منتديات أنوار المدينة
أهلاً وسهلااً بك زائرنا الكريم إذا كانت هذه زيارتك الأولى نرجو من حضرتك التسجيل
حتى تتمكن من استعمال العناوين الخارجية

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتديات أنوار المدينة
أهلاً وسهلااً بك زائرنا الكريم إذا كانت هذه زيارتك الأولى نرجو من حضرتك التسجيل
حتى تتمكن من استعمال العناوين الخارجية
منتديات أنوار المدينة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

المعركة الطاحنة أو الوحي بين معتقديه ومنكريه مدخل

اذهب الى الأسفل

المعركة الطاحنة أو الوحي بين معتقديه ومنكريه مدخل Empty المعركة الطاحنة أو الوحي بين معتقديه ومنكريه مدخل

مُساهمة من طرف شريف ابراهيم الأحد 26 مارس 2017 - 15:14

المعركة الطاحنة أو الوحي بين معتقديه ومنكريه
مدخل
...
3- المعركة الطاحنة أو الوحي بين معتقديه ومنكريه
كل ما قدمناه إليك في نزول القرآن لا يسلمه ولا يقبله إلا من آمن بالوحي وأساليبه والاتصالات الروحية بالملأ الأعلى واستمداد الإنسان لمعارفه عن الله تعالى بوساطة الملك على غير الطريقة المعتادة بين البشر. ولكن العقلية العصرية أصابها مس من المادية والإلحاد والإباحة فأصبح كثير من المتعلمين تعليما مدرسيا ناقصا لا يهضمون هذه الحقائق العليا ولا يستسيغون فهمها بل يلقون حبالا وعصيا في سبيل المؤمنين بها ولا شبهة لهم فيما ذهبوا إليه إلا شكوك تلقفوها من هنا وهناك يروجونها باسم العقل مرة وباسم العلم مرة أخرى.
لهذا نرى لزاما علينا أن نقف هنا بجانب الوحي وقفة نرفع فيها النقاب عن حقيقته وأنواعه وكيفياته ثم نتبع ذلك بالأدلة العلمية على الوحي وإمكانه ثم نردفها بالأدلة العقلية على تحققه ووقوعه. ثم نختتم هذا المبحث بعلاج الشبهات التي تعترضهم ويعترضون بها في هذا الموقف الجلل. والموضوع الخطير.
تلك نقاط أربع إذا وفقنا في بحثها قطعنا الطريق على عصابات مجرمة اتخذت مبحث الوحي أداة للفتنة وستارا يقضون من ورائه وطرا للغواية ومأربا للإباحة وسبيلا إلى هدم الأديان وضلال الإنسانية والإنسان.
شريف ابراهيم
شريف ابراهيم
نائب المدير العام
نائب المدير العام

عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

المعركة الطاحنة أو الوحي بين معتقديه ومنكريه مدخل Empty حقيقة الوحي وأنواعه وكيفياته

مُساهمة من طرف شريف ابراهيم الأحد 26 مارس 2017 - 15:23

حقيقة الوحي وأنواعه وكيفياته
أما الوحي فمعناه في لسان الشرع أن يعلم الله تعالى من اصطفاه من عباده كل ما أراد إطلاعه عليه من ألوان الهداية والعلم ولكن بطريقة سرية خفية غير معتادة للبشر.
ويكون على أنواع شتى: منه ما يكون مكالمة بين العبد وربه كما كلم الله موسى تكليما. ومنه ما يكون إلهاما يقذفه الله في قلب مصطفاه على وجه من العلم الضروري لا يستطيع له دفعا ولا يجد في شكا. ومنه ما يكون مناما صادقا يجيء في تحققه ووقوعه كما يجيء فلق الصبح في تبلجه وسطوعه. ومنه ما يكون بوساطة أمين الوحي جبريل عليه السلام وهو ملك كريم ذو قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين. وذلك النوع هو أشهر الأنواع وأكثرها. ووحي القرآن كله من هذا القبيل وهو المصطلح عليه بالوحي الجلي. قال الله تعالى في سورة الشعراء: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} .
ثم إن ملك الوحي يهبط هو الآخر على أساليب شتى: فتارة يظهر للرسول في صورته الحقيقية الملكية. وتارة يظهر في صورة إنسان يراه الحاضرون ويستمعون إليه. وتارة يهبط على الرسول خفية فلا يرى ولكن يظهر أثر التغير والانفعال على صاحب الرسالة فيغط غطيط النائم ويغيب غيبة كأنها غشية أو إغماء وما هي في شيء من الغشية والإغماء إن هي إلا استغراق في لقاء الملك الروحاني وانخلاع عن حالته البشرية العادية فيؤثر ذلك على الجسم فيغط ويثقل ثقلا شديدا قد يتصبب منه الجبين عرقا في اليوم الشديد البرد. وقد يكون وقع الوحي على الرسول كوقع الجرس إذا صلصل في أذن سامعه وذلك أشد أنواعه. وربما سمع الحاضرون صوتا عند وجه الرسول كأنه دوي النحل لكنهم لا يفقهون كلاما ولا يفقهون حديثا. أما هو صلوات الله وسلامه عليه فإنه يسمع ويعي ما يوحى إليه ويعلم علما ضروريا أن هذا هو وحي الله دون لبس ولا خفاء ومن غير شك ولا ارتياب فإذا انجلى عنه الوحي وجد ما أوحي إليه حاضرا في ذاكرته منتقشا في حافظته كأنما كتب في قلبه كتابة.
والأدلة الشرعية على ما ذكرنا كثيرة في الكتاب والسنة منها ما قصصنا عليك في تنزلات القرآن ومنها قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} .
ومنها الحديث الذي يرويه البخاري في صحيحه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال. وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول" قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا.

شريف ابراهيم
شريف ابراهيم
نائب المدير العام
نائب المدير العام

عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

المعركة الطاحنة أو الوحي بين معتقديه ومنكريه مدخل Empty ب - الوحي من ناحية العلم

مُساهمة من طرف شريف ابراهيم الأحد 26 مارس 2017 - 15:28

ب - الوحي من ناحية العلم
اعلم أن أعداء الوحي ومنكريه لا يؤمنون بالشرع وأدلة الشرع. إنما يؤمنون بالعقل على الطريقة التي يستسيغونها وبالعلم الذي تواضعوا عليه في اصطلاحهم الحديث وهو جملة المعارف اليقينية التي أنتجها دستور البحث الجديد في الوجود وكائناته من جعل الشك أساسا للبحث والاستناد إلى القاطع الذي يؤيده الحس دون سواه فهم يقدمون الشك ويمعنون فيه ثم لا يعترفون إلا بالحسيات ولا يحفلون بمجرد العقليات. ومن هنا سجنوا أنفسهم في سجن المادة ومكثوا حينا من الدهر ينكرون ما وراء المادة ويسرفون في الشكوك إلى أبعد الحدود ويستخفون بأمر الإلهيات والنبوات والوحي إلى مدى بعيد لم تصل إليه أظلم عهود الجاهلية لولا أن صدمهم العلم نفسه صدمة عنيفة غيرت رأيهم في إنكار ما وراء المادة كما يأتي إن شاء الله. وإنما نبدأ هنا بأدلة الوحي العلمية لأنها في الواقع أدلة لإمكان الوحي وتقريبه إلى العقول. وإمكان الوحي هو الخطوة الأولى في الموضوع،\

وهو ملحوظ في المقدمة الأساسية من مقدمات الدليل العقلي الآتي فلا غرو أن يكون لتلك الأدلة العلمية مكان الصدارة والتقديم.
الدليل الأول: التنويم الصناعي أو التنويم المغناطيسي وهو من المقررات العلمية الثابتة. كشفه الدكتور مسمر الألماني في القرن الثامن عشر وجاهد هو وأتباعه مدى قرن كامل من الزمان في سبيل إثباته وحمل العلماء على الاعتراف به وقد نجحوا في ذلك فاعترف العلماء به علميا بعد أن اختبروا به الآلاف المؤلفة من الخلق واطمأنوا إلى تجاربه. وأخيرا أثبتوا بوساطته ما يأتي:
1- أن للإنسان عقلا باطنا أرقى من عقله المعتاد كثيرا.
2- أنه وهو في حال التنويم يرى ويسمع من بعد شاسع ويقرأ من وراء حجب ويخبر عما سيحدث مما لا يوجد في عالم الحس أقل علامة لحدوثه.
3- أن للتنويم درجات بعضها فوق بعض يزداد العقل الباطن سموا بتنقله فيها.
4- أنه قد يصل إلى درجة تخرج فيها روح الوسيط من جسده وتمثل إلى جانبه غير مرئية بينما يكون الجسم في حالة تشبه الموت لولا علاقة خفية بين الروح والجسم.
5- أثبتوا من وراء ذلك أن هناك روحا.
6- أن الروح مستقلة عن الجسم كل الاستقلال.
7- أن الروح لا تنحل بانحلاله.
8- أنها تتصل بالأرواح التي سبقتها إذا تجردت عن المادة إلى غير ذلك مما لا نسلم جميع تفاصيله تقليدا وإن كنا نسلم هذا العلم وتجاربه. ومقرراته في الجملة لثبوت الدليل بها في الجملة أيضا بواسطة التجارب العديدة
والمشاهدات الكثيرة. وله في الغرب أنصار من علماء وطلاب وله دور وكتب وله مستشفيات يؤمها الناس للتداوي به.
وليس من موضوعنا أن نتوسع لك في هذا العالم وتاريخه وتجاربه وفوائده ولكنا نريد أن نتقدم إليك بفكرة مجملة عنه تريك إلى أي حد أظهر الله في هذا العصر آيات باهرات على أيدي الطبيعيين الذين ينكرون ما وراء المادة ويسرفون في الإنكار فانقلبوا بنعمة من الله وفضل يثبتون ما وراء المادة ويسرفون في الإثبات. تحقيقا لقوله سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} اهـ من خاتمة سورة فصلت.
وإننا نضع بين يديك هنا تجربة واحدة من تجارب التنويم تقرب إليك الوحي كل التقريب وهذه التجربة رأيتها بعيني وسمعتها بأذني بنادي جمعية الشبان المسلمين على مرأى ومسمع من جمهور مثقف كبير حضر ليشهد محاضرة مهمة في التنويم المغناطيسي وإثبات أنه يمكن أن يتخذ سلاحا مسموما لتغيير عقيدة الشخص ودينه كما تسفل إلى ذلك بعض المبشرين إذ فتن بهذا العدوان الخبيث شابا من خيرة الشبان المسلمين حول سنة هـ في حادثة مشهورة مروعة وما هي منكم ببعيد.
قام المحاضر وهو أستاذ في التنويم المغناطيسي وأحضر الوسيط وهو فتى فيه استعداد خاص للتأثر بالأستاذ والأستاذ فيه استعداد خاص للتأثير على الوسيط فالأول ضعيف النفس والثاني قويها. وللضعف والقوة وجوه ليس هذا موضع بيانها. نظر الأستاذ في عين الوسيط نظرات عميقة نافذة وأجرى عليه حركات يسمونها سحبات فما هي إلا لحظة حتى رأينا الوسيط يغط غطيط النائم وقد امتقع لونه وهمد جسمه وفقد إحساسه المعتاد حتى لقد كان أحدنا يخزه بالإبرة وخزات عدة ويخزه كذلك ثان وثالث فلا يبدي الوسيط حراكا ولا يظهر أي عرض لشعوره وإحساسه بها. وحينئذ تأكدنا أنه قد نام ذلك النوم الصناعي أو المغناطيسي.
وهناك تسلط الأستاذ على الوسيط يسأله: ما اسمك؟ فأجابه باسمه الحقيقي. فقال الأستاذ: ليس هذا هو اسمك إنما اسمك كذا وافترى عليه اسما آخر ثم أخذ يقرر في نفس الوسيط هذا الاسم الجديد الكاذب ويمحو منه أثر الاسم القديم الصادق بوساطة أغاليط يلقنها إياه في صورة الأدلة وبكلام يوجهه إليه في صيغة الأمر والنهي. وهكذا أملى عليه هذه الأكذوبة إملاء وفرضها عليه فرضا حتى خضع لها الوسيط وأذعن.
ثم أخذ الأستاذ وأخذنا نناديه باسمه الحقيقي المرة بعد الأخرى في فترات متقطعة وفي أثناء الحديث على حين غفلة كل ذلك وهو لا يجيب. ثم نناديه كذلك باسمه الموضوع فيجيب دون تردد ولا تلعثم.
ثم أمر الأستاذ وسيطه أن يتذكر دائما أن هذا الاسم الجديد هو اسمه الصحيح حتى إلى ما بعد نصف ساعة من صحوه ويقظته. ثم أيقظه وأخذ يتم محاضرته ونحن نفجأ الوسيط بالاسم الحقيقي فلا يجيب ثم نفجؤه باسمه الثاني فيجيب حتى إذا مضى نصف الساعة المضروب عاد الوسيط إلى حاله الأولى من العلم باسمه الحقيقي.
وبهذه التجربة أثبت الأستاذ أن المنوم بكسر الواو يستطيع أن يمحو من نفس وسيطه كل أثر يريد محوه مهما كان ثابتا في النفس كاسم الإنسان عينه ومهما كان مقدسا فيها كعقائد الدين.
وإنما اختار الأستاذ محو الاسم دون الدين لأمرين: أحدهما أن محو الدين عدوان أثيم وإجرام شنيع لم تقبله نفسية المحاضر ولا الحاضرين. ثانيهما: أن الاسم أثبت في نفس صاحبه من دينه فمحوه منها أعجب ومنه تعلم أن محو الدين منها أيسر.
وبهذه التجربة أيضا ثبت لي أنا من طريق علمي ما قرب إلي الوحي عمليا وما جعلني أعلله تعليلا علميا: فالوحي عن طريق الملك عبارة عن اتصال الملك
بالرسول اتصالا يؤثر به الأول في الثاني ويتأثر فيه الثاني بالأول وذلك باستعداد خاص في كليهما فالأول فيه قوة الإلقاء والتأثير لأنه روحاني محض والثاني فيه قابلية التلقي عن هذا الملك لصفاء روحانيته وطهارة نفسه المناسبة لطهارة الملك. وعند تسلط الملك على الرسول ينسلخ الرسول عن حالته العادية ويظهر أثر التغير عليه ويستغرق في الأخذ والتلقي عن الملك ويطبع ما تلقاه في نفسه حتى إذا انجلى عنه الوحي وعاد إلى حالته الأولى وجد ما تلقاه ماثلا في نفسه حاضرا في قلبه كأنما كتب في صحيفة فؤاده كتابا.
أتظن أيها القارئ الكريم أن المخلوق يستطيع أن يؤثر في نفس مخلوق آخر ذلك التأثير بواسطة التنويم المغناطيسي ثم لا يستطيع مالك القوى والقدر أن يؤثر في نفس من شاء من عباده بواسطة الوحي كلا ثم كلا إنه على ما يشاء قدير.
الدليل العلمي الثاني: إن العلم الحديث استطاع أن يخترع من العجائب ما نعرفه ونشاهده وننتفع به مما يسمونه التليفون واللاسلكي والميكرفون والراديو. وعن طريق أولئك أمكن الإنسان أن يخاطب من كان في آفاق بعيدة عنه وأن يفهمه ما شاء ويرشده إلى ما أراد. فهل يعقل بعد قيام هذه المخترعات المادية أن يعجز الإله القادر عن أن يوحي إلى بعض عباده ما شاء عن طريق الملك أو غير الملك تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
الدليل الثالث: استطاع العلم أيضا أن يملأ بعض اسطوانات من الجماد الجامد الجاهل بأصوات وأنغام وبقرآن وأغان وكلام على وجه يجعلها حاكية له بدقة وإتقان وبين أيدينا من ذلك شيء كثير لا سبيل إلى إنكاره يسمونه بالفونغراف.
أبعد هذه المخترعات القائمة يستبعد على القادر تعالى بوساطة ملك ومن غير وساطة ملك أن يملأ بعض نفوس بشرية صافية من خواص عباده بكلام مقدس
يهدي به خلقه. ويظهر به حقه على وجه يجعل ذلك الكلام منتقشا في قلب رسوله حتى يحكمه بدقة وإتقان كذلك؟
الدليل الرابع: أننا نشاهد بعض الحيوانات الدنيا تأتي بعجائب الأنظمة والأعمال مما نحيل معه أن يكون صادرا عن تفكير لها أو غريزة ساذجة فيها ومما يجعلنا نوقن بأنها لم تصدر في ذلك إلا عن إرادة عليا توحي إليها وتلهمها تلك العجائب والغرائب من الصناعات والأعمال والدقة والاحتيال.
وإذا صح هذا في عالم الحيوان فهو أولى أن يصح في عالم الإنسان حيث استعداده للاتصال بالأفق الأعلى يكون أقوى وأخذه عنه يكون أتم ومن ذلك ما يكون بطريق الوحي.
وإن شئت أمثلة لتلك الحيوانات التي ضربناها لك مثلا في إلهاماته العلوية فدونك النمل والنحل وما تأتيان من ضروب الأعمال ودقة النظام. وهاك حيوانا غريبا أسموه اكسيكلوب. وقال عنه الأستاذ ميلن إدوار المدرس بجامعة السوربون بفرنسا ما ترجمته إن الحيوانات المسماة اكسيكلوب تعيش منفردة وتموت بعد أن تبيض مباشرة وتخرج صغارها على حالة ديدان لا أرجل لها ولا تستطيع حماية نفسها من أية عادية كما لا تستطيع الحصول على غذائها. ومع ذلك فحياتها تقتضي أن تعيش مدة سنة في مسكن مقفل وفي هدوء تام وإلا هلكت.
فترى الأم متى حان وقت بيضها تعمد إلى قطعة من الخشب فتحفر فيها سردابا طويلا فإذا أتمته أخذت في جلب ذخيرة إليه تكفي صغيرا واحدا مدة سنة تلك الذخيرة هي طلع الأزهار وبعض الأوراق السكرية فتحشو بها قاع السرداب ثم تضع عليه بيضة واحدة ثم تأتي بنشارة الخشب وتكون منها عجينة تجعلها سقفا على تلك البيضة ثم تأتي بذخيرة أخرى فتضعها فوق ذلك
السقف ثم تضع بيضة أخرى وهلم جرا حتى يفرغ بيضها ثم تترك الكل وتموت.
فمن ذا الذي علم هذه الحشرة الضعيفة الساذجة تلك الصناعة المحيرة للعقل؟ ومن أفهمها وهي تموت بعد أن تبيض مباشرة أن صغارها التي ستولد في حاجة إلى البقاء سنة في حالة ضعف وعجز من الذي غرس في قلبها هذه العناية بنوعها حتى كلفتها كل هذه المشقة في وضع بويضاتها؟.
لا ريب أن قيوم الوجود يؤتي الكائنات علما بما يقيمها وبما يصلحها من غير طريق الحواس التي لا تستطيع أن تكتسبه بها. ومن العبث وضلال الرأي أن يثبت الباحث الطبيعي إلهاما تبعثه القدرة الإلهية إلى أحقر الحشرات ثم ينفيه عن النوع البشري وهو أشد ما يكون حاجة إلى هذا الوحي والإلهام في حياته الفردية والاجتماعية.
الدليل الخامس: العبقرية ويعرفها أفلاطون بأنها حال إلهية مولدة للإلهامات العلوية للبشر ويقرر الفلاسفة أنها حال علوية لا شأن للعقل فيها. ويقول الطبيعيون: إنها هبة من الطبيعة نفسها لا تحصلها دراسة ولا يوجدها تفكير.
وهاك أمثلة للعبقرية والعباقرة تشع على موضوع الوحي نورا كشافا يهدي الحيارى الضالين إلى سواء السبيل.
1- قال الأستاذ ميرس الانجليزي مدرس علم النفس بجامعة كامبردج في كتاب كبير له أسماه الشخصية الإنسانية ما ترجمته كان للمستر بيدلر خاصة تكاد تلتحق بالمعجزات فإنه كان يعين على البديهة العوامل التي إذا ضرب بعضها في بعض أنتجت عددا من سبعة أو ثمانية أرقام. فإذا سئل مثلا: ما هما العددان اللذان إذا ضرب أحدهما في الآخر نتج العدد 17861 أجابك على الفور بأنهما
(337, 53) . وهو يقول: إنه لا يدري على أية حال يأتي بهذا الجواب فكانت الإجابة عنده كأنها غريزة طبيعية.
2- ونقل عن الشاعر الكبير سوللي برودوم الفرنسي أنه قال حدث لي في بعض الأحايين أني كنت أجد فجأة برهان نظرية هندسية ألقيت إلي منذ سنة وذلك بدون أن ألقي إليها أقل التفات.
3- وذكر المسيو رينه الشاعر الفرنسي أنه ينام غالبا وهو يعمل قطعة من الشعر لم تتم ثم يستيقظ فيجدها تامة.
4- وكذلك يقول الشاعر موسيه الفرنسي أنا لا أعمل شيئا ولكن أسمع ما يلقى إلي فأنقله فكأن إنسانا مجهولا يناجيني في أذني.
وهذه الأمثلة التي سقناها تثبت وجود اتصالات روحانية باطنة في بعض الأفراد تمد الإنسان بعلم وهداية من طريق غير معتاد وذلك يقرب الوحي أيما تقريب في وقت اشتد شك الناس فيه حتى كذبوا بالإلهيات والنبوات وسخروا بالأديان والشرائع مع أنها أعظم عوامل التحول الاجتماعي والفكري في الإنسان وأكبر الأحداث التي غيرت العالم وحولت مجرى التاريخ ومن العار الجارح لكرامة البشر أن تكون تلك العوامل والأحداث العظمى قامت على أوهام خاطئة أو على أكاذيب متعمدة.
الدليل السادس: قرر العلم الحديث أنه شوهد على بعض الناس أنهم يظهرون بمظاهر روحانية تعتبر من الخوارق التي لم يكن يحلم بحدوثها العلماء على حين أن هؤلاء الذين أتوا بتلك الظواهر الخارقة كانوا في حالة ذهول وقد استحال تعليل ما أتوا تعليلا ماديا يستند إلى الحس وقد اختبروا تلك الظواهر واستحضروا لشهودها أكبر مشعوذي الأرض فشهدوا بأنها ليست من الشعوذة في شيء وإنما هي أحداث روحانية لا أثر فيها للمهارة وخفة اليد.
تلك حقيقة من حقائق العلم الحديث الحاضر يقررون فيها أنه قد يفتح على بعض الناس في حالة من حالات ذهولهم بانكشافات وظواهر روحية فكيف يستبعد بجانب هذا الكشف العلمي أن يفتح الله على بعض الممتازين من خلقه بانكشافات علمية عن طريق الوحي بينما هم من كملة العقول والأخلاق لقد أسفر الصبح لذي عينين.
شريف ابراهيم
شريف ابراهيم
نائب المدير العام
نائب المدير العام

عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

المعركة الطاحنة أو الوحي بين معتقديه ومنكريه مدخل Empty ج - الوحي من ناحية العقل

مُساهمة من طرف شريف ابراهيم الأحد 26 مارس 2017 - 15:31

ج - الوحي من ناحية العقل
عرفت فيما سقناه لك من الأدلة العلمية أن الوحي ممكن وقريب من الوقوع ونقيم لك الدليل العقلي هنا على أن هذا الأمر الممكن قد وقع فعلا ذلك أنه قد أخبر بوقوعه الصادق المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم وكل ما أخبر بوقوعه الصادق المعصوم فهو حق ثابت وذلك هو المطلوب أما الدليل على أنه قد أخبر بوقوعه الصادق المعصوم فما مر عليك من أنباء الوحي في الكتاب والسنة. وأما الدليل على أن كل ما أخبر بوقوعه الصادق المعصوم فهو حق ثابت فإن ذلك هو مقتضى الصدق والعصمة. وأما الدليل على أن محمدا صلى الله عليه وسلم صادق معصوم فإنما هي المعجزة القائمة مقام قوله تعالى لعباده في شأن تصديق رسوله صدق عبدي في كل ما يبلغ عني ومن ذلك أنه يوحى إليه مني.
وهنا نجد أنفسنا قد انتهينا إلى المعجزة فما هي المعجزة؟
المعجزة
هي أمر يعجز البشر متفرقين ومجتمعين عن الإتيان بمثله أو هي أمر خارق للعادة خارج عن حدود الأسباب المعروفة يخلقه الله تعالى على يد مدعي النبوة عند دعواه إياها شاهدا على صدقه. فإذا قام إنسان ما وادعى أنه مبعوث الله إلى

خلقه ورسوله إلى عباده وقال: إن آية صدقي فيما أدعيه أن يغير الله الذي أرسلني عادة من عاداته على يدي وأن يخرج الآن عن سنة من سننه العامة في وجوده ثم قال: وسيأتيكم الله بهذا الأمر العجاب من باب ترون أنكم فيه نابغون وعليه قادرون وإني أتحداكم زرافات ووحدانا أن تأتوا بمثل هذه الآية وأمامكم الباب مفتوحا كما تعتقدون وفيكم النبوغ موفور كما تدعون ثم أنتم مجتمعون وأنا وحدي. قال ذلك بلغة الواثق وتحدانا هذا التحدي الظاهر في وقت يثور فيه على عقائدنا وعاداتنا وأخلاقنا ويسفه فيه أحلامنا وأحلام أمثالنا من آبائنا ونحن أحرص ما نكون على تعجيزه وتبهيته والغلبة عليه والظفر به دفاعا عن كرامتنا, وانتصارا لأعز شيء لدينا.
ثم لم يلبث أن قام وقمنا وأجمع أمره وأجمعنا وإذا نحن جميعا بعد محاولات ومصاولات لم نستطع أن نأتي بمثل ما أتى به فضلا عن أعظم منه. مع أننا أمة وهو فرد. ومع أنه قد دخل علينا من أيسر الطرق في نظرنا ومن أشهر فن في زماننا ومع أنه قد أعطانا الفرصة الكافية لمناظرته وأنصفنا كل إنصاف من نفسه.
هل يشك ذو مسكة من عقل في أن هذا الإنسان المتفوق الممتاز صادق في رسالته محق في دعايته خصوصا إذا عرفنا فوق ذلك كله أنه نشأ فينا على الصدق والأمانة ومكارم الأخلاق من لدن صباه وطفولته إلى يوم مبعثه ورسالته.
لو أنه جاء بالمعجزة من باب لا نعرفه لقلنا رجل حذق فنا من الفنون التي لا علم لنا بها أو تعلم صناعة من الصناعات التي لم نحط بخبرها. أما وقد جاءنا من الناحية التي نشهد لأنفسنا فيها بالفوق والسبق فلا يسعنا إلا الإذعان له والإيمان بما جاء به ما دمنا منصفين.
ولنضرب لك مثلا: جاء موسى عليه السلام بمعجزته عصا من الخشب لا روح
فيها ولا حركة ولا لين ولا رطوبة ثم ألقاها باسم الذي أرسله فإذا هي حية تسعى بينما الأمة التي تحداها بذلك كانت قد تفوقت في السحر وحذقته وضربت فيه بأوفر سهم وأوفى نصيب خصوصا أنهم أمة وهو فرد. وهم نابغون في السحر وهو مع نشأته فيهم لم يعرف يوما من الأيام بمعالجة السحر. وهم معتزون بعددهم وعددهم وسلطانهم وهو خلو من هذه الأسباب والمظاهر.
فهل يبقى للشك ظل بعد أن ألقى موسى عصاه {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} .
الحق أبلج. ولذلك كان أول من آمن به هم السحرة أنفسهم لأنهم أعرف بالسحر ومقدماته ونتائجه وقد رأوا رأي العين أن ذلك الإعجاز ليس من نوع هذا السحر المبني على مقدمات يستطيع كل إنسان أن يزاولها ولها نتائج محدودة لا يمكن أن يتجاوزها نعم لم يطق السحرة صبرا عن المسارعة إلى الاعتراف والخضوع للحق بعد ما تبين مهما كلفهم ذلك أن يقتلوا أو يصلبوا وقالوا لفرعون مليكهم ومعبودهم بالأمس {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} . اقرأ إن شئت الآيات بعدها في سورة طه إلى قوله سبحانه: {وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} .
قل مثل ذلك في معجزة كل رسول أرسله الله قله في عيسى عليه السلام وإبرائه الأكمه والأبرص وإحيائه الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير بإذن الله أمام قوم نبغوا في الطب أيما نبوغ ومهروا فيه أيما مهارة1.
__________
1 لا تعبأ هنا بما يعزى إلى المسيو رينان من إنكاره نبوغ قوم عيسى في الطب. فإنه ناف, والمثبت مقدم على النافي. وعلى فرض صحة هذا النفي فإن هذا لا يضرنا شيئا لأن المعجزة يكفي في تحققها عجز البشر عن مثلها. وليس تفوق المواجهين بها شرطا، إنما هو أمر زائد غير مشروط.
وقل مثل ذلك وأكثر من ذلك في خاتم الأنبياء سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من آيات بينات ومعجزات واضحات وحسبك القرآن وحده برهانا ساطعا بل براهين ساطعات: كل مقدار ثلاث آيات منه حجة قاطعة تقوم في فم الدنيا إلى يوم الساعة. تتحدى العالم بما يكون فيها من أسرار الفصاحة والبيان والعلوم والمعارف وأنباء الغيب وشواهد الحق.
أضف إلى ذلك أن الذين شوفهوا بخطابه عند مهبط الوحي كانوا أئمة الفصاحة وفرسان البلاغة بضاعتهم الكلام والتفنن في إجادته. وصناعتهم التنافس في النثر وديباجته والشعر ورونقه وكرامتهم مرتبطة بما يجيدون في هذا الباب لا بما يجمعون من الذهب أو يحملون من ألقاب. حتى بلغوا في هذا الميدان شأوا لا يبارى وغاية لا تدرك. وما يكون لنا أن نطلق العنان هنا للقلم. وإلا ضاق بنا التأليف والزمن. وأنت خبير بإعجاز القرآن وما كتب في إعجاز القرآن. فاكتف بهذه الإشارة الخاطفة. وإن أردت المزيد فعليك بما كتب في إعجاز القرآن.
شريف ابراهيم
شريف ابراهيم
نائب المدير العام
نائب المدير العام

عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

المعركة الطاحنة أو الوحي بين معتقديه ومنكريه مدخل Empty د - دفع الشبهات

مُساهمة من طرف شريف ابراهيم الأحد 26 مارس 2017 - 15:38

- دفع الشبهات
ولكني أعالج بين يديك لهذه المناسبة شبهات عشرا يرددها كثير من المفتونين:
الشبهة الأولى يقولون: إن المعجزات شأنها شأن كثير من المخترعات. فإذا كان فيها طرافة أو دهشة أو عجب فكذلك آثار العلم ومدهشاته فيما نرى ونسمع.
والجواب: تعرفه مما ذكرناه آنفا في بحث المعجزة. مما يتبين به الفرق بعيدا والبون شاسعا بين المعجزة وما جد أو يجد في العالم من عجائب العلم وروائع الفن وبدائع الاختراع. فالمعجزة ليست لها أسباب معروفة حتى تلتمس ويؤتى بمثلها. أما هذه المخترعات فإن لها أسبابا معروفة عند أصحابها ويمكن معرفتها لمن لم يعرفها بيسر وسهولة متى التمسها من طريقها.
الشبهة الثانية يقولون: إن المعجزة كالسحر والشعوذة وما إليهما إن هي إلا تخييلات وتضليلات.

والجواب: يتبين لك مما قصصنا عليك في المعجزة وفي ضرب المثل لها بعصى موسى. ويمكن تلخيصه بأن المعجزة نفحة من نفحات الحق تخرج عن أفق الأسباب المعتادة والوسائل المشاهدة والغايات المألوفة. أما السحر وما أشبهه فإنها فنون خبيثة ذات قواعد وأوضاع يعرفها كل من ألم بها ويصل إلى وسائلها وغاياتها كل من عالجها من بابها. ولهذا كان أول من آمن بموسى هم السحرة أنفسهم لأنهم أعلم بهذا الفرق الواضح والبون الشاسع كما تقدم.
الشبهة الثالثة يقولون: إن ما تسمونه معجزات من العلوم والمعارف التي اشتمل على مثلها القرآن ما هي إلا آثار لمواهب بعض النابغين من الناس وهذه المواهب وآثارها وجدت ويمكن أن توجد في كل أمة.
والجواب: أن مواهب النابغين ونبوغ الموهوبين وما يكون منهم من آثار وأفكار كل ذلك له وسائل وعوامل ثم له أشباه معتادة ونظائر في كل أمة وجيل وفي كل عصر ومصر أما المعجزات فلن تجد لها من وسائل ولا عوامل ولن تستطيع أن تصل إلى أشباه معتادة لها ونظائر اللهم إلا إذا خرجنا عن نطاق الكون المعروف وسنن الوجود المألوف.
الشبهة الرابعة يقولون: إن خرق الله لعاداته على أيدي رسله كما تقولون يعتبر خروجا عن النظام العام الذي تقتضيه الحكمة وتناط به المصلحة.
والجواب: أن المعجزة وإن كانت خارجة عن حدود الأنظمة المعتادة لا تعتبر خروجا على النظام العام الذي تقضي به الحكمة وتناط به المصلحة بل هي من مقتضيات ذلك النظام العام الذي تمليه الحكمة وتوحيه المصلحة. وأي حكمة أجل من تأييد الحق وأهل الحق؟ وأي مصلحة أعظم من اهتداء الخلق إلى طريق سعادتهم؟ بوساطة تلك المعجزات التي يفهمون منها مراد الخالق من تأييد رسله ووجوب تصديقهم لهم واتباعهم إياهم.
الشبهة الخامسة يقولون: لو كان الوحي ممكنا لأوحى الله إلى أفراد البشر عامة ولم يخص به شرذمة قليلين يجعلهم واسطة بينه وبين خلقه.
والجواب: أن عامة البشر ليس لديهم استعداد لتلقي الوحي عن الله لا مباشرة ولا بواسطة الملك حتى لو جاءهم ملك لم يستطيعوا رؤيته إلا إذا ظهر في صورة إنسان وحينئذ يعود اللبس ويبقى الإشكال. فقضت الحكمة أن يجعل الله من بني الإنسان طائفة ممتازة لها استعداد خاص يؤهلها لأن تتلقى عن الله الوحي ثم تؤديه في أمانة إلى العامة من إخوانهم في الإنسانية بعد أن وضع الله في أيديهم شواهد الحق الناطقة التي تدل العالم على مراده سبحانه من تصديقهم وبعد أن سلحهم بالآيات التي تطمئن الناس على أنهم رسل لإنقاذهم وإرشادهم من عند ربهم. ثم إن اختصاص بعض أفراد النوع الإنساني بالوحي والنبوة فيه نوع من الاختبار والابتلاء الذي بنى الله عليه هذه الحياة وميز به الخبيث من الطيب. {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .
وتلك الشبهة يقول الله في مثلها من سورة الأنعام: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} .
الشبهة السادسة يقولون: كيف تدل المعجزة على تصديق الله لرسله مع أننا ما رأينا الله وما سمعناه.
والجواب: أن دلالة المعجزة على تصديق الرسول كدلالة الكون على خالقه مع أننا ما رأينا الله وما سمعناه ولنضرب لهم المثال كيلا تبقى لهم شبهة ولا يقوم لهم عذر افرض أنك حضرت مجلسا عاما فيه ملك من الملوك وكان من تقاليد هذا الملك ألا يكشف رأسه في مجلس من المجالس العامة وبينما القوم جلوس في حضرة صاحب الجلالة إذ نهض رجل من الحاضرين معروف للجميع بصدقه وأمانته وأدبه واستقامته وحسبه ونسبه. وإذا هذا الرجل يقول على مرأى ومسمع من المليك ورعيته: أيها القوم إن مولاي الملك حملني هذه الرسالة أبلغكم إياها وهي أن تفعلوا
كذا وتتركوا كذا ثم سكت الملك ولم يكذبه ثم لم يكتف الرجل بطهارة ماضيه وسكوت مليكه في ترويج دعوته وتأييد رسالته. بل قال إن آية صدقي أن يغير مولاي الملك عادته الآن ويخرج عن تقليد من تقاليده المعروفة لكم جميعا وذلك بأن يعري رأسه في هذا المجلس العام. ثم ما كاد ينتهي حتى عرى المليك رأسه وخلع تاجه. أفلا يعتبر ذلك دليلا كافيا على صدق هذا الرجل وصدق ما جاء به؟ ثم ما بالك إذا هو قد عزز دليله بالتحدي فقال: إني أتحداكم أن يجيبكم الملك إلى مثل ما أجابني إليه. فأخذوا يطلبون ويلحون فلم يستجب لهم الملك ولم يغير عادته معهم ولا مرة واحدة. أفلا يكون ذلك برهانا أبلج من الصبح على أن هذا الداعي هو رسول هذا الملك حقا؟ ثم ألا يكون المكذب بعد ذلك معاندا ومكابرا ويكون بالحيوان الذي لا يفهم ولا يعقل أشبه منه بالإنسان الذي يفهم ويعقل؟ {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} .
وذلك المثل هو مثل رسل الله تؤيدهم معجزات الله. {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
الشبهة السابعة يقولون: إن هذا الوحي للذي تدعونه وتدعون تنجيمه جاء بهذا القرآن غير مرتب ولا منظم فلم يفرد كل غرض من أغراضه بفصل أو باب شأن سائر الكتب المنظمة. بل مزجت أغراضه مزجا غير مراعى فيه نظام التأليف فيبعد أن يكون وحيا من الله. وهذه الشبهة واردة كما ترى على تنجيم القرآن وترتيبه أيضا.
والجواب: أن مخالفة القرآن لأنظمة الكتب المؤلفة لا تعتبر عيبا فيه ولا في وحيه وموحيه بل هي على العكس دليل مادي على أنه ليس بكتاب وضعي بشري يجلس إليه واضعه من الناس فيجعل لكل طائفة من معلوماته المتناسبة فصلا ولكل مجموعة من فصوله المتناسقة بابا بل هو مجموع إشراقات من الوحي الإلهي الأعلى. اقتضتها الحكمة ودعت إليها المصلحة. على ما هو مفصل في أسرار تنجيم القرآن.
ثم إن هذا المزيج الطريف الذي نجده في كل سورة أو طائفة منه له أثر بالغ في التذاذ قارئه وتشويق سامعه واستفادة المستفيد بأنواع متنوعة منه في كل جلسة من جلساته أو درس من درسه وهذا هو الأسلوب الحكيم في التعليم والإرشاد خصوصا لتلك الأمة الأمية التي نزل عليها. فما أشبه كل مجموعة من القرآن بروضة يانعة يتنقل الإنسان بين أفيائها متمتعا بكل الثمرات أو بمائدة حافلة بشتى الأطعمة يشبع الجائع حاجته بما فيها من جميع الألوان.
وهنا دقيقة أحب ألا تعزب عن علمك. وهي أن هذا الروض الرباني اليانع القرآن الكريم يقوم بين جمله وآيه وسوره تناسب بارع وارتباط محكم وائتلاف بديع ينتهي إلى حد الإعجاز خصوصا إذا لاحظنا نزوله منجما على السنين والشهور والأيام.
قال الشيخ ولي الدين الملوي: قد وهم من قال: لا يطلب للآي الكريمة مناسبة لأنها على حسب الوقائع المفرقة. وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلا وعلى حسب الحكمة ترتيبا وتأصيلا. فالمصحف على وفق ما في اللوح المحفوظ مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف كما أنزل جملة إلى بيت العزة. ومن المعجز البين أسلوبه ونظمه الباهر والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها مكملة لما قبلها أو مستقلة ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها؟ ففي ذلك علم جم. وهكذا في السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له.
وقال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره لسورة البقرة ما نصه:
ومن تأمل في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه فهو معجز أيضا بسبب ترتيبه ونظم آياته. ولعل الذين قالوا: إنه معجز بسبب أسلوبه أرادوا ذلك إلا أني رأيت جمهور
المفسرين معرضين عن هذه اللطائف غير منتبهين لهذه الأسرار وليس الأمر في هذا الباب إلا كما قيل:
والنجم تستصغر الأبصار رؤيته ... والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
الشبهة الثامنة يقولون: إن محمدا كان عصبيا حاد المزاج وكان مريضا بما يسمونه الهستريا فالوحي الذي كان يزعمه ما هو إلا أعراض لتلك الحال التي أصيب بها.
والجواب: أن هذه فرية تدل على جهلهم الفاضح بمحمد صلى الله عليه وسلم. فالمعروف عنه بشهادة التاريخ الصحيح والأدلة القاطعة أنه كان وديعا صبورا حليما بل كان عظيم الصبر واسع الحلم فسيح الصدر حتى إنه وسع الناس جميعا ببسطه وخلقه. وكان شجاعا مقداما سليم الجسم صحيح البدن، حتى إنه صارع ركانة المشهور بشجاعته فصرعه وكان يثبت في الميدان حين يفر الشجعان ويفزع الخلق ويشتد الأمر ويقول: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" ويقول: "إلي عباد الله" ولا يزال كذلك حتى ينقذ الموقف ويكسب المعركة. ولو أفضنا في هذا الموضوع لطال بنا الكلام ولكن موضوعه كتب السيرة والشمائل المحمدية فارجع إليها إن شئت أما مرض الهستريا الذي يصمونه كذبا به فهو داء عصبي عضال أكثر إصاباته في النساء. ومن أعراضه شذوذ في الخلق وضيق في التنفس واضطراب في الهضم. وقد يصل بصاحبه إلى شلل موضعي ثم إلى تشنج ثم إلى إغماء ثم إلى هذيان مصحوب بحركة واضطراب في اليدين والرجلين وقفز من مكان إلى مكان. وقد يزعم المصاب أنه يرى أشباحا تهدده وأعداء تحاربه أو أنه يسمع أصواتا تخاطبه على حين أنه لا وجود لشيء من ذلك كله في الحس والواقع.
فهل يتفق ذلك وما هو معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه كان أمة وحده في أخلاقه وثباته وحلمه وعقله ورباطة جأشه وسلامة جسمه وقوة بنائه؟.
ثم كيف يتفق ذلك الداء العضال الذي أعيا الأطباء وما انتدب له محمد صلى الله عليه وسلم من تكوين أمة شموس أبية وتربيتها على أسمى نواميس الهداية ودساتير الاجتماع وقوانين الأخلاق وقواعد النهضة والرقي؟.
أضف إلى ذلك أنه نجح في هذه المحاولة المعجزة إلى درجة جعلت تلك الأمة بعد قرن واحد من الزمان هي أمة الأمم وصاحبة العلم وربة السيف والقلم.
فهل المريض المتهوس الذي لا يصلح لقيادة نفسه يتسنى له أن يقوم بهذه القيادة العالمية الفائقة ثم ينجح فيها هذا النجاح المعجز المدهش؟.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ... وينكر الفم طعم الماء من سقم
الشبهة التاسعة يقولون: إنكم تستدلون على الوحي بإعجاز القرآن وتستدلون على إعجاز القرآن بما فيه من أسرار البلاغة ونحن لا ندرك تلك الأسرار ولا نسلمها فلا نسلم الوحي المبني عليها.
والجواب: أن للقرآن نواحي أخرى في الإعجاز غير ما يحويه من أسرار البلاغة والبيان ومن السهل معرفتها على من لم يتمهر في علوم العربية واللسان. منها ما يحويه هذا التنزيل من المعارف السامية والتعاليم العالية في العقائد والعبادات وفي التشريعات المدنية والجنائية والحربية والمالية والحقوق الشخصية والاجتماعية والدولية
وإن مقارنة بسيطة بين تلك الهدايات القرآنية وبين ما يوجد على وجه الأرض من سائر التشريعات الدينية وغير الدينية توضح لك ذلك الإعجاز الباهر خصوصا إذا لاحظت أن هذا الذي جاء بتلك المعارف الخارقة كان رجلا أميا نشأ وعاش وشب وشاب وحي ومات بين أمة أمية كانت لا تدري ما الكتاب ولا الإيمان.
كذلك أنباء الغيب التي تحدث بها القرآن وهي كثيرة يمكن إدراك وجه الإعجاز فيها بيسر وسهولة لكل منصف. اقرأ إن شئت فاتحة سورة الروم لتعرف كيف أخبر القرآن صراحة بأمر كان لا يزال مستترا في ضمائر الغيب بل كانت العوامل والظواهر لا تساعد عليه ذلك أنه أخبر في وقت انتصر فيه الفرس على الروم في أدنى الأرض بأن الروم سيدال لهم على الفرس وينصرون في بضع سنين وكان كما قال.
ثم اقرأ قوله سبحانه مخاطبا لنبيه في موقف من مواقف الخصومة والمحاجة بينه وبين أعدائه اليهود: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} وهذا من أبرز شواهد الإعجاز والتحدي: إذ كيف يتسنى لرجل عظيم في موقف من المواقف الفاصلة بينه وبين أعدائه أن يجرؤ على تحديهم بشيء هو من شأنهم وحدهم وكان في استطاعتهم عادة بل في استطاعة أقل واحد منهم أن يقول ولو ظاهرا: إني أتمنى الموت ليظفروا بذلك التمني على محمد صلى الله عليه وسلم ويبطلوا به دعوته ويستريحوا منه على زعمهم. ولكن كل ذلك لم يكن فما تمنى أحد منهم الموت بل صرفوا وما زالوا مصروفين عنه أبدا ثم سجل القرآن عليهم ما هو أبعد من ذلك إذ قال عقيب تلك الآية: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} ا. هـ من سورة البقرة.
أليست تلك أدلة مادية قامت ولا تزال قائمة على أن محمدا صلوات الله وسلامه عليه كان مؤيدا بالوحي من ربه وأنه إنما يتلقى القرآن من لدن حكيم عليم؟.
أما إعجاز القرآن من ناحية الأسرار البلاغية فلا يقدح فيه أن جمهرة الناس اليوم لا يدركونها ولا يتذوقونها فإن ذلك لا يرجع إلى خلو القرآن من أسرار البلاغة والبيان إنما يرجع إلى جهل الناس باللغة العربية وأساليبها وإلى فساد ذوقهم من غلبة العجمة عليهم ومعروف أن عدم الإدراك لشيء لا ينهض دليلا على عدم ذلك الشيء. ونظير ذلك أن عدم علمنا بلغة من اللغات الأجنبية مثلا لا يلزم منه أن ننكر أن فلانا متفوق في تلك اللغة بشهادة الأخصائيين فيها والحاذقين لها بل نحن نؤمن بوجود لغات لا نعرف منها شيئا كما نؤمن بوجود نابغين فيها لا نعرفهم ولا نعرف من وجوه نبوغهم شيئا اللهم إلا عن طريق سماعنا لذلك من مصادر نثق بها.
كذلكم القرآن الكريم قد شهد الفنيون والأخصائيون من حذاق اللغة العربية في أزهى عصور التوفر عليها والتمهر فيها أنه كتاب فاق الكتب وكلام بز سائر ضروب الكلام وبلغ في سموه وتفوقه حدود الإعجاز والإفحام من ناحية الفصاحة والبلاغة وما يحمل لهما من أسرار. ثم نقل إلينا ذلك كله نقلا متواترا قاطعا لا ظل فيه للشك والنكران.
فلماذا لا نقبل هذا الحكم العادل ومصادره كثيرة محترمة كل الاحترام؟.
أليس ذلك تعصبا وعنادا على حين أن الباب كان ولا يزال مفتوحا أمام كل من يحذق علوم اللغة العربية وأساليبها أن يتذوق أسرار البلاغة والإعجاز في هذا القرآن وأن يحكم هو نفسه بما حكم به الآلاف المؤلفة في كل زمان ومكان.
وإذا لم تر الهلال فسلم ... لأناس رأوه بالأبصار
على أن لإعجاز القرآن ميدانا آخر فاطلبه إن شئت. {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ} .
الشبهة العاشرة يقولون: إن إعجاز القرآن للعرب لا يدل على أن القرآن كلام الله. بل هو كلام محمد نسبه إلى ربه ليستمد قدسيته من هذه النسبة. وإعجازه جاء من
ناحية أن محمدا كان الفرد الكامل في بيانه بين قومه لذلك جاء قرآنه الفرد الكامل أيضا بين ما جاء به قومه ولم يستطيعوا لهذا الاعتبار وحده أن يأتوا بمثله شأن الرجل الفذ بين أقرانه في كل عصر.
ويجيب على هذه الشبهة بأجوبة خمسة:
أولها: أن كل من أوتي حظا من حس البيان وذوق البلاغة يفرق بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث النبوي فرقا كبيرا يمثل الفرق الكبير بين مقدور الخالق ومقدور المخلوق. وها هما القرآن والحديث النبوي لا يزالان قائمين بيننا يناديان الناس بهذا الفارق البعيد إن كان لهم إحساس في البيان وذوق في الكلام.
ولو كان لهذه الشبهة شيء من الوجاهة لكان أولى الناس أن يرفعوا عقيرتهم بها هم أولئك العرب الخلص الذين شافههم القرآن لأنهم كانوا أحرص على تعجيز محمد وإسكاته للاعتبارات التاريخية المعروفة. لكنهم ما قالوا هذا. بل كانوا أكرم على نفسهم من أن يقولوه إيقانا منهم بظهور المميزات الفائقة بكلام الربوبية عن كلام النبوة بحيث لا يلتبس أحدهما بالآخر في شيء. وهكذا من ذاق عرف ومن حرم انحرف.
وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم
الجواب الثاني: أن القرآن لم يأت الناس من الخلف بل جاءهم من أوسع الأبواب ودخل عليهم من طريق العرب الخلصاء ذوي اللسن والبيان. وتحداهم من الناحية التي نبغوا فيها وهي صناعة الكلام تلك الصناعة البيانية الفائقة التي وقفوا عليها مواهبهم وأنفقوا فيها حياتهم حتى صارت موضع تنافسهم وسبقهم وموضوع فخرهم وفوقهم. شأن معجزات الله تعالى لم تأت الناس إلا من
الناحية المفهومة لهم كل الفهم وذلك ليظهر أمر الله واضحا جليا لا لبس فيه ولا غموض ولا شبهة ولا شكوك {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} .
ومن هنا نعلم والتاريخ يشهد أن القرآن لو كان مصدره نفس محمد كما يقول أولئك الملاحدة لأمكن هؤلاء العرب البارزين في البيان أن يعرفوا أنه كلامه بما أوتوا من ملكة النقد وما وهبوا من نباهة الحس والذوق ثم لأمكنهم أن يجاروه ولو شوطا قريبا إن لم يمكنهم مجاراته شوطا بعيدا. لا سيما أن القرآن قد اكتفى منهم في معرض التحدي بأن يأتوا بسورة من مثل أقصر سورة أي بمثل ثلاث آيات قصار من بين تلك الآلاف المؤلفة التي اشتمل عليها الكتاب العزيز. وأنت خبير بأن هؤلاء لم تكن لتعييهم تلك المساجلة وهم فرسان ذلك الميدان. وأئمة الفصاحة والبيان لو كان الأمر من صناعة محمد صلى الله عليه وسلم وإنشائه. كما يزعم أولئك الخراصون فما بالك وقد خرست ألسنتهم وخشعت أصوات الأجيال كلها من بعدهم.
ومعلوم أن النابغة الفذ في أي عصر من العصور يستطيع أقرانه بيسر وسهولة أن يحاكوه مجتمعين ومنفردين في الشيء القليل على فرض أنهم لا يستطيعون معارضته في الجميع أو الشيء الكثير.
الجواب الثالث: أن القرآن لو كان مصدره نفس محمد لكان من الفخر له أن ينسبه إلى نفسه. ولأمكن أن يدعي به الألوهية فضلا عن النبوة. ولكان مقدسا في نظر الناس وهو إله أكثر من قداسته في نظرهم وهو نبي
ولما كان في حاجة إذا إلى أن يلتمس هذه القدسية الكاذبة بنسبته القرآن إلى غيره {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} ؟؟.
الجواب الرابع: أن هؤلاء الملاحدة غاب عنهم أنهم يتحدثون عن أكرم شخصية عرفها التاريخ طهرا ونبلا وذهلوا عن أنهم يمسون أسمى مقام اشتهر أمانة وصدقا. فكان صلى الله عليه وسلم إذا مر بقومه يشيرون إليه بالبنان ويقولون: هذا هو الصادق الأمين. ثم صدروا عن رأيه ورضوا بحكمه. والعقل المنصف قال ولا يزال يقول: ما كان هذا الأمين الصدوق ليذر الكذب على الناس ثم يكذب على الله {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} .
الجواب الخامس: أن هذه الشبهة وليدة الغفلة عن مضامين القرآن العلمية وأنبائه الغيبية وهداياته الخارجة عن أفق العادة في كافة النواحي البشرية فردية كانت أو اجتماعية. لا سيما أن الآتي بهذا القرآن رجل أمي في أمة أمية كانت في أظلم عهود الجاهلية. أضف إلى ذلك ما سجل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم من أخطاء في بعض اجتهاداته ومن عتاب نحس تارة بلطفه وأخرى بعنفه. ولو كان هذا التنزيل كلامه ما سمح أن يسجل على نفسه ذلك كله. ولكن الملاحدة سفهوا أنفسهم وزعموا رغم هذه البراهين اللائحة أن محمدا افترى القرآن على ربه. كذبوا وضلوا. {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
ذيل لهذه الشبهة: ويتصل بهذه الشبهة شبهة أخرى قد تعرض لبعض المأفونين. وهي أن هذا البعد الشاسع بين القرآن والحديث لم يجيء من ناحية أن القرآن كلام الله والحديث كلام محمد. إنما جاء من ناحية أن محمدا كان له ضربان من الكلام أحدهما يحتفل به كل احتفال ويعنى مزيد العناية بتهذيبه وتنميقه وتحضيره وذلك هو ما سماه بالقرآن ونسبه إلى الله. وثانيهما يرسله إرسالا غير معني بتحبيره وتحريره وهو المسمى بالحديث النبوي. ثم يقولون لترويج شبهتهم هذه:
إن ذلك ليس بدعا فيما نرى من آثار الأدباء والبلغاء بل نحن نلحظ أن الأديب الواحد يعلو كلامه الصادر عن تأمل وعناية وروية علوا كبيرا عن كلامه المرسل على البديهة حتى كأنهما لكاتبين اثنين بينهما بعد ما بين المشرقين.
والجواب الأول: أن هذه الشبهة الجديدة مبنية على قياس فاسد وهو تشبيه أدباء ذاك العصر الزاهر الذي نزل فيه القرآن وسلمت فيه السليقة العربية بأدباء هذا العصر المولدين الذين فسدت لغتهم وتبلبلت ألسنتهم. وشتان ما بين الطبقتين ويا بعد ما بين العصرين.
أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا ما استقل يمان
فالتفاوت البعيد بين الكلام المرسل والكلام المحبر لم يظهر إلا منذ فسد اللسان العربي وتطرقت العجمة إلى المولدين من العرب وأشباههم. أما أولئك العرب الخلص الذين كانوا يتكلمون العربية بالسليقة فلم يك منهج أحدهم البياني مختلفا هذا الاختلاف الكبير تبعا للإرسال والتحبير. بل العربي القح نهجه في الكلام نهج واحد هو نهج السليقة الصافية والطبيعة السليمة. ولم يكن التحبير ليذهب به مذهب الذبذبة التي تجعل له أسلوبين متباينين في كلامه بل قصاراه في تحبيره أن يحيط بأطراف موضوعه دون أن يند عنه مقصد من مقاصده ودون أن يخرج عن أسلوبه الذي ينبع من نفسه وتفيض به سجيته العرباء ذلك الأسلوب الذي يتعب أهل الفن منا أنفسهم في محاكاته وهيهات أن يبلغوا إلا بعد طول عناء.
على أن معاناة ذلك العربي القح إذا عانى التنميق والتزويق لم تكن لتزيد كلامه روعة وحسنا بل كانت تنزل به بمقدار ما يظن أحدنا أنها تصعد فيه. ولهذا كان العرب يعافون من الكلام ما ظهرت فيه آثار الصنعة والتكلف ويعدون ذلك من التفاصح النازل إلى مهواة العي والتنطع كما كانوا مأخوذين بالجيد السلس وبالسهل الممتنع
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أبعد العرب عن هذا التعمل والتصنع والتحبير حتى لقد نهى عن ذلك وناط به الهلاك والخسران. تدبر ما يرويه مسلم وأبو داود من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هلك المتنطعون" والتنطع في الكلام: التعمق فيه والتفاصح. وروى الشيخان أنه جاءه رجل من هذيل يخاصم في دية الجنين فقال: يا رسول الله كيف أغرم دية من لا شرب ولا أكل. ولا نطق ولا استهل. فمثل ذلك يطل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هذا من إخوان الكهان" من أجل سجعه الذي سجع. وفي رواية أنه قال: "أسجع كسجع الأعراب". وفي رواية أخرى أنه قال: "أسجع الجاهلية وكهانتها". فأنت ترى أنه ذم هذا السجع المصنوع وجعل صاحبه من إخوان الكهان ومن جهلة الجاهلية. وما ينبغي له أن يذم شيئا ثم يقع فيه. وحاشاه وحاشا بيانه الشريف من هذا الإسفاف والتعمل الخسيس. ودونك السنة النبوية فاقرأ منها ما شئت فلن تجد إلا جيدا مطبوعا ومعاذ الله أن تجد فيها متكلفا مصنوعا. والقرآن أعلى في هذا الباب وأجل. {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
الجواب الثاني: أن هذه الشبهة تخالف في أساسها ما هو واقع معروف: ذلك أن القرآن الكريم منه ما نزل مفاجأة على غير انتظار وتفكير وبدون تلبث وتدبير وهو أكثره. ومنه ما نزل بعد تشوف واستشراف وطول انتظار وهو أقله. ومع هذا فأسلوبه الأعلى هو أسلوبه الأعلى ونظمه المعجز هو نظمه المعجز في الحالين على سواء.
تأمل ما جاء في سبب نزول قوله سبحانه: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وهو أن اليهود قالت لقريش: سلوا محمدا عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين فسألوه فقال: "ائتوني غدا أخبركم" ولم يستثن فأبطأ عليه الوحي حتى شق عليه ثم نزلت الآيات جوابا لتلك الأسئلة بعد تلك المدة الطويلة
التي قدرها بعضهم بأربعين يوما وأنت إذا قرأتها لن تجد فرقا بين أسلوبها وأسلوب كثرة القرآن الغامرة التي نزلت مباغتة مفاجئة.
وهذا الذي يقال في القرآن يقال مثله في الحديث النبوي. فمنه ما كان وليد التفكير والتدبير والمشاورة والمداولة كحديثه صلى الله عليه وسلم في شؤون الحرب والصلح ومنه ما كان وحي الساعة وإرسال البديهة كحديثه الكثير فيما هو ظاهر من أمور الدين. ومنه ما كان وحي الله إليه يهبط به الأمين جبريل كحديث المعتمر المتضمخ بالطيب وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن طيبه في عمرته هذه. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة حتى جاءه الوحي ولما سري عنه قال: "أين السائل عن العمرة" فجيء به فقال عليه الصلاة والسلام: "أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات. وأما الجبة فانزعها واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك" رواه الشيخان.
نعرف هذه الظروف المختلفة لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكنها مع اختلافها لم يختلف فيها الأسلوب النبوي بل هو طراز واحد من أرقى الأساليب البشرية إن لم يكن أرقاها وقلما تلحظ فيه تفاوتا كثيرا. لا فرق في ذلك بين ما أرسله على البديهة وما أجال فيه الرأي والاستشارة وما نزل به وحي السنة وما احتفل به احتفالا ممتازا بالمواقف المشهودة والمجامع المحشودة.
إذن هما نمطان متمايزان لا يشتبهان نمط القرآن كله ونمط الحديث كله لكل منهما مسحة وبيان ودرجة في الفوق والسبق بينها وبين الأخرى بعد ما بين شأني الخالق والخلق وفرق ما بين مكانتي السيد والعبد فالقرآن يمتاز بمسحة بلاغية خاصة وطابع بياني فريد لا يترك بابا لأن يلتبس بغيره أو يشتبه بسواه ولا يعطي الفرصة لأحد أن يعارضه أو يحوم حول حماه بل من خاصمه خصم ومن عارضه قصم ومن حاربه هزم. أما الحديث الشريف فهو وإن حلق في جو الفصاحة وسما في جملته
عن أساليب العرب فإنه لا يزال في أرض العبودية لم يصل إلى سماء الإعجاز وتشبهه أساليب بعض خواص أصحابه وبينه وبين حكم العرب المأثورة قرابة ماسة وشبه قريب. بخلاف القرآن فإنه ليس كمثله بيان لأنه كلام من ليس كمثله شيء. وكلام الملوك ملوك الكلام.
خاتمة المبحث
نحسب أننا أفضنا في هذا المبحث ولكننا نعتقد أن هذه الإفاضة واجب لا بد منه ما دمنا بصدد تسليح طلابنا متخصصي الدعوة والإرشاد وهم على أهبة النزول إلى ميادين الوعظ العامة وفيها المؤمن والجاحد والمتدين والملحد والإلهيون والطبيعيون وفيها ضحايا الطوائف المعادية للإسلام وصرعى المذاهب المتطرفة في العالم.
ونلفت نظرك إلى أن بعض ما ذكرناه في أدلة الوحي العلمية قد اعتمدنا فيه على أدلة جدلية يؤمن بها المنكرون أكثر مما يؤمنون بآيات الله.
وإن أردت التوسع في هذا فارجع إلى ما كتبه العلامة محمد فريد وجدي في المجلد العاشر من مجلة الأزهر سنة 1358 هـ, وما كتبناه من قبل في المجلد الخامس من مجلة الهدية الإسلامية سنة 1351 هـ, وما كتبه العلامة الشيخ محمد عبد الله دراز في كتابه: النبأ العظيم. وبالله تعالى التوفيق.
شريف ابراهيم
شريف ابراهيم
نائب المدير العام
نائب المدير العام

عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى