لمحات فى الثقافه الاسلاميه خصائص الثقافة الإسلامية
صفحة 1 من اصل 1
لمحات فى الثقافه الاسلاميه خصائص الثقافة الإسلامية
خصائص الثقافة الإسلامية
1- موضع الثقة الكاملة:
أ- إن الثقافة الإسلامية بارتكازها على العقيدة ليست من وضع بشر منساق بطبيعته البشرية إلى عوامل الضعف والنقص وضغط المنفعة والعصبية والطبقية؛ بل إن انبثاقها عن المنهج الإلهي يعطيها مطلق الثقة الكاملة بها، ويجعلها موضع الإيمان والتسليم، ويغنيها -من ناحية أخرى- عن الوسائل التي يُلْجَأ إليها لتزيين المفاهيم البشرية الناقصة المحدودة.
إن مناط تلك المفاهيم الضالة التمويه على الإنسان والتدليس عليه، وفي ذلك ما فيه من زراية بعقله، واستهانة بكرامته. "وقد اتسمت الحضارة المادية في العهد الأخير بالتدجيل في كل شيء، والتلبيس على الناس، وتسمية الأشياء بغير أسمائها، وتمويه الحقائق، وإطلاق الأسماء البراقة الخلابة للعقول على غير مسمياتها، وبكثرة الاختلاف بين الظاهر والباطن، والأول والآخر، والنظريات العلمية، والتجارب العملية. وهذا شأن الشعارات والفلسفات التي حلت محل الأديان. وسحرت النفوس والعقول، والكلمات التي أحاطت بها هالات التقديس والتمجيد وحل حبها واحترامها في قرارة النفوس، وحبات القلوب، وأصبح
الشك في قدسها، أو النقاش في كرامتها ومكانتها علامة للرجعية، وإنكارًا للبداهة، والمشهود المحسوس، وقد التبس الأمر بذلك على كبار الأذكياء، ونوابغ العلماء؛ فأصبحوا يتغنون بهذه الشعارات والفلسفات، ويدعون إليها في إيمان وحماسة من غير تمحيص لنية أصحابها وإخلاصهم، أو شجاعة في تحديد نجاحها أو إخفاقها في مجال العمل والتطبيق، والمقارنة الصحيحة المحايدة بين ما كسبته الإنسانية والأمم الضعيفة، وبين ما خسرته من سلطان هذه الشعارات وتحت رايتها من السعادة الحقيقية، والحقوق الفطرية، وهذا كله من قوة التدجيل وسحره الذي تفوق فيه "الدجال الأكبر" على جميع الدجالين والمدلسين والمموهين، الذين عرفهم التاريخ البشري. وقد سرت هذه الروحية "الدجلية المدلسة" في هذه الحضارة لسيرها على خط معارض لخط النبوة، والإيمان بالآخرة، والإيمان بالغيب، والإيمان بفاطر الكون، وقدرته المطلقة، واحترام شريعته وتعاليمه، وللاعتماد الزائد على الحواس الظاهرة، والشغف الزائد بما يعود على الإنسان باللذة البدنية، والمنفعة العاجلة والغلبة الظاهرة"1.
وإن هذه الثقافات المرتكزة على النظرات البشرية والفلسفات المحدودة والمرتبطة بقيود الزمان والمكان والخاضعة لمؤثرات البيئات والظروف، والمتأثرة بالأزمات النفسية والهزات الاجتماعية، وما ينجم عنها من ردود الفعل التي يبعدها عن العمق والصدق والاتزان.. إن هذه الثقافات -وهذا حالها- إنما تعيش في الحقيقة خارج دائرة الوجدان الإنساني في أصالته ونقائه؛ فهي بعيدة كل البعد عن أي نزعة تحفظ للإنسان مكانته الرفيعة التي أكرمه الله بها، ولا تملك إلا أن تسوق الإنسان بنزعة القوة التي تسيطر بها عليه سيطرة تسلبه بها حريته، أو نزعة الخديعة التي تسلبه
__________
1 أبو الحسن علي الحسني الندوي: "الصراع بين الإيمان والمادية" ص13
بها كرامته، أو بهما معًا كما هو حال كثير من الأمم والشعوب في ظل هذه الفلسفات المادية المنحرفة التي استطاعت أن تتخذ من السلطة منطلقًا لممارسة نزعة القوة والخديعة في آن واحد..
ب- ولعل خير ما يجلي الصورة المقابلة لهذا الوضع المنحرف ما يبينه الإسلام من حقيقة "العبودية" في الإنسان، وهي العبودية التي تقوم على الثقة والطمأنينة واليقين الخالص وحب الله عز وجل والخوف منه ورجائه..
وقد أوضح شيخ الإسلام "ابن تيمية" -رحمه الله تعالى- حقيقة جوانب ذلك في رسالته "العبودية" فهو "ينزع نزعة مثالية في نظريته، نزعة ترد على الإنسانية كرامتها، وتحتفظ للإنسان بمنزلته العليا فوق عالم الكائنات الحية التي لا تطاوله في منزلته، ولا تنازعه في قمته التي وضعه الله فيها بما وضع فيه من عنصر العقل والإدراك، وابتغاء الحق والخير وأهلية التكليف".
يقول ابن تيمية: "والقلب خلق يحب الحق ويريده ويطلبه؛ فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك؛ فإنها تفسد القلب، كما يفسد الزرع بما ينبت فيه من الدغل" ص100 ويقول: "والقلب فقير بالذات إلى الله من جهتين: من جهة العبادة وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلة؛ فالقلب لا يصلح ولا يفلح، ولا ينعم ولا يسر، ولا يلتذ ولا يطيب ولا يسكن، ولا يطمئن؛ إلا بعبادة ربه وحده، وحبه والإنابة إليه. ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات؛ لم يطمئن ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه بالفطرة من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه" ص108.
وهذه النزعة -في الوقت نفسه- ليست نزعة خيالية تهمل الواقع؛ ولكن ترتفع به عن طريق "التسامي" أو "الإبدال" مما لمحه علماء النفس والتربية، وما عرفوا الطريق الحق إليه. "والأنبياء -كما يقول ابن تيمية في كتاب
"النبوات"- قد بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتبديلها وتغييرها"1.
ج- إن هذه الثقافة التي تقوم على الإيمان بالله والرسول واليوم الآخر.. تنشئ في النفس الإنسانية تلك الثقة المرتكزة على يقظة ذاتية، وحيوية داخلية، تكوّن تلك النزعة الفطرية إلى الاستقامة، وتدفع إلى حسن السلوك، وهي نزعة لا تحتاج إلى محرك خارجي، ولا إلى رقابة خارجية؛ إذ السلطان على الفرد عندئذ هو الاعتقاد الذي يحمله بين جنبيه.
والفرق بين المؤمن الذي يحمل في نفسه القوة الدافعة إلى العمل المستقيم، والتعاون مع الناس، وبين القانون الذي يضعه المجتمع ويفرضه بقوة الحراسة وهي القوة التنفيذية. إن الفرق هو أن سلطان القانون وما يصحبه من قوة تنفيذية خارج عن الإنسان، والإنسان في المجتمع الحديث -وهو المجتمع صاحب القانون الوضعي وصاحب السلطة التنفيذية- يعمل بدفع هذه القوة الخارجة عنه، ولو تهاون هذا المجتمع في تطبيق القانون يومًا ما، أو خفت رقابة السلطة التنفيذية؛ فإن الفرد يتهاون بدوره في أداء ما كان يحتم عليه القانون أداءه، وما كانت السلطة التنفيذية ترقبه منه.
إن الثقة الكاملة بين الإنسان وما يجب عليه من العمل والسلوك؛ لا بد أن تكون منبثقة من يقين الإنسان بصحة ما يجب عليه، وحُبٍّ صادق له، ورغبة قوية فيه، وحرص تام عليه، وسعادة في أدائه؛ ولكن هذه العناصر والبواعث لا يمكن أن تتحقق للإنسان بعامل الدفع الخارجي؛ بل لا بد لها من العقيدة التي تمزجها جميعًا مزجًا طرائعًا بكيان الإنسان الداخلي، وشعوره الوجداني.
من أجل هذا حاول بعض الفلاسفة الأخلاقيين المثاليين في -المجتمع
__________
1 عبد الرحمن الباني: "مقدمة رسالة العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية" ص22. وأرقام الصفحات في النص من رسالة العبودية.
الأوربي في القرن الثاني عشر- أن يضع خلقية ذاتية تقوم على فكرة "أداء الواجب لذات الواجب" وشاعت هذه الخلقية المثالية في الشعب الألماني على الخصوص، وعرفت هذه الفكرة بفكرة "كانت" أو بالواجب الخلقي.
ومع أنها خلقية دافعة نحو العمل من ذات الإنسان، دون رعاية القانون الوضعي، وما يصحبه من سلطة تنفيذية؛ فإنها تفترق عن الخلقية الدينية التي يريدها الإسلام للمجتمع الإسلامي، والتي هي أساس لتماسك المجتمع الإسلامي، وتعاون أفراده؛ لأنه مهما كان الأمر فلا يغيب عن أذهاننا أن أساس القوة الخلقية هو الاعتقاد بالله، وإن أساس الخلقية المثالية هو تصور عمل الواجب من الإنسان للإنسانية. وشتان بين قوة تعتمد على الاعتقاد بالله، وأخرى تقوم على تصور الإنسان للإنسانية؛ فالاعتقاد بالله من شأنه أن يبقى ويدوم؛ بينما تطورات الإنسان -مهما كانت- فإنها تخضع للعوامل التي يتأثر بها الإنسان، ويسهل عندئذ أن يتغير تصور الإنسان من لونٍ إلى لونٍ آخر.
وإذا كان أي قانون من القوانين لا يستطيع أن يستقل بذاته في أي وقت من الأوقات؛ بل لا بد أن يقترن حتى ينفذ ويصان بثقة الإنسان به، فإن مرتكز هذه الثقة هو مرتكز وجداني أخلاقي، لا تنشئه إلا العقيدة الدينية وحدها، وفي هذا ما يؤكد أن الإيمان وحده هو الذي يستوفي كل هذه الأمور. وينشئ ذلك الشعور الذي يظل يعتمل في قرارة ضمير المؤمن؛ فيحمله على الخير ويردعه عن الشر، ويحدث ذلك التفاعل الإيجابي -الناجم عن الثقة- مع الاستقامة والفضائل، وذلك التفاعل السلبي مع الانحراف والرذائل1.
__________
1 انظر "الإسلام في الواقع الأيديولوجي المعاصر": للدكتور محمد البهي ص42-45.
وانظر: "الإسلام يتحدى" تأليف: وحيد الدين خان ص423
1- موضع الثقة الكاملة:
أ- إن الثقافة الإسلامية بارتكازها على العقيدة ليست من وضع بشر منساق بطبيعته البشرية إلى عوامل الضعف والنقص وضغط المنفعة والعصبية والطبقية؛ بل إن انبثاقها عن المنهج الإلهي يعطيها مطلق الثقة الكاملة بها، ويجعلها موضع الإيمان والتسليم، ويغنيها -من ناحية أخرى- عن الوسائل التي يُلْجَأ إليها لتزيين المفاهيم البشرية الناقصة المحدودة.
إن مناط تلك المفاهيم الضالة التمويه على الإنسان والتدليس عليه، وفي ذلك ما فيه من زراية بعقله، واستهانة بكرامته. "وقد اتسمت الحضارة المادية في العهد الأخير بالتدجيل في كل شيء، والتلبيس على الناس، وتسمية الأشياء بغير أسمائها، وتمويه الحقائق، وإطلاق الأسماء البراقة الخلابة للعقول على غير مسمياتها، وبكثرة الاختلاف بين الظاهر والباطن، والأول والآخر، والنظريات العلمية، والتجارب العملية. وهذا شأن الشعارات والفلسفات التي حلت محل الأديان. وسحرت النفوس والعقول، والكلمات التي أحاطت بها هالات التقديس والتمجيد وحل حبها واحترامها في قرارة النفوس، وحبات القلوب، وأصبح
الشك في قدسها، أو النقاش في كرامتها ومكانتها علامة للرجعية، وإنكارًا للبداهة، والمشهود المحسوس، وقد التبس الأمر بذلك على كبار الأذكياء، ونوابغ العلماء؛ فأصبحوا يتغنون بهذه الشعارات والفلسفات، ويدعون إليها في إيمان وحماسة من غير تمحيص لنية أصحابها وإخلاصهم، أو شجاعة في تحديد نجاحها أو إخفاقها في مجال العمل والتطبيق، والمقارنة الصحيحة المحايدة بين ما كسبته الإنسانية والأمم الضعيفة، وبين ما خسرته من سلطان هذه الشعارات وتحت رايتها من السعادة الحقيقية، والحقوق الفطرية، وهذا كله من قوة التدجيل وسحره الذي تفوق فيه "الدجال الأكبر" على جميع الدجالين والمدلسين والمموهين، الذين عرفهم التاريخ البشري. وقد سرت هذه الروحية "الدجلية المدلسة" في هذه الحضارة لسيرها على خط معارض لخط النبوة، والإيمان بالآخرة، والإيمان بالغيب، والإيمان بفاطر الكون، وقدرته المطلقة، واحترام شريعته وتعاليمه، وللاعتماد الزائد على الحواس الظاهرة، والشغف الزائد بما يعود على الإنسان باللذة البدنية، والمنفعة العاجلة والغلبة الظاهرة"1.
وإن هذه الثقافات المرتكزة على النظرات البشرية والفلسفات المحدودة والمرتبطة بقيود الزمان والمكان والخاضعة لمؤثرات البيئات والظروف، والمتأثرة بالأزمات النفسية والهزات الاجتماعية، وما ينجم عنها من ردود الفعل التي يبعدها عن العمق والصدق والاتزان.. إن هذه الثقافات -وهذا حالها- إنما تعيش في الحقيقة خارج دائرة الوجدان الإنساني في أصالته ونقائه؛ فهي بعيدة كل البعد عن أي نزعة تحفظ للإنسان مكانته الرفيعة التي أكرمه الله بها، ولا تملك إلا أن تسوق الإنسان بنزعة القوة التي تسيطر بها عليه سيطرة تسلبه بها حريته، أو نزعة الخديعة التي تسلبه
__________
1 أبو الحسن علي الحسني الندوي: "الصراع بين الإيمان والمادية" ص13
بها كرامته، أو بهما معًا كما هو حال كثير من الأمم والشعوب في ظل هذه الفلسفات المادية المنحرفة التي استطاعت أن تتخذ من السلطة منطلقًا لممارسة نزعة القوة والخديعة في آن واحد..
ب- ولعل خير ما يجلي الصورة المقابلة لهذا الوضع المنحرف ما يبينه الإسلام من حقيقة "العبودية" في الإنسان، وهي العبودية التي تقوم على الثقة والطمأنينة واليقين الخالص وحب الله عز وجل والخوف منه ورجائه..
وقد أوضح شيخ الإسلام "ابن تيمية" -رحمه الله تعالى- حقيقة جوانب ذلك في رسالته "العبودية" فهو "ينزع نزعة مثالية في نظريته، نزعة ترد على الإنسانية كرامتها، وتحتفظ للإنسان بمنزلته العليا فوق عالم الكائنات الحية التي لا تطاوله في منزلته، ولا تنازعه في قمته التي وضعه الله فيها بما وضع فيه من عنصر العقل والإدراك، وابتغاء الحق والخير وأهلية التكليف".
يقول ابن تيمية: "والقلب خلق يحب الحق ويريده ويطلبه؛ فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك؛ فإنها تفسد القلب، كما يفسد الزرع بما ينبت فيه من الدغل" ص100 ويقول: "والقلب فقير بالذات إلى الله من جهتين: من جهة العبادة وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلة؛ فالقلب لا يصلح ولا يفلح، ولا ينعم ولا يسر، ولا يلتذ ولا يطيب ولا يسكن، ولا يطمئن؛ إلا بعبادة ربه وحده، وحبه والإنابة إليه. ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات؛ لم يطمئن ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه بالفطرة من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه" ص108.
وهذه النزعة -في الوقت نفسه- ليست نزعة خيالية تهمل الواقع؛ ولكن ترتفع به عن طريق "التسامي" أو "الإبدال" مما لمحه علماء النفس والتربية، وما عرفوا الطريق الحق إليه. "والأنبياء -كما يقول ابن تيمية في كتاب
"النبوات"- قد بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتبديلها وتغييرها"1.
ج- إن هذه الثقافة التي تقوم على الإيمان بالله والرسول واليوم الآخر.. تنشئ في النفس الإنسانية تلك الثقة المرتكزة على يقظة ذاتية، وحيوية داخلية، تكوّن تلك النزعة الفطرية إلى الاستقامة، وتدفع إلى حسن السلوك، وهي نزعة لا تحتاج إلى محرك خارجي، ولا إلى رقابة خارجية؛ إذ السلطان على الفرد عندئذ هو الاعتقاد الذي يحمله بين جنبيه.
والفرق بين المؤمن الذي يحمل في نفسه القوة الدافعة إلى العمل المستقيم، والتعاون مع الناس، وبين القانون الذي يضعه المجتمع ويفرضه بقوة الحراسة وهي القوة التنفيذية. إن الفرق هو أن سلطان القانون وما يصحبه من قوة تنفيذية خارج عن الإنسان، والإنسان في المجتمع الحديث -وهو المجتمع صاحب القانون الوضعي وصاحب السلطة التنفيذية- يعمل بدفع هذه القوة الخارجة عنه، ولو تهاون هذا المجتمع في تطبيق القانون يومًا ما، أو خفت رقابة السلطة التنفيذية؛ فإن الفرد يتهاون بدوره في أداء ما كان يحتم عليه القانون أداءه، وما كانت السلطة التنفيذية ترقبه منه.
إن الثقة الكاملة بين الإنسان وما يجب عليه من العمل والسلوك؛ لا بد أن تكون منبثقة من يقين الإنسان بصحة ما يجب عليه، وحُبٍّ صادق له، ورغبة قوية فيه، وحرص تام عليه، وسعادة في أدائه؛ ولكن هذه العناصر والبواعث لا يمكن أن تتحقق للإنسان بعامل الدفع الخارجي؛ بل لا بد لها من العقيدة التي تمزجها جميعًا مزجًا طرائعًا بكيان الإنسان الداخلي، وشعوره الوجداني.
من أجل هذا حاول بعض الفلاسفة الأخلاقيين المثاليين في -المجتمع
__________
1 عبد الرحمن الباني: "مقدمة رسالة العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية" ص22. وأرقام الصفحات في النص من رسالة العبودية.
الأوربي في القرن الثاني عشر- أن يضع خلقية ذاتية تقوم على فكرة "أداء الواجب لذات الواجب" وشاعت هذه الخلقية المثالية في الشعب الألماني على الخصوص، وعرفت هذه الفكرة بفكرة "كانت" أو بالواجب الخلقي.
ومع أنها خلقية دافعة نحو العمل من ذات الإنسان، دون رعاية القانون الوضعي، وما يصحبه من سلطة تنفيذية؛ فإنها تفترق عن الخلقية الدينية التي يريدها الإسلام للمجتمع الإسلامي، والتي هي أساس لتماسك المجتمع الإسلامي، وتعاون أفراده؛ لأنه مهما كان الأمر فلا يغيب عن أذهاننا أن أساس القوة الخلقية هو الاعتقاد بالله، وإن أساس الخلقية المثالية هو تصور عمل الواجب من الإنسان للإنسانية. وشتان بين قوة تعتمد على الاعتقاد بالله، وأخرى تقوم على تصور الإنسان للإنسانية؛ فالاعتقاد بالله من شأنه أن يبقى ويدوم؛ بينما تطورات الإنسان -مهما كانت- فإنها تخضع للعوامل التي يتأثر بها الإنسان، ويسهل عندئذ أن يتغير تصور الإنسان من لونٍ إلى لونٍ آخر.
وإذا كان أي قانون من القوانين لا يستطيع أن يستقل بذاته في أي وقت من الأوقات؛ بل لا بد أن يقترن حتى ينفذ ويصان بثقة الإنسان به، فإن مرتكز هذه الثقة هو مرتكز وجداني أخلاقي، لا تنشئه إلا العقيدة الدينية وحدها، وفي هذا ما يؤكد أن الإيمان وحده هو الذي يستوفي كل هذه الأمور. وينشئ ذلك الشعور الذي يظل يعتمل في قرارة ضمير المؤمن؛ فيحمله على الخير ويردعه عن الشر، ويحدث ذلك التفاعل الإيجابي -الناجم عن الثقة- مع الاستقامة والفضائل، وذلك التفاعل السلبي مع الانحراف والرذائل1.
__________
1 انظر "الإسلام في الواقع الأيديولوجي المعاصر": للدكتور محمد البهي ص42-45.
وانظر: "الإسلام يتحدى" تأليف: وحيد الدين خان ص423
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
2- كمال تصورها للإنسان والحياة:
- كمال تصورها للإنسان والحياة:
أ- تتسم الثقافة الإسلامية من حيث إقامتها التصور الصحيح للإنسان وعلاقته بالحياة بالتوفيق التام بين الوجهتين الروحية والمادية فيه؛ بحيث ينتفي ذلك التناقض الذي أقامته التصورات المنحرفة بينهما، وهو تناقض زرعت بذوره الأولى في الحياة الإنسانية عقيدة الخطيئة الأولى التي جاءت بها النصرانية والتقت فيها من حيث خطأ التصور والاستنتاج مع عقائد أخرى زائفة؛ منها ما هو قديم كالبوذية والبرهمية، أو حديث كالروحية الحديثة.
"فالإنسان -حسب العقيدة النصرانية- يتعثر في الخطيئة الموروثة التي ارتكبها آدم وحواء، وعلى هذا تعتبر الحياة كلها -وفي نظر العقيدة على الأقل- واديًا مظلمًا للأحزان.. إنها الميدان الذي تعترك فيه قوتان: الشر المتمثل في الشيطان، والخير المتمثل في المسيح. إن الشيطان يحاول بواسطة التجارب الجسدية أن يسد طريق النفس الإنسانية نحو النور الأزلي، إن النفس ملك المسيح؛ ولكن الجسد ملعب للمؤثرات الشيطانية، وقد يمكن التعبير عن ذلك بوجه آخر: إن عالم المادة شيطاني في أساسه؛ بينما عالم الروح إلهي خير.
وإن كل ما في الطبيعة الإنسانية من المادة -أي الجسد كما يؤثر اللاهوت النصراني أن يدعوه- فإنما هو نتيجة مباشرة لزلة آدم، حينما سمع نصيحة الأمير الجهنمي للظلمة والمادة -يعني إبليس- من أجل ذلك كان حتمًا على الإنسان عندهم إذا شاء النجاة أن يلفت قلبه عن عالم اللحم إلى هذا العالم الروحي المقبل؛ حيث تحل الخطيئة البشرية بتضحية المسيح، أي بفداء المسيح"1.
__________
1 محمد أسد: "الإسلام على مفترق الطرق" ص28
ب- وليس التصور الفلسفي للإنسان -كما هو الحال في الفلسفات القديمة والحديثة- خيرًا من هذا التصور النصراني الذي جاءت به الكنيسة. إنه لدى كثير من هذه الفلسفات والنظريات تصور ناقص محدود يتناول الإنسان من بعض جوانبه ويهمل جوانبه الأخرى؛ فهو -مثلًا- يتناول الإنسان من جانب مزاياه العقلية فحسب دون النظر إلى المزايا الأخرى، وقد تعنى بعض التصورات بنواحيه الاجتماعية فقط، وتمهل ما عدا ذلك، كما أن بعض التصورات جاءت بافتراضات عجيبة حول ترتيب الإنسان بين أنواع الأحياء الأخرى وفق ما يسمى بمذهب النشوء والارتقاء؛ وبهذا نجد أن الإنسان لدى جل هذه الفلسفات والنظريات لا يعدو أن يكون حيوانًا ناطقًا تارة، وحيوانًا مدنيًا أو سياسيًا أخرى، أو حيوانًا راقيًا حينًا، أو إنسانًا مثقلًا بالخطيئة وارثًا للغواية حينًا آخر..
ج- "أما الإسلام فإنه لا يعرف الخطيئة الموروثة، ولا يعرف السقوط من طبيعة إلى ما دونها، فلا يحاسب أحدًا بذنب أبيه، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وليس مما يدين به المسلم أن يرتد النوع الإنساني إلى ما دون طبيعته؛ ولكنه مما يؤمن به أن ارتفاع الإنسان وهبوطه منوطان بالتكليف، وقوامه الحرية والتبعة؛ فهو بأمانة التكليف قابل للصعود إلى قمة الخليقة، وهو بالتكليف قابل للهبوط إلى أسفل سافلين، وهذه هي الأمانة التي رفعته مقامًا فوق مقام الملائكة، وهبطت به مقامًا إلى زمرة الشياطين"1.
إن الإسلام يبطل كل التصورات المنحرفة والمتطرفة والفاسدة عن الإنسان حين يضع الإنسان أمام حقيقته من حيث أصل الخلقة؛ حيث يقول الله تعالى:
__________
1 عباس محمود العقاد: "حقائق الإسلام وأباطيل خصومه" ص77
{فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ لصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} 1.
ثم من حيث عناصر التكوين ومراحله، وما ينشأ عليه من الضعف والعجز، ثم ما يوهب من القوة والشباب، وما ينتهي إليه بعد ذلك من انحطاط القوى والعجز والضعف مرة أخرى، وأنه لا بد أن يوافيه الأجل ويسلب نعمة الحياة وفق قدرة الله عز وجل وحكمته، وما اقتضته مشيئته. وفي ذلك يقول عز وجل:
{فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} 2.
فليس لهذا الإنسان أن يتجاوز حقيقته، ويشمخ بأنفه، ويعتد بقوته، ويتباهى بسطوته، ويمتلئ غطرسة وكبرياء، ويغتر بما بين يديه من وسائل وأسباب، ومتع وثروات، وطاقات وأدوات؛ بل عليه أن يعلم أن هذا الكون قد سخره الله له من أجل فائدته ومتاعه، وعمارة هذا الأرض التي يعيش عليها، وفي هذا التسخير تكريم من الله لهذا الإنسان، وتكليف له وتشريف. وخليق بهذا الإنسان أن يعرف منزلته، ويدرك تبعته، ويؤدي وظيفته. وفي ذلك يقول عز وجل:
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ
__________
1 الطارق: "5-7"
2 الحج: "5".
مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} 1.
وإذا كان هذا الإنسان من حيث الأصل مخلوقًا حقيرًا ذليلًا؛ فإن ما أُسْبِغَ عليه -بفضل الله- من الكرامة والتشريف، منوط بتلك الروح التي أودعها الله فيه، وبتلك المكانة التي رفعه إليها حين جعله خليفة في الأرض، ومعنى هذا أن كرامته وفضيلته إنما تتوقفان على أن لا يُلَوِّثَ روحه باتباع الشيطان وسلوك طرقه، وعلى ألا ينحدر من مرتبة الخلافة المتلازمة مع الخضوع والطاعة إلى حضيض البغي والعصيان.
وفي ذلك يقول عز وجل:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} 2.
ويقول سبحانه:
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 3.
إن تفرد الإنسان في هذا الكون بطبيعته وتركيبه، وفي وظيفته وغاية وجوده، وفي مآله ومصيره؛ هو الذي يقرره التصور الإسلامي عن الإنسان في نصوصه الكثيرة؛ فكلها تقرر أن هذا الإنسان، خلق خلقة فذة خاصة مقصودة، وعينت له وظيفة، وجعلت لوجوده
__________
1 الإسراء: "70".
2 البقرة: "30".
3 البقرة: "38-39".
غاية، وأنه كذلك مبتلى بالحياة مختبر فيها، محاسب في النهاية على سلوكه فيها؛ هذا السلوك الذي يقرر جزاءه ومصيره.
ومن الطبيعي أن تقتضي خصائص الإنسان منهجًا للحياة الإنسانية يرعى كل تلك الخصائص والاعتبارات؛ يرعى تفرد الإنسان في طبيعته وتركيبه وتفرده في وظيفته وغاية وجوده وتفرده في مآله ومصيره، كما يرعى تعقده الشديد، وتنوع أوجه نشاطه، وتعقد الارتباطات بينها، ثم يرعى فرديته هذه مع حياته الجماعية.
وبعد هذا كله يضمن له أن يزاول وجوه نشاطه كلها، وفق طاقاته كلها، بحيث لا يسحق ولا يكبت، كما لا يسرف ولا يفرط، وبحيث لا يدع طاقة تطغى على طاقة، ولا وظيفة تغطي على وظيفة، ثم في النهاية يسمح لكل فرد بمزاولة فرديته الأصلية مع كونه عضوًا في جماعة، وإن منهج الحياة الوحيد الذي راعى هذه الاعتبارات كلها كان هو المنهج الذي وضعه للإنسان خالقه العليم بتكوينه وفطرته، الخبير بطاقاته ووظائفه، القادر على أن يضع له المنهج الذي يحقق غاية وجوده، ويحقق التوازن في أوجه نشاطه، ويحقق فرديته وجماعيته كذلك.
ولقد جاء منهج الإسلام للحياة الإنسانية بتحديد واضح رائع للعلاقة بين الإنسان والحياة؛ فإذا كانت هذه الحياة الدنيا قد خلقت لهذا الإنسان لينتفع بها ويستمتع؛ فليس له أن يقف منها موقفًا سلبيًا ظنًا منه بأنها شيء يجب الاحتراز منه، كما ليس له أن يحرم على نفسه زينتها ونعيمها؛ بل من واجبه أن ينتفع بها ويستخدمها على قدر استطاعته، مع إدراك كامل منه وتمييز دقيق.. للصحيح والفاسد، والحق والباطل، والطيب والخبيث..
قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} 1.
وقال:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} 2.
ومع هذه الدعوى إلى الانتفاع بالحياة؛ يضع التصور الإسلامي أمام الإنسان صورة عن عاقبة هذه الحياة ومآلها، حتى لا تلهيه عن وظيفته، أو تشغله بمفاتنها ومباهجها عن الغاية الحقيقية من وجوده؛ فالحياة الدنيا ظل زائل وعرض حائل، وهي محدودة بأجل مسمّى، ونهايتها هو الموت المحتوم؛ وإنما الشيء الوحيد الذي له البقاء والخلود في هذا العالم الفاني هو الصلاح: صلاح القلب، وصلاح الروح، وصلاح الأعمال3.
{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} 4.
وقال عز وجل:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ
__________
1 البقرة: "168".
2 المائدة: "87-88".
3 انظر: "الإسلام ومشكلات الحضارة"، تأليف: سيد قطب. ص43-50، وانظر "الحضارة الإسلامية" تأليف: أبي الأعلى المودودي. ص11-31.
4 لقمان: "33".
ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 1.
وقال:
{وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 2.
وقال:
{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} 3.
__________
1 المنافقون: "9".
2 البقرة: "281".
3 النجم: "39-42".
أ- تتسم الثقافة الإسلامية من حيث إقامتها التصور الصحيح للإنسان وعلاقته بالحياة بالتوفيق التام بين الوجهتين الروحية والمادية فيه؛ بحيث ينتفي ذلك التناقض الذي أقامته التصورات المنحرفة بينهما، وهو تناقض زرعت بذوره الأولى في الحياة الإنسانية عقيدة الخطيئة الأولى التي جاءت بها النصرانية والتقت فيها من حيث خطأ التصور والاستنتاج مع عقائد أخرى زائفة؛ منها ما هو قديم كالبوذية والبرهمية، أو حديث كالروحية الحديثة.
"فالإنسان -حسب العقيدة النصرانية- يتعثر في الخطيئة الموروثة التي ارتكبها آدم وحواء، وعلى هذا تعتبر الحياة كلها -وفي نظر العقيدة على الأقل- واديًا مظلمًا للأحزان.. إنها الميدان الذي تعترك فيه قوتان: الشر المتمثل في الشيطان، والخير المتمثل في المسيح. إن الشيطان يحاول بواسطة التجارب الجسدية أن يسد طريق النفس الإنسانية نحو النور الأزلي، إن النفس ملك المسيح؛ ولكن الجسد ملعب للمؤثرات الشيطانية، وقد يمكن التعبير عن ذلك بوجه آخر: إن عالم المادة شيطاني في أساسه؛ بينما عالم الروح إلهي خير.
وإن كل ما في الطبيعة الإنسانية من المادة -أي الجسد كما يؤثر اللاهوت النصراني أن يدعوه- فإنما هو نتيجة مباشرة لزلة آدم، حينما سمع نصيحة الأمير الجهنمي للظلمة والمادة -يعني إبليس- من أجل ذلك كان حتمًا على الإنسان عندهم إذا شاء النجاة أن يلفت قلبه عن عالم اللحم إلى هذا العالم الروحي المقبل؛ حيث تحل الخطيئة البشرية بتضحية المسيح، أي بفداء المسيح"1.
__________
1 محمد أسد: "الإسلام على مفترق الطرق" ص28
ب- وليس التصور الفلسفي للإنسان -كما هو الحال في الفلسفات القديمة والحديثة- خيرًا من هذا التصور النصراني الذي جاءت به الكنيسة. إنه لدى كثير من هذه الفلسفات والنظريات تصور ناقص محدود يتناول الإنسان من بعض جوانبه ويهمل جوانبه الأخرى؛ فهو -مثلًا- يتناول الإنسان من جانب مزاياه العقلية فحسب دون النظر إلى المزايا الأخرى، وقد تعنى بعض التصورات بنواحيه الاجتماعية فقط، وتمهل ما عدا ذلك، كما أن بعض التصورات جاءت بافتراضات عجيبة حول ترتيب الإنسان بين أنواع الأحياء الأخرى وفق ما يسمى بمذهب النشوء والارتقاء؛ وبهذا نجد أن الإنسان لدى جل هذه الفلسفات والنظريات لا يعدو أن يكون حيوانًا ناطقًا تارة، وحيوانًا مدنيًا أو سياسيًا أخرى، أو حيوانًا راقيًا حينًا، أو إنسانًا مثقلًا بالخطيئة وارثًا للغواية حينًا آخر..
ج- "أما الإسلام فإنه لا يعرف الخطيئة الموروثة، ولا يعرف السقوط من طبيعة إلى ما دونها، فلا يحاسب أحدًا بذنب أبيه، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وليس مما يدين به المسلم أن يرتد النوع الإنساني إلى ما دون طبيعته؛ ولكنه مما يؤمن به أن ارتفاع الإنسان وهبوطه منوطان بالتكليف، وقوامه الحرية والتبعة؛ فهو بأمانة التكليف قابل للصعود إلى قمة الخليقة، وهو بالتكليف قابل للهبوط إلى أسفل سافلين، وهذه هي الأمانة التي رفعته مقامًا فوق مقام الملائكة، وهبطت به مقامًا إلى زمرة الشياطين"1.
إن الإسلام يبطل كل التصورات المنحرفة والمتطرفة والفاسدة عن الإنسان حين يضع الإنسان أمام حقيقته من حيث أصل الخلقة؛ حيث يقول الله تعالى:
__________
1 عباس محمود العقاد: "حقائق الإسلام وأباطيل خصومه" ص77
{فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ لصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} 1.
ثم من حيث عناصر التكوين ومراحله، وما ينشأ عليه من الضعف والعجز، ثم ما يوهب من القوة والشباب، وما ينتهي إليه بعد ذلك من انحطاط القوى والعجز والضعف مرة أخرى، وأنه لا بد أن يوافيه الأجل ويسلب نعمة الحياة وفق قدرة الله عز وجل وحكمته، وما اقتضته مشيئته. وفي ذلك يقول عز وجل:
{فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} 2.
فليس لهذا الإنسان أن يتجاوز حقيقته، ويشمخ بأنفه، ويعتد بقوته، ويتباهى بسطوته، ويمتلئ غطرسة وكبرياء، ويغتر بما بين يديه من وسائل وأسباب، ومتع وثروات، وطاقات وأدوات؛ بل عليه أن يعلم أن هذا الكون قد سخره الله له من أجل فائدته ومتاعه، وعمارة هذا الأرض التي يعيش عليها، وفي هذا التسخير تكريم من الله لهذا الإنسان، وتكليف له وتشريف. وخليق بهذا الإنسان أن يعرف منزلته، ويدرك تبعته، ويؤدي وظيفته. وفي ذلك يقول عز وجل:
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ
__________
1 الطارق: "5-7"
2 الحج: "5".
مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} 1.
وإذا كان هذا الإنسان من حيث الأصل مخلوقًا حقيرًا ذليلًا؛ فإن ما أُسْبِغَ عليه -بفضل الله- من الكرامة والتشريف، منوط بتلك الروح التي أودعها الله فيه، وبتلك المكانة التي رفعه إليها حين جعله خليفة في الأرض، ومعنى هذا أن كرامته وفضيلته إنما تتوقفان على أن لا يُلَوِّثَ روحه باتباع الشيطان وسلوك طرقه، وعلى ألا ينحدر من مرتبة الخلافة المتلازمة مع الخضوع والطاعة إلى حضيض البغي والعصيان.
وفي ذلك يقول عز وجل:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} 2.
ويقول سبحانه:
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 3.
إن تفرد الإنسان في هذا الكون بطبيعته وتركيبه، وفي وظيفته وغاية وجوده، وفي مآله ومصيره؛ هو الذي يقرره التصور الإسلامي عن الإنسان في نصوصه الكثيرة؛ فكلها تقرر أن هذا الإنسان، خلق خلقة فذة خاصة مقصودة، وعينت له وظيفة، وجعلت لوجوده
__________
1 الإسراء: "70".
2 البقرة: "30".
3 البقرة: "38-39".
غاية، وأنه كذلك مبتلى بالحياة مختبر فيها، محاسب في النهاية على سلوكه فيها؛ هذا السلوك الذي يقرر جزاءه ومصيره.
ومن الطبيعي أن تقتضي خصائص الإنسان منهجًا للحياة الإنسانية يرعى كل تلك الخصائص والاعتبارات؛ يرعى تفرد الإنسان في طبيعته وتركيبه وتفرده في وظيفته وغاية وجوده وتفرده في مآله ومصيره، كما يرعى تعقده الشديد، وتنوع أوجه نشاطه، وتعقد الارتباطات بينها، ثم يرعى فرديته هذه مع حياته الجماعية.
وبعد هذا كله يضمن له أن يزاول وجوه نشاطه كلها، وفق طاقاته كلها، بحيث لا يسحق ولا يكبت، كما لا يسرف ولا يفرط، وبحيث لا يدع طاقة تطغى على طاقة، ولا وظيفة تغطي على وظيفة، ثم في النهاية يسمح لكل فرد بمزاولة فرديته الأصلية مع كونه عضوًا في جماعة، وإن منهج الحياة الوحيد الذي راعى هذه الاعتبارات كلها كان هو المنهج الذي وضعه للإنسان خالقه العليم بتكوينه وفطرته، الخبير بطاقاته ووظائفه، القادر على أن يضع له المنهج الذي يحقق غاية وجوده، ويحقق التوازن في أوجه نشاطه، ويحقق فرديته وجماعيته كذلك.
ولقد جاء منهج الإسلام للحياة الإنسانية بتحديد واضح رائع للعلاقة بين الإنسان والحياة؛ فإذا كانت هذه الحياة الدنيا قد خلقت لهذا الإنسان لينتفع بها ويستمتع؛ فليس له أن يقف منها موقفًا سلبيًا ظنًا منه بأنها شيء يجب الاحتراز منه، كما ليس له أن يحرم على نفسه زينتها ونعيمها؛ بل من واجبه أن ينتفع بها ويستخدمها على قدر استطاعته، مع إدراك كامل منه وتمييز دقيق.. للصحيح والفاسد، والحق والباطل، والطيب والخبيث..
قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} 1.
وقال:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} 2.
ومع هذه الدعوى إلى الانتفاع بالحياة؛ يضع التصور الإسلامي أمام الإنسان صورة عن عاقبة هذه الحياة ومآلها، حتى لا تلهيه عن وظيفته، أو تشغله بمفاتنها ومباهجها عن الغاية الحقيقية من وجوده؛ فالحياة الدنيا ظل زائل وعرض حائل، وهي محدودة بأجل مسمّى، ونهايتها هو الموت المحتوم؛ وإنما الشيء الوحيد الذي له البقاء والخلود في هذا العالم الفاني هو الصلاح: صلاح القلب، وصلاح الروح، وصلاح الأعمال3.
{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} 4.
وقال عز وجل:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ
__________
1 البقرة: "168".
2 المائدة: "87-88".
3 انظر: "الإسلام ومشكلات الحضارة"، تأليف: سيد قطب. ص43-50، وانظر "الحضارة الإسلامية" تأليف: أبي الأعلى المودودي. ص11-31.
4 لقمان: "33".
ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 1.
وقال:
{وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 2.
وقال:
{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى، وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} 3.
__________
1 المنافقون: "9".
2 البقرة: "281".
3 النجم: "39-42".
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
3- وحدتها المترابطة المتناسقة:
- وحدتها المترابطة المتناسقة:
أ- من خصائص الثقافة الإسلامية أنها كلٌّ متَّحد مترابط متناسق، يؤخذ جملة وتفصيلًا دون اصطفاء أو استهواء، أو اعتبار لما يوافق الهوى أو يصادمه؛ فالثقافة الإسلامية بمفاهيمها العامة الشاملة ليست أجزاء متفرقة لا رابطة بينها، تعرض كما تعرض السلع في المتاجر؛ ليختار الإنسان منها ما يلائمه، ويوافق مزاجه، ويدع ما لا يرغب فيه لعدم توافقه مع ذوقه أو لغلاء ثمنه.
"إن الاسلام كلٌّ لا يتجزأ؛ فإما أن يؤخذ جملة، وإما أن يترك جملة، أما أن يستفتى الإسلام في صغار الشئون، وأن يهمل في الأسس العامة التي تقوم عليها الحياة والمجتمع؛ فهذا هو الصَّغار الذي لا يجوز لمسلم أن يقبله للإسلام.
إن جواب أي استفتاء عن مشكلة جزئية من مشكلات المجتمعات التي لا تدين بالإسلام، ولا تعترف بشريعته أن يقال: حكِّموا الإسلام أولاً في الحياة كلها، ثم اطلبوا بعد ذلك رأيه في مشكلات الحياة التي ينشئها هو، لا التي أنشأها نظام آخر مناقض للإسلام..
إن الإسلام يربِّي الناس تربية خاصة، ويحكمهم وفق شريعة خاصة، وينظم شئونهم على أسس خاصة، ويخلق مقومات اجتماعية واقتصادية وشعورية خاصة؛ فأولاً طبقوا الإسلام جملة، في نظام الحكم، وفي أسس التشريع، وفي قواعد التربية، ثم انظروا هل تبقى هذه المشكلات التي تسألون عنها، أم تزول من نفسها، أما قبل ذلك فما للإسلام وما لهذه القضايا التي لا يعرفها المجتمع الإسلامي الصحيح؟ "1.
ب- إن مناط الأمر في هذه القضية قائم على فهم المعنى الحقيقي الشامل لانتماء الإنسان للإسلام؛ فالانتماء للإسلام يقتضي من المسلم أن يذعن بأن الحاكمية لله عز وجل، وأن حكم الله تبارك وتعالى فوق كل رأي من آراء الأشخاص أو الجماعات، أو الأهواء أو المصالح، ولا يعد هذا الانتماء الإسلامي صحيحًا إذا أصابته التجزئة بسائق المنافع والمصالح والرغبات؛ فالمسلم مطالب بأن يقيد حريته الخاصة، ورغبته الذاتية بقيود الشريعة، حتى يصح أن يوصف بأنه قد سلك صراط الله المستقيم، وصدق في الانتماء لهذا الدين. ولا بد مع الإذعان لحكم الله والتسليم له، وصدق الاتباع لأمره من اليقين الكامل بأحقية هذا النظام الإسلامي، وأنه وحدة النظام الذي يحقق السعادة الكاملة للإنسان في الدنيا والآخرة.
قال تعالى:
__________
1 سيد قطب: "دراسات إسلامية" ص88. وانظر فصل "خذوا الإسلام بتمامه" ص86.
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 1.
ج- إن وحدة الثقافة الإسلامية المترابطة المتناسقة ترتكز من وجهة نظر الإسلام على أساس منطقي قوي وهو: أن الحقائق لا يمكن أن تكون متناقضة. ولما كان الإسلام قد قدَّم للبشرية الحقائق كاملة. وحسم بذلك كل المنازعات والخلافات التي ثارت حول كثير من قضايا الإنسان والكون والحياة؛ فإنه قد أرسى دعامة الوحدة الفكرية والروحية على قاعدة المنهج الرباني الذي هدم الخرافات والأوهام والتناقضات، برد الأمر في هذه القضايا إلى الله عز وجل.
ومن هنا لم يستطع أعداء الإسلام أن ينفذوا إلى كيانه الاعتقادي والفكري والروحي والتشريعي، المرتكز على الوحدة الدينية الأصلية، التي تستجيب لها القلوب، وتنشرح الصدور، وتتفاعل العقول ليهدموه جملة؛ بل لجئوا إلى أسلوب التفريق والتمزيق.. تفريق المسلمين إلى شيع وطوائف وأحزاب، وتمزيق وحدة عقيدتهم ونظامهم، بإثارة الشبهات، ونشر الافتراءات، وتشويه حقيقة الإسلام، بالإلحاح المتواصل على إقصاء الدين عن الحياة، وحصره في نطاق محدود، يسلبه عنصر التأثير والتوجيه والتنظيم لقضايا الإنسان الفكرية والمادية والسياسية والاجتماعية..
قال تعالى في تقرير هذه الوحدة الدينية الأصلية وإقامتها والنهي عن تمزيقها:
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا
__________
1 النساء: "65".
فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} 1.
وفي كشف دعاة هذا التفريق والتمزيق، وفضح نواياهم الخبيثة الحاقدة، وأساليبهم التي تحركها مصالحهم الذاتية وأهواؤهم الفاسدة..
يقول عز وجل:
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} 2.
ويقول سبحانه:
{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 3.
ويقول:
{وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 4.
ويقول:
{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} 5.
د- وتقوم هذه الوحدة المترابطة المتناسقة على أساس خاصة الشمول في العقيدة الإسلامية، وهي خاصة تجعل العقيدة الإسلامية هي وحدة العقيدة
__________
1 الشورى: "13".
2 الأنعام: "159".
3 البقرة: "75".
4 البقرة: "146".
5 البقرة: "109".
المثلى للإنسان، منفردًا ومجتمعًا، وعاملًا لروحه أو عاملًا لجسده، وناظرًا إلى دنياه أو ناظرًا إلى آخرته، ومسالمًا ومحاربًا، ومعطيًا حق نفسه أو معطيًا حق حاكمه وحكومته، وليس يقبل -في منطق هذه العقيدة- أن يطلب الإنسان الدنيا ويغفل عن الآخرة، كما لا يقبل منه كذلك أن يكون سلبيًا تجاه الحياة، وما تقتضيه من عمل وجد وجهاد، بدعوى السمو بالروح وطلب الآخرة، وليس مقبولًا أصلًا -بمنطق هذه العقيدة- أن يصحب الإنسان إسلامه في حالة، ويدعه في حالة أخرى؛ فالعقيدة بالنسبة للمسلم روحه الحية الدائمة، المتحركة في وجدانه وسلوكه وعمله، في جميع حالاته وجميع حالاتها؛ سواء تفرد وحده أو جمعته بالناس أواصر الاجتماع.
إن شمول العقيدة في ظواهرها الفردية، وظواهرها الاجتماعية هو المزية الخاصة في العقيدة الإسلامية، وهو المزية التي توحي إلى الإنسان أنه "كلُّ" شامل؛ فيستريح من فصام العقائد التي تشطر السريرة شطرين، ثم تعيا بالجمع بين الشطرين على وفاق.
وكما لا يقبل أن ينقسم الإنسان قسمين بين الدنيا والآخرة، أو بين الجسد والروح، أو بين خصائصه الفردية ونزعاته الاجتماعية؛ لأن في هذا الانقسام فصامًا يشق على النفس احتماله، ويدفع الإنسان إلى الحيرة والقلق والاضطراب؛ فكذلك لا بد له إزاء هذا الشقاء من عقيدة تشفيه من آفات هذا الفصام الذي يباعد المسافة بين الروح والجسد، والدنيا والآخرة، والفرد والجماعة. ولن يجد الإنسان هذا الشفاء إلا في عقيدة الإسلام وحدها التي تعصمه من الحيرة والانقسام، ولا تشطر سريرته وحياته أشطارًا مختلفة؛ بل تقيم نفسه ووجوده على ركيزة الوحدة الكاملة في أمر وجدانه وعمله ودنياه وآخرته، ووحدته واجتماعه1.
__________
1 انظر "الإسلام في القرن العشرين": عباس محمود العقاد ص27/ 33.
قال تعالى:
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 1.
__________
1 القصص: "77".
أ- من خصائص الثقافة الإسلامية أنها كلٌّ متَّحد مترابط متناسق، يؤخذ جملة وتفصيلًا دون اصطفاء أو استهواء، أو اعتبار لما يوافق الهوى أو يصادمه؛ فالثقافة الإسلامية بمفاهيمها العامة الشاملة ليست أجزاء متفرقة لا رابطة بينها، تعرض كما تعرض السلع في المتاجر؛ ليختار الإنسان منها ما يلائمه، ويوافق مزاجه، ويدع ما لا يرغب فيه لعدم توافقه مع ذوقه أو لغلاء ثمنه.
"إن الاسلام كلٌّ لا يتجزأ؛ فإما أن يؤخذ جملة، وإما أن يترك جملة، أما أن يستفتى الإسلام في صغار الشئون، وأن يهمل في الأسس العامة التي تقوم عليها الحياة والمجتمع؛ فهذا هو الصَّغار الذي لا يجوز لمسلم أن يقبله للإسلام.
إن جواب أي استفتاء عن مشكلة جزئية من مشكلات المجتمعات التي لا تدين بالإسلام، ولا تعترف بشريعته أن يقال: حكِّموا الإسلام أولاً في الحياة كلها، ثم اطلبوا بعد ذلك رأيه في مشكلات الحياة التي ينشئها هو، لا التي أنشأها نظام آخر مناقض للإسلام..
إن الإسلام يربِّي الناس تربية خاصة، ويحكمهم وفق شريعة خاصة، وينظم شئونهم على أسس خاصة، ويخلق مقومات اجتماعية واقتصادية وشعورية خاصة؛ فأولاً طبقوا الإسلام جملة، في نظام الحكم، وفي أسس التشريع، وفي قواعد التربية، ثم انظروا هل تبقى هذه المشكلات التي تسألون عنها، أم تزول من نفسها، أما قبل ذلك فما للإسلام وما لهذه القضايا التي لا يعرفها المجتمع الإسلامي الصحيح؟ "1.
ب- إن مناط الأمر في هذه القضية قائم على فهم المعنى الحقيقي الشامل لانتماء الإنسان للإسلام؛ فالانتماء للإسلام يقتضي من المسلم أن يذعن بأن الحاكمية لله عز وجل، وأن حكم الله تبارك وتعالى فوق كل رأي من آراء الأشخاص أو الجماعات، أو الأهواء أو المصالح، ولا يعد هذا الانتماء الإسلامي صحيحًا إذا أصابته التجزئة بسائق المنافع والمصالح والرغبات؛ فالمسلم مطالب بأن يقيد حريته الخاصة، ورغبته الذاتية بقيود الشريعة، حتى يصح أن يوصف بأنه قد سلك صراط الله المستقيم، وصدق في الانتماء لهذا الدين. ولا بد مع الإذعان لحكم الله والتسليم له، وصدق الاتباع لأمره من اليقين الكامل بأحقية هذا النظام الإسلامي، وأنه وحدة النظام الذي يحقق السعادة الكاملة للإنسان في الدنيا والآخرة.
قال تعالى:
__________
1 سيد قطب: "دراسات إسلامية" ص88. وانظر فصل "خذوا الإسلام بتمامه" ص86.
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 1.
ج- إن وحدة الثقافة الإسلامية المترابطة المتناسقة ترتكز من وجهة نظر الإسلام على أساس منطقي قوي وهو: أن الحقائق لا يمكن أن تكون متناقضة. ولما كان الإسلام قد قدَّم للبشرية الحقائق كاملة. وحسم بذلك كل المنازعات والخلافات التي ثارت حول كثير من قضايا الإنسان والكون والحياة؛ فإنه قد أرسى دعامة الوحدة الفكرية والروحية على قاعدة المنهج الرباني الذي هدم الخرافات والأوهام والتناقضات، برد الأمر في هذه القضايا إلى الله عز وجل.
ومن هنا لم يستطع أعداء الإسلام أن ينفذوا إلى كيانه الاعتقادي والفكري والروحي والتشريعي، المرتكز على الوحدة الدينية الأصلية، التي تستجيب لها القلوب، وتنشرح الصدور، وتتفاعل العقول ليهدموه جملة؛ بل لجئوا إلى أسلوب التفريق والتمزيق.. تفريق المسلمين إلى شيع وطوائف وأحزاب، وتمزيق وحدة عقيدتهم ونظامهم، بإثارة الشبهات، ونشر الافتراءات، وتشويه حقيقة الإسلام، بالإلحاح المتواصل على إقصاء الدين عن الحياة، وحصره في نطاق محدود، يسلبه عنصر التأثير والتوجيه والتنظيم لقضايا الإنسان الفكرية والمادية والسياسية والاجتماعية..
قال تعالى في تقرير هذه الوحدة الدينية الأصلية وإقامتها والنهي عن تمزيقها:
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا
__________
1 النساء: "65".
فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} 1.
وفي كشف دعاة هذا التفريق والتمزيق، وفضح نواياهم الخبيثة الحاقدة، وأساليبهم التي تحركها مصالحهم الذاتية وأهواؤهم الفاسدة..
يقول عز وجل:
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} 2.
ويقول سبحانه:
{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 3.
ويقول:
{وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 4.
ويقول:
{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} 5.
د- وتقوم هذه الوحدة المترابطة المتناسقة على أساس خاصة الشمول في العقيدة الإسلامية، وهي خاصة تجعل العقيدة الإسلامية هي وحدة العقيدة
__________
1 الشورى: "13".
2 الأنعام: "159".
3 البقرة: "75".
4 البقرة: "146".
5 البقرة: "109".
المثلى للإنسان، منفردًا ومجتمعًا، وعاملًا لروحه أو عاملًا لجسده، وناظرًا إلى دنياه أو ناظرًا إلى آخرته، ومسالمًا ومحاربًا، ومعطيًا حق نفسه أو معطيًا حق حاكمه وحكومته، وليس يقبل -في منطق هذه العقيدة- أن يطلب الإنسان الدنيا ويغفل عن الآخرة، كما لا يقبل منه كذلك أن يكون سلبيًا تجاه الحياة، وما تقتضيه من عمل وجد وجهاد، بدعوى السمو بالروح وطلب الآخرة، وليس مقبولًا أصلًا -بمنطق هذه العقيدة- أن يصحب الإنسان إسلامه في حالة، ويدعه في حالة أخرى؛ فالعقيدة بالنسبة للمسلم روحه الحية الدائمة، المتحركة في وجدانه وسلوكه وعمله، في جميع حالاته وجميع حالاتها؛ سواء تفرد وحده أو جمعته بالناس أواصر الاجتماع.
إن شمول العقيدة في ظواهرها الفردية، وظواهرها الاجتماعية هو المزية الخاصة في العقيدة الإسلامية، وهو المزية التي توحي إلى الإنسان أنه "كلُّ" شامل؛ فيستريح من فصام العقائد التي تشطر السريرة شطرين، ثم تعيا بالجمع بين الشطرين على وفاق.
وكما لا يقبل أن ينقسم الإنسان قسمين بين الدنيا والآخرة، أو بين الجسد والروح، أو بين خصائصه الفردية ونزعاته الاجتماعية؛ لأن في هذا الانقسام فصامًا يشق على النفس احتماله، ويدفع الإنسان إلى الحيرة والقلق والاضطراب؛ فكذلك لا بد له إزاء هذا الشقاء من عقيدة تشفيه من آفات هذا الفصام الذي يباعد المسافة بين الروح والجسد، والدنيا والآخرة، والفرد والجماعة. ولن يجد الإنسان هذا الشفاء إلا في عقيدة الإسلام وحدها التي تعصمه من الحيرة والانقسام، ولا تشطر سريرته وحياته أشطارًا مختلفة؛ بل تقيم نفسه ووجوده على ركيزة الوحدة الكاملة في أمر وجدانه وعمله ودنياه وآخرته، ووحدته واجتماعه1.
__________
1 انظر "الإسلام في القرن العشرين": عباس محمود العقاد ص27/ 33.
قال تعالى:
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 1.
__________
1 القصص: "77".
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
4- بثها روح التميز في الأمة:
- بثها روح التميز في الأمة:
أ- ومن خصائص الثقافة الإسلامية بث روح التميز التام لهذه الأمة في القول والعمل والسلوك.. تميزًا ينأى بها نأيًا كاملًا عن التشبه بغيرها من الأمم المخالفة لها في العقيدة والخلق والاتجاه في كل شأن يمس وجودها الفريد، وأوضاعها الاجتماعية وطابع شخصيتها العامة.
إن الشعور بالتميز يصون في الأمة مقومات وجودها، وينشئ لها كيانًا راسخًا صلبًا، لا يعتريه التصدع، أو ينفذ إليه الخلل، ما دام هذا الشعور مستندًا إلى الحق والخير والفضيلة، منبثقًا من جوهر العقيدة، وأصولها الثابتة؛ متصلًا بالشريعة وأحكامها بأوثق سبب. وهو -في آثاره الفكرية والنفسية- يعمق ما ينبغي أن يكون عليه المسلم من كراهية للكفر ونفور منه، وتباعد عن خطه المنحرف، وسيره الشاذ.
قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ، مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 1.
ففي هاتين الآيتين لفتة تربوية عالية تلح على الفاصل الكبير بين أسلوبين في الخطاب، بينهما في ظاهر اللفظ تشابه؛ لكنهما -في ظلالهما النفسية، وما تنم عنه من نوايا- مختلفان.
وقصة ذلك: أن اليهود كانوا يعلنون من الكلام ما فيه تورية، لما يقصدون من التنقيص؛ فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا؛ يقولوا: راعِنا، ويورّون بالرعونة كما قال تعالى:
{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} 2.
وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون: السام عليكم "والسام هو الموت". كما ورد أن بعض اليهود كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لقيه فكلمه قال: أرعني سمعك واسمع غير مسمع. وقد حسب المسلمون أن الأنبياء كانت تفخم بمثل هذا الخطاب. فكان ناس منهم يقولون مثل هذا القول؛ فجاء النهي للمؤمنين عن التشبه باليهود في أقوالهم وأفعالهم، وكره الله للمسلمين أن يقولوا لنبيهم صلى الله عليه وسلم: "راعنا"، وسقطت هذه الكلمة في ميدان التربية الإلهية؛ لا باعتبار حروفها وتركيبها؛ فهي كلمة عربية مثل غيرها من الكلمات؛ ولكن باعتبار صدورها عن اليهود الأشرار المفسدين. وفي هذا نهي قاطع
__________
1 البقرة: "104-105".
2 النساء: "46".
للمسلمين عن التشبه بالكافرين في كل ما يصدر عنهم من قول أو عمل؛ لأن من تشبه بقوم فهو منهم، وكيف يتشبه المسملون بهؤلاء الأعداء؟ من الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، وهم يطوون صدورهم على أشد العداوة والبغضاء، ولا يضمرون للمؤمنين إلا الحقد والضغينة، ويكرهون -حسدًا واستكبارًا وتعصبًا- أن يختارهم الله لحمل رسالة الحق والخير والسداد، وأن يعدهم لقيادة البشرية، وتحريرها من أغلال الظلم والطغيان..
ب- وقد أفاض شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في حقيقة التميز ومعناه مبينًا ضرورة المسلم وحاجته إلى هداية الصراط المستقيم، وهو سبيل التميز؛ محذرًا في ذلك من الانحراف إلى طريق المغضوب عليهم أو الضالين، وأوضح أثر التميز في نفس المسلم وسلوكه وأحواله كلها؛ مشيرًا إلى ما تورثه المشاركة من تناسب وتشاكل بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال.
قال: "ثم إن الصراط المستقيم: هي أمور باطنةٌ في القلب: من اعتقادات وإرادات، وأمور ظاهرة ومن أقوال وأفعال قد تكون عبادات. وقد تكون أيضًا عادات في الطعام واللباس والنكاح والمسكن والاجتماع والافتراق والسفر والإقامة والركوب، وغير ذلك.
وهذه الأمور الباطنة والظاهرة: بينهما -ولا بد- ارتباط ومناسبة؛ فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أمورًا ظاهرةًً، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعورًا وأحوالًا.
وقد بعث الله عبده ورسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالحكمة التي هي سنته، وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له.
فكان من هذه الحكمة: أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين، وأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر -وإن لم
يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة -لأمور: منها: أن المشاركة في الهدى الظاهر، تورث تناسبًا وتشاكلًا بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال. وهذا أمر محسوس؛ فإن اللابس لثياب أهل العلم -مثلًا- يجد من نفسه نوع تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعه مقتضيًا لذلك إلا أن يمنعه من ذلك مانع.
ومنها: أن المخالفة في الهدى الظاهر توجب مباينةً ومفارقةً توجب الانقطاع عن موجبات الغضب، وأسباب الضلال، والانعطاف إلى أهل الهدي والرضوان، وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين. وكلما كان القلب أتمّ حياة وأعرف بالإسلام الذي هو الإسلام -لست أعني مجرد التوسم به ظاهرًا أو باطنًا بمجرد الاعتقادات التقليدية من حيث الجملة- كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطنًا أو ظاهرًا أتم، وبعده عن أخلاقهم الموجود في بعض المسلمين أشد. ومنها: أن مشاركتهم في الهدى الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التميز ظاهرًا بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضالين؛ إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية.
هذا إذا لم يكن ذلك الهدى الظاهر إلا مباحًا محضًا لو تجرد عن مشابهتهم؛ فأما إن كان من موجبات كفرهم؛ فإنه يكون شعبة من شعب الكفر. فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع ضلالهم ومعاصيهم؛ فهذا أصل ينبغي أن يُتَفَطَّنَ له. والله أعلم"1.
وإن المسلمين الذين اختصهم الله برحمته، ومنَّ عليهم بفضله العظيم، فكانوا حملة الأمانة الإلهية، والأمة الوسط الشهداء على الناس؛ مدعوون -دائمًا- إلى أن يلتزموا المنهج الإسلامي الكامل في العقيدة والفكر،
__________
1 اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيمية ص11.
والقول والعمل، والاجتماع والأخلاق، وكل شأن من شئون الحياة.. مدعوون -بحكم هذا المنهج- أن يعتصموا بحبل الله، ويتبعوا هداه، ويعتزوا بشخصيتهم الإسلامية الفريدة التي بها سادوا، وبها يسودون. وهذا هو ما تؤكد الثقافة الإسلامية على بنائه في فكر المسلم، وغرسه في ضميره، وجعله محور حركته واتجاهه، حتى تكون صياغته، وفق مفاهيم هذه الثقافة، صياغةً فريدة تتسم بالتميز التام الذي لا سبيل إليه إلا بالاعتصام بهدى الله، والسير على صراطه المستقيم، ومجانبة سبل المغضوب عليهم والضالين أصحاب الجحيم.
أ- ومن خصائص الثقافة الإسلامية بث روح التميز التام لهذه الأمة في القول والعمل والسلوك.. تميزًا ينأى بها نأيًا كاملًا عن التشبه بغيرها من الأمم المخالفة لها في العقيدة والخلق والاتجاه في كل شأن يمس وجودها الفريد، وأوضاعها الاجتماعية وطابع شخصيتها العامة.
إن الشعور بالتميز يصون في الأمة مقومات وجودها، وينشئ لها كيانًا راسخًا صلبًا، لا يعتريه التصدع، أو ينفذ إليه الخلل، ما دام هذا الشعور مستندًا إلى الحق والخير والفضيلة، منبثقًا من جوهر العقيدة، وأصولها الثابتة؛ متصلًا بالشريعة وأحكامها بأوثق سبب. وهو -في آثاره الفكرية والنفسية- يعمق ما ينبغي أن يكون عليه المسلم من كراهية للكفر ونفور منه، وتباعد عن خطه المنحرف، وسيره الشاذ.
قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ، مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 1.
ففي هاتين الآيتين لفتة تربوية عالية تلح على الفاصل الكبير بين أسلوبين في الخطاب، بينهما في ظاهر اللفظ تشابه؛ لكنهما -في ظلالهما النفسية، وما تنم عنه من نوايا- مختلفان.
وقصة ذلك: أن اليهود كانوا يعلنون من الكلام ما فيه تورية، لما يقصدون من التنقيص؛ فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا؛ يقولوا: راعِنا، ويورّون بالرعونة كما قال تعالى:
{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} 2.
وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون: السام عليكم "والسام هو الموت". كما ورد أن بعض اليهود كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لقيه فكلمه قال: أرعني سمعك واسمع غير مسمع. وقد حسب المسلمون أن الأنبياء كانت تفخم بمثل هذا الخطاب. فكان ناس منهم يقولون مثل هذا القول؛ فجاء النهي للمؤمنين عن التشبه باليهود في أقوالهم وأفعالهم، وكره الله للمسلمين أن يقولوا لنبيهم صلى الله عليه وسلم: "راعنا"، وسقطت هذه الكلمة في ميدان التربية الإلهية؛ لا باعتبار حروفها وتركيبها؛ فهي كلمة عربية مثل غيرها من الكلمات؛ ولكن باعتبار صدورها عن اليهود الأشرار المفسدين. وفي هذا نهي قاطع
__________
1 البقرة: "104-105".
2 النساء: "46".
للمسلمين عن التشبه بالكافرين في كل ما يصدر عنهم من قول أو عمل؛ لأن من تشبه بقوم فهو منهم، وكيف يتشبه المسملون بهؤلاء الأعداء؟ من الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، وهم يطوون صدورهم على أشد العداوة والبغضاء، ولا يضمرون للمؤمنين إلا الحقد والضغينة، ويكرهون -حسدًا واستكبارًا وتعصبًا- أن يختارهم الله لحمل رسالة الحق والخير والسداد، وأن يعدهم لقيادة البشرية، وتحريرها من أغلال الظلم والطغيان..
ب- وقد أفاض شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في حقيقة التميز ومعناه مبينًا ضرورة المسلم وحاجته إلى هداية الصراط المستقيم، وهو سبيل التميز؛ محذرًا في ذلك من الانحراف إلى طريق المغضوب عليهم أو الضالين، وأوضح أثر التميز في نفس المسلم وسلوكه وأحواله كلها؛ مشيرًا إلى ما تورثه المشاركة من تناسب وتشاكل بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال.
قال: "ثم إن الصراط المستقيم: هي أمور باطنةٌ في القلب: من اعتقادات وإرادات، وأمور ظاهرة ومن أقوال وأفعال قد تكون عبادات. وقد تكون أيضًا عادات في الطعام واللباس والنكاح والمسكن والاجتماع والافتراق والسفر والإقامة والركوب، وغير ذلك.
وهذه الأمور الباطنة والظاهرة: بينهما -ولا بد- ارتباط ومناسبة؛ فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أمورًا ظاهرةًً، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعورًا وأحوالًا.
وقد بعث الله عبده ورسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالحكمة التي هي سنته، وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له.
فكان من هذه الحكمة: أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين، وأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر -وإن لم
يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة -لأمور: منها: أن المشاركة في الهدى الظاهر، تورث تناسبًا وتشاكلًا بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال. وهذا أمر محسوس؛ فإن اللابس لثياب أهل العلم -مثلًا- يجد من نفسه نوع تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعه مقتضيًا لذلك إلا أن يمنعه من ذلك مانع.
ومنها: أن المخالفة في الهدى الظاهر توجب مباينةً ومفارقةً توجب الانقطاع عن موجبات الغضب، وأسباب الضلال، والانعطاف إلى أهل الهدي والرضوان، وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين. وكلما كان القلب أتمّ حياة وأعرف بالإسلام الذي هو الإسلام -لست أعني مجرد التوسم به ظاهرًا أو باطنًا بمجرد الاعتقادات التقليدية من حيث الجملة- كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطنًا أو ظاهرًا أتم، وبعده عن أخلاقهم الموجود في بعض المسلمين أشد. ومنها: أن مشاركتهم في الهدى الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التميز ظاهرًا بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضالين؛ إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية.
هذا إذا لم يكن ذلك الهدى الظاهر إلا مباحًا محضًا لو تجرد عن مشابهتهم؛ فأما إن كان من موجبات كفرهم؛ فإنه يكون شعبة من شعب الكفر. فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع ضلالهم ومعاصيهم؛ فهذا أصل ينبغي أن يُتَفَطَّنَ له. والله أعلم"1.
وإن المسلمين الذين اختصهم الله برحمته، ومنَّ عليهم بفضله العظيم، فكانوا حملة الأمانة الإلهية، والأمة الوسط الشهداء على الناس؛ مدعوون -دائمًا- إلى أن يلتزموا المنهج الإسلامي الكامل في العقيدة والفكر،
__________
1 اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام ابن تيمية ص11.
والقول والعمل، والاجتماع والأخلاق، وكل شأن من شئون الحياة.. مدعوون -بحكم هذا المنهج- أن يعتصموا بحبل الله، ويتبعوا هداه، ويعتزوا بشخصيتهم الإسلامية الفريدة التي بها سادوا، وبها يسودون. وهذا هو ما تؤكد الثقافة الإسلامية على بنائه في فكر المسلم، وغرسه في ضميره، وجعله محور حركته واتجاهه، حتى تكون صياغته، وفق مفاهيم هذه الثقافة، صياغةً فريدة تتسم بالتميز التام الذي لا سبيل إليه إلا بالاعتصام بهدى الله، والسير على صراطه المستقيم، ومجانبة سبل المغضوب عليهم والضالين أصحاب الجحيم.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
5- إيجابية في روحها:
- إيجابية في روحها:
إن مما تمتاز به الثقافة الإسلامية -وهي مفاهيم دعوة عامة شاملة كاملة- رعايتها الخالصة للروح الإيجابية في الإنسان؛ فهذه الروح التي تبثها هذه الثقافة في الكيان الفكري والنفسي والاجتماعي للمؤمن، ترتفع به عن حدود الذات في مطالبها وأشواقها ورغباتها، إلى أرحب مدى إنساني؛ وبذلك تكون النعمة على المؤمن في الهداية والاستقامة نعمة كبرى، يشع نورها إلى غيره من الباحثين عن الحقيقة، المتطلعين إلى الهداية، المشوقين إلى الاستقامة.
ومن حكمة الله عز وجل ورحمته بعباده أن أنعم عليهم بهذا الدين الذي جاء هدى للناس كافة، وسعادة لهم في الدنيا والآخرة، واختار الله لتبليغه ونشره، وبث تعاليمه، وإقامة شرعته: هذا النبي الأمي الكريم الذي كان صفوته من خلقه، وخاتم أنبيائه ورسله؛ فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وزان التاريخ بمآثر مجد خالد، وآيات بطولة رائعة، ورفع في الدنيا راية الحق، وشاد صروح العدل، وبنى حصون الحرية، واستنقذ الإنسان من وهدة
الضلال، وتيه الفراغ والضياع، ولفتهُ إلى حقيقة فطرته، وجوهر أصالته، وأقامه على النهج السوي، والجادة القويمة، وسار به في معالم نيرة، ومسالك واضحة، ووجَّهَهُ إلى أصح الأهداف وأنبل المقاصد.
قال سبحانه:
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} 1.
ولقد وعى الإنسان بهذه الهداية رسالته، وأدرك بهذا المنهج ذاته؛ فاستمسك بعروته الوثقى، واعتصم بحبله المتين، وصاغ وفق تعاليمه السمحة حياته في عبودية خالصة، وامتثال كامل.. يحل ما أحلّ الله له، ويحرّم ما حرّم الله عليه، في التزام تام لما رسم من حدود، واتباع كريم لما سنّ من أحكام، وذاق حلاوة الإيمان، واستظل برايته العزيزة وأوى إلى حماه الأمين.. فعز عليه أن يسعد والناس في شقاء، ويطمئن والبشر في قلق، ويروى والخلق في ظمأ قاتل، يجرون وراء السراب؛ فدفعه ما فطر عليه من حب للخير، وما جبل عليه من رحمة أودعها الله فيه، وزادها الإيمان قوة ونماء أن يحمل إلى القلوب زادها، وإلى النفوس ريّها، وأن يزيح عن الأبصار الغشاوة، ثم يقود الخطى على درب السلامة في حب وإيثار، وإنسانية عالية، عميقة الإدراك، مرهفة الشعور، تملك من طاقات العطاء الخيّر، والإحسان الكبير نبعًا ثرًّا لا يَنْفَد، ولايزيده الأخذ منه إلا مزيد فيض، وقوة تفجُّر..
__________
1 البقرة: "151-152".
عن ابن عمرو -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ما أهدى المرء المسلم لأخيه هدية أفضل من كلمة حكمة يزيده الله بها هدى، أو يردَّه عن ردى" 1.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا" 2.
ب- إن المؤمن منطلق في دعوته إلى الهدى، ونصحه للناس، وبره بهم، من الروح الإيجابية في الإيمان.. هذه الروح التي تأبى أن تكون الهداية مجرد يقظة في فكر الفرد، أو شعور في وجدانه، لا يتجاوز بها صاحبها حدود ذاته، ونطاق نفسه دون أن يؤدي حق هذه النعمة بالدعوة والإرشاد، والقيام بما كلفه الله به من التبليغ الشهادة. إنه يأبى أن يحتجز الخير لنفسه أو لأسرته أو عشيرته أو بني جنسه.. ويوقن أن الأثرة تتناقض مع طابع عقيدته، والسلبية تتنافى مع اتجاه رسالته، ويدرك أن عليه أن يؤدي واجب الشهادة التي قررها الله -تبارك وتعالى- في كتابه الكريم حيث قال:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 3.
وقال:
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} 4.
__________
1 رواه البيهقي.
2 رواه مسلم.
3 البقرة: "143".
4 البقرة: "140".
كما يشعر أنه يحمل على عاتقه تبعات انحراف الناس عن الحق، وسلوكهم درب الشيطان، وانزلاقهم إلى هاوية الضلال، وشعوره هذا يبعث في نفسه الرضا، وفي ضميره الطمأنينة؛ لأنه يسعد بتحقيق ما كلف به من النهوض بمسئولية الخلافة في الأرض، وصون ميراث النبوة الذي حدده -سبحانه وتعالى- بقوله:
{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1.
وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم" 2.
ج- إذا كانت هذه الإيجابية -وهي إحدى خصائص دعوة الإسلام وثقافته- تتمثل في دعوة الناس إلى الحق، وحب الخير لهم، والعمل على ما ينجيهم من شقاء العمر، وسوء المنقلب والمصير؛ فإنها -في مداها الأرحب- تطبع المؤمن في أسلوب دعوته بطابع الإحسان والإخلاص، والثبات على المبدأ، والصبر على الأذى، والدأب الذي لا تصرمه الخيبة، ولا يخالطه اليأس مهما بعدت الشقة، وعز المنال، وصعب المسير..؛ لأن الأساس الذي ترتكز عليه هذه الإيجابية، هو التحرر من المطامع وإغرائها، وتقبل المغارم مهما كانت ثقيلة، وقهرُ آفتي الطمع والخوف صفةٌ متلازمة مع منطق الدعوة في التجرد والثبات؛ فعلى المؤمن أن يؤدي واجبه في التبليغ والإرشاد دون أن ينتظر جزاء أو شكورًا؛ بل لقد خشي بعض الصحابة -رضي الله عنهم- أن يكون في ثناء الناس على من يعمل الخير ما يحبط الأجر، أو يخدش قصد العمل. فطمأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- سائله عن هذا ليطمئن نفسًا، وينعم بالًا.
__________
1 النساء: "165".
2 رواه البخاري ومسلم.
عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل الذي يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ قال: "تلك عاجل بشرى المؤمن" 1.
والمؤمن لا يعلق عمله على الاستجابة، أو يربطه بالنجاح؛ فهذه أمور لا شأن له بها، ولا يستطيع أن ينالها بمزيد سعيه، ووافر عمله إذا لم تكن مما كتبه الله وقدَّره، وقد نبه الله -سبحانه- نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى هذا في كتابه الكريم ليكون على بصيرة من الأمر. وفي هذا الإرشاد الإلهي درس عظيم للدعاة إلى الله حتى يحذروا الضعف والتردد، ولا يمسهم القنوط إذا لم يجدوا ما يؤملون من نجاح. أو لم يلقوا ممن يريدون الخير لهم إلا الجحود والإعراض، أو الأذى والنكال.. وفي هذا يقول الله عز وجل:
{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 2.
كما ذكر الله -تبارك- في آيات كثيرة أن مهمة الرسول هي الإرشاد والتبليغ والتذكير فقال سبحانه:
{مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} 3.
وقال:
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 4.
__________
1 رواه مسلم.
2 البقرة: "272".
3 المائدة: "99".
4 المائدة: "92".
وقال:
{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} 1.
د- إن الارتفاع إلى مستوى الرسالة، والإخلاص في العمل، ووضوح الغاية، وسلامة القصد، يُزَوِّدُ المؤمن بطاقة عظيمة تحرِّكه للقيام بالواجب، وتهون عليه ما يلقى من المتاعب، وقدوة المسلم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد قام بأمر الله يبلغ الدعوة، ويصدع بالحق، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وينفذ أحكام الإسلام بصدق وأمانة وإخلاص على أكمل الطرق وأتمِّها.. لم يصرفه عن ذلك ما لقي من التحدي والمقاومة والإعراض، ولم توهن السيوف التي سلت في وجهه ووجوه أصحابه من صدق عزيمته وقوة إرادته.. وكان ملاذه الدائم العمل على ما يرضي الله عز وجل، وإن سخط عليه الناس أو نالوه بمساءة وأذى.
لقد توجه إلى الله بدعاء خاشع رائع يوم حصبه المشركون في الطائف بالحجارة، وأوصدوا دون دعوته قلوبهم وأسماعهم؛ فقال: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، أنت ربي، إلى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي؟ أم إلى عدوٍّ ملكتَهُ أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي، ولكنَّ عافيتكَ هي أَوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى تَرْضَى، ولا حول ولا قوة إلا بالله".2
__________
1 آل عمران: "20".
2 رواه الطبراني.
إن مما تمتاز به الثقافة الإسلامية -وهي مفاهيم دعوة عامة شاملة كاملة- رعايتها الخالصة للروح الإيجابية في الإنسان؛ فهذه الروح التي تبثها هذه الثقافة في الكيان الفكري والنفسي والاجتماعي للمؤمن، ترتفع به عن حدود الذات في مطالبها وأشواقها ورغباتها، إلى أرحب مدى إنساني؛ وبذلك تكون النعمة على المؤمن في الهداية والاستقامة نعمة كبرى، يشع نورها إلى غيره من الباحثين عن الحقيقة، المتطلعين إلى الهداية، المشوقين إلى الاستقامة.
ومن حكمة الله عز وجل ورحمته بعباده أن أنعم عليهم بهذا الدين الذي جاء هدى للناس كافة، وسعادة لهم في الدنيا والآخرة، واختار الله لتبليغه ونشره، وبث تعاليمه، وإقامة شرعته: هذا النبي الأمي الكريم الذي كان صفوته من خلقه، وخاتم أنبيائه ورسله؛ فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وزان التاريخ بمآثر مجد خالد، وآيات بطولة رائعة، ورفع في الدنيا راية الحق، وشاد صروح العدل، وبنى حصون الحرية، واستنقذ الإنسان من وهدة
الضلال، وتيه الفراغ والضياع، ولفتهُ إلى حقيقة فطرته، وجوهر أصالته، وأقامه على النهج السوي، والجادة القويمة، وسار به في معالم نيرة، ومسالك واضحة، ووجَّهَهُ إلى أصح الأهداف وأنبل المقاصد.
قال سبحانه:
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} 1.
ولقد وعى الإنسان بهذه الهداية رسالته، وأدرك بهذا المنهج ذاته؛ فاستمسك بعروته الوثقى، واعتصم بحبله المتين، وصاغ وفق تعاليمه السمحة حياته في عبودية خالصة، وامتثال كامل.. يحل ما أحلّ الله له، ويحرّم ما حرّم الله عليه، في التزام تام لما رسم من حدود، واتباع كريم لما سنّ من أحكام، وذاق حلاوة الإيمان، واستظل برايته العزيزة وأوى إلى حماه الأمين.. فعز عليه أن يسعد والناس في شقاء، ويطمئن والبشر في قلق، ويروى والخلق في ظمأ قاتل، يجرون وراء السراب؛ فدفعه ما فطر عليه من حب للخير، وما جبل عليه من رحمة أودعها الله فيه، وزادها الإيمان قوة ونماء أن يحمل إلى القلوب زادها، وإلى النفوس ريّها، وأن يزيح عن الأبصار الغشاوة، ثم يقود الخطى على درب السلامة في حب وإيثار، وإنسانية عالية، عميقة الإدراك، مرهفة الشعور، تملك من طاقات العطاء الخيّر، والإحسان الكبير نبعًا ثرًّا لا يَنْفَد، ولايزيده الأخذ منه إلا مزيد فيض، وقوة تفجُّر..
__________
1 البقرة: "151-152".
عن ابن عمرو -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ما أهدى المرء المسلم لأخيه هدية أفضل من كلمة حكمة يزيده الله بها هدى، أو يردَّه عن ردى" 1.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا" 2.
ب- إن المؤمن منطلق في دعوته إلى الهدى، ونصحه للناس، وبره بهم، من الروح الإيجابية في الإيمان.. هذه الروح التي تأبى أن تكون الهداية مجرد يقظة في فكر الفرد، أو شعور في وجدانه، لا يتجاوز بها صاحبها حدود ذاته، ونطاق نفسه دون أن يؤدي حق هذه النعمة بالدعوة والإرشاد، والقيام بما كلفه الله به من التبليغ الشهادة. إنه يأبى أن يحتجز الخير لنفسه أو لأسرته أو عشيرته أو بني جنسه.. ويوقن أن الأثرة تتناقض مع طابع عقيدته، والسلبية تتنافى مع اتجاه رسالته، ويدرك أن عليه أن يؤدي واجب الشهادة التي قررها الله -تبارك وتعالى- في كتابه الكريم حيث قال:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} 3.
وقال:
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} 4.
__________
1 رواه البيهقي.
2 رواه مسلم.
3 البقرة: "143".
4 البقرة: "140".
كما يشعر أنه يحمل على عاتقه تبعات انحراف الناس عن الحق، وسلوكهم درب الشيطان، وانزلاقهم إلى هاوية الضلال، وشعوره هذا يبعث في نفسه الرضا، وفي ضميره الطمأنينة؛ لأنه يسعد بتحقيق ما كلف به من النهوض بمسئولية الخلافة في الأرض، وصون ميراث النبوة الذي حدده -سبحانه وتعالى- بقوله:
{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1.
وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم" 2.
ج- إذا كانت هذه الإيجابية -وهي إحدى خصائص دعوة الإسلام وثقافته- تتمثل في دعوة الناس إلى الحق، وحب الخير لهم، والعمل على ما ينجيهم من شقاء العمر، وسوء المنقلب والمصير؛ فإنها -في مداها الأرحب- تطبع المؤمن في أسلوب دعوته بطابع الإحسان والإخلاص، والثبات على المبدأ، والصبر على الأذى، والدأب الذي لا تصرمه الخيبة، ولا يخالطه اليأس مهما بعدت الشقة، وعز المنال، وصعب المسير..؛ لأن الأساس الذي ترتكز عليه هذه الإيجابية، هو التحرر من المطامع وإغرائها، وتقبل المغارم مهما كانت ثقيلة، وقهرُ آفتي الطمع والخوف صفةٌ متلازمة مع منطق الدعوة في التجرد والثبات؛ فعلى المؤمن أن يؤدي واجبه في التبليغ والإرشاد دون أن ينتظر جزاء أو شكورًا؛ بل لقد خشي بعض الصحابة -رضي الله عنهم- أن يكون في ثناء الناس على من يعمل الخير ما يحبط الأجر، أو يخدش قصد العمل. فطمأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- سائله عن هذا ليطمئن نفسًا، وينعم بالًا.
__________
1 النساء: "165".
2 رواه البخاري ومسلم.
عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل الذي يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ قال: "تلك عاجل بشرى المؤمن" 1.
والمؤمن لا يعلق عمله على الاستجابة، أو يربطه بالنجاح؛ فهذه أمور لا شأن له بها، ولا يستطيع أن ينالها بمزيد سعيه، ووافر عمله إذا لم تكن مما كتبه الله وقدَّره، وقد نبه الله -سبحانه- نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى هذا في كتابه الكريم ليكون على بصيرة من الأمر. وفي هذا الإرشاد الإلهي درس عظيم للدعاة إلى الله حتى يحذروا الضعف والتردد، ولا يمسهم القنوط إذا لم يجدوا ما يؤملون من نجاح. أو لم يلقوا ممن يريدون الخير لهم إلا الجحود والإعراض، أو الأذى والنكال.. وفي هذا يقول الله عز وجل:
{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 2.
كما ذكر الله -تبارك- في آيات كثيرة أن مهمة الرسول هي الإرشاد والتبليغ والتذكير فقال سبحانه:
{مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} 3.
وقال:
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 4.
__________
1 رواه مسلم.
2 البقرة: "272".
3 المائدة: "99".
4 المائدة: "92".
وقال:
{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} 1.
د- إن الارتفاع إلى مستوى الرسالة، والإخلاص في العمل، ووضوح الغاية، وسلامة القصد، يُزَوِّدُ المؤمن بطاقة عظيمة تحرِّكه للقيام بالواجب، وتهون عليه ما يلقى من المتاعب، وقدوة المسلم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد قام بأمر الله يبلغ الدعوة، ويصدع بالحق، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وينفذ أحكام الإسلام بصدق وأمانة وإخلاص على أكمل الطرق وأتمِّها.. لم يصرفه عن ذلك ما لقي من التحدي والمقاومة والإعراض، ولم توهن السيوف التي سلت في وجهه ووجوه أصحابه من صدق عزيمته وقوة إرادته.. وكان ملاذه الدائم العمل على ما يرضي الله عز وجل، وإن سخط عليه الناس أو نالوه بمساءة وأذى.
لقد توجه إلى الله بدعاء خاشع رائع يوم حصبه المشركون في الطائف بالحجارة، وأوصدوا دون دعوته قلوبهم وأسماعهم؛ فقال: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، أنت ربي، إلى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي؟ أم إلى عدوٍّ ملكتَهُ أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي، ولكنَّ عافيتكَ هي أَوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى تَرْضَى، ولا حول ولا قوة إلا بالله".2
__________
1 آل عمران: "20".
2 رواه الطبراني.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
6- أخلاقية في دعوتها:
- أخلاقية في دعوتها:
أ- جاء هذا الإسلام منهج هداية ونور لتصحيح عقيدة البشر، وتهذيب نفوسهم، وتقويم أخلاقهم، وإصلاح مجتمعهم، وتنظيم علاقاتهم، وإشاعة الخير فيما بينهم، ومطاردة الشر والفساد في بيئاتهم، وقطع دابر الفرقة والتناحر بين صفوفهم.
قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} 1.
وفي دعوة الإسلام العامة الشاملة الخالدة روح أخلاقية عالية، تنبثق من جوهر العقيدة، وتشيع في كل عبادة، وترى في كل حكم، وتظهر في كل توجيه، وتلمس في كل تنظيم؛ ولهذا كانت الثقافة الإسلامية دستور الأخلاق، ومنهاج التربية النفسية لرفع الإنسان الذي كرمه الله بتكليفه حمل هذه الرسالة، وأداء هذه الأمانة من حضيض الفساد، وبؤر التمزق والانحراف إلى أوج الصلاح والتماسك والاستقامة.
قال تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 2.
وقد حدد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مهمة بعثته وهو خاتم الأنبياء والمرسلين بهذه الكلمة الرائعة الجامعة: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" 3. وفي هذا دلالة
__________
1 يونس: "57".
2 النحل: "90".
3 رواه البخاري في الأدب، والحاكم، ورواه مالك: "بعثت لأتمم حسن الاخلاق".
كبرى على أن دعوة الإسلام هي وحدها منتهى الخير، وذروة الفضائل، وصفوة الكمال، وخلاصة الأخلاق.. كما أن صاحب هذه الدعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان النموذج الأمثل للخلق الرفيع بما حباه ربه من صفات وفضائل تجل عن الوصف، ويضيق عنها البيان، وحسبنا أن نتلوا قول الله -عز وجل- في الثناء على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 1، لندرك هذا المستوى الكبير من سمو نفسه، ورفعة أخلاقه، ونبل صفاته.. وقد وصفت السيدة عائشة -رضي الله عنها- خلقه بهذا الوصف الجميل: "كان خلقه القرآن"2، وفي هذا تنبيه عظيم، ولفتة ذات دلالة إلى أن أخلاق الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وهي التطبيق الحي لما في كتاب الله -عز وجل- من فضائل الأخلاق ورفيع الصفات مما يبلغ الغاية في صفاء القلب، ونقاء الضمير، وطهارة النفس، وحسن المعاملة، والصدق والإخلاص في القول والعمل والسلوك.
ب- ولما كانت هذه الثقافة تقوم على أصول اعتقادية وتهذيبية وتشريعية تتلاقى جميعًا في منهج تكاملي يصلح من شأن الإنسان، ويعمل على إسعاده في الدنيا والآخرة؛ فإننا نرى أن العنصر الأخلاقي أصيل وواضح في أصول دعوة الإسلام، كما أنه السمة البارزة في سيرة رسولها صلى الله عليه وسلم.. وسيرة الصفوة الرائدة من صحابته رضوان الله عليهم.. وفي هذا التعاون الوثيق والتساند المحكم بين التوجيه والقدوة، والإرشاد والتطبيق، يُشَادُ البناء الأخلاقي على أمتن الأسس، ويبلغ الذروة في القوة والإحكام..
قال تعالى:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} 3.
__________
1 القلم: "4".
2 رواه مسلم.
3 الأحزاب: "21".
ونلمس أثر العنصر في الدعوة الدائمة الملحة إلى الأخلاق الكريمة من أمانة ووفاء، وعدل ورحمة، وبر وإحسان، ووفاء بالوعد، وصيانة للعهد.. والتحذير الدائم من الصفات السيئة كالغدر والخداع، والظلم والاعتداء، والغش والالتواء، وغير ذلك مما تأباه الطباع الكريمة، والنفوس الطيبة. ولا يقف الأمر في هذه الدعوة عند حدود التوجيه والترغيب أو النقد والتحذير؛ بل يتجاوز ذلك إلى التنفيذ والالتزام في التشريع والأحكام؛ لتكون المسئولية الفردية والجماعية أساس الحماية والتطبيق لهذا الجانب الأخلاقي في حياة الأفراد والجماعات، وليكون الروح الحية الفعالة في أعماق ضمائر المؤمنين، والمحور الذي ينتظم سلوكهم في حياتهم الخاصة، وواقعهم الاجتماعي.
ولعل الدعوة إلى الاستقامة تحدد معنى هذه الأخلاقية العالية، وترشد إلى الطريق التي تحقق للمؤمنين إنسانيتهم المثلى، وتؤهلهم لحمل هذه الرسالة، وتجعل منهم الأمة الوسط التي اختارها الله؛ لتكون شهيدة على الناس، وهاديةً إلى سواء السبيل، تثبت ببنائها للمعروف، وهدمها للمنكر أنها أهل لتكريم الله لها، واستخلافها في الأرض، وجعلها خير أمة أخرجت للناس.
قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُون، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} 1.
__________
1 فصلت: "30-32".
وقال:
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1.
وقال تبارك وتعالى مخاطبًا نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- داعيًا إلى الاستقامة، مبينًا أنها الأمر الإلهي الذي به يصلح كل شأن في الدين والدنيا والآخرة: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْت} 2.
وقد كان -صلى الله عليه وسلم- المثل الأعلى في الاستقامة في قوله وعمله وحياته كلها، وكان يأمر بها ويحث عليها، واعتبرها إذا ارتكزت على الإيمان بالله مِلَاكَ دعوة الإسلام:
عن أبي عمرو -وقيل أبي عَمْرَة- سفيان بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قلت يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال: "قل آمنت بالله ثم استقم" 3.
ج- ولا شك أن النفس الإنسانية هي مصدر الأخلاق؛ فعنها تصدر الفضائل ومنها تقع الرذائل، وبالتزامها نهج العقيدة، واتباعها سبيل التقوى؛ تتحلى بالخلق الحسن، وتتصف بأنبل الصفات، وبانحرافها عن جادة الإسلام ونأيها عن سبيله القويم؛ تتردى في المهالك، وتغرق في المفاسد والآثام؛ ولذا فقد عرض القرآن الكريم في آيات كثيرة لنفسية الإنسان عرضًا دقيقًا، وصورها في أحوالها المختلفة، حتى يكون
__________
1 الأحقاف: "13-14".
2 هود: "112".
3 رواه مسلم.
المؤمنون على بصيرة من خبايا نفوسهم، ويدركوا مسئولياتهم إزاءها، ويعملوا على تنمية الخير فيها، وتنقية الشر منها، ويتصاعدوا بها إلى آفاق السمو والطهر والنقاء.
قال تعالى:
{إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلاَّ الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ، وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} 1
ففي هذه الآيات الكريمة تصوير ينبض بالحياة للنفس الإنسانية بما تعانيه من جزع إذا أصابتها الضراء، وما تمارسه من بَطَرٍ إذا مستها النعماء؛ فإذا هي في إحدى حالتيها فريسة القلق الدائم، يمزقها الخوف، ويطبق عليها الهلع.. ثم إذا بها في حالة أخرى مستعلية مستكبرة، ذات أثرة وبطر، يشتد بها الحرص فتجحد النعمة، وتمنع الخير. وهي في الحالين نفس محجوبة عن الخير، بعيدة عن الاستقامة، منحرفة عن الخلق السوي؛ ذلك أنها عاشت في خواء من الإيمان؛ ففقدت الطمأنينة، وجانبت سبيل الرشاد..
وقد استثنى الله -عز وجل- المومنين الذين تمتلئ نفوسهم بالطمأنينة والرضا، فيصبرون على ما يمسهم من ضرر، ويشكرون على ما ينالهم من خير، وحدد ملامح نفوسهم الرضية، وسماتهم الطيبة في العبادة والمعاملة والسلوك؛ فذكر أنهم يؤدون حق ربهم بصلاة دائمة خاشعة، وزكاة معلومة كريمة، وتصديق بيوم الدين، وخوف من عذاب الله.. ثم ذكر -سبحانه- نماذج من أخلاقهم الفاضلة، وختم ذلك ببيان مرتبتهم العالية، وما
__________
1 المعارج: "19-28".
أعد لهم من نعيم وثواب في دار الكرامة والخلود؛ فقال في الثناء على ما فيهم من طهارة وعفة، وصيانة للأمانة، ورعاية للعهد، وأداء للشهادة:
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} 1.
__________
1 المعارج: "29-35".
أ- جاء هذا الإسلام منهج هداية ونور لتصحيح عقيدة البشر، وتهذيب نفوسهم، وتقويم أخلاقهم، وإصلاح مجتمعهم، وتنظيم علاقاتهم، وإشاعة الخير فيما بينهم، ومطاردة الشر والفساد في بيئاتهم، وقطع دابر الفرقة والتناحر بين صفوفهم.
قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} 1.
وفي دعوة الإسلام العامة الشاملة الخالدة روح أخلاقية عالية، تنبثق من جوهر العقيدة، وتشيع في كل عبادة، وترى في كل حكم، وتظهر في كل توجيه، وتلمس في كل تنظيم؛ ولهذا كانت الثقافة الإسلامية دستور الأخلاق، ومنهاج التربية النفسية لرفع الإنسان الذي كرمه الله بتكليفه حمل هذه الرسالة، وأداء هذه الأمانة من حضيض الفساد، وبؤر التمزق والانحراف إلى أوج الصلاح والتماسك والاستقامة.
قال تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 2.
وقد حدد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مهمة بعثته وهو خاتم الأنبياء والمرسلين بهذه الكلمة الرائعة الجامعة: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" 3. وفي هذا دلالة
__________
1 يونس: "57".
2 النحل: "90".
3 رواه البخاري في الأدب، والحاكم، ورواه مالك: "بعثت لأتمم حسن الاخلاق".
كبرى على أن دعوة الإسلام هي وحدها منتهى الخير، وذروة الفضائل، وصفوة الكمال، وخلاصة الأخلاق.. كما أن صاحب هذه الدعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان النموذج الأمثل للخلق الرفيع بما حباه ربه من صفات وفضائل تجل عن الوصف، ويضيق عنها البيان، وحسبنا أن نتلوا قول الله -عز وجل- في الثناء على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 1، لندرك هذا المستوى الكبير من سمو نفسه، ورفعة أخلاقه، ونبل صفاته.. وقد وصفت السيدة عائشة -رضي الله عنها- خلقه بهذا الوصف الجميل: "كان خلقه القرآن"2، وفي هذا تنبيه عظيم، ولفتة ذات دلالة إلى أن أخلاق الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وهي التطبيق الحي لما في كتاب الله -عز وجل- من فضائل الأخلاق ورفيع الصفات مما يبلغ الغاية في صفاء القلب، ونقاء الضمير، وطهارة النفس، وحسن المعاملة، والصدق والإخلاص في القول والعمل والسلوك.
ب- ولما كانت هذه الثقافة تقوم على أصول اعتقادية وتهذيبية وتشريعية تتلاقى جميعًا في منهج تكاملي يصلح من شأن الإنسان، ويعمل على إسعاده في الدنيا والآخرة؛ فإننا نرى أن العنصر الأخلاقي أصيل وواضح في أصول دعوة الإسلام، كما أنه السمة البارزة في سيرة رسولها صلى الله عليه وسلم.. وسيرة الصفوة الرائدة من صحابته رضوان الله عليهم.. وفي هذا التعاون الوثيق والتساند المحكم بين التوجيه والقدوة، والإرشاد والتطبيق، يُشَادُ البناء الأخلاقي على أمتن الأسس، ويبلغ الذروة في القوة والإحكام..
قال تعالى:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} 3.
__________
1 القلم: "4".
2 رواه مسلم.
3 الأحزاب: "21".
ونلمس أثر العنصر في الدعوة الدائمة الملحة إلى الأخلاق الكريمة من أمانة ووفاء، وعدل ورحمة، وبر وإحسان، ووفاء بالوعد، وصيانة للعهد.. والتحذير الدائم من الصفات السيئة كالغدر والخداع، والظلم والاعتداء، والغش والالتواء، وغير ذلك مما تأباه الطباع الكريمة، والنفوس الطيبة. ولا يقف الأمر في هذه الدعوة عند حدود التوجيه والترغيب أو النقد والتحذير؛ بل يتجاوز ذلك إلى التنفيذ والالتزام في التشريع والأحكام؛ لتكون المسئولية الفردية والجماعية أساس الحماية والتطبيق لهذا الجانب الأخلاقي في حياة الأفراد والجماعات، وليكون الروح الحية الفعالة في أعماق ضمائر المؤمنين، والمحور الذي ينتظم سلوكهم في حياتهم الخاصة، وواقعهم الاجتماعي.
ولعل الدعوة إلى الاستقامة تحدد معنى هذه الأخلاقية العالية، وترشد إلى الطريق التي تحقق للمؤمنين إنسانيتهم المثلى، وتؤهلهم لحمل هذه الرسالة، وتجعل منهم الأمة الوسط التي اختارها الله؛ لتكون شهيدة على الناس، وهاديةً إلى سواء السبيل، تثبت ببنائها للمعروف، وهدمها للمنكر أنها أهل لتكريم الله لها، واستخلافها في الأرض، وجعلها خير أمة أخرجت للناس.
قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُون، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} 1.
__________
1 فصلت: "30-32".
وقال:
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1.
وقال تبارك وتعالى مخاطبًا نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- داعيًا إلى الاستقامة، مبينًا أنها الأمر الإلهي الذي به يصلح كل شأن في الدين والدنيا والآخرة: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْت} 2.
وقد كان -صلى الله عليه وسلم- المثل الأعلى في الاستقامة في قوله وعمله وحياته كلها، وكان يأمر بها ويحث عليها، واعتبرها إذا ارتكزت على الإيمان بالله مِلَاكَ دعوة الإسلام:
عن أبي عمرو -وقيل أبي عَمْرَة- سفيان بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قلت يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال: "قل آمنت بالله ثم استقم" 3.
ج- ولا شك أن النفس الإنسانية هي مصدر الأخلاق؛ فعنها تصدر الفضائل ومنها تقع الرذائل، وبالتزامها نهج العقيدة، واتباعها سبيل التقوى؛ تتحلى بالخلق الحسن، وتتصف بأنبل الصفات، وبانحرافها عن جادة الإسلام ونأيها عن سبيله القويم؛ تتردى في المهالك، وتغرق في المفاسد والآثام؛ ولذا فقد عرض القرآن الكريم في آيات كثيرة لنفسية الإنسان عرضًا دقيقًا، وصورها في أحوالها المختلفة، حتى يكون
__________
1 الأحقاف: "13-14".
2 هود: "112".
3 رواه مسلم.
المؤمنون على بصيرة من خبايا نفوسهم، ويدركوا مسئولياتهم إزاءها، ويعملوا على تنمية الخير فيها، وتنقية الشر منها، ويتصاعدوا بها إلى آفاق السمو والطهر والنقاء.
قال تعالى:
{إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلاَّ الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ، وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} 1
ففي هذه الآيات الكريمة تصوير ينبض بالحياة للنفس الإنسانية بما تعانيه من جزع إذا أصابتها الضراء، وما تمارسه من بَطَرٍ إذا مستها النعماء؛ فإذا هي في إحدى حالتيها فريسة القلق الدائم، يمزقها الخوف، ويطبق عليها الهلع.. ثم إذا بها في حالة أخرى مستعلية مستكبرة، ذات أثرة وبطر، يشتد بها الحرص فتجحد النعمة، وتمنع الخير. وهي في الحالين نفس محجوبة عن الخير، بعيدة عن الاستقامة، منحرفة عن الخلق السوي؛ ذلك أنها عاشت في خواء من الإيمان؛ ففقدت الطمأنينة، وجانبت سبيل الرشاد..
وقد استثنى الله -عز وجل- المومنين الذين تمتلئ نفوسهم بالطمأنينة والرضا، فيصبرون على ما يمسهم من ضرر، ويشكرون على ما ينالهم من خير، وحدد ملامح نفوسهم الرضية، وسماتهم الطيبة في العبادة والمعاملة والسلوك؛ فذكر أنهم يؤدون حق ربهم بصلاة دائمة خاشعة، وزكاة معلومة كريمة، وتصديق بيوم الدين، وخوف من عذاب الله.. ثم ذكر -سبحانه- نماذج من أخلاقهم الفاضلة، وختم ذلك ببيان مرتبتهم العالية، وما
__________
1 المعارج: "19-28".
أعد لهم من نعيم وثواب في دار الكرامة والخلود؛ فقال في الثناء على ما فيهم من طهارة وعفة، وصيانة للأمانة، ورعاية للعهد، وأداء للشهادة:
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} 1.
__________
1 المعارج: "29-35".
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
7- رعايتها للوحدة الإنسانية والمثل العليا:
- رعايتها للوحدة الإنسانية والمثل العليا:
أ- إن المعنى الإنساني للثقافة الإسلامية واضح في كل جانب من جوانبها؛ لأنها ثقافة منبثقة عن المفاهيم والمثل الإنسانية العليا في أوسع آفاقها وأسمى أهدفها.
ولقد دَرَجَ الباحثون في ثقافات الأمم على تلمس هذا المعنى الإنساني فيما يسود المجتمع البشري من عادات وتقاليد، وضروب المعارف العقلية، ودوائر النشاط الإنساني في شئون السياسة والحقوق والفن، وغير ذلك مما يبذله الإنسان لكي يفهم محيطه ونفسه، ولكي يسيطر بالتعاون مع أمثاله على الطاقات المذخورة في الكون..
وَلَقَدْ حَمَلَ فقدان هذا المعنى الإنساني في الثقافات الوطنية عامةً باحثًا أمريكيًّا "رتشارد ماك كوين" -مستشار وفد الولايات المتحدة في الدورات الأولى والثانية والثالثة للمؤتمر العام لليونسكو- على الدعوة إلى إنشاء نظام إيجابي عالمي يلبي مطامح الشعوب.. مشيرًا إلى أن على هذا النظام أن
يعدل طبائع الشعوب وأوضاعها وعاداتها؛ مستندًا في ذلك إلى المكتسبات العقلية والخلقية، ومبتكرات الأفراد -في الإطار العالمي طبعًا- في ميدان الفكر والعلم والتعبير..
قال في كتاب "أصالة الثقافات" -وهو مجموعة مقالات من مطبوعات اليونسكو- تحت عنوان "موقف الفلسفة تجاه تنوع الثقافات":
"يمكن تعريف الثقافات -من ناحية- بكونها أنماطًا ناشئة عن تطور تاريخي -ومن ناحية أخرى- كمجموعة من العادات يعترف بكونها مقبولة في جماعة معينة، كما يمكن متابعة آثارها في كل دوائر النشاط الإنساني كالسياسة والحقوق والفن والدين والمعرفة العقلية بمختلف صورها. إن مثل هذا التعريف لا يتعلق بثقافة وطنية معينة فحسب؛ بل يمكن أن يصدق على جماعة عالمية. وهذا ما يسمح لنا بأن نؤكد أن تنظيم السلام والأمن لا يقتضي توطيد الوضع الراهن، واتخاذ التدابير المؤدية إلى منع الخصومات المسلحة فحسب؛ بل يقتضي إنشاء نظام إيجابي عالمي يلبي بصورة دقيقة مطامح الشعوب؛ ولكن ليس على نظام من هذا النوع -كي يتلاءم على حاجات وموارد الشعوب المختلفة- أن يعكس طبائع الشعوب، أي أوضاعها وعاداتها فحسب؛ بل عليه أن يعدلها أيضًا. ولكي ننشئ هذا النظام العالمي لا بد لنا أولًا من الاستناد إلى المكتسبات العقلية والخلقية وتوطيدها، ومن الضروري كذلك أن نعير انتباهنا لكل مبتكرات الأفراد في ميدان الفكر والعمل والتعبير، وأن ننقدها ببصيرة صافية، وأن نبحث عن الميول والغايات التي تقابلها؛ ذلك أن هذه المبتكرات لا تتعلق بشروط اجتماعية وعوامل سياسية "ملائمة أو معادية" فحسب؛ بل تنشأ آخر الأمر طبقًا لمعاييرها الخاصة، معايير الحكم الخلقي أو الجمالي أو العلمي مثلًا"1.
__________
1 أصالة الثقافات. ص7
وقد صدر في البيان المشترك1 لمجموعة الخبراء المجتمعين بدعوة من اليونسكو لدراسة المشكلات الناشئة عن الاتصالات والعلاقات بين الحضارات في العالم الراهن ما يلي:
"إن جامعة عالمية في المثل العليا تنبجس ببطء، ويمكن أن تكون أساسًا للمنظمات السياسية والمبادلات الاقتصادية الدولية؛ فإذا توصلت الأمم إلى أن تتفاهم، حلت الثقة محل الخوف والتوترات، وأصبح من الممكن -في إطار قيم مفهومة ودوافع معروفة- أن يتوصل التعاون الاقتصادي والاتفاق السياسي إلى نهاية موفقة حقيقية؛ أما إذا أغفل هذا الإطار الثقافي، أو حطمته سرعة التبدلات التي تهدد التطور وتكييف القيم؛ فإن التقدم المادي والمصالح الخاصة تكون معرضة هي الأخرى للخطر".
ويختم البيان المشترك بالإلحاح على التعاون -في إطار اليونسكو- لتكوين النزعة الإنسانية فيقول:
"إن مشكلة التفاهم الدولي هي مشكلة علاقات بين الثقافات؛ فمن هذه العلاقات بين الثقافات يجب أن ينبثق مجتمع عالمي جديد قوامه التفاهم والاحترام المتبادل. وهذا المجتمع يجب أن يأخذ صورة نزعة إنسانية جديدة يتحقق فيها الشمول بالاعتراف بقيم مشتركة تحت شعار تنوع الثقافات".
وبعد أن يشير البيان إلى أن مثل هذا المجتمع لا يمكن أن تحققه الأمم بوساطة وزارات للاستعلامات أو إدارات للعلاقات الثقافية يقول:
"أما منظمة دولية مثل منظمة اليونسكو؛ فإنها قادرة على أن تدعو جميع
__________
1 أصالة الثقافات ص423 تحت عنوان "إنسانية الغد وتنوع الثقافات". ولم يذكر في البيان تاريخ صدوره ولم يحدد مكان الاجتماع في الترجمة العربية.
قوى التربية والعلم والثقافة إلى تكوين نزعة إنسانية كهذه؛ وذلك بالكشف عن قيم ومعانٍ مشتركة، تحت التعبيرات الخاصة، إن قيام تفاهم دولي ونزعة إنسانية جديدة، هو -من جهة- ضروري لنجاح التلاؤمات السياسية، كما أن هذا التفاهم وهذه النزعة الإنسانية الجديدة هما -من جهة أخرى- عنصران مهمان في مواصلة السعي إلى المعرفة، وفي إنضاج القيم الثقافية، وفي فن الحياة الطيبة.. هذا الفن الذي تعد المؤسسات الاقتصادية والسياسية تحضيرًا له وأساسًا"1
ب- إن الدعوة إلى نظام عالمي يعدل طبائع الشعوب بمكتسباتها العقلية والخلقية -كما ينادي بذلك رتشارد ماك كوين- والمناداة بإنشاء جامعة عالمية في المثل العليا لتكوين النزعة الإنسانية على أيدى قادة التربية والعلم والثقافة برعاية منظمة اليونسكو. إن مثل هذه الدعوة العجيبة التي لا يمكن أن تجد سبيلها إلى التطبيق بحال، والتي تعد ضربًا من أحلام الفلاسفة، تؤكد أن هذه النزعة الإنسانية -وهي إحدى سمات ثقافتنا الإسلامية- تشغل أذهان المفكرين ورجال الثقافة لدى الأمم في عصرنا الحاضر، ويحاولون جاهدين أن يعثروا عليها بعد أن فقدت تمامًا في هذه الحضارة المادية التي عصف تيارها المدمر بكل القيم الخيرة والمثل العليا.
إن النزعة الإنسانية لا يمكن أن تتحقق؛ إلا إذا اعتبرت شخصية الإنسان السوية وحدة متماسكة، تبنى على أساس عقيدة واحدة؛ فلا تصدر إلا عنها، ولا تستلهم في الشعور والسلوك سواها، ولا تستهدي في مواجهة الكون والحياة إلا وحيها، ولا ترجع في كل صغيرة وكبيرة إلا إلى توجيهها.."والعقيدة الإسلامية هي المثال الواحد الذي عرفته الإنسانية في تاريخها الطويل في هذا المجال؛ إنها العقيدة التي تتسع فتشمل كل نشاط الإنسان في كل حقول الحياة؛ فلا تقتصر مهمتها على حقل
__________
1 المرجع السابق ص425-426
دون حقل، ولا على اتجاه دون اتجاه. إنها لا تدع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، فما لقيصر؟! وقيصر ذاته في العقيدة الإسلامية كله لله، وما لقيصر حق ليس للفرد من رعاياه. وإنها لا تتولى روح الفرد وتهمل عقله وجسده، أو تتولى شعائره وتهمل شرائعه، أو تتولى ضميره وتهمل سلوكه، وإنها لا تتولاه فردًا وتهمله جماعة، ولا تتولاه في حياته الشخصية وتهمل نظام حكمه أو علاقات دولته؛ إنها الفكرة الكاملة الشاملة التي تمتد خيوطها في الحياة الإنسانية امتداد الشرايين في الكائن الحي وامتداد الأعصاب"1
ج- ثم إن هذه السمة المميزة لثقافتنا في وحدة العقيدة "تطبع كل الأسس والنظم التي جاءت بها حضارتنا؛ فهناك الوحدة في الرسالة، والوحدة في التشريع، والوحدة في الأهداف، والوحدة في الكيان الإنساني العام، والوحدة في وسائل المعيشة وطراز التفكير؛ حتى إن الباحثين في الفنون الإسلامية قد لحظوا وحدة الأسلوب والذوق في أنواعها المختلفة: فقطعة من العاج الأندلسي، وأخرى من النسيج المصري، وثالثة من الخزف الشامي، ورابعة من المعادن الإيرانية، تبدو رغم تنوعها وزخرفتها ذات أسلوب واحد، وطابع واحد"2؛ فلا غرو بعد أن تكون ثقافتنا الإسلامية من بين ثقافات الأمم كلها: "إنسانية النزعة والهدف، عالمية الأفق والرسالة، فالقرآن الذي أعلن وحدة النوع الإنساني رغم تنوع أعراقه ومنابته ومواطنه في قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 3
__________
1 سيد قطب: "السلام العالمي والإسلام" ص9.
2 الدكتور مصطفى السباعي: "من روائع حضارتنا" ص31.
3 الحجرات:"13".
إن القرآن حين أعلن هذه الوحدة الإنسانية العالمية على صعيد الحق والخير والكرامة جعل حضارته عقدًا تنتظم فيه جميع العبقريات للشعوب والأمم التي خفقت فوقها راية الفتوحات الإسلامية؛ ولذلك كانت كل حضارة تستطيع أن تفاخر بالعباقرة من أبناء جنس واحد، وأمة واحدة؛ إلا الحضارة الإسلامية فإنها تفاخر بالعباقرة الذين أقاموا وحدتها من جميع الأمم والشعوب"1
ثم إننا نلحظ التركيز على هذا المعنى الإنساني الخير الذي قامت عليه شريعة الله -تبارك وتعالى- لتحقيق مثل العدل والرحمة ومصالح البشر جميعًا، وسعادتهم الكاملة؛ كلما تعمقنا في فهم هذه الشريعة وأحكامها التي تبني الحق وتدور معه، وتقيم الوجود البشري على الحكم والمصالح العامة والعدل والرحمة وكل المثل الإنسانية العليا.
قال الإمام ابن القيم:
"إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَمِ ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور.. ومن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة -وإن دخلت فيها بالتأويل- فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه؛ فهي بالحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه إضاعتها؛ فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم، وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا وفي الآخرة"2.
__________
1 الدكتور مصطفى السباعي: "من روائع حضارتنا" ص31.
2 ابن القيم: "إعلام الموقعين" 3 ص1.
أ- إن المعنى الإنساني للثقافة الإسلامية واضح في كل جانب من جوانبها؛ لأنها ثقافة منبثقة عن المفاهيم والمثل الإنسانية العليا في أوسع آفاقها وأسمى أهدفها.
ولقد دَرَجَ الباحثون في ثقافات الأمم على تلمس هذا المعنى الإنساني فيما يسود المجتمع البشري من عادات وتقاليد، وضروب المعارف العقلية، ودوائر النشاط الإنساني في شئون السياسة والحقوق والفن، وغير ذلك مما يبذله الإنسان لكي يفهم محيطه ونفسه، ولكي يسيطر بالتعاون مع أمثاله على الطاقات المذخورة في الكون..
وَلَقَدْ حَمَلَ فقدان هذا المعنى الإنساني في الثقافات الوطنية عامةً باحثًا أمريكيًّا "رتشارد ماك كوين" -مستشار وفد الولايات المتحدة في الدورات الأولى والثانية والثالثة للمؤتمر العام لليونسكو- على الدعوة إلى إنشاء نظام إيجابي عالمي يلبي مطامح الشعوب.. مشيرًا إلى أن على هذا النظام أن
يعدل طبائع الشعوب وأوضاعها وعاداتها؛ مستندًا في ذلك إلى المكتسبات العقلية والخلقية، ومبتكرات الأفراد -في الإطار العالمي طبعًا- في ميدان الفكر والعلم والتعبير..
قال في كتاب "أصالة الثقافات" -وهو مجموعة مقالات من مطبوعات اليونسكو- تحت عنوان "موقف الفلسفة تجاه تنوع الثقافات":
"يمكن تعريف الثقافات -من ناحية- بكونها أنماطًا ناشئة عن تطور تاريخي -ومن ناحية أخرى- كمجموعة من العادات يعترف بكونها مقبولة في جماعة معينة، كما يمكن متابعة آثارها في كل دوائر النشاط الإنساني كالسياسة والحقوق والفن والدين والمعرفة العقلية بمختلف صورها. إن مثل هذا التعريف لا يتعلق بثقافة وطنية معينة فحسب؛ بل يمكن أن يصدق على جماعة عالمية. وهذا ما يسمح لنا بأن نؤكد أن تنظيم السلام والأمن لا يقتضي توطيد الوضع الراهن، واتخاذ التدابير المؤدية إلى منع الخصومات المسلحة فحسب؛ بل يقتضي إنشاء نظام إيجابي عالمي يلبي بصورة دقيقة مطامح الشعوب؛ ولكن ليس على نظام من هذا النوع -كي يتلاءم على حاجات وموارد الشعوب المختلفة- أن يعكس طبائع الشعوب، أي أوضاعها وعاداتها فحسب؛ بل عليه أن يعدلها أيضًا. ولكي ننشئ هذا النظام العالمي لا بد لنا أولًا من الاستناد إلى المكتسبات العقلية والخلقية وتوطيدها، ومن الضروري كذلك أن نعير انتباهنا لكل مبتكرات الأفراد في ميدان الفكر والعمل والتعبير، وأن ننقدها ببصيرة صافية، وأن نبحث عن الميول والغايات التي تقابلها؛ ذلك أن هذه المبتكرات لا تتعلق بشروط اجتماعية وعوامل سياسية "ملائمة أو معادية" فحسب؛ بل تنشأ آخر الأمر طبقًا لمعاييرها الخاصة، معايير الحكم الخلقي أو الجمالي أو العلمي مثلًا"1.
__________
1 أصالة الثقافات. ص7
وقد صدر في البيان المشترك1 لمجموعة الخبراء المجتمعين بدعوة من اليونسكو لدراسة المشكلات الناشئة عن الاتصالات والعلاقات بين الحضارات في العالم الراهن ما يلي:
"إن جامعة عالمية في المثل العليا تنبجس ببطء، ويمكن أن تكون أساسًا للمنظمات السياسية والمبادلات الاقتصادية الدولية؛ فإذا توصلت الأمم إلى أن تتفاهم، حلت الثقة محل الخوف والتوترات، وأصبح من الممكن -في إطار قيم مفهومة ودوافع معروفة- أن يتوصل التعاون الاقتصادي والاتفاق السياسي إلى نهاية موفقة حقيقية؛ أما إذا أغفل هذا الإطار الثقافي، أو حطمته سرعة التبدلات التي تهدد التطور وتكييف القيم؛ فإن التقدم المادي والمصالح الخاصة تكون معرضة هي الأخرى للخطر".
ويختم البيان المشترك بالإلحاح على التعاون -في إطار اليونسكو- لتكوين النزعة الإنسانية فيقول:
"إن مشكلة التفاهم الدولي هي مشكلة علاقات بين الثقافات؛ فمن هذه العلاقات بين الثقافات يجب أن ينبثق مجتمع عالمي جديد قوامه التفاهم والاحترام المتبادل. وهذا المجتمع يجب أن يأخذ صورة نزعة إنسانية جديدة يتحقق فيها الشمول بالاعتراف بقيم مشتركة تحت شعار تنوع الثقافات".
وبعد أن يشير البيان إلى أن مثل هذا المجتمع لا يمكن أن تحققه الأمم بوساطة وزارات للاستعلامات أو إدارات للعلاقات الثقافية يقول:
"أما منظمة دولية مثل منظمة اليونسكو؛ فإنها قادرة على أن تدعو جميع
__________
1 أصالة الثقافات ص423 تحت عنوان "إنسانية الغد وتنوع الثقافات". ولم يذكر في البيان تاريخ صدوره ولم يحدد مكان الاجتماع في الترجمة العربية.
قوى التربية والعلم والثقافة إلى تكوين نزعة إنسانية كهذه؛ وذلك بالكشف عن قيم ومعانٍ مشتركة، تحت التعبيرات الخاصة، إن قيام تفاهم دولي ونزعة إنسانية جديدة، هو -من جهة- ضروري لنجاح التلاؤمات السياسية، كما أن هذا التفاهم وهذه النزعة الإنسانية الجديدة هما -من جهة أخرى- عنصران مهمان في مواصلة السعي إلى المعرفة، وفي إنضاج القيم الثقافية، وفي فن الحياة الطيبة.. هذا الفن الذي تعد المؤسسات الاقتصادية والسياسية تحضيرًا له وأساسًا"1
ب- إن الدعوة إلى نظام عالمي يعدل طبائع الشعوب بمكتسباتها العقلية والخلقية -كما ينادي بذلك رتشارد ماك كوين- والمناداة بإنشاء جامعة عالمية في المثل العليا لتكوين النزعة الإنسانية على أيدى قادة التربية والعلم والثقافة برعاية منظمة اليونسكو. إن مثل هذه الدعوة العجيبة التي لا يمكن أن تجد سبيلها إلى التطبيق بحال، والتي تعد ضربًا من أحلام الفلاسفة، تؤكد أن هذه النزعة الإنسانية -وهي إحدى سمات ثقافتنا الإسلامية- تشغل أذهان المفكرين ورجال الثقافة لدى الأمم في عصرنا الحاضر، ويحاولون جاهدين أن يعثروا عليها بعد أن فقدت تمامًا في هذه الحضارة المادية التي عصف تيارها المدمر بكل القيم الخيرة والمثل العليا.
إن النزعة الإنسانية لا يمكن أن تتحقق؛ إلا إذا اعتبرت شخصية الإنسان السوية وحدة متماسكة، تبنى على أساس عقيدة واحدة؛ فلا تصدر إلا عنها، ولا تستلهم في الشعور والسلوك سواها، ولا تستهدي في مواجهة الكون والحياة إلا وحيها، ولا ترجع في كل صغيرة وكبيرة إلا إلى توجيهها.."والعقيدة الإسلامية هي المثال الواحد الذي عرفته الإنسانية في تاريخها الطويل في هذا المجال؛ إنها العقيدة التي تتسع فتشمل كل نشاط الإنسان في كل حقول الحياة؛ فلا تقتصر مهمتها على حقل
__________
1 المرجع السابق ص425-426
دون حقل، ولا على اتجاه دون اتجاه. إنها لا تدع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، فما لقيصر؟! وقيصر ذاته في العقيدة الإسلامية كله لله، وما لقيصر حق ليس للفرد من رعاياه. وإنها لا تتولى روح الفرد وتهمل عقله وجسده، أو تتولى شعائره وتهمل شرائعه، أو تتولى ضميره وتهمل سلوكه، وإنها لا تتولاه فردًا وتهمله جماعة، ولا تتولاه في حياته الشخصية وتهمل نظام حكمه أو علاقات دولته؛ إنها الفكرة الكاملة الشاملة التي تمتد خيوطها في الحياة الإنسانية امتداد الشرايين في الكائن الحي وامتداد الأعصاب"1
ج- ثم إن هذه السمة المميزة لثقافتنا في وحدة العقيدة "تطبع كل الأسس والنظم التي جاءت بها حضارتنا؛ فهناك الوحدة في الرسالة، والوحدة في التشريع، والوحدة في الأهداف، والوحدة في الكيان الإنساني العام، والوحدة في وسائل المعيشة وطراز التفكير؛ حتى إن الباحثين في الفنون الإسلامية قد لحظوا وحدة الأسلوب والذوق في أنواعها المختلفة: فقطعة من العاج الأندلسي، وأخرى من النسيج المصري، وثالثة من الخزف الشامي، ورابعة من المعادن الإيرانية، تبدو رغم تنوعها وزخرفتها ذات أسلوب واحد، وطابع واحد"2؛ فلا غرو بعد أن تكون ثقافتنا الإسلامية من بين ثقافات الأمم كلها: "إنسانية النزعة والهدف، عالمية الأفق والرسالة، فالقرآن الذي أعلن وحدة النوع الإنساني رغم تنوع أعراقه ومنابته ومواطنه في قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 3
__________
1 سيد قطب: "السلام العالمي والإسلام" ص9.
2 الدكتور مصطفى السباعي: "من روائع حضارتنا" ص31.
3 الحجرات:"13".
إن القرآن حين أعلن هذه الوحدة الإنسانية العالمية على صعيد الحق والخير والكرامة جعل حضارته عقدًا تنتظم فيه جميع العبقريات للشعوب والأمم التي خفقت فوقها راية الفتوحات الإسلامية؛ ولذلك كانت كل حضارة تستطيع أن تفاخر بالعباقرة من أبناء جنس واحد، وأمة واحدة؛ إلا الحضارة الإسلامية فإنها تفاخر بالعباقرة الذين أقاموا وحدتها من جميع الأمم والشعوب"1
ثم إننا نلحظ التركيز على هذا المعنى الإنساني الخير الذي قامت عليه شريعة الله -تبارك وتعالى- لتحقيق مثل العدل والرحمة ومصالح البشر جميعًا، وسعادتهم الكاملة؛ كلما تعمقنا في فهم هذه الشريعة وأحكامها التي تبني الحق وتدور معه، وتقيم الوجود البشري على الحكم والمصالح العامة والعدل والرحمة وكل المثل الإنسانية العليا.
قال الإمام ابن القيم:
"إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَمِ ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور.. ومن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة -وإن دخلت فيها بالتأويل- فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه؛ فهي بالحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه إضاعتها؛ فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم، وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا وفي الآخرة"2.
__________
1 الدكتور مصطفى السباعي: "من روائع حضارتنا" ص31.
2 ابن القيم: "إعلام الموقعين" 3 ص1.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
مواضيع مماثلة
» لمحات فى الثقافه الاسلاميه الثقافة والمجتمع الثقافة ومناحي الدراسة الاجتماعية:
» لمحات فى الثقافه الاسلاميه الثقافة ومشكلة التعريف بين المدلولين: اللفظي والفكري
» لمحات فى الثقافه الاسلاميه
» الفصل الثاني: في الثقافة الإسلامية ركائز الثقافة الإسلامية الحقائق اليقينية الهادية ... ركائز الثقافة الإسلامية
» #دورة الثقافة التنظيمية ودورهـا في إحداث التغيير التنظيمــي في المؤسسة #رؤية_2030
» لمحات فى الثقافه الاسلاميه الثقافة ومشكلة التعريف بين المدلولين: اللفظي والفكري
» لمحات فى الثقافه الاسلاميه
» الفصل الثاني: في الثقافة الإسلامية ركائز الثقافة الإسلامية الحقائق اليقينية الهادية ... ركائز الثقافة الإسلامية
» #دورة الثقافة التنظيمية ودورهـا في إحداث التغيير التنظيمــي في المؤسسة #رؤية_2030
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى