لمحات فى الثقافه الاسلاميه
صفحة 1 من اصل 1
لمحات فى الثقافه الاسلاميه
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الهدى محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، وسلك سبيله، واتبع سنته، وجاهد في الله حق جهاده ...
وبعد:
فهذه "لمحات في الثقافة الإسلامية" ترمي إلى تزويدنا بثقافة نافعة عن إسلامنا، تؤدي إلى ترسيخ مبادئه، والإيمان بمثله وفهم نظمه، ورد الشبهات عنه، وإحباط المكائد التي تحاك ضده من أعدائه -وبخاصة في المضمار الفكري والثقافي- ومؤامرات أعداء الإسلام ودسائسهم في الماضي والحاضر، تعمل بدأب وإصرار لتحقيق هدف خطير وهو: فك ارتباط المسلمين بإسلامهم، وإعاقة الدعوة إلى استئناف حياة إسلامية، في مجتمع متماسك متين تحكمه عقيدة الإسلام وشريعته ونظامه الفريد..؛ فإذا انتهت جهود هؤلاء الأعداء
الماكرين -التي ما زالت منذ قرون- إلى النجاح، أصبح الطريق أمامهم مفتوحًا لافتراس المسلمين بالمبادئ المنحرفة، والنظم الضالة، والروابط الزائفة، ثم القضاء نهائيًّا على الوجود الإسلامي الحق، الذي يخشون إقامته، وترهبهم يقظته، ويجدون فيه الخطر الكبير على حضارتهم المادية الفاسدة، ومحاولتهم السيطرة على مقدارت البشر ومستقبلهم..
والحديث في الثقافة الإسلامية أثير لنفس المسلم حبيب إليها؛ فهو وثيق الصلة بالعقل والقلب والفكر والشعور، مرتبط أتم ارتباط بالماضي الزاهر، والحاضر القلق، والمستقبل المنشود.. إنه -في أقرب أهدافه الكثيرة- يزود العقول بالحقائق الناصعة عن هذا الدين وسط ضباب كثيف من أباطيل الخصوم، ويربي فيها ملكة النقد الصحيح التي تقوم المبادئ والنظم والمذاهب التقويم السليم، وتميز -في نزعات الفكر والسلوك- بين الغث والسمين؛ فتأخذ النافع الخير، وتطرح الضار الفاسد، ملتزمة في ذلك التوجيه النبوي الكريم:
"الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها" 1
وليست جولة هذه الثقافة في آفاق المعرفة العقلية لونًا من رياضة الذهن، أو ضربًا من الاستزادة من المعارف، أو فنًا من القول المنمق والأسلوب الممتع الجميل؛ فتلك كلها غايات تأتي تبعًا لا قصدًا، وهي متوافرة في طائفة كثيرة من العلوم والفنون، أما الحديث في الثقافة الإسلامية فإنه يتجازو حدود المعرفة العقلية البحتة، لينفذ إلى القلب فيحرك المشاعر، ويفجر في روح المؤمن تلك الطاقة الحية العالية، التي تشده شدًّا محكم الأواصر إلى عقيدته الحقة النيرة، وشريعته الكاملة القويمة، تتعمق فيه روح الولاء لأمته الرائدة القائدة التي أكرمها الله بهذه الرسالة الهادية..
وحين يتلاقى العقل والقلب، والفكر والشعور، على فهم الإسلام،
__________
1 رواه الترميذي في باب العلم.
ووعي قضيته، والولاء لأمته، والتفاعل مع مبادئه ونظمه.. وحين يكون ذلك الفهم والوعي والولاء والتفاعل عميقًا قويًّا شاملًا؛ فلا بد أن تنبثق من ذلك روح جديدة تتسم بالإيمان الصادق، والعمل المنتج، والعزيمة القوية، وبذلك تتجدد ثقة المسلمين بمهمتهم القيادية الكبرى، وتتلاشى عوامل الانهزام الفكري والنفسي، وتزول أعراض ذلك المرض العضال من الشعور بالنقص، وشيوع الضعف والخور، والإخلاد إلى الراحة، والاستكانة إلى المتاع العاجل، والتعلق بالأهواء والشهوات، والخضوع لسلطة الأقوياء، والانبهار بحضارة الأعداء.. وتتقد -من جديد- جذوة الكفاح الصامد لنشر الدعوة، ومواجهة التحدي، وقيادة الركب الحضاري النير الذي فتح العقول والقلوب، ورفع لواء الكرامة والعدالة والحرية، وبسط راية العلم والمعرفة والسلام في أرجاء المعمورة..
ذلك هو الأمل الذي نرجو أن يحققه الحديث في الثقافة الإسلامية في كل جوانبها المشرقة الوضيئة، ومع مصادرها الحية الوفيرة، ومنهجها المتكامل القويم، وتوجيهها السوي السليم، وبنائها شخصية الفرد والمجتمع، وتحريرها الإنسان من ركام الجهل والتخلف والضياع، وتطهيرها لروحه ونفسه وضميره من دنس الشر والانحراف والفساد..
وهو أمل حمل القائمين على "الكليات والمعاهد العلمية" بالمملكة العربية السعودية وغيرها من الجامعات والكليات على تقرير تدريس مادة "الثقافة الإسلامية" فلقيت هذه الخطوة الطيبة المشكورة ما كان منتظرًا من تجاوب الطلاب معها تجاوبًا كبيرًا؛ ذلك أن شبابنا هم -في الحقيقة- موضع هذا الأمل الكبير، والغرس الطيب لذلك المستقبل المنشود.. وقد تجلى هذا التجاوب في الإقبال على البحث في الثقافة الإسلامية؛ جمعًا لمصادرها وقراءة لمراجعها، ودرسًا لموضوعاتها، وحماسةً طيبةً مبرورةً في ذلك كله..
أعدت هذه الفصول استجابة لمطلب ملح، وتلبيةً لرغبة صادقة.. وهي لا تعدو أن تكون -بحق- صُوىً تدل على الطريق وترشد إليه.. ولا غنى
للباحث في الثقافة الإسلامية عن الجوع إلى مصادرها الأصلية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتتبع موضوعاتها -بصبر وأناة- في أمهات الكتب التي ألفها سلفنا الصالح -أجزل الله ثوابهم-، كما لا بد من دراسة ما كتبه أعلام الفكر الإسلامي في هذا العصر من كتب ورسائل، في أمور العقيدة والعبادة والأخلاق والتشريع والنظم، وما عقدوه من موازنات وافية بين الإسلام والمذاهب الفكرية والاجتماعية الأخرى.. ولدى الباحث -بحمد الله- رصيد طيب من هذه الكتب القيمة الغنية بالفكر الرصين، والبحث العميق، والتوجيه الطيب، وهي عامرة كذلك بحرارة الدعوى وروح الإخلاص، تشهد لمؤلفيها بجهادهم الصادق المبرور في هذا الميدان العظيم..
والله تبارك وتعالى نسأل أن يجعل عملنا خالصًا لوجهه فهو حسبنا ونعم الوكيل..
عمر عودة الخطيب
الرياض
15 صفر 1392هـ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الهدى محمد وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، وسلك سبيله، واتبع سنته، وجاهد في الله حق جهاده ...
وبعد:
فهذه "لمحات في الثقافة الإسلامية" ترمي إلى تزويدنا بثقافة نافعة عن إسلامنا، تؤدي إلى ترسيخ مبادئه، والإيمان بمثله وفهم نظمه، ورد الشبهات عنه، وإحباط المكائد التي تحاك ضده من أعدائه -وبخاصة في المضمار الفكري والثقافي- ومؤامرات أعداء الإسلام ودسائسهم في الماضي والحاضر، تعمل بدأب وإصرار لتحقيق هدف خطير وهو: فك ارتباط المسلمين بإسلامهم، وإعاقة الدعوة إلى استئناف حياة إسلامية، في مجتمع متماسك متين تحكمه عقيدة الإسلام وشريعته ونظامه الفريد..؛ فإذا انتهت جهود هؤلاء الأعداء
الماكرين -التي ما زالت منذ قرون- إلى النجاح، أصبح الطريق أمامهم مفتوحًا لافتراس المسلمين بالمبادئ المنحرفة، والنظم الضالة، والروابط الزائفة، ثم القضاء نهائيًّا على الوجود الإسلامي الحق، الذي يخشون إقامته، وترهبهم يقظته، ويجدون فيه الخطر الكبير على حضارتهم المادية الفاسدة، ومحاولتهم السيطرة على مقدارت البشر ومستقبلهم..
والحديث في الثقافة الإسلامية أثير لنفس المسلم حبيب إليها؛ فهو وثيق الصلة بالعقل والقلب والفكر والشعور، مرتبط أتم ارتباط بالماضي الزاهر، والحاضر القلق، والمستقبل المنشود.. إنه -في أقرب أهدافه الكثيرة- يزود العقول بالحقائق الناصعة عن هذا الدين وسط ضباب كثيف من أباطيل الخصوم، ويربي فيها ملكة النقد الصحيح التي تقوم المبادئ والنظم والمذاهب التقويم السليم، وتميز -في نزعات الفكر والسلوك- بين الغث والسمين؛ فتأخذ النافع الخير، وتطرح الضار الفاسد، ملتزمة في ذلك التوجيه النبوي الكريم:
"الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها" 1
وليست جولة هذه الثقافة في آفاق المعرفة العقلية لونًا من رياضة الذهن، أو ضربًا من الاستزادة من المعارف، أو فنًا من القول المنمق والأسلوب الممتع الجميل؛ فتلك كلها غايات تأتي تبعًا لا قصدًا، وهي متوافرة في طائفة كثيرة من العلوم والفنون، أما الحديث في الثقافة الإسلامية فإنه يتجازو حدود المعرفة العقلية البحتة، لينفذ إلى القلب فيحرك المشاعر، ويفجر في روح المؤمن تلك الطاقة الحية العالية، التي تشده شدًّا محكم الأواصر إلى عقيدته الحقة النيرة، وشريعته الكاملة القويمة، تتعمق فيه روح الولاء لأمته الرائدة القائدة التي أكرمها الله بهذه الرسالة الهادية..
وحين يتلاقى العقل والقلب، والفكر والشعور، على فهم الإسلام،
__________
1 رواه الترميذي في باب العلم.
ووعي قضيته، والولاء لأمته، والتفاعل مع مبادئه ونظمه.. وحين يكون ذلك الفهم والوعي والولاء والتفاعل عميقًا قويًّا شاملًا؛ فلا بد أن تنبثق من ذلك روح جديدة تتسم بالإيمان الصادق، والعمل المنتج، والعزيمة القوية، وبذلك تتجدد ثقة المسلمين بمهمتهم القيادية الكبرى، وتتلاشى عوامل الانهزام الفكري والنفسي، وتزول أعراض ذلك المرض العضال من الشعور بالنقص، وشيوع الضعف والخور، والإخلاد إلى الراحة، والاستكانة إلى المتاع العاجل، والتعلق بالأهواء والشهوات، والخضوع لسلطة الأقوياء، والانبهار بحضارة الأعداء.. وتتقد -من جديد- جذوة الكفاح الصامد لنشر الدعوة، ومواجهة التحدي، وقيادة الركب الحضاري النير الذي فتح العقول والقلوب، ورفع لواء الكرامة والعدالة والحرية، وبسط راية العلم والمعرفة والسلام في أرجاء المعمورة..
ذلك هو الأمل الذي نرجو أن يحققه الحديث في الثقافة الإسلامية في كل جوانبها المشرقة الوضيئة، ومع مصادرها الحية الوفيرة، ومنهجها المتكامل القويم، وتوجيهها السوي السليم، وبنائها شخصية الفرد والمجتمع، وتحريرها الإنسان من ركام الجهل والتخلف والضياع، وتطهيرها لروحه ونفسه وضميره من دنس الشر والانحراف والفساد..
وهو أمل حمل القائمين على "الكليات والمعاهد العلمية" بالمملكة العربية السعودية وغيرها من الجامعات والكليات على تقرير تدريس مادة "الثقافة الإسلامية" فلقيت هذه الخطوة الطيبة المشكورة ما كان منتظرًا من تجاوب الطلاب معها تجاوبًا كبيرًا؛ ذلك أن شبابنا هم -في الحقيقة- موضع هذا الأمل الكبير، والغرس الطيب لذلك المستقبل المنشود.. وقد تجلى هذا التجاوب في الإقبال على البحث في الثقافة الإسلامية؛ جمعًا لمصادرها وقراءة لمراجعها، ودرسًا لموضوعاتها، وحماسةً طيبةً مبرورةً في ذلك كله..
أعدت هذه الفصول استجابة لمطلب ملح، وتلبيةً لرغبة صادقة.. وهي لا تعدو أن تكون -بحق- صُوىً تدل على الطريق وترشد إليه.. ولا غنى
للباحث في الثقافة الإسلامية عن الجوع إلى مصادرها الأصلية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتتبع موضوعاتها -بصبر وأناة- في أمهات الكتب التي ألفها سلفنا الصالح -أجزل الله ثوابهم-، كما لا بد من دراسة ما كتبه أعلام الفكر الإسلامي في هذا العصر من كتب ورسائل، في أمور العقيدة والعبادة والأخلاق والتشريع والنظم، وما عقدوه من موازنات وافية بين الإسلام والمذاهب الفكرية والاجتماعية الأخرى.. ولدى الباحث -بحمد الله- رصيد طيب من هذه الكتب القيمة الغنية بالفكر الرصين، والبحث العميق، والتوجيه الطيب، وهي عامرة كذلك بحرارة الدعوى وروح الإخلاص، تشهد لمؤلفيها بجهادهم الصادق المبرور في هذا الميدان العظيم..
والله تبارك وتعالى نسأل أن يجعل عملنا خالصًا لوجهه فهو حسبنا ونعم الوكيل..
عمر عودة الخطيب
الرياض
15 صفر 1392هـ
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
الفصل الأول: في المدلول العام للثقافة الثقافة في حياة الأمم المفاهيم الأساسية
الفصل الأول: في المدلول العام للثقافة
الثقافة في حياة الأمم
المفاهيم الأساسية
...
الثقافة في حياة الأمم المفاهيم الأساسية:
1- في حياة كل أمة مفاهيم أساسية تحرص عليها، وتعمل على ترسيخها، وتعميق إدراكها في شئونها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها ذلك من أمور الحياة. وتسعى كل أمة سعيًا حقيقيًّا دائبًا على أن تكون مفاهيمها واضحة الدلالة في ذاتها، مراعية الجانب لدى أبنائها، واسعة الانتشار والتداول لدى غيرها، وتتخذ لتحقيق ذلك وسائل شتى: فتؤلف الكتب، وتعقد المؤتمرات، وتقوم بالدراسات، وتصدر النشرات، وتضع مناهج التربية والتعليم، وتستخدم -بوجه عام- كل وسائل الإعلام والتوجيه لتوضيح هذه المفاهيم وشرحها، وبيان أسسها وخصائصها، وتفصيل وجوه النفع فيها.
إن هذه المفاهيم الأساسية، وما ينبثق عنها ويتعلق بها، هي في حقيقتها: ما يمكن أن يطلق عليه -بشكل عام- ثقافة الأمة أو حضارتها، مع الأخذ بعين الاعتبار ما بين الثقافة والحضارة من فروق يدل عليها تطور الكلمتين في اللغة العربية واللغات الأخرى. كما سنفصل ذلك فيما بعد.
2- وأكثر ما يتهم به قادة الفكر والثقافة المؤمنون بمفاهيم أمتهم، الدائبون
لنشرها، هو نقلها من حيز النظر المجرد إلى الواقع البشري الحي، ووصل حياة الناس بها، بحيث تكون مصدر فكرهم وشعورهم، وطابع سلوكهم، وسمة حياتهم العملية. ومن هنا يخرج مدلول الثقافة عن قصد المعرفة المجردة إلى المعرفة الهادفة. أو بتعبير آخر: عن المعرفة الساكنة التي لا تتجاوز حدود العمل الذهني، إلى المعرفة المحركة التي تحدث تفاعلًا موجهًا واضح التأثير مع تطلعات الفرد والجماعة.
ولعل خير ما يجلي هذه الفكرة؛ ما ذكره "أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي" في وصف العلم والأدب فقال: "فإنهما القطبان اللذان عليهما مدار الدين والدنيا، وفرق ما بين الإنسان وسائر الحيوان، وما بين الطبيعة الملكية، والطبيعة البهيمية، وهما مادة العقل وسراج البدن، ونور القلب وعماد الروح، وقد جعل الله بلطيف قدرته، وعظيم سلطانه، بعض الأشياء عمدًا لبعض ومتولدًا من بعض؛ فإجالة الوهم فيما تدركه الحواس تبعث خواطر الذكر، وخواطر الذكر تنبه روية الفكر، وروية الفكر تثير مكامن الإرادة، والإرادة تحكم أسباب العمل؛ فكل شيء يقوم في العقل ويمثل في الوهم يكون ذكرًا، ثم فكرًا، ثم إرادة، ثم عملًا"1.
3- وإذا كان لا بد لهذه المفاهيم الأساسية من مرتكزات منطقية وأصول علمية؛ فإن الأمم التي تعوزها هذه المرتكزات والأصول لمفاهيمها؛ تحاول أن تعوض هذا النقص الخطير باتخاذ أسلوب الافتراض والتخمين. وقد تلجأ أحيانًا إلى ضروب من المغالطات الخفية، والمرتكزات الوهمية حين تنعدم لديها الحقائق الأصلية، وتفقد قواعد اليقين العلمي الراسخ، وتحاول أن تحيط مفاهيمها الناقصة التي لا تستند إلى أدلة مقبولة بهالةٍ من التمجيد والتزيين تلفت إليها الأنظار؛ فترمقها مبهورة بظواهرها.
__________
1 العقد الفريد ج2 ص
غافلة عن حقيقتها، ويحجبها الفريق اللامع المصنوع بكثير من المهارة عن النظرة النافذة العميقة التي تقومها التقويم الصحيح.
4- وليس يعرف في تاريخ الأمم -ماضيها وحاضرها- أن واحدة منها أهملت في نشر ثقافتها، أو تركتها تذوب في ثقافة غيرها، أو تتلاشى في عقول أبنائها؛ لتحل محلها ثقافات أخرى طارئة غريبة..؛ ذلك أن الثقافة -في حقيقتها- هي الصورة الحية للأمة؛ فهي التي تحدد ملامح شخصيتها وقوام وجودها، وهي التي تضبط سيرها في الحياة، وتحدد اتجاهها فيها. إنها عقيدتها التي تؤمن بها، ومبادؤها التي تحرص عليها، ونظمها التي تعمل على التزامها، وتراثها الذي تخشى عليه الضياع والاندثار، وفكرها الذي تود له الذيوع والانتشار..؛ فإذا اهتزت هذه الصورة، أو اضطربت ملامحها، أو طمسها الركام المتكاثف فوقها؛ لم يكن للأمة -بسبب ذلك- شخصية تميزها، أو سمات تنفرد بها؛ بل تصبح تبعًا لغيرها، حتى تنتهي إلى الاضمحلال، وتؤول إلى الزوال، وتلك هي الكارثة التي تخشى كل أمة حية أن تحل بها، فتمحق وجودها، وتطمس حياتها.206
الثقافة في حياة الأمم
المفاهيم الأساسية
...
الثقافة في حياة الأمم المفاهيم الأساسية:
1- في حياة كل أمة مفاهيم أساسية تحرص عليها، وتعمل على ترسيخها، وتعميق إدراكها في شئونها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها ذلك من أمور الحياة. وتسعى كل أمة سعيًا حقيقيًّا دائبًا على أن تكون مفاهيمها واضحة الدلالة في ذاتها، مراعية الجانب لدى أبنائها، واسعة الانتشار والتداول لدى غيرها، وتتخذ لتحقيق ذلك وسائل شتى: فتؤلف الكتب، وتعقد المؤتمرات، وتقوم بالدراسات، وتصدر النشرات، وتضع مناهج التربية والتعليم، وتستخدم -بوجه عام- كل وسائل الإعلام والتوجيه لتوضيح هذه المفاهيم وشرحها، وبيان أسسها وخصائصها، وتفصيل وجوه النفع فيها.
إن هذه المفاهيم الأساسية، وما ينبثق عنها ويتعلق بها، هي في حقيقتها: ما يمكن أن يطلق عليه -بشكل عام- ثقافة الأمة أو حضارتها، مع الأخذ بعين الاعتبار ما بين الثقافة والحضارة من فروق يدل عليها تطور الكلمتين في اللغة العربية واللغات الأخرى. كما سنفصل ذلك فيما بعد.
2- وأكثر ما يتهم به قادة الفكر والثقافة المؤمنون بمفاهيم أمتهم، الدائبون
لنشرها، هو نقلها من حيز النظر المجرد إلى الواقع البشري الحي، ووصل حياة الناس بها، بحيث تكون مصدر فكرهم وشعورهم، وطابع سلوكهم، وسمة حياتهم العملية. ومن هنا يخرج مدلول الثقافة عن قصد المعرفة المجردة إلى المعرفة الهادفة. أو بتعبير آخر: عن المعرفة الساكنة التي لا تتجاوز حدود العمل الذهني، إلى المعرفة المحركة التي تحدث تفاعلًا موجهًا واضح التأثير مع تطلعات الفرد والجماعة.
ولعل خير ما يجلي هذه الفكرة؛ ما ذكره "أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي" في وصف العلم والأدب فقال: "فإنهما القطبان اللذان عليهما مدار الدين والدنيا، وفرق ما بين الإنسان وسائر الحيوان، وما بين الطبيعة الملكية، والطبيعة البهيمية، وهما مادة العقل وسراج البدن، ونور القلب وعماد الروح، وقد جعل الله بلطيف قدرته، وعظيم سلطانه، بعض الأشياء عمدًا لبعض ومتولدًا من بعض؛ فإجالة الوهم فيما تدركه الحواس تبعث خواطر الذكر، وخواطر الذكر تنبه روية الفكر، وروية الفكر تثير مكامن الإرادة، والإرادة تحكم أسباب العمل؛ فكل شيء يقوم في العقل ويمثل في الوهم يكون ذكرًا، ثم فكرًا، ثم إرادة، ثم عملًا"1.
3- وإذا كان لا بد لهذه المفاهيم الأساسية من مرتكزات منطقية وأصول علمية؛ فإن الأمم التي تعوزها هذه المرتكزات والأصول لمفاهيمها؛ تحاول أن تعوض هذا النقص الخطير باتخاذ أسلوب الافتراض والتخمين. وقد تلجأ أحيانًا إلى ضروب من المغالطات الخفية، والمرتكزات الوهمية حين تنعدم لديها الحقائق الأصلية، وتفقد قواعد اليقين العلمي الراسخ، وتحاول أن تحيط مفاهيمها الناقصة التي لا تستند إلى أدلة مقبولة بهالةٍ من التمجيد والتزيين تلفت إليها الأنظار؛ فترمقها مبهورة بظواهرها.
__________
1 العقد الفريد ج2 ص
غافلة عن حقيقتها، ويحجبها الفريق اللامع المصنوع بكثير من المهارة عن النظرة النافذة العميقة التي تقومها التقويم الصحيح.
4- وليس يعرف في تاريخ الأمم -ماضيها وحاضرها- أن واحدة منها أهملت في نشر ثقافتها، أو تركتها تذوب في ثقافة غيرها، أو تتلاشى في عقول أبنائها؛ لتحل محلها ثقافات أخرى طارئة غريبة..؛ ذلك أن الثقافة -في حقيقتها- هي الصورة الحية للأمة؛ فهي التي تحدد ملامح شخصيتها وقوام وجودها، وهي التي تضبط سيرها في الحياة، وتحدد اتجاهها فيها. إنها عقيدتها التي تؤمن بها، ومبادؤها التي تحرص عليها، ونظمها التي تعمل على التزامها، وتراثها الذي تخشى عليه الضياع والاندثار، وفكرها الذي تود له الذيوع والانتشار..؛ فإذا اهتزت هذه الصورة، أو اضطربت ملامحها، أو طمسها الركام المتكاثف فوقها؛ لم يكن للأمة -بسبب ذلك- شخصية تميزها، أو سمات تنفرد بها؛ بل تصبح تبعًا لغيرها، حتى تنتهي إلى الاضمحلال، وتؤول إلى الزوال، وتلك هي الكارثة التي تخشى كل أمة حية أن تحل بها، فتمحق وجودها، وتطمس حياتها.206
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
الثقافة والتغيرات الطارئة:
الثقافة والتغيرات الطارئة:
1- إن هذا هو شأن الثقافة في حياة الأمة في أحوالها المعتادة المألوفة، وسيرها مع حركة الحياة في خطاها الرتيبة؛ شأنها في ذلك شأن الجو الطبيعي في صفاء سمائه، وإشراق شمسه، وحركة الرياح فيه، ومستوى درجة حرارته، وفق الفصل الذي يكون.. غير أن الأحوال المعتادة لا تبقى دائمًا في نطاق المألوف؛ بل تتعرض في مناسبات ملحوظة أو غير ملحوظة إلى التغير، وقد يبلغ هذا التغير درجة لا يبقى معها من المعتاد المألوف شيء؛ فتتبدل الأوضاع وتأتي على صورة جديدة غير متوقعة أو معروفة.
وهنا تصبح خطى الحياة الرتيبة خطى متسارعة منتظمة، أو قلقة مضطربة لا توازن فيها ولا انتظام.
وحتى تكون الصورة أكثر وضوحًا في الذهن لتجلية هذه الحقيقة عن أثر الثقافة وخطرها في حياة الأمة حين تكون في غير الجو المعتاد، والمناخ المألوف: أو في ما يمكن أن نطلق عليه حالة التغيرات العاصفة..؛ فإن علينا أن نتصور هبوب ريح عاتية، وانتشار سحب كثيفة، تتلبد معها السماء، وتحتجب الشمس، وتنهمر الأمطار قوية غزيرة؛ فتشكل سيلًا رابيًا قد يتحول إلى فيضان شديد في فصل ليس مألوفًا فيه أن يقع مثل هذا التغير الكلي الذي يحمل الإنسان على أن يسائل نفسه عن الفصل الذي يعيش فيه بسبب اختلاف ما يرى، وتنافيه تنافيًا تامًّا عن طبيعة المناخ المألوف لديه.
2- في ضوء هذه الصورة يمكن أن نلحظ التشابه بين الثقافة والمناخ، وأثرهما على الأمة من حيث الجو الطبيعي والإلف المعتاد في سير الحياة وفق الخطى الرتيبة المعروفة، وما يعرض للثقافة والمناخ معًا من تغير وتبدل، وغيبة للمألوف، عندما تختفي رتابة الحركة وتفقد الاتزان والتناسق والانسجام.. ولا يكاد هذا التشابه بين الثقافة والمناخ يختلف إلا في الأمور التالية:
أ- عودة المناخ بعد التغير إلى حالته الطبيعية المألوفة؛ فيتلاشى الضباب، وتهدأ الريح وتشرق الشمس، ويغيض ماء الفيضان، وليس الأمر كذلك في الثقافة؛ فلا بد أن يترك التغيير آثاره العميقة التي يطول مكثها، وقد يعسر التغلب عليها. ولا شك أن ضباب الفكر لا يمكن أن يتلاشى سريعًا من سماء الثقافة، وكذلك الحال في عصف التيارات الغريبة الوافدة، وما يترافق معها من طوفان الانحراف، وما تخلفه من رواسب آسنة مؤذية في مفاهيم الأمة وأخلاقها وطابع حياتها.
ب- تستطيع الأمة أن تعالج على المدى القريب أو البعيد آثار الكوارث الطبيعية
مهما كانت شديدة ثقيلة..؛ فهي تعمل وتبذل وتبادر إلى بناء ما تهدم، وإصلاح ما فسد، وبث الحركة فيما أصابه العطب.. وتقوى إذا حدث وصبرت على إزالة جميع الآثار الضارة وطمس الرواسب المؤذية.
وليس الأمر في الثقافة على هذا النحو تمامًا، فإن بناء ما تصدع، وإصلاح ما فسد، وتحريك ما توقف، وبث روح الحركة السوية المتزنة في الحياة الفكرية والاجتماعية بعد التغير الناجم عن الحركة القلقة الملتوية المضطربة.. إن كل ذلك يحتاج إلى جهد كبير وبذل سخي وعمل متواصل.. ولا بد أن يفوق -أضعافًا مضاعفة- جهد الأمة وبذلها وعملها وكل ما تنفقه من أجل التغلب على نتائج أشد كوارث الطبيعة وأضخمها وأعنفها.
ج- وليس من شك في أن قدرة الأمة على ذلك محفوفة بكثير من الصعاب، بسبب عمق القضايا المعنوية وتعقدها، ووفرة ما تتصل به من شئون وأوضاع، وهي كلها شئون حيوية، وأوضاع أساسية، يعد إهمال أمرها كارثة كبيرة، كما يؤدي خطأ علاجها، في أي جانب أساسي من جوانبها مدعاةً إلى سلسة أطول من الأخطاء؛ ثم إن البون شاسع جدًّا بين علاج المشكلات المادية والمشكلات المعنوية من حيث كنهها الذاتي، وطبيعة كل منها وخصائصها المتمايزة، ومن حيث إمكان الإصلاح ويسره وطواعيته ثم مدى بلوغ نتائجه.
إزاء هذا لا بد من الإلحاح على بيان خطر الثقافة في حياة الأمم، وأثرها البالغ في وجودها، ولا مناص لأي باحث يتصدى لعلاج هذه القضايا من أن يحاول -أقصى ما وسعه الجهد وبكل وسيلة ميسورة لديه- إثارة الإحساس بهذه القضية، ودفعها إلى بؤرة التوتر الذهني والطاقة العملية؛ حتى لا يكون وعي القضية الثقافية، والتصدي لعلاج مشكلاتها دون مستوى ما ينبغي لها -على مختلف فئات الأمة- من تعمق في الفهم، واستيعاب للقضية، وإحاطة بمشكلاتها، وجدٍّ في علاجها، وبحث عن الخطة المثلى في حلها.
- وإذا حاولنا أن نتجاوز الإطار العام الذي يصدق على أمم شتى، وأن نضع قضية ثقافتنا في ميزان التحليل، وفق ما سلف لنخرج بتقويم دقيق صحيح..؛ فإنه لا غنى لنا عن الإشارة إلى ملاحظة مهمة ينبغي أن توضع في موضعها الصحيح وهي: أن الهروب من المشكلات لا ينفي وقوعها، ثم إن محاولة العزلة لا يقضي أبدًا تسرب هذه التيارات إلينا..؛ بَلْهَ إن العزلة نفسها ليست ممكنة في هذا العصر، والذي تلاقت الأمم فيه بوسائل كثيرة من الاتصال، والذي أصحبت التيارات الثقافية فيه كالتيارات الهوائية على حد سواء؛ أضف إلى ذلك أن هذا العصر قد فرض علينا أن نتلاقى مع غيرنا من الأمم والشعوب في عدد من ساحات العمل المشترك بتأثير مقتضيات دولية وإنسانية وشئون حيوية كبرى تخص وجودنا وقضيانا نفسها. ثم إن فترة الانطواء التي جرت في العالم الإسلامي حقبة قصيرة من الزمن لم تكن فترة خصب وازدهار، وإن كانت فترة تماسك وصمود؛ لا يوصف بالقوة والحركة إن لم يوسم بالضعف والجمود؛ ولكن لم يكن ينتظر لها أن تستمر وتطول، إزاء حدة ما يحيط بها من عواصف عاتية وتيارات شديدة..
"لقد كانت الفترة التي عاشت فيها بعض الأقطار الإسلامية بعيدة عن الحضارة الحديثة بخيرها وشرها، زاهدة في مرافقها وأساليبها، منطوية على نفسها. لقد كانت هذه الفترة قصيرة مضطربة، مهددة بالغزو الحضاري والثقافي من الخارج، وموجات هذه المدينة العاتية التي تتغلغل إلى الجذور والأعماق، وتذهب بالقيم والمفاهيم ومبادئ الأخلاق، ويشك كل عاقل -عرف قوة نفوذ هذه الحضارة وسعته، وعرف ضعف هذه الأقطار الروحي والمادي، وفقدها ما يقاوم هذه الحضارة من إيمان وقوة شخصية وثقة- يشك في بقاء هذه الأقطار في سلخها وحصارها المدني والثقافي والاجتماعي، ويشك في طول هذه الفترة؛ لأنها -مع وجود هذا الضعف في الشخصية والفقر في القوة
المعنوية- غير صالحة للطول والامتداد؛ فضلًا عن البقاء والاستمرار"1.
__________
1 أبو الحسن الندوي: "الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية" ص15
1- إن هذا هو شأن الثقافة في حياة الأمة في أحوالها المعتادة المألوفة، وسيرها مع حركة الحياة في خطاها الرتيبة؛ شأنها في ذلك شأن الجو الطبيعي في صفاء سمائه، وإشراق شمسه، وحركة الرياح فيه، ومستوى درجة حرارته، وفق الفصل الذي يكون.. غير أن الأحوال المعتادة لا تبقى دائمًا في نطاق المألوف؛ بل تتعرض في مناسبات ملحوظة أو غير ملحوظة إلى التغير، وقد يبلغ هذا التغير درجة لا يبقى معها من المعتاد المألوف شيء؛ فتتبدل الأوضاع وتأتي على صورة جديدة غير متوقعة أو معروفة.
وهنا تصبح خطى الحياة الرتيبة خطى متسارعة منتظمة، أو قلقة مضطربة لا توازن فيها ولا انتظام.
وحتى تكون الصورة أكثر وضوحًا في الذهن لتجلية هذه الحقيقة عن أثر الثقافة وخطرها في حياة الأمة حين تكون في غير الجو المعتاد، والمناخ المألوف: أو في ما يمكن أن نطلق عليه حالة التغيرات العاصفة..؛ فإن علينا أن نتصور هبوب ريح عاتية، وانتشار سحب كثيفة، تتلبد معها السماء، وتحتجب الشمس، وتنهمر الأمطار قوية غزيرة؛ فتشكل سيلًا رابيًا قد يتحول إلى فيضان شديد في فصل ليس مألوفًا فيه أن يقع مثل هذا التغير الكلي الذي يحمل الإنسان على أن يسائل نفسه عن الفصل الذي يعيش فيه بسبب اختلاف ما يرى، وتنافيه تنافيًا تامًّا عن طبيعة المناخ المألوف لديه.
2- في ضوء هذه الصورة يمكن أن نلحظ التشابه بين الثقافة والمناخ، وأثرهما على الأمة من حيث الجو الطبيعي والإلف المعتاد في سير الحياة وفق الخطى الرتيبة المعروفة، وما يعرض للثقافة والمناخ معًا من تغير وتبدل، وغيبة للمألوف، عندما تختفي رتابة الحركة وتفقد الاتزان والتناسق والانسجام.. ولا يكاد هذا التشابه بين الثقافة والمناخ يختلف إلا في الأمور التالية:
أ- عودة المناخ بعد التغير إلى حالته الطبيعية المألوفة؛ فيتلاشى الضباب، وتهدأ الريح وتشرق الشمس، ويغيض ماء الفيضان، وليس الأمر كذلك في الثقافة؛ فلا بد أن يترك التغيير آثاره العميقة التي يطول مكثها، وقد يعسر التغلب عليها. ولا شك أن ضباب الفكر لا يمكن أن يتلاشى سريعًا من سماء الثقافة، وكذلك الحال في عصف التيارات الغريبة الوافدة، وما يترافق معها من طوفان الانحراف، وما تخلفه من رواسب آسنة مؤذية في مفاهيم الأمة وأخلاقها وطابع حياتها.
ب- تستطيع الأمة أن تعالج على المدى القريب أو البعيد آثار الكوارث الطبيعية
مهما كانت شديدة ثقيلة..؛ فهي تعمل وتبذل وتبادر إلى بناء ما تهدم، وإصلاح ما فسد، وبث الحركة فيما أصابه العطب.. وتقوى إذا حدث وصبرت على إزالة جميع الآثار الضارة وطمس الرواسب المؤذية.
وليس الأمر في الثقافة على هذا النحو تمامًا، فإن بناء ما تصدع، وإصلاح ما فسد، وتحريك ما توقف، وبث روح الحركة السوية المتزنة في الحياة الفكرية والاجتماعية بعد التغير الناجم عن الحركة القلقة الملتوية المضطربة.. إن كل ذلك يحتاج إلى جهد كبير وبذل سخي وعمل متواصل.. ولا بد أن يفوق -أضعافًا مضاعفة- جهد الأمة وبذلها وعملها وكل ما تنفقه من أجل التغلب على نتائج أشد كوارث الطبيعة وأضخمها وأعنفها.
ج- وليس من شك في أن قدرة الأمة على ذلك محفوفة بكثير من الصعاب، بسبب عمق القضايا المعنوية وتعقدها، ووفرة ما تتصل به من شئون وأوضاع، وهي كلها شئون حيوية، وأوضاع أساسية، يعد إهمال أمرها كارثة كبيرة، كما يؤدي خطأ علاجها، في أي جانب أساسي من جوانبها مدعاةً إلى سلسة أطول من الأخطاء؛ ثم إن البون شاسع جدًّا بين علاج المشكلات المادية والمشكلات المعنوية من حيث كنهها الذاتي، وطبيعة كل منها وخصائصها المتمايزة، ومن حيث إمكان الإصلاح ويسره وطواعيته ثم مدى بلوغ نتائجه.
إزاء هذا لا بد من الإلحاح على بيان خطر الثقافة في حياة الأمم، وأثرها البالغ في وجودها، ولا مناص لأي باحث يتصدى لعلاج هذه القضايا من أن يحاول -أقصى ما وسعه الجهد وبكل وسيلة ميسورة لديه- إثارة الإحساس بهذه القضية، ودفعها إلى بؤرة التوتر الذهني والطاقة العملية؛ حتى لا يكون وعي القضية الثقافية، والتصدي لعلاج مشكلاتها دون مستوى ما ينبغي لها -على مختلف فئات الأمة- من تعمق في الفهم، واستيعاب للقضية، وإحاطة بمشكلاتها، وجدٍّ في علاجها، وبحث عن الخطة المثلى في حلها.
- وإذا حاولنا أن نتجاوز الإطار العام الذي يصدق على أمم شتى، وأن نضع قضية ثقافتنا في ميزان التحليل، وفق ما سلف لنخرج بتقويم دقيق صحيح..؛ فإنه لا غنى لنا عن الإشارة إلى ملاحظة مهمة ينبغي أن توضع في موضعها الصحيح وهي: أن الهروب من المشكلات لا ينفي وقوعها، ثم إن محاولة العزلة لا يقضي أبدًا تسرب هذه التيارات إلينا..؛ بَلْهَ إن العزلة نفسها ليست ممكنة في هذا العصر، والذي تلاقت الأمم فيه بوسائل كثيرة من الاتصال، والذي أصحبت التيارات الثقافية فيه كالتيارات الهوائية على حد سواء؛ أضف إلى ذلك أن هذا العصر قد فرض علينا أن نتلاقى مع غيرنا من الأمم والشعوب في عدد من ساحات العمل المشترك بتأثير مقتضيات دولية وإنسانية وشئون حيوية كبرى تخص وجودنا وقضيانا نفسها. ثم إن فترة الانطواء التي جرت في العالم الإسلامي حقبة قصيرة من الزمن لم تكن فترة خصب وازدهار، وإن كانت فترة تماسك وصمود؛ لا يوصف بالقوة والحركة إن لم يوسم بالضعف والجمود؛ ولكن لم يكن ينتظر لها أن تستمر وتطول، إزاء حدة ما يحيط بها من عواصف عاتية وتيارات شديدة..
"لقد كانت الفترة التي عاشت فيها بعض الأقطار الإسلامية بعيدة عن الحضارة الحديثة بخيرها وشرها، زاهدة في مرافقها وأساليبها، منطوية على نفسها. لقد كانت هذه الفترة قصيرة مضطربة، مهددة بالغزو الحضاري والثقافي من الخارج، وموجات هذه المدينة العاتية التي تتغلغل إلى الجذور والأعماق، وتذهب بالقيم والمفاهيم ومبادئ الأخلاق، ويشك كل عاقل -عرف قوة نفوذ هذه الحضارة وسعته، وعرف ضعف هذه الأقطار الروحي والمادي، وفقدها ما يقاوم هذه الحضارة من إيمان وقوة شخصية وثقة- يشك في بقاء هذه الأقطار في سلخها وحصارها المدني والثقافي والاجتماعي، ويشك في طول هذه الفترة؛ لأنها -مع وجود هذا الضعف في الشخصية والفقر في القوة
المعنوية- غير صالحة للطول والامتداد؛ فضلًا عن البقاء والاستمرار"1.
__________
1 أبو الحسن الندوي: "الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية" ص15
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
أمتنا على مفترق الطرق:
أمتنا على مفترق الطرق:
1- إن أمتنا اليوم على مفترق طرق شتى، تتربص بها قوى الشر في كل منعطف وزاوية، تحاول -كما حاولت من قبل- أن تقوض رسالتها، وتطوي رايتها، وتطفئ مشاعلها، بوسائل لم يختلف الحديث منها كثيرًا عن القديم، وإن كان أقسى ما نواجهه منها أنها استطاعت أن تحتل بعض المواقع الرئيسية في الحصن الشامخ؛ لتتابع منها حربها الضارية وهدفها الرهيب.. وإن وعي أمتنا لهذه الحقيقة، وإدراكها لطبيعة المعركة؛ يحتم عليها أن تكون أكثر إصرارًا على سلوك سبيل الإسلام وحده في التربية والتشريع والحكم، وأقوى اعتصامًا بحبل الله، وأوفى اتباعًا لهداه، في بناء الفرد وإنشاء المجتمع بلبنات الفكر والثقافة والاقتصاد والخلق والتوجيه..
{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2.
2- ولا بد للمسلم في عصرنا الحاضر الذي ازدحمت فيه التيارات الفكرية، والنظم الاجتماعية، من أن يعرف طريقه ويحدد وجهته، ويدرك ما يحيط به من اتجاهات؛ لتكون خطاه في هذه الحياة على أقوم السبل، وأوضح المناهج، وينأى في رحلة العمر عن العبث والضياع، وحتى لا يضطر -وقد قطع في سيره التائه أشواطًا- أن يعود القههرى، وينقض
__________
2 المائدة: 15-16
ما أبرم، ويرجع من حيث انطلق، إذا أتيح له أن ينجو من الانزلاق الخطير، ويسلم من الانهيار وسوء المصير..
إن المسلم بحاجة ماسة -إزاء هذه الظاهرة- إلى مزيد من دفقات النور، تقتبس -وضاءة ساطعة- من الينبوع الأصيل الزاخر الذي يبدد ظلمات قرون طويلة من الجاهلية التي صنعها مردة الشر وجنود الشيطان.. وأفاض بعدها على الإنسانية من أنوار هدايته الربانية دعوة خيرة، ومثلًا عاليةً، وحضارةً زاهرة، وأمدَّ الحياة بروح جديدة قوامها التوحيد ومبناها الإخلاص وشعارها عقيدة والتزام..؛ فالتأم الشمل المشتت، وتحرر العقل المقيد وتطهر الضمير الملوث، واكتشف الإنسان -بوحي من هذه الدعوة وهدىً من هذه الروح- جوهره النبيل، ومعدنه الأصيل، وفطرته الطيبة، وأدرك أن له في هذا الوجود مهمة عظيمة، ورسالة جليلة، عليه أن يدأب لتحقيقها، ويسعى بصبر وثبات لأدائها، ويعد نفسه إعدادًا ملائمًا للقيام بها. تلك هي "الخلافة في الأرض" إقامةً لحكم الله، وتطبيقًا لشريعته، لإرشاد من ضل وغوى، وإنقاذ من انحرف وهوى، وتحرير من استعبدته الأهواء، واستبد به طواغيت الأرض، فشوهوا فطرته، وأفسدوا عقيدته وأذلوا كرامته، وجعلوا منه مطيةً سهلةً لمطامعهم، وساقوه سوق السوائم إلى مذبح رغباتهم وشهواتهم.
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} 1.
وقال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} 2.
__________
1 الأنعام: "165"
2 يونس: "14"
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدنيا حلوةٌ خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون" 1.
3- لقد كان مولد الإسلام في أرض الطهر والنور، وفي رحاب بيت الله الحرام، إعلانًا جديدًا وأخيرًا لمولد الإنسان الذي أراد له بارئه أن يحمل أعباء الخلافة في الأرض بصدق وإخلاص، ويهب لها -برضى وتصميم- ما حباه الله به من فكر وعزيمة وعمل؛ بحيث تكون طاقاته كلها في خدمة هذه الغاية السامية، بناءً وتشييدًا، ودعمًا وتأييدًا ورعايةً دائمةً لها، وذودًا صارمًا عنها، ولا يتم ذلك إلا حين تكون هي محور حركته ونشاطه، تملأ عليه وجوده، وتتوهج في ضميره توهج اللهب، وتسري في عروقه سريان الدم.. يحياها عقيدة صافية مبرأة من نوازع الشك والشرك، والانحراف والرياء، وعبادة خالصة خاشعة، طاعة لله وقربى إليه، وتحليًا بأكرم الأخلاق وأنبل الصفات.. وهذه هي العناصر الأساسية التي تجعل منه النموذج الأمثل، الذي يدعو إلى فكرته حالُه، قبل أن يدعو مقالُه..
4- إن رسالة الإسلام -في أصولها وفروعها- بناءٌ متكاملٌ يتلاءم كل التلاؤم مع فطرة الإنسان الطيبة، واستعداده للخير، ولدى المسلمين اليوم هذا الرصيد الضخم الذي يجب أن يتحول إلى تفاعل منتج بين العقيدة والسلوك والعمل، ويصاغ -في الإطار النفسي والفكري والخلقي- التزامًا كاملًا للمنهج الرباني، واحتكامًا تامًا إلى مقاييس الإسلام وسعيًا دائبًا إلى الغاية الأساسية وهي إرضاء الله تبارك وتعالى، وأداء الأمانة التي حملهم الله إياها، وتبليغ الرسالة التي ندبهم لها..
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
__________
1 أخرجه مسلم
أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 1
فإذا صحت العقيدة، وصدق الاتباع؛ تحققت الاستجابة الصحيحة لنداء الله عز وجل في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} 2
وذلك وحده هو سبيل تحقيق وعد الله تبارك وتعالى في أن يعيش المؤمنون على هذه الأرض أعزةً أحرارًا.. كرماء سعداء، تسودهم المحبة، ويعمهم الخير، وترفرف فوق ربوعهم ألوية السلام..
وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} 3
وقال عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} 4.
5- بهذا المنهج الرباني وحده، يستطيع المسلمون أن يواجهوا تحديات الحضارة المعادية، والثقافات المسمومة، والمفاهيم الدخيلة المغلوطة، وما جاءت به -في فترة سيطرة الاستعمار وعنفوان تسلطه- من مناهج ملتوية في الفكر والاقتصاد، والأخلاق والاجتماع.
__________
1 الأحزاب: 36
2 الأنفال: 24
3 النور: 55
4 القصص: 5
وبهذا المنهج وحده -دون سواه- لا يغيب الجيل الإسلامي اليوم عن معترك الحياة، ولا يحيا على هامشها، أو يسلم نفسه لتيارها؛ تتخطفه مذاهبها، وتلفه أعاصيرها، وتفتك به أدواؤها، ويعبث بفكره وخلقه شياطينها، ويقذفون به في مهاوي الظلام بعيدًا عن ينبوع الحياة الطيبة الكريمة، يتخبط في سيره، وينحرف في اتجاهه، ويجري مكدودًا مرهقًا في تيه طويل وشقاء مرير.
وعلى الجيل الإسلامي الذي يجب عليه أن يرفض الوجود الخائر الزائف، الذي لا يليق بالأمة التي ينتمي إليها، أن يدرك أن دعوة الله تبارك وتعالى هي البرهان القوي الساطع على أحقية الوجود الإسلامي الرائد في هذه الحياة، وهي النور المشرق الوضاء الذي يجب أن يعمر الصدور، ويفتح العقول، ويحرك العزائم، لأداء هذه الأمانة للبشر في كل أرض وتحت كل سماء؛ مهما تزاحمت الشدائد، وتكاثف الضباب، وكثرت الصعوبات، وعظمت التضحيات..؛ فهي لكل إنسان الدليل القاطع للعذر، والحجة المزيلة للشبهات؛ تنفذ إلى العقول السليمة فتنكشف أمامها الحقائق واضحةً جليلةً، وإذا انكشفت الحقائق؛ سقطت الشبهات صرعى متهالكة، وانهارت في العقول والقلوب والضمائر وأوضاع الحياة؛ تلك الهياكل النخرة الشوهاء، التي يحاول الشر والباطل -المتمثل في المنطق الجاهلي المتخاذل- أن يقيمها زيغًا في النفوس، وزيفًا في نظم المجتمع وواقع الناس.
وبهدي هذه الدعوة وأدلتها القوية في الكون والحياة والناس، وأهدافها السامية في التحرير والتطهير ومطاردتها الباطل، ورد غوائل الفساد، ودحر نوازع العدوان..؛ تنزاح عن الإنسان تلك الرواسب الضالة الكثيفة التي تشده إلى ما يرديه، وتنأى به عما يسعده ويرضيه، وبذلك ينقى المجتمع البشري من أدران الظلم والفوضى، والتمزق والضياع..؛ وبذلك أيضًا يحيا الإنسان حياة السعادة والطهر، والاستقامة والكرامة.. وتلك هي معالم الطريق التي تتحقق بها لبني البشر -أفرادًا وجماعات- قيم الحق والخير، والعدالة والسلام.
1- إن أمتنا اليوم على مفترق طرق شتى، تتربص بها قوى الشر في كل منعطف وزاوية، تحاول -كما حاولت من قبل- أن تقوض رسالتها، وتطوي رايتها، وتطفئ مشاعلها، بوسائل لم يختلف الحديث منها كثيرًا عن القديم، وإن كان أقسى ما نواجهه منها أنها استطاعت أن تحتل بعض المواقع الرئيسية في الحصن الشامخ؛ لتتابع منها حربها الضارية وهدفها الرهيب.. وإن وعي أمتنا لهذه الحقيقة، وإدراكها لطبيعة المعركة؛ يحتم عليها أن تكون أكثر إصرارًا على سلوك سبيل الإسلام وحده في التربية والتشريع والحكم، وأقوى اعتصامًا بحبل الله، وأوفى اتباعًا لهداه، في بناء الفرد وإنشاء المجتمع بلبنات الفكر والثقافة والاقتصاد والخلق والتوجيه..
{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2.
2- ولا بد للمسلم في عصرنا الحاضر الذي ازدحمت فيه التيارات الفكرية، والنظم الاجتماعية، من أن يعرف طريقه ويحدد وجهته، ويدرك ما يحيط به من اتجاهات؛ لتكون خطاه في هذه الحياة على أقوم السبل، وأوضح المناهج، وينأى في رحلة العمر عن العبث والضياع، وحتى لا يضطر -وقد قطع في سيره التائه أشواطًا- أن يعود القههرى، وينقض
__________
2 المائدة: 15-16
ما أبرم، ويرجع من حيث انطلق، إذا أتيح له أن ينجو من الانزلاق الخطير، ويسلم من الانهيار وسوء المصير..
إن المسلم بحاجة ماسة -إزاء هذه الظاهرة- إلى مزيد من دفقات النور، تقتبس -وضاءة ساطعة- من الينبوع الأصيل الزاخر الذي يبدد ظلمات قرون طويلة من الجاهلية التي صنعها مردة الشر وجنود الشيطان.. وأفاض بعدها على الإنسانية من أنوار هدايته الربانية دعوة خيرة، ومثلًا عاليةً، وحضارةً زاهرة، وأمدَّ الحياة بروح جديدة قوامها التوحيد ومبناها الإخلاص وشعارها عقيدة والتزام..؛ فالتأم الشمل المشتت، وتحرر العقل المقيد وتطهر الضمير الملوث، واكتشف الإنسان -بوحي من هذه الدعوة وهدىً من هذه الروح- جوهره النبيل، ومعدنه الأصيل، وفطرته الطيبة، وأدرك أن له في هذا الوجود مهمة عظيمة، ورسالة جليلة، عليه أن يدأب لتحقيقها، ويسعى بصبر وثبات لأدائها، ويعد نفسه إعدادًا ملائمًا للقيام بها. تلك هي "الخلافة في الأرض" إقامةً لحكم الله، وتطبيقًا لشريعته، لإرشاد من ضل وغوى، وإنقاذ من انحرف وهوى، وتحرير من استعبدته الأهواء، واستبد به طواغيت الأرض، فشوهوا فطرته، وأفسدوا عقيدته وأذلوا كرامته، وجعلوا منه مطيةً سهلةً لمطامعهم، وساقوه سوق السوائم إلى مذبح رغباتهم وشهواتهم.
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} 1.
وقال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} 2.
__________
1 الأنعام: "165"
2 يونس: "14"
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدنيا حلوةٌ خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون" 1.
3- لقد كان مولد الإسلام في أرض الطهر والنور، وفي رحاب بيت الله الحرام، إعلانًا جديدًا وأخيرًا لمولد الإنسان الذي أراد له بارئه أن يحمل أعباء الخلافة في الأرض بصدق وإخلاص، ويهب لها -برضى وتصميم- ما حباه الله به من فكر وعزيمة وعمل؛ بحيث تكون طاقاته كلها في خدمة هذه الغاية السامية، بناءً وتشييدًا، ودعمًا وتأييدًا ورعايةً دائمةً لها، وذودًا صارمًا عنها، ولا يتم ذلك إلا حين تكون هي محور حركته ونشاطه، تملأ عليه وجوده، وتتوهج في ضميره توهج اللهب، وتسري في عروقه سريان الدم.. يحياها عقيدة صافية مبرأة من نوازع الشك والشرك، والانحراف والرياء، وعبادة خالصة خاشعة، طاعة لله وقربى إليه، وتحليًا بأكرم الأخلاق وأنبل الصفات.. وهذه هي العناصر الأساسية التي تجعل منه النموذج الأمثل، الذي يدعو إلى فكرته حالُه، قبل أن يدعو مقالُه..
4- إن رسالة الإسلام -في أصولها وفروعها- بناءٌ متكاملٌ يتلاءم كل التلاؤم مع فطرة الإنسان الطيبة، واستعداده للخير، ولدى المسلمين اليوم هذا الرصيد الضخم الذي يجب أن يتحول إلى تفاعل منتج بين العقيدة والسلوك والعمل، ويصاغ -في الإطار النفسي والفكري والخلقي- التزامًا كاملًا للمنهج الرباني، واحتكامًا تامًا إلى مقاييس الإسلام وسعيًا دائبًا إلى الغاية الأساسية وهي إرضاء الله تبارك وتعالى، وأداء الأمانة التي حملهم الله إياها، وتبليغ الرسالة التي ندبهم لها..
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
__________
1 أخرجه مسلم
أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 1
فإذا صحت العقيدة، وصدق الاتباع؛ تحققت الاستجابة الصحيحة لنداء الله عز وجل في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} 2
وذلك وحده هو سبيل تحقيق وعد الله تبارك وتعالى في أن يعيش المؤمنون على هذه الأرض أعزةً أحرارًا.. كرماء سعداء، تسودهم المحبة، ويعمهم الخير، وترفرف فوق ربوعهم ألوية السلام..
وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} 3
وقال عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} 4.
5- بهذا المنهج الرباني وحده، يستطيع المسلمون أن يواجهوا تحديات الحضارة المعادية، والثقافات المسمومة، والمفاهيم الدخيلة المغلوطة، وما جاءت به -في فترة سيطرة الاستعمار وعنفوان تسلطه- من مناهج ملتوية في الفكر والاقتصاد، والأخلاق والاجتماع.
__________
1 الأحزاب: 36
2 الأنفال: 24
3 النور: 55
4 القصص: 5
وبهذا المنهج وحده -دون سواه- لا يغيب الجيل الإسلامي اليوم عن معترك الحياة، ولا يحيا على هامشها، أو يسلم نفسه لتيارها؛ تتخطفه مذاهبها، وتلفه أعاصيرها، وتفتك به أدواؤها، ويعبث بفكره وخلقه شياطينها، ويقذفون به في مهاوي الظلام بعيدًا عن ينبوع الحياة الطيبة الكريمة، يتخبط في سيره، وينحرف في اتجاهه، ويجري مكدودًا مرهقًا في تيه طويل وشقاء مرير.
وعلى الجيل الإسلامي الذي يجب عليه أن يرفض الوجود الخائر الزائف، الذي لا يليق بالأمة التي ينتمي إليها، أن يدرك أن دعوة الله تبارك وتعالى هي البرهان القوي الساطع على أحقية الوجود الإسلامي الرائد في هذه الحياة، وهي النور المشرق الوضاء الذي يجب أن يعمر الصدور، ويفتح العقول، ويحرك العزائم، لأداء هذه الأمانة للبشر في كل أرض وتحت كل سماء؛ مهما تزاحمت الشدائد، وتكاثف الضباب، وكثرت الصعوبات، وعظمت التضحيات..؛ فهي لكل إنسان الدليل القاطع للعذر، والحجة المزيلة للشبهات؛ تنفذ إلى العقول السليمة فتنكشف أمامها الحقائق واضحةً جليلةً، وإذا انكشفت الحقائق؛ سقطت الشبهات صرعى متهالكة، وانهارت في العقول والقلوب والضمائر وأوضاع الحياة؛ تلك الهياكل النخرة الشوهاء، التي يحاول الشر والباطل -المتمثل في المنطق الجاهلي المتخاذل- أن يقيمها زيغًا في النفوس، وزيفًا في نظم المجتمع وواقع الناس.
وبهدي هذه الدعوة وأدلتها القوية في الكون والحياة والناس، وأهدافها السامية في التحرير والتطهير ومطاردتها الباطل، ورد غوائل الفساد، ودحر نوازع العدوان..؛ تنزاح عن الإنسان تلك الرواسب الضالة الكثيفة التي تشده إلى ما يرديه، وتنأى به عما يسعده ويرضيه، وبذلك ينقى المجتمع البشري من أدران الظلم والفوضى، والتمزق والضياع..؛ وبذلك أيضًا يحيا الإنسان حياة السعادة والطهر، والاستقامة والكرامة.. وتلك هي معالم الطريق التي تتحقق بها لبني البشر -أفرادًا وجماعات- قيم الحق والخير، والعدالة والسلام.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
مواضيع مماثلة
» لمحات فى الثقافه الاسلاميه خصائص الثقافة الإسلامية
» لمحات فى الثقافه الاسلاميه الثقافة ومشكلة التعريف بين المدلولين: اللفظي والفكري
» لمحات فى الثقافه الاسلاميه الثقافة والمجتمع الثقافة ومناحي الدراسة الاجتماعية:
» لمحات فى الثقافه الاسلاميه الثقافة ومشكلة التعريف بين المدلولين: اللفظي والفكري
» لمحات فى الثقافه الاسلاميه الثقافة والمجتمع الثقافة ومناحي الدراسة الاجتماعية:
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى