموا قيامًا؛ «لأن عائشة قالت: لما ثقل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فلما دخل أبو بكر في الصلاة خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجاء رسول الله حتى جلس عن يسار أبي بكر، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس جالسًا، وأبو بكر قائمًا يقتدي برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر» متفق عليه.
فأتموا قيامًا لابتدائهم إياها قيامًا، فأما غير إمام الحي، فلا يصح أن يؤم قادرًا على القيام، وهو جالس لعدم الحاجة إلى تقديمه مع عجزه، وإن لم يرج برؤه لم تجز إمامته؛ لأنه لا يجوز استبقاؤه إمامًا دائمًا مع عجزه، واحتمل هذا في القيام دون سائر الأركان لخفته؛ بدليل سقوطه في النفل دونها، فإن كان أقطع اليدين فقال أبو بكر: لا تصح إمامته لإخلاله بالسجود على عضوين من أعضاء السجود، فأشبه العاجز عن السجود على جبهته، وفي معناه: اقطع اليد الواحدة.
وقال القاضي: تصح إمامته؛ لأنه لا يخل بركن الصلاة بخلاف تارك السجود على الجبهة.
النوع الثالث: الصبي تصح إمامته بمثله؛ لأنه بمنزلته، ولا تصح إمامته ببالغ في فرض، نص عليه؛ لأن ذلك روي عن ابن مسعود، وابن عباس، ولأنه ليس من أهل
الكمال، فلا يؤم الرجال كالمرأة، وهل يؤمهم في النفل على روايتين.
إحداهما: لا تصح لذلك.
والثانية: تصح لأن صلاته نافلة، فيؤم من هو في مثل حاله، ويخرج أن تصح إمامته لهم في الفرض بناء على إمامة المتنفل للمفترض، «ولأن عمر بن سلمة الجرمي كان يؤم قومه وهو غلام في عصر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» أخرجه البخاري.
فصل:
القسم الرابع: من تصح إمامته ممن دونه ولا تصح بمثله ولا أعلى منه، وهو الخنثى المشكل، تصح إمامته بالنساء؛ لأن أدنى أحواله أن يكون امرأة، ولا تصح برجل؛ لأنه يحتمل أن يكون امرأة، ولا خنثى مشكل؛ لأنه يحتمل كون المأموم رجلًا.
فصل:
القسم الخامس: المتنفل يصح أن يؤم متنفلًا، وهل يصح أن يؤم مفترضًا؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا يصح؛ لأن صلاة المأموم لا يتأدى بنية الإمام، فأشبه الجمعة خلف من يصلي الظهر.
والثانية: يصح، وهي أولى؛ «لأن جابرًا روى أن معاذًا كان يصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة» متفق عليه. «وصلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الخوف بطائفة ركعتين، ثم سلم، ثم صلى بالأخرى ركعتين ثم سلم» رواه أبو داود. وهو في الثانية متنفل، ويؤم مفترضين، ولأنهما صلاتان اتفقتا في الأفعال، فأشبه المتنفل يأتم بمفترض، وإن صلى الظهر خلف من يصلي العصر، أو صلى العشاء خلف من يصلي التراويح ففيه روايتان، وجههما ما تقدم، فإن كانت إحدى الصلاتين تخالف الأخرى، كصلاة الكسوف والجمعة، خلف من يصلي غيرهما، أو غيرهما خلف من يصليهما لم يصح.
رواية واحدة؛ لأنه يفضي إلى المخالفة في الأفعال، فيدخل في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عنه» وإن صلى من يؤدي صلاة خلف من يقضيها، أو من يقضيها خلف من يؤديها صحت، رواية واحدة، ذكره الخلال؛ لأن الصلاة واحدة، وإنما اختلف الوقت، وخرج بعض أصحابنا فيها روايتين كالتي قبلها.
فصل:
الأمر الثاني في أولى الناس بالإمامة، وأتم ما روي فيه حديث أبي مسعود البدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنًا، أو قال: سلمًا، ولا يؤمن الرجل في بيته، ولا في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه» رواه مسلم.
فأولى الناس بالإمامة السلطان، للحديث وهو الخليفة أو الوالي من قبله أو نائبهما، فإن لم يكن سلطان، فصاحب البيت أحق للخبر. وقال أبو سعيد مولى أبو أسيد: تزوجت وأنا مملوك، فدعوت ناسًا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيهم أبو ذر، وابن مسعود، وحذيفة، فحضرت الصلاة، فتقدم أبو ذر فقالوا له: وراءك، فالتفت إلى أصحابه فقال: أكذلك؟ قالوا: نعم فقدموني، رواه صالح، بإسناده في مسائله.
فإن أذن صاحب البيت لرجل فهو بمنزلته، وإن اجتمع السلطان وصاحب البيت فالسلطان أولى؛ لأن ولايته على البيت وصاحبه، وإن اجتمع السلطان وخليفته فالسلطان أولى؛ لأن ولايته أعم، وإن اجتمع العبد وسيده في بيت العبد فالسيد أولى؛ لأنه مالك للعبد وبيته، وإن اجتمع المؤجر والمستأجر في الدار، فالمستأجر أولى لأنه أحق بالمنفعة، وإمام المسجد الراتب فيه بمنزلة صاحب البيت، لا يجوز لأحد أن يؤم فيه، بغير إذنه لذلك، ويجوز في غيبته؛ لأن أبا بكر صلى حين غاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «وفعل ذلك عبد الرحمن بن عوف مرة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أحسنتم» رواه مسلم. فإن لم يكن ذو مزية من هؤلاء، فأولاهم أقرؤهم لكتاب الله للخبر، ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم» رواه مسلم.
ويرجع في القراءة بجودتها وكثرة القرآن، فإن كان أحدهم أجود والآخر أكثر قرآنًا، فالأجود أولى؛ لأنه أعظم أجرًا؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قرأ القرآن فأعربه، فله بكل حرف منه عشر حسنات، ومن قرأه ولحن فيه، فله بكل حرف حسنة» حديث حسن صحيح.
وقال أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه، فإن اجتمع قارئ لا يعرف أحكام الصلاة وفقيه أمي، فالقارئ أولى للخبر، ولأنه لا تصح صلاته خلف الأمي، وإن كان الفقيه يقرأ ما يجزئ في الصلاة فكذلك الخبر.
وقال ابن عقيل: الفقيه أولى؛ لأنه تميز بما لا يستغنى عنه في الصلاة، فإن استويا في القراءة فأولاهما أفقههما للخبر، ولأن الفقيه يحتاج إليه في الصلاة، فأشبه القراءة،
وإن استويا في ذلك فأولاهما أقدمهما هجرة، وهو المهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام، فإن استويا في ذلك فأكبرهما سنًا للخبر، ولأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمالك بن الحويرث: إذا حضرت الصلاة فليؤذن إحداكما، وليؤمكما أكبركما» حديث صحيح. ولأنه أقرب إلى الخشوع وإجابة الدعاء، ويرجح بتقدم الإسلام؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقدمهم سلمًا» لأنه إذا رجح بتقدم السن فبالإسلام أولى، فإن استويا في ذلك قدم أشرفهما نسبًا، وأفضلهما في أنفسهما، وأعلاهما قدرًا؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قدموا قريشًا ولا تقدموها» هذا ظاهر كلام أحمد. وقال الخرقي: إذا استويا في الفقه فقدم أكبرهما سنًا، فإن استويا فأقدمهما هجرة، وقال ابن حامد يقدم الشرف بعد الفقه ثم الهجرة، ثم السن، فإن استووا قدم أتقاهم وأورعهم؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ولأنه أقربهم إلى الإجابة.
فإن استووا قدم أعمرهم للمسجد، وأتمهم مراعاة له، ويقدم الحر على العبد؛ لأنه من أهل المناصب، والحاضر يقدم على المسافر؛ لأنه إذا أم حصل جميع الصلاة في جماعة، بخلاف المسافر.
والحضري على البدوي؛ لأنه أجدر بمعرفة حدود الله تعالى، وأحرى بإصابة الحق.
والبصير على الأعمى؛ لأنه أقدر على توقي النجاسات، واستقبال القبلة بعلم نفسه.
وقال القاضي: هما سواء؛ لأن الضرير لا يرى ما يلهيه ويشغله، فذلك يقابل البصر فيستويان، والأولى لإمام الحي إذا عجز عن القيام أن يستنيب، لئلا يلزمهم ترك ركن، فإن استووا أقرع بينهم؛ لأن سعدًا أقرع بين أهل القادسية في الأذان، ولا يرجح بحسن الوجه؛ لأنه لا مدخل له في الإمامة.
فصل:
الثالث: أنه يكره إمامة اللحان؛ لأنه نقص يذهب ببعض من الثواب، وإمامة من لا يفصح ببعض الحروف، كالضاد والقاف، وإمامة التمتام، وهو من يكرر التاء والفأفاء، فالذي يكرر الفاء؛ لأنهما يزيدان في الحروف، وتصح الصلاة خلفهما؛ لأنهما يأتيان بالحروف على الكمال، فإن كان يجعل الضاد ظاء في الفاتحة، فقياس المذهب أنه كالأمي؛ لأنه يبدل حرفًا بغيره، ويحيل المعنى، فإنه يقال: ظل يفعل كذا، إذا فعله نهارًا.
ويكره أن يؤم قومًا أكثرهم له كارهون؛ لما روى أبو أمامة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون» وهذا الحديث حسن.
فإن كانوا يكرهونه لسنته أو دينه فلا يكره، قال منصور: قيل لنا: إنما عنى بهذا أئمة الظلم، فأما من أقام بالسنة، فإنما الإثم على من كرهه.
ويكره أن يؤم نساء أجانب لا رجل معهن، ويكره أن يتقدم المفضول من هو أولى منه؛ لأنه جاء في الحديث: «إذا أم الرجل القوم وفيهم من هو خير منه لم يزالوا في سفال» احتج به أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب موقف الإمام والمأموم في الصلاة]
[باب موقف الإمام والمأموم في الصلاة]
باب موقف الصلاة إذا كان المأموم واحدًا، وقف عن يمين الإمام، فإن كبر عن يساره أداره الإمام عن يمينه، فإن جاء آخر كبر وتأخر فصفا خلفه، ولا يتقدم الإمام إلا إن كان الموضع ضيقًا، فإن كبر الثاني عن يساره أخرهما الإمام بيديه؛ لما «روى جابر قال: سرت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة، فقام يصلي فتوضأت، ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخذ بيدي، فأدارني حتى أقامني عن يمينه، فجاء جبار بن صخر حتى قام عن يساره، فأخذنا بيديه جميعًا حتى أقامنا خلفه» من المسند. وإن صليا عن يمينه، أو أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره جاز؛ لما روي: «أن ابن مسعود صلى بين علقمة والأسود، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل» رواه أبو داود. ولأن الوسط موقف لإمام العراة وإمامة النساء.
فإن كان معهم امرأة قامت خلفهم؛ لما «روى أنس قال: قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصففت أنا واليتيم وراءه والمرأة خلفنا، فصلى بنا ركعتين» متفق عليه. فإن اجتمع رجال وصبيان وخناثى ونساء، تقدم الرجال ثم الصبيان ثم الخناثى ثم النساء؛ لما «روى أبو مالك الأشعري أنه قال: ألا أحدثكم بصلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: أقام الصلاة، فصف الرجال، ثم صف خلفهم الغلمان، ثم صلى بهم، ثم قال: هكذا قال عبد الأعلى، لا أحسبه إلا قال: صلاة أمتي» رواه أبو داود.
فإن لم يكن مع الرجال إلا امرأة، وقفت خلفه، فإن كان معه صبي وقف عن يمينه، لما «روى ابن عباس قال: بت عند خالتي ميمونة، فقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي من الليل، فقمت فوقفت عن يساره، فأخذ بذؤابتي فأدارني عن يمينه» متفق عليه.
فإن كان معه رجل وصبي في فرض وقف بينهما، كما في حديث ابن مسعود،
وجعل الرجل عن يمينه، أو جعلهما عن يمينه، وإن كان في نافلة وقفا خلفه على ما في حديث أنس.
فصل:
فإن وقف المأموم قدام الإمام لم تصح صلاتهم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به» .
وإن وقف الواحد خلف الصف، أو خلف الإمام أو عن يساره لم تصح صلاته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدار ابن عباس وجابرا لما وقفا عن يساره، «وروى وابصة بن معبد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلًا يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد» رواه أبو داود. «وعن علي بن شيبان قال: صلى بهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فانصرف ورجل فرد خلف الصف، فوقف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى انصرف الرجل، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: استقبل صلاتك، فلا صلاة لفرد خلف الصف» رواه الأثرم. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيه وفي حديث وابصة: هذا حديث حسن.
ولأنه خالف الموقف فلم تصح صلاته، كما لو وقف قدام الإمام، فإن صلى ركعة واحدة لم تصح صلاته، وإن جاء آخر فوقف معه أو دخل في الصف قبل رفع الإمام من الركوع صحت صلاته؛ لأنه أدرك في الصف ما يدرك به الركعة، وإن كان ذلك بعد رفع الإمام ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: يصح؛ لأنه لم يصل ركعة واحدة، أشبه ما لو أدرك الركوع.
والثانية: لا يصح؛ لأنه لم يدرك في الصف ما يدرك به الركعة، أشبه من صلى ركعة.
والثالثة: إن كان جاهلًا لم يعد، وإن كان عالمًا أعاد؛ لما روى البخاري «أن أبا بكرة انتهى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو راكع فركع قبل أن يصله، فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: زادك الله حرصًا ولا تعد» فلم يأمره بالإعادة لجهله، ونهاه عن العود، والنهي يقضي الفساد، فإن ذلك لغير عذر، ولا خشي الفوات، فحكمه حكم من خاف الفوات؛ لأن الموقف لا يختلف لخيفة الفوات وعدمه، ويحتمل أن لا يصح؛ لأن الرخصة وردت في حق المعذور، فلا يلحق به غيره.
فصل:
ومن وقف معه كافر أو امرأة أو خنثى مشكل أو من صلاته فاسدة، فحكمه حكم
الفذ؛ لأنهم من غير أهل الوقوف معه، وإن وقف معه فاسق أو أمي أو متنفل كانوا معه صفًا: لأنهم من أهل الوقوف معه، وإن وقف الصبي معه في النفل كانا صفًا لحديث أنس، وإن كان في فرض احتمل أن يكون معه صفًا؛ لأنه كالمتنفل، واحتمل أن لا يصح؛ لأنه ليس من أهل الإمامة له فيه أشبه المرأة.
وإن وقف معه محدث أو نجس يعلمان بذلك فهو كالفذ، وإن لم يعلما بذلك صحت صلاته؛ لأنه لو كان إمامًا له صحت صلاته.
وإن وقفت المرأة في صف الرجال كره، ولم تبطل صلاتها ولا صلاة من يليها، وقال أبو بكر: تبطل صلاة من يليها؛ لأنه خالف الموقف، والأول أولى؛ لأنها هي التي خالفت بوقوفها مع الرجال، فلم تبطل صلاتها، فصلاته أولى.
فإن وقف اثنان خلف الصف، فخرج أحدهما لعذر دخل الآخر في الصف، أو وقف عن يمين الإمام أو نبه من يخرج فيقف معه، فإن لم يمكنه نوى مفارقته، وأتم منفردًا؛ لأنه عذر أشبه ما لو سبق إمامه الحدث.
فإن دخل المسبوق فوجد فرجة قام فيها، فإن لم يمكنه قام عن يمين الإمام، فإن لم يمكنه نبه رجلًا يتأخر معه، فإن لم يفعل لم يكرهه ويصلي وحده، أو ينتظر جماعة أخرى.
فصل:
السنة للمرأة إذا أمت نساء، أن تقوم وسطهن؛ لأن ذلك يروى عن عائشة وأم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وإن كانت معهما امرأة وقفت عن يمينها، وإن وقفت خلفها جاز؛ لأن المرأة يجوز وقوفها وحدها؛ بدليل حديث أنس.
فصل:
والسنة أن يقف الإمام حذاء وسط الصف؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وسطوا الإمام وسدوا الخلل» رواه أبو داود. وأن يتموا الصف الأول؛ لما روى أنس: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أتموا الصف الأول، فما كان من نقص، فليكن في الصف الآخر» رواه أبو داود.
وخير صفوف الرجال أولها، وخير صفوف النساء آخرها؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها» رواه مسلم. قال أحمد: ويلي الإمام الشيوخ وأهل القرآن، ويؤخر الصبيان والغلمان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليلني منكم أولو الأحلام والنهى» رواه مسلم.
فصل:
والسنة أن لا يكون الإمام أعلى من المأمومين، لما «روي أن عمار بن ياسر كان بالمدائن، فأقيمت الصلاة، فتقدم عمار فقام على دكان والناس أسفل منه، فتقدم حذيفة فأخذ بيده، واتبعه عمار حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ من صلاته، قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقول: إذا أم الرجل القوم فلا يقومن في مكان أرفع من مقامهم وقال عمار: فلذلك اتبعتك حين أخذت على يدي» رواه أبو داود. فإن فعل فقال ابن حامد: تبطل صلاته لارتكابه النهي، وقال القاضي: لا تبطل؛ لأن عمارًا بنى على صلاته، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا بأس بهذا؛ لما «روى سهل قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام على المنبر، فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر، ثم ركع ثم رفع، فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم قال: أيها الناس، إنما فعلت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي» متفق عليه. ولا بأس بالعلو اليسير؛ لأنه لا يحتاج فيه إلى رفع البصر المنهي عنه فيه، بخلاف الكثير، ولا بأس أن يكون المأموم أعلى من الإمام لذلك، ويصح أن يأتم به من في أعلى المسجد وغيره، إذا اتصلت الصفوف.
فصل:
يجوز أن يأتم بالإمام من في المسجد، وإن تباعد؛ لأن المسجد كله موضع للجماعة، فإن كان بينهما حائل يمنع المشاهدة، وسماع التكبير لم يصح الائتمام به، لتعذر اتباعه، وإن منع المشاهدة دون السماع؛ ففيه وجهان:
أصحها صحة الصلاة؛ لأن أحمد قال في المنبر: إذا قطع الصف لم يضر، ولأنهم في موضع الجماعة، ويمكنهم الاقتداء به لسماع التكبير، فأشبه المشاهد.
والثاني: لا يصح؛ لأن عائشة قالت لنساء كن يصلين في حجرتها: لا تصلين بصلاة الإمام، فإنكن دونه في حجاب، والحجاب موجود هاهنا، فإن كان المأموم في غير المسجد، وبينهما حائل يمنع رؤية الإمام، أو من وراءه لم تصح الصلاة؛ لحديث عائشة، وقال ابن حامد: يمنع في الفرض، وفي النافلة روايتان.
وعن أحمد في رجل يصلي خارج المسجد يوم الجمعة، وأبوابه مغلقة أرجو أن لا يكون به بأس، ويشترط اتصال الصفوف، وهو أن لا يكون بينهما بعد كثير لم تجر العادة بمثله، واشترط أصحابنا أن لا يكون بينهما نهر تجري فيه السفن، ولا طريق، والصحيح أن هذا لا يمنع؛ لأنه لا يمنع المتابعة، إلا أن يكون عريضًا يمنع الاتصال.
فصل:
ويستحب أن يصلي إلى سترة ويدنو منها؛ لما روى أبو سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها» رواه الأثرم. «قال سهل: كان بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين القبلة ممر الشاة» رواه البخاري ومسلم.
وقدر السترة مثل آخرة الرحل، وقد قدر الذراع أو عظم الذراع؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل، ولا يبال ما مر وراء ذلك» رواه مسلم.
ويجوز أن يستتر بعصًا أو حيوان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان تركز له الحربة، فيصلي إليها، ويعرض البعير فيصلي إليه، وقال نافع: كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلًا إلى سارية، قال: ولني ظهرك، فإن لم يجد سترة خط خطًا؛ لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئًا، فإن لم يجد فلينصب عصًا، فإن لم يكن معه عصًا فليخط خطًا، ثم لا يضره ما مر أمامه» رواه أبو داود. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الخط عرضًا مثل الهلال، وقد قالوا طولًا، وقالوا عرضًا.
قال الشيخ: وأنا أختار هذا، فإن لم يمكنه نصب العصا ولا الخط، عرضها بين يديه؛ لأنها تقوم مقام الخط، ولا يصمد للسترة، لكن ينحرف عنها يسيرًا؛ «لقول المقداد: ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن، ولا يصمد له صمدًا» رواه أبو داود.
وسترة الإمام سترة لمن خلفه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي بأصحابه إلى سترة، ولم يأمرهم أن يستتروا بشيء.
فصل:
وإذا مر من وراء سترته بشيء، فلا بأس، للحديث، فإن أراد المرور دونها رده، فإن لح دفعه، إلا أن يغلبه أن يحوجه إلى عمل كثير، لما روى أبو سعيد قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا كان أحدكم يصلي إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو الشيطان» متفق عليه. فإن مر بين يديه لم يرده من حيث جاء؛ لأنه مرور ثان، وإن صلى إلى غير سترة فمر من بين يديه شيء فحكمه حكم ما مر بينه وبين السترة للحديث، ويتقيد ذلك بالقريب منه، الذي لو مشى إليه فدفعه لم تفسد صلاته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بدفع المار، فتقيد به، بدلالة الإجماع بما لا يفسد الصلاة، فكذلك هذا.
باب موقف الصلاة إذا كان المأموم واحدًا، وقف عن يمين الإمام، فإن كبر عن يساره أداره الإمام عن يمينه، فإن جاء آخر كبر وتأخر فصفا خلفه، ولا يتقدم الإمام إلا إن كان الموضع ضيقًا، فإن كبر الثاني عن يساره أخرهما الإمام بيديه؛ لما «روى جابر قال: سرت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة، فقام يصلي فتوضأت، ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخذ بيدي، فأدارني حتى أقامني عن يمينه، فجاء جبار بن صخر حتى قام عن يساره، فأخذنا بيديه جميعًا حتى أقامنا خلفه» من المسند. وإن صليا عن يمينه، أو أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره جاز؛ لما روي: «أن ابن مسعود صلى بين علقمة والأسود، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل» رواه أبو داود. ولأن الوسط موقف لإمام العراة وإمامة النساء.
فإن كان معهم امرأة قامت خلفهم؛ لما «روى أنس قال: قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصففت أنا واليتيم وراءه والمرأة خلفنا، فصلى بنا ركعتين» متفق عليه. فإن اجتمع رجال وصبيان وخناثى ونساء، تقدم الرجال ثم الصبيان ثم الخناثى ثم النساء؛ لما «روى أبو مالك الأشعري أنه قال: ألا أحدثكم بصلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: أقام الصلاة، فصف الرجال، ثم صف خلفهم الغلمان، ثم صلى بهم، ثم قال: هكذا قال عبد الأعلى، لا أحسبه إلا قال: صلاة أمتي» رواه أبو داود.
فإن لم يكن مع الرجال إلا امرأة، وقفت خلفه، فإن كان معه صبي وقف عن يمينه، لما «روى ابن عباس قال: بت عند خالتي ميمونة، فقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي من الليل، فقمت فوقفت عن يساره، فأخذ بذؤابتي فأدارني عن يمينه» متفق عليه.
فإن كان معه رجل وصبي في فرض وقف بينهما، كما في حديث ابن مسعود،
وجعل الرجل عن يمينه، أو جعلهما عن يمينه، وإن كان في نافلة وقفا خلفه على ما في حديث أنس.
فصل:
فإن وقف المأموم قدام الإمام لم تصح صلاتهم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به» .
وإن وقف الواحد خلف الصف، أو خلف الإمام أو عن يساره لم تصح صلاته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدار ابن عباس وجابرا لما وقفا عن يساره، «وروى وابصة بن معبد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلًا يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد» رواه أبو داود. «وعن علي بن شيبان قال: صلى بهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فانصرف ورجل فرد خلف الصف، فوقف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى انصرف الرجل، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: استقبل صلاتك، فلا صلاة لفرد خلف الصف» رواه الأثرم. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيه وفي حديث وابصة: هذا حديث حسن.
ولأنه خالف الموقف فلم تصح صلاته، كما لو وقف قدام الإمام، فإن صلى ركعة واحدة لم تصح صلاته، وإن جاء آخر فوقف معه أو دخل في الصف قبل رفع الإمام من الركوع صحت صلاته؛ لأنه أدرك في الصف ما يدرك به الركعة، وإن كان ذلك بعد رفع الإمام ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: يصح؛ لأنه لم يصل ركعة واحدة، أشبه ما لو أدرك الركوع.
والثانية: لا يصح؛ لأنه لم يدرك في الصف ما يدرك به الركعة، أشبه من صلى ركعة.
والثالثة: إن كان جاهلًا لم يعد، وإن كان عالمًا أعاد؛ لما روى البخاري «أن أبا بكرة انتهى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو راكع فركع قبل أن يصله، فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: زادك الله حرصًا ولا تعد» فلم يأمره بالإعادة لجهله، ونهاه عن العود، والنهي يقضي الفساد، فإن ذلك لغير عذر، ولا خشي الفوات، فحكمه حكم من خاف الفوات؛ لأن الموقف لا يختلف لخيفة الفوات وعدمه، ويحتمل أن لا يصح؛ لأن الرخصة وردت في حق المعذور، فلا يلحق به غيره.
فصل:
ومن وقف معه كافر أو امرأة أو خنثى مشكل أو من صلاته فاسدة، فحكمه حكم
الفذ؛ لأنهم من غير أهل الوقوف معه، وإن وقف معه فاسق أو أمي أو متنفل كانوا معه صفًا: لأنهم من أهل الوقوف معه، وإن وقف الصبي معه في النفل كانا صفًا لحديث أنس، وإن كان في فرض احتمل أن يكون معه صفًا؛ لأنه كالمتنفل، واحتمل أن لا يصح؛ لأنه ليس من أهل الإمامة له فيه أشبه المرأة.
وإن وقف معه محدث أو نجس يعلمان بذلك فهو كالفذ، وإن لم يعلما بذلك صحت صلاته؛ لأنه لو كان إمامًا له صحت صلاته.
وإن وقفت المرأة في صف الرجال كره، ولم تبطل صلاتها ولا صلاة من يليها، وقال أبو بكر: تبطل صلاة من يليها؛ لأنه خالف الموقف، والأول أولى؛ لأنها هي التي خالفت بوقوفها مع الرجال، فلم تبطل صلاتها، فصلاته أولى.
فإن وقف اثنان خلف الصف، فخرج أحدهما لعذر دخل الآخر في الصف، أو وقف عن يمين الإمام أو نبه من يخرج فيقف معه، فإن لم يمكنه نوى مفارقته، وأتم منفردًا؛ لأنه عذر أشبه ما لو سبق إمامه الحدث.
فإن دخل المسبوق فوجد فرجة قام فيها، فإن لم يمكنه قام عن يمين الإمام، فإن لم يمكنه نبه رجلًا يتأخر معه، فإن لم يفعل لم يكرهه ويصلي وحده، أو ينتظر جماعة أخرى.
فصل:
السنة للمرأة إذا أمت نساء، أن تقوم وسطهن؛ لأن ذلك يروى عن عائشة وأم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وإن كانت معهما امرأة وقفت عن يمينها، وإن وقفت خلفها جاز؛ لأن المرأة يجوز وقوفها وحدها؛ بدليل حديث أنس.
فصل:
والسنة أن يقف الإمام حذاء وسط الصف؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وسطوا الإمام وسدوا الخلل» رواه أبو داود. وأن يتموا الصف الأول؛ لما روى أنس: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أتموا الصف الأول، فما كان من نقص، فليكن في الصف الآخر» رواه أبو داود.
وخير صفوف الرجال أولها، وخير صفوف النساء آخرها؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها» رواه مسلم. قال أحمد: ويلي الإمام الشيوخ وأهل القرآن، ويؤخر الصبيان والغلمان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليلني منكم أولو الأحلام والنهى» رواه مسلم.
فصل:
والسنة أن لا يكون الإمام أعلى من المأمومين، لما «روي أن عمار بن ياسر كان بالمدائن، فأقيمت الصلاة، فتقدم عمار فقام على دكان والناس أسفل منه، فتقدم حذيفة فأخذ بيده، واتبعه عمار حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ من صلاته، قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقول: إذا أم الرجل القوم فلا يقومن في مكان أرفع من مقامهم وقال عمار: فلذلك اتبعتك حين أخذت على يدي» رواه أبو داود. فإن فعل فقال ابن حامد: تبطل صلاته لارتكابه النهي، وقال القاضي: لا تبطل؛ لأن عمارًا بنى على صلاته، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا بأس بهذا؛ لما «روى سهل قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام على المنبر، فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر، ثم ركع ثم رفع، فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم قال: أيها الناس، إنما فعلت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي» متفق عليه. ولا بأس بالعلو اليسير؛ لأنه لا يحتاج فيه إلى رفع البصر المنهي عنه فيه، بخلاف الكثير، ولا بأس أن يكون المأموم أعلى من الإمام لذلك، ويصح أن يأتم به من في أعلى المسجد وغيره، إذا اتصلت الصفوف.
فصل:
يجوز أن يأتم بالإمام من في المسجد، وإن تباعد؛ لأن المسجد كله موضع للجماعة، فإن كان بينهما حائل يمنع المشاهدة، وسماع التكبير لم يصح الائتمام به، لتعذر اتباعه، وإن منع المشاهدة دون السماع؛ ففيه وجهان:
أصحها صحة الصلاة؛ لأن أحمد قال في المنبر: إذا قطع الصف لم يضر، ولأنهم في موضع الجماعة، ويمكنهم الاقتداء به لسماع التكبير، فأشبه المشاهد.
والثاني: لا يصح؛ لأن عائشة قالت لنساء كن يصلين في حجرتها: لا تصلين بصلاة الإمام، فإنكن دونه في حجاب، والحجاب موجود هاهنا، فإن كان المأموم في غير المسجد، وبينهما حائل يمنع رؤية الإمام، أو من وراءه لم تصح الصلاة؛ لحديث عائشة، وقال ابن حامد: يمنع في الفرض، وفي النافلة روايتان.
وعن أحمد في رجل يصلي خارج المسجد يوم الجمعة، وأبوابه مغلقة أرجو أن لا يكون به بأس، ويشترط اتصال الصفوف، وهو أن لا يكون بينهما بعد كثير لم تجر العادة بمثله، واشترط أصحابنا أن لا يكون بينهما نهر تجري فيه السفن، ولا طريق، والصحيح أن هذا لا يمنع؛ لأنه لا يمنع المتابعة، إلا أن يكون عريضًا يمنع الاتصال.
فصل:
ويستحب أن يصلي إلى سترة ويدنو منها؛ لما روى أبو سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها» رواه الأثرم. «قال سهل: كان بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين القبلة ممر الشاة» رواه البخاري ومسلم.
وقدر السترة مثل آخرة الرحل، وقد قدر الذراع أو عظم الذراع؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل، ولا يبال ما مر وراء ذلك» رواه مسلم.
ويجوز أن يستتر بعصًا أو حيوان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان تركز له الحربة، فيصلي إليها، ويعرض البعير فيصلي إليه، وقال نافع: كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلًا إلى سارية، قال: ولني ظهرك، فإن لم يجد سترة خط خطًا؛ لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئًا، فإن لم يجد فلينصب عصًا، فإن لم يكن معه عصًا فليخط خطًا، ثم لا يضره ما مر أمامه» رواه أبو داود. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الخط عرضًا مثل الهلال، وقد قالوا طولًا، وقالوا عرضًا.
قال الشيخ: وأنا أختار هذا، فإن لم يمكنه نصب العصا ولا الخط، عرضها بين يديه؛ لأنها تقوم مقام الخط، ولا يصمد للسترة، لكن ينحرف عنها يسيرًا؛ «لقول المقداد: ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن، ولا يصمد له صمدًا» رواه أبو داود.
وسترة الإمام سترة لمن خلفه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي بأصحابه إلى سترة، ولم يأمرهم أن يستتروا بشيء.
فصل:
وإذا مر من وراء سترته بشيء، فلا بأس، للحديث، فإن أراد المرور دونها رده، فإن لح دفعه، إلا أن يغلبه أن يحوجه إلى عمل كثير، لما روى أبو سعيد قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا كان أحدكم يصلي إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو الشيطان» متفق عليه. فإن مر بين يديه لم يرده من حيث جاء؛ لأنه مرور ثان، وإن صلى إلى غير سترة فمر من بين يديه شيء فحكمه حكم ما مر بينه وبين السترة للحديث، ويتقيد ذلك بالقريب منه، الذي لو مشى إليه فدفعه لم تفسد صلاته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بدفع المار، فتقيد به، بدلالة الإجماع بما لا يفسد الصلاة، فكذلك هذا.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[فصل في حكم المرور بين يدي المصلي][باب قصر الصلاة]
[فصل في حكم المرور بين يدي المصلي]
فصل:
ويحرم المرور بين يدي المصلي؛ لما روى أبو جهيم الأنصاري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه» متفق عليه. ولا يقطعها شيء إلا الكلب الأسود البهيم، الذي لا لون فيه سوى السواد، لما «روى أبو ذر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا قام أحدكم يصلي، فإنه يستره مثل آخر الرحل، فإن لم يكن بين يديه، مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود قلت: يا أبا ذر، ما بال الكلب الأسود، من الكلب الأحمر، من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي، سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما سألتني فقال: الكلب الأسود شيطان» رواه مسلم.
وعن أحمد: أن مرور المرأة والحمار يقطع الصلاة للحديث، والمشهور الأول؛ «لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: عدلتمونا بالكلب والحمار، لقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي صلاته في الليل كلها، وأنا معترضة بينه وبين القبلة» متفق عليه. «وقال: الفضل بن عباس: أتانا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن في بادية فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة، وحمارة لنا وكلبة يعبثان بين يديه، فما بالى ذلك» رواه أبو داود. فإن كان الكلب واقفًا بين يديه ففيه وجهان:
أحدهما: حكمه حكم المار؛ لأنه حصل بين يديه أشبه المار.
والثاني: لا تفسد صلاته؛ لأن حكم الواقف يخالف حكم المار؛ بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي إلى البعير، ويصلي وعائشة في قبلته، ولا يرى ذلك كالمرور، ومن غصب سترة فاستتر بها، فهل يمنع ما مر وراءها، فيه وجهان بناء على الصلاة في الثوب المغصوب.
فصل:
ولا حاجة في مكة إلى سترة، ولا يضره ما مر بين يديه؛ «لأن المطلب قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي حيال الحجر والناس يمرون بين يديه» رواه الخلال. وكان ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يصلي والطواف بينه وبين القبلة تمر المرأة بين يديه فينتظرها حتى تمر، ثم يضع جبهته في موضع قدمها.
[باب قصر الصلاة]
ولا يجوز قصر الصبح والمغرب بالإجماع؛ لأن قصر الصبح يجحف بها لقلتها، وقصر المغرب يخرجها عن كونها وترًا، ويجوز قصر الرباعية فيصليها ركعتين بشروط ستة:
أحدها: أن تكون في سفر طويل قدره أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخًا، ثمانية وأربعون ميلًا بالهاشمي، وذلك نحو من يومين قاصدين؛ لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: يا أهل مكة، لا تقصروا في أدنى من أربعة برد، ما بين عسفان إلى مكة، وكان ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وابن عمر لا يقصران في أقل من أربعة برد، ولأنها مسافة تجمع مشقة السفر من الحل والشدة، فجاز القصر فيها كمسيرة ثلاثة أيام.
وسواء كان في بر أو بحر؛ لأن الاعتبار بالفراسخ، وإن شك في قدر السفر لم يبح القصر؛ لأن الأصل الإتمام، فلا يزول بالشك والاعتبار بالنية دون حقيقة السفر، فلو نوى سفرًا طويلًا، فقصر ثم بدأ له فأقام أو رجع، كانت صلاته صحيحة، ولو خرج طالبًا لآبق أو منتجعًا غيثًا، متى وجده رجع أو أقام لم يقصر، ولو سافر شهرًا.
ولو خرج مكرهًا كالأسير يقصد به بلدًا بعينه فله القصر؛ لأنه تابع لمن يقصد مسافة القصر، فإذا وصل حصنهم أتم حينئذ، نص عليه، وإن كان للبلد طريقان طويلة وقصيرة، فسلك البعيدة ليقصر فله ذلك؛ لأنه سفر يقصر في مثله، فجاز له القصر، كما لو لم يكن له طريق سواه.
فصل:
والثاني: أن يكون السفر مباحًا، فإن سافر لمعصية كالآبق، وقطع الطريق والتجارة في خمر لم يقصر، ولم يترخص بشيء من رخص السفر؛ لأنه لا يجوز تعليق الرخص بالمعاصي، لما فيه من الإعانة عليها والدعاية إليها، ولا يرد الشرع بذلك.
فصل:
والثالث: شروعه بالسفر بخروجه من بيوت قريته؛ لأن الله تعالى قال: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] ، ولا يكون ضاربًا
في الأرض حتى يخرج، فله القصر بين حيطان البساتين؛ لأنها ليست من حيطان البلد، ولا تبنى للسكنى.
وإن خرب بعض البلد فصار فضاء فهو كالصحراء، وإن كانت حيطانه قائمة، فقال القاضي: لا يقصر حتى يفارقها؛ لأنه يمكن السكنى فيها، وقال الآمدي: له القصر بينهما؛ لأنها غير معتمدة للسكنى، فهي كالبساتين.
فصل:
الرابع: أن ينوي القصر مع نية الإحرام، وقال أبو بكر: لا يحتاج إلى النية؛ لأن من خير في العبادة قبل الدخول فيها خير بعد الدخول فيها كالصيام، ولنا أن الأصل الإتمام، فإطلاق النية ينصرف إليه، كما لو نوى الصلاة مطلقًا انصرف إلى الانفراد الذي هو الأصل، فإن شك نية القصر لزمه الإتمام؛ لأنه الأصل، فلو نوى الإتمام في ابتداء الصلاة، أو في أثنائها، أو ما يلزمه الإتمام كالإقامة، أو قلب نيته إلى سفر قريب أو معصية؛ لزمه إتمام الصلاة، ولزم من خلفه متابعته؛ لأن نية الأربع أو ما قد يوجبها قد وجد، فلزمته الأربع كما لو نوى في الابتداء، ومن قصر معتقدًا تحريم القصر فصلاته فاسدة؛ لأنه فعل ما يعتقد تحريمه.
فصل:
الخامس: ألا تكون الصلاة وجبت في الحضر، فلو ترك صلاة حضر فقضاها في السفر لم يجز له قصرها؛ لأنه تعين فعلها أربعًا، فلم يجز النقصان فيها، كما لو نوى أربع ركعات، ولأن القضاء معتبر بالأداء، والأداء أربع، ومن سافر بعد دخول وقت صلاة، لم يقصرها لذلك، وحكي عنه أن له قصرها؛ لأنها صلاة مؤداة في السفر، فأشبه ما لو دخل وقتها فيه.
ولو أحرم بها في سفينة في الحضر، فخرجت به في أثناء الصلاة، أو أحرم بها في
السفر، فدخلت البلد في أثناء الصلاة، لم يقصر؛ لأنها عبادة تختلف بالسفر والحضر، ووجد أحد طرفيها في الحضر، فغلب حكمه كالمسح.
وإن نسي صلاة سفر، فذكرها في الحضر، أتمها لذلك، وإن ذكرها في السفر أو في سفر آخر قصرها؛ لأن وجوبها وفعلها وجدا في السفر، فكان له قصرها كما لو أداها، ويتخرج أن يلزمه إتمامها إذا ذكرها في سفر آخر؛ لأن الوجوب كان ثابتًا في ذمته في الحضر.
فصل:
السادس: أن لا يأتم بمقيم، فإن ائتم بمقيم لزمه الإتمام، سواء ائتم به في الصلاة كلها أو جزء منها؛ لأن «ابن عباس سئل: ما بال المسافر يصلي ركعتين حال الانفراد وأربعًا إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة» رواه الإمام أحمد. وهذا ينصرف إلى سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأنها صلاة مردودة من أربع، فلا يصليها خلف من يصلي الأربع كالجمعة، ولو أدرك المسافر من الجمعة أقل من ركعة لزمه إتمامها أربعًا، لائتمامه بالمقيم، ومن ائتم بالمقيم ففسدت صلاته، لم يجز له قصرها بعد ذلك؛ لأنها تعينت عليه تامة لائتمامه بمقيم.
ومن أحرم مع من يظنه مقيمًا أو يشك فيه، لزمه الإتمام، وإن قصر إمامه اعتبارًا بالنية، وإن غلب على ظنه أنه مسافر لدليل، فله أن ينوي القصر، ويتبع إمامه، فيقصر بقصره، ويتم بإتمامه، وإن أحدث إمامه قبل علمه بحاله، فله القصر؛ لأن الظاهر أنه مسافر.
وإن أم المسافر مقيمًا لزم المقيم الإتمام، ويستحب للإمام أن يقول لهم: أتموا فإنا قوم سفر، لما «روى عمران بن حصين قال: شهدت الفتح مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان لا يصلي إلا ركعتين، ثم يقول لأهل البلد: صلوا أربعًا فإنا سفر» رواه أبو داود.
وإن أتم الإمام بهم صحت الصلاة.
وعنه: تفسد صلاة المقيمين؛ لأنهم ائتموا بمتنفل في الركعتين الأخيرتين، والأول المذهب؛ لأن الإتمام يلزمه بنيته.
وإن نسي المسافر فقام إلى ثالثة فله أن يجلس، ولا يلزمه الإتمام؛ لأن الموجب للإتمام نيته، أو ائتمامه بمقيم ولم يوجد، فإن جلس سجد للسهو، وله أن يتم.
فإن لم يعلم المأمومون هل سها أو نوى الإتمام؟ لزمته متابعته؛ لأن حكم وجوب المتابعة ثابت، فلا يزول بالشك، فإذا اتبعوه فصلاتهم صحيحة لما ذكرناه، وإن علموا أن قيامه لسهو فلهم مفارقته، فإن تابعوه، فقال القاضي: تفسد صلاتهم؛ لأنهم زادوا في الصلاة عمدًا، والصحيح أنها لا تفسد؛ لأنها زيادة لا تفسد بها صلاة الإمام عمدًا، فلا تفسد بها صلاة المأموم، كزيادات الأقوال، وإذا صلى بهم الأربع سهوًا سجد للسهو، وليس بواجب عليه؛ لأنها زيادة لا يبطل عمدها، فلا يجب لها السجود كقراءة السورة في الثالثة.
فصل:
وللمسافر أن يقصر، وله أن يتم؛ لقول الله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] فمفهومه أن القصر رخصة يجوز تركها، «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: خرجت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عمرة رمضان، فأفطر وصمت، وقصر وأتممت، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أفطرت وصمت، وقصرت وأتممت، فقال: أحسنت» رواه أبو داود الطيالسي.
ولأنه تخفيف أبيح للسفر، فجاز تركه كالمسح ثلاثًا، والقصر أفضل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه داوموا عليه، وعابوا من تركه. «قال عبد الرحمن بن يزيد: صلى عثمان أربعًا، فقال عبد الله: صليت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين، ثم تفرقت بكم الطرق، ولوددت أن حظي من أربع، ركعتان متقبلتان» متفق عليه. وأتى ابن عباس رجل فقال: إني
كنت مع صاحب لي في السفر، فكنت أتم وصاحبي يقصر، فقال: بل أنت الذي كنت تقصر وصاحبك يتم.
فصل:
وإذا نوى المسافر الإقامة في بلد أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم، وإن نوى دونها قصر، وعنه: إن نوى الإقامة أربعة أيام أتم؛ لأن الثلاث حد القلة بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا» رواه أبو داود. فإذا أقام أربعًا فقد زاد على حد القلة، فيتم، والأول المذهب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام بمكة فصلى بها إحدى وعشرين صلاة يقصر فيها، وذلك أنه قدم لصبح رابعة، فأقام إلى يوم التروية، فصلى الصبح ثم خرج، فمن أقام مثل إقامته قصر، ومن زاد أتم، ذكره الإمام أحمد، «قال أنس: أقمنا بمكة عشرًا نقصر الصلاة» ، ومعناه ما ذكرناه؛ لأنه حسب خروجه إلى منى وعرفة وما بعده من العشرة، وفي هذا الحديث دليل على أن من قصد بلدًا ينوي الرجوع عنه قريبًا فله القصر فيه؛ لكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر بمكة وهي مقصده، وفيه دليل على أن من قصد رستاقًا، يتنقل فيه لا ينوي إقامة في موضع واحد فله القصر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر بمكة ومنى وعرفة عشرًا، ومن كان بمكة مقيمًا فخرج إلى عرفة عازمًا على أنه إذا رجع إلى مكة لا يقيم بها، فله القصر من حين خروجه، ولو خرج المسافر، فذكر حاجة في بلده قصر في رجوعه إليها، فإذا وصل البلد، فإن كان له به أهل أو مال أتم، وإلا قصر فيه أيضًا.
ومتى مر المسافر ببلده له به أهل أو ماشية أتم؛ لأن ذلك يروى عن عثمان وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
فصل:
ومن لم يجمع على إقامة إحدى وعشرين صلاة قصر، وإن أقام دهرًا، مثل من يقيم لحاجة يرجو إنجازها، أو جهاد أو حبس سلطان أو عدو أو مرض، سواء غلب
على ظنه كثرة ذلك أو قلته؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام في بعض أسفاره تسع عشرة يقصر الصلاة» رواه البخاري. «وأقام بتبوك عشرين يومًا يقصر» رواه الإمام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وأقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين، وقد حال الثلج بينه وبين الدخول، وإن قال: إن لقيت فلانًا أقمت، وإلا لم أقم، لم يبطل حكم سفره؛ لأنه لم يعزم على الإقامة.
فصل:
والملاح الذي أهله معه في السفينة، وحاجة بيته ولا بيت له غيرها، وليس له نية المقام ببلد لا يقصر، نص عليه؛ لأنه غير ظاعن عن بلده ومنزله، فأشبه المقيم ببلد، قال القاضي: والمكاري، والفيج مثل في ذلك، والأولى إباحة القصر لهما، لدخولهما في النصوص المبيحة، وامتناع قياسها على الملاح؛ لأنه لا يمكنهما استصحاب الأهل، ومصالح المنزل في السفر، وزيادة المشقة عليه في سفره بحمل أهله معه بخلاف الملاح.
فصل:
ويحرم المرور بين يدي المصلي؛ لما روى أبو جهيم الأنصاري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه» متفق عليه. ولا يقطعها شيء إلا الكلب الأسود البهيم، الذي لا لون فيه سوى السواد، لما «روى أبو ذر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا قام أحدكم يصلي، فإنه يستره مثل آخر الرحل، فإن لم يكن بين يديه، مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود قلت: يا أبا ذر، ما بال الكلب الأسود، من الكلب الأحمر، من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي، سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما سألتني فقال: الكلب الأسود شيطان» رواه مسلم.
وعن أحمد: أن مرور المرأة والحمار يقطع الصلاة للحديث، والمشهور الأول؛ «لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: عدلتمونا بالكلب والحمار، لقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي صلاته في الليل كلها، وأنا معترضة بينه وبين القبلة» متفق عليه. «وقال: الفضل بن عباس: أتانا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن في بادية فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة، وحمارة لنا وكلبة يعبثان بين يديه، فما بالى ذلك» رواه أبو داود. فإن كان الكلب واقفًا بين يديه ففيه وجهان:
أحدهما: حكمه حكم المار؛ لأنه حصل بين يديه أشبه المار.
والثاني: لا تفسد صلاته؛ لأن حكم الواقف يخالف حكم المار؛ بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي إلى البعير، ويصلي وعائشة في قبلته، ولا يرى ذلك كالمرور، ومن غصب سترة فاستتر بها، فهل يمنع ما مر وراءها، فيه وجهان بناء على الصلاة في الثوب المغصوب.
فصل:
ولا حاجة في مكة إلى سترة، ولا يضره ما مر بين يديه؛ «لأن المطلب قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي حيال الحجر والناس يمرون بين يديه» رواه الخلال. وكان ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يصلي والطواف بينه وبين القبلة تمر المرأة بين يديه فينتظرها حتى تمر، ثم يضع جبهته في موضع قدمها.
[باب قصر الصلاة]
ولا يجوز قصر الصبح والمغرب بالإجماع؛ لأن قصر الصبح يجحف بها لقلتها، وقصر المغرب يخرجها عن كونها وترًا، ويجوز قصر الرباعية فيصليها ركعتين بشروط ستة:
أحدها: أن تكون في سفر طويل قدره أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخًا، ثمانية وأربعون ميلًا بالهاشمي، وذلك نحو من يومين قاصدين؛ لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: يا أهل مكة، لا تقصروا في أدنى من أربعة برد، ما بين عسفان إلى مكة، وكان ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وابن عمر لا يقصران في أقل من أربعة برد، ولأنها مسافة تجمع مشقة السفر من الحل والشدة، فجاز القصر فيها كمسيرة ثلاثة أيام.
وسواء كان في بر أو بحر؛ لأن الاعتبار بالفراسخ، وإن شك في قدر السفر لم يبح القصر؛ لأن الأصل الإتمام، فلا يزول بالشك والاعتبار بالنية دون حقيقة السفر، فلو نوى سفرًا طويلًا، فقصر ثم بدأ له فأقام أو رجع، كانت صلاته صحيحة، ولو خرج طالبًا لآبق أو منتجعًا غيثًا، متى وجده رجع أو أقام لم يقصر، ولو سافر شهرًا.
ولو خرج مكرهًا كالأسير يقصد به بلدًا بعينه فله القصر؛ لأنه تابع لمن يقصد مسافة القصر، فإذا وصل حصنهم أتم حينئذ، نص عليه، وإن كان للبلد طريقان طويلة وقصيرة، فسلك البعيدة ليقصر فله ذلك؛ لأنه سفر يقصر في مثله، فجاز له القصر، كما لو لم يكن له طريق سواه.
فصل:
والثاني: أن يكون السفر مباحًا، فإن سافر لمعصية كالآبق، وقطع الطريق والتجارة في خمر لم يقصر، ولم يترخص بشيء من رخص السفر؛ لأنه لا يجوز تعليق الرخص بالمعاصي، لما فيه من الإعانة عليها والدعاية إليها، ولا يرد الشرع بذلك.
فصل:
والثالث: شروعه بالسفر بخروجه من بيوت قريته؛ لأن الله تعالى قال: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] ، ولا يكون ضاربًا
في الأرض حتى يخرج، فله القصر بين حيطان البساتين؛ لأنها ليست من حيطان البلد، ولا تبنى للسكنى.
وإن خرب بعض البلد فصار فضاء فهو كالصحراء، وإن كانت حيطانه قائمة، فقال القاضي: لا يقصر حتى يفارقها؛ لأنه يمكن السكنى فيها، وقال الآمدي: له القصر بينهما؛ لأنها غير معتمدة للسكنى، فهي كالبساتين.
فصل:
الرابع: أن ينوي القصر مع نية الإحرام، وقال أبو بكر: لا يحتاج إلى النية؛ لأن من خير في العبادة قبل الدخول فيها خير بعد الدخول فيها كالصيام، ولنا أن الأصل الإتمام، فإطلاق النية ينصرف إليه، كما لو نوى الصلاة مطلقًا انصرف إلى الانفراد الذي هو الأصل، فإن شك نية القصر لزمه الإتمام؛ لأنه الأصل، فلو نوى الإتمام في ابتداء الصلاة، أو في أثنائها، أو ما يلزمه الإتمام كالإقامة، أو قلب نيته إلى سفر قريب أو معصية؛ لزمه إتمام الصلاة، ولزم من خلفه متابعته؛ لأن نية الأربع أو ما قد يوجبها قد وجد، فلزمته الأربع كما لو نوى في الابتداء، ومن قصر معتقدًا تحريم القصر فصلاته فاسدة؛ لأنه فعل ما يعتقد تحريمه.
فصل:
الخامس: ألا تكون الصلاة وجبت في الحضر، فلو ترك صلاة حضر فقضاها في السفر لم يجز له قصرها؛ لأنه تعين فعلها أربعًا، فلم يجز النقصان فيها، كما لو نوى أربع ركعات، ولأن القضاء معتبر بالأداء، والأداء أربع، ومن سافر بعد دخول وقت صلاة، لم يقصرها لذلك، وحكي عنه أن له قصرها؛ لأنها صلاة مؤداة في السفر، فأشبه ما لو دخل وقتها فيه.
ولو أحرم بها في سفينة في الحضر، فخرجت به في أثناء الصلاة، أو أحرم بها في
السفر، فدخلت البلد في أثناء الصلاة، لم يقصر؛ لأنها عبادة تختلف بالسفر والحضر، ووجد أحد طرفيها في الحضر، فغلب حكمه كالمسح.
وإن نسي صلاة سفر، فذكرها في الحضر، أتمها لذلك، وإن ذكرها في السفر أو في سفر آخر قصرها؛ لأن وجوبها وفعلها وجدا في السفر، فكان له قصرها كما لو أداها، ويتخرج أن يلزمه إتمامها إذا ذكرها في سفر آخر؛ لأن الوجوب كان ثابتًا في ذمته في الحضر.
فصل:
السادس: أن لا يأتم بمقيم، فإن ائتم بمقيم لزمه الإتمام، سواء ائتم به في الصلاة كلها أو جزء منها؛ لأن «ابن عباس سئل: ما بال المسافر يصلي ركعتين حال الانفراد وأربعًا إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة» رواه الإمام أحمد. وهذا ينصرف إلى سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأنها صلاة مردودة من أربع، فلا يصليها خلف من يصلي الأربع كالجمعة، ولو أدرك المسافر من الجمعة أقل من ركعة لزمه إتمامها أربعًا، لائتمامه بالمقيم، ومن ائتم بالمقيم ففسدت صلاته، لم يجز له قصرها بعد ذلك؛ لأنها تعينت عليه تامة لائتمامه بمقيم.
ومن أحرم مع من يظنه مقيمًا أو يشك فيه، لزمه الإتمام، وإن قصر إمامه اعتبارًا بالنية، وإن غلب على ظنه أنه مسافر لدليل، فله أن ينوي القصر، ويتبع إمامه، فيقصر بقصره، ويتم بإتمامه، وإن أحدث إمامه قبل علمه بحاله، فله القصر؛ لأن الظاهر أنه مسافر.
وإن أم المسافر مقيمًا لزم المقيم الإتمام، ويستحب للإمام أن يقول لهم: أتموا فإنا قوم سفر، لما «روى عمران بن حصين قال: شهدت الفتح مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان لا يصلي إلا ركعتين، ثم يقول لأهل البلد: صلوا أربعًا فإنا سفر» رواه أبو داود.
وإن أتم الإمام بهم صحت الصلاة.
وعنه: تفسد صلاة المقيمين؛ لأنهم ائتموا بمتنفل في الركعتين الأخيرتين، والأول المذهب؛ لأن الإتمام يلزمه بنيته.
وإن نسي المسافر فقام إلى ثالثة فله أن يجلس، ولا يلزمه الإتمام؛ لأن الموجب للإتمام نيته، أو ائتمامه بمقيم ولم يوجد، فإن جلس سجد للسهو، وله أن يتم.
فإن لم يعلم المأمومون هل سها أو نوى الإتمام؟ لزمته متابعته؛ لأن حكم وجوب المتابعة ثابت، فلا يزول بالشك، فإذا اتبعوه فصلاتهم صحيحة لما ذكرناه، وإن علموا أن قيامه لسهو فلهم مفارقته، فإن تابعوه، فقال القاضي: تفسد صلاتهم؛ لأنهم زادوا في الصلاة عمدًا، والصحيح أنها لا تفسد؛ لأنها زيادة لا تفسد بها صلاة الإمام عمدًا، فلا تفسد بها صلاة المأموم، كزيادات الأقوال، وإذا صلى بهم الأربع سهوًا سجد للسهو، وليس بواجب عليه؛ لأنها زيادة لا يبطل عمدها، فلا يجب لها السجود كقراءة السورة في الثالثة.
فصل:
وللمسافر أن يقصر، وله أن يتم؛ لقول الله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] فمفهومه أن القصر رخصة يجوز تركها، «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: خرجت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عمرة رمضان، فأفطر وصمت، وقصر وأتممت، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أفطرت وصمت، وقصرت وأتممت، فقال: أحسنت» رواه أبو داود الطيالسي.
ولأنه تخفيف أبيح للسفر، فجاز تركه كالمسح ثلاثًا، والقصر أفضل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه داوموا عليه، وعابوا من تركه. «قال عبد الرحمن بن يزيد: صلى عثمان أربعًا، فقال عبد الله: صليت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين، ثم تفرقت بكم الطرق، ولوددت أن حظي من أربع، ركعتان متقبلتان» متفق عليه. وأتى ابن عباس رجل فقال: إني
كنت مع صاحب لي في السفر، فكنت أتم وصاحبي يقصر، فقال: بل أنت الذي كنت تقصر وصاحبك يتم.
فصل:
وإذا نوى المسافر الإقامة في بلد أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم، وإن نوى دونها قصر، وعنه: إن نوى الإقامة أربعة أيام أتم؛ لأن الثلاث حد القلة بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا» رواه أبو داود. فإذا أقام أربعًا فقد زاد على حد القلة، فيتم، والأول المذهب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام بمكة فصلى بها إحدى وعشرين صلاة يقصر فيها، وذلك أنه قدم لصبح رابعة، فأقام إلى يوم التروية، فصلى الصبح ثم خرج، فمن أقام مثل إقامته قصر، ومن زاد أتم، ذكره الإمام أحمد، «قال أنس: أقمنا بمكة عشرًا نقصر الصلاة» ، ومعناه ما ذكرناه؛ لأنه حسب خروجه إلى منى وعرفة وما بعده من العشرة، وفي هذا الحديث دليل على أن من قصد بلدًا ينوي الرجوع عنه قريبًا فله القصر فيه؛ لكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر بمكة وهي مقصده، وفيه دليل على أن من قصد رستاقًا، يتنقل فيه لا ينوي إقامة في موضع واحد فله القصر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر بمكة ومنى وعرفة عشرًا، ومن كان بمكة مقيمًا فخرج إلى عرفة عازمًا على أنه إذا رجع إلى مكة لا يقيم بها، فله القصر من حين خروجه، ولو خرج المسافر، فذكر حاجة في بلده قصر في رجوعه إليها، فإذا وصل البلد، فإن كان له به أهل أو مال أتم، وإلا قصر فيه أيضًا.
ومتى مر المسافر ببلده له به أهل أو ماشية أتم؛ لأن ذلك يروى عن عثمان وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
فصل:
ومن لم يجمع على إقامة إحدى وعشرين صلاة قصر، وإن أقام دهرًا، مثل من يقيم لحاجة يرجو إنجازها، أو جهاد أو حبس سلطان أو عدو أو مرض، سواء غلب
على ظنه كثرة ذلك أو قلته؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام في بعض أسفاره تسع عشرة يقصر الصلاة» رواه البخاري. «وأقام بتبوك عشرين يومًا يقصر» رواه الإمام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وأقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين، وقد حال الثلج بينه وبين الدخول، وإن قال: إن لقيت فلانًا أقمت، وإلا لم أقم، لم يبطل حكم سفره؛ لأنه لم يعزم على الإقامة.
فصل:
والملاح الذي أهله معه في السفينة، وحاجة بيته ولا بيت له غيرها، وليس له نية المقام ببلد لا يقصر، نص عليه؛ لأنه غير ظاعن عن بلده ومنزله، فأشبه المقيم ببلد، قال القاضي: والمكاري، والفيج مثل في ذلك، والأولى إباحة القصر لهما، لدخولهما في النصوص المبيحة، وامتناع قياسها على الملاح؛ لأنه لا يمكنهما استصحاب الأهل، ومصالح المنزل في السفر، وزيادة المشقة عليه في سفره بحمل أهله معه بخلاف الملاح.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب الجمع بين الصلاتين]
[باب الجمع بين الصلاتين]
وأسباب الجمع ثلاثة:
أحدها: السفر المبيح للقصر؛ لما «روى أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا عجل به السير يؤخر الظهر إلى وقت العصر، فيجمع بينها ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق» متفق عليه. وهذا لفظ مسلم، وخص الخرقي الجمع بهذه الحالة، إذا ارتحل قبل دخول الوقت الأولى أخرها حتى يجمعها مع الثانية، في وقت الثانية، وروى نحوه عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
والمذهب جواز الجمع لمن جاز له القصر في نزوله وسيره، وله الخيرة بين تقديم الثانية، فيصليها مع الأولى، وبين تأخير الأولى إلى الثانية، لما «روى معاذ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخر
الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا ثم سار، وإذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء، فصلاها مع المغرب» . قال الترمذي: هذا حديث حسن.
وروى ابن عباس نحوه، وروى أنس نحوه، أخرجه البخاري. ولأنها رخصة من رخص السفر، فلم يعتبر فيها وجود السير كسائر رخصه، فإن جمع بينهما في وقت الأولى اعتبر ثلاثة شروط: أن ينوي الجمع عند الإحرام بالأولى؛ لأنها نية تفتقر إليها، فاعتبرت عند الإحرام كنية القصر، وفيه وجه آخر أنه يجزئه، أن ينوي قبل الفراغ من الأولى؛ لأنه موضع الجمع بين الصلاتين، فإذا لم تتأخر النية عنه جاز، وقال أبو بكر: لا يحتاج الجمع إلى نية؛ كقوله في القصر، وقد مضى الكلام معه.
الشرط الثاني: أن لا يفرق بينهما إلا تفريقًا يسيرًا؛ لأن معنى الجمع المتابعة والمقرنة، ولا يحصل ذلك مع الفرق الطويل، والمرجع في طول الفرق وقصره إلى العرف، فإن احتاج إلى وضوء خفيف لم تبطل، وإن صلى بينهما سنة الصلاة فعلى روايتين.
الشرط الثالث: وجود العذر حال افتتاح الأولى، والفراغ منها، وافتتاح الثانية؛ لأن افتتاح الأولى موضع النية، وبافتتاح الثانية يحصل الجمع، فاعتبر العذر فيها، فإن انقطع العذر في غير هذه المواضع لم يؤثر، وإن جمع في وقت الثانية اعتبر أن ينوي التأخير للجمع في وقت الأولى، إلى أن يبقى منه قدر فعلها، واستمرار العذر إلى وقت الثانية، ولا يعتبر وجوده في وقت الثانية؛ لأنها صارت في غير وقتها، وقد جوز له التأخير ولا يعتبر المواصلة بينهما في أصح الوجهين؛ لأن الثانية مفعولة في وقتها، فهي أداء على كل حال، والأولى معها كصلاة فائتة.
فصل:
والسبب الثاني: المطر يبيح الجمع بين المغرب والعشاء؛ «لأن أبا سلمة قال: من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء» ، وكان ابن عمر يجمع إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء، ولا يجمع بين الظهر والعصر للمطر، قال أحمد: ما سمعت بذلك، وهذا اختيار أبي بكر، وذكر بعض أصحابنا وجهًا في جوازه قياسًا على الليل، ولا يصح لأن المشقة في المطر إنما تعظم في الليل لظلمته، فلا يقاس عليه غيره.
والمطر المبيح للجمع هو الذي يبل الثياب، وتلحق المشقة بالخروج فيه والثلج مثله في هذا، فأما الطل والمطر الذي لا يبل الثياب، فلا يبيح الجمع؛ لعدم المشقة فيه، وهل يجوز الجمع لمن يصلي منفردًا، أو لمقيم في المسجد، أو من طريقه إليه في ظلال؟ على وجهين:
أحدهما: لا يجوز لعدم المشقة.
والثاني: يجوز؛ لأن العذر العام لا يعتبر فيه حقيقة المشقة كالسفر.
والوحل بمجرده مبيح للجمع؛ لأنه يساوي المطر في مشقته وإسقاطه للجمعة والجماعة، فهو كالمطر، وفيه وجه آخر أنه لا يبيح، لاختلافهما في المشقة، وفي الريح الشديدة في الليلة المظلمة وجهان.
فصل:
والسبب الثالث: المرض يبيح الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء إذا لحقه بتركه مشقة وضعف؛ لأن «ابن عباس قال: جمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر» متفق عليه. وقد أجمعنا على
أن الجمع لا يجوز لغير عذر، ولم يبق إلا المرض، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر سهلة بنت سهيل، وحمنة بنت جحش بالجمع بين الصلاتين لأجل الاستحاضة، وهو نوع مرض، ثم هو مخير بين التقديم والتأخير، أي ذلك كان أسهل عليه فعله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقدم إذا ارتحل بعد دخول الوقت، ويؤخر إذا ارتحل قبله طلبًا للأسهل، فكذلك المريض، وإن كان الجمع عنده واحدًا فالأفضل التأخير، فأما الجمع في المطر، فلا تحصل فائدة الجمع فيه إلا بتقديم العشاء إلى المغرب، فيكون ذلك الأولى، والله أعلم.
وأسباب الجمع ثلاثة:
أحدها: السفر المبيح للقصر؛ لما «روى أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا عجل به السير يؤخر الظهر إلى وقت العصر، فيجمع بينها ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق» متفق عليه. وهذا لفظ مسلم، وخص الخرقي الجمع بهذه الحالة، إذا ارتحل قبل دخول الوقت الأولى أخرها حتى يجمعها مع الثانية، في وقت الثانية، وروى نحوه عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
والمذهب جواز الجمع لمن جاز له القصر في نزوله وسيره، وله الخيرة بين تقديم الثانية، فيصليها مع الأولى، وبين تأخير الأولى إلى الثانية، لما «روى معاذ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخر
الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا ثم سار، وإذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء، فصلاها مع المغرب» . قال الترمذي: هذا حديث حسن.
وروى ابن عباس نحوه، وروى أنس نحوه، أخرجه البخاري. ولأنها رخصة من رخص السفر، فلم يعتبر فيها وجود السير كسائر رخصه، فإن جمع بينهما في وقت الأولى اعتبر ثلاثة شروط: أن ينوي الجمع عند الإحرام بالأولى؛ لأنها نية تفتقر إليها، فاعتبرت عند الإحرام كنية القصر، وفيه وجه آخر أنه يجزئه، أن ينوي قبل الفراغ من الأولى؛ لأنه موضع الجمع بين الصلاتين، فإذا لم تتأخر النية عنه جاز، وقال أبو بكر: لا يحتاج الجمع إلى نية؛ كقوله في القصر، وقد مضى الكلام معه.
الشرط الثاني: أن لا يفرق بينهما إلا تفريقًا يسيرًا؛ لأن معنى الجمع المتابعة والمقرنة، ولا يحصل ذلك مع الفرق الطويل، والمرجع في طول الفرق وقصره إلى العرف، فإن احتاج إلى وضوء خفيف لم تبطل، وإن صلى بينهما سنة الصلاة فعلى روايتين.
الشرط الثالث: وجود العذر حال افتتاح الأولى، والفراغ منها، وافتتاح الثانية؛ لأن افتتاح الأولى موضع النية، وبافتتاح الثانية يحصل الجمع، فاعتبر العذر فيها، فإن انقطع العذر في غير هذه المواضع لم يؤثر، وإن جمع في وقت الثانية اعتبر أن ينوي التأخير للجمع في وقت الأولى، إلى أن يبقى منه قدر فعلها، واستمرار العذر إلى وقت الثانية، ولا يعتبر وجوده في وقت الثانية؛ لأنها صارت في غير وقتها، وقد جوز له التأخير ولا يعتبر المواصلة بينهما في أصح الوجهين؛ لأن الثانية مفعولة في وقتها، فهي أداء على كل حال، والأولى معها كصلاة فائتة.
فصل:
والسبب الثاني: المطر يبيح الجمع بين المغرب والعشاء؛ «لأن أبا سلمة قال: من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء» ، وكان ابن عمر يجمع إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء، ولا يجمع بين الظهر والعصر للمطر، قال أحمد: ما سمعت بذلك، وهذا اختيار أبي بكر، وذكر بعض أصحابنا وجهًا في جوازه قياسًا على الليل، ولا يصح لأن المشقة في المطر إنما تعظم في الليل لظلمته، فلا يقاس عليه غيره.
والمطر المبيح للجمع هو الذي يبل الثياب، وتلحق المشقة بالخروج فيه والثلج مثله في هذا، فأما الطل والمطر الذي لا يبل الثياب، فلا يبيح الجمع؛ لعدم المشقة فيه، وهل يجوز الجمع لمن يصلي منفردًا، أو لمقيم في المسجد، أو من طريقه إليه في ظلال؟ على وجهين:
أحدهما: لا يجوز لعدم المشقة.
والثاني: يجوز؛ لأن العذر العام لا يعتبر فيه حقيقة المشقة كالسفر.
والوحل بمجرده مبيح للجمع؛ لأنه يساوي المطر في مشقته وإسقاطه للجمعة والجماعة، فهو كالمطر، وفيه وجه آخر أنه لا يبيح، لاختلافهما في المشقة، وفي الريح الشديدة في الليلة المظلمة وجهان.
فصل:
والسبب الثالث: المرض يبيح الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء إذا لحقه بتركه مشقة وضعف؛ لأن «ابن عباس قال: جمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر» متفق عليه. وقد أجمعنا على
أن الجمع لا يجوز لغير عذر، ولم يبق إلا المرض، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر سهلة بنت سهيل، وحمنة بنت جحش بالجمع بين الصلاتين لأجل الاستحاضة، وهو نوع مرض، ثم هو مخير بين التقديم والتأخير، أي ذلك كان أسهل عليه فعله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقدم إذا ارتحل بعد دخول الوقت، ويؤخر إذا ارتحل قبله طلبًا للأسهل، فكذلك المريض، وإن كان الجمع عنده واحدًا فالأفضل التأخير، فأما الجمع في المطر، فلا تحصل فائدة الجمع فيه إلا بتقديم العشاء إلى المغرب، فيكون ذلك الأولى، والله أعلم.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب صلاة المريض]
[باب صلاة المريض]
إذا عجز عن الصلاة قائمًا صلى قاعدًا؛ «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمران بن حصين: صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب» رواه البخاري. وصلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاعدًا بأصحابه وهو شاك.
وصفة جلوسه على ما ذكرنا في صلاة التطوع.
فإن عجز عن الركوع والسجود أومأ بهما، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه، يقرب وجهه من الأرض في السجود قدر طاقته.
فإن سجد على وسادة بين يديه جاز؛ لأن أم سلمة سجدت على وسادة لرمد بها، ولا يجعلها أرفع من مكان يمكنه حط وجهه إليه.
وإن أمكنته الصلاة قائمًا وحده ولم تمكنه من الإمام إلا بالقعود في بعضها فهو مخير فيها؛ لأنه يفعل في كل واحدة منهما واجبًا ويترك واجبًا، وإن أمكنه القيام وعجز عن الركوع والسجود صلى قائمًا، فأومأ بالركوع، ثم جلس فأومأ بالسجود؛ لأن سقوط فرض لا يسقط فرضًا غيره.
وإن تقوس ظهره فصار كالراكع رفع حال القيام قدر طاقته، ثم انحنى في الركوع قليلًا آخر، وإن كان بعينه رمد فقال ثقات من العلماء بالطب: إن صليت مستلقيًا أمكن مداواتك جاز ذلك؛ لأن أم سلمة تركت السجود لرمد بها، ولأنه يخاف من الضرر، أشبه المرض.
فصل:
وإن عجز عن القعود صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة بوجهه؛ لحديث عمران، وإن صلى على جنبه الأيسر جاز للخبر، ولأنه يستقبل القبلة به، وإن صلى مستلقيًا على ظهره بحيث إذا قعد كان وجهه إليها جاز؛ لأنه نوع استقبال، ويحتمل أن لا يجوز لمخالفته الأمر، وتركه الاستقبال بوجهه وجملته.
فإن عجز عن الصلاة على جنبه صلى على ظهره، ويومئ بالركوع والسجود برأسه، فإن عجز فبطرفيه، ولا تسقط الصلاة عنه ما دام عقله ثابتًا.
فصل:
وإن قدر على القيام والقعود في أثناء الصلاة انتقل إليه، وأتم صلاته. وإن ابتدأها قائمًا أو قاعدًا فعجز عن ذلك في أثنائها أتم صلاته على ما أمكنه؛ لأنه يجوز أن يؤدي جميعها قائمًا حال القدرة، وقاعدًا حال العجز، فجاز أن يفعل بعضها قائمًا مع القدرة، وبعضها قاعدًا مع العجز.
فصل:
ومن كان في ماء أو طين لا يمكنه السجود إلا بالتلوث والبلل فله الصلاة بالإيماء، والصلاة على دابته؛ لأن أنس بن مالك صلى المكتوبة في يوم مطير على دابته، «وروى يعلى بن أمية، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه انتهى إلى مضيق ومعه أصحابه، والسماء من فوقهم، والبلة من أسفل منهم، فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه على ظهور دوابهم يومئون ويجعلون السجود أخفض من الركوع» رواه الأثرم، والترمذي. فإن كان البلل يسيرًا لا أذى فيه لزمه السجود؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف من صلاته وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين» متفق عليه.
وهل تجوز الصلاة على الدابة لأجل مرض؟ فيه روايتان:
إحداهما: تجوز، اختارها أبو بكر؛ لأن مشقة النزول في المرض أكثر من المشقة بالمطر.
والثانية: لا تجوز؛ لأن ابن عمر كان ينزل مرضاه، ولأن الصلاة على الأرض أسكن له وأمكن، بخلاف صاحب الطين.
فإن خاف المريض بالنزول ضررًا غير محتمل كالانقطاع عن الرفقة ونحوه فله الصلاة عليها، رواية واحدة؛ لأنه خائف على نفسه، فأشبه الخائف من عدو.
إذا عجز عن الصلاة قائمًا صلى قاعدًا؛ «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمران بن حصين: صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب» رواه البخاري. وصلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاعدًا بأصحابه وهو شاك.
وصفة جلوسه على ما ذكرنا في صلاة التطوع.
فإن عجز عن الركوع والسجود أومأ بهما، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه، يقرب وجهه من الأرض في السجود قدر طاقته.
فإن سجد على وسادة بين يديه جاز؛ لأن أم سلمة سجدت على وسادة لرمد بها، ولا يجعلها أرفع من مكان يمكنه حط وجهه إليه.
وإن أمكنته الصلاة قائمًا وحده ولم تمكنه من الإمام إلا بالقعود في بعضها فهو مخير فيها؛ لأنه يفعل في كل واحدة منهما واجبًا ويترك واجبًا، وإن أمكنه القيام وعجز عن الركوع والسجود صلى قائمًا، فأومأ بالركوع، ثم جلس فأومأ بالسجود؛ لأن سقوط فرض لا يسقط فرضًا غيره.
وإن تقوس ظهره فصار كالراكع رفع حال القيام قدر طاقته، ثم انحنى في الركوع قليلًا آخر، وإن كان بعينه رمد فقال ثقات من العلماء بالطب: إن صليت مستلقيًا أمكن مداواتك جاز ذلك؛ لأن أم سلمة تركت السجود لرمد بها، ولأنه يخاف من الضرر، أشبه المرض.
فصل:
وإن عجز عن القعود صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة بوجهه؛ لحديث عمران، وإن صلى على جنبه الأيسر جاز للخبر، ولأنه يستقبل القبلة به، وإن صلى مستلقيًا على ظهره بحيث إذا قعد كان وجهه إليها جاز؛ لأنه نوع استقبال، ويحتمل أن لا يجوز لمخالفته الأمر، وتركه الاستقبال بوجهه وجملته.
فإن عجز عن الصلاة على جنبه صلى على ظهره، ويومئ بالركوع والسجود برأسه، فإن عجز فبطرفيه، ولا تسقط الصلاة عنه ما دام عقله ثابتًا.
فصل:
وإن قدر على القيام والقعود في أثناء الصلاة انتقل إليه، وأتم صلاته. وإن ابتدأها قائمًا أو قاعدًا فعجز عن ذلك في أثنائها أتم صلاته على ما أمكنه؛ لأنه يجوز أن يؤدي جميعها قائمًا حال القدرة، وقاعدًا حال العجز، فجاز أن يفعل بعضها قائمًا مع القدرة، وبعضها قاعدًا مع العجز.
فصل:
ومن كان في ماء أو طين لا يمكنه السجود إلا بالتلوث والبلل فله الصلاة بالإيماء، والصلاة على دابته؛ لأن أنس بن مالك صلى المكتوبة في يوم مطير على دابته، «وروى يعلى بن أمية، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه انتهى إلى مضيق ومعه أصحابه، والسماء من فوقهم، والبلة من أسفل منهم، فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه على ظهور دوابهم يومئون ويجعلون السجود أخفض من الركوع» رواه الأثرم، والترمذي. فإن كان البلل يسيرًا لا أذى فيه لزمه السجود؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف من صلاته وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين» متفق عليه.
وهل تجوز الصلاة على الدابة لأجل مرض؟ فيه روايتان:
إحداهما: تجوز، اختارها أبو بكر؛ لأن مشقة النزول في المرض أكثر من المشقة بالمطر.
والثانية: لا تجوز؛ لأن ابن عمر كان ينزل مرضاه، ولأن الصلاة على الأرض أسكن له وأمكن، بخلاف صاحب الطين.
فإن خاف المريض بالنزول ضررًا غير محتمل كالانقطاع عن الرفقة ونحوه فله الصلاة عليها، رواية واحدة؛ لأنه خائف على نفسه، فأشبه الخائف من عدو.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب صلاة الخوف]
[باب صلاة الخوف]
تجوز صلاة الخوف في كل قتال مباح، كقتال الكفارة والبغاة والمحاربين، ولا تجوز في محرم لأنها رخصة، فلا تستباح بالمحرم كالقصر.
والخوف على ضربين: شديد وغيره، فغير الشديد، يجوز أن يصلي بهم على الصفة التي صلاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الأحاديث التي جاءت في صلاة الخوف كلها أحاديث جياد صحاح، وهي تختلف، فأقول: إن ذلك كله جائز لمن فعله، إلا أن حديث سهل بن أبي خيثمة أنكى في العذر فأنا أختاره، وقال ستة أو سبعة: يروى فيها كلها جائز، فتذكر الوجوه التي بلغنا.
فالوجه الأول: منها ما «روى صالح بن خوات، عن من صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف، أن طائفة صلت معه، وطائفة وجاه فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائمًا فأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسًا، وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم» متفق عليه. فهذا حديث سهل الذي اختاره أحمد.
ويشترط أن يكون في المسلمين كثرة يمكن تفريقهم طائفتين؛ كل طائفة ثلاثة فأكثر.
ويقرأ الإمام في حال الانتظار، ويطيل حتى يدركوه؛ لأن الصلاة ليست محلًا للسكوت، وتكون الطائفة الأولى في حكم الائتمام قبل مفارقته إن سها لحقهم حكم سهوه، وسجدوا له، وإن سهوا لم يلحقهم حكم سهوهم؛ لأنهم مأمومون، فإذا فارقوه صاروا منفردين لا يلحقهم سهوه، وإن سهوا سجدوا؛ لأنهم منفردون، فأما الطائفة الثانية، فلحقها سهو إمامها في جميع الصلاة، ما أدركوه معه وما لم يدركوه كالمسبوق، ولا يلحقهم حكم سهوهم في شيء من صلاتهم؛ لأنهم إن فارقوه فهم مؤتمون به حكمًا؛ لأنهم يسلمون بسلامه، فإذا قضوا ما عليهم فسجد إمامهم سجدوا معه، فإن
سجد قبل إتمامه سجدوا معه؛ لأنه إمامهم فلزمهم متابعته، ولا يعيدون السجود بعد فراغهم من التشهد؛ لأنهم لم ينفردوا عن الإمام، فلا يلزمهم من السجود أكثر مما يلزمه، بخلاف المسبوق.
فصل:
الوجه الثاني: أن يقسمهم طائفتين، يصلي بكل طائفة صلاة كاملة، كما «روى أبو بكرة قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خوف الظهر، فصف بعضهم خلفه، وبعضهم بإزاء العدو، فصلى ركعتين ثم سلم، فانطلق الذين صلوا معه، فوقفوا موقف أصحابهم، ثم جاء أولئك فصلوا خلفه، فصلى بهم ركعتين ثم سلم، فكان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعًا، ولأصحابه ركعتين ركعتين» رواه أبو داود.
فصل:
الوجه الثالث: أن يصلي بهم كالتي قبلها، إلا أنه لا يسلم إلا في آخر الأربع، كما «روى جابر قال: أقبلنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى إذ كنا بذات الرقاع، فنودي بالصلاة، فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطائفة ركعتين، ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع ركعات، وللقوم ركعتان» رواه البخاري.
فصل:
الوجه الرابع: ما «روى عبد الله بن عمر قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف في بعض أيامه، فقامت طائفة معه، وطائفة بإزاء العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ذهبوا، وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة، ثم قضت الطائفتان ركعة ركعة» متفق عليه. فهذا الوجه جوز أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصلاة به، واختار حديث سهل؛ لأنه أشبه بظاهر الكتاب وأحوط للصلاة، وأنكى في العدو، وأما الكتاب فقول الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] الآية، وقوله: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102]
ظاهره أن جميع صلاتها معه، وأن الطائفة الأولى قد صلت جميع صلاتها، ولا يتحقق هذا في هذا الوجه، وأما الاحتياط للحرب، فإن كل طائفة تنصرف بعد الفراغ من صلاتها، وتتمكن من الضرب والكلام والتحريض وغيره، وفي هذا الوجه تنصرف كل طائفة، وهي في حكم الصلاة لا تتمكن من ذلك، ولا يخلو من أن تمشي أو تركب، وذلك عمل كثير يفسدها.
فصل:
الوجه الخامس: إذا كان العدو في جهة القبلة، بحيث لا يخفى بعضهم على المسلمين ولم يخافوا كمينًا، صلى بهم كما «روى جابر قال: شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف، فصففنا خلفه صفين، والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكبرنا جميعًا، ثم ركع وركعنا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السجود، وقام الصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه كان مؤخرًا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحور العدو، فلما قضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السجود، وقام الصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجد، ثم سلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسلمنا جميعًا» أخرجه مسلم.
فهذه الأوجه الخمسة جائزة لمن فعلها، ولا نعرف وجهًا سادسًا غير ما «روى ابن عباس، قال: صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذي قرد صلاة الخوف، والمشركون بينه وبين القبلة، فصف صفًا خلفه وصفًا موازي العدو، فصلى بهم ركعة، ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، ورجع هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، فصلى بهم ركعة، ثم سلم عليهم، فكانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتان، ولهم ركعة ركعة» رواه الأثرم. فكلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقتضي كون هذا من الوجوه الجائزة، إلا أن أصحابه قالوا: لا تأثير للخوف في عدد الركعات، فيدل على أن هذا ليس بمذهب له.
فصل:
فإن صلى المغرب على حديث سهل، صلى بالطائفة الأولى ركعتين، وتتم لأنفسها ركعة، تقرأ فيها بالحمد لله، وبالثانية ركعة، وتتم لأنفسها ركعتين تقرأ فيها بالحمد لله وسورة، وتفارقه الأولى حين يقوم إلى الثالثة في أحد الوجهين؛ لأن الانتظار في القيام أولى لكثرة ثواب القيام، واستحباب تقصير التشهد، وفي الآخر تفارقه حين يفرغ من تشهده الأول، فتقوم ويثبت هو جالسًا لتدرك الثانية جميع الركعة الثالثة، ويطيل التشهد حتى تجيء الطائفة الثانية فينهض، ثم تكبر الطائفة وتدخل معه، فإذا جلس للتشهد الآخر نهضت لقضاء ما فاتها، ولم تتشهد معه؛ لأنه ليس بموضع تشهدها، ويحتمل أن تتشهد معه إذا قلنا: إنها تقضي ركعتين متواليتين؛ لئلا يفضي إلى وقوع جميع الصلاة بتشهد واحد.
فصل:
ويجوز صلاة الخوف للمقيمين؛ لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] الآية. ولأنها حالة خوف، فأشبهت حالة السفر، ويصلي بكل طائفة ركعتين، وتتم الطائفة الأولى بالحمد لله في كل ركعة، والطائفة الأخرى بالحمد لله وسورة، وفي موضع مفارقة الطائفة الأولى له وجهان، على ما ذكرنا في المغرب، وإن صلى بطائفة ثلاث ركعات وبالأخرى ركعة، أو صلى المغرب بالأولى ركعة وبالثانية ركعتين، جاز لأنه لم يزد على انتظارين ورد الشرع بهما.
وإن فرقهم أربع فرق، وصلى بكل طائفة ركعة أو ثلاث فرق في المغرب صحت صلاة الأولى والثانية؛ لأنهما فارقتاه لعذر، وبطلت صلاة الإمام لزيادته انتظارًا لم يرد الشرع بمثله، وصلاة الثالثة والرابعة لاقتدائهما بمن صلاته باطلة، وقال ابن حامد: إن لم يعلما ببطلان صلاته صحت صلاتهما للعذر، فأشبه من صلى وراء محدث يجهل هو والإمام حدثه.
فصل:
إذا صلى صلاة الخوف من غير خوف لم تصح؛ لأنها لا تنفك من مفارق إمامه، أو تارك متابعته، أو قاصر مع إتمام إمامته، أو قائم للقضاء قبل سلامه، وكل ذلك مبطل إلا مع العذر، إلا أن يصلي بكل طائفة صلاة تامة على حديث أبي بكرة.
فصل:
قال أصحابنا: لا يجب حمل السلاح في صلاة الخوف؛ لأنه لو وجب لكان شرطًا كالسترة، ويستحب أن يحمل ما يدفع به عن نفسه كالسيف والسكين، ويكره ما يثقله كالجوشن، وما يمنع إكمال السجود كالمغفر، وما يؤذي به غيره كالرمح متوسطًا، فإن كان في حاشية لم يكره، ولا يجوز حمل نجس ولا ما يخل بركن الصلاة، إلا أن يخاف وقوع السهام والحجارة ونحوها به، فيجوز للضرورة، ويحتمل وجوب حمل السلاح للأمر به بقوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء: 102] فيدل على الجناح عند عدم ذلك.
فصل:
الضرب الثاني: الخوف الشديد، مثل التحام الحرب والقتال، ومصيرهم إلى المطاردة، فلهم أن يصلوا كيفما أمكنهم رجالًا وركبانًا، يومون بالركوع والسجود على قدر الطاقة، ويتقدمون ويتأخرون ويضربون ويطعنون، ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها، وصلاتهم صحيحة، وإن هرب هربًا مباحًا من عدو أو سيل أو سبع أو نار لا يمكنه التخلص إلا بالهرب، أو كان أسيرًا يخاف الكفار إن صلى أو مختفيًا في موضع يخاف أن يظهر عليه صلى كيفما أمكنه، قائمًا أو قاعدًا أو مستلقيًا إلى القبلة وغيرها بالإيماء في السفر والحضر، فإن أمن في صلاته أتمها صلاة أمن، وإن ابتدأها آمنًا فعرض له الخوف أتمها صلاة خائف؛ لأنه يبني على صلاة صحيحة، فجاز كبناء صلاة المرض على صلاة الصحة.
وإن رأى سوادًا فظنه عدوًا، فصلى صلاة الخوف، ثم بان أنه غير عدو، أو بينه وبينه ما يمنع العبور أعاد؛ لأنه لم يوجد المبيح فأشبه من ظن أنه متطهر، فصلى ثم علم بحدثه، قال أصحابنا: ويجوز أن يصلوا في شدة الخوف جماعة رجالًا وركبانًا، ويعفى عن تقدمهم الإمام لأجل الحاجة، كما عفي عن العمل الكثير وترك الاستقبال.
تجوز صلاة الخوف في كل قتال مباح، كقتال الكفارة والبغاة والمحاربين، ولا تجوز في محرم لأنها رخصة، فلا تستباح بالمحرم كالقصر.
والخوف على ضربين: شديد وغيره، فغير الشديد، يجوز أن يصلي بهم على الصفة التي صلاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الأحاديث التي جاءت في صلاة الخوف كلها أحاديث جياد صحاح، وهي تختلف، فأقول: إن ذلك كله جائز لمن فعله، إلا أن حديث سهل بن أبي خيثمة أنكى في العذر فأنا أختاره، وقال ستة أو سبعة: يروى فيها كلها جائز، فتذكر الوجوه التي بلغنا.
فالوجه الأول: منها ما «روى صالح بن خوات، عن من صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف، أن طائفة صلت معه، وطائفة وجاه فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائمًا فأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسًا، وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم» متفق عليه. فهذا حديث سهل الذي اختاره أحمد.
ويشترط أن يكون في المسلمين كثرة يمكن تفريقهم طائفتين؛ كل طائفة ثلاثة فأكثر.
ويقرأ الإمام في حال الانتظار، ويطيل حتى يدركوه؛ لأن الصلاة ليست محلًا للسكوت، وتكون الطائفة الأولى في حكم الائتمام قبل مفارقته إن سها لحقهم حكم سهوه، وسجدوا له، وإن سهوا لم يلحقهم حكم سهوهم؛ لأنهم مأمومون، فإذا فارقوه صاروا منفردين لا يلحقهم سهوه، وإن سهوا سجدوا؛ لأنهم منفردون، فأما الطائفة الثانية، فلحقها سهو إمامها في جميع الصلاة، ما أدركوه معه وما لم يدركوه كالمسبوق، ولا يلحقهم حكم سهوهم في شيء من صلاتهم؛ لأنهم إن فارقوه فهم مؤتمون به حكمًا؛ لأنهم يسلمون بسلامه، فإذا قضوا ما عليهم فسجد إمامهم سجدوا معه، فإن
سجد قبل إتمامه سجدوا معه؛ لأنه إمامهم فلزمهم متابعته، ولا يعيدون السجود بعد فراغهم من التشهد؛ لأنهم لم ينفردوا عن الإمام، فلا يلزمهم من السجود أكثر مما يلزمه، بخلاف المسبوق.
فصل:
الوجه الثاني: أن يقسمهم طائفتين، يصلي بكل طائفة صلاة كاملة، كما «روى أبو بكرة قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خوف الظهر، فصف بعضهم خلفه، وبعضهم بإزاء العدو، فصلى ركعتين ثم سلم، فانطلق الذين صلوا معه، فوقفوا موقف أصحابهم، ثم جاء أولئك فصلوا خلفه، فصلى بهم ركعتين ثم سلم، فكان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعًا، ولأصحابه ركعتين ركعتين» رواه أبو داود.
فصل:
الوجه الثالث: أن يصلي بهم كالتي قبلها، إلا أنه لا يسلم إلا في آخر الأربع، كما «روى جابر قال: أقبلنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى إذ كنا بذات الرقاع، فنودي بالصلاة، فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطائفة ركعتين، ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع ركعات، وللقوم ركعتان» رواه البخاري.
فصل:
الوجه الرابع: ما «روى عبد الله بن عمر قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف في بعض أيامه، فقامت طائفة معه، وطائفة بإزاء العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ذهبوا، وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة، ثم قضت الطائفتان ركعة ركعة» متفق عليه. فهذا الوجه جوز أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصلاة به، واختار حديث سهل؛ لأنه أشبه بظاهر الكتاب وأحوط للصلاة، وأنكى في العدو، وأما الكتاب فقول الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] الآية، وقوله: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102]
ظاهره أن جميع صلاتها معه، وأن الطائفة الأولى قد صلت جميع صلاتها، ولا يتحقق هذا في هذا الوجه، وأما الاحتياط للحرب، فإن كل طائفة تنصرف بعد الفراغ من صلاتها، وتتمكن من الضرب والكلام والتحريض وغيره، وفي هذا الوجه تنصرف كل طائفة، وهي في حكم الصلاة لا تتمكن من ذلك، ولا يخلو من أن تمشي أو تركب، وذلك عمل كثير يفسدها.
فصل:
الوجه الخامس: إذا كان العدو في جهة القبلة، بحيث لا يخفى بعضهم على المسلمين ولم يخافوا كمينًا، صلى بهم كما «روى جابر قال: شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف، فصففنا خلفه صفين، والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكبرنا جميعًا، ثم ركع وركعنا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السجود، وقام الصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه كان مؤخرًا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحور العدو، فلما قضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السجود، وقام الصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجد، ثم سلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسلمنا جميعًا» أخرجه مسلم.
فهذه الأوجه الخمسة جائزة لمن فعلها، ولا نعرف وجهًا سادسًا غير ما «روى ابن عباس، قال: صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذي قرد صلاة الخوف، والمشركون بينه وبين القبلة، فصف صفًا خلفه وصفًا موازي العدو، فصلى بهم ركعة، ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، ورجع هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، فصلى بهم ركعة، ثم سلم عليهم، فكانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتان، ولهم ركعة ركعة» رواه الأثرم. فكلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقتضي كون هذا من الوجوه الجائزة، إلا أن أصحابه قالوا: لا تأثير للخوف في عدد الركعات، فيدل على أن هذا ليس بمذهب له.
فصل:
فإن صلى المغرب على حديث سهل، صلى بالطائفة الأولى ركعتين، وتتم لأنفسها ركعة، تقرأ فيها بالحمد لله، وبالثانية ركعة، وتتم لأنفسها ركعتين تقرأ فيها بالحمد لله وسورة، وتفارقه الأولى حين يقوم إلى الثالثة في أحد الوجهين؛ لأن الانتظار في القيام أولى لكثرة ثواب القيام، واستحباب تقصير التشهد، وفي الآخر تفارقه حين يفرغ من تشهده الأول، فتقوم ويثبت هو جالسًا لتدرك الثانية جميع الركعة الثالثة، ويطيل التشهد حتى تجيء الطائفة الثانية فينهض، ثم تكبر الطائفة وتدخل معه، فإذا جلس للتشهد الآخر نهضت لقضاء ما فاتها، ولم تتشهد معه؛ لأنه ليس بموضع تشهدها، ويحتمل أن تتشهد معه إذا قلنا: إنها تقضي ركعتين متواليتين؛ لئلا يفضي إلى وقوع جميع الصلاة بتشهد واحد.
فصل:
ويجوز صلاة الخوف للمقيمين؛ لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] الآية. ولأنها حالة خوف، فأشبهت حالة السفر، ويصلي بكل طائفة ركعتين، وتتم الطائفة الأولى بالحمد لله في كل ركعة، والطائفة الأخرى بالحمد لله وسورة، وفي موضع مفارقة الطائفة الأولى له وجهان، على ما ذكرنا في المغرب، وإن صلى بطائفة ثلاث ركعات وبالأخرى ركعة، أو صلى المغرب بالأولى ركعة وبالثانية ركعتين، جاز لأنه لم يزد على انتظارين ورد الشرع بهما.
وإن فرقهم أربع فرق، وصلى بكل طائفة ركعة أو ثلاث فرق في المغرب صحت صلاة الأولى والثانية؛ لأنهما فارقتاه لعذر، وبطلت صلاة الإمام لزيادته انتظارًا لم يرد الشرع بمثله، وصلاة الثالثة والرابعة لاقتدائهما بمن صلاته باطلة، وقال ابن حامد: إن لم يعلما ببطلان صلاته صحت صلاتهما للعذر، فأشبه من صلى وراء محدث يجهل هو والإمام حدثه.
فصل:
إذا صلى صلاة الخوف من غير خوف لم تصح؛ لأنها لا تنفك من مفارق إمامه، أو تارك متابعته، أو قاصر مع إتمام إمامته، أو قائم للقضاء قبل سلامه، وكل ذلك مبطل إلا مع العذر، إلا أن يصلي بكل طائفة صلاة تامة على حديث أبي بكرة.
فصل:
قال أصحابنا: لا يجب حمل السلاح في صلاة الخوف؛ لأنه لو وجب لكان شرطًا كالسترة، ويستحب أن يحمل ما يدفع به عن نفسه كالسيف والسكين، ويكره ما يثقله كالجوشن، وما يمنع إكمال السجود كالمغفر، وما يؤذي به غيره كالرمح متوسطًا، فإن كان في حاشية لم يكره، ولا يجوز حمل نجس ولا ما يخل بركن الصلاة، إلا أن يخاف وقوع السهام والحجارة ونحوها به، فيجوز للضرورة، ويحتمل وجوب حمل السلاح للأمر به بقوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء: 102] فيدل على الجناح عند عدم ذلك.
فصل:
الضرب الثاني: الخوف الشديد، مثل التحام الحرب والقتال، ومصيرهم إلى المطاردة، فلهم أن يصلوا كيفما أمكنهم رجالًا وركبانًا، يومون بالركوع والسجود على قدر الطاقة، ويتقدمون ويتأخرون ويضربون ويطعنون، ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها، وصلاتهم صحيحة، وإن هرب هربًا مباحًا من عدو أو سيل أو سبع أو نار لا يمكنه التخلص إلا بالهرب، أو كان أسيرًا يخاف الكفار إن صلى أو مختفيًا في موضع يخاف أن يظهر عليه صلى كيفما أمكنه، قائمًا أو قاعدًا أو مستلقيًا إلى القبلة وغيرها بالإيماء في السفر والحضر، فإن أمن في صلاته أتمها صلاة أمن، وإن ابتدأها آمنًا فعرض له الخوف أتمها صلاة خائف؛ لأنه يبني على صلاة صحيحة، فجاز كبناء صلاة المرض على صلاة الصحة.
وإن رأى سوادًا فظنه عدوًا، فصلى صلاة الخوف، ثم بان أنه غير عدو، أو بينه وبينه ما يمنع العبور أعاد؛ لأنه لم يوجد المبيح فأشبه من ظن أنه متطهر، فصلى ثم علم بحدثه، قال أصحابنا: ويجوز أن يصلوا في شدة الخوف جماعة رجالًا وركبانًا، ويعفى عن تقدمهم الإمام لأجل الحاجة، كما عفي عن العمل الكثير وترك الاستقبال.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب صلاة الجمعة]
[باب صلاة الجمعة]
وهي واجبة بالإجماع، وروى ابن ماجه عن جابر قال: خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «واعلموا أن الله قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا،
في عامي هذا إلى يوم القيامة، فمن تركها في حياتي أو بعدي، وله إمام عادل أو جائر استخفافًا بها أو جحودًا لها، فلا جمع الله له شمله، ولا بارك له في أمره» .
ولا تجب إلا على من اجتمعت فيه شرائط ثمانية: الإسلام، والبلوغ، والعقل؛ لأنها من شرائط التكاليف بالفروع، والذكورية، والحرية، والاستيطان، لما روى طارق بن شهاب قال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو مسافر، أو مريض» رواه أبو داود. ولأن المرأة ليست من أهل الجماعات، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفات يوم جمعة فلم يصل جمعة.
وفي العبد رواية أخرى أنها تجب عليه؛ لأنها فرض عين من الصلوات فوجبت عليه كالظهر، والأولى أولى للخبر؛ ولأن العبد مملوك المنفعة محبوس على سيده، أشبه المحبوس بدين.
السابع: انتفاء الأعذار المسقطة للجماعة.
الثامن: أن يكون مقيمًا بمكان الجمعة أو قريبًا منه، وتجب الجمعة على أهل المصر قريبهم وبعيدهم؛ لأن البلد كالشيء الواحد، وتجب على من بينه وبين الجامع فرسخ من غيرهم، ولا تجب على غيرهم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجمعة على من سمع النداء» رواه أبو داود. ولم يمكن اعتبار السماع بنفسه فاعتبر بمظنته، والموضع الذي يسمع منه النداء في الغالب، إذا كان المؤذن صيتًا بموضع عالٍ، والرياح ساكنة، والأصوات هادئة، والعوارض منتفية، فرسخ فاعتبرناه به.
فصل:
وهذه الشروط تنقسم أربعة أقسام:
أحدها: شرط للصحة والانعقاد، وهو: الإسلام والعقل، فلا تصح من كافر ولا مجنون، ولا تنعقد بهما؛ لأنهما ليسا من أهل العبادات.
الثاني: شرط للوجوب والانعقاد وهي: الحرية، والذكورية، والبلوغ، والاستيطان، فلا تنعقد الجمعة بمن عدمت فيه، ولا يصح إمامتهم فيها؛ لأنهم من غير أهل الوجوب، فلم تنعقد بهم كالنساء، وتصح منهم وتجزئهم عند الظهر، وحضورها لغير النساء أفضل؛ لأن سقوطها عنهم رخصة، فإذا تكلفوا فعلها أجزأتهم، كالمريض يتكلف الصلاة قائمًا.
الثالث: شرط الوجوب السعي فقط، وهو: انتفاء الأعذار، فلو تكلف المريض الحضور وجبت عليه، وانعقدت به؛ لأن سقوطها كان لدفع المشقة، فإذا حضرت زالت المشقة، فوجبت عليه، وانعقدت به كالصحيح.
الرابع: شرط الانعقاد حسب وهو: الإقامة بمكان الجمعة، فلو كان أهل القرية يسمعون النداء من المصر لزمهم حضورها، ولم تنعقد بهم، ولو خرج أهل المصر أو بعضهم إلى القرية لم تنعقد بهم الجمعة؛ لأنهم غير مستوطنين بها، والظاهر أنها تصح إمامتهم فيها؛ لأنهم من أهل الوجوب.
فصل:
والأفضل لمن لم تجب عليه الجمعة أن لا يصلي الظهر قبل صلاة الإمام؛ لأنه ربما زال عذره فلزمته الجمعة، فإن صلى، فقال أبو بكر: لا تصح صلاته لذلك، والصحيح أنها تصح؛ لأنه صلى فرضه، فلا يبطل بالاحتمال، كالمتيمم، فإن زال عذره فقياس المذهب أنه لا تلزمه الجمعة؛ لأنه أدى فرض الوقت، فأشبه المعضوب إذا حج عن نفسه ثم برئ، وإن لم يزل العذر فحضروها كانت لهم نفلًا؛ «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذر: فصلها معهم تكن لك نافلة» ولأن الأولى أسقطت الفرض، فأما من تجب عليه الجمعة إذا صلى الظهر قبل صلاة الإمام لم تصح؛ لأنه ما خوطب بالظهر، فإن فاتته الجمعة أعادها ظهرًا؛ لأنه خوطب بها حينئذ.
وإن اتفق أهل بلد على ترك الجمعة، وصلوا ظهرًا لم تصح لذلك، فإذا خرج وقت الجمعة لزمهم الجمعة لزمهم إعادة الظهر، ولا يكره لمن فاتته الجمعة أو لم يكن من أهل فرضها أن يصلي الظهر في جماعة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة»
...
متفق عليه. فإن خاف التهمة استحب إخفاؤها ليدفعها عن نفسه.
فصل:
ويشترط لصحة الجمعة أربعة شروط:
أحدها: الوقت، فلا تصح قبل وقتها ولا بعده بالإجماع، وآخر وقتها آخر وقت الظهر بغير خلاف، فأما أوله فذكر القاضي أنها تجوز في وقت العيد؛ لأن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في رواية عبد الله: يجوز أن يصلي الجمعة قبل الزوال، يذهب إلى أنها كصلاة العيد، لحديث وكيع، عن جعفر بن برقان، عن ثابت بن حجاج، عن عبد الله بن سيلان، قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر، فكانت صلاته وخطبته قبل انتصاف النهار، وشهدتها مع عمر بن الخطاب، فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: قد انتصف النهار، ثم صليتها مع عثمان بن عفان - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -، فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد زال النهار، فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره. وهذا نقل للإجماع. وعن جابر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الجمعة فنذهب إلى جمالنا فنزيحها حين تزول الشمس.» رواه مسلم؛ ولأنها صلاة عيد فأشبهت صلاة العيدين.
وقال الخرقي: تجوز في الساعة السادسة، وفي نسخة الخامسة، فمفهومه أنه لا يجوز قبل ذلك؛ لأن ما رويناه تختص به. والأفضل فعلها عند زوال الشمس صيفاً وشتاءً، لا يقدمها إلى موضوع الخلاف، ولا يؤخرها. فيشق على الناس؛ لما روى سلمة بن الأكوع قال: «كنا نجمع مع النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفيء» ، متفق عليه. فإن خرج الوقت وهم فيها، فقال أحمد: من أدرك التشهد أتمها جمعة، فظاهره أنه يعتبر الوقت في جميعها إلا السلام؛ لأن الوقت شرط، فيعتبر في جميعها كالوضوء، وقال الخرقي: إن دخل وقت العصر وقد صلوا ركعة أجزأتهم جمعة؛ لأنه شرط يختص بالجمعة، فلم يعتبر في الركعة الثانية كالجماعة في حق المسبوق، وإن أدرك أقل من ذلك فهل يتمها ظهراً أو يستأنف؟ على وجهين بناء على المسبوق، بأكثر من ركعة، وقال القاضي: متى تلبس بها في وقتها أتمها جمعة، قياساً على سائر الصلوات، فإن شرع فيها ثم شك في خروج الوقت أتمها جمعة؛ لأن الأصل بقاؤه، وإن ضاق الوقت عما يجري في الجمعة لم يكن لهم فعلها.
فصل:
الشرط الثاني: أن يكون في قرية مبنية بما جرت العادة ببناء القرى به، من حجر أو طين أو لبن أو قصب، مجتمعة البناء بما جرت به العادة في القرية الواحدة، يسكنها أربعون من أهل الجمعة سكنى إقامة، لا يظعنون عنها صيفاً ولا شتاءً، فأما أهل الخيام وبيوت الشعر فلا جمعة لهم؛ لأن ذلك لا ينصب للاستيطان، ولذلك كانت قبائل العرب حول المدينة، ولم يأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجمعة، وإن كانت قرية يسكن فيها بعض السنة دون بعضهم، أو متفرقة تفريقاً لم تجر به العادة، لم تصح فيها الجمعة، فإن اجتمعت هذه الشروط في القرية، وجبت الجمعة على أهلها، وصحت بها؛ لأن كعباً قال: أسعد بن زرارة أول من جمع بنا في هزم النبيت، من حرة بني بياضة، في نقيع يقال له: نقيع الخضمات. رواه أبو داود.
قال الخطابي: حرة بني بياضة على ميل من المدينة، ولأن هذا بناء استوطنه أربعون من أهل الجمعة، فوجبت عليهم كأهل مصر، وتجوز إقامة أهل الجمعة فيما قارب البنيان من الصحراء، لحديث أسعد بن زرارة. فإن خربت القرية، فلازموها عازمين على إصلاحها ومرمتها فحكمها باق، وإن عزموا على النقلة عنها زال الاستيطان.
فصل:
الشرط الثالث: اجتماع أربعين ممن تنعقد بهم الجمعة.
وعنه: تنعقد بثلاثة؛ لأنهم جمع تنعقد بهم الجماعة، وعنه بخمسين، والمذهب الأول؛ لأن جابراً قال: مضت السنة أن في كل أربعين فما فوقها جمعة. فينصرف إلى سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن انفضوا فلم يبق معه إلا أقل من أربعين لم يتمها جمعة؛ لأنه شرط، فاعتبر في جميع الصلاة كالطهارة، وهل يستأنف ظهراً أو يبني على صلاته؟ على وجهين، بناءً على المسبوق، وقياس المذهب، أنهم إن انفضوا بعد صلاة ركعة أتمها جمعة؛ لأنها شرط تختص الجمعة فلم يعتبر الركوع في أكثر من ركعة كالجماعة فيها.
فصل:
ولا يختلف المذهب أن المسبوق إذا أدرك مع الإمام الركوع في الثانية أنه يتمها جمعة، فإن أدرك أقل من ذلك لم يتمها جمعة، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة» متفق عليه. وفي لفظ: «فليضف إليها أخرى» فأما من أدرك أقل من ذلك فقال الخرقي: يبني على ظهر إذا كان
قد دخل بنية الظهر. فظاهر هذا أنه إن نوى جمعة لزمه الاستئناف؛ لأنهما صلاتان لا تتأدى إحداهما بنية أخرى، فلم يجز بناؤها عليها، كالظهر والعصر. وقال أبو إسحاق بن شاقلا: ينوي جمعة؛ لئلا يخالف بنيته نية إمامه، ثم يبني عليها ظهراً لأنهما فرض وقت واحد، ردت إحداهما من أربع إلى ركعتين فجاز أن يبني عليها الأربع، كالتامة مع المقصورة.
فصل:
من أحرم مع الإمام ثم زوحم عن السجود فأمكنه السجود على ظهر إنسان أو قدمه لزمه. لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إذا اشتد الزحام فليسجد على ظهر أخيه أو قدمه. رواه الطيالسي. ولأنه يأتي بما يمكنه حال العجز فوجب وصح، كالمريض يومئ، فإن لم يمكنه ذلك انتظر زوال الزحام، ثم يسجد ويتبع الإمام؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أصحابه بذلك في صلاة عسفان للعذر، والعذر ههنا قائم، وكذلك إن تعذر عليه السجود لعذر من مرض أو نوم أو سهو. فإن خاف فوات الركوع مع إمامه لزمه متابعته وترك السجود لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن ركع فاركعوا» ولأنه مأموم خاف فوات الركعة فلزمه متابعة إمامه، كالمسبوق فيركع مع إمامه، وتبطل الأولى. وتصير الثانية أولاه. فإن سجد وترك متابعة إمامه بطلت صلاته، إن علم تحريم ذلك؛ لأنه ترك الواجب عمداً، وإن لم يكن يعلم تحريمه، لم تبطل صلاته، ولم يعتد بسجوده؛ لأنه أتى به في موضع الركوع جهلاً فهو كالساهي.
وقال أبو الخطاب: يعتد بسجوده ويتم ركعته الأولى، فإن أدرك الركوع أيضاً صحت له الركعتان وإن فاته الركوع، فاتته الثانية وحدها فيقضيها بعد سلام إمامه، وتصح جمعته، قال: ويسجد للسهو، وقال القاضي: هو كمن لم يسجد، فإن أدرك الركوع صحت الثانية وحدها، وإن فاته الركوع وأدرك معه السجدتين سجدهما للركعة الأولى، وصحت له ركعة، ويقضي ركعة، وتمت جمعته لإدراكه ركعة، وإن فاتته السجدتان أو إحداهما قضى ذلك بعد سلام إمامه، فتصح له ركعة، وكذا لو ترك سجدتي الأولى، خوفاً من فوات ركوع الثانية فركع معه، وزوحم عن سجدتي الثانية فأمكنه السجود في التشهد سجد، وإن لم يمكنه سجد بعد سلام الإمام وصحت له ركعة ومثلها: لو كان مسبوقاً بالأولى وزوحم عن سجود الثانية، وهل يكون مدركاً للجمعة في كل موضع لم يتم له ركعة إلا بعد سلام إمامه؟ على روايتين:
إحداهما: يكون مدركاً لها؛ لأنه قد يحرم بالصلاة مع الإمام، أشبه ما لو ركع وسجد معه.
والثانية: لا جمعة له؛ لأنه لم يدرك مع إمامه ركعة، فأشبه المسبوق بركوع الثانية، وعلى هذه الرواية هل يستأنف أو يتمها ظهراً على وجهين.
وإن أحرم مع الإمام فزوحم، وأخرج من الصف فصلى فذاً، لم تصح صلاته، وإن صلى ركعة وأخرج من الثانية، فأتمها وحده ففيه روايتان:
إحداهما: يتمها جمعة؛ لأنه أدرك مع إمامه ركعة، فأشبه المسبوق.
والثانية: يعيد لأنه فذ في ركعة كاملة. فإن أدرك مع الإمام ركعة، وقام ليقضي، فذكر أنه لم يسجد إلا سجدة واحدة، أو شك في إحدى السجدتين، لزمه أن يرجع إن لم يكن شرع في قراءة الثانية، فيأتي بما ترك، ثم يقضي ركعة أخرى، ويتمها جمعة. نص عليه، وإن ذكر بعد شروعه في قراءة الثانية بطلت الأولى، وصارت الثانية أولاه، ويتمها جمعة على المنصوص، وفيه وجه آخر أنه لا تحصل له الجمعة؛ لأنه لم يدرك مع الإمام ركعة كاملة، وهكذا لو قضى الثانية ثم علم أنه نسي سجدة لا يدري من أيهما تركها، أو شك في ذلك، فإنه يجعلها من الأولى، وتصير الثانية أولاه، فأما إن شك في إدراك الركوع مع الإمام، لم يعتد له بالركعة التي مع الإمام، وتصير ظهراً قولاً واحداً.
فصل:
الشرط الرابع: أن يتقدمها خطبتان؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب خطبتين يقعد بينهما» . متفق عليه. وقد قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» . وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إنما أقرت الجمعة ركعتين من أجل الخطبة. ومن شرط صحتها حضور العدد المشروط للصلاة؛ لأنه ذكر الاشتراط للصلاة واشترط له العدد، كتكبيرة الإحرام، فإن انفضوا وعادوا لم يطل الفصل صلى الجمعة؛ لأنه تفريق يسير، فلم يمنع، كالتفريق بين المجموعتين، ويشترط لهما الوقت لذلك، ويشترط الموالاة في الخطبتين، فإن فرق بين الخطبتين أو بين أجزاء الخطبة الواحدة أو بينهما وبين الصلاة، فأطال بطلت، فإن كان يسيراً بنى؛ لأنهما مع الصلاة كالمجموعتين، ويحتمل أن الموالاة ليست شرطاً؛ لأنه ذكر يتقدم الصلاة فلا يشترط الموالاة بينهما، كالأذان والإقامة ولا يشترط لهما الطهارة، نص عليه لذلك، ولأنها لو اشترطت لاشترط الاستقبال كالصلاة. وعنه: أنها شرط؛ لأنه ذكر شرط في الجمعة فأشبه تكبيرة الإحرام. ويشترط أن يتولاهما من يتولى الصلاة لذلك، لكن يجوز الاستخلاف في بعض الصلاة للعذر؛ لأنه إذا جاز الاستخلاف في بعض الصلاة للعذر ففي الصلاة بكمالها أولى، وعنه: ما يدل على جواز الاستخلاف لغير عذر، قال في الإمام يخطب يوم الجمعة، ويصلي الأمير بالناس: لا
الأمير الخطبة؛ لأنه لا يشترط اتصالها بها، فلم يشترط أن يتولاهما واحد، كصلاتين، وهل يشترط أن يكون الخليفة ممن حضر الخطبة؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا يشترط؛ لأنه لا يشترط في صحة جمعته حضور الخطبة إذا كان مأموماً، فكذلك إذا كان إماماً.
والثانية: يشترط لأنه إمام، فاشترط حضوره للخطبة، كما لو لم يستخلف.
فصل
وفروض الخطبة أربعة أشياء:
حمد الله تعالى؛ لأن جابراً قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب الناس، يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له» .
والثاني: الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن كل عبادة افتقرت إلى ذكر الله تعالى، افتقرت إلى ذكر رسوله، كالأذان.
الثالث: الموعظة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعظ، وهو القصد من الخطبة فلا يجوز الإخلال بها.
الرابع: قراءة آية؛ لأن جابر بن سمرة قال: «كانت صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصداً، وخطبته قصداً، يقرأ آيات من القرآن، ويذكر الناس» . رواه أبو داود والترمذي. ولأن الخطبة فرض في الجمعة، فوجبت فيها القراءة كالصلاة، وعن أحمد [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ما يدل على أنه لا يشترط قراءة آية، فإنه قال: القراءة في الخطبة على المنبر. ليس فيه شيء مؤقت ما شاء قرأ، وتشترط هذه الأربعة في الخطبتين؛ لأن ما وجب في إحداهما وجب في الأخرى كسائر الفروض.
فصل:
وسننها ثلاث عشرة:
أن يخطب على منبر أو موضع عال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب على منبره؛ ولأنه أبلغ في الإعلام.
الثاني: أن يسلم عقيب صعوده إذا أقبل عليهم؛ لأن جابراً قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صعد المنبر سلم عليهم» رواه ابن ماجه.
الثالث: أن يجلس إذا سلم عليهم؛ لأن ابن عمر قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس فلا يتكلم، ثم يقوم فيخطب» ، رواه أبو داود.
الرابع: أن يخطب قائماً؛ لأن جابر بن سمرة قال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب، فمن حدثك أنه كان يخطب جالساً، فقد كذب» ، رواه مسلم وأبو داود.
وليس ذلك بشرط؛ لأن المقصود يحصل بدونه.
الخامس: أن يجلس بينهما لما رويناه، وليس بواجب؛ لأنها جلسة للاستراحة، وليس فيها ذكر مشروع، فأشبهت الأولى.
السادس: أن يعتمد على سيف أو قوس أو عصا، لما روى الحكم بن حزن قال: «وفدت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فشهدنا معه الجمعة، فقام متوكئاً على سيف، أو قوس، أو عصا، فحمد الله وأثنى عليه بكلمات خفيفات طيبات مباركات» ، رواه أبو داود، ولأن ذلك أمكن له، فإن لم يكن معه شيء أمسك شماله بيمينه، أو أرسلهما عند جنبيه وسكنهما.
السابع: أن يقصد بلقاء وجهه؛ لأن في التفاته إلى أحد جانبيه إعراضاً عمن في الجانب الآخر.
الثامن: أن يرفع صوته؛ لأن جابراً قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه منذر جيش، يقول صبحكم ومساكم، ويقول: أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» رواه مسلم، ولأنه أبلغ في الإسماع.
التاسع: أن يكون في خطبته مترسلاً معرباً، مبيناً من غير عجلة ولا تمطيط؛ لأنه أبلغ وأحسن.
العاشر: تقصير الخطبة، لما روى عمار قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول:
«إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة وقصروا الخطبة» . رواه مسلم.
الحادي عشر: ترتيبها، يبدأ بالحمد لله، ثم بالصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم يعظ؛ لأنه أحسن والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبدأ بالحمد لله، وقال: «كل كلام ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر» .
الثاني عشر: أن يدعو للمسلمين؛ لأن الدعاء لهم مسنون، في غير الخطبة ففيها أولى وإن دعا للسلطان فحسن لأن صلاحه نفع للمسلمين، فالدعاء له دعاء لهم.
الثالث عشر: أن يؤذن لها إذا جلس الإمام على المنبر؛ لأن الله تعالى قال: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] ، يعني الأذان، قال السائب: «كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر، على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان، وكثر الناس زاد النداء الثالث» رواه البخاري. وهذا النداء الأوسط هو الذي يتعلق به وجوب السعي، وتحريم البيع؛ لأنه الذي كان مشروعاً حين نزول الآية، فتعلقت الأحكام به. ويسن الأذان الأول في أول الوقت؛ لأن عثمان سنه، وعملت به الأمة بعده، وهو مشروع للإعلام بالوقت، والثاني للإعلام بالخطبة، والإقامة للإعلام بقيام الصلاة.
فصل:
ولا يشترط للجمعة إذن الإمام؛ لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى بالناس، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - محصور، ولأنها من فرائض الأعيان، فلم يعتبر لها إذن الإمام، كالظهر. قال أحمد: وقعت الفتنة بالشام تسع سنين، فكانوا يجمعون لكن إن أمكن استئذانه فهو أكمل وأفضل، وعنه أنه شرط؛ لأنه لا يقيمها في كل عصر إلا الأئمة.
فصل:
وتصلى خلف كل بر وفاجر، لحديث جابر، ولأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، وتختص بإمام واحد، فتركها خلف الفاجر يفضي إلى الإخلال بها، فلم يجز ذلك كالجهاد، ولهذا أبيح فعلها في الطرق، ومواضع الغصب، صيانة لها عن الفوات.
فصل:
[و] إذا فرغ من الخطبة نزل، فأقيمت الصلاة فصلى بهم ركعتين، يقرأ في كل ركعة بالحمد لله وسورة معها، ويجهر بالقراءة للإجماع ونقل الخلف عن السلف. ومهما قرأ به بعد أم الكتاب فيها أجزأه، إلا أن المستحب أن يقرأ فيها بالجمعة والمنافقين، أو بسبح، والغاشية، لما روى أبو هريرة قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ بسورة الجمعة والمنافقين، في الجمعة» . وعن النعمان بن بشير قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في العيدين والجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] » رواهما مسلم.
فصل:
ومتى أمكن الغنى بجمعة واحدة في المصر لم يجز أكثر منها؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسيلم وخلفاءه لم يقيموا إلا جمعة واحدة، وإن احتيج إلى أكثر منها جاز؛ لأنها تفعل في الأمصار العظيمة في جوامع من غير نكير، فصار إجماعاً، ولأنها صلاة عيد جاز فعلها في موضعين مع الحاجة كغيرها، وإن استغنى بجمعتين لم تجز الثالثة. فإن صليت في موضعين من غير حاجة، وإحداهما جمعة الإمام فهي الصحيحة، ويحتمل أن السابقة هي الصحيحة؛ لأنه لم يتقدمها ما يفسدها، وبعد صحتها لا يفسدها ما بعدها، والأول أولى؛ لأن في تصحيح غير جمعة الإمام افتئاتاً عليه، وتبطيلاً لجمعته، ومتى أراد أربعون نفساً إفساد صلاة الإمام، والناس أمكنهم ذلك، فإن لم يكن لأحدهما مزية فالسابقة هي الصحيحة لما ذكرناه، وتفسد الثانية. وإن وقعتا معاً: فهما باطلتان؛ لأنه لا يمكن تصحيحهما، ولا تعيين إحداهما بالصحة فبطلتا، كما لو جمع بين أختين. وعليهم إقامة جمعة ثالثة؛ لأنه مصر لم تصل فيه جمعة صحيحة، وإن علم سبق إحداهما وجهلت، فعلى الجميع الظهر؛ لأن كل واحد لم يتيقن براءة ذمته من الصلاة، وليس لهم إقامة الجمعة لأن المصر قد صليت فيه جمعة صحيحة وإن جهل الحال، فسدتا. وهل لهم إقامة الجمعة؟ على وجهين:
أحدهما: لا يقيمونها للشك في شرط إقامتها.
والثاني: لهم ذلك؛ لأننا لم نعلم المانع من صحتها والأصل عدمه. وذكر القاضي وجهاً من إقامتها مع العلم بسبق إحداهما؛ لأنه لما تعذر تصحيح إحداهما بعينها صارت كالمعدومة. ولو أحرم بالجمعة فعلم أنها قد أقيمت في مكان آخر لم يكن له إتمامها.
وهل يبني عليها ظهراً أم يستأنفها؟ على وجهين:
أصحهما استئنافها؛ لأن ما مضى منها لم يكن جائزاً له فعله، ويعتبر السبق بالإحرام؛ لأنه متى أحرم بإحداهما حرم الإحرام بالأخرى للغنى عنها.
فصل:
ولا يجوز لمن تجب عليه الجمعة السفر بعد دخول وقتها؛ لأنه يتركها بعد وجوبها عليه، فلم يجز، كما لو تركها لتجارة إلا أن يخاف فوت الرفقة، فأما قبل الوقت فيجوز للجهاد، لما روى ابن عباس قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الله بن رواحة في سرية، فوافق ذلك يوم الجمعة، فقدم أصحابه وقال: أتخلف فأصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم ألحقهم. قال: فلما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رآه فقال: ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟ فقال: أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو أنفقت ما في الأرض ما
أدركت فضل غدوتهم» من " المسند " وهل يجوز لغير الجهاد؟ فيه روايتان:
إحداهما: يجوز؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الجمعة لا تحبس عن سفر، ولأنها لم تجب، فأشبه السفر من الليل.
والثانية: لا يجوز لما روى الدارقطني في الإفراد عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من سافر من دار إقامة يوم الجمعة دعت عليه الملائكة ألا يصحب في سفره» .
فصل:
ويجب السعي بالنداء الثاني لما ذكرنا، إلا لمن منزله في بعد، فعليه أن يسعى في الوقت الذي يكون به مدركاً للجمعة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ويستحب التبكير بالسعي، لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما
قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أملح، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» متفق عليه. وقال علقمة: خرجت
مع عبد الله يوم الجمعة، فوجد ثلاثة قد سبقوه فقال: رابع أربعة وما رابع أربعة ببعيد. ثم قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الناس يجلسون يوم القيامة على قدر رواحهم إلى الجمعة» رواه ابن ماجه. ويستحب أن يأتيها ماشياً ليكون أعظم للأجر، وعليه سكينة ووقار، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تأتوا الصلاة وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة والوقار» ، متفق عليه. ويقارب بين خطاه لتكثر حسناته.
فصل:
ويستحب أن يغتسل ويتطيب، ويتنظف بقطع الشعر، وقص الظفر، وإزالة الرائحة، لما روى أبو سعيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر بما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، ويمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» رواه البخاري. وعنه: أن الغسل واجب، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وسواك وأن يمس طيباً» رواه مسلم. والأول المذهب؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل الغسل أفضل» قال الترمذي: هذا حديث حسن، والخبر الأول أريد به تأكيد الاستحباب، ولذلك ذكر فيه السواك والطيب وليسا واجبين.
ووقت الغسل بعد الفجر لقوله: «يوم الجمعة» والأفضل فعله عند الرواح؛ لأنه أبلغ في المقصود. ولا يصح إلا بنيته؛ لأنه عبادة، فإن اغتسل للجمعة والجنابة أجزأه، وإن اغتسل للجنابة وحدها احتمل أن يجزئه، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة» ، ولأن المقصود التنظيف وهو حاصل، واحتمل أن لا يجزئه لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وليس للمرء من عمله إلا ما نواه» .
فصل:
وإذا أتى المسجد كره له أن يتخطى الناس، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ولم يفرق بين اثنين» إلا أن يكون إماماً ولا يجد طريقاً فلا بأس بالتخطي؛ لأنه موضع حاجة. ومن لم يجد موضعاً إلا فرجة، لا يصل إليها بتخطي الرجل والرجلين، فلا بأس. فإن
تركوا أول المسجد فارغاً وجلسوا دونه، فلا بأس بتخطيهم؛ لأنهم ضيعوا حق نفوسهم. وإن ازدحم الناس في المسجد وداخله اتساع فلم يجد الداخل لنفسه موضعاً، فعلم أنهم إذا قاموا تقدموا، وإن لم يرج ذلك فله تخطيهم؛ لأنه موضع حاجة.
وليس لأحد أن يقيم غيره ويجلس مكانه، لما روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقيم الرجل الرجل من مقعده ويجلس فيه» متفق عليه. وإن قام له رجل من مكانه وأجلسه فيه جاز؛ لأن الحق له، لكن إن كان المتنفل ينتقل إلى موضع أبعد من موضعه كره لما فيه من الإيثار بالقربة.
ولو قدم رجل غلامه فجلس في موضع فإذا جاء قام الغلام وجلس مكانه فلا بأس به. كان ابن سيرين يفعله. وإن فرش له مصلى لم يكن لغيره الجلوس عليه. وهل لغيره رفعه والجلوس في موضعه؟ فيه وجهان:
وإن قام الجالس من موضعه لحاجة ثم عاد إليه فهو أحق به، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به» رواه مسلم. وإن نعس فأمكنه التحول إلى مكان لا يتخطاه فيه أحد استحب له ذلك، لما روى ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا نعس أحدكم يوم الجمعة في مجلسه فليتحول إلى غيره» من المسند. وهو حديث صحيح.
فصل:
ويستحب الدنو من الإمام لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من غسل يوم الجمعة واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها» رواه ابن ماجه والنسائي. وإن حضر قبل الخطبة اشتغل بالتنفل، أو ذكر الله، وقراءة القرآن، ويكثر من الدعاء لعله يوافق ساعة الإجابة، ويكثر من الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويقرأ سورة الكهف؛ لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقي الفتنة» .
فصل:
فإذا جلس الإمام على المنبر انقطع التنفل، فإذا أخذ من الخطبة حرم الكلام،
لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب أنصت فقد لغوت» متفق عليه.
وروى ثعلبة بن مالك أنهم كانوا يتحدثون يوم الجمعة وعمر جالس على المنبر، فإذا سكت المؤذن، قام عمر ولم يتكلم أحد حتى يقضي الخطبتين، فإذا قامت الصلاة ونزل عمر تكلموا. وعنه: لا يحرم الكلام، لما روى أنس قال: «بينما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة، إذ قام رجل فقال: يا رسول الله، هلك الكراع هلك الشاء، فادع الله أن يسقينا» . وذكر الحديث. متفق عليه. والأول أولى، وهذا يحتمل أنه من تكليم الخطيب دون غيره لأنه لا يشتغل بتكليمه عن سماع خطبته. والبعيد والقريب سواء في ذلك. وقد روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إن للمنصت الذي لا يسمع من الخطبة مثل للسامع، إلا أن للبعيد أن يذكر الله ويقرأ القرآن سراً، وليس الجهر، ولا المذاكرة في
الفقه، «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الحلق يوم الجمعة والإمام يخطب» . وروى أبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة» ، ومن يسمع متكلماً لم ينهه بالقول: للخبر، ولكن يشير إليه، ويضع إصبعه على فيه، وإن وجب الكلام مثل تحذير ضرير شيئاً مخوفاً فعليه الكلام؛ لأنه لحق آدمي، فكان مقدماً على غيره، ومن سأله الإمام عن شيء فعليه إجابته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأل الداخل: أصليت فأجابه، وسأل عمر عثمان فأجابه، وفي رد السلام، وتشميت العاطس، روايتان:
إحداهما: يفعل لأنه لحق آدمي، فأشبه تحذير الضرير.
والأخرى: لا يفعله لأن المسلم سلم في غير موضعه، والتشميت سنة لا يترك لها الإنصات الواجب، ولا يتصدق على سائل والإمام يخطب، وإذا لم يسمع الخطبة، فلا بأس أن يشرب الماء.
فصل:
ولا يحرم الكلام على الخاطب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتكلم، وعمر سأل عثمان أية ساعة هذه؟ فإذا وصل الخطيب إلى الدعاء ففيه وجهان:
أحدهما: يباح الكلام؛ لأنه فرغ من الخطبة.
والثاني: لا يباح؛ لأنه قاطع للخطبة أشبه التطويل في الموعظة.
فصل:
ومن دخل والإمام يخطب لم يجلس حتى يركع ركعتين، يوجز فيهما، لما روى جابر قال: «دخل رجل والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قال: صليت يا فلان قال: لا، قال: فصل ركعتين» . متفق عليه. زاد مسلم ثم قال: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما» .
فصل:
ويسن أن يصلي بعد الجمعة أربعاً لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان منكم مصلياً بعد الجمعة فليصل بعدها أربعاً» رواه مسلم، وإن شاء صلى ركعتين، لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي بعد الجمعة ركعتين» ، متفق عليه، وإن شاء صلي ستاً لأن ابن عمر روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعله، ويستحب أن
يفصل بين الجمعة والركوع بكلام، أو رجوع إلى منزله، لما روى السائب بن يزيد قال: قال لي معاوية: «إذا صليت صلاة الجمعة فلا تصليها بصلاة حتى تتكلم، أو تخرج، قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا بذلك» ، رواه مسلم.
فصل:
ويستحب أن يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: {الم - تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} [السجدة: 1 - 2] و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] » رواه مسلم. قال أحمد: ولا أحب أن يداوم عليها، لئلا يظن الناس أنها مفضلة بسجدة.
فصل:
فإذا اتفق عيد في يوم جمعة فصلوا العيد لم تلزمهم الجمعة، ويصلون ظهراً لما روى زيد بن أرقم قال: «شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عيدين اجتمعا في يوم، فصلى العيد ثم رخص في الجمعة، فقال: من شاء أن يجمع فليجمع» . وعن أبي هريرة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون إن شاء الله» رواهما أبو داود.
وتجب الجمعة على الإمام لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا مجمعون» ولأن تركه لها منع لمن يريدها من الناس.
وعنه: لا تجب؛ لأن ابن الزبير لم يصلها وكان إماماً، ولأن الجمعة إذا سقطت عن المأمومين سقطت عن الإمام، كحالة السفر، فإن عجل الجمعة في وقت العيد أجزأته عن العيد والظهر، في ظاهر كلامه لما روى عطاء قال: اجتمع يوم جمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير، فقال: عيدان قد اجتمعا في يوم واحد، فجمعهما وصلاهما ركعتين، فلم يزد عليهما حتى صلى العصر، وبلغ فعله ابن عباس فقال: أصاب السنة.
وهي واجبة بالإجماع، وروى ابن ماجه عن جابر قال: خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «واعلموا أن الله قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا،
في عامي هذا إلى يوم القيامة، فمن تركها في حياتي أو بعدي، وله إمام عادل أو جائر استخفافًا بها أو جحودًا لها، فلا جمع الله له شمله، ولا بارك له في أمره» .
ولا تجب إلا على من اجتمعت فيه شرائط ثمانية: الإسلام، والبلوغ، والعقل؛ لأنها من شرائط التكاليف بالفروع، والذكورية، والحرية، والاستيطان، لما روى طارق بن شهاب قال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو مسافر، أو مريض» رواه أبو داود. ولأن المرأة ليست من أهل الجماعات، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفات يوم جمعة فلم يصل جمعة.
وفي العبد رواية أخرى أنها تجب عليه؛ لأنها فرض عين من الصلوات فوجبت عليه كالظهر، والأولى أولى للخبر؛ ولأن العبد مملوك المنفعة محبوس على سيده، أشبه المحبوس بدين.
السابع: انتفاء الأعذار المسقطة للجماعة.
الثامن: أن يكون مقيمًا بمكان الجمعة أو قريبًا منه، وتجب الجمعة على أهل المصر قريبهم وبعيدهم؛ لأن البلد كالشيء الواحد، وتجب على من بينه وبين الجامع فرسخ من غيرهم، ولا تجب على غيرهم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجمعة على من سمع النداء» رواه أبو داود. ولم يمكن اعتبار السماع بنفسه فاعتبر بمظنته، والموضع الذي يسمع منه النداء في الغالب، إذا كان المؤذن صيتًا بموضع عالٍ، والرياح ساكنة، والأصوات هادئة، والعوارض منتفية، فرسخ فاعتبرناه به.
فصل:
وهذه الشروط تنقسم أربعة أقسام:
أحدها: شرط للصحة والانعقاد، وهو: الإسلام والعقل، فلا تصح من كافر ولا مجنون، ولا تنعقد بهما؛ لأنهما ليسا من أهل العبادات.
الثاني: شرط للوجوب والانعقاد وهي: الحرية، والذكورية، والبلوغ، والاستيطان، فلا تنعقد الجمعة بمن عدمت فيه، ولا يصح إمامتهم فيها؛ لأنهم من غير أهل الوجوب، فلم تنعقد بهم كالنساء، وتصح منهم وتجزئهم عند الظهر، وحضورها لغير النساء أفضل؛ لأن سقوطها عنهم رخصة، فإذا تكلفوا فعلها أجزأتهم، كالمريض يتكلف الصلاة قائمًا.
الثالث: شرط الوجوب السعي فقط، وهو: انتفاء الأعذار، فلو تكلف المريض الحضور وجبت عليه، وانعقدت به؛ لأن سقوطها كان لدفع المشقة، فإذا حضرت زالت المشقة، فوجبت عليه، وانعقدت به كالصحيح.
الرابع: شرط الانعقاد حسب وهو: الإقامة بمكان الجمعة، فلو كان أهل القرية يسمعون النداء من المصر لزمهم حضورها، ولم تنعقد بهم، ولو خرج أهل المصر أو بعضهم إلى القرية لم تنعقد بهم الجمعة؛ لأنهم غير مستوطنين بها، والظاهر أنها تصح إمامتهم فيها؛ لأنهم من أهل الوجوب.
فصل:
والأفضل لمن لم تجب عليه الجمعة أن لا يصلي الظهر قبل صلاة الإمام؛ لأنه ربما زال عذره فلزمته الجمعة، فإن صلى، فقال أبو بكر: لا تصح صلاته لذلك، والصحيح أنها تصح؛ لأنه صلى فرضه، فلا يبطل بالاحتمال، كالمتيمم، فإن زال عذره فقياس المذهب أنه لا تلزمه الجمعة؛ لأنه أدى فرض الوقت، فأشبه المعضوب إذا حج عن نفسه ثم برئ، وإن لم يزل العذر فحضروها كانت لهم نفلًا؛ «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذر: فصلها معهم تكن لك نافلة» ولأن الأولى أسقطت الفرض، فأما من تجب عليه الجمعة إذا صلى الظهر قبل صلاة الإمام لم تصح؛ لأنه ما خوطب بالظهر، فإن فاتته الجمعة أعادها ظهرًا؛ لأنه خوطب بها حينئذ.
وإن اتفق أهل بلد على ترك الجمعة، وصلوا ظهرًا لم تصح لذلك، فإذا خرج وقت الجمعة لزمهم الجمعة لزمهم إعادة الظهر، ولا يكره لمن فاتته الجمعة أو لم يكن من أهل فرضها أن يصلي الظهر في جماعة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة»
...
متفق عليه. فإن خاف التهمة استحب إخفاؤها ليدفعها عن نفسه.
فصل:
ويشترط لصحة الجمعة أربعة شروط:
أحدها: الوقت، فلا تصح قبل وقتها ولا بعده بالإجماع، وآخر وقتها آخر وقت الظهر بغير خلاف، فأما أوله فذكر القاضي أنها تجوز في وقت العيد؛ لأن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في رواية عبد الله: يجوز أن يصلي الجمعة قبل الزوال، يذهب إلى أنها كصلاة العيد، لحديث وكيع، عن جعفر بن برقان، عن ثابت بن حجاج، عن عبد الله بن سيلان، قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر، فكانت صلاته وخطبته قبل انتصاف النهار، وشهدتها مع عمر بن الخطاب، فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: قد انتصف النهار، ثم صليتها مع عثمان بن عفان - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -، فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد زال النهار، فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره. وهذا نقل للإجماع. وعن جابر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الجمعة فنذهب إلى جمالنا فنزيحها حين تزول الشمس.» رواه مسلم؛ ولأنها صلاة عيد فأشبهت صلاة العيدين.
وقال الخرقي: تجوز في الساعة السادسة، وفي نسخة الخامسة، فمفهومه أنه لا يجوز قبل ذلك؛ لأن ما رويناه تختص به. والأفضل فعلها عند زوال الشمس صيفاً وشتاءً، لا يقدمها إلى موضوع الخلاف، ولا يؤخرها. فيشق على الناس؛ لما روى سلمة بن الأكوع قال: «كنا نجمع مع النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفيء» ، متفق عليه. فإن خرج الوقت وهم فيها، فقال أحمد: من أدرك التشهد أتمها جمعة، فظاهره أنه يعتبر الوقت في جميعها إلا السلام؛ لأن الوقت شرط، فيعتبر في جميعها كالوضوء، وقال الخرقي: إن دخل وقت العصر وقد صلوا ركعة أجزأتهم جمعة؛ لأنه شرط يختص بالجمعة، فلم يعتبر في الركعة الثانية كالجماعة في حق المسبوق، وإن أدرك أقل من ذلك فهل يتمها ظهراً أو يستأنف؟ على وجهين بناء على المسبوق، بأكثر من ركعة، وقال القاضي: متى تلبس بها في وقتها أتمها جمعة، قياساً على سائر الصلوات، فإن شرع فيها ثم شك في خروج الوقت أتمها جمعة؛ لأن الأصل بقاؤه، وإن ضاق الوقت عما يجري في الجمعة لم يكن لهم فعلها.
فصل:
الشرط الثاني: أن يكون في قرية مبنية بما جرت العادة ببناء القرى به، من حجر أو طين أو لبن أو قصب، مجتمعة البناء بما جرت به العادة في القرية الواحدة، يسكنها أربعون من أهل الجمعة سكنى إقامة، لا يظعنون عنها صيفاً ولا شتاءً، فأما أهل الخيام وبيوت الشعر فلا جمعة لهم؛ لأن ذلك لا ينصب للاستيطان، ولذلك كانت قبائل العرب حول المدينة، ولم يأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجمعة، وإن كانت قرية يسكن فيها بعض السنة دون بعضهم، أو متفرقة تفريقاً لم تجر به العادة، لم تصح فيها الجمعة، فإن اجتمعت هذه الشروط في القرية، وجبت الجمعة على أهلها، وصحت بها؛ لأن كعباً قال: أسعد بن زرارة أول من جمع بنا في هزم النبيت، من حرة بني بياضة، في نقيع يقال له: نقيع الخضمات. رواه أبو داود.
قال الخطابي: حرة بني بياضة على ميل من المدينة، ولأن هذا بناء استوطنه أربعون من أهل الجمعة، فوجبت عليهم كأهل مصر، وتجوز إقامة أهل الجمعة فيما قارب البنيان من الصحراء، لحديث أسعد بن زرارة. فإن خربت القرية، فلازموها عازمين على إصلاحها ومرمتها فحكمها باق، وإن عزموا على النقلة عنها زال الاستيطان.
فصل:
الشرط الثالث: اجتماع أربعين ممن تنعقد بهم الجمعة.
وعنه: تنعقد بثلاثة؛ لأنهم جمع تنعقد بهم الجماعة، وعنه بخمسين، والمذهب الأول؛ لأن جابراً قال: مضت السنة أن في كل أربعين فما فوقها جمعة. فينصرف إلى سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن انفضوا فلم يبق معه إلا أقل من أربعين لم يتمها جمعة؛ لأنه شرط، فاعتبر في جميع الصلاة كالطهارة، وهل يستأنف ظهراً أو يبني على صلاته؟ على وجهين، بناءً على المسبوق، وقياس المذهب، أنهم إن انفضوا بعد صلاة ركعة أتمها جمعة؛ لأنها شرط تختص الجمعة فلم يعتبر الركوع في أكثر من ركعة كالجماعة فيها.
فصل:
ولا يختلف المذهب أن المسبوق إذا أدرك مع الإمام الركوع في الثانية أنه يتمها جمعة، فإن أدرك أقل من ذلك لم يتمها جمعة، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة» متفق عليه. وفي لفظ: «فليضف إليها أخرى» فأما من أدرك أقل من ذلك فقال الخرقي: يبني على ظهر إذا كان
قد دخل بنية الظهر. فظاهر هذا أنه إن نوى جمعة لزمه الاستئناف؛ لأنهما صلاتان لا تتأدى إحداهما بنية أخرى، فلم يجز بناؤها عليها، كالظهر والعصر. وقال أبو إسحاق بن شاقلا: ينوي جمعة؛ لئلا يخالف بنيته نية إمامه، ثم يبني عليها ظهراً لأنهما فرض وقت واحد، ردت إحداهما من أربع إلى ركعتين فجاز أن يبني عليها الأربع، كالتامة مع المقصورة.
فصل:
من أحرم مع الإمام ثم زوحم عن السجود فأمكنه السجود على ظهر إنسان أو قدمه لزمه. لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إذا اشتد الزحام فليسجد على ظهر أخيه أو قدمه. رواه الطيالسي. ولأنه يأتي بما يمكنه حال العجز فوجب وصح، كالمريض يومئ، فإن لم يمكنه ذلك انتظر زوال الزحام، ثم يسجد ويتبع الإمام؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أصحابه بذلك في صلاة عسفان للعذر، والعذر ههنا قائم، وكذلك إن تعذر عليه السجود لعذر من مرض أو نوم أو سهو. فإن خاف فوات الركوع مع إمامه لزمه متابعته وترك السجود لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن ركع فاركعوا» ولأنه مأموم خاف فوات الركعة فلزمه متابعة إمامه، كالمسبوق فيركع مع إمامه، وتبطل الأولى. وتصير الثانية أولاه. فإن سجد وترك متابعة إمامه بطلت صلاته، إن علم تحريم ذلك؛ لأنه ترك الواجب عمداً، وإن لم يكن يعلم تحريمه، لم تبطل صلاته، ولم يعتد بسجوده؛ لأنه أتى به في موضع الركوع جهلاً فهو كالساهي.
وقال أبو الخطاب: يعتد بسجوده ويتم ركعته الأولى، فإن أدرك الركوع أيضاً صحت له الركعتان وإن فاته الركوع، فاتته الثانية وحدها فيقضيها بعد سلام إمامه، وتصح جمعته، قال: ويسجد للسهو، وقال القاضي: هو كمن لم يسجد، فإن أدرك الركوع صحت الثانية وحدها، وإن فاته الركوع وأدرك معه السجدتين سجدهما للركعة الأولى، وصحت له ركعة، ويقضي ركعة، وتمت جمعته لإدراكه ركعة، وإن فاتته السجدتان أو إحداهما قضى ذلك بعد سلام إمامه، فتصح له ركعة، وكذا لو ترك سجدتي الأولى، خوفاً من فوات ركوع الثانية فركع معه، وزوحم عن سجدتي الثانية فأمكنه السجود في التشهد سجد، وإن لم يمكنه سجد بعد سلام الإمام وصحت له ركعة ومثلها: لو كان مسبوقاً بالأولى وزوحم عن سجود الثانية، وهل يكون مدركاً للجمعة في كل موضع لم يتم له ركعة إلا بعد سلام إمامه؟ على روايتين:
إحداهما: يكون مدركاً لها؛ لأنه قد يحرم بالصلاة مع الإمام، أشبه ما لو ركع وسجد معه.
والثانية: لا جمعة له؛ لأنه لم يدرك مع إمامه ركعة، فأشبه المسبوق بركوع الثانية، وعلى هذه الرواية هل يستأنف أو يتمها ظهراً على وجهين.
وإن أحرم مع الإمام فزوحم، وأخرج من الصف فصلى فذاً، لم تصح صلاته، وإن صلى ركعة وأخرج من الثانية، فأتمها وحده ففيه روايتان:
إحداهما: يتمها جمعة؛ لأنه أدرك مع إمامه ركعة، فأشبه المسبوق.
والثانية: يعيد لأنه فذ في ركعة كاملة. فإن أدرك مع الإمام ركعة، وقام ليقضي، فذكر أنه لم يسجد إلا سجدة واحدة، أو شك في إحدى السجدتين، لزمه أن يرجع إن لم يكن شرع في قراءة الثانية، فيأتي بما ترك، ثم يقضي ركعة أخرى، ويتمها جمعة. نص عليه، وإن ذكر بعد شروعه في قراءة الثانية بطلت الأولى، وصارت الثانية أولاه، ويتمها جمعة على المنصوص، وفيه وجه آخر أنه لا تحصل له الجمعة؛ لأنه لم يدرك مع الإمام ركعة كاملة، وهكذا لو قضى الثانية ثم علم أنه نسي سجدة لا يدري من أيهما تركها، أو شك في ذلك، فإنه يجعلها من الأولى، وتصير الثانية أولاه، فأما إن شك في إدراك الركوع مع الإمام، لم يعتد له بالركعة التي مع الإمام، وتصير ظهراً قولاً واحداً.
فصل:
الشرط الرابع: أن يتقدمها خطبتان؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب خطبتين يقعد بينهما» . متفق عليه. وقد قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» . وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إنما أقرت الجمعة ركعتين من أجل الخطبة. ومن شرط صحتها حضور العدد المشروط للصلاة؛ لأنه ذكر الاشتراط للصلاة واشترط له العدد، كتكبيرة الإحرام، فإن انفضوا وعادوا لم يطل الفصل صلى الجمعة؛ لأنه تفريق يسير، فلم يمنع، كالتفريق بين المجموعتين، ويشترط لهما الوقت لذلك، ويشترط الموالاة في الخطبتين، فإن فرق بين الخطبتين أو بين أجزاء الخطبة الواحدة أو بينهما وبين الصلاة، فأطال بطلت، فإن كان يسيراً بنى؛ لأنهما مع الصلاة كالمجموعتين، ويحتمل أن الموالاة ليست شرطاً؛ لأنه ذكر يتقدم الصلاة فلا يشترط الموالاة بينهما، كالأذان والإقامة ولا يشترط لهما الطهارة، نص عليه لذلك، ولأنها لو اشترطت لاشترط الاستقبال كالصلاة. وعنه: أنها شرط؛ لأنه ذكر شرط في الجمعة فأشبه تكبيرة الإحرام. ويشترط أن يتولاهما من يتولى الصلاة لذلك، لكن يجوز الاستخلاف في بعض الصلاة للعذر؛ لأنه إذا جاز الاستخلاف في بعض الصلاة للعذر ففي الصلاة بكمالها أولى، وعنه: ما يدل على جواز الاستخلاف لغير عذر، قال في الإمام يخطب يوم الجمعة، ويصلي الأمير بالناس: لا
الأمير الخطبة؛ لأنه لا يشترط اتصالها بها، فلم يشترط أن يتولاهما واحد، كصلاتين، وهل يشترط أن يكون الخليفة ممن حضر الخطبة؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا يشترط؛ لأنه لا يشترط في صحة جمعته حضور الخطبة إذا كان مأموماً، فكذلك إذا كان إماماً.
والثانية: يشترط لأنه إمام، فاشترط حضوره للخطبة، كما لو لم يستخلف.
فصل
وفروض الخطبة أربعة أشياء:
حمد الله تعالى؛ لأن جابراً قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب الناس، يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له» .
والثاني: الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن كل عبادة افتقرت إلى ذكر الله تعالى، افتقرت إلى ذكر رسوله، كالأذان.
الثالث: الموعظة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعظ، وهو القصد من الخطبة فلا يجوز الإخلال بها.
الرابع: قراءة آية؛ لأن جابر بن سمرة قال: «كانت صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصداً، وخطبته قصداً، يقرأ آيات من القرآن، ويذكر الناس» . رواه أبو داود والترمذي. ولأن الخطبة فرض في الجمعة، فوجبت فيها القراءة كالصلاة، وعن أحمد [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ما يدل على أنه لا يشترط قراءة آية، فإنه قال: القراءة في الخطبة على المنبر. ليس فيه شيء مؤقت ما شاء قرأ، وتشترط هذه الأربعة في الخطبتين؛ لأن ما وجب في إحداهما وجب في الأخرى كسائر الفروض.
فصل:
وسننها ثلاث عشرة:
أن يخطب على منبر أو موضع عال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب على منبره؛ ولأنه أبلغ في الإعلام.
الثاني: أن يسلم عقيب صعوده إذا أقبل عليهم؛ لأن جابراً قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صعد المنبر سلم عليهم» رواه ابن ماجه.
الثالث: أن يجلس إذا سلم عليهم؛ لأن ابن عمر قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس فلا يتكلم، ثم يقوم فيخطب» ، رواه أبو داود.
الرابع: أن يخطب قائماً؛ لأن جابر بن سمرة قال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب، فمن حدثك أنه كان يخطب جالساً، فقد كذب» ، رواه مسلم وأبو داود.
وليس ذلك بشرط؛ لأن المقصود يحصل بدونه.
الخامس: أن يجلس بينهما لما رويناه، وليس بواجب؛ لأنها جلسة للاستراحة، وليس فيها ذكر مشروع، فأشبهت الأولى.
السادس: أن يعتمد على سيف أو قوس أو عصا، لما روى الحكم بن حزن قال: «وفدت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فشهدنا معه الجمعة، فقام متوكئاً على سيف، أو قوس، أو عصا، فحمد الله وأثنى عليه بكلمات خفيفات طيبات مباركات» ، رواه أبو داود، ولأن ذلك أمكن له، فإن لم يكن معه شيء أمسك شماله بيمينه، أو أرسلهما عند جنبيه وسكنهما.
السابع: أن يقصد بلقاء وجهه؛ لأن في التفاته إلى أحد جانبيه إعراضاً عمن في الجانب الآخر.
الثامن: أن يرفع صوته؛ لأن جابراً قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه منذر جيش، يقول صبحكم ومساكم، ويقول: أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» رواه مسلم، ولأنه أبلغ في الإسماع.
التاسع: أن يكون في خطبته مترسلاً معرباً، مبيناً من غير عجلة ولا تمطيط؛ لأنه أبلغ وأحسن.
العاشر: تقصير الخطبة، لما روى عمار قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول:
«إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة وقصروا الخطبة» . رواه مسلم.
الحادي عشر: ترتيبها، يبدأ بالحمد لله، ثم بالصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم يعظ؛ لأنه أحسن والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبدأ بالحمد لله، وقال: «كل كلام ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر» .
الثاني عشر: أن يدعو للمسلمين؛ لأن الدعاء لهم مسنون، في غير الخطبة ففيها أولى وإن دعا للسلطان فحسن لأن صلاحه نفع للمسلمين، فالدعاء له دعاء لهم.
الثالث عشر: أن يؤذن لها إذا جلس الإمام على المنبر؛ لأن الله تعالى قال: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] ، يعني الأذان، قال السائب: «كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر، على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان، وكثر الناس زاد النداء الثالث» رواه البخاري. وهذا النداء الأوسط هو الذي يتعلق به وجوب السعي، وتحريم البيع؛ لأنه الذي كان مشروعاً حين نزول الآية، فتعلقت الأحكام به. ويسن الأذان الأول في أول الوقت؛ لأن عثمان سنه، وعملت به الأمة بعده، وهو مشروع للإعلام بالوقت، والثاني للإعلام بالخطبة، والإقامة للإعلام بقيام الصلاة.
فصل:
ولا يشترط للجمعة إذن الإمام؛ لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى بالناس، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - محصور، ولأنها من فرائض الأعيان، فلم يعتبر لها إذن الإمام، كالظهر. قال أحمد: وقعت الفتنة بالشام تسع سنين، فكانوا يجمعون لكن إن أمكن استئذانه فهو أكمل وأفضل، وعنه أنه شرط؛ لأنه لا يقيمها في كل عصر إلا الأئمة.
فصل:
وتصلى خلف كل بر وفاجر، لحديث جابر، ولأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، وتختص بإمام واحد، فتركها خلف الفاجر يفضي إلى الإخلال بها، فلم يجز ذلك كالجهاد، ولهذا أبيح فعلها في الطرق، ومواضع الغصب، صيانة لها عن الفوات.
فصل:
[و] إذا فرغ من الخطبة نزل، فأقيمت الصلاة فصلى بهم ركعتين، يقرأ في كل ركعة بالحمد لله وسورة معها، ويجهر بالقراءة للإجماع ونقل الخلف عن السلف. ومهما قرأ به بعد أم الكتاب فيها أجزأه، إلا أن المستحب أن يقرأ فيها بالجمعة والمنافقين، أو بسبح، والغاشية، لما روى أبو هريرة قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ بسورة الجمعة والمنافقين، في الجمعة» . وعن النعمان بن بشير قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في العيدين والجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] » رواهما مسلم.
فصل:
ومتى أمكن الغنى بجمعة واحدة في المصر لم يجز أكثر منها؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسيلم وخلفاءه لم يقيموا إلا جمعة واحدة، وإن احتيج إلى أكثر منها جاز؛ لأنها تفعل في الأمصار العظيمة في جوامع من غير نكير، فصار إجماعاً، ولأنها صلاة عيد جاز فعلها في موضعين مع الحاجة كغيرها، وإن استغنى بجمعتين لم تجز الثالثة. فإن صليت في موضعين من غير حاجة، وإحداهما جمعة الإمام فهي الصحيحة، ويحتمل أن السابقة هي الصحيحة؛ لأنه لم يتقدمها ما يفسدها، وبعد صحتها لا يفسدها ما بعدها، والأول أولى؛ لأن في تصحيح غير جمعة الإمام افتئاتاً عليه، وتبطيلاً لجمعته، ومتى أراد أربعون نفساً إفساد صلاة الإمام، والناس أمكنهم ذلك، فإن لم يكن لأحدهما مزية فالسابقة هي الصحيحة لما ذكرناه، وتفسد الثانية. وإن وقعتا معاً: فهما باطلتان؛ لأنه لا يمكن تصحيحهما، ولا تعيين إحداهما بالصحة فبطلتا، كما لو جمع بين أختين. وعليهم إقامة جمعة ثالثة؛ لأنه مصر لم تصل فيه جمعة صحيحة، وإن علم سبق إحداهما وجهلت، فعلى الجميع الظهر؛ لأن كل واحد لم يتيقن براءة ذمته من الصلاة، وليس لهم إقامة الجمعة لأن المصر قد صليت فيه جمعة صحيحة وإن جهل الحال، فسدتا. وهل لهم إقامة الجمعة؟ على وجهين:
أحدهما: لا يقيمونها للشك في شرط إقامتها.
والثاني: لهم ذلك؛ لأننا لم نعلم المانع من صحتها والأصل عدمه. وذكر القاضي وجهاً من إقامتها مع العلم بسبق إحداهما؛ لأنه لما تعذر تصحيح إحداهما بعينها صارت كالمعدومة. ولو أحرم بالجمعة فعلم أنها قد أقيمت في مكان آخر لم يكن له إتمامها.
وهل يبني عليها ظهراً أم يستأنفها؟ على وجهين:
أصحهما استئنافها؛ لأن ما مضى منها لم يكن جائزاً له فعله، ويعتبر السبق بالإحرام؛ لأنه متى أحرم بإحداهما حرم الإحرام بالأخرى للغنى عنها.
فصل:
ولا يجوز لمن تجب عليه الجمعة السفر بعد دخول وقتها؛ لأنه يتركها بعد وجوبها عليه، فلم يجز، كما لو تركها لتجارة إلا أن يخاف فوت الرفقة، فأما قبل الوقت فيجوز للجهاد، لما روى ابن عباس قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الله بن رواحة في سرية، فوافق ذلك يوم الجمعة، فقدم أصحابه وقال: أتخلف فأصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم ألحقهم. قال: فلما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رآه فقال: ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟ فقال: أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو أنفقت ما في الأرض ما
أدركت فضل غدوتهم» من " المسند " وهل يجوز لغير الجهاد؟ فيه روايتان:
إحداهما: يجوز؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الجمعة لا تحبس عن سفر، ولأنها لم تجب، فأشبه السفر من الليل.
والثانية: لا يجوز لما روى الدارقطني في الإفراد عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من سافر من دار إقامة يوم الجمعة دعت عليه الملائكة ألا يصحب في سفره» .
فصل:
ويجب السعي بالنداء الثاني لما ذكرنا، إلا لمن منزله في بعد، فعليه أن يسعى في الوقت الذي يكون به مدركاً للجمعة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ويستحب التبكير بالسعي، لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما
قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أملح، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» متفق عليه. وقال علقمة: خرجت
مع عبد الله يوم الجمعة، فوجد ثلاثة قد سبقوه فقال: رابع أربعة وما رابع أربعة ببعيد. ثم قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الناس يجلسون يوم القيامة على قدر رواحهم إلى الجمعة» رواه ابن ماجه. ويستحب أن يأتيها ماشياً ليكون أعظم للأجر، وعليه سكينة ووقار، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تأتوا الصلاة وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة والوقار» ، متفق عليه. ويقارب بين خطاه لتكثر حسناته.
فصل:
ويستحب أن يغتسل ويتطيب، ويتنظف بقطع الشعر، وقص الظفر، وإزالة الرائحة، لما روى أبو سعيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر بما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، ويمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» رواه البخاري. وعنه: أن الغسل واجب، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وسواك وأن يمس طيباً» رواه مسلم. والأول المذهب؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل الغسل أفضل» قال الترمذي: هذا حديث حسن، والخبر الأول أريد به تأكيد الاستحباب، ولذلك ذكر فيه السواك والطيب وليسا واجبين.
ووقت الغسل بعد الفجر لقوله: «يوم الجمعة» والأفضل فعله عند الرواح؛ لأنه أبلغ في المقصود. ولا يصح إلا بنيته؛ لأنه عبادة، فإن اغتسل للجمعة والجنابة أجزأه، وإن اغتسل للجنابة وحدها احتمل أن يجزئه، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة» ، ولأن المقصود التنظيف وهو حاصل، واحتمل أن لا يجزئه لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وليس للمرء من عمله إلا ما نواه» .
فصل:
وإذا أتى المسجد كره له أن يتخطى الناس، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ولم يفرق بين اثنين» إلا أن يكون إماماً ولا يجد طريقاً فلا بأس بالتخطي؛ لأنه موضع حاجة. ومن لم يجد موضعاً إلا فرجة، لا يصل إليها بتخطي الرجل والرجلين، فلا بأس. فإن
تركوا أول المسجد فارغاً وجلسوا دونه، فلا بأس بتخطيهم؛ لأنهم ضيعوا حق نفوسهم. وإن ازدحم الناس في المسجد وداخله اتساع فلم يجد الداخل لنفسه موضعاً، فعلم أنهم إذا قاموا تقدموا، وإن لم يرج ذلك فله تخطيهم؛ لأنه موضع حاجة.
وليس لأحد أن يقيم غيره ويجلس مكانه، لما روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقيم الرجل الرجل من مقعده ويجلس فيه» متفق عليه. وإن قام له رجل من مكانه وأجلسه فيه جاز؛ لأن الحق له، لكن إن كان المتنفل ينتقل إلى موضع أبعد من موضعه كره لما فيه من الإيثار بالقربة.
ولو قدم رجل غلامه فجلس في موضع فإذا جاء قام الغلام وجلس مكانه فلا بأس به. كان ابن سيرين يفعله. وإن فرش له مصلى لم يكن لغيره الجلوس عليه. وهل لغيره رفعه والجلوس في موضعه؟ فيه وجهان:
وإن قام الجالس من موضعه لحاجة ثم عاد إليه فهو أحق به، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به» رواه مسلم. وإن نعس فأمكنه التحول إلى مكان لا يتخطاه فيه أحد استحب له ذلك، لما روى ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا نعس أحدكم يوم الجمعة في مجلسه فليتحول إلى غيره» من المسند. وهو حديث صحيح.
فصل:
ويستحب الدنو من الإمام لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من غسل يوم الجمعة واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها» رواه ابن ماجه والنسائي. وإن حضر قبل الخطبة اشتغل بالتنفل، أو ذكر الله، وقراءة القرآن، ويكثر من الدعاء لعله يوافق ساعة الإجابة، ويكثر من الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويقرأ سورة الكهف؛ لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقي الفتنة» .
فصل:
فإذا جلس الإمام على المنبر انقطع التنفل، فإذا أخذ من الخطبة حرم الكلام،
لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب أنصت فقد لغوت» متفق عليه.
وروى ثعلبة بن مالك أنهم كانوا يتحدثون يوم الجمعة وعمر جالس على المنبر، فإذا سكت المؤذن، قام عمر ولم يتكلم أحد حتى يقضي الخطبتين، فإذا قامت الصلاة ونزل عمر تكلموا. وعنه: لا يحرم الكلام، لما روى أنس قال: «بينما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة، إذ قام رجل فقال: يا رسول الله، هلك الكراع هلك الشاء، فادع الله أن يسقينا» . وذكر الحديث. متفق عليه. والأول أولى، وهذا يحتمل أنه من تكليم الخطيب دون غيره لأنه لا يشتغل بتكليمه عن سماع خطبته. والبعيد والقريب سواء في ذلك. وقد روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إن للمنصت الذي لا يسمع من الخطبة مثل للسامع، إلا أن للبعيد أن يذكر الله ويقرأ القرآن سراً، وليس الجهر، ولا المذاكرة في
الفقه، «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الحلق يوم الجمعة والإمام يخطب» . وروى أبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة» ، ومن يسمع متكلماً لم ينهه بالقول: للخبر، ولكن يشير إليه، ويضع إصبعه على فيه، وإن وجب الكلام مثل تحذير ضرير شيئاً مخوفاً فعليه الكلام؛ لأنه لحق آدمي، فكان مقدماً على غيره، ومن سأله الإمام عن شيء فعليه إجابته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأل الداخل: أصليت فأجابه، وسأل عمر عثمان فأجابه، وفي رد السلام، وتشميت العاطس، روايتان:
إحداهما: يفعل لأنه لحق آدمي، فأشبه تحذير الضرير.
والأخرى: لا يفعله لأن المسلم سلم في غير موضعه، والتشميت سنة لا يترك لها الإنصات الواجب، ولا يتصدق على سائل والإمام يخطب، وإذا لم يسمع الخطبة، فلا بأس أن يشرب الماء.
فصل:
ولا يحرم الكلام على الخاطب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتكلم، وعمر سأل عثمان أية ساعة هذه؟ فإذا وصل الخطيب إلى الدعاء ففيه وجهان:
أحدهما: يباح الكلام؛ لأنه فرغ من الخطبة.
والثاني: لا يباح؛ لأنه قاطع للخطبة أشبه التطويل في الموعظة.
فصل:
ومن دخل والإمام يخطب لم يجلس حتى يركع ركعتين، يوجز فيهما، لما روى جابر قال: «دخل رجل والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قال: صليت يا فلان قال: لا، قال: فصل ركعتين» . متفق عليه. زاد مسلم ثم قال: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما» .
فصل:
ويسن أن يصلي بعد الجمعة أربعاً لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان منكم مصلياً بعد الجمعة فليصل بعدها أربعاً» رواه مسلم، وإن شاء صلى ركعتين، لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي بعد الجمعة ركعتين» ، متفق عليه، وإن شاء صلي ستاً لأن ابن عمر روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعله، ويستحب أن
يفصل بين الجمعة والركوع بكلام، أو رجوع إلى منزله، لما روى السائب بن يزيد قال: قال لي معاوية: «إذا صليت صلاة الجمعة فلا تصليها بصلاة حتى تتكلم، أو تخرج، قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا بذلك» ، رواه مسلم.
فصل:
ويستحب أن يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: {الم - تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} [السجدة: 1 - 2] و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] » رواه مسلم. قال أحمد: ولا أحب أن يداوم عليها، لئلا يظن الناس أنها مفضلة بسجدة.
فصل:
فإذا اتفق عيد في يوم جمعة فصلوا العيد لم تلزمهم الجمعة، ويصلون ظهراً لما روى زيد بن أرقم قال: «شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عيدين اجتمعا في يوم، فصلى العيد ثم رخص في الجمعة، فقال: من شاء أن يجمع فليجمع» . وعن أبي هريرة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون إن شاء الله» رواهما أبو داود.
وتجب الجمعة على الإمام لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا مجمعون» ولأن تركه لها منع لمن يريدها من الناس.
وعنه: لا تجب؛ لأن ابن الزبير لم يصلها وكان إماماً، ولأن الجمعة إذا سقطت عن المأمومين سقطت عن الإمام، كحالة السفر، فإن عجل الجمعة في وقت العيد أجزأته عن العيد والظهر، في ظاهر كلامه لما روى عطاء قال: اجتمع يوم جمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير، فقال: عيدان قد اجتمعا في يوم واحد، فجمعهما وصلاهما ركعتين، فلم يزد عليهما حتى صلى العصر، وبلغ فعله ابن عباس فقال: أصاب السنة.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب صلاة العيدين]
[باب صلاة العيدين]
وهي فرض على الكفاية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء بعده كانوا يداومون عليها، ولأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، فكانت فرضاً كالجهاد، ولا تجب على الأعيان؛ لأن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر للأعرابي خمس صلوات فقال: هل علي غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع» متفق عليه.
فإن اتفق أهل بلد على تركها قاتلهم الإمام، لتركهم شعائر الإسلام الظاهرة، فأشبه تركهم الأذان. ويشترط لوجوبها ما يشترط للجمعة؛ لأنها صلاة عيد، فأشبهت الجمعة، ولا يشترط لصحتها الاستيطان، ولا العدد؛ لأن أنساً كان إذا لم يشهد العيد مع الإمام جمع أهله ومواليه، ثم قام عبد الله بن أبي عتبة مولاه فصلى بهم ركعتين يكبر فيهما ولأنهما من حق من انتفت فيه شروط الوجوب تطوع، فلم يشترط لها ذلك كسائر التطوع، وقال القاضي: كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقتضي أن في اشتراط الاستيطان والعدد وإذن الإمام روايتين.
فصل:
ووقتها من حين ترتفع الشمس وتزول وقت النهي إلى الزوال، فإن لم يعلم بها إلا بعد الزوال خرج من الغد فصلى بهم، لما روى أبو عمير بن أنس عن عمومة له من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أن ركباً جاؤوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا فإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم» ، رواه أبو داود. ويسن تقديم الأضحى وتأخير الفطر، لما روى عمرو بن حزم «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقدم الأضحى ويؤخر الفطر» ، ولأن السنة إخراج الفطرة قبل الصلاة، ففي تأخير الصلاة توسيع لوقتها، ولا تجوز التضحية إلا بعد الصلاة، ففي تعجيلها مبادرة إلى الأضحية.
فصل:
ويسن أن يأكل في الفطر قبل الصلاة، ويمسك في الأضحى حتى يصلي لما روى بريدة قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر، ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي» ، رواه الترمذي، ويفطر على تمرات وتر، لما روى أنس قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات» . رواه البخاري وفي لفظ: «ويأكلهن وتراً» .
فصل:
والسنة أن يصليها في المصلى؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء بعده كانوا يفعلونها فيه، ويستحب أن يستخلف على ضعفة الناس من يصلي بهم في الجامع لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استخلف أبا مسعود البدري، يصلي بضعفة الناس في المسجد، وهل يصلي المستخلف ركعتين أو أربعاً، على روايتين بناء على اختلاف الروايات في فعل أبي مسعود وقد روي أنه صلى بهم ركعتين وروي أنه صلى بهم أربعاً، وإن كان عذر من
مطر أو نحوه صلى في المسجد، لما روى أبو هريرة قال: «أصابنا مطر في يوم عيد، فصلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد» . رواه أبو داود.
فصل:
ويسن الاغتسال للعيد، والطيب والتنظيف والسواك، وأن يلبس أحسن ثيابه، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في جمعة من الجمع: «إن هذا يوم جعله الله عيداً للمسلمين فاغتسلوا ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه، وعليكم بالسواك» فعلل ذلك بأنه يوم عيد، ولأن هذا اليوم يشرع فيه الاجتماع للصلاة، فأشبه الجمعة، وقد روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتم، ويلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة» رواه ابن عبد البر. إلا أن المعتكف يستحب له الخروج في ثياب اعتكافه، ليبقى عليه أثر العبادة.
فصل:
ويستحب أن يبكر إليها المأموم، ماشياً مظهراً للتكبير؛ لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: من السنة أن يأتي العيد ماشياً. رواه الترمذي وقال، حديث حسن ولأنه أعظم للأجر، ويتأخر الإمام إلى وقت الصلاة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعله، ولأن الإمام ينتظر ولا ينتظر، وإذا غدا من طريق رجع من غيره؛ لأن جابراً قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان يوم عيد خالف الطريق.» رواه البخاري.
فصل:
قال ابن حامد: ويستحب خروج النساء، لما روت أم عطية قالت: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نخرجهن في الفطر والأضحى، العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن المصلى، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين» . متفق عليه. قال القاضي: وظاهر كلام أحمد أن ذلك جائز غير مستحب، ولا يلبسن ثوب شهرة، ولا يتطيبن لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وليخرجن تفلات» .
فصل:
وليس لها أذان ولا إقامة لما روى عطاء قال: أخبرني جابر «أن لا أذان للصلاة يوم الفطر ولا إقامة ولا نداء، ولا شيء لا نداء يومئذ ولا إقامة» ، متفق عليه. وقال جابر بن سمرة: «صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العيد غير مرة ولا مرتين بلا أذان ولا إقامة» . رواه مسلم.
فصل:
وصلاة العيد ركعتان، يقرأ في كل ركعة منهما بالحمد لله وسورة، ويجهر بالقراءة
بلا خلاف، قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد خاب من افترى» . رواه الإمام أحمد في " المسند ". ويسن أن يقرأ فيهما بسبح و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] لحديث النعمان بن بشير. ومهما قرأ أجزأه، ويكبر في الأولى سبع تكبيرات منها تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمساً سوى تكبيرة القيام، لما روت عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التكبير في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات سوى تكبيرتي الركوع» رواه أبو داود.
واعتددنا بتكبيرة الإحرام لأنها في حال القيام، ولم نعتد بتكبيرة القيام لأنها قبله.
ويسن أن يرفع يديه في كل تكبيرة، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة في الجنازة وفي العيد. رواه الأثرم. ويحمد الله، ويثني عليه، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين كل تكبيرتين، وإن أحب قال: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وصلى الله على محمد النبي الأمي وآله وسلم تسليماً؛ لأنه يجمع بين ما ذكرناه.
وموضع التكبير بين الاستفتاح، وقبل الاستعاذة والقراءة في الركعتين. وعنه: أنه قبل الاستفتاح أيضاً اختارها الخلال وصاحبه، والأول أولى؛ لأن الاستفتاح لافتتاح الصلاة، فيكون في أولها، والاستعاذة للقراءة فتكون في أولها. وعنه: أنه يوالي بين القراءتين، يجعلها في الأولى بعد التكبير، وفي الثانية قبله، لما روى علقمة أن عبد الله بن مسعود وأبا موسى وحذيفة خرج عليهم الوليد بن عقبة قبل العيد يوماً فقال لهم: إن هذا العيد قد دنا فكيف التكبير فيه؟ فقال عبد الله: تبدأ وتكبر تكبيرة تفتتح بها الصلاة، وتحمد ربك، وتصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم تدعو وتكبر، إلى أن قال: وتركع، ثم تقوم فتقرأ وتحمد ربك،. وذكر الحديث. قال أبو موسى وحذيفة صدق. ووجه الأولى أنه تكبير في إحدى ركعتي العيد فكان قبل القراءة كالأولى.
فصل:
وتكبيرات العيد الزوائد والذكر بينها سنة لا يؤثر تركها عمداً، وإن والى بين التكبير كان جائزاً، وإن نسي التكبير حتى شرع في القراءة، لم يعد إليه لأنه سنة فلا يعود إليها بعد شروعه في القراءة كالاستفتاح.
فصل:
فإذا سلم خطب خطبتين كخطبتي الجمعة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل ذلك. ويفارق خطبتي الجمعة في أربعة أشياء:
أحدها: أن محلها بعد الصلاة، لما روى ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة» . متفق عليه.
الثاني: أنه يسن أن يستفتح الأولى بتسع تكبيرات متواليات، والثانية بسبع، ويكثر التكبير في أضعاف الخطبة، لما روى سعد مؤذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر بين أضعاف الخطبة، يكثر التكبير بن خطبتي العيدين» .
الثالث: أن يحثهم في الفطر على إخراج الفطر، ويبين لهم ما يخرجونه ووقته وجنسه، وفي الأضحى يرغبهم في الأضحية، ويبين لهم ما يجزئ فيها، ووقت ذبحها، ويحثهم على الإطعام منها؛ لأنه وقت هذا النسك فيشرع تبيينه.
الربع: أنهما سنة لا يجب استماعهما ولا الإنصات لهما، لما روى عبد الله بن السائب قال: «شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العيد، فلما قضى الصلاة قال: إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب» رواه أبو داود. ويستحب أن يجلس عقيب صعوده ليستريح، وقيل: لا يجلس؛ لأن الجلوس في الجمعة لموضع الأذان ولا أذان ههنا.
فصل:
ولا يتنفل قبل الصلاة وبعدها في موضع الصلاة لا في المسجد ولا في المصلى، إماماً كان أو مأموماً، لما روى ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها» . متفق عليه. ولا بأس أن يصلي بعد رجوعه، لما روى أبو سعيد قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يصلي قبل العيد شيئاً، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين» . رواه ابن ماجه.
فصل:
ومن سبق بالتكبير أو بعضه لم يقضه لأنه سنة فات محلها.
وقال ابن عقيل: يأتي به؛ لأن محله القيام وقد أدركه، وإن أدركه في الركوع تتبعه ولم يقض التكبير وجهاً واحداً، وإن أدركه في التشهد قام إذا سلم الإمام فقضى ركعتين يكبر فيهما، وإن أدركه في الخطبة استمع ثم قضى الصلاة إن أحب. وفي صفة القضاء ثلاث روايات:
إحداهن: يقضيها على صفتها، لحديث أنس ولأنه قضى صلاة فكان على صفتها كغيرها.
الثانية: يصليها أربعاً بسلام واحد إن أحب، أو بسلامين، لما روى الأثرم عن عبد الله بن مسعود قال: من فاته العيد فليصل أربعاً، ولأنها صلاة عيد فإذا فاتت صليت أربعاً كالجمعة.
الثالثة: هو مخير بين ركعتين وأربع؛ لأنه تطوع نهار فكانت الخيرة إليه فيه كالضحى.
فصل:
ويشرع التكبير في العيدين، لقول الله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] . وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يكبر حتى يسمع أهل الطريق.
قال القاضي: والتكبير في الفطر مطلق غير مقيد على ظاهر كلامه. يعني لا يختص بأدبار الصلوات.
وقال أبو الخطاب: يكبر من غروب الشمس إلى خروج الإمام إلى الصلاة. وهل يكبر بعد صلاة العيد على روايتين.
فصل:
فأما التكبير في الأضحى فهو على ضربين: مطلق ومقيد. فأما المطلق فالتكبير في جميع الأوقات، من أول العشر إلى آخر أيام التشريق. وأما المقيد فهو التكبير في أدبار الصلوات، من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق. قيل لأحمد: بأي حديث تذهب إلى أن التكبير في صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق؟ قال: بالإجماع عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وقد روي عن جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الصبح يوم عرفة، ثم أقبل علينا فقال: الله أكبر ومد التكبير إلى آخر أيام التشريق» . وصفة التكبير المشروع: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد) ؛ لأن هذا يروى عن علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. قال أبو عبد الله: اختياري تكبير ابن مسعود. وذكر مثل هذا، ولأن في حديث جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر تكبيرتين» ، ولأنه تكبير خارج الصلاة فكان شفعاً كتكبير الأذان.
فصل:
وموضعه عقيب أدبار الصلوات المفروضات، ولا يشرع عقيب النوافل لأنه لا أذان
لها فلم يكبر بعدها كصلاة الجنازة. وإن سبق الرجل ببعض الفريضة كبر إذا سلم. وإن صلاها كلها وحده ففيه روايتان:
إحداهما: يكبر لأنه ذكر مشروع للمسبوق فأشبه التسليمة الثانية.
والثانية: لا يكبر؛ لأن ابن عمر كان لا يكبر إذا صلى وحده. وقال ابن مسعود: إنما التكبير على من صلى في الجماعة، ولأنه مخصوص بوقت فخص بالجماعة كالخطبة. والمسافر كالمقيم في التكبير، والمرأة كالرجل. قال البخاري: النساء كن يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز مع الرجال في المسجد، ويخفضن أصواتهن حتى لا يسمعهن الرجال. وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنها لا تكبر. ومن فاتته صلاة في أيام التكبير فقضاها فيها كبر، وإن قضاها بعدها لم يكبر؛ لأن التكبير مقيد بالوقت.
فصل:
ويكبر مستقبل القبلة، فإن أحدث قبل التكبير لم يكبر؛ لأن الحدث يقطع الصلاة. وإن نسي التكبير استقبل القبلة وكبر، ما لم يخرج من المسجد. ويستحب الاجتهاد في العمل الصالح في أيام العشر، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما العمل الصالح في أيام أفضل منه من العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء» أخرجه البخاري.
وهي فرض على الكفاية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء بعده كانوا يداومون عليها، ولأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، فكانت فرضاً كالجهاد، ولا تجب على الأعيان؛ لأن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر للأعرابي خمس صلوات فقال: هل علي غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع» متفق عليه.
فإن اتفق أهل بلد على تركها قاتلهم الإمام، لتركهم شعائر الإسلام الظاهرة، فأشبه تركهم الأذان. ويشترط لوجوبها ما يشترط للجمعة؛ لأنها صلاة عيد، فأشبهت الجمعة، ولا يشترط لصحتها الاستيطان، ولا العدد؛ لأن أنساً كان إذا لم يشهد العيد مع الإمام جمع أهله ومواليه، ثم قام عبد الله بن أبي عتبة مولاه فصلى بهم ركعتين يكبر فيهما ولأنهما من حق من انتفت فيه شروط الوجوب تطوع، فلم يشترط لها ذلك كسائر التطوع، وقال القاضي: كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقتضي أن في اشتراط الاستيطان والعدد وإذن الإمام روايتين.
فصل:
ووقتها من حين ترتفع الشمس وتزول وقت النهي إلى الزوال، فإن لم يعلم بها إلا بعد الزوال خرج من الغد فصلى بهم، لما روى أبو عمير بن أنس عن عمومة له من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أن ركباً جاؤوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا فإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم» ، رواه أبو داود. ويسن تقديم الأضحى وتأخير الفطر، لما روى عمرو بن حزم «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقدم الأضحى ويؤخر الفطر» ، ولأن السنة إخراج الفطرة قبل الصلاة، ففي تأخير الصلاة توسيع لوقتها، ولا تجوز التضحية إلا بعد الصلاة، ففي تعجيلها مبادرة إلى الأضحية.
فصل:
ويسن أن يأكل في الفطر قبل الصلاة، ويمسك في الأضحى حتى يصلي لما روى بريدة قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر، ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي» ، رواه الترمذي، ويفطر على تمرات وتر، لما روى أنس قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات» . رواه البخاري وفي لفظ: «ويأكلهن وتراً» .
فصل:
والسنة أن يصليها في المصلى؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء بعده كانوا يفعلونها فيه، ويستحب أن يستخلف على ضعفة الناس من يصلي بهم في الجامع لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استخلف أبا مسعود البدري، يصلي بضعفة الناس في المسجد، وهل يصلي المستخلف ركعتين أو أربعاً، على روايتين بناء على اختلاف الروايات في فعل أبي مسعود وقد روي أنه صلى بهم ركعتين وروي أنه صلى بهم أربعاً، وإن كان عذر من
مطر أو نحوه صلى في المسجد، لما روى أبو هريرة قال: «أصابنا مطر في يوم عيد، فصلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد» . رواه أبو داود.
فصل:
ويسن الاغتسال للعيد، والطيب والتنظيف والسواك، وأن يلبس أحسن ثيابه، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في جمعة من الجمع: «إن هذا يوم جعله الله عيداً للمسلمين فاغتسلوا ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه، وعليكم بالسواك» فعلل ذلك بأنه يوم عيد، ولأن هذا اليوم يشرع فيه الاجتماع للصلاة، فأشبه الجمعة، وقد روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتم، ويلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة» رواه ابن عبد البر. إلا أن المعتكف يستحب له الخروج في ثياب اعتكافه، ليبقى عليه أثر العبادة.
فصل:
ويستحب أن يبكر إليها المأموم، ماشياً مظهراً للتكبير؛ لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: من السنة أن يأتي العيد ماشياً. رواه الترمذي وقال، حديث حسن ولأنه أعظم للأجر، ويتأخر الإمام إلى وقت الصلاة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعله، ولأن الإمام ينتظر ولا ينتظر، وإذا غدا من طريق رجع من غيره؛ لأن جابراً قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان يوم عيد خالف الطريق.» رواه البخاري.
فصل:
قال ابن حامد: ويستحب خروج النساء، لما روت أم عطية قالت: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نخرجهن في الفطر والأضحى، العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن المصلى، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين» . متفق عليه. قال القاضي: وظاهر كلام أحمد أن ذلك جائز غير مستحب، ولا يلبسن ثوب شهرة، ولا يتطيبن لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وليخرجن تفلات» .
فصل:
وليس لها أذان ولا إقامة لما روى عطاء قال: أخبرني جابر «أن لا أذان للصلاة يوم الفطر ولا إقامة ولا نداء، ولا شيء لا نداء يومئذ ولا إقامة» ، متفق عليه. وقال جابر بن سمرة: «صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العيد غير مرة ولا مرتين بلا أذان ولا إقامة» . رواه مسلم.
فصل:
وصلاة العيد ركعتان، يقرأ في كل ركعة منهما بالحمد لله وسورة، ويجهر بالقراءة
بلا خلاف، قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد خاب من افترى» . رواه الإمام أحمد في " المسند ". ويسن أن يقرأ فيهما بسبح و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] لحديث النعمان بن بشير. ومهما قرأ أجزأه، ويكبر في الأولى سبع تكبيرات منها تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمساً سوى تكبيرة القيام، لما روت عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التكبير في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات سوى تكبيرتي الركوع» رواه أبو داود.
واعتددنا بتكبيرة الإحرام لأنها في حال القيام، ولم نعتد بتكبيرة القيام لأنها قبله.
ويسن أن يرفع يديه في كل تكبيرة، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة في الجنازة وفي العيد. رواه الأثرم. ويحمد الله، ويثني عليه، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين كل تكبيرتين، وإن أحب قال: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وصلى الله على محمد النبي الأمي وآله وسلم تسليماً؛ لأنه يجمع بين ما ذكرناه.
وموضع التكبير بين الاستفتاح، وقبل الاستعاذة والقراءة في الركعتين. وعنه: أنه قبل الاستفتاح أيضاً اختارها الخلال وصاحبه، والأول أولى؛ لأن الاستفتاح لافتتاح الصلاة، فيكون في أولها، والاستعاذة للقراءة فتكون في أولها. وعنه: أنه يوالي بين القراءتين، يجعلها في الأولى بعد التكبير، وفي الثانية قبله، لما روى علقمة أن عبد الله بن مسعود وأبا موسى وحذيفة خرج عليهم الوليد بن عقبة قبل العيد يوماً فقال لهم: إن هذا العيد قد دنا فكيف التكبير فيه؟ فقال عبد الله: تبدأ وتكبر تكبيرة تفتتح بها الصلاة، وتحمد ربك، وتصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم تدعو وتكبر، إلى أن قال: وتركع، ثم تقوم فتقرأ وتحمد ربك،. وذكر الحديث. قال أبو موسى وحذيفة صدق. ووجه الأولى أنه تكبير في إحدى ركعتي العيد فكان قبل القراءة كالأولى.
فصل:
وتكبيرات العيد الزوائد والذكر بينها سنة لا يؤثر تركها عمداً، وإن والى بين التكبير كان جائزاً، وإن نسي التكبير حتى شرع في القراءة، لم يعد إليه لأنه سنة فلا يعود إليها بعد شروعه في القراءة كالاستفتاح.
فصل:
فإذا سلم خطب خطبتين كخطبتي الجمعة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل ذلك. ويفارق خطبتي الجمعة في أربعة أشياء:
أحدها: أن محلها بعد الصلاة، لما روى ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة» . متفق عليه.
الثاني: أنه يسن أن يستفتح الأولى بتسع تكبيرات متواليات، والثانية بسبع، ويكثر التكبير في أضعاف الخطبة، لما روى سعد مؤذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر بين أضعاف الخطبة، يكثر التكبير بن خطبتي العيدين» .
الثالث: أن يحثهم في الفطر على إخراج الفطر، ويبين لهم ما يخرجونه ووقته وجنسه، وفي الأضحى يرغبهم في الأضحية، ويبين لهم ما يجزئ فيها، ووقت ذبحها، ويحثهم على الإطعام منها؛ لأنه وقت هذا النسك فيشرع تبيينه.
الربع: أنهما سنة لا يجب استماعهما ولا الإنصات لهما، لما روى عبد الله بن السائب قال: «شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العيد، فلما قضى الصلاة قال: إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب» رواه أبو داود. ويستحب أن يجلس عقيب صعوده ليستريح، وقيل: لا يجلس؛ لأن الجلوس في الجمعة لموضع الأذان ولا أذان ههنا.
فصل:
ولا يتنفل قبل الصلاة وبعدها في موضع الصلاة لا في المسجد ولا في المصلى، إماماً كان أو مأموماً، لما روى ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها» . متفق عليه. ولا بأس أن يصلي بعد رجوعه، لما روى أبو سعيد قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يصلي قبل العيد شيئاً، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين» . رواه ابن ماجه.
فصل:
ومن سبق بالتكبير أو بعضه لم يقضه لأنه سنة فات محلها.
وقال ابن عقيل: يأتي به؛ لأن محله القيام وقد أدركه، وإن أدركه في الركوع تتبعه ولم يقض التكبير وجهاً واحداً، وإن أدركه في التشهد قام إذا سلم الإمام فقضى ركعتين يكبر فيهما، وإن أدركه في الخطبة استمع ثم قضى الصلاة إن أحب. وفي صفة القضاء ثلاث روايات:
إحداهن: يقضيها على صفتها، لحديث أنس ولأنه قضى صلاة فكان على صفتها كغيرها.
الثانية: يصليها أربعاً بسلام واحد إن أحب، أو بسلامين، لما روى الأثرم عن عبد الله بن مسعود قال: من فاته العيد فليصل أربعاً، ولأنها صلاة عيد فإذا فاتت صليت أربعاً كالجمعة.
الثالثة: هو مخير بين ركعتين وأربع؛ لأنه تطوع نهار فكانت الخيرة إليه فيه كالضحى.
فصل:
ويشرع التكبير في العيدين، لقول الله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] . وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يكبر حتى يسمع أهل الطريق.
قال القاضي: والتكبير في الفطر مطلق غير مقيد على ظاهر كلامه. يعني لا يختص بأدبار الصلوات.
وقال أبو الخطاب: يكبر من غروب الشمس إلى خروج الإمام إلى الصلاة. وهل يكبر بعد صلاة العيد على روايتين.
فصل:
فأما التكبير في الأضحى فهو على ضربين: مطلق ومقيد. فأما المطلق فالتكبير في جميع الأوقات، من أول العشر إلى آخر أيام التشريق. وأما المقيد فهو التكبير في أدبار الصلوات، من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق. قيل لأحمد: بأي حديث تذهب إلى أن التكبير في صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق؟ قال: بالإجماع عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وقد روي عن جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الصبح يوم عرفة، ثم أقبل علينا فقال: الله أكبر ومد التكبير إلى آخر أيام التشريق» . وصفة التكبير المشروع: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد) ؛ لأن هذا يروى عن علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. قال أبو عبد الله: اختياري تكبير ابن مسعود. وذكر مثل هذا، ولأن في حديث جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر تكبيرتين» ، ولأنه تكبير خارج الصلاة فكان شفعاً كتكبير الأذان.
فصل:
وموضعه عقيب أدبار الصلوات المفروضات، ولا يشرع عقيب النوافل لأنه لا أذان
لها فلم يكبر بعدها كصلاة الجنازة. وإن سبق الرجل ببعض الفريضة كبر إذا سلم. وإن صلاها كلها وحده ففيه روايتان:
إحداهما: يكبر لأنه ذكر مشروع للمسبوق فأشبه التسليمة الثانية.
والثانية: لا يكبر؛ لأن ابن عمر كان لا يكبر إذا صلى وحده. وقال ابن مسعود: إنما التكبير على من صلى في الجماعة، ولأنه مخصوص بوقت فخص بالجماعة كالخطبة. والمسافر كالمقيم في التكبير، والمرأة كالرجل. قال البخاري: النساء كن يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز مع الرجال في المسجد، ويخفضن أصواتهن حتى لا يسمعهن الرجال. وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنها لا تكبر. ومن فاتته صلاة في أيام التكبير فقضاها فيها كبر، وإن قضاها بعدها لم يكبر؛ لأن التكبير مقيد بالوقت.
فصل:
ويكبر مستقبل القبلة، فإن أحدث قبل التكبير لم يكبر؛ لأن الحدث يقطع الصلاة. وإن نسي التكبير استقبل القبلة وكبر، ما لم يخرج من المسجد. ويستحب الاجتهاد في العمل الصالح في أيام العشر، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما العمل الصالح في أيام أفضل منه من العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء» أخرجه البخاري.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب صلاة الكسوف]
[باب صلاة الكسوف]
وهي سنة مؤكدة عند كسوف الشمس أو القمر، لما روى أبو مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الشمس والقمر آتيان من آيات الله تعالى يخوف الله بهما عباده وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس، فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم» وعن عائشة قالت: «خسفت الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبعث منادياً فنادى: الصلاة جامعة، وخرج إلى المسجد، فصف الناس وراءه، وصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات» ، متفق عليهما. وتجوز جماعة وفرادى لإطلاق الأمر بهما في
حديث أبي مسعود، والجماعة أفضل لفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها في جماعة، وينادي لها: الصلاة جامعة للحديث. وتفعل في لمسجد للخبر، ولأن وقتها ضيقاً فلو خرجوا إلى المصلى خيف فواتها.
فصل:
وصفتها أن يكبر للإحرام ويستفتح، ثم يقرأ الفاتحة وسورة البقرة أو نحوها، ثم يركع ويسبح نحواً من مائة آية ثم يرفع فيسمع ويحمد ويقرأ الفاتحة وآل عمران أو نحوها، ثم يركع فيسبح نحواً من سبعين آية، ثم يرفع فيسمع ويحمد، ثم يسجد سجدتين يسبح فيهما نحواً من الركوع، ثم يقوم إلى الثانية، فيقرأ الفاتحة وسورة النساء، ثم يركع ويسبح نحواً من خمسين آية ثم يرفع فيسمع ويحمد ويقرأ الفاتحة وسورة المائدة، ثم يركع فيسبح نحواً من أربعين آية، ثم يرفع فيسمع ويحمد ثم يسجد نحواً من ركوعه، ويتشهد ويسلم؛ وليس هذا التقدير في القراءة والتسبيح منقولاً عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولا هو متعين. وما قرأ به بعد أم الكتاب فيها أجزأه، لكن يستحب ذلك ليقارب فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما روت عائشة قالت: قال: «خسفت الشمس في حياة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخرج إلى المسجد فقام وكبر، وصف الناس وراءه فقرأ رسول الله قراءة طويلة، ثم كبر فركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم قام فقرأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى ثم كبر فركع ركوعاً هو أدنى من الركوع الأول، ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم سجد، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات، فانجلت الشمس.» متفق عليه.
وفي رواية أخرى: «فرأيت أنه قرأ في الأولى بسورة البقرة، وفي الثانية سورة آل عمران» ، ويجهر بالقراءة ليلاً كان أو نهاراً؛ لأن عائشة روت «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهر في صلاة الخسوف» [رواه أبو داود] . ولأنها صلاة شرع لها الجمع الكثير فسن لها الجهر كالعيد، وإن صلى في كل ركعة ثلاث ركوعات على نحو ما ذكرنا جاز؛ لأن [عائشة روت] ، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ست ركعات وأربع سجدات» . رواه مسلم.
وإن جعل في كل ركعة أربع ركوعات جاز أيضاً؛ لأنه يروى عن علي وابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والمختار الأول؛ لأنه أصح وأشهر.
فصل:
ووقتها من حين الكسوف إلى حين التجلي، فإن فاتت لم تقض لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صلوا حتى يكشف الله ما بكم» وإن تجلت وهو في الصلاة أتمها وخففها، وإن سلم قبل انجلائها لم يصل أخرى واشتغل بالذكر والدعاء، وإن استترت بغيم صلى؛ لأن الأصل بقاء الكسوف، وإن غابت كاسفة فهو كانجلائها؛ لأنه ذهب وقت الانتفاع بنورها. وإن طلعت الشمس والقمر خاسف فكذلك لما ذكرنا، وإن غاب ليلاً وهو كاسف لم يصل كالشمس إذا غابت. وقال القاضي: يصلي لأن وقت سلطانه باق.
فصل:
قال القاضي: لم يذكر لها أحمد خطبة، ولا رأيته لأحد من أصحابنا، وذلك لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرنا بالصلاة دون الخطبة.
فصل:
إذا اجتمع الكسوف والجنازة بدئ بالجنازة؛ لأنه يخاف عليها وإن اجتمع مع المكتوبة في آخر وقتها بدئ بها؛ لأنها آكد. وإن كان في أول وقتها بدئ بصلاة الكسوف؛ لأنه يخشى فواتها. وإن اجتمع هو والوتر وخيف فواتهما بدئ بالكسوف لأنه آكد.
فصل:
ولا يصلى لغير الكسوف من الآيات؛ لأنه لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا عن أحد من خلفائه. إلا أن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يصلي للزلزلة الدائمة لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل الكسوف بأنه آية يخوف الله بها عباده، والزلزلة أشد تخويفاً، فأما الرجفة فلا تبقى مدة تتسع لصلاة.
وهي سنة مؤكدة عند كسوف الشمس أو القمر، لما روى أبو مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الشمس والقمر آتيان من آيات الله تعالى يخوف الله بهما عباده وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس، فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم» وعن عائشة قالت: «خسفت الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبعث منادياً فنادى: الصلاة جامعة، وخرج إلى المسجد، فصف الناس وراءه، وصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات» ، متفق عليهما. وتجوز جماعة وفرادى لإطلاق الأمر بهما في
حديث أبي مسعود، والجماعة أفضل لفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها في جماعة، وينادي لها: الصلاة جامعة للحديث. وتفعل في لمسجد للخبر، ولأن وقتها ضيقاً فلو خرجوا إلى المصلى خيف فواتها.
فصل:
وصفتها أن يكبر للإحرام ويستفتح، ثم يقرأ الفاتحة وسورة البقرة أو نحوها، ثم يركع ويسبح نحواً من مائة آية ثم يرفع فيسمع ويحمد ويقرأ الفاتحة وآل عمران أو نحوها، ثم يركع فيسبح نحواً من سبعين آية، ثم يرفع فيسمع ويحمد، ثم يسجد سجدتين يسبح فيهما نحواً من الركوع، ثم يقوم إلى الثانية، فيقرأ الفاتحة وسورة النساء، ثم يركع ويسبح نحواً من خمسين آية ثم يرفع فيسمع ويحمد ويقرأ الفاتحة وسورة المائدة، ثم يركع فيسبح نحواً من أربعين آية، ثم يرفع فيسمع ويحمد ثم يسجد نحواً من ركوعه، ويتشهد ويسلم؛ وليس هذا التقدير في القراءة والتسبيح منقولاً عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولا هو متعين. وما قرأ به بعد أم الكتاب فيها أجزأه، لكن يستحب ذلك ليقارب فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما روت عائشة قالت: قال: «خسفت الشمس في حياة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخرج إلى المسجد فقام وكبر، وصف الناس وراءه فقرأ رسول الله قراءة طويلة، ثم كبر فركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم قام فقرأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى ثم كبر فركع ركوعاً هو أدنى من الركوع الأول، ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم سجد، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات، فانجلت الشمس.» متفق عليه.
وفي رواية أخرى: «فرأيت أنه قرأ في الأولى بسورة البقرة، وفي الثانية سورة آل عمران» ، ويجهر بالقراءة ليلاً كان أو نهاراً؛ لأن عائشة روت «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهر في صلاة الخسوف» [رواه أبو داود] . ولأنها صلاة شرع لها الجمع الكثير فسن لها الجهر كالعيد، وإن صلى في كل ركعة ثلاث ركوعات على نحو ما ذكرنا جاز؛ لأن [عائشة روت] ، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ست ركعات وأربع سجدات» . رواه مسلم.
وإن جعل في كل ركعة أربع ركوعات جاز أيضاً؛ لأنه يروى عن علي وابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والمختار الأول؛ لأنه أصح وأشهر.
فصل:
ووقتها من حين الكسوف إلى حين التجلي، فإن فاتت لم تقض لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صلوا حتى يكشف الله ما بكم» وإن تجلت وهو في الصلاة أتمها وخففها، وإن سلم قبل انجلائها لم يصل أخرى واشتغل بالذكر والدعاء، وإن استترت بغيم صلى؛ لأن الأصل بقاء الكسوف، وإن غابت كاسفة فهو كانجلائها؛ لأنه ذهب وقت الانتفاع بنورها. وإن طلعت الشمس والقمر خاسف فكذلك لما ذكرنا، وإن غاب ليلاً وهو كاسف لم يصل كالشمس إذا غابت. وقال القاضي: يصلي لأن وقت سلطانه باق.
فصل:
قال القاضي: لم يذكر لها أحمد خطبة، ولا رأيته لأحد من أصحابنا، وذلك لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرنا بالصلاة دون الخطبة.
فصل:
إذا اجتمع الكسوف والجنازة بدئ بالجنازة؛ لأنه يخاف عليها وإن اجتمع مع المكتوبة في آخر وقتها بدئ بها؛ لأنها آكد. وإن كان في أول وقتها بدئ بصلاة الكسوف؛ لأنه يخشى فواتها. وإن اجتمع هو والوتر وخيف فواتهما بدئ بالكسوف لأنه آكد.
فصل:
ولا يصلى لغير الكسوف من الآيات؛ لأنه لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا عن أحد من خلفائه. إلا أن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يصلي للزلزلة الدائمة لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل الكسوف بأنه آية يخوف الله بها عباده، والزلزلة أشد تخويفاً، فأما الرجفة فلا تبقى مدة تتسع لصلاة.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
[باب صلاة الاستسقاء]
[باب صلاة الاستسقاء]
وهي سنة عند الحاجة إليها. لما روى عبد الله بن زيد قال: «خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يستسقي، فتوجه إلى القبلة يدعو، وحول رداءه وصلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة» . متفق عليه. وصفتها في موضعها وأحكامها صفة صلاة العيد. وهل يكبر فيهما تكبير العيدين؟
على روايتين:
إحداهما: لا يكبر لأن عبد الله بن زيد لم يذكره.
والثاني: يكبر؛ لأن ابن عباس روى «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ركعتين كما يصلي في العيدين» ، حديث صحيح. وعن جعفر بن محمد عن أبيه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر كانوا يصلون صلاة الاستسقاء يكبرون فيها سبعاً، وخمساً» . رواه الشافعي في " مسنده ". ولا وقت لها معين، إلا أن الأولى فعلها في وقت صلاة العيد، لشبهها بها. وذكر ابن عبد البر أن الخروج إليها عند زوال الشمس عند جماعة العلماء.
فصل:
وفي إذن الإمام روايتان، بناء على صلاة العيد:
إحداهما: هو شرط لها. قال أبو بكر: فإن خرجوا بغير إذن الإمام صلوا ودعوا بغير خطبة.
والثانية: يصلون ويخطب بهم أحدهم، والأولى للإمام إذا أراد الاستسقاء أن يعظ الناس، ويأمرهم بتقوى الله، والخروج عن المظالم، والتوبة من المعاصي وتحليل بعضهم بعضاً، والصيام والصدقة، وترك التشاحن؛ لأن المعاصي سبب القحط، والتقوى سبب البركات، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] . ويعد الناس يوماً يخرجون فيه، ويأمرهم أن يخرجوا على الصفة التي خرج عليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال ابن عباس: «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للاستسقاء متبذلاً، متواضعاً متخشعاً، متضرعاً حتى أتى المصلى، فلم يخطب كخطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء، والتضرع والتكبير، وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد» . هذا حديث صحيح. ويسن التنظيف وإزالة الرائحة لئلا يؤذي الناس بها، ولا يلبس زينة ولا يتطيب؛ لأن هذا يوم استكانة وخضوع.
فصل:
ويخرج الشيوخ والصبيان، ومن له ذكر جميل ودين وصلاح؛ لأنه أسرع للإجابة.
ويستحب أن يستسقي الإمام بمن ظهر صلاحه؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استسقى بالعباس عم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واستسقى معاوية والضحاك بيزيد بن الأسود الجرشي، وروي أن معاوية أمر يزيد بن الأسود فصعد المنبر، فقعد عند رجليه، فقال معاوية: اللهم إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك بيزيد بن الأسود الجرشي، يا يزيد ارفع يديك إلى الله، فرفع يديه ورفع الناس أيديهم، فما كان بأوشك من أن ثارت سحابة في الغرب، كأنها ترس، وهب لها ريح، فسقوا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم. ولا يستحب إخراج البهائم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يخرجها، ولا إخراج الكفار؛ لأنهم أعداء الله فلا يتوسل بهم. فإن خرجوا لم يمنعوا لأنهم يطلبون رزقهم، ويفردون عن المسلمين بحيث إن أصابهم عذاب لم يصب غيرهم.
فصل:
واختلفت الرواية في الخطبة فروي: أنه لا يخطب وإنما يدعو، لقول ابن عباس: «لم يخطب خطبتكم هذه» ، وروي أنه يخطب قبل الصلاة، لقول عبد الله بن زيد: «فتوجه إلى القبلة يدعو، وحول رداءه ثم صلى» .
وعنه: أنه مخير في الخطبة قبل الصلاة وبعدها؛ لأن الجميع مروي.
وعنه: يخطب بعد الصلاة؛ لأن أبا هريرة قال: «صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم خطبنا» . وهذا صريح. ولأنها مشبهة بصلاة العيد، وخطبتها بعد الصلاة. فإذا صعد المنبر جلس، ثم قام فخطب خطبة واحدة، يفتتحها بالتكبير لأنه لم ينقل أحد من الرواة خطبتين، ويكثر فيها الاستغفار، وقراءة الآيات التي فيها الأمر بالاستغفار مثل: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10] {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11] ، {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3] . ويكثر الدعاء والتضرع ويدعو بدعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد روى ابن قتيبة بإسناده عن أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى الاستسقاء، فتقدم فصلى ركعتين يجهر فيهما بالقراءة، فلما قضى صلاته استقبل القوم بوجهه، وقلب رداءه ورفع يديه، وكبر تكبيرة قبل أن يستسقي، ثم قال: اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، وحياً ربيعاً، وجداً طبقاً، غدقاً مغدقاً، مونقاً، هنيئاً مريئاً مريعاً، مربعاً، مرتعاً، سابلاً، مسبلاً مجللاً، دائماً، دروراً، نافعاً، غير ضار عاجلاً غير رائث، اللهم تحيي به البلاد وتغيث به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر منا والباد، اللهم أنزل في أرضنا زينتها، وأنزل في أرضنا سكنها، اللهم أنزل علينا من
السماء ماء طهوراً، فأحي به بلدة ميتاً، واسقه مما خلقت لنا أنعاماً وأناسي كثيراً» . فالحيا الذي يحيى به الأرض.
والجدا: المطر العام.
والطبق: الذي يطبق الأرض.
والغدق: الكثير.
والمونق: المعجب.
والمريع: ذو المراعة والخصب.
والمربع: المقيم، من قولك: ربعت بالمكان إذا أقمت فيه.
والمرتع: من قولك: رتعت الإبل إذا رعت.
والسابل: المطر.
والمسبل: الماطر.
والسكن: القوة لأن الأرض تسكن به.
وعن ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا استسقى قال: «اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، هنيئاً، مريئاً، غدقاً، مجللاً، طبقاً، عاماً، سحاً، دائماً، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والضنك والجهد ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنزل علينا من بركاتك، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من العذاب ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً فأرسل السماء علينا مدراراً» . ويستقبل القبلة في أثناء الخطبة، ويحول رداءه، يجعل اليمين يساراً واليسار يميناً كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تفاؤلاً أن يحول الله تعالى الجدب خصباً، ولا يجعل أعلاه أسفله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفعله، ويدعو الله في استقباله فيقول: اللهم إنك أمرتنا بدعائك ووعدتنا إجابتك، وقد دعوناك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا. لأن عبد الله بن زيد روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى المصلى يستسقي، فاستقبل القبلة ودعا، وحول رداءه وجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن» .
ويرفع يديه؛ لأن أنساً قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء، كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه» . متفق عليه. فإن سقوا قبل الصلاة
صلوا وشكروا الله تعالى، وسألوه المزيد من فضله، وإن صلوا ولم يسقوا عادوا في اليوم الثاني والثالث لأن الله يحب الملحين في الدعاء.
فصل:
والاستسقاء على ثلاثة أضرب:
أحدها: مثل ما وصفنا.
والثاني: أن يستسقي الإمام يوم الجمعة على المنبر كما روى أنس: «أن رجلاً دخل يوم الجمعة ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب فاستقبل رسول الله قائماً ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وتقطعت السبل، فادع الله يغيثنا. فرفع رسول الله يديه فقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا» ، وذكر الحديث، متفق عليه.
الثالث: أن يدعو عقيب الصلوات، ويستحب أن يقف في أول المطر، ويخرج ثيابه ليصيبها لما روى أنس في حديثه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينزل عن منبره حتى رأينا المطر يتحادر من لحيته» . [رواه البخاري] .
فصل:
فإن كثر المطر بحيث يضرهم، أو كثرت مياه العيون حتى خيف منها، استحب أن يدعو الله تعالى حتى يخففه؛ لأن في حديث أنس قال: «فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة، فجاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، تهدمت البيوت، وقطعت السبل وهلكت المواشي فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللهم على ظهور الجبال والآكام، وبطون الأودية ومنابت الشجر فانجابت عن المدينة انجياب الثوب» . متفق عليه. وفي حديث آخر: «اللهم حوالينا ولا علينا ويقول: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] » .
وهي سنة عند الحاجة إليها. لما روى عبد الله بن زيد قال: «خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يستسقي، فتوجه إلى القبلة يدعو، وحول رداءه وصلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة» . متفق عليه. وصفتها في موضعها وأحكامها صفة صلاة العيد. وهل يكبر فيهما تكبير العيدين؟
على روايتين:
إحداهما: لا يكبر لأن عبد الله بن زيد لم يذكره.
والثاني: يكبر؛ لأن ابن عباس روى «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ركعتين كما يصلي في العيدين» ، حديث صحيح. وعن جعفر بن محمد عن أبيه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر كانوا يصلون صلاة الاستسقاء يكبرون فيها سبعاً، وخمساً» . رواه الشافعي في " مسنده ". ولا وقت لها معين، إلا أن الأولى فعلها في وقت صلاة العيد، لشبهها بها. وذكر ابن عبد البر أن الخروج إليها عند زوال الشمس عند جماعة العلماء.
فصل:
وفي إذن الإمام روايتان، بناء على صلاة العيد:
إحداهما: هو شرط لها. قال أبو بكر: فإن خرجوا بغير إذن الإمام صلوا ودعوا بغير خطبة.
والثانية: يصلون ويخطب بهم أحدهم، والأولى للإمام إذا أراد الاستسقاء أن يعظ الناس، ويأمرهم بتقوى الله، والخروج عن المظالم، والتوبة من المعاصي وتحليل بعضهم بعضاً، والصيام والصدقة، وترك التشاحن؛ لأن المعاصي سبب القحط، والتقوى سبب البركات، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] . ويعد الناس يوماً يخرجون فيه، ويأمرهم أن يخرجوا على الصفة التي خرج عليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال ابن عباس: «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للاستسقاء متبذلاً، متواضعاً متخشعاً، متضرعاً حتى أتى المصلى، فلم يخطب كخطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء، والتضرع والتكبير، وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد» . هذا حديث صحيح. ويسن التنظيف وإزالة الرائحة لئلا يؤذي الناس بها، ولا يلبس زينة ولا يتطيب؛ لأن هذا يوم استكانة وخضوع.
فصل:
ويخرج الشيوخ والصبيان، ومن له ذكر جميل ودين وصلاح؛ لأنه أسرع للإجابة.
ويستحب أن يستسقي الإمام بمن ظهر صلاحه؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استسقى بالعباس عم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واستسقى معاوية والضحاك بيزيد بن الأسود الجرشي، وروي أن معاوية أمر يزيد بن الأسود فصعد المنبر، فقعد عند رجليه، فقال معاوية: اللهم إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك بيزيد بن الأسود الجرشي، يا يزيد ارفع يديك إلى الله، فرفع يديه ورفع الناس أيديهم، فما كان بأوشك من أن ثارت سحابة في الغرب، كأنها ترس، وهب لها ريح، فسقوا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم. ولا يستحب إخراج البهائم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يخرجها، ولا إخراج الكفار؛ لأنهم أعداء الله فلا يتوسل بهم. فإن خرجوا لم يمنعوا لأنهم يطلبون رزقهم، ويفردون عن المسلمين بحيث إن أصابهم عذاب لم يصب غيرهم.
فصل:
واختلفت الرواية في الخطبة فروي: أنه لا يخطب وإنما يدعو، لقول ابن عباس: «لم يخطب خطبتكم هذه» ، وروي أنه يخطب قبل الصلاة، لقول عبد الله بن زيد: «فتوجه إلى القبلة يدعو، وحول رداءه ثم صلى» .
وعنه: أنه مخير في الخطبة قبل الصلاة وبعدها؛ لأن الجميع مروي.
وعنه: يخطب بعد الصلاة؛ لأن أبا هريرة قال: «صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم خطبنا» . وهذا صريح. ولأنها مشبهة بصلاة العيد، وخطبتها بعد الصلاة. فإذا صعد المنبر جلس، ثم قام فخطب خطبة واحدة، يفتتحها بالتكبير لأنه لم ينقل أحد من الرواة خطبتين، ويكثر فيها الاستغفار، وقراءة الآيات التي فيها الأمر بالاستغفار مثل: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10] {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11] ، {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3] . ويكثر الدعاء والتضرع ويدعو بدعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد روى ابن قتيبة بإسناده عن أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى الاستسقاء، فتقدم فصلى ركعتين يجهر فيهما بالقراءة، فلما قضى صلاته استقبل القوم بوجهه، وقلب رداءه ورفع يديه، وكبر تكبيرة قبل أن يستسقي، ثم قال: اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، وحياً ربيعاً، وجداً طبقاً، غدقاً مغدقاً، مونقاً، هنيئاً مريئاً مريعاً، مربعاً، مرتعاً، سابلاً، مسبلاً مجللاً، دائماً، دروراً، نافعاً، غير ضار عاجلاً غير رائث، اللهم تحيي به البلاد وتغيث به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر منا والباد، اللهم أنزل في أرضنا زينتها، وأنزل في أرضنا سكنها، اللهم أنزل علينا من
السماء ماء طهوراً، فأحي به بلدة ميتاً، واسقه مما خلقت لنا أنعاماً وأناسي كثيراً» . فالحيا الذي يحيى به الأرض.
والجدا: المطر العام.
والطبق: الذي يطبق الأرض.
والغدق: الكثير.
والمونق: المعجب.
والمريع: ذو المراعة والخصب.
والمربع: المقيم، من قولك: ربعت بالمكان إذا أقمت فيه.
والمرتع: من قولك: رتعت الإبل إذا رعت.
والسابل: المطر.
والمسبل: الماطر.
والسكن: القوة لأن الأرض تسكن به.
وعن ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا استسقى قال: «اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، هنيئاً، مريئاً، غدقاً، مجللاً، طبقاً، عاماً، سحاً، دائماً، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والضنك والجهد ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنزل علينا من بركاتك، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من العذاب ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً فأرسل السماء علينا مدراراً» . ويستقبل القبلة في أثناء الخطبة، ويحول رداءه، يجعل اليمين يساراً واليسار يميناً كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تفاؤلاً أن يحول الله تعالى الجدب خصباً، ولا يجعل أعلاه أسفله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفعله، ويدعو الله في استقباله فيقول: اللهم إنك أمرتنا بدعائك ووعدتنا إجابتك، وقد دعوناك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا. لأن عبد الله بن زيد روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى المصلى يستسقي، فاستقبل القبلة ودعا، وحول رداءه وجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن» .
ويرفع يديه؛ لأن أنساً قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء، كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه» . متفق عليه. فإن سقوا قبل الصلاة
صلوا وشكروا الله تعالى، وسألوه المزيد من فضله، وإن صلوا ولم يسقوا عادوا في اليوم الثاني والثالث لأن الله يحب الملحين في الدعاء.
فصل:
والاستسقاء على ثلاثة أضرب:
أحدها: مثل ما وصفنا.
والثاني: أن يستسقي الإمام يوم الجمعة على المنبر كما روى أنس: «أن رجلاً دخل يوم الجمعة ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب فاستقبل رسول الله قائماً ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وتقطعت السبل، فادع الله يغيثنا. فرفع رسول الله يديه فقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا» ، وذكر الحديث، متفق عليه.
الثالث: أن يدعو عقيب الصلوات، ويستحب أن يقف في أول المطر، ويخرج ثيابه ليصيبها لما روى أنس في حديثه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينزل عن منبره حتى رأينا المطر يتحادر من لحيته» . [رواه البخاري] .
فصل:
فإن كثر المطر بحيث يضرهم، أو كثرت مياه العيون حتى خيف منها، استحب أن يدعو الله تعالى حتى يخففه؛ لأن في حديث أنس قال: «فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة، فجاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، تهدمت البيوت، وقطعت السبل وهلكت المواشي فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللهم على ظهور الجبال والآكام، وبطون الأودية ومنابت الشجر فانجابت عن المدينة انجياب الثوب» . متفق عليه. وفي حديث آخر: «اللهم حوالينا ولا علينا ويقول: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] » .
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
صفحة 1 من اصل 2 • 1, 2
مواضيع مماثلة
» من وصايا الإمام أحمد بن حنبل للأزواج
» عقيدة - نصائح - مواعظ - وصايا - حكم - أمثال - أدب جمع واختيار د / عبد الله بن محمد البصيري
» إرشاد السالك الى أشرف المسالك فى فقه الإمام مالك
» من أقوال الإمام الشافعي
» ترجمة الإمام الكسائي وراوييه
» عقيدة - نصائح - مواعظ - وصايا - حكم - أمثال - أدب جمع واختيار د / عبد الله بن محمد البصيري
» إرشاد السالك الى أشرف المسالك فى فقه الإمام مالك
» من أقوال الإمام الشافعي
» ترجمة الإمام الكسائي وراوييه
صفحة 1 من اصل 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى