فقه حنفى : تحفة الْفُقَهَاء
2 مشترك
صفحة 2 من اصل 2
صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
فقه حنفى : تحفة الْفُقَهَاء
تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
تحفة الْفُقَهَاء
لعلاء الدّين السَّمرقَنْدِي 539 هـ
وَهِي أصل «بَدَائِع الصَّنَائِع» للكاساني
قَالَ اللكنوي: «ملك الْعلمَاء الكاساني، صَاحب الْبَدَائِع شرح تحفة الْفُقَهَاء: أَخذ الْعلم عَن عَلَاء الدّين مُحَمَّد السَّمرقَنْدِي: صَاحب التُّحْفَة» .
دَار الْكتب العلمية، بيروت - لبنان
الطبعة: الثَّانِيَة 1414 هـ - 1994 م.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَسلم الْحَمد لله حَمده، وَالصَّلَاة على رَسُوله " مُحَمَّد " أفضل عبيده، وعَلى آله وَأَصْحَابه من بعده.
قَالَ الشَّيْخ الامام عَلَاء الدّين: مُحَمَّد بن أَحْمد بن أبي أَحْمد السَّمرقَنْدِي، رَحمَه الله تَعَالَى.
اعْلَم أَن " الْمُخْتَصر " الْمَنْسُوب إِلَى الشَّيْخ أبي الْحُسَيْن الْقَدُورِيّ (1) رَحمَه الله جَامع جملا من الْفِقْه مستعملة، بِحَيْثُ لَا ترَاهَا مدى الدَّهْر مُهْملَة: يهدي بهَا الرائض فِي أَكثر الْحَوَادِث والنوازل، ويرتقي بهَا المرتضا إِلَى أَعلَى المراقي والمنازل، وَلما عَمت رَغْبَة الْفُقَهَاء إِلَى هَذَا الْكتاب، طلب مني بَعضهم، من الاخوان والاصحاب، أَن أذكر فِيهِ بعض مَا ترك المُصَنّف من أَقسَام الْمسَائِل، وأوضح المشكلات مِنْهُ، بِقَوي من الدَّلَائِل، ليَكُون ذَرِيعَة إِلَى تَضْعِيف الْفَائِدَة، بالتقسيم وَالتَّفْصِيل، ووسيلة، بِذكر الدَّلِيل، إِلَى تَخْرِيج ذَوي التَّحْصِيل - فأسرعت فِي الاسعاف والاجابة، رَجَاء التَّوْفِيق، من الله تَعَالَى، فِي الاتمام والاصابة، وَطَمَعًا، من فَضله، فِي الْعَفو والغفران والانابة: فَهُوَ الْمُوفق للصَّوَاب والسداد، وَالْهَادِي إِلَى سبل الرشاد وسميته " تحفة الْفُقَهَاء "، إِذْ هِيَ هديتي لَهُم، لحق الصُّحْبَة والاخاء، عِنْد رجوعهم إِلَى مَوَاطِن الْآبَاء.
__________
1) هُوَ أَحْمد بن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن حمدَان الْقَدُورِيّ، ولد سنة 362 هـ.
وَتُوفِّي سنة 428 هـ.
بِبَغْدَاد.
فليقبل هديتي هَذِه من شَاءَ كسب الْعِزّ والبهاء، وليذكرني بِصَالح الدُّعَاء، فِي الْحَيَاة وَالْمَمَات، فَهُوَ غرضي ونيتي، والاعمال بِالنِّيَّاتِ، وقابل الاعمال عَالم بالخفيات، وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه: عَلَيْهِ توكلت، وَإِلَيْهِ أنيب.
تحفة الْفُقَهَاء
لعلاء الدّين السَّمرقَنْدِي 539 هـ
وَهِي أصل «بَدَائِع الصَّنَائِع» للكاساني
قَالَ اللكنوي: «ملك الْعلمَاء الكاساني، صَاحب الْبَدَائِع شرح تحفة الْفُقَهَاء: أَخذ الْعلم عَن عَلَاء الدّين مُحَمَّد السَّمرقَنْدِي: صَاحب التُّحْفَة» .
دَار الْكتب العلمية، بيروت - لبنان
الطبعة: الثَّانِيَة 1414 هـ - 1994 م.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَسلم الْحَمد لله حَمده، وَالصَّلَاة على رَسُوله " مُحَمَّد " أفضل عبيده، وعَلى آله وَأَصْحَابه من بعده.
قَالَ الشَّيْخ الامام عَلَاء الدّين: مُحَمَّد بن أَحْمد بن أبي أَحْمد السَّمرقَنْدِي، رَحمَه الله تَعَالَى.
اعْلَم أَن " الْمُخْتَصر " الْمَنْسُوب إِلَى الشَّيْخ أبي الْحُسَيْن الْقَدُورِيّ (1) رَحمَه الله جَامع جملا من الْفِقْه مستعملة، بِحَيْثُ لَا ترَاهَا مدى الدَّهْر مُهْملَة: يهدي بهَا الرائض فِي أَكثر الْحَوَادِث والنوازل، ويرتقي بهَا المرتضا إِلَى أَعلَى المراقي والمنازل، وَلما عَمت رَغْبَة الْفُقَهَاء إِلَى هَذَا الْكتاب، طلب مني بَعضهم، من الاخوان والاصحاب، أَن أذكر فِيهِ بعض مَا ترك المُصَنّف من أَقسَام الْمسَائِل، وأوضح المشكلات مِنْهُ، بِقَوي من الدَّلَائِل، ليَكُون ذَرِيعَة إِلَى تَضْعِيف الْفَائِدَة، بالتقسيم وَالتَّفْصِيل، ووسيلة، بِذكر الدَّلِيل، إِلَى تَخْرِيج ذَوي التَّحْصِيل - فأسرعت فِي الاسعاف والاجابة، رَجَاء التَّوْفِيق، من الله تَعَالَى، فِي الاتمام والاصابة، وَطَمَعًا، من فَضله، فِي الْعَفو والغفران والانابة: فَهُوَ الْمُوفق للصَّوَاب والسداد، وَالْهَادِي إِلَى سبل الرشاد وسميته " تحفة الْفُقَهَاء "، إِذْ هِيَ هديتي لَهُم، لحق الصُّحْبَة والاخاء، عِنْد رجوعهم إِلَى مَوَاطِن الْآبَاء.
__________
1) هُوَ أَحْمد بن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن حمدَان الْقَدُورِيّ، ولد سنة 362 هـ.
وَتُوفِّي سنة 428 هـ.
بِبَغْدَاد.
فليقبل هديتي هَذِه من شَاءَ كسب الْعِزّ والبهاء، وليذكرني بِصَالح الدُّعَاء، فِي الْحَيَاة وَالْمَمَات، فَهُوَ غرضي ونيتي، والاعمال بِالنِّيَّاتِ، وقابل الاعمال عَالم بالخفيات، وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه: عَلَيْهِ توكلت، وَإِلَيْهِ أنيب.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
بَاب صَدَقَة الْفطر
بَاب صَدَقَة الْفطر
فِي الْبَاب فُصُول مِنْهَا بَيَان وجوب صَدَقَة الْفطر وَبَيَان من تجب عَلَيْهِ وَبَيَان من تجب عَلَيْهِ لأجل الْغَيْر وَبَيَان قدر الْوَاجِب وَصفته وَبَيَان وَقت الْوُجُوب وَبَيَان وَقت الْأَدَاء وَبَيَان مَكَان الْأَدَاء وَمَا يتَّصل بِهَذِهِ الْجُمْلَة
أما الأول فَنَقُول صَدَقَة الْفطر وَاجِبَة
عرف وُجُوبهَا بالأحاديث الصَّحِيحَة وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عنثعلبة بن صَغِير العذري وَفِي رِوَايَة الْعَدوي أَنه قَالَ خَطَبنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أَدّوا عَن كل حر وَعبد صَغِير وكبير نصف صَاع من بر
نِصَاب معِين وَلَيْسَ للْأَب مَال فَإِنَّهُ يجب صَدَقَة الْفطر عَلَيْهِمَا
عِنْدهمَا يُؤَدِّي الْأَب وَالْوَصِيّ وَلَا ضَمَان عَلَيْهِمَا إِذا أديا
وَعند مُحَمَّد وَزفر لَا يجب لِأَن فِيهَا معنى الْعِبَادَة
وهما يَقُولَانِ إِن فِيهَا معنى الْعِبَادَة والمؤونة وَلَا يُمكن الْجمع بَينهمَا فِي حَالَة وَاحِدَة فِي حق شخص وَاحِد فِي حكم وَاحِد فَوَجَبَ اعْتِبَار المؤونة فِي بعض الْأَحْكَام وَمعنى الْعِبَادَة فِي الْبَعْض عملا بالدلائل بِقدر الْإِمْكَان فَقَالَا بِالْوُجُوب اعْتِبَارا بالمؤونة
وَأما بَيَان من يجب عَلَيْهِ صَدَقَة الْفطر بِسَبَب الْغَيْر فَنَقُول كل من كَانَ من أهل وجوب صَدَقَة الْفطر على نَفسه وَله ولَايَة كَامِلَة على من كَانَ من جنسه وَتجب مؤونته وَنَفَقَته فَإِنَّهُ تجب عَلَيْهِ صَدَقَة فطره
وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ إِذا كَانَ بِهَذِهِ الصّفة كَانَ رَأسه بِمَنْزِلَة رَأسه فِي الذب والنصرة فَكَمَا وَجب عَلَيْهِ صَدَقَة فطر رَأسه تجب صَدَقَة فطر مَا هُوَ فِي معنى رَأسه
إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول يجب على الْأَب صَدَقَة فطر أَوْلَاده الصغار إِذا كَانَ غَنِيا وَلَا مَال لَهُم لوُجُود الْولَايَة والمؤونة بطرِيق الْكَمَال
وَكَذَا إِذا كَانُوا مجانين لما قُلْنَا
وَإِذا كَانَ لَهُم مَال يجب عَلَيْهِم عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَعند مُحَمَّد وَزفر على الْأَب الْغَنِيّ على مَا مر
وَأما الْجد حَال عدم الْأَب إِذا كَانَ غَنِيا هَل تجب عَلَيْهِ صَدَقَة فطر ابْن ابْنه على جَوَاب ظَاهر الرِّوَايَة لَا يجب لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ولَايَة مُطلقَة فَإِنَّهُ مَحْجُوب بِالْأَبِ بِمَنْزِلَة الْإِخْوَة الصغار الْفُقَرَاء وَلَا تجب
صَدَقَة فطرهم على الْأَخ الْغَنِيّ الْكَبِير لما قُلْنَا
وَفِي رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه تجب لما قُلْنَا
فَإِن كَانَ حَيا وَلكنه فَقير وَلَهُم جد غَنِي لَا يجب على الْجد فِي الرِّوَايَات كلهَا لِأَنَّهُ لَا ولَايَة لَهُ حَال قيام الْأَب وَإِن كَانَ يجب عَلَيْهِ المؤونة
وَعند الشَّافِعِي يجب
وَلَا يجب على الْوَصِيّ وَإِن كَانَ لَهُ ولَايَة لِأَنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِ النَّفَقَة
وَأما أَوْلَاده الْكِبَار إِذا كَانُوا فُقَرَاء زمنى فَإِنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِ صَدَقَة فطرهم عندنَا
وَعند الشَّافِعِي يجب
وَكَذَلِكَ الْأَب الْفَقِير لَا يجب على الابْن صَدَقَة فطره وَكَذَلِكَ الزَّوْجَة خلافًا للشَّافِعِيّ لِأَن عِنْده تنبني على المؤونة لَا غير وَعِنْدنَا على المؤونة وَالْولَايَة جَمِيعًا وَلَا ولَايَة فِي حق هَؤُلَاءِ وَإِن كَانَ يجب النَّفَقَة
فَأَما الْأَب الْفَقِير إِذا كَانَ مَجْنُونا فَإِنَّهُ تجب صَدَقَة فطره على ابْنه لوُجُود الْولَايَة والمؤونة جَمِيعًا
وَلَا يجب على الْأَب صَدَقَة فطر الْجَنِين لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ولَايَة كَامِلَة عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا تعرف حَيَاته
وعَلى هَذَا يجب على الْمولى صَدَقَة فطر عبيده وإمائه إِذا كَانُوا للْخدمَة
وَكَذَلِكَ أُمَّهَات أَوْلَاده ومدبريه سَوَاء كَانَ عَلَيْهِم دين أَو لم يكن إِذا كَانَ الْمولى غَنِيا لما قُلْنَا من اجْتِمَاع الْولَايَة والمؤنة
فَأَما الْمكَاتب وَالْمُكَاتبَة والمستسعي فَلَا يجب عَلَيْهِ صَدَقَة فطرهم لِأَنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِ نَفَقَتهم وَلَا تجب عَلَيْهِم لِأَنَّهُ لَا ملك لَهُم
وَأما العَبْد إِذا كَانَ كَافِرًا فَإِنَّهُ تجب على الْمولى صَدَقَة فطره عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ لما قُلْنَا من الْولَايَة وَالنَّفقَة
وَالْعَبْد الْمُشْتَرك بَين اثْنَيْنِ لَا تجب صَدَقَة فطره على الموليين لِأَنَّهُ لَيْسَ لكل وَاحِد مِنْهُمَا ولَايَة كَامِلَة
فإمَّا إِذا كَانُوا عبيدا بَين رجلَيْنِ فعلى قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف لَا يجب عَلَيْهِمَا صَدَقَة فطرهم
وَعند مُحَمَّد إِن كَانُوا بِحَال لَو قسموا أصَاب كل وَاحِد مِنْهُمَا عبدا كَامِلا تجب عَلَيْهِ صَدَقَة فطره
وَهَذَا بِنَاء على أصل أَن العَبْد لَا يقسم عِنْد أبي حنيفَة قسْمَة جمع فَلَا يكون لكل وَاحِد مِنْهُمَا عبد كَامِل وَعند مُحَمَّد يقسم قسْمَة جمع فَيكون لكل وَاحِد مِنْهُمَا عبد كَامِل من حَيْثُ الْمَعْنى وَأَبُو يُوسُف يرى الْقِسْمَة لَكِن قبل الْقِسْمَة لم يكن لكل وَاحِد مِنْهُمَا ولَايَة كَامِلَة
وَأما مِقْدَار الْوَاجِب فَنَقُول نصف صَاع من حِنْطَة أَو صَاع من شعير أَو تمر عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي من الْبر صَاع أَيْضا وروى حَدِيثا لكنه غَرِيب فَلَا يقبل بِمُقَابلَة مَا روينَا وَهُوَ مَشْهُور
وَأما الزَّبِيب فقد ذكر فِي الْجَامِع الصَّغِير عَن أبي حنيفَة نصف صَاع لِأَن الْغَالِب أَن قِيمَته مثل قيمَة الْبر فِي دِيَارهمْ
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة صَاعا وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد لما رُوِيَ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَنه قَالَ كُنَّا نخرج زَكَاة الْفطر على عهد
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَاعا من طَعَام أَو صَاعا من زبيب وَكَانَ طعامنا الشّعير
وَقد قَالَ أَصْحَابنَا إِن دَقِيق الْحِنْطَة وَالشعِير وسويقهما مثلهمَا لما رُوِيَ فِي الحَدِيث أَدّوا مَدين من قَمح أَو دَقِيق
وَأما الإقط فَيعْتَبر فِيهِ الْقيمَة عندنَا خلافًا لمَالِك
وَمَا سوى ذَلِك فَيعْتَبر قِيمَته بِقِيمَة الْأَشْيَاء الْمَنْصُوص عَلَيْهَا بِأَن أدّى الدَّرَاهِم أَو الْعرُوض وَالثِّمَار وَنَحْوهَا
وَلَو أدّى بعض الْمَنْصُوص عَلَيْهِ وَقِيمَته تبلغ قيمَة كُله بِأَن أدّى ربع صَاع من حِنْطَة جَيِّدَة مَكَان النّصْف أَو نصف صَاع من شعير جيد مَكَان صَاع من شعير لَا يجوز عَن الْكل بل يَقع عَن نَفسه وَعَلِيهِ تَكْمِيل الْبَاقِي لِأَن الْجَوْدَة لَا قيمَة لَهَا فِي أَمْوَال الرِّبَا
وَفِي الزَّكَاة لَو أدّى شَاة سَمِينَة مَكَان شَاتين جَازَ لِأَن الْجَوْدَة فِيهَا مُتَقَومَة
فبقدر الشَّاة الْوسط تجزىء عَن الشَّاة وَقِيمَة الْجَوْدَة عَن الْأُخْرَى
ثمَّ مِقْدَار الصَّاع ثَمَانِيَة أَرْطَال عندنَا
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ خَمْسَة أَرْطَال وَثلث رَطْل لِأَن صَاع أهل الْمَدِينَة كَذَلِك وتوارثوه خلفا عَن سلف
لَكنا نقُول مَا ذكرنَا صَاع عمر وَمَالك من فُقَهَاء الْمَدِينَة قَالَ إِن صَاع الْمَدِينَة أخرجه عبد الْملك بن مَرْوَان فَأَما قبله كَانَ ثَمَانِيَة أَرْطَال فَكَانَ الْعَمَل بِصَاع عمر أولى
ثمَّ روى أَبُو يُوسُف عَن أبي حنيفَة أَنه يعْتَبر الصَّاع وزنا وَهُوَ ثَمَانِيَة أَرْطَال
وروى ابْن رستم عَن مُحَمَّد أَنه يعْتَبر كَيْلا حَتَّى لَو أدّى أَرْبَعَة أُمَنَاء من غير كيل لَا يجوز
وَأما وَقت الوجوبفعند أَصْحَابنَا وَقت الْفجْر الثَّانِي من يَوْم الْفطر
وعَلى قَول الشَّافِعِي لَيْلَة الْفطر
وَفَائِدَة الْخلاف أَن من ولد لَهُ ولد قبل طُلُوع الْفجْر تجب عَلَيْهِ صَدَقَة فطره وَمن ولد لَهُ بعد ذَلِك لَا تجب وَلَو أسلم قبله تجب عَلَيْهِ وَبعده لَا وَكَذَلِكَ الْفَقِير إِذا أيسر قبله تجب وَلَو افْتقر الْغَنِيّ قبله لَا تجب
وَعند الشَّافِعِي على عكس هَذَا
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَنَّهُ تُضَاف الصَّدَقَة إِلَى الْفطر وَهُوَ يَوْم الْعِيد
وَلَو عجل صَدَقَة الْفطر على يَوْم الْفطر ذكرالكرخيأنه إِذا عجل بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ جَازَ وَلم يذكر أَنه لَو عجل بِأَكْثَرَ من ذَلِك هَل يجوز
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه يجوز التَّعْجِيل بِسنة وسنتين وَعَن خلف بن أَيُّوب أَنه يجوز التَّعْجِيل بِشَهْر لَا غير
وَعَن الحسنأنه قَالَ لَا يجوز التَّعْجِيل وَلَا يجوز دون يَوْم الْفطر وَلَو لم يؤد يَوْم الْفطر تسْقط عَنهُ
وَالصَّحِيح رِوَايَة الْحسن بن زِيَاد لِأَن سَبَب الْوُجُوب هُوَ رَأس يمونه لولايته عَلَيْهِ وَالْوَقْت شَرط الْوُجُوب والتعجيل بعد سَبَب الْوُجُوب جَائِز كَمَا فِي الزَّكَاة
وَأما وَقت الأداءفهو يَوْم الْفطر من أَوله إِلَى آخِره ثمَّ بعده يسْقط الْأَدَاء وَيجب الْقَضَاء عِنْد بعض أَصْحَابنَا
وَعند بَعضهم وَهُوَ الْأَصَح أَنَّهَا تجب وجوبا موسعا لَكِن الْمُسْتَحبّ أَن يُؤَدِّي قبل الْخُرُوج إِلَى الْمصلى حَتَّى لَا يحْتَاج الْفَقِير إِلَى الْكسْب وَالسُّؤَال يَوْم الْعِيد فيتمكن من أَدَاء صَلَاة الْعِيد فارغ الْقلب عَن الْقُوت على مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام اغنوهم عَن الْمَسْأَلَة فِي مثل هَذَا الْيَوْم
وَأما مَكَان الأداءروي عَن مُحَمَّد أَنه قَالَ زَكَاة المَال من حَيْثُ المَال وَصدقَة الْفطر عَن نَفسه وعبيده من حَيْثُ هُوَ
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه يُؤَدِّي عَن نَفسه من حَيْثُ هُوَ وَعَن عُبَيْدَة من حَيْثُ هم
وَالْأول أصح لِأَن صَدَقَة الْفطر لَا تعلق لَهَا بِالْمَالِ حَتَّى إِذا هلك المَال بعد الْوُجُوب لَا تسْقط الْفطْرَة بِخِلَاف الزَّكَاة وَالله أعلم
فِي الْبَاب فُصُول مِنْهَا بَيَان وجوب صَدَقَة الْفطر وَبَيَان من تجب عَلَيْهِ وَبَيَان من تجب عَلَيْهِ لأجل الْغَيْر وَبَيَان قدر الْوَاجِب وَصفته وَبَيَان وَقت الْوُجُوب وَبَيَان وَقت الْأَدَاء وَبَيَان مَكَان الْأَدَاء وَمَا يتَّصل بِهَذِهِ الْجُمْلَة
أما الأول فَنَقُول صَدَقَة الْفطر وَاجِبَة
عرف وُجُوبهَا بالأحاديث الصَّحِيحَة وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عنثعلبة بن صَغِير العذري وَفِي رِوَايَة الْعَدوي أَنه قَالَ خَطَبنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أَدّوا عَن كل حر وَعبد صَغِير وكبير نصف صَاع من بر
نِصَاب معِين وَلَيْسَ للْأَب مَال فَإِنَّهُ يجب صَدَقَة الْفطر عَلَيْهِمَا
عِنْدهمَا يُؤَدِّي الْأَب وَالْوَصِيّ وَلَا ضَمَان عَلَيْهِمَا إِذا أديا
وَعند مُحَمَّد وَزفر لَا يجب لِأَن فِيهَا معنى الْعِبَادَة
وهما يَقُولَانِ إِن فِيهَا معنى الْعِبَادَة والمؤونة وَلَا يُمكن الْجمع بَينهمَا فِي حَالَة وَاحِدَة فِي حق شخص وَاحِد فِي حكم وَاحِد فَوَجَبَ اعْتِبَار المؤونة فِي بعض الْأَحْكَام وَمعنى الْعِبَادَة فِي الْبَعْض عملا بالدلائل بِقدر الْإِمْكَان فَقَالَا بِالْوُجُوب اعْتِبَارا بالمؤونة
وَأما بَيَان من يجب عَلَيْهِ صَدَقَة الْفطر بِسَبَب الْغَيْر فَنَقُول كل من كَانَ من أهل وجوب صَدَقَة الْفطر على نَفسه وَله ولَايَة كَامِلَة على من كَانَ من جنسه وَتجب مؤونته وَنَفَقَته فَإِنَّهُ تجب عَلَيْهِ صَدَقَة فطره
وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ إِذا كَانَ بِهَذِهِ الصّفة كَانَ رَأسه بِمَنْزِلَة رَأسه فِي الذب والنصرة فَكَمَا وَجب عَلَيْهِ صَدَقَة فطر رَأسه تجب صَدَقَة فطر مَا هُوَ فِي معنى رَأسه
إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول يجب على الْأَب صَدَقَة فطر أَوْلَاده الصغار إِذا كَانَ غَنِيا وَلَا مَال لَهُم لوُجُود الْولَايَة والمؤونة بطرِيق الْكَمَال
وَكَذَا إِذا كَانُوا مجانين لما قُلْنَا
وَإِذا كَانَ لَهُم مَال يجب عَلَيْهِم عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَعند مُحَمَّد وَزفر على الْأَب الْغَنِيّ على مَا مر
وَأما الْجد حَال عدم الْأَب إِذا كَانَ غَنِيا هَل تجب عَلَيْهِ صَدَقَة فطر ابْن ابْنه على جَوَاب ظَاهر الرِّوَايَة لَا يجب لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ولَايَة مُطلقَة فَإِنَّهُ مَحْجُوب بِالْأَبِ بِمَنْزِلَة الْإِخْوَة الصغار الْفُقَرَاء وَلَا تجب
صَدَقَة فطرهم على الْأَخ الْغَنِيّ الْكَبِير لما قُلْنَا
وَفِي رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه تجب لما قُلْنَا
فَإِن كَانَ حَيا وَلكنه فَقير وَلَهُم جد غَنِي لَا يجب على الْجد فِي الرِّوَايَات كلهَا لِأَنَّهُ لَا ولَايَة لَهُ حَال قيام الْأَب وَإِن كَانَ يجب عَلَيْهِ المؤونة
وَعند الشَّافِعِي يجب
وَلَا يجب على الْوَصِيّ وَإِن كَانَ لَهُ ولَايَة لِأَنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِ النَّفَقَة
وَأما أَوْلَاده الْكِبَار إِذا كَانُوا فُقَرَاء زمنى فَإِنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِ صَدَقَة فطرهم عندنَا
وَعند الشَّافِعِي يجب
وَكَذَلِكَ الْأَب الْفَقِير لَا يجب على الابْن صَدَقَة فطره وَكَذَلِكَ الزَّوْجَة خلافًا للشَّافِعِيّ لِأَن عِنْده تنبني على المؤونة لَا غير وَعِنْدنَا على المؤونة وَالْولَايَة جَمِيعًا وَلَا ولَايَة فِي حق هَؤُلَاءِ وَإِن كَانَ يجب النَّفَقَة
فَأَما الْأَب الْفَقِير إِذا كَانَ مَجْنُونا فَإِنَّهُ تجب صَدَقَة فطره على ابْنه لوُجُود الْولَايَة والمؤونة جَمِيعًا
وَلَا يجب على الْأَب صَدَقَة فطر الْجَنِين لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ولَايَة كَامِلَة عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا تعرف حَيَاته
وعَلى هَذَا يجب على الْمولى صَدَقَة فطر عبيده وإمائه إِذا كَانُوا للْخدمَة
وَكَذَلِكَ أُمَّهَات أَوْلَاده ومدبريه سَوَاء كَانَ عَلَيْهِم دين أَو لم يكن إِذا كَانَ الْمولى غَنِيا لما قُلْنَا من اجْتِمَاع الْولَايَة والمؤنة
فَأَما الْمكَاتب وَالْمُكَاتبَة والمستسعي فَلَا يجب عَلَيْهِ صَدَقَة فطرهم لِأَنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِ نَفَقَتهم وَلَا تجب عَلَيْهِم لِأَنَّهُ لَا ملك لَهُم
وَأما العَبْد إِذا كَانَ كَافِرًا فَإِنَّهُ تجب على الْمولى صَدَقَة فطره عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ لما قُلْنَا من الْولَايَة وَالنَّفقَة
وَالْعَبْد الْمُشْتَرك بَين اثْنَيْنِ لَا تجب صَدَقَة فطره على الموليين لِأَنَّهُ لَيْسَ لكل وَاحِد مِنْهُمَا ولَايَة كَامِلَة
فإمَّا إِذا كَانُوا عبيدا بَين رجلَيْنِ فعلى قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف لَا يجب عَلَيْهِمَا صَدَقَة فطرهم
وَعند مُحَمَّد إِن كَانُوا بِحَال لَو قسموا أصَاب كل وَاحِد مِنْهُمَا عبدا كَامِلا تجب عَلَيْهِ صَدَقَة فطره
وَهَذَا بِنَاء على أصل أَن العَبْد لَا يقسم عِنْد أبي حنيفَة قسْمَة جمع فَلَا يكون لكل وَاحِد مِنْهُمَا عبد كَامِل وَعند مُحَمَّد يقسم قسْمَة جمع فَيكون لكل وَاحِد مِنْهُمَا عبد كَامِل من حَيْثُ الْمَعْنى وَأَبُو يُوسُف يرى الْقِسْمَة لَكِن قبل الْقِسْمَة لم يكن لكل وَاحِد مِنْهُمَا ولَايَة كَامِلَة
وَأما مِقْدَار الْوَاجِب فَنَقُول نصف صَاع من حِنْطَة أَو صَاع من شعير أَو تمر عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي من الْبر صَاع أَيْضا وروى حَدِيثا لكنه غَرِيب فَلَا يقبل بِمُقَابلَة مَا روينَا وَهُوَ مَشْهُور
وَأما الزَّبِيب فقد ذكر فِي الْجَامِع الصَّغِير عَن أبي حنيفَة نصف صَاع لِأَن الْغَالِب أَن قِيمَته مثل قيمَة الْبر فِي دِيَارهمْ
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة صَاعا وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد لما رُوِيَ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَنه قَالَ كُنَّا نخرج زَكَاة الْفطر على عهد
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَاعا من طَعَام أَو صَاعا من زبيب وَكَانَ طعامنا الشّعير
وَقد قَالَ أَصْحَابنَا إِن دَقِيق الْحِنْطَة وَالشعِير وسويقهما مثلهمَا لما رُوِيَ فِي الحَدِيث أَدّوا مَدين من قَمح أَو دَقِيق
وَأما الإقط فَيعْتَبر فِيهِ الْقيمَة عندنَا خلافًا لمَالِك
وَمَا سوى ذَلِك فَيعْتَبر قِيمَته بِقِيمَة الْأَشْيَاء الْمَنْصُوص عَلَيْهَا بِأَن أدّى الدَّرَاهِم أَو الْعرُوض وَالثِّمَار وَنَحْوهَا
وَلَو أدّى بعض الْمَنْصُوص عَلَيْهِ وَقِيمَته تبلغ قيمَة كُله بِأَن أدّى ربع صَاع من حِنْطَة جَيِّدَة مَكَان النّصْف أَو نصف صَاع من شعير جيد مَكَان صَاع من شعير لَا يجوز عَن الْكل بل يَقع عَن نَفسه وَعَلِيهِ تَكْمِيل الْبَاقِي لِأَن الْجَوْدَة لَا قيمَة لَهَا فِي أَمْوَال الرِّبَا
وَفِي الزَّكَاة لَو أدّى شَاة سَمِينَة مَكَان شَاتين جَازَ لِأَن الْجَوْدَة فِيهَا مُتَقَومَة
فبقدر الشَّاة الْوسط تجزىء عَن الشَّاة وَقِيمَة الْجَوْدَة عَن الْأُخْرَى
ثمَّ مِقْدَار الصَّاع ثَمَانِيَة أَرْطَال عندنَا
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ خَمْسَة أَرْطَال وَثلث رَطْل لِأَن صَاع أهل الْمَدِينَة كَذَلِك وتوارثوه خلفا عَن سلف
لَكنا نقُول مَا ذكرنَا صَاع عمر وَمَالك من فُقَهَاء الْمَدِينَة قَالَ إِن صَاع الْمَدِينَة أخرجه عبد الْملك بن مَرْوَان فَأَما قبله كَانَ ثَمَانِيَة أَرْطَال فَكَانَ الْعَمَل بِصَاع عمر أولى
ثمَّ روى أَبُو يُوسُف عَن أبي حنيفَة أَنه يعْتَبر الصَّاع وزنا وَهُوَ ثَمَانِيَة أَرْطَال
وروى ابْن رستم عَن مُحَمَّد أَنه يعْتَبر كَيْلا حَتَّى لَو أدّى أَرْبَعَة أُمَنَاء من غير كيل لَا يجوز
وَأما وَقت الوجوبفعند أَصْحَابنَا وَقت الْفجْر الثَّانِي من يَوْم الْفطر
وعَلى قَول الشَّافِعِي لَيْلَة الْفطر
وَفَائِدَة الْخلاف أَن من ولد لَهُ ولد قبل طُلُوع الْفجْر تجب عَلَيْهِ صَدَقَة فطره وَمن ولد لَهُ بعد ذَلِك لَا تجب وَلَو أسلم قبله تجب عَلَيْهِ وَبعده لَا وَكَذَلِكَ الْفَقِير إِذا أيسر قبله تجب وَلَو افْتقر الْغَنِيّ قبله لَا تجب
وَعند الشَّافِعِي على عكس هَذَا
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَنَّهُ تُضَاف الصَّدَقَة إِلَى الْفطر وَهُوَ يَوْم الْعِيد
وَلَو عجل صَدَقَة الْفطر على يَوْم الْفطر ذكرالكرخيأنه إِذا عجل بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ جَازَ وَلم يذكر أَنه لَو عجل بِأَكْثَرَ من ذَلِك هَل يجوز
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه يجوز التَّعْجِيل بِسنة وسنتين وَعَن خلف بن أَيُّوب أَنه يجوز التَّعْجِيل بِشَهْر لَا غير
وَعَن الحسنأنه قَالَ لَا يجوز التَّعْجِيل وَلَا يجوز دون يَوْم الْفطر وَلَو لم يؤد يَوْم الْفطر تسْقط عَنهُ
وَالصَّحِيح رِوَايَة الْحسن بن زِيَاد لِأَن سَبَب الْوُجُوب هُوَ رَأس يمونه لولايته عَلَيْهِ وَالْوَقْت شَرط الْوُجُوب والتعجيل بعد سَبَب الْوُجُوب جَائِز كَمَا فِي الزَّكَاة
وَأما وَقت الأداءفهو يَوْم الْفطر من أَوله إِلَى آخِره ثمَّ بعده يسْقط الْأَدَاء وَيجب الْقَضَاء عِنْد بعض أَصْحَابنَا
وَعند بَعضهم وَهُوَ الْأَصَح أَنَّهَا تجب وجوبا موسعا لَكِن الْمُسْتَحبّ أَن يُؤَدِّي قبل الْخُرُوج إِلَى الْمصلى حَتَّى لَا يحْتَاج الْفَقِير إِلَى الْكسْب وَالسُّؤَال يَوْم الْعِيد فيتمكن من أَدَاء صَلَاة الْعِيد فارغ الْقلب عَن الْقُوت على مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام اغنوهم عَن الْمَسْأَلَة فِي مثل هَذَا الْيَوْم
وَأما مَكَان الأداءروي عَن مُحَمَّد أَنه قَالَ زَكَاة المَال من حَيْثُ المَال وَصدقَة الْفطر عَن نَفسه وعبيده من حَيْثُ هُوَ
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه يُؤَدِّي عَن نَفسه من حَيْثُ هُوَ وَعَن عُبَيْدَة من حَيْثُ هم
وَالْأول أصح لِأَن صَدَقَة الْفطر لَا تعلق لَهَا بِالْمَالِ حَتَّى إِذا هلك المَال بعد الْوُجُوب لَا تسْقط الْفطْرَة بِخِلَاف الزَّكَاة وَالله أعلم
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
كتاب الصَّوْم
كتاب الصَّوْم
اعْلَم أَن الصَّوْم نَوْعَانِ لغَوِيّ وشرعي فاللغوي هُوَ الْإِمْسَاك عَن أَي شَيْء كَانَ من الْكَلَام وَالطَّعَام وَالشرَاب وَالْجِمَاع والعلف وَغَيرهَا قَالَ الله تَعَالَى {إِنِّي نذرت للرحمن صوما} أَي صمتا وَقَالَ النَّابِغَة خيل صِيَام وخيل غير صَائِمَة تَحت العجاج وَأُخْرَى تعلك اللجما وَالصَّوْم الشَّرْعِيّ هُوَ الْإِمْسَاك عَن الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع قَالَ الله تَعَالَى {فَالْآن باشروهن وابتغوا} إِلَى أَن قَالَ {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} أَمْسكُوا عَن هَذِه الْأَشْيَاء
ثمَّ الصَّوْم الشَّرْعِيّ أَرْبَعَة عشر نوعا ثَمَانِيَة مِنْهَا مَذْكُورَة فِي كتاب الله تَعَالَى أَرْبَعَة مِنْهَا متتابعة وَهِي صَوْم رَمَضَان وَصَوْم كَفَّارَة الظِّهَار وَصَوْم كَفَّارَة الْقَتْل وَصَوْم كَفَّارَة الْيَمين وَأَرْبَعَة مِنْهَا صَاحبهَا بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ تَابع وَإِن شَاءَ فرق وَهِي قَضَاء صَوْم رَمَضَان وَصَوْم الْمُتْعَة وَصَوْم جَزَاء الصَّيْد وَصَوْم كَفَّارَة الْحلق
وَسِتَّة مَذْكُورَة فِي السّنة وَهِي صَوْم كَفَّارَة الْفطر فِي شهر رَمَضَان
عمدا وَصَوْم النّذر وَصَوْم التَّطَوُّع وَالصَّوْم الْوَاجِب بِالْيَمِينِ بقول الرجل وَالله لأصومن شهرا وَصَوْم الِاعْتِكَاف وَصَوْم قَضَاء التَّطَوُّع بالإفطار
وَهَذَا قَول عَامَّة الْعلمَاء
وَقد خَالف الشَّافِعِي فِي هَذِه الْجُمْلَة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع أَحدهَا قَالَ إِن صَوْم كَفَّارَة الْيَمين لَيْسَ بمتتابع
وَالثَّانِي قَالَ إِن صَوْم الِاعْتِكَاف لَيْسَ بِوَاجِب
وَالثَّالِث قَالَ لَا يجب قَضَاء صَوْم التَّطَوُّع
ثمَّ للصَّوْم أَرْكَان وشروط وَسنَن وآداب
فنبدأ بِالشُّرُوطِ فَنَقُول للصَّوْم شُرُوط بَعْضهَا للْوُجُوب وَبَعضهَا شَرط صِحَة الْأَدَاء
فَمِنْهَا الْوَقْت وَهُوَ شَرط الْوُجُوب فِي حق الصَّوْم الْوَاجِب وَشرط الْأَدَاء فِي حق الصيامات كلهَا
وَهُوَ الْيَوْم من وَقت طُلُوع الْفجْر إِلَى وَقت غرُوب الشَّمْس قَالَ الله تَعَالَى {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل}
ثمَّ الصَّوْم نَوْعَانِ فرض وتطوع
فوقت التَّطَوُّع هُوَ الْأَيَّام كلهَا لَكِن الصَّوْم فِي بعض الْأَيَّام مَكْرُوه وَفِي بَعْضهَا مُسْتَحبّ وَفِي بَعْضهَا سنة حَتَّى لَو صَامَ فِي الْأَيَّام الْمنْهِي عَنْهَا فَإِنَّهُ يَقع جَائِزا حَتَّى لَا يجب عَلَيْهِ الْقَضَاء
أما الصَّوْم الْمَكْرُوه فأنواع
مِنْهَا صَوْم سِتَّة أَيَّام فِي كل سنة صَوْم يَوْم النَّحْر وَصَوْم أَيَّام التَّشْرِيق وَيَوْم الْفطر وَيَوْم الشَّك بنية رَمَضَان أَو بنية مترددة بِأَن نوى الصَّوْم عَن رَمَضَان إِن كَانَ من رَمَضَان وَإِن لم يكن فَعَن التَّطَوُّع وَهَذَا مَكْرُوه قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام من صَامَ يَوْم الشَّك فقد عصى أَبَا الْقَاسِم وَقد قَامَ الدَّلِيل على أَن الصَّوْم فِيهِ عَن وَاجِب آخر أَو عَن التَّطَوُّع مُطلقًا لَا يكره ثَبت أَن الْمَكْرُوه مَا قُلْنَا
وَإِنَّمَا لَا يكره عَن مُطلق التَّطَوُّع على وَجه لَا يعلم الْعَوام ذَلِك كَيْلا يعتادوا الصَّوْم فِيهِ فيظنه الْجُهَّال زِيَادَة على رَمَضَان
وَكَذَا صَوْم الصمت مَكْرُوه فِي الْأَوْقَات كلهَا بِأَن يَصُوم ويمسك عَن الْكَلَام وَالطَّعَام جَمِيعًا لِأَن هَذَا تشبه بالمجوس فَإِنَّهُم يَفْعَلُونَ هَكَذَا
وَكَذَا صَوْم يَوْم السبت مُفردا مَكْرُوه لِأَن هَذَا تشبه باليهود
وَكَذَا صَوْم يَوْم عَاشُورَاء مُفردا مَكْرُوه عِنْد بعض أَصْحَابنَا لِأَنَّهُ تشبه باليهود
وَأما صَوْم يَوْم عَرَفَة فِي حق الْحَاج فَإِن كَانَ يُضعفهُ عَن الْوُقُوف بِعَرَفَة ويخل بالدعوات فَإِن الْمُسْتَحبّ لَهُ أَن يتْرك الصَّوْم لِأَن صَوْم يَوْم عَرَفَة يُوجد فِي غير هَذِه السّنة فَأَما الْوُقُوف بِعَرَفَة فَيكون فِي حق عَامَّة النَّاس فِي سنة وَاحِدَة وَأما إِذا كَانَ لَا يُخَالف الضعْف فَلَا بَأْس بِهِ
وَأما فِي حق غير الْحَاج فَهُوَ مُسْتَحبّ لِأَن لَهُ فَضِيلَة على عَامَّة الْأَيَّام
وَالصَّوْم قبل رَمَضَان بِيَوْم وَيَمِين مَكْرُوه أَي صَوْم كَانَ لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا تتقدموا الشَّهْر بِصَوْم يَوْم وَلَا بِصَوْم يَوْمَيْنِ إِلَّا أَن يُوَافق صوما كَانَ يَصُومهُ أحدكُم وَإِنَّمَا كره خوفًا من أَن يظنّ أَنه زِيَادَة على صَوْم رَمَضَان إِذا اعتادوا ذَلِك وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُف إِنَّه يكره أَن يُوصل
برمضان صَوْم شَوَّال سِتَّة أَيَّام تَطَوّعا وَرُوِيَ عَن مَالك أَنه قَالَ يكره ذَلِك وَمَا رَأَيْت أحدا من أهل الْعلم وَالْفِقْه يَصُوم ذَلِك وَلم يبلغنَا من السّلف وَكَانُوا يكْرهُونَ ذَلِك لما ذكرنَا
وَكَذَلِكَ يكره صَوْم الْوِصَال وَهُوَ أَن يصام فِي كل يَوْم دون ليلته وَهُوَ صَوْم الدَّهْر الَّذِي ورد النَّهْي عَنهُ لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا صِيَام لمن صَامَ الدَّهْر
وَمعنى الْكَرَاهَة أَنه يضعف عَن أَدَاء الْعِبَادَات وَعَن الْكسْب الَّذِي يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الْجُمْلَة وَلِهَذَا أَشَارَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لما نهى عَن صَوْم الْوِصَال فَقيل لَهُ إِنَّك تواصل فَقَالَ إِنِّي لست كأحدكم إِنِّي أَبيت عِنْد رَبِّي يطعمني ويسقيني
وَأما صَوْم يَوْم الِاثْنَيْنِ وَحده وَكَذَا صَوْم يَوْم الْخَمِيس وَحده وَكَذَا صَوْم يَوْم الْجُمُعَة وَحده فَإِنَّهُ لَا يكره وَقَالَ بَعضهم يكره لِأَنَّهُ خص هَذِه الْأَيَّام من بَين سائرها
وَعَامة الْعلمَاء قَالُوا بل هُوَ مُسْتَحبّ لِأَن لهَذِهِ الْأَيَّام فَضِيلَة فَكَانَ تعظيمها بِالصَّوْمِ مُسْتَحبا وَإِنَّمَا يكره إِذا كَانَ فِيهِ تشبه بِغَيْر أهل الْقبْلَة وَلم يُوجد فِي هَذِه الصيامات
وَأما صَوْم وإفطار يَوْم فَهُوَ مُسْتَحبّ على مَا رُوِيَ أَنه صَوْم دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يفْطر يَوْمًا ويصوم يَوْمًا
وَصَوْم الْأَيَّام الْبيض مُسْتَحبّ وَسنة لِكَثْرَة الْأَحَادِيث فِيهِ
وَأما صَوْم الْفَرْض فنوعان عين وَدين فالعين هُوَ صَوْم رَمَضَان
وَصَوْم الدّين هُوَ سَائِر الصيامات من قَضَاء رَمَضَان وَالْكَفَّارَات وَالنُّذُور الْمُطلقَة وَنَحْوهَا فسائر الْأَيَّام وَقت لَهَا سوى خَمْسَة أَيَّام يَوْم
النَّحْر وَأَيَّام التَّشْرِيق وَيَوْم الْفطر لِأَن صَوْم هَذِه الْأَيَّام نَاقص وَالْوَاجِب عَلَيْهِ صَوْم كَامِل فَلَا يتَأَدَّى بالناقص
وَصَوْم الْمُتْعَة لَا يجوز عندنَا فِي هَذِه الْأَيَّام
وَعند الشَّافِعِي يجوز فِي أَيَّام التَّشْرِيق دون يَوْم النَّحْر
وَالنّذر بِالصَّوْمِ فِي هَذِه الْأَيَّام جَائِز عندنَا خلافًا لزفَر وَالشَّافِعِيّ لِأَنَّهُ وَجب نَاقِصا فَيجوز أَن يتَأَدَّى نَاقِصا
وَلَو شرع فِي الصَّوْم فِي هَذِه الْأَيَّام فَفِي ظَاهر الرِّوَايَة لَا يلْزم بِالشُّرُوعِ
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف وَمُحَمّد أَنه يلْزم
وَالصَّحِيح ظَاهر الرِّوَايَة لِأَن صَاحب الْحق وَهُوَ الله تَعَالَى أمره بالإفطار بعد الشُّرُوع وَمن أتلف حق غَيره بِإِذْنِهِ لَا يجب عَلَيْهِ الضَّمَان
وَفِي الشُّرُوع فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة فِي الصَّلَاة عَن أبي حنيفَة رِوَايَتَانِ وأشهرهما أَنه يلْزمه الْقَضَاء بِخِلَاف الصَّوْم وَالْفرق مَعْرُوف
وَأما صَوْم رَمَضَان فوقته رَمَضَان
وَإِنَّمَا يعرف بِرُؤْيَة الْهلَال إِن كَانَت السَّمَاء مصحية
وَإِن كَانَت متغيمة فَإِنَّهُ يكمل شعْبَان ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثمَّ يَصُوم عَن رَمَضَان لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ صُومُوا لرُؤْيَته وأفطروا لرُؤْيَته فَإِن غم عَلَيْكُم فأكملوا شعْبَان ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثمَّ صُومُوا
فَإِذا كَانَت السَّمَاء مصحية وَرَأى النَّاس الْهلَال فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِم الصَّوْم
وَأما إِذا رأى وَاحِد وَشهد عِنْد القَاضِي فَإِن القَاضِي لَا يقبل شَهَادَة
الْوَاحِد والاثنين مَا لم يدْخل فِي حد التَّوَاتُر بِأَن شهد جمَاعَة كَبِيرَة من محَال مُخْتَلفَة
هَذَا إِذا كَانَ الشُّهُود من الْمصر
وَإِن كَانُوا من خَارج الْمصر ذكر الطَّحَاوِيّ وَقَالَ يقبل خبر الْوَاحِد لِأَن الْمطَالع مُخْتَلفَة فِي حق الظُّهُور لصفاء الْهَوَاء فِي خَارج الْمصر
وَفِي ظَاهر الرِّوَايَة لم يفصل لِأَن الْمطَالع لَا تخْتَلف إِلَّا عِنْد الْمسَافَة الْبَعِيدَة الْفَاحِشَة
وَإِن كَانَت السَّمَاء متغيمة فَإِنَّهُ يقبل خبر الْوَاحِدَة الْعدْل ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى حرا كَانَ أَو عبدا محدودا فِي الْقَذْف أَو لَا بعد مَا تَابَ وَصَارَ عدلا لِأَن هَذَا من بَاب الْإِخْبَار دون الشَّهَادَة يلْزم الشَّاهِد الصَّوْم فيتعدى إِلَى غَيره لكنه من بَاب الدّين فَيشْتَرط فِيهِ الْعَدَالَة
وَلَو رد القَاضِي شَهَادَة الْوَاحِد لتهمة الْفسق إِذا كَانَت السَّمَاء متغيمة أَو لِتَفَرُّدِهِ إِذا كَانَت السَّمَاء مصحية وَإِن كَانَ عدلا فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ أَن يَصُوم ذَلِك الْيَوْم
وَلَو أفطر بِالْجِمَاعِ لَا يلْزمه الْكَفَّارَة عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما هِلَال شَوَّال فَلَا يقبل إِلَّا شَهَادَة رجلَيْنِ أَو رجل وَامْرَأَتَيْنِ لِأَن هَذَا من بَاب الشَّهَادَة لما فِيهِ من نفع للشَّاهِد وَهُوَ سُقُوط الصَّوْم عَنهُ
وَأما هِلَال ذِي الْحجَّة فقد قَالُوا يشْتَرط شَهَادَة رجلَيْنِ لِأَنَّهُ يتَعَلَّق بِهِ حكم شَرْعِي وَهُوَ وجوب الْأُضْحِية
وَالصَّحِيح أَنه يقبل فِيهِ شَهَادَة الْوَاحِد لِأَن هَذَا من بَاب الْخَبَر فَإِنَّهُ يلْزم الْمخبر ثمَّ يتَعَدَّى إِلَى غَيره
وَهَذَا إِذا كَانَت السَّمَاء متغيمة
فَإِن كَانَت مصحية فَلَا يقبل إِلَّا التَّوَاتُر كَمَا ذكرنَا فِي رَمَضَان
وَلَو رَأَوْا الْهلَال قبل الزَّوَال أَو بعده فَهُوَ لليلة الْمُسْتَقْبلَة عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد
وَقَالَ أَبُو يُوسُف إِذا كَانَ قبل الزَّوَال أَو بعده إِلَى وَقت الْمصر فَهُوَ لليلة الْمَاضِيَة أما إِذا كَانَ بعد الْعَصْر فَهُوَ لليلة الْمُسْتَقْبلَة بِلَا خلاف
وَفِيه خلاف بَين الصَّحَابَة فقد رُوِيَ عَن عمروابن مَسْعُود وَأنس مثل قَوْلهمَا وَرُوِيَ عَن عمر فِي رِوَايَة أُخْرَى وَهُوَ قَول عَليّ وَعَائِشَة مثل قَول أبي يُوسُف
وَمن الشُّرُوط النِّيَّة وَهِي شَرط صِحَة الْأَدَاء لِأَن الصَّوْم عبَادَة فَلَا تصح بِدُونِهِ النِّيَّة ثمَّ الْكَلَام فِي كَيْفيَّة النِّيَّة وَفِي وَقت النِّيَّة
أما كَيْفيَّة النِّيَّة فَينْظر إِن كَانَ الصَّوْم عينا يَكْفِيهِ نِيَّة مُطلق الصَّوْم حَتَّى لَو صَامَ رَمَضَان بنية مُطلق الصَّوْم يَقع على رَمَضَان
وَكَذَا فِي صَوْم التَّطَوُّع إِذا صَامَ مُطلقًا خَارج رَمَضَان يَقع عَن النَّفْل لِأَن الْوَقْت مُتَعَيّن للنفل شرعا
وَكَذَا فِي النّذر إِذا كَانَ الْوَقْت معينا بِأَن نذر صَوْم شهر رَجَب وَنَحْوه إِذا صَامَ مُطلقًا فِيهِ يَقع عَن الْمَنْذُور
وَهَذَا عندنَا
وعندالشافعي صَوْم الْفَرْض وَالْوَاجِب لَا يَصح بِدُونِ نِيَّة الْفَرْض وَالْوَاجِب وَأما التَّطَوُّع فَيصح بِمُطلق النِّيَّة
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن مُطلق النِّيَّة كَاف لصيرورة الْعَمَل لله تَعَالَى وَإِنَّمَا يعْتَبر الْوَصْف لتعيين الْوَقْت لذَلِك الصَّوْم فَإِذا كَانَ الْوَقْت مُتَعَيّنا فَلَا حَاجَة إِلَى التَّعْيِين
وَأما إِذا صَامَ بنية التَّطَوُّع فِي رَمَضَان أَو فِي النّذر الَّذِي تعين وقته فَإِنَّهُ يَقع عَن الْفَرْض وتلغو نِيَّة التَّطَوُّع عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ لِأَن الْوَقْت قَابل لأصل الصَّوْم غير قَابل لوصفه فبطلت نِيَّة الْوَصْف وَتعْتَبر نِيَّة الأَصْل وَهِي كَافِيَة لصيرورة الْعَمَل لله تَعَالَى
وَلَو صَامَ بنية وَاجِب آخر من الْقَضَاء والنذورة وَالْكَفَّارَات فِي رَمَضَان يَقع عَن رَمَضَان أَيْضا عندنَا خلافًا لَهُ
وَلَو كَانَ ذَلِك فِي النّذر الْمعِين يَقع عَمَّا نوى لِأَن صَوْم رَمَضَان تعين بِتَعْيِين الشَّرْع فَظهر التَّعْيِين مُطلقًا لكَمَال الْولَايَة فَظهر فِي حق نسخ سَائِر الصيامات وَأما فِي النّذر فقد تعين بِولَايَة قَاصِرَة فَيظْهر تَعْيِينه فِي حَقه وَهُوَ صَوْم التَّطَوُّع وَلَا يظْهر فِي الْوَاجِبَات الَّتِي هِيَ حق الله تَعَالَى فِي هَذِه الْأَوْقَات فَبَقيت الْأَوْقَات محلا لَهَا
هَذَا الَّذِي ذكرنَا فِي حق الْمُقِيم
فَأَما فِي حق الْمُسَافِر فَإِن صَامَ مُطلقًا يَقع عَن رَمَضَان
وَإِن صَامَ بنية وَاجِب آخر يَقع عَمَّا نوى عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا يَقع عَن رَمَضَان وَإِن صَامَ بنية التَّطَوُّع فَعَن أبي حنيفَة رِوَايَتَانِ
وَأما الْمَرِيض فَإِذا صَامَ مُطلقًا يَقع عَن رَمَضَان وَإِذا صَامَ بنية التَّطَوُّع قَالَ مَشَايِخنَا بِأَنَّهُ يَقع عَن الْفَرْض بِخِلَاف الْمُسَافِر لِأَنَّهُ إِذا قدر على الصَّوْم صَار كَالصَّحِيحِ وَذكر الْكَرْخِي هَهُنَا وَسوى بَين الْمَرِيض وَالْمُسَافر
وَكَذَا رُوِيَ عَن أبي يُوسُف عَن أبي حنيفَة أَنه يَقع عَن التَّطَوُّع
وَأما صَوْم الدّين من الْقَضَاء وَالنُّذُور الْمُطلقَة وَالْكَفَّارَات إِذا نوى خَارج رَمَضَان مُطلقًا وَلم ينْو صَوْم الْقَضَاء أَو الْكَفَّارَة فَإِنَّهُ لَا يَقع عَنهُ لِأَن خَارج رَمَضَان مُتَعَيّن للنفل عِنْد بعض مَشَايِخنَا وَعند بَعضهم هُوَ وَقت الصيامات كلهَا على الْإِبْهَام وَإِنَّمَا يتَعَيَّن بِالتَّعْيِينِ فَكَانَت نِيَّة الْوَصْف لتعيين الْوَقْت لَا لتصير عبَادَة
وَأما وَقت النِّيَّة فَالْأَفْضَل أَن يَنْوِي من اللَّيْل أَو مُقَارنًا لطلوع الْفجْر فِي الصيامات كلهَا
فَأَما إِذا نوى بعد طُلُوع الْفجْر فَإِن كَانَ الصَّوْم دينا فَلَا يجوز بِالْإِجْمَاع وَإِن كَانَ الصَّوْم عينا فَيجوز عندنَا سَوَاء كَانَ فرضا أَو نذرا أَو تَطَوّعا
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يجوز إِلَّا فِي التَّطَوُّع
وَقَالَ مَالك لَا يجوز فِي التَّطَوُّع أَيْضا
وَلَو صَامَ بنية بعد الزَّوَال فِي التَّطَوُّع لَا يجوز عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ وَبَعض أَصْحَابه قَالُوا لَا يجوز
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَنَّهُ مَا وجد الْإِمْسَاك لله تَعَالَى فِي وَقت الْغَدَاء وَوقت الْغَدَاء من وَقت طُلُوع الْفجْر إِلَى وَقت الزَّوَال يخْتَلف باخْتلَاف أَحْوَال النَّاس وَالصَّوْم هُوَ الْإِمْسَاك عَن الْغَدَاء وَتَأْخِير الْعشَاء إِلَى اللَّيْل وَبعد الزَّوَال لَا يجوز لِأَنَّهُ لم يُوجد الْإِمْسَاك عَن الْغَدَاء لله تَعَالَى
فَأَما فِي صَوْم الدّين فَلَا يجوز لِأَنَّهُ إِذا لم ينْو من اللَّيْل تعين الْيَوْم وقتا للتطوع شرعا فَلَا يملك تَغْيِيره وَفِي اللَّيْل لم يتَعَيَّن فصح مِنْهُ تعْيين المحتلم بِالنِّيَّةِ فَهُوَ الْفرق بَينهمَا
وَمن الشُّرُوط الطَّهَارَة عَن الْحيض وَالنّفاس وَهُوَ شَرط صِحَة الْأَدَاء لَا شَرط الْوُجُوب فَإِن صَوْم رَمَضَان يجب
على الْحَائِض وَالنُّفَسَاء حَتَّى يجب الْقَضَاء عَلَيْهِمَا خَارج رَمَضَان لَكِن لَا يَصح الْأَدَاء لِأَن الطَّهَارَة عَن الْحيض وَالنّفاس شَرط صِحَة الصَّوْم كَمَا أَن الطَّهَارَة عَن جَمِيع الْأَحْدَاث شَرط صِحَة الصَّلَاة
عرفنَا ذَلِك بِإِجْمَاع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم
وَأما الْإِسْلَام فَهُوَ شَرط وجوب الصَّوْم وَسَائِر الْعِبَادَات عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ
وَهُوَ شَرط صِحَة الْأَدَاء بِلَا خلاف
ولقب الْمَسْأَلَة أَن الْكفَّار غير مخاطبين بشرائع هِيَ عبادات عندنَا خلافًا لَهُ
وَأما الْعقل فَلَيْسَ بِشَرْط الْوُجُوب وَلَا بِشَرْط الْأَدَاء حَتَّى قُلْنَا إِن صَوْم رَمَضَان يجب على الْمَجْنُون فَإِنَّهُ إِذا جن فِي بعض الشَّهْر ثمَّ أَفَاق يلْزمه الْقَضَاء عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ
وَلَو استوعب الشَّهْر ثمَّ أَفَاق لَا يلْزمه الْقَضَاء لِأَن فِي وجوب الْقَضَاء عَلَيْهِ حرجا لِأَن الْجُنُون الطَّوِيل قَلما يَزُول فيضاعف عَلَيْهِ الْقَضَاء فيحرج
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِن الْإِغْمَاء
قل أَو كثر لَا يمْنَع وجوب الْقَضَاء وَكَذَا الْمَرَض لِأَن الِاسْتِغْرَاق فِي الْإِغْمَاء نَادِر
وَكَذَا قُلْنَا إِن الْحيض لَا يمْنَع وجوب قَضَاء الصَّوْم وَيمْنَع وجوب قَضَاء الصَّلَاة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وجوب قَضَاء صَوْم عشرَة أَيَّام فِي سنة حرج وَفِي قَضَاء عشرَة أَيَّام كل يَوْم خمس صلوَات فِي شهر وَاحِد حرج فَافْتَرقَا
وَلَو كَانَ مفيقا فَنوى الصَّوْم من اللَّيْل ثمَّ جن فَإِنَّهُ يجوز صَوْمه ذَلِك الْيَوْم لِأَنَّهُ وجد مِنْهُ النِّيَّة من اللَّيْل فَصَارَ كوجودها فِي النَّهَار
وَلَا يجوز صَوْمه الْيَوْم الثَّانِي وَإِن أمسك لِأَنَّهُ لم يُوجد مِنْهُ النِّيَّة لِأَن الْمَجْنُون لَيْسَ من أهل النِّيَّة
فَأَما الْبلُوغ فَشرط الْوُجُوب وَلَيْسَ بِشَرْط الْأَدَاء
وعَلى هَذَا لَا يجب الصَّوْم على الصَّبِي لِأَن فِي وجوب الْقَضَاء عَلَيْهِ وَمُدَّة الصِّبَا مُدَّة طَوِيلَة إِيقَاعه فِي الْحَرج
وَإِذا كَانَ عَاقِلا يَصح مِنْهُ الصَّوْم لِأَنَّهُ من أهل النِّيَّة وَالِاخْتِيَار حَتَّى صَحَّ مِنْهُ الْإِسْلَام لَكِن لَا يجب عَلَيْهِ الصَّوْم لِأَن الشَّرْع أسقط حُقُوقه عَنهُ نظرا لَهُ لقُصُور عقله
وَأما ركن الصَّوْم فَهُوَ الْإِمْسَاك عَن الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع قَالَ الله تَعَالَى {فَالْآن باشروهن وابتغوا مَا كتب الله لكم وكلوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود من الْفجْر ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} أَبَاحَ هَذِه الْجُمْلَة فِي اللَّيَالِي ثمَّ أَمر بالإمساك عَن هَذِه الْجُمْلَة فِي النَّهَار فَمَتَى وجد الرُّكْن مَعَ وجود مَا ذكرنَا من الشَّرَائِط من الْأَهْلِيَّة وَالْوَقْت وَغير ذَلِك يكون صوما شَرْعِيًّا فَيجب عَلَيْهِ عبَادَة الله تَعَالَى
إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول من شرع فِي الصَّوْم فِي وقته وَنوى الْإِمْسَاك لله تَعَالَى انْعَقَد فعله صوما شَرْعِيًّا فَيجب عَلَيْهِ الْإِتْمَام وَيحرم عَلَيْهِ الْإِفْطَار سَوَاء كَانَ فِي صَوْم الْفَرْض أَو فِي التَّطَوُّع لِأَنَّهُ إبِْطَال الْعَمَل لله تَعَالَى وَأَنه مَنْهِيّ عَنهُ لقَوْله تَعَالَى {وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم}
وَعند الشَّافِعِي فِي صَوْم التَّطَوُّع لَا يجب عَلَيْهِ الْإِتْمَام لِأَنَّهُ غير مُقَدّر عِنْده فَيكون مَا أدّى عبَادَة بِنَفسِهِ
فَأَما إِذا شرع فِي الصَّوْم على ظن أَنه عَلَيْهِ ثمَّ تبين أَنه لَيْسَ عَلَيْهِ فَالْأَفْضَل لَهُ أَن يمْضِي فِيهِ وَلَا يفْطر وَلَو أفطر لَا قَضَاء عَلَيْهِ وَهَذَا عندنَا
وعَلى قَول زفر يجب عَلَيْهِ الْمُضِيّ وَالْقَضَاء إِذا أفْسدهُ
وَفِي الْحَج يلْزمه بِالشُّرُوعِ تَطَوّعا سَوَاء كَانَ مَعْلُوما أَو مظنونا وَالْفرق بَينهمَا أَن الظَّن فِي بَاب الْحَج نَادِر وَفِي بَاب الصَّوْم وَالصَّلَاة لَيْسَ بنادر فَكَانَ فِي إِيجَاب الْمَعْنى وَالْقَضَاء حرج لِكَثْرَة وجوده هَهُنَا بِخِلَاف الْحَج
وَإِذا ثَبت أَن ركن الصَّوْم مَا ذكرنَا ففواته وفساده بِوُجُود ضِدّه وَهُوَ الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع لِأَنَّهُ لَا بَقَاء للشَّيْء مَعَ ضِدّه
وَهَذَا هُوَ الْقيَاس الْمَحْض وَلِهَذَا إِن من أكل أَو شرب أَو جَامع نَاسِيا لصومه فَإِنَّهُ يفْسد صَوْمه قِيَاسا وَهُوَ قَول مَالك
وَعَامة الْعلمَاء قَالُوا لَا يفْسد اسْتِحْسَانًا للأثر الْمَعْرُوف فِي بَاب النَّاس تمّ على صومك فَإِنَّمَا أطعمك الله وسقاك
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة لَوْلَا قَول النَّاس لَقلت يقْضِي ذكر ذَلِك فِي الْجَامِع الصَّغِير أَي لَوْلَا قَول النَّاس إِنَّه خَالف الْأَثر لَقلت يقْضِي
وَبَعض السّلف فرق بَين الْأكل وَالشرب وَبَين الْجِمَاع نَاسِيا وَقَالَ يفْسد صَوْمه فِي الْجِمَاع لِأَن الحَدِيث ورد فِي الْأكل وَالشرب دون الْجِمَاع
وَالصَّحِيح أَنه لَا فرق بَينهمَا لِأَن الحَدِيث مَعْلُول بِمَعْنى يَقْتَضِي التَّسْوِيَة بَينهمَا وَهُوَ أَنه فعل سماوي غير مُضَاف إِلَيْهِ حَيْثُ قَالَ
فَإِنَّمَا أطعمك الله وسقاك فَكَانَ وجوده كَعَدَمِهِ
وَلَو دخل الذُّبَاب حلقه وَهُوَ ذَاكر لصومه لَا يفْسد لِأَنَّهُ مغلوب فِيهِ فَيكون بِمَعْنى النَّاسِي
وَكَذَلِكَ لَو نظر إِلَى فرج امْرَأَة شَهْوَة فأمنى أَو تفكر فأمنى لَا يفْسد صَوْمه لِأَنَّهُ حصل الْإِنْزَال لَا بصنعه فَلَا يكون شَبيه الْجِمَاع لَا صُورَة وَلَا معنى
وَكَذَلِكَ لَو دخل الْغُبَار أَو دخل الدُّخان أَو الرَّائِحَة فِي حلقه لِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ الِامْتِنَاع عَنهُ فَيكون فِي معنى النَّاس
وَكَذَلِكَ لَو بَقِي بَلل بعد الْمَضْمَضَة وابتلعه مَعَ البزاق أَو ابتلع البزاق الَّذِي اجْتمع فِي فِيهِ لَا يفْسد صَوْمه لما قُلْنَا
وَلَو بَقِي بَين أَسْنَانه شَيْء فابتلعه ذكر فِي الْجَامِع الصَّغِير وَقَالَ لَا يفْسد صَوْمه وَلم يقدره بِشَيْء
وَعَن أبي يُوسُف أَن الصَّائِم إِذا كَانَ بَين أَسْنَانه لحم فابتلعه مُتَعَمدا فَعَلَيهِ الْقَضَاء دون الْكَفَّارَة
وَعَن بن أبي مَالك مَا هُوَ توفيق بَين الرِّوَايَتَيْنِ قَالَ إِن كَانَ مِقْدَار الحمصة أَو أَكثر فَإِنَّهُ يفْسد صَوْمه
وَلَو أكله مُتَعَمدا فَعَلَيهِ الْقَضَاء وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَة وَإِن كَانَ أقل من ذَلِك لَا يفْسد صَوْمه لِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ الِاحْتِرَاز عَنهُ كالريق
وَقَالَ زفر يلْزمه الْكَفَّارَة لِأَنَّهُ من جنس مَا يتَعَلَّق بِهِ الْكَفَّارَة إِلَّا أَنه متغير فَصَارَ كَاللَّحْمِ المنتن
وَالصَّحِيح قَوْلنَا إِنَّه لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غير مَقْصُود بِالْأَكْلِ فَصَارَ
شُبْهَة كَمَا إِذا أكل الطين
وَلَو أكره على الْإِفْطَار فَأكل يفْسد صَوْمه لِأَنَّهُ وجد مَا يضاده وَهَذَا لَيْسَ بنظير النَّاسِي لِأَن الْإِكْرَاه على الْإِفْطَار لَيْسَ بغالب فَلَا يكون فِي وجوب الْقَضَاء حرج
فَأَما إِذا أوجد فِي حَلقَة وَهُوَ مَكْرُوه ذَاكر للصَّوْم يفْسد صَوْمه عندنَا وَعند الشَّافِعِي لَا يفْسد صَوْمه لِأَنَّهُ أعذر من النَّاسِي
وَلَكنَّا نقُول إِن هَذَا نَادِر وَلَيْسَ بغالب
وَكَذَلِكَ الصَّائِم إِذا فتح فَاه وَرفع رَأسه إِلَى السَّمَاء فَوَقع قَطْرَة من الْمَطَر فِي حلقه يفْسد صَوْمه لِأَنَّهُ نَادِر
وَكَذَلِكَ إِذا وجد فِي حلق النَّائِم يفْسد صَوْمه لِأَنَّهُ نَادِر
وَكَذَلِكَ لَو جومعت النائمة أَو الْمَجْنُون يفْسد صَومهَا بِخِلَاف الناسية وَالنَّاسِي لِأَن هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُمَا لِأَنَّهُ لَا يكثر وجوده خُصُوصا فِي حَالَة الصَّوْم
وَلَو تمضمض فوصل المَاء إِلَى حلقه فَإِن لم يكن ذَاكِرًا للصَّوْم لَا يفْسد صَوْمه لِأَنَّهُ فِي معنى النَّاسِي وَإِن كَانَ ذَاكِرًا لصومه يفْسد صَوْمه عندنَا
وَعند الشَّافِعِي لَا يفْسد لِأَنَّهُ خاطىء والخاطىء مَعْذُور كالناسي
وَنحن نقُول بِأَنَّهُ لَيْسَ كالناسي لِأَنَّهُ يُمكنهُ أَن لَا يُبَالغ فِي الْمَضْمَضَة فَلَا يعْذر
ثمَّ اعْلَم أَن فَسَاد الصَّوْم يتَعَلَّق بِهِ أَحْكَام من وجوب الْقَضَاء وَوُجُوب الْكَفَّارَة وَوُجُوب إمْسَاك بَقِيَّة الْيَوْم وَنَحْوهَا
أما وجوب الْقَضَاء فَيتَعَلَّق بِمُطلق الْإِفْسَاد سَوَاء كَانَ بِعُذْر أَو بِغَيْر عذر وجد الْإِفْسَاد من حَيْثُ الصُّورَة أَو من حَيْثُ الْمَعْنى فِيهِ شُبْهَة الْإِبَاحَة أَو حرَام من كل وَجه وَذَلِكَ بوصول شَيْء من الْخَارِج إِلَى الْجوف
بَيَانه أَن من أكل حَصَاة أَو نواة أَو تُرَابا يفْسد صَوْمه وَعَلِيهِ الْقَضَاء لوُجُود الْأكل صُورَة لَا من حَيْثُ الْمَعْنى فَإِنَّهُ لم يحصل بِهِ قوام الْبدن وَدفع الْجُوع والعطش
وَكَذَلِكَ لَو طعن بِرُمْح وَوَقع الرمْح فِيهِ يفْسد صَوْمه لدُخُول شَيْء من الْخَارِج إِلَى الْجوف فَوجدَ الْأكل صُورَة وَلَا معنى
فَأَما إِذا طعن بِرُمْح ثمَّ أخرجه من سَاعَته لَا يفْسد صَوْمه لِأَنَّهُ لم يسْتَقرّ فِي مَحل الطَّعَام
وَلِهَذَا قَالُوا إِن من ابتلع لَحْمًا مربوطا على خيط ثمَّ انتزع من سَاعَته لَا يفْسد صَوْمه لِأَنَّهُ لم يسْتَقرّ فِي مَحَله حَتَّى يعْمل عمله فِي دفع الْجُوع
وَلَو وصل إِلَى جَوف الرَّأْس بالإقطار فِي الْأذن أَو السعوط أَو إِلَى الْبَطن بالاحتقان يفْسد صَوْمه لِأَنَّهُ يصل إِلَى جَوْفه بالحقنة وَكَذَا بالسعوط والإقطار فِي الْأذن لِأَن جَوف الرَّأْس لَهُ منفذ إِلَى الْبَطن
وَأما فِي الإقطار من الإحليل فَلَا يفْسد الصَّوْم عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا يفْسد وَهَذَا لَيْسَ بِخِلَاف من حَيْثُ الْحَقِيقَة لِأَنَّهُ لَو وصل إِلَى الْجوف يفْسد بِالْإِجْمَاع وَلَو لم يصل لَا يفْسد بِالْإِجْمَاع إِلَّا أَنَّهُمَا أخذا بِالظَّاهِرِ فَإِن الْبَوْل يخرج مِنْهُ فَيكون لَهُ منفذ وَأَبُو حنيفَة يَقُول لَيْسَ لَهُ منفذ وَإِنَّمَا الْبَوْل يترشح مِنْهُ كَمَا يترشح المَاء من الْكوز الْجَدِيد وَالْبَوْل
يدْفع مَا أقطر فِي الإحليل من الترشح إِلَى الْجوف
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة مثل قَوْلهمَا
وَهُوَ الصَّحِيح
وَأما الْجَائِفَة وَالْأمة إِذا داووهما فَإِن كَانَ الدَّوَاء يَابسا فَلَا يفْسد لِأَنَّهُ لَا يصل إِلَى الْجوف
وَأما إِذا كَانَ رطبا فَيفْسد عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا لَا يفْسد
فَأَبُو حنيفَة اعْتبر ظَاهر الْوُصُول بوصول المغذي إِلَى الْجوف حَقِيقَة
وهما يعتبران الْوُصُول بالمخارق الْأَصْلِيّ لَا غير ويقولان فِي الْمخَارِق الْأَصْلِيَّة يتَيَقَّن الْوُصُول فَأَما فِي الْمخَارِق الْعَارِض فَيحْتَمل الْوُصُول إِلَى الْجوف وَيحْتَمل الْوُصُول إِلَى مَوضِع آخر لَا إِلَى مَحل الْغذَاء والدواء فَلَا يفْسد الصَّوْم مَعَ الشَّك وَالِاحْتِمَال وَأَبُو حنيفَة يَقُول الْوُصُول إِلَى الْجوف ثَابت ظَاهرا فَكفى لوُجُوب الْقَضَاء احْتِيَاطًا
وعَلى هَذَا إِذا ذرعه الْقَيْء بِغَيْر فعله لَا يفْسد صَوْمه وَإِن كَانَ ملْء الْفَم لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام ثَلَاث لَا يفطرن الصَّائِم الْقَيْء والحجامة والاحتلام
وَإِن عَاد شَيْء من الْقَيْء إِلَى جَوْفه
فَإِن كَانَ أقل من ملْء الْفَم لَا يفْسد صَوْمه بِالْإِجْمَاع
وَإِن كَانَ ملْء الْفَم ذكر الْقَدُورِيّ أَن على قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد يفْسد صَوْمه وعَلى قَول أبي يُوسُف لَا يفْسد
وَقَالَ بعض مَشَايِخنَا فِي هَذَا الْفَصْل على قَول أبي يُوسُف لَا يفْسد
وعَلى قَول مُحَمَّد لَا يفْسد وَلم يذكر قَول أبي حنيفَة
وَمَا ذكره الْقَدُورِيّ أثبت
فَأَما إِذا أَعَادَهُ فَإِن كَانَ ملْء الْفَم يفْسد صَوْمه بِالْإِجْمَاع
فَأَما إِذا كَانَ أقل من ملْء الْفَم فَعَن أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف رِوَايَتَانِ
وَقَالَ مُحَمَّد ينْقض صَوْمه
فَأَما إِذا استقاء عمدا وَأخرج بصنعه فَإِن كَانَ ملْء الْفَم ينْتَقض صَوْمه بِالْإِجْمَاع
وَإِن كَانَ أقل من ملْء الْفَم ذكر فِي ظَاهر الرِّوَايَة وَقَالَ إِذا تقيأ عمدا يفْسد صَوْمه وَلم يفصل بَين الْقَلِيل وَالْكثير
وَذكر الْكَرْخِي هَهُنَا أَنه إِذا تقيأ عمدا وَهُوَ أقل من ملْء الْفَم فطره وَهُوَ قَول مُحَمَّد
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة إِن كَانَ ملْء الْفَم يفطره وَإِن كَانَ مَا دونه لَا يفطره
وَهَكَذَا رُوِيَ عَن أبي يُوسُف
فَأَما إِذا عَاد أَو أعَاد فعلى قَول مُحَمَّد لَا يَجِيء هَذَا التَّفْصِيل لِأَن الصَّوْم عِنْده فسد بِنَفس الاستقساء
وعَلى قَول أبي يُوسُف إِن عَاد لَا يفْسد وَفِي الْإِعَادَة عَنهُ رِوَايَتَانِ
وَهَذَا كُله إِذا كَانَ ذَاكِرًا للصَّوْم
وَإِن لم يكن ذَاكِرًا لَا يفْسد صَوْمه كالناسي
وَلَو جَامع امْرَأَته فِيمَا دون الْفرج فَأنْزل يفْسد صَوْمه لوُجُود
الْجِمَاع من حَيْثُ الْمَعْنى دون الصُّورَة
وَلَو بَاشَرَهَا وَأنزل يفْسد أَيْضا لوُجُود اقْتِضَاء الشَّهْوَة بِفِعْلِهِ
وَكَذَلِكَ لَو استمنى بالكف فَأنْزل فَإِنَّهُ يفْسد لِأَنَّهُ اقْتضى شَهْوَته بِفِعْلِهِ
وَلَو جَامع الْبَهِيمَة فَأنْزل يفْسد صَوْمه وَلَا يلْزمه الْكَفَّارَة لِأَنَّهُ وجد الْجِمَاع من حَيْثُ الصُّورَة وَالْمعْنَى وعَلى وَجه الْقُصُور لسعة الْمحل فَلَا يكون نظيرا للجماع فِي قبل الْمَرْأَة
وَلَو أولج فِي البهيم وَلم ينزل لَا يفْسد بِخِلَاف الْإِيلَاج فِي الْآدَمِيّ وَقيل يفْسد كَمَا فِي الْإِيلَاج فِي الْآدَمِيّ
وَكَذَلِكَ الْإِفْطَار إِذا كَانَ بِعُذْر يُوجب الْقَضَاء
والأعذار الَّتِي تبيح الْإِفْطَار للصَّائِم سِتَّة السّفر وَالْمَرَض الَّذِي يزْدَاد بِالصَّوْمِ أَو يقْضِي إِلَى الْهَلَاك وحبل الْمَرْأَة وإرضاعها إِذا أضرّ بهَا أَو بِوَلَدِهَا والعطاش الشَّديد والجوع الَّذِي يخَاف مِنْهُ الْهَلَاك
وَالشَّيْخ الفاني إِذا كَانَ لَا يقدر على الصَّوْم
وَأَصله قَوْله تَعَالَى {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر}
ثمَّ السّفر الْمُبِيح للفطر هُوَ السّفر الْمُبِيح للقصر وَهُوَ مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام ولياليها سير الْإِبِل ومشي الْأَقْدَام
وَيَسْتَوِي الْجَواب بَين أَن يُسَافر قبل رَمَضَان وَبَين أَن يُسَافر بعد دُخُول رَمَضَان
سَافر بَعْدَمَا أهل فِي الْحَضَر هِلَال رَمَضَان
وَالصَّحِيح قَول عَامَّة الصَّحَابَة وَعَامة الْعلمَاء لِأَن النَّص مُطلق وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أَو على سفر} وَكَذَلِكَ الدَّاعِي إِلَى الرُّخْصَة وَهُوَ الْمَشَقَّة عَام شَامِل
وَرُوِيَ عَن عَليّ وَعبد الله بن عَبَّاس أَنَّهُمَا كَانَا لَا يبيحان الْفطر إِذا للحالين جَمِيعًا
وَلَكِن الصَّوْم فِي رَمَضَان جَائِز فِي السّفر عِنْد عَامَّة الْعلمَاء وَهُوَ مُخْتَلف بَين الصَّحَابَة عِنْد بَعضهم يجوز وَعند بَعضهم لَا يجوز وَالْإِجْمَاع الْمُتَأَخر يرفع الْخلاف الْمُتَقَدّم
وَاخْتلفُوا فِي أَن الصَّوْم أفضل أم الْإِفْطَار فعندنا الصَّوْم أفضل لِأَنَّهُ عَزِيمَة والإفطار رخصَة إِذا لم يلْحقهُ مشقة
وَعند الشَّافِعِي الْفطر أفضل لِأَنَّهُ عَزِيمَة وَالصَّوْم رخصَة عِنْده
وَرُوِيَ عَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان وَعُرْوَة بن الزبير وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُم مثل مَذْهَبنَا
وَعَن ابْن عَبَّاس مثل مذْهبه
وَالصَّحِيح مَذْهَبنَا لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ من كَانَت لَهُ حمولة يأوي إِلَى شبع فليصم رَمَضَان حَيْثُ أدْركهُ
وَمن أفطر لشَيْء من الْعذر ثمَّ زَالَ الْعذر فَعَلَيهِ الْقَضَاء بِعَدَد الْأَيَّام الَّتِي يَزُول عَنهُ الْعذر فِيهَا
وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاء مَا لم يزل الْعذر عَنهُ فِيهَا حَتَّى إِن الْمُسَافِر إِذا مَاتَ فِي السّفر وَالْمَرِيض قبل الْبُرْء لَا يجب عَلَيْهِمَا الْقَضَاء لِأَن الْعَاجِز لَا يُكَلف وَإِن أدْركَا بِعَدَد مَا فاتهما يلْزمهُمَا الْقَضَاء وَإِذا مَاتَا قبل الْقَضَاء يجب عَلَيْهِمَا الْفِدْيَة
والفدية أَن يطعم لكل يَوْم مِسْكينا بِقدر مَا يجب فِي صَدَقَة الْفطر
لَكِن إِن أوصى يُؤَدِّي الْوَصِيّ من ثلث مَاله وَإِن لم يوص وتبرع الْوَرَثَة جَازَ وَإِن لم يتبرعوا لَا يلْزمهُم الْأَدَاء بل يسْقط فِي حكم الدُّنْيَا
وَهَذَا عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ لما ذكرنَا من الزَّكَاة إِذا مَاتَ من عَلَيْهِ الزَّكَاة من غير وَصِيَّة بِالْأَدَاءِ
وَأما إِذا صَحَّ الْمَرِيض أَيَّامًا ثمَّ مَاتَ يلْزمه الْقَضَاء بِعَدَد مَا صَحَّ وَلَا يلْزمه قَضَاء جَمِيع مَا فَاتَهُ فِي قَول أَصْحَابنَا جَمِيعًا
وَذكر الطَّحَاوِيّ هَذِه الْمَسْأَلَة على الِاخْتِلَاف فَقَالَ عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف يلْزمه قَضَاء الْجَمِيع إِذا صَحَّ يَوْمًا وَاحِدًا
وَقَالَ مُحَمَّد يلْزمه بِقدر مَا أدْرك
وَهَذَا غلط وَإِنَّمَا نقل الطَّحَاوِيّ جَوَاب
اعْلَم أَن الصَّوْم نَوْعَانِ لغَوِيّ وشرعي فاللغوي هُوَ الْإِمْسَاك عَن أَي شَيْء كَانَ من الْكَلَام وَالطَّعَام وَالشرَاب وَالْجِمَاع والعلف وَغَيرهَا قَالَ الله تَعَالَى {إِنِّي نذرت للرحمن صوما} أَي صمتا وَقَالَ النَّابِغَة خيل صِيَام وخيل غير صَائِمَة تَحت العجاج وَأُخْرَى تعلك اللجما وَالصَّوْم الشَّرْعِيّ هُوَ الْإِمْسَاك عَن الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع قَالَ الله تَعَالَى {فَالْآن باشروهن وابتغوا} إِلَى أَن قَالَ {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} أَمْسكُوا عَن هَذِه الْأَشْيَاء
ثمَّ الصَّوْم الشَّرْعِيّ أَرْبَعَة عشر نوعا ثَمَانِيَة مِنْهَا مَذْكُورَة فِي كتاب الله تَعَالَى أَرْبَعَة مِنْهَا متتابعة وَهِي صَوْم رَمَضَان وَصَوْم كَفَّارَة الظِّهَار وَصَوْم كَفَّارَة الْقَتْل وَصَوْم كَفَّارَة الْيَمين وَأَرْبَعَة مِنْهَا صَاحبهَا بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ تَابع وَإِن شَاءَ فرق وَهِي قَضَاء صَوْم رَمَضَان وَصَوْم الْمُتْعَة وَصَوْم جَزَاء الصَّيْد وَصَوْم كَفَّارَة الْحلق
وَسِتَّة مَذْكُورَة فِي السّنة وَهِي صَوْم كَفَّارَة الْفطر فِي شهر رَمَضَان
عمدا وَصَوْم النّذر وَصَوْم التَّطَوُّع وَالصَّوْم الْوَاجِب بِالْيَمِينِ بقول الرجل وَالله لأصومن شهرا وَصَوْم الِاعْتِكَاف وَصَوْم قَضَاء التَّطَوُّع بالإفطار
وَهَذَا قَول عَامَّة الْعلمَاء
وَقد خَالف الشَّافِعِي فِي هَذِه الْجُمْلَة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع أَحدهَا قَالَ إِن صَوْم كَفَّارَة الْيَمين لَيْسَ بمتتابع
وَالثَّانِي قَالَ إِن صَوْم الِاعْتِكَاف لَيْسَ بِوَاجِب
وَالثَّالِث قَالَ لَا يجب قَضَاء صَوْم التَّطَوُّع
ثمَّ للصَّوْم أَرْكَان وشروط وَسنَن وآداب
فنبدأ بِالشُّرُوطِ فَنَقُول للصَّوْم شُرُوط بَعْضهَا للْوُجُوب وَبَعضهَا شَرط صِحَة الْأَدَاء
فَمِنْهَا الْوَقْت وَهُوَ شَرط الْوُجُوب فِي حق الصَّوْم الْوَاجِب وَشرط الْأَدَاء فِي حق الصيامات كلهَا
وَهُوَ الْيَوْم من وَقت طُلُوع الْفجْر إِلَى وَقت غرُوب الشَّمْس قَالَ الله تَعَالَى {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل}
ثمَّ الصَّوْم نَوْعَانِ فرض وتطوع
فوقت التَّطَوُّع هُوَ الْأَيَّام كلهَا لَكِن الصَّوْم فِي بعض الْأَيَّام مَكْرُوه وَفِي بَعْضهَا مُسْتَحبّ وَفِي بَعْضهَا سنة حَتَّى لَو صَامَ فِي الْأَيَّام الْمنْهِي عَنْهَا فَإِنَّهُ يَقع جَائِزا حَتَّى لَا يجب عَلَيْهِ الْقَضَاء
أما الصَّوْم الْمَكْرُوه فأنواع
مِنْهَا صَوْم سِتَّة أَيَّام فِي كل سنة صَوْم يَوْم النَّحْر وَصَوْم أَيَّام التَّشْرِيق وَيَوْم الْفطر وَيَوْم الشَّك بنية رَمَضَان أَو بنية مترددة بِأَن نوى الصَّوْم عَن رَمَضَان إِن كَانَ من رَمَضَان وَإِن لم يكن فَعَن التَّطَوُّع وَهَذَا مَكْرُوه قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام من صَامَ يَوْم الشَّك فقد عصى أَبَا الْقَاسِم وَقد قَامَ الدَّلِيل على أَن الصَّوْم فِيهِ عَن وَاجِب آخر أَو عَن التَّطَوُّع مُطلقًا لَا يكره ثَبت أَن الْمَكْرُوه مَا قُلْنَا
وَإِنَّمَا لَا يكره عَن مُطلق التَّطَوُّع على وَجه لَا يعلم الْعَوام ذَلِك كَيْلا يعتادوا الصَّوْم فِيهِ فيظنه الْجُهَّال زِيَادَة على رَمَضَان
وَكَذَا صَوْم الصمت مَكْرُوه فِي الْأَوْقَات كلهَا بِأَن يَصُوم ويمسك عَن الْكَلَام وَالطَّعَام جَمِيعًا لِأَن هَذَا تشبه بالمجوس فَإِنَّهُم يَفْعَلُونَ هَكَذَا
وَكَذَا صَوْم يَوْم السبت مُفردا مَكْرُوه لِأَن هَذَا تشبه باليهود
وَكَذَا صَوْم يَوْم عَاشُورَاء مُفردا مَكْرُوه عِنْد بعض أَصْحَابنَا لِأَنَّهُ تشبه باليهود
وَأما صَوْم يَوْم عَرَفَة فِي حق الْحَاج فَإِن كَانَ يُضعفهُ عَن الْوُقُوف بِعَرَفَة ويخل بالدعوات فَإِن الْمُسْتَحبّ لَهُ أَن يتْرك الصَّوْم لِأَن صَوْم يَوْم عَرَفَة يُوجد فِي غير هَذِه السّنة فَأَما الْوُقُوف بِعَرَفَة فَيكون فِي حق عَامَّة النَّاس فِي سنة وَاحِدَة وَأما إِذا كَانَ لَا يُخَالف الضعْف فَلَا بَأْس بِهِ
وَأما فِي حق غير الْحَاج فَهُوَ مُسْتَحبّ لِأَن لَهُ فَضِيلَة على عَامَّة الْأَيَّام
وَالصَّوْم قبل رَمَضَان بِيَوْم وَيَمِين مَكْرُوه أَي صَوْم كَانَ لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا تتقدموا الشَّهْر بِصَوْم يَوْم وَلَا بِصَوْم يَوْمَيْنِ إِلَّا أَن يُوَافق صوما كَانَ يَصُومهُ أحدكُم وَإِنَّمَا كره خوفًا من أَن يظنّ أَنه زِيَادَة على صَوْم رَمَضَان إِذا اعتادوا ذَلِك وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُف إِنَّه يكره أَن يُوصل
برمضان صَوْم شَوَّال سِتَّة أَيَّام تَطَوّعا وَرُوِيَ عَن مَالك أَنه قَالَ يكره ذَلِك وَمَا رَأَيْت أحدا من أهل الْعلم وَالْفِقْه يَصُوم ذَلِك وَلم يبلغنَا من السّلف وَكَانُوا يكْرهُونَ ذَلِك لما ذكرنَا
وَكَذَلِكَ يكره صَوْم الْوِصَال وَهُوَ أَن يصام فِي كل يَوْم دون ليلته وَهُوَ صَوْم الدَّهْر الَّذِي ورد النَّهْي عَنهُ لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا صِيَام لمن صَامَ الدَّهْر
وَمعنى الْكَرَاهَة أَنه يضعف عَن أَدَاء الْعِبَادَات وَعَن الْكسْب الَّذِي يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الْجُمْلَة وَلِهَذَا أَشَارَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لما نهى عَن صَوْم الْوِصَال فَقيل لَهُ إِنَّك تواصل فَقَالَ إِنِّي لست كأحدكم إِنِّي أَبيت عِنْد رَبِّي يطعمني ويسقيني
وَأما صَوْم يَوْم الِاثْنَيْنِ وَحده وَكَذَا صَوْم يَوْم الْخَمِيس وَحده وَكَذَا صَوْم يَوْم الْجُمُعَة وَحده فَإِنَّهُ لَا يكره وَقَالَ بَعضهم يكره لِأَنَّهُ خص هَذِه الْأَيَّام من بَين سائرها
وَعَامة الْعلمَاء قَالُوا بل هُوَ مُسْتَحبّ لِأَن لهَذِهِ الْأَيَّام فَضِيلَة فَكَانَ تعظيمها بِالصَّوْمِ مُسْتَحبا وَإِنَّمَا يكره إِذا كَانَ فِيهِ تشبه بِغَيْر أهل الْقبْلَة وَلم يُوجد فِي هَذِه الصيامات
وَأما صَوْم وإفطار يَوْم فَهُوَ مُسْتَحبّ على مَا رُوِيَ أَنه صَوْم دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يفْطر يَوْمًا ويصوم يَوْمًا
وَصَوْم الْأَيَّام الْبيض مُسْتَحبّ وَسنة لِكَثْرَة الْأَحَادِيث فِيهِ
وَأما صَوْم الْفَرْض فنوعان عين وَدين فالعين هُوَ صَوْم رَمَضَان
وَصَوْم الدّين هُوَ سَائِر الصيامات من قَضَاء رَمَضَان وَالْكَفَّارَات وَالنُّذُور الْمُطلقَة وَنَحْوهَا فسائر الْأَيَّام وَقت لَهَا سوى خَمْسَة أَيَّام يَوْم
النَّحْر وَأَيَّام التَّشْرِيق وَيَوْم الْفطر لِأَن صَوْم هَذِه الْأَيَّام نَاقص وَالْوَاجِب عَلَيْهِ صَوْم كَامِل فَلَا يتَأَدَّى بالناقص
وَصَوْم الْمُتْعَة لَا يجوز عندنَا فِي هَذِه الْأَيَّام
وَعند الشَّافِعِي يجوز فِي أَيَّام التَّشْرِيق دون يَوْم النَّحْر
وَالنّذر بِالصَّوْمِ فِي هَذِه الْأَيَّام جَائِز عندنَا خلافًا لزفَر وَالشَّافِعِيّ لِأَنَّهُ وَجب نَاقِصا فَيجوز أَن يتَأَدَّى نَاقِصا
وَلَو شرع فِي الصَّوْم فِي هَذِه الْأَيَّام فَفِي ظَاهر الرِّوَايَة لَا يلْزم بِالشُّرُوعِ
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف وَمُحَمّد أَنه يلْزم
وَالصَّحِيح ظَاهر الرِّوَايَة لِأَن صَاحب الْحق وَهُوَ الله تَعَالَى أمره بالإفطار بعد الشُّرُوع وَمن أتلف حق غَيره بِإِذْنِهِ لَا يجب عَلَيْهِ الضَّمَان
وَفِي الشُّرُوع فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة فِي الصَّلَاة عَن أبي حنيفَة رِوَايَتَانِ وأشهرهما أَنه يلْزمه الْقَضَاء بِخِلَاف الصَّوْم وَالْفرق مَعْرُوف
وَأما صَوْم رَمَضَان فوقته رَمَضَان
وَإِنَّمَا يعرف بِرُؤْيَة الْهلَال إِن كَانَت السَّمَاء مصحية
وَإِن كَانَت متغيمة فَإِنَّهُ يكمل شعْبَان ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثمَّ يَصُوم عَن رَمَضَان لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ صُومُوا لرُؤْيَته وأفطروا لرُؤْيَته فَإِن غم عَلَيْكُم فأكملوا شعْبَان ثَلَاثِينَ يَوْمًا ثمَّ صُومُوا
فَإِذا كَانَت السَّمَاء مصحية وَرَأى النَّاس الْهلَال فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِم الصَّوْم
وَأما إِذا رأى وَاحِد وَشهد عِنْد القَاضِي فَإِن القَاضِي لَا يقبل شَهَادَة
الْوَاحِد والاثنين مَا لم يدْخل فِي حد التَّوَاتُر بِأَن شهد جمَاعَة كَبِيرَة من محَال مُخْتَلفَة
هَذَا إِذا كَانَ الشُّهُود من الْمصر
وَإِن كَانُوا من خَارج الْمصر ذكر الطَّحَاوِيّ وَقَالَ يقبل خبر الْوَاحِد لِأَن الْمطَالع مُخْتَلفَة فِي حق الظُّهُور لصفاء الْهَوَاء فِي خَارج الْمصر
وَفِي ظَاهر الرِّوَايَة لم يفصل لِأَن الْمطَالع لَا تخْتَلف إِلَّا عِنْد الْمسَافَة الْبَعِيدَة الْفَاحِشَة
وَإِن كَانَت السَّمَاء متغيمة فَإِنَّهُ يقبل خبر الْوَاحِدَة الْعدْل ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى حرا كَانَ أَو عبدا محدودا فِي الْقَذْف أَو لَا بعد مَا تَابَ وَصَارَ عدلا لِأَن هَذَا من بَاب الْإِخْبَار دون الشَّهَادَة يلْزم الشَّاهِد الصَّوْم فيتعدى إِلَى غَيره لكنه من بَاب الدّين فَيشْتَرط فِيهِ الْعَدَالَة
وَلَو رد القَاضِي شَهَادَة الْوَاحِد لتهمة الْفسق إِذا كَانَت السَّمَاء متغيمة أَو لِتَفَرُّدِهِ إِذا كَانَت السَّمَاء مصحية وَإِن كَانَ عدلا فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ أَن يَصُوم ذَلِك الْيَوْم
وَلَو أفطر بِالْجِمَاعِ لَا يلْزمه الْكَفَّارَة عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما هِلَال شَوَّال فَلَا يقبل إِلَّا شَهَادَة رجلَيْنِ أَو رجل وَامْرَأَتَيْنِ لِأَن هَذَا من بَاب الشَّهَادَة لما فِيهِ من نفع للشَّاهِد وَهُوَ سُقُوط الصَّوْم عَنهُ
وَأما هِلَال ذِي الْحجَّة فقد قَالُوا يشْتَرط شَهَادَة رجلَيْنِ لِأَنَّهُ يتَعَلَّق بِهِ حكم شَرْعِي وَهُوَ وجوب الْأُضْحِية
وَالصَّحِيح أَنه يقبل فِيهِ شَهَادَة الْوَاحِد لِأَن هَذَا من بَاب الْخَبَر فَإِنَّهُ يلْزم الْمخبر ثمَّ يتَعَدَّى إِلَى غَيره
وَهَذَا إِذا كَانَت السَّمَاء متغيمة
فَإِن كَانَت مصحية فَلَا يقبل إِلَّا التَّوَاتُر كَمَا ذكرنَا فِي رَمَضَان
وَلَو رَأَوْا الْهلَال قبل الزَّوَال أَو بعده فَهُوَ لليلة الْمُسْتَقْبلَة عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد
وَقَالَ أَبُو يُوسُف إِذا كَانَ قبل الزَّوَال أَو بعده إِلَى وَقت الْمصر فَهُوَ لليلة الْمَاضِيَة أما إِذا كَانَ بعد الْعَصْر فَهُوَ لليلة الْمُسْتَقْبلَة بِلَا خلاف
وَفِيه خلاف بَين الصَّحَابَة فقد رُوِيَ عَن عمروابن مَسْعُود وَأنس مثل قَوْلهمَا وَرُوِيَ عَن عمر فِي رِوَايَة أُخْرَى وَهُوَ قَول عَليّ وَعَائِشَة مثل قَول أبي يُوسُف
وَمن الشُّرُوط النِّيَّة وَهِي شَرط صِحَة الْأَدَاء لِأَن الصَّوْم عبَادَة فَلَا تصح بِدُونِهِ النِّيَّة ثمَّ الْكَلَام فِي كَيْفيَّة النِّيَّة وَفِي وَقت النِّيَّة
أما كَيْفيَّة النِّيَّة فَينْظر إِن كَانَ الصَّوْم عينا يَكْفِيهِ نِيَّة مُطلق الصَّوْم حَتَّى لَو صَامَ رَمَضَان بنية مُطلق الصَّوْم يَقع على رَمَضَان
وَكَذَا فِي صَوْم التَّطَوُّع إِذا صَامَ مُطلقًا خَارج رَمَضَان يَقع عَن النَّفْل لِأَن الْوَقْت مُتَعَيّن للنفل شرعا
وَكَذَا فِي النّذر إِذا كَانَ الْوَقْت معينا بِأَن نذر صَوْم شهر رَجَب وَنَحْوه إِذا صَامَ مُطلقًا فِيهِ يَقع عَن الْمَنْذُور
وَهَذَا عندنَا
وعندالشافعي صَوْم الْفَرْض وَالْوَاجِب لَا يَصح بِدُونِ نِيَّة الْفَرْض وَالْوَاجِب وَأما التَّطَوُّع فَيصح بِمُطلق النِّيَّة
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن مُطلق النِّيَّة كَاف لصيرورة الْعَمَل لله تَعَالَى وَإِنَّمَا يعْتَبر الْوَصْف لتعيين الْوَقْت لذَلِك الصَّوْم فَإِذا كَانَ الْوَقْت مُتَعَيّنا فَلَا حَاجَة إِلَى التَّعْيِين
وَأما إِذا صَامَ بنية التَّطَوُّع فِي رَمَضَان أَو فِي النّذر الَّذِي تعين وقته فَإِنَّهُ يَقع عَن الْفَرْض وتلغو نِيَّة التَّطَوُّع عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ لِأَن الْوَقْت قَابل لأصل الصَّوْم غير قَابل لوصفه فبطلت نِيَّة الْوَصْف وَتعْتَبر نِيَّة الأَصْل وَهِي كَافِيَة لصيرورة الْعَمَل لله تَعَالَى
وَلَو صَامَ بنية وَاجِب آخر من الْقَضَاء والنذورة وَالْكَفَّارَات فِي رَمَضَان يَقع عَن رَمَضَان أَيْضا عندنَا خلافًا لَهُ
وَلَو كَانَ ذَلِك فِي النّذر الْمعِين يَقع عَمَّا نوى لِأَن صَوْم رَمَضَان تعين بِتَعْيِين الشَّرْع فَظهر التَّعْيِين مُطلقًا لكَمَال الْولَايَة فَظهر فِي حق نسخ سَائِر الصيامات وَأما فِي النّذر فقد تعين بِولَايَة قَاصِرَة فَيظْهر تَعْيِينه فِي حَقه وَهُوَ صَوْم التَّطَوُّع وَلَا يظْهر فِي الْوَاجِبَات الَّتِي هِيَ حق الله تَعَالَى فِي هَذِه الْأَوْقَات فَبَقيت الْأَوْقَات محلا لَهَا
هَذَا الَّذِي ذكرنَا فِي حق الْمُقِيم
فَأَما فِي حق الْمُسَافِر فَإِن صَامَ مُطلقًا يَقع عَن رَمَضَان
وَإِن صَامَ بنية وَاجِب آخر يَقع عَمَّا نوى عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا يَقع عَن رَمَضَان وَإِن صَامَ بنية التَّطَوُّع فَعَن أبي حنيفَة رِوَايَتَانِ
وَأما الْمَرِيض فَإِذا صَامَ مُطلقًا يَقع عَن رَمَضَان وَإِذا صَامَ بنية التَّطَوُّع قَالَ مَشَايِخنَا بِأَنَّهُ يَقع عَن الْفَرْض بِخِلَاف الْمُسَافِر لِأَنَّهُ إِذا قدر على الصَّوْم صَار كَالصَّحِيحِ وَذكر الْكَرْخِي هَهُنَا وَسوى بَين الْمَرِيض وَالْمُسَافر
وَكَذَا رُوِيَ عَن أبي يُوسُف عَن أبي حنيفَة أَنه يَقع عَن التَّطَوُّع
وَأما صَوْم الدّين من الْقَضَاء وَالنُّذُور الْمُطلقَة وَالْكَفَّارَات إِذا نوى خَارج رَمَضَان مُطلقًا وَلم ينْو صَوْم الْقَضَاء أَو الْكَفَّارَة فَإِنَّهُ لَا يَقع عَنهُ لِأَن خَارج رَمَضَان مُتَعَيّن للنفل عِنْد بعض مَشَايِخنَا وَعند بَعضهم هُوَ وَقت الصيامات كلهَا على الْإِبْهَام وَإِنَّمَا يتَعَيَّن بِالتَّعْيِينِ فَكَانَت نِيَّة الْوَصْف لتعيين الْوَقْت لَا لتصير عبَادَة
وَأما وَقت النِّيَّة فَالْأَفْضَل أَن يَنْوِي من اللَّيْل أَو مُقَارنًا لطلوع الْفجْر فِي الصيامات كلهَا
فَأَما إِذا نوى بعد طُلُوع الْفجْر فَإِن كَانَ الصَّوْم دينا فَلَا يجوز بِالْإِجْمَاع وَإِن كَانَ الصَّوْم عينا فَيجوز عندنَا سَوَاء كَانَ فرضا أَو نذرا أَو تَطَوّعا
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يجوز إِلَّا فِي التَّطَوُّع
وَقَالَ مَالك لَا يجوز فِي التَّطَوُّع أَيْضا
وَلَو صَامَ بنية بعد الزَّوَال فِي التَّطَوُّع لَا يجوز عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ وَبَعض أَصْحَابه قَالُوا لَا يجوز
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَنَّهُ مَا وجد الْإِمْسَاك لله تَعَالَى فِي وَقت الْغَدَاء وَوقت الْغَدَاء من وَقت طُلُوع الْفجْر إِلَى وَقت الزَّوَال يخْتَلف باخْتلَاف أَحْوَال النَّاس وَالصَّوْم هُوَ الْإِمْسَاك عَن الْغَدَاء وَتَأْخِير الْعشَاء إِلَى اللَّيْل وَبعد الزَّوَال لَا يجوز لِأَنَّهُ لم يُوجد الْإِمْسَاك عَن الْغَدَاء لله تَعَالَى
فَأَما فِي صَوْم الدّين فَلَا يجوز لِأَنَّهُ إِذا لم ينْو من اللَّيْل تعين الْيَوْم وقتا للتطوع شرعا فَلَا يملك تَغْيِيره وَفِي اللَّيْل لم يتَعَيَّن فصح مِنْهُ تعْيين المحتلم بِالنِّيَّةِ فَهُوَ الْفرق بَينهمَا
وَمن الشُّرُوط الطَّهَارَة عَن الْحيض وَالنّفاس وَهُوَ شَرط صِحَة الْأَدَاء لَا شَرط الْوُجُوب فَإِن صَوْم رَمَضَان يجب
على الْحَائِض وَالنُّفَسَاء حَتَّى يجب الْقَضَاء عَلَيْهِمَا خَارج رَمَضَان لَكِن لَا يَصح الْأَدَاء لِأَن الطَّهَارَة عَن الْحيض وَالنّفاس شَرط صِحَة الصَّوْم كَمَا أَن الطَّهَارَة عَن جَمِيع الْأَحْدَاث شَرط صِحَة الصَّلَاة
عرفنَا ذَلِك بِإِجْمَاع الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم
وَأما الْإِسْلَام فَهُوَ شَرط وجوب الصَّوْم وَسَائِر الْعِبَادَات عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ
وَهُوَ شَرط صِحَة الْأَدَاء بِلَا خلاف
ولقب الْمَسْأَلَة أَن الْكفَّار غير مخاطبين بشرائع هِيَ عبادات عندنَا خلافًا لَهُ
وَأما الْعقل فَلَيْسَ بِشَرْط الْوُجُوب وَلَا بِشَرْط الْأَدَاء حَتَّى قُلْنَا إِن صَوْم رَمَضَان يجب على الْمَجْنُون فَإِنَّهُ إِذا جن فِي بعض الشَّهْر ثمَّ أَفَاق يلْزمه الْقَضَاء عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ
وَلَو استوعب الشَّهْر ثمَّ أَفَاق لَا يلْزمه الْقَضَاء لِأَن فِي وجوب الْقَضَاء عَلَيْهِ حرجا لِأَن الْجُنُون الطَّوِيل قَلما يَزُول فيضاعف عَلَيْهِ الْقَضَاء فيحرج
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِن الْإِغْمَاء
قل أَو كثر لَا يمْنَع وجوب الْقَضَاء وَكَذَا الْمَرَض لِأَن الِاسْتِغْرَاق فِي الْإِغْمَاء نَادِر
وَكَذَا قُلْنَا إِن الْحيض لَا يمْنَع وجوب قَضَاء الصَّوْم وَيمْنَع وجوب قَضَاء الصَّلَاة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وجوب قَضَاء صَوْم عشرَة أَيَّام فِي سنة حرج وَفِي قَضَاء عشرَة أَيَّام كل يَوْم خمس صلوَات فِي شهر وَاحِد حرج فَافْتَرقَا
وَلَو كَانَ مفيقا فَنوى الصَّوْم من اللَّيْل ثمَّ جن فَإِنَّهُ يجوز صَوْمه ذَلِك الْيَوْم لِأَنَّهُ وجد مِنْهُ النِّيَّة من اللَّيْل فَصَارَ كوجودها فِي النَّهَار
وَلَا يجوز صَوْمه الْيَوْم الثَّانِي وَإِن أمسك لِأَنَّهُ لم يُوجد مِنْهُ النِّيَّة لِأَن الْمَجْنُون لَيْسَ من أهل النِّيَّة
فَأَما الْبلُوغ فَشرط الْوُجُوب وَلَيْسَ بِشَرْط الْأَدَاء
وعَلى هَذَا لَا يجب الصَّوْم على الصَّبِي لِأَن فِي وجوب الْقَضَاء عَلَيْهِ وَمُدَّة الصِّبَا مُدَّة طَوِيلَة إِيقَاعه فِي الْحَرج
وَإِذا كَانَ عَاقِلا يَصح مِنْهُ الصَّوْم لِأَنَّهُ من أهل النِّيَّة وَالِاخْتِيَار حَتَّى صَحَّ مِنْهُ الْإِسْلَام لَكِن لَا يجب عَلَيْهِ الصَّوْم لِأَن الشَّرْع أسقط حُقُوقه عَنهُ نظرا لَهُ لقُصُور عقله
وَأما ركن الصَّوْم فَهُوَ الْإِمْسَاك عَن الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع قَالَ الله تَعَالَى {فَالْآن باشروهن وابتغوا مَا كتب الله لكم وكلوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يتَبَيَّن لكم الْخَيط الْأَبْيَض من الْخَيط الْأسود من الْفجْر ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} أَبَاحَ هَذِه الْجُمْلَة فِي اللَّيَالِي ثمَّ أَمر بالإمساك عَن هَذِه الْجُمْلَة فِي النَّهَار فَمَتَى وجد الرُّكْن مَعَ وجود مَا ذكرنَا من الشَّرَائِط من الْأَهْلِيَّة وَالْوَقْت وَغير ذَلِك يكون صوما شَرْعِيًّا فَيجب عَلَيْهِ عبَادَة الله تَعَالَى
إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول من شرع فِي الصَّوْم فِي وقته وَنوى الْإِمْسَاك لله تَعَالَى انْعَقَد فعله صوما شَرْعِيًّا فَيجب عَلَيْهِ الْإِتْمَام وَيحرم عَلَيْهِ الْإِفْطَار سَوَاء كَانَ فِي صَوْم الْفَرْض أَو فِي التَّطَوُّع لِأَنَّهُ إبِْطَال الْعَمَل لله تَعَالَى وَأَنه مَنْهِيّ عَنهُ لقَوْله تَعَالَى {وَلَا تُبْطِلُوا أَعمالكُم}
وَعند الشَّافِعِي فِي صَوْم التَّطَوُّع لَا يجب عَلَيْهِ الْإِتْمَام لِأَنَّهُ غير مُقَدّر عِنْده فَيكون مَا أدّى عبَادَة بِنَفسِهِ
فَأَما إِذا شرع فِي الصَّوْم على ظن أَنه عَلَيْهِ ثمَّ تبين أَنه لَيْسَ عَلَيْهِ فَالْأَفْضَل لَهُ أَن يمْضِي فِيهِ وَلَا يفْطر وَلَو أفطر لَا قَضَاء عَلَيْهِ وَهَذَا عندنَا
وعَلى قَول زفر يجب عَلَيْهِ الْمُضِيّ وَالْقَضَاء إِذا أفْسدهُ
وَفِي الْحَج يلْزمه بِالشُّرُوعِ تَطَوّعا سَوَاء كَانَ مَعْلُوما أَو مظنونا وَالْفرق بَينهمَا أَن الظَّن فِي بَاب الْحَج نَادِر وَفِي بَاب الصَّوْم وَالصَّلَاة لَيْسَ بنادر فَكَانَ فِي إِيجَاب الْمَعْنى وَالْقَضَاء حرج لِكَثْرَة وجوده هَهُنَا بِخِلَاف الْحَج
وَإِذا ثَبت أَن ركن الصَّوْم مَا ذكرنَا ففواته وفساده بِوُجُود ضِدّه وَهُوَ الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع لِأَنَّهُ لَا بَقَاء للشَّيْء مَعَ ضِدّه
وَهَذَا هُوَ الْقيَاس الْمَحْض وَلِهَذَا إِن من أكل أَو شرب أَو جَامع نَاسِيا لصومه فَإِنَّهُ يفْسد صَوْمه قِيَاسا وَهُوَ قَول مَالك
وَعَامة الْعلمَاء قَالُوا لَا يفْسد اسْتِحْسَانًا للأثر الْمَعْرُوف فِي بَاب النَّاس تمّ على صومك فَإِنَّمَا أطعمك الله وسقاك
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة لَوْلَا قَول النَّاس لَقلت يقْضِي ذكر ذَلِك فِي الْجَامِع الصَّغِير أَي لَوْلَا قَول النَّاس إِنَّه خَالف الْأَثر لَقلت يقْضِي
وَبَعض السّلف فرق بَين الْأكل وَالشرب وَبَين الْجِمَاع نَاسِيا وَقَالَ يفْسد صَوْمه فِي الْجِمَاع لِأَن الحَدِيث ورد فِي الْأكل وَالشرب دون الْجِمَاع
وَالصَّحِيح أَنه لَا فرق بَينهمَا لِأَن الحَدِيث مَعْلُول بِمَعْنى يَقْتَضِي التَّسْوِيَة بَينهمَا وَهُوَ أَنه فعل سماوي غير مُضَاف إِلَيْهِ حَيْثُ قَالَ
فَإِنَّمَا أطعمك الله وسقاك فَكَانَ وجوده كَعَدَمِهِ
وَلَو دخل الذُّبَاب حلقه وَهُوَ ذَاكر لصومه لَا يفْسد لِأَنَّهُ مغلوب فِيهِ فَيكون بِمَعْنى النَّاسِي
وَكَذَلِكَ لَو نظر إِلَى فرج امْرَأَة شَهْوَة فأمنى أَو تفكر فأمنى لَا يفْسد صَوْمه لِأَنَّهُ حصل الْإِنْزَال لَا بصنعه فَلَا يكون شَبيه الْجِمَاع لَا صُورَة وَلَا معنى
وَكَذَلِكَ لَو دخل الْغُبَار أَو دخل الدُّخان أَو الرَّائِحَة فِي حلقه لِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ الِامْتِنَاع عَنهُ فَيكون فِي معنى النَّاس
وَكَذَلِكَ لَو بَقِي بَلل بعد الْمَضْمَضَة وابتلعه مَعَ البزاق أَو ابتلع البزاق الَّذِي اجْتمع فِي فِيهِ لَا يفْسد صَوْمه لما قُلْنَا
وَلَو بَقِي بَين أَسْنَانه شَيْء فابتلعه ذكر فِي الْجَامِع الصَّغِير وَقَالَ لَا يفْسد صَوْمه وَلم يقدره بِشَيْء
وَعَن أبي يُوسُف أَن الصَّائِم إِذا كَانَ بَين أَسْنَانه لحم فابتلعه مُتَعَمدا فَعَلَيهِ الْقَضَاء دون الْكَفَّارَة
وَعَن بن أبي مَالك مَا هُوَ توفيق بَين الرِّوَايَتَيْنِ قَالَ إِن كَانَ مِقْدَار الحمصة أَو أَكثر فَإِنَّهُ يفْسد صَوْمه
وَلَو أكله مُتَعَمدا فَعَلَيهِ الْقَضَاء وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَة وَإِن كَانَ أقل من ذَلِك لَا يفْسد صَوْمه لِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ الِاحْتِرَاز عَنهُ كالريق
وَقَالَ زفر يلْزمه الْكَفَّارَة لِأَنَّهُ من جنس مَا يتَعَلَّق بِهِ الْكَفَّارَة إِلَّا أَنه متغير فَصَارَ كَاللَّحْمِ المنتن
وَالصَّحِيح قَوْلنَا إِنَّه لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غير مَقْصُود بِالْأَكْلِ فَصَارَ
شُبْهَة كَمَا إِذا أكل الطين
وَلَو أكره على الْإِفْطَار فَأكل يفْسد صَوْمه لِأَنَّهُ وجد مَا يضاده وَهَذَا لَيْسَ بنظير النَّاسِي لِأَن الْإِكْرَاه على الْإِفْطَار لَيْسَ بغالب فَلَا يكون فِي وجوب الْقَضَاء حرج
فَأَما إِذا أوجد فِي حَلقَة وَهُوَ مَكْرُوه ذَاكر للصَّوْم يفْسد صَوْمه عندنَا وَعند الشَّافِعِي لَا يفْسد صَوْمه لِأَنَّهُ أعذر من النَّاسِي
وَلَكنَّا نقُول إِن هَذَا نَادِر وَلَيْسَ بغالب
وَكَذَلِكَ الصَّائِم إِذا فتح فَاه وَرفع رَأسه إِلَى السَّمَاء فَوَقع قَطْرَة من الْمَطَر فِي حلقه يفْسد صَوْمه لِأَنَّهُ نَادِر
وَكَذَلِكَ إِذا وجد فِي حلق النَّائِم يفْسد صَوْمه لِأَنَّهُ نَادِر
وَكَذَلِكَ لَو جومعت النائمة أَو الْمَجْنُون يفْسد صَومهَا بِخِلَاف الناسية وَالنَّاسِي لِأَن هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُمَا لِأَنَّهُ لَا يكثر وجوده خُصُوصا فِي حَالَة الصَّوْم
وَلَو تمضمض فوصل المَاء إِلَى حلقه فَإِن لم يكن ذَاكِرًا للصَّوْم لَا يفْسد صَوْمه لِأَنَّهُ فِي معنى النَّاسِي وَإِن كَانَ ذَاكِرًا لصومه يفْسد صَوْمه عندنَا
وَعند الشَّافِعِي لَا يفْسد لِأَنَّهُ خاطىء والخاطىء مَعْذُور كالناسي
وَنحن نقُول بِأَنَّهُ لَيْسَ كالناسي لِأَنَّهُ يُمكنهُ أَن لَا يُبَالغ فِي الْمَضْمَضَة فَلَا يعْذر
ثمَّ اعْلَم أَن فَسَاد الصَّوْم يتَعَلَّق بِهِ أَحْكَام من وجوب الْقَضَاء وَوُجُوب الْكَفَّارَة وَوُجُوب إمْسَاك بَقِيَّة الْيَوْم وَنَحْوهَا
أما وجوب الْقَضَاء فَيتَعَلَّق بِمُطلق الْإِفْسَاد سَوَاء كَانَ بِعُذْر أَو بِغَيْر عذر وجد الْإِفْسَاد من حَيْثُ الصُّورَة أَو من حَيْثُ الْمَعْنى فِيهِ شُبْهَة الْإِبَاحَة أَو حرَام من كل وَجه وَذَلِكَ بوصول شَيْء من الْخَارِج إِلَى الْجوف
بَيَانه أَن من أكل حَصَاة أَو نواة أَو تُرَابا يفْسد صَوْمه وَعَلِيهِ الْقَضَاء لوُجُود الْأكل صُورَة لَا من حَيْثُ الْمَعْنى فَإِنَّهُ لم يحصل بِهِ قوام الْبدن وَدفع الْجُوع والعطش
وَكَذَلِكَ لَو طعن بِرُمْح وَوَقع الرمْح فِيهِ يفْسد صَوْمه لدُخُول شَيْء من الْخَارِج إِلَى الْجوف فَوجدَ الْأكل صُورَة وَلَا معنى
فَأَما إِذا طعن بِرُمْح ثمَّ أخرجه من سَاعَته لَا يفْسد صَوْمه لِأَنَّهُ لم يسْتَقرّ فِي مَحل الطَّعَام
وَلِهَذَا قَالُوا إِن من ابتلع لَحْمًا مربوطا على خيط ثمَّ انتزع من سَاعَته لَا يفْسد صَوْمه لِأَنَّهُ لم يسْتَقرّ فِي مَحَله حَتَّى يعْمل عمله فِي دفع الْجُوع
وَلَو وصل إِلَى جَوف الرَّأْس بالإقطار فِي الْأذن أَو السعوط أَو إِلَى الْبَطن بالاحتقان يفْسد صَوْمه لِأَنَّهُ يصل إِلَى جَوْفه بالحقنة وَكَذَا بالسعوط والإقطار فِي الْأذن لِأَن جَوف الرَّأْس لَهُ منفذ إِلَى الْبَطن
وَأما فِي الإقطار من الإحليل فَلَا يفْسد الصَّوْم عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا يفْسد وَهَذَا لَيْسَ بِخِلَاف من حَيْثُ الْحَقِيقَة لِأَنَّهُ لَو وصل إِلَى الْجوف يفْسد بِالْإِجْمَاع وَلَو لم يصل لَا يفْسد بِالْإِجْمَاع إِلَّا أَنَّهُمَا أخذا بِالظَّاهِرِ فَإِن الْبَوْل يخرج مِنْهُ فَيكون لَهُ منفذ وَأَبُو حنيفَة يَقُول لَيْسَ لَهُ منفذ وَإِنَّمَا الْبَوْل يترشح مِنْهُ كَمَا يترشح المَاء من الْكوز الْجَدِيد وَالْبَوْل
يدْفع مَا أقطر فِي الإحليل من الترشح إِلَى الْجوف
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة مثل قَوْلهمَا
وَهُوَ الصَّحِيح
وَأما الْجَائِفَة وَالْأمة إِذا داووهما فَإِن كَانَ الدَّوَاء يَابسا فَلَا يفْسد لِأَنَّهُ لَا يصل إِلَى الْجوف
وَأما إِذا كَانَ رطبا فَيفْسد عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا لَا يفْسد
فَأَبُو حنيفَة اعْتبر ظَاهر الْوُصُول بوصول المغذي إِلَى الْجوف حَقِيقَة
وهما يعتبران الْوُصُول بالمخارق الْأَصْلِيّ لَا غير ويقولان فِي الْمخَارِق الْأَصْلِيَّة يتَيَقَّن الْوُصُول فَأَما فِي الْمخَارِق الْعَارِض فَيحْتَمل الْوُصُول إِلَى الْجوف وَيحْتَمل الْوُصُول إِلَى مَوضِع آخر لَا إِلَى مَحل الْغذَاء والدواء فَلَا يفْسد الصَّوْم مَعَ الشَّك وَالِاحْتِمَال وَأَبُو حنيفَة يَقُول الْوُصُول إِلَى الْجوف ثَابت ظَاهرا فَكفى لوُجُوب الْقَضَاء احْتِيَاطًا
وعَلى هَذَا إِذا ذرعه الْقَيْء بِغَيْر فعله لَا يفْسد صَوْمه وَإِن كَانَ ملْء الْفَم لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام ثَلَاث لَا يفطرن الصَّائِم الْقَيْء والحجامة والاحتلام
وَإِن عَاد شَيْء من الْقَيْء إِلَى جَوْفه
فَإِن كَانَ أقل من ملْء الْفَم لَا يفْسد صَوْمه بِالْإِجْمَاع
وَإِن كَانَ ملْء الْفَم ذكر الْقَدُورِيّ أَن على قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد يفْسد صَوْمه وعَلى قَول أبي يُوسُف لَا يفْسد
وَقَالَ بعض مَشَايِخنَا فِي هَذَا الْفَصْل على قَول أبي يُوسُف لَا يفْسد
وعَلى قَول مُحَمَّد لَا يفْسد وَلم يذكر قَول أبي حنيفَة
وَمَا ذكره الْقَدُورِيّ أثبت
فَأَما إِذا أَعَادَهُ فَإِن كَانَ ملْء الْفَم يفْسد صَوْمه بِالْإِجْمَاع
فَأَما إِذا كَانَ أقل من ملْء الْفَم فَعَن أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف رِوَايَتَانِ
وَقَالَ مُحَمَّد ينْقض صَوْمه
فَأَما إِذا استقاء عمدا وَأخرج بصنعه فَإِن كَانَ ملْء الْفَم ينْتَقض صَوْمه بِالْإِجْمَاع
وَإِن كَانَ أقل من ملْء الْفَم ذكر فِي ظَاهر الرِّوَايَة وَقَالَ إِذا تقيأ عمدا يفْسد صَوْمه وَلم يفصل بَين الْقَلِيل وَالْكثير
وَذكر الْكَرْخِي هَهُنَا أَنه إِذا تقيأ عمدا وَهُوَ أقل من ملْء الْفَم فطره وَهُوَ قَول مُحَمَّد
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة إِن كَانَ ملْء الْفَم يفطره وَإِن كَانَ مَا دونه لَا يفطره
وَهَكَذَا رُوِيَ عَن أبي يُوسُف
فَأَما إِذا عَاد أَو أعَاد فعلى قَول مُحَمَّد لَا يَجِيء هَذَا التَّفْصِيل لِأَن الصَّوْم عِنْده فسد بِنَفس الاستقساء
وعَلى قَول أبي يُوسُف إِن عَاد لَا يفْسد وَفِي الْإِعَادَة عَنهُ رِوَايَتَانِ
وَهَذَا كُله إِذا كَانَ ذَاكِرًا للصَّوْم
وَإِن لم يكن ذَاكِرًا لَا يفْسد صَوْمه كالناسي
وَلَو جَامع امْرَأَته فِيمَا دون الْفرج فَأنْزل يفْسد صَوْمه لوُجُود
الْجِمَاع من حَيْثُ الْمَعْنى دون الصُّورَة
وَلَو بَاشَرَهَا وَأنزل يفْسد أَيْضا لوُجُود اقْتِضَاء الشَّهْوَة بِفِعْلِهِ
وَكَذَلِكَ لَو استمنى بالكف فَأنْزل فَإِنَّهُ يفْسد لِأَنَّهُ اقْتضى شَهْوَته بِفِعْلِهِ
وَلَو جَامع الْبَهِيمَة فَأنْزل يفْسد صَوْمه وَلَا يلْزمه الْكَفَّارَة لِأَنَّهُ وجد الْجِمَاع من حَيْثُ الصُّورَة وَالْمعْنَى وعَلى وَجه الْقُصُور لسعة الْمحل فَلَا يكون نظيرا للجماع فِي قبل الْمَرْأَة
وَلَو أولج فِي البهيم وَلم ينزل لَا يفْسد بِخِلَاف الْإِيلَاج فِي الْآدَمِيّ وَقيل يفْسد كَمَا فِي الْإِيلَاج فِي الْآدَمِيّ
وَكَذَلِكَ الْإِفْطَار إِذا كَانَ بِعُذْر يُوجب الْقَضَاء
والأعذار الَّتِي تبيح الْإِفْطَار للصَّائِم سِتَّة السّفر وَالْمَرَض الَّذِي يزْدَاد بِالصَّوْمِ أَو يقْضِي إِلَى الْهَلَاك وحبل الْمَرْأَة وإرضاعها إِذا أضرّ بهَا أَو بِوَلَدِهَا والعطاش الشَّديد والجوع الَّذِي يخَاف مِنْهُ الْهَلَاك
وَالشَّيْخ الفاني إِذا كَانَ لَا يقدر على الصَّوْم
وَأَصله قَوْله تَعَالَى {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر}
ثمَّ السّفر الْمُبِيح للفطر هُوَ السّفر الْمُبِيح للقصر وَهُوَ مسيرَة ثَلَاثَة أَيَّام ولياليها سير الْإِبِل ومشي الْأَقْدَام
وَيَسْتَوِي الْجَواب بَين أَن يُسَافر قبل رَمَضَان وَبَين أَن يُسَافر بعد دُخُول رَمَضَان
سَافر بَعْدَمَا أهل فِي الْحَضَر هِلَال رَمَضَان
وَالصَّحِيح قَول عَامَّة الصَّحَابَة وَعَامة الْعلمَاء لِأَن النَّص مُطلق وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أَو على سفر} وَكَذَلِكَ الدَّاعِي إِلَى الرُّخْصَة وَهُوَ الْمَشَقَّة عَام شَامِل
وَرُوِيَ عَن عَليّ وَعبد الله بن عَبَّاس أَنَّهُمَا كَانَا لَا يبيحان الْفطر إِذا للحالين جَمِيعًا
وَلَكِن الصَّوْم فِي رَمَضَان جَائِز فِي السّفر عِنْد عَامَّة الْعلمَاء وَهُوَ مُخْتَلف بَين الصَّحَابَة عِنْد بَعضهم يجوز وَعند بَعضهم لَا يجوز وَالْإِجْمَاع الْمُتَأَخر يرفع الْخلاف الْمُتَقَدّم
وَاخْتلفُوا فِي أَن الصَّوْم أفضل أم الْإِفْطَار فعندنا الصَّوْم أفضل لِأَنَّهُ عَزِيمَة والإفطار رخصَة إِذا لم يلْحقهُ مشقة
وَعند الشَّافِعِي الْفطر أفضل لِأَنَّهُ عَزِيمَة وَالصَّوْم رخصَة عِنْده
وَرُوِيَ عَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان وَعُرْوَة بن الزبير وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُم مثل مَذْهَبنَا
وَعَن ابْن عَبَّاس مثل مذْهبه
وَالصَّحِيح مَذْهَبنَا لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ من كَانَت لَهُ حمولة يأوي إِلَى شبع فليصم رَمَضَان حَيْثُ أدْركهُ
وَمن أفطر لشَيْء من الْعذر ثمَّ زَالَ الْعذر فَعَلَيهِ الْقَضَاء بِعَدَد الْأَيَّام الَّتِي يَزُول عَنهُ الْعذر فِيهَا
وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاء مَا لم يزل الْعذر عَنهُ فِيهَا حَتَّى إِن الْمُسَافِر إِذا مَاتَ فِي السّفر وَالْمَرِيض قبل الْبُرْء لَا يجب عَلَيْهِمَا الْقَضَاء لِأَن الْعَاجِز لَا يُكَلف وَإِن أدْركَا بِعَدَد مَا فاتهما يلْزمهُمَا الْقَضَاء وَإِذا مَاتَا قبل الْقَضَاء يجب عَلَيْهِمَا الْفِدْيَة
والفدية أَن يطعم لكل يَوْم مِسْكينا بِقدر مَا يجب فِي صَدَقَة الْفطر
لَكِن إِن أوصى يُؤَدِّي الْوَصِيّ من ثلث مَاله وَإِن لم يوص وتبرع الْوَرَثَة جَازَ وَإِن لم يتبرعوا لَا يلْزمهُم الْأَدَاء بل يسْقط فِي حكم الدُّنْيَا
وَهَذَا عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ لما ذكرنَا من الزَّكَاة إِذا مَاتَ من عَلَيْهِ الزَّكَاة من غير وَصِيَّة بِالْأَدَاءِ
وَأما إِذا صَحَّ الْمَرِيض أَيَّامًا ثمَّ مَاتَ يلْزمه الْقَضَاء بِعَدَد مَا صَحَّ وَلَا يلْزمه قَضَاء جَمِيع مَا فَاتَهُ فِي قَول أَصْحَابنَا جَمِيعًا
وَذكر الطَّحَاوِيّ هَذِه الْمَسْأَلَة على الِاخْتِلَاف فَقَالَ عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف يلْزمه قَضَاء الْجَمِيع إِذا صَحَّ يَوْمًا وَاحِدًا
وَقَالَ مُحَمَّد يلْزمه بِقدر مَا أدْرك
وَهَذَا غلط وَإِنَّمَا نقل الطَّحَاوِيّ جَوَاب
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
مَسْأَلَة النّذر
مَسْأَلَة النّذر
وَترك جَوَاب هَذِه الْمَسْأَلَة وَتلك الْمَسْأَلَة أَن الْمَرِيض إِذا قَالَ لله عَليّ أَن أَصوم شهرا فَإِن مَاتَ قبل أَن يَصح لم يلْزمه شَيْء وَإِن صَحَّ يَوْمًا وَاحِد لزم أَن يُوصي بِالْإِطْعَامِ لجَمِيع الشَّهْر عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَعند مُحَمَّد لَا يلْزمه إِلَّا مِقْدَار مَا صَحَّ فمحمد قَاس إِيجَاب العَبْد بِإِيجَاب الله تَعَالَى وَفِي إِيجَاب الله تَعَالَى لَا يلْزمه لَا بِقدر مَا صَحَّ فَكَذَا فِي النّذر
وهما فرقا بَينهمَا وَبَين الْأَمريْنِ فرق أَلا ترى أَن من قَالَ لله عَليّ أَن أحج ألف حجَّة يلْزمه وَإِن لم يكن فِي وَسعه عَادَة وَالله تَعَالَى مَا أوجب إِلَّا حجَّة وَاحِدَة
وَأما الْكَلَام فِي وجوب الْكَفَّارَة فَإِنَّهَا تتَعَلَّق بالإفطار الْكَامِل صُورَة وَمعنى فِي رَمَضَان مَعَ وجود صفة العمدية وَكَونه حَرَامًا مَحْضا لَيْسَ فِيهِ شُبْهَة الْإِبَاحَة بِأَن أفطر مُتَعَمدا وَلَا يُبَاح لَهُ الْإِفْطَار بِعُذْر وَلَا لَهُ شُبْهَة الْإِبَاحَة
بَيَان ذَلِك
إِذا جَامع الصَّحِيح الْمُقِيم عمدا فِي شهر رَمَضَان فَإِنَّهُ يلْزمه الْكَفَّارَة
بِحَدِيث الْأَعرَابِي أَنه قَالَ هَلَكت وأهلكت فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاذَا صنعت فَقَالَ واقعت امْرَأَتي فِي شهر رَمَضَان وَأَنا صَائِم فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام اعْتِقْ رَقَبَة
وَأما الْمَرْأَة الَّتِي تجامع يلْزمهَا الْكَفَّارَة عندنَا
وللشافعيقولان فِي قَول لَا يلْزمهَا الْكَفَّارَة لِأَن النَّص ورد فِي الرجل دون الْمَرْأَة
وَفِي قَول تجب ويتحملها الرجل لِأَنَّهُ وَجب عَلَيْهَا بِسَبَب فعله
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن الحكم تعلق بِالْجِمَاعِ الْحَرَام الْمُفْسد للصَّوْم وَقد وجد مِنْهَا وَلِهَذَا فِي بَاب الزِّنَى يجب على كل وَاحِد مِنْهُمَا الْحَد لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الزِّنَى فَكَذَا هَذَا
وَأما فِي الْأكل وَالشرب عمدا فَتجب الْكَفَّارَة عندنَا
وَعند الشَّافِعِي لَا تجب لِأَن النَّص ورد فِي الْجِمَاع بِخِلَاف الْقيَاس فَلَا يُقَاس عَلَيْهِ غَيره
وَقُلْنَا إِنَّهَا تجب مَعْقُول الْمَعْنى وَهُوَ تَكْفِير جِنَايَة إِفْسَاد الصَّوْم من كل وَجه وَهَذَا الْمَعْنى مَوْجُود فِي الْأكل وَالشرب لِأَن الصَّوْم هُوَ الْإِمْسَاك عَن الْأكل وَالْجِمَاع فَكَانَ الْإِفْسَاد بِأَحَدِهِمَا نَظِير الْإِفْسَاد بِالْآخرِ وَإِذا اسْتَويَا فِي الْإِفْسَاد فاستويا فِي الْإِثْم فَيجب أَن يستويا فِي وجوب الرافع للإثم
وَلَو أولج وَلم ينزل تجب الْكَفَّارَة لِأَن الْإِيلَاج هُوَ الْجِمَاع فَأَما الْإِنْزَال حَالَة الْفَرَاغ فَلَا عِبْرَة بِهِ
وَلَو أنزل فِيمَا دون الْفرج لَا يجب الْكَفَّارَة لِأَنَّهُ وجد الْجِمَاع معنى لَا صُورَة وَفِي الْمَعْنى قُصُور فَكَانَ دون الْجِمَاع فِي الْجِنَايَة
وَلَو جَامع الْبَهِيمَة وَأنزل لَا تجب الْكَفَّارَة لِأَنَّهُ قَاصِر من حَيْثُ الْمَعْنى لسعة الْمحل وَنَحْوهَا
وَأما إِذا جَامع فِي الْموضع الْمَكْرُوه عمدا فعلى قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد تجب الْكَفَّارَة لِأَنَّهُ مُلْحق بالزنى عِنْدهمَا فِي حق وجوب الْحَد فَفِي حق وجوب الْكَفَّارَة أولى
وَعَن أبي حنيفَة رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة الْحسن عَنهُ أَنه لَا يجب
وَفِي رِوَايَة أبي يُوسُف عَنهُ أَن عَلَيْهِ الْكَفَّارَة وَالْغسْل أنزل أَو لم ينزل
وَلَو جَامع فِي شهر رَمَضَان مرَارًا فِي ظَاهر الرِّوَايَة تلْزمهُ كَفَّارَة وَاحِدَة مَا لم يكفر للْأولِ
وَلَو كفر ثمَّ جَامع ثَانِيًا يلْزمه كَفَّارَة أُخْرَى
وَذكر فِي الكيسانيات أَنه يلْزمه كَفَّارَة وَاحِدَة من غير فصل
وَهَذَا عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي يلْزمه لكل يَوْم كَفَّارَة لِأَنَّهُ وجد فِي كل يَوْم إِفْسَاد كَامِل
وَلَو أفسد بِالْجِمَاعِ فِي رمضانين فَعَن أَصْحَابنَا رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة يجب كفارتان
وَفِي رِوَايَة كفار وَاحِدَة
وَلنَا فِي الْمَسْأَلَة طَرِيقَانِ أَحدهمَا أَن الْكَفَّارَة تجب بطرِيق الزّجر وَأَسْبَاب الزّجر إِذا اجْتمعت لَا يجب بهَا إِلَّا زاجر وَاحِد كَمَا فِي الزِّنَى إِذا وجد مرَارًا لَا تجب إِلَّا حد وَاحِد
وَالثَّانِي أَنَّهَا تجب بطرِيق التَّكْفِير وَرفع الْإِثْم وَلَكِن الْإِفْطَار فِي الْيَوْم الثَّانِي وَالثَّالِث فِي الْجِنَايَة فَوق الْإِفْطَار فِي الْيَوْم الأول لِأَنَّهُ انضمت
إِلَيْهِ جِنَايَة الْإِفْطَار وَجِنَايَة الْإِصْرَار وَإِيجَاب الْكَفَّارَة لأدنى الجنايتين لَا يصلح للأعلى
هَذَا الَّذِي ذكرنَا إِذا لم يكن فِي الْإِفْطَار شُبْهَة
فَأَما إِذا كَانَ فِيهِ شُبْهَة فَلَا يجب فَإِن الْمُسَافِر إِذا صَامَ فِي رَمَضَان ثمَّ جَامع مُتَعَمدا لَا يلْزمه الْكَفَّارَة لِأَن فِيهِ شُبْهَة الْإِبَاحَة لقِيَام السَّبَب الْمُبِيح صُورَة وَهُوَ السّفر
وَكَذَلِكَ إِذا تسحر على ظن أَن الْفجْر لم يطلع فَإِذا هُوَ طالع أَو أفطر على ظن أَن الشَّمْس قد غربت فَإِذا هِيَ لم تغرب لَا تجب الْكَفَّارَة لِأَنَّهُ خاطىء وَإِلَّا ثمَّ عَنهُ مَرْفُوع بِالنَّصِّ
وكل من أكل أَو شرب أَو جَامع نَاسِيا أَو ذرعه الْقَيْء فَظن أَن ذَلِك يفطره فَأكل بعد ذَلِك مُتَعَمدا لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ لِأَن هَذَا شُبْهَة فِي مَوضِع الِاشْتِبَاه لوُجُود المضاد للصَّوْم قَالَ مُحَمَّد إِلَّا إِذا بلغ الْخَبَر أَن أكل النَّاس والقيء لَا يفسدان الصَّوْم فَتجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة لِأَن الظَّن فِي غير مَوضِع الشُّبْهَة لَا يعْتَبر
فَأَما إِذا احْتجم فَظن أَن ذَلِك يفطره ثمَّ أفطر مُتَعَمدا إِن استفتى فَقِيها فَأفْتى بالإفطار ثمَّ أفطر مُتَعَمدا لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ لِأَن الْعَاميّ يجب عَلَيْهِ تَقْلِيد الْعَالم فَيصير ذَلِك شُبْهَة
وَلَو بلغه الحَدِيث أفطر الحاجم والمحجوم روى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ لِأَنَّهُ اعْتمد على الحَدِيث وَهُوَ حجَّة فِي الأَصْل
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه تجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة لِأَن الْعَاميّ يجب عَلَيْهِ الاستفتاء من الْمُفْتِي دون الْعَمَل بِظَاهِر الحَدِيث لِأَنَّهُ قد يكون مَتْرُوك الظَّاهِر وَقد يكون مَنْسُوخا فَلَا يصير شُبْهَة
وَإِن لمس امْرَأَة بِشَهْوَة أَو قبل امْرَأَة بِشَهْوَة وَلم ينزل فَظن أَن ذَلِك يفطره فَأكل عمدا يلْزمه الْكَفَّارَة لِأَن ذَلِك لَا يُنَافِي الصَّوْم فَيكون ظنا فِي غير مَوْضِعه إِلَّا إِذا استفتى فَقِيها أَو أول الحَدِيث فَأفْطر على ذَلِك فَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ وَإِن أَخطَأ وَلم يثبت الحَدِيث لِأَن ظَاهره يعْتَبر شُبْهَة
فَإِن اغتاب فَظن أَن ذَلِك يفطره فأكد عمدا يلْزمه الْكَفَّارَة وَإِن بلغه الحَدِيث لِأَنَّهُ تَأْوِيل بعيد لِأَنَّهُ لَا يُرَاد بِهِ إفطار الصَّوْم حَقِيقَة وَالله أعلم
وَأما حكم وجوب إمْسَاك بَقِيَّة الْيَوْم بعد الْإِفْطَار فعندنا كل من صَار بِحَال لَو كَانَ على تِلْكَ الْحَالة فِي أول النَّهَار يجب عَلَيْهِ الصَّوْم فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ الْإِمْسَاك فِي الْبَاقِي سَوَاء كَانَ الصَّوْم وَاجِبا عَلَيْهِ فِي أول النَّهَار يجب عَلَيْهِ الصَّوْم فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ الْإِمْسَاك فِي الْبَاقِي سَوَاء كَانَ الصَّوْم وَاجِبا عَلَيْهِ فِي أول النَّهَار الْقيام سَبَب الْوُجُوب والأهلية ثمَّ عجز عَن الْأَدَاء لِمَعْنى من الْمعَانِي كمن أفطر فِي رَمَضَان مُتَعَمدا أَو اشْتبهَ عَلَيْهِ يَوْم الشَّك فَأفْطر أَو تسحر على ظن أَن الْعَجز لم يطلع وَقد طلع أَو لم يكن الصَّوْم وَاجِبا عَلَيْهِ لعدم الْأَهْلِيَّة أَو لعذر الْعَجز فَأكل ثمَّ زَالَ الْعذر وَحدثت الْأَهْلِيَّة كَالْمَرِيضِ إِذا صَحَّ وَالْمُسَافر إِذا قدم وَالْمَجْنُون إِذا أَفَاق وَالصَّبِيّ إِذا بلغ وَالْكَافِر إِذا أسلم وَالْحَائِض إِذا طهرت وَنَحْوهَا
وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي وَقَالَ فِي قَول آخر إِن كل من وَجب عَلَيْهِ الصَّوْم ثمَّ أفطر لعذر أَو لغير عذر يلْزمه الْإِمْسَاك
وكل من لَا يجب عَلَيْهِ الصَّوْم فَأفْطر ثمَّ صَار بِحَال لَو كَانَ كَذَلِك فِي أول النَّهَار يجب عَلَيْهِ الصَّوْم فَإِنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِ الْإِمْسَاك
قَالَ وَلِهَذَا بِالْإِجْمَاع إِن من قَالَ لله عَليّ أَن أَصوم الْيَوْم الَّذِي يقدم فلَان فِيهِ
فَقدم فلَان فِي الْيَوْم بَعْدَمَا أكل فِيهِ لَا يجب عَلَيْهِ الْإِمْسَاك لما أَنه لَا يجب عَلَيْهِ الصَّوْم فِيهِ
وَالْمعْنَى الْجَامِع أَن الْإِمْسَاك بِمَنْزِلَة الْخلف عَن الصَّوْم فِي حق قَضَاء حُرْمَة الْوَقْت فَإِن لم يكن الأَصْل وَاجِبا لَا يجب الْخلف
وَقُلْنَا يجب لِأَن الْإِمْسَاك إِنَّمَا يجب تشبها بالصائمين قَضَاء لحق الْوَقْت بِقدر الْإِمْكَان لَا خلفا أَلا ترى أَنه يجب الْقَضَاء خَارج رَمَضَان على الْفطر الَّذِي وَجب عَلَيْهِ الصَّوْم خلفا عَن الصَّوْم الْوَاجِب فَكيف يكون الْإِمْسَاك خلفا عَنهُ وَفِي هَذَا الْمَعْنى يَسْتَوِي الْحَال بَين الْوُجُوب وَعدم الْوُجُوب بِخِلَاف مَسْأَلَة النّذر لِأَن ثمَّة الصَّوْم مَا وَجب بِإِيجَاب الله تَعَالَى حَتَّى يجب الْإِمْسَاك قَضَاء لحق الْوَقْت بل يجب بِالنذرِ فَهُوَ الْفرق بَينه وَبَين سَائِر الْفُصُول بِخِلَاف الطاهرة إِذا حَاضَت أَو نفست فِي حَالَة الصَّوْم حَيْثُ لَا تمسك لِأَنَّهَا لَيست بِأَهْل للصَّوْم والتشبه بِأَهْل الْعِبَادَة لَا يَصح من غير الْأَهْل كحقيقة الْعِبَادَة بِخِلَاف هَذَا الْفُصُول
وَالله أعلم
وَأما بَيَان سنَن الصَّوْم وآدابه وَمَا يكره فِيهِ وَمَا لَا يكره فَنَقُول إِنَّمَا التسحر سنة فِي حق الصَّائِم على مَا رُوِيَ عَن عَمْرو بن الْعَاصِ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ إِن فصل مَا بَين صيامنا وَصِيَام أهل الْكتاب أَكلَة السحر
ثمَّ ينظر إِن كَانَ شاكا فِي طُلُوع الْفجْر إِنَّه طلع أم لَا يَنْبَغِي أَن يدع التسحر لِأَنَّهُ رُبمَا طلع الْفجْر فَيفْسد صَوْمه
فَأَما إِذا كَانَ متيقنا أَن الْفجْر لم يطلع فالمستحب أَن يتسحر
وَإِن كَانَ أَكثر رَأْيه أَن الْفجْر لم يطلع يَنْبَغِي أَن يدع الْأكل أَيْضا
لما قُلْنَا لَكِن لَو تسحر لَا يلْزمه الْقَضَاء لِأَن بَقَاء اللَّيْل أصل وَهُوَ ثَابت بغالب الرَّأْي وَإِنَّمَا الشَّك وَالِاحْتِمَال فِي طُلُوع الْفجْر فَلَا يجب الْقَضَاء بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَال
وَلَو أَن أَكثر رَأْيه أَن الْفجْر طالع فَأكل عَن الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه يلْزمه الْقَضَاء
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه لَا يلْزمه الْقَضَاء لِأَن الأَصْل هُوَ اللَّيْل فَلَا ينْقل عَنهُ إِلَّا بِيَقِين
وَالصَّحِيح هُوَ الأول لِأَن غَالب الرَّأْي دَلِيل وَاجِب الْعَمَل بِهِ
وَلَو كَانَ غَالب ظَنّه أَن الشَّمْس قد غربت لَا يَسعهُ أَن يفْطر لاحْتِمَال أَن الشَّمْس لم تغرب وَلَو أفطر لَا قَضَاء عَلَيْهِ لِأَن الْغَالِب فِي حق الْعَمَل بِمَنْزِلَة الْمُتَيَقن
وَلَو كَانَ غَالب ظَنّه أَن الشَّمْس لم تغرب ثمَّ أفطر كَانَ عَلَيْهِ الْقَضَاء لِأَن بَقَاء النَّهَار أصل وَالِاحْتِمَال فِي الْغُرُوب وَلَكِن لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ خلافًا لما قَالَ بعض الْفُقَهَاء أَنه تجب الْكَفَّارَة لِأَنَّهُ مُتَيَقن بِالنَّهَارِ
وَالصَّحِيح مَا ذكرنَا لِأَن احْتِمَال الْغُرُوب قَائِم وَإنَّهُ يَكْفِي شُبْهَة
وَلَا بَأْس بِأَن يكتحل الصَّائِم بالإثمد وَغَيره وَإِن وجد طعم ذَلِك فِي حلقه لَا يفطره خلافًا لِابْنِ أبي ليلى
وَأَصله مَا رُوِيَ عَن أبي مَسْعُود الْأنْصَارِيّ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام خرج فِي رَمَضَان وَعَيناهُ مملوءتان كحلا كحلته أم سَلمَة
وَلِأَن الْعين لَا منفذ بهَا إِلَى الْجوف وَمَا يجد فِي حلقه فَذَلِك أَثَره لَا عينه
وَيكرهُ إِدْخَال شَيْء مطعوم فِي الْغم للذوق أَو ليمضغه لصبي لَهُ لِأَنَّهُ رُبمَا يصل إِلَى جَوْفه مِنْهُ شَيْء فيفطره وَلَكِن لَا يفْسد صَوْمه إِلَّا أَن
يصل إِلَى جَوْفه شَيْء مِنْهُ بِيَقِين أَو بغالب الرَّأْي
وَكره أَبُو حنيفَة أَن يمضع الصَّائِم العلك لِأَنَّهُ لَا يُؤمن من أَن ينْفَصل مِنْهُ شَيْء فَيدْخل جَوْفه
وَقيل إِنَّمَا يكره إِذا كَانَ متفتتا فَأَما إِذا كَانَ معجونا فَلَا يكره لِأَنَّهُ لَا يصل شَيْء مِنْهُ إِلَى جَوْفه
وَقيل إِنَّمَا لَا يفْسد إِذا لم يكن متيقنا فَأَما إِذا كَانَ متيقنا فَيفْسد لِأَنَّهُ يصل إِلَى جَوْفه شَيْء مِنْهُ لَا محَالة
وَلَا بَأْس للصَّائِم أَن يستاك رطبا كَانَ أَو يَابسا مبلولا بِالْمَاءِ أَو غير مبلول فِي أول النَّهَار أَو فِي آخِره
وَقَالَ الشَّافِعِي يكره فِي آخر النَّهَار
وَقَالَ أَبُو يُوسُف يكره إِذا كَانَ مبلولا بِالْمَاءِ
وَالصَّحِيح مَا ذكرنَا لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ خير خلال الصَّائِم السِّوَاك من غير فصل بَين حَال وَحَال
وَلَا يَنْبَغِي للمقيم إِذا سَافر فِي بعض نَهَار رَمَضَان أَن يفْطر لِأَنَّهُ تعين الْيَوْم للصَّوْم لكَونه مُقيما فِي أَوله
وَمثله لَو أَرَادَ الْمُسَافِر أَن يُقيم فِي مصر من الْأَمْصَار أَو يدْخل مصره فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَن يفْطر لِأَنَّهُ فِي آخِره مُقيم والمقيم لَا يجوز لَهُ الْإِفْطَار وَلما فِيهِ من إِيقَاع نَفسه فِي التُّهْمَة
وَلَا بَأْس أَن يقبل ويباشر إِذا كَانَ يَأْمَن على نَفسه مَا سوى ذَلِك
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه لَا بَأْس بالقبلة للصَّائِم وَيكرهُ لَهُ المعانقة والمباشرة
وَأَصله مَا رُوِيَ أَن شَابًّا وشيخا سَأَلَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْقبْلَة للصَّائِم فَنهى الشَّاب وَرخّص للشَّيْخ
وَأما الْمُبَاشرَة فمكروهة على رِوَايَة الْحسن لِأَن الْغَالِب أَن الْمُبَاشرَة تَدْعُو إِلَى مَا سواهَا بِخِلَاف الْقبْلَة
وَهُوَ الْأَصَح
وَأما الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق فَلَا بَأْس بهما لصَلَاة
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه يكره لغير الصَّلَاة لاحْتِمَال وُصُول شَيْء إِلَى الْجوف
وَمَا الِاسْتِنْشَاق لغير الصَّلَاة والاغتسال وصب المَاء على الرَّأْس والتلفف بِالثَّوْبِ المبلول فَروِيَ عَن أبي حنيفَة أَنه يكره لِأَن إِظْهَار الضجر من الْعِبَادَة
وَقَالَ أَبُو يُوسُف لَا يكره
فَأخذ أَبُو حنيفَة بقول الشّعبِيّ وَأخذ أَبُو يُوسُف بقول الْبَصْرِيّ
وَلَا يكره الْحجامَة للصَّائِم
وَقَالَ بعض أَصْحَاب الحَدِيث إِنَّهَا تفطر الصَّائِم لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ أفطر الحاجم والمحجوم
وَالصَّحِيح قَول الْعَامَّة لما روى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ ثَلَاث لَا يفطرن الصَّائِم الْقَيْء والحجامة والاحتلام وَأما الحَدِيث فَذَاك فِي الِابْتِدَاء لما أَنه سَبَب ضعف الصَّائِم ثمَّ رخص بعد ذَلِك
وَلَيْسَ للْمَرْأَة أَن تَصُوم تَطَوّعا إِلَّا بِإِذن زَوجهَا وَكَذَا العَبْد لَيْسَ لَهُ أَن يَصُوم تَطَوّعا إِلَّا بِإِذن الْمولى لِأَن فِي ذَلِك تَفْوِيت حَقّهمَا عَن الِانْتِفَاع الْمُسْتَحق فيمنعان عَن ذَلِك
وَلَا بَأْس بِأَن يصبح الرجل جنبا وَإِن ذَلِك لَا يفْسد صَوْمه
وَقَالَ بعض النَّاس بِأَنَّهُ يفْسد صَوْمه لما روى أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ من أصبح جنبا فَلَا صَوْم لَهُ مُحَمَّد وَرب الْكَعْبَة قَالَه
وَحجَّة عَامَّة الْعلمَاء مَا روى مُحَمَّد فِي الْكتاب عَن عَائِشَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يصبح جنبا من غير احْتِلَام ويصوم يَوْمه ذَلِك وَذَلِكَ فِي رَمَضَان وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة روته عَائِشَة فَلَا يُعَارض بِمَا روينَا
وَترك جَوَاب هَذِه الْمَسْأَلَة وَتلك الْمَسْأَلَة أَن الْمَرِيض إِذا قَالَ لله عَليّ أَن أَصوم شهرا فَإِن مَاتَ قبل أَن يَصح لم يلْزمه شَيْء وَإِن صَحَّ يَوْمًا وَاحِد لزم أَن يُوصي بِالْإِطْعَامِ لجَمِيع الشَّهْر عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَعند مُحَمَّد لَا يلْزمه إِلَّا مِقْدَار مَا صَحَّ فمحمد قَاس إِيجَاب العَبْد بِإِيجَاب الله تَعَالَى وَفِي إِيجَاب الله تَعَالَى لَا يلْزمه لَا بِقدر مَا صَحَّ فَكَذَا فِي النّذر
وهما فرقا بَينهمَا وَبَين الْأَمريْنِ فرق أَلا ترى أَن من قَالَ لله عَليّ أَن أحج ألف حجَّة يلْزمه وَإِن لم يكن فِي وَسعه عَادَة وَالله تَعَالَى مَا أوجب إِلَّا حجَّة وَاحِدَة
وَأما الْكَلَام فِي وجوب الْكَفَّارَة فَإِنَّهَا تتَعَلَّق بالإفطار الْكَامِل صُورَة وَمعنى فِي رَمَضَان مَعَ وجود صفة العمدية وَكَونه حَرَامًا مَحْضا لَيْسَ فِيهِ شُبْهَة الْإِبَاحَة بِأَن أفطر مُتَعَمدا وَلَا يُبَاح لَهُ الْإِفْطَار بِعُذْر وَلَا لَهُ شُبْهَة الْإِبَاحَة
بَيَان ذَلِك
إِذا جَامع الصَّحِيح الْمُقِيم عمدا فِي شهر رَمَضَان فَإِنَّهُ يلْزمه الْكَفَّارَة
بِحَدِيث الْأَعرَابِي أَنه قَالَ هَلَكت وأهلكت فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاذَا صنعت فَقَالَ واقعت امْرَأَتي فِي شهر رَمَضَان وَأَنا صَائِم فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام اعْتِقْ رَقَبَة
وَأما الْمَرْأَة الَّتِي تجامع يلْزمهَا الْكَفَّارَة عندنَا
وللشافعيقولان فِي قَول لَا يلْزمهَا الْكَفَّارَة لِأَن النَّص ورد فِي الرجل دون الْمَرْأَة
وَفِي قَول تجب ويتحملها الرجل لِأَنَّهُ وَجب عَلَيْهَا بِسَبَب فعله
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن الحكم تعلق بِالْجِمَاعِ الْحَرَام الْمُفْسد للصَّوْم وَقد وجد مِنْهَا وَلِهَذَا فِي بَاب الزِّنَى يجب على كل وَاحِد مِنْهُمَا الْحَد لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الزِّنَى فَكَذَا هَذَا
وَأما فِي الْأكل وَالشرب عمدا فَتجب الْكَفَّارَة عندنَا
وَعند الشَّافِعِي لَا تجب لِأَن النَّص ورد فِي الْجِمَاع بِخِلَاف الْقيَاس فَلَا يُقَاس عَلَيْهِ غَيره
وَقُلْنَا إِنَّهَا تجب مَعْقُول الْمَعْنى وَهُوَ تَكْفِير جِنَايَة إِفْسَاد الصَّوْم من كل وَجه وَهَذَا الْمَعْنى مَوْجُود فِي الْأكل وَالشرب لِأَن الصَّوْم هُوَ الْإِمْسَاك عَن الْأكل وَالْجِمَاع فَكَانَ الْإِفْسَاد بِأَحَدِهِمَا نَظِير الْإِفْسَاد بِالْآخرِ وَإِذا اسْتَويَا فِي الْإِفْسَاد فاستويا فِي الْإِثْم فَيجب أَن يستويا فِي وجوب الرافع للإثم
وَلَو أولج وَلم ينزل تجب الْكَفَّارَة لِأَن الْإِيلَاج هُوَ الْجِمَاع فَأَما الْإِنْزَال حَالَة الْفَرَاغ فَلَا عِبْرَة بِهِ
وَلَو أنزل فِيمَا دون الْفرج لَا يجب الْكَفَّارَة لِأَنَّهُ وجد الْجِمَاع معنى لَا صُورَة وَفِي الْمَعْنى قُصُور فَكَانَ دون الْجِمَاع فِي الْجِنَايَة
وَلَو جَامع الْبَهِيمَة وَأنزل لَا تجب الْكَفَّارَة لِأَنَّهُ قَاصِر من حَيْثُ الْمَعْنى لسعة الْمحل وَنَحْوهَا
وَأما إِذا جَامع فِي الْموضع الْمَكْرُوه عمدا فعلى قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد تجب الْكَفَّارَة لِأَنَّهُ مُلْحق بالزنى عِنْدهمَا فِي حق وجوب الْحَد فَفِي حق وجوب الْكَفَّارَة أولى
وَعَن أبي حنيفَة رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة الْحسن عَنهُ أَنه لَا يجب
وَفِي رِوَايَة أبي يُوسُف عَنهُ أَن عَلَيْهِ الْكَفَّارَة وَالْغسْل أنزل أَو لم ينزل
وَلَو جَامع فِي شهر رَمَضَان مرَارًا فِي ظَاهر الرِّوَايَة تلْزمهُ كَفَّارَة وَاحِدَة مَا لم يكفر للْأولِ
وَلَو كفر ثمَّ جَامع ثَانِيًا يلْزمه كَفَّارَة أُخْرَى
وَذكر فِي الكيسانيات أَنه يلْزمه كَفَّارَة وَاحِدَة من غير فصل
وَهَذَا عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي يلْزمه لكل يَوْم كَفَّارَة لِأَنَّهُ وجد فِي كل يَوْم إِفْسَاد كَامِل
وَلَو أفسد بِالْجِمَاعِ فِي رمضانين فَعَن أَصْحَابنَا رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة يجب كفارتان
وَفِي رِوَايَة كفار وَاحِدَة
وَلنَا فِي الْمَسْأَلَة طَرِيقَانِ أَحدهمَا أَن الْكَفَّارَة تجب بطرِيق الزّجر وَأَسْبَاب الزّجر إِذا اجْتمعت لَا يجب بهَا إِلَّا زاجر وَاحِد كَمَا فِي الزِّنَى إِذا وجد مرَارًا لَا تجب إِلَّا حد وَاحِد
وَالثَّانِي أَنَّهَا تجب بطرِيق التَّكْفِير وَرفع الْإِثْم وَلَكِن الْإِفْطَار فِي الْيَوْم الثَّانِي وَالثَّالِث فِي الْجِنَايَة فَوق الْإِفْطَار فِي الْيَوْم الأول لِأَنَّهُ انضمت
إِلَيْهِ جِنَايَة الْإِفْطَار وَجِنَايَة الْإِصْرَار وَإِيجَاب الْكَفَّارَة لأدنى الجنايتين لَا يصلح للأعلى
هَذَا الَّذِي ذكرنَا إِذا لم يكن فِي الْإِفْطَار شُبْهَة
فَأَما إِذا كَانَ فِيهِ شُبْهَة فَلَا يجب فَإِن الْمُسَافِر إِذا صَامَ فِي رَمَضَان ثمَّ جَامع مُتَعَمدا لَا يلْزمه الْكَفَّارَة لِأَن فِيهِ شُبْهَة الْإِبَاحَة لقِيَام السَّبَب الْمُبِيح صُورَة وَهُوَ السّفر
وَكَذَلِكَ إِذا تسحر على ظن أَن الْفجْر لم يطلع فَإِذا هُوَ طالع أَو أفطر على ظن أَن الشَّمْس قد غربت فَإِذا هِيَ لم تغرب لَا تجب الْكَفَّارَة لِأَنَّهُ خاطىء وَإِلَّا ثمَّ عَنهُ مَرْفُوع بِالنَّصِّ
وكل من أكل أَو شرب أَو جَامع نَاسِيا أَو ذرعه الْقَيْء فَظن أَن ذَلِك يفطره فَأكل بعد ذَلِك مُتَعَمدا لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ لِأَن هَذَا شُبْهَة فِي مَوضِع الِاشْتِبَاه لوُجُود المضاد للصَّوْم قَالَ مُحَمَّد إِلَّا إِذا بلغ الْخَبَر أَن أكل النَّاس والقيء لَا يفسدان الصَّوْم فَتجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة لِأَن الظَّن فِي غير مَوضِع الشُّبْهَة لَا يعْتَبر
فَأَما إِذا احْتجم فَظن أَن ذَلِك يفطره ثمَّ أفطر مُتَعَمدا إِن استفتى فَقِيها فَأفْتى بالإفطار ثمَّ أفطر مُتَعَمدا لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ لِأَن الْعَاميّ يجب عَلَيْهِ تَقْلِيد الْعَالم فَيصير ذَلِك شُبْهَة
وَلَو بلغه الحَدِيث أفطر الحاجم والمحجوم روى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ لِأَنَّهُ اعْتمد على الحَدِيث وَهُوَ حجَّة فِي الأَصْل
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه تجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة لِأَن الْعَاميّ يجب عَلَيْهِ الاستفتاء من الْمُفْتِي دون الْعَمَل بِظَاهِر الحَدِيث لِأَنَّهُ قد يكون مَتْرُوك الظَّاهِر وَقد يكون مَنْسُوخا فَلَا يصير شُبْهَة
وَإِن لمس امْرَأَة بِشَهْوَة أَو قبل امْرَأَة بِشَهْوَة وَلم ينزل فَظن أَن ذَلِك يفطره فَأكل عمدا يلْزمه الْكَفَّارَة لِأَن ذَلِك لَا يُنَافِي الصَّوْم فَيكون ظنا فِي غير مَوْضِعه إِلَّا إِذا استفتى فَقِيها أَو أول الحَدِيث فَأفْطر على ذَلِك فَلَا كَفَّارَة عَلَيْهِ وَإِن أَخطَأ وَلم يثبت الحَدِيث لِأَن ظَاهره يعْتَبر شُبْهَة
فَإِن اغتاب فَظن أَن ذَلِك يفطره فأكد عمدا يلْزمه الْكَفَّارَة وَإِن بلغه الحَدِيث لِأَنَّهُ تَأْوِيل بعيد لِأَنَّهُ لَا يُرَاد بِهِ إفطار الصَّوْم حَقِيقَة وَالله أعلم
وَأما حكم وجوب إمْسَاك بَقِيَّة الْيَوْم بعد الْإِفْطَار فعندنا كل من صَار بِحَال لَو كَانَ على تِلْكَ الْحَالة فِي أول النَّهَار يجب عَلَيْهِ الصَّوْم فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ الْإِمْسَاك فِي الْبَاقِي سَوَاء كَانَ الصَّوْم وَاجِبا عَلَيْهِ فِي أول النَّهَار يجب عَلَيْهِ الصَّوْم فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ الْإِمْسَاك فِي الْبَاقِي سَوَاء كَانَ الصَّوْم وَاجِبا عَلَيْهِ فِي أول النَّهَار الْقيام سَبَب الْوُجُوب والأهلية ثمَّ عجز عَن الْأَدَاء لِمَعْنى من الْمعَانِي كمن أفطر فِي رَمَضَان مُتَعَمدا أَو اشْتبهَ عَلَيْهِ يَوْم الشَّك فَأفْطر أَو تسحر على ظن أَن الْعَجز لم يطلع وَقد طلع أَو لم يكن الصَّوْم وَاجِبا عَلَيْهِ لعدم الْأَهْلِيَّة أَو لعذر الْعَجز فَأكل ثمَّ زَالَ الْعذر وَحدثت الْأَهْلِيَّة كَالْمَرِيضِ إِذا صَحَّ وَالْمُسَافر إِذا قدم وَالْمَجْنُون إِذا أَفَاق وَالصَّبِيّ إِذا بلغ وَالْكَافِر إِذا أسلم وَالْحَائِض إِذا طهرت وَنَحْوهَا
وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي وَقَالَ فِي قَول آخر إِن كل من وَجب عَلَيْهِ الصَّوْم ثمَّ أفطر لعذر أَو لغير عذر يلْزمه الْإِمْسَاك
وكل من لَا يجب عَلَيْهِ الصَّوْم فَأفْطر ثمَّ صَار بِحَال لَو كَانَ كَذَلِك فِي أول النَّهَار يجب عَلَيْهِ الصَّوْم فَإِنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِ الْإِمْسَاك
قَالَ وَلِهَذَا بِالْإِجْمَاع إِن من قَالَ لله عَليّ أَن أَصوم الْيَوْم الَّذِي يقدم فلَان فِيهِ
فَقدم فلَان فِي الْيَوْم بَعْدَمَا أكل فِيهِ لَا يجب عَلَيْهِ الْإِمْسَاك لما أَنه لَا يجب عَلَيْهِ الصَّوْم فِيهِ
وَالْمعْنَى الْجَامِع أَن الْإِمْسَاك بِمَنْزِلَة الْخلف عَن الصَّوْم فِي حق قَضَاء حُرْمَة الْوَقْت فَإِن لم يكن الأَصْل وَاجِبا لَا يجب الْخلف
وَقُلْنَا يجب لِأَن الْإِمْسَاك إِنَّمَا يجب تشبها بالصائمين قَضَاء لحق الْوَقْت بِقدر الْإِمْكَان لَا خلفا أَلا ترى أَنه يجب الْقَضَاء خَارج رَمَضَان على الْفطر الَّذِي وَجب عَلَيْهِ الصَّوْم خلفا عَن الصَّوْم الْوَاجِب فَكيف يكون الْإِمْسَاك خلفا عَنهُ وَفِي هَذَا الْمَعْنى يَسْتَوِي الْحَال بَين الْوُجُوب وَعدم الْوُجُوب بِخِلَاف مَسْأَلَة النّذر لِأَن ثمَّة الصَّوْم مَا وَجب بِإِيجَاب الله تَعَالَى حَتَّى يجب الْإِمْسَاك قَضَاء لحق الْوَقْت بل يجب بِالنذرِ فَهُوَ الْفرق بَينه وَبَين سَائِر الْفُصُول بِخِلَاف الطاهرة إِذا حَاضَت أَو نفست فِي حَالَة الصَّوْم حَيْثُ لَا تمسك لِأَنَّهَا لَيست بِأَهْل للصَّوْم والتشبه بِأَهْل الْعِبَادَة لَا يَصح من غير الْأَهْل كحقيقة الْعِبَادَة بِخِلَاف هَذَا الْفُصُول
وَالله أعلم
وَأما بَيَان سنَن الصَّوْم وآدابه وَمَا يكره فِيهِ وَمَا لَا يكره فَنَقُول إِنَّمَا التسحر سنة فِي حق الصَّائِم على مَا رُوِيَ عَن عَمْرو بن الْعَاصِ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ إِن فصل مَا بَين صيامنا وَصِيَام أهل الْكتاب أَكلَة السحر
ثمَّ ينظر إِن كَانَ شاكا فِي طُلُوع الْفجْر إِنَّه طلع أم لَا يَنْبَغِي أَن يدع التسحر لِأَنَّهُ رُبمَا طلع الْفجْر فَيفْسد صَوْمه
فَأَما إِذا كَانَ متيقنا أَن الْفجْر لم يطلع فالمستحب أَن يتسحر
وَإِن كَانَ أَكثر رَأْيه أَن الْفجْر لم يطلع يَنْبَغِي أَن يدع الْأكل أَيْضا
لما قُلْنَا لَكِن لَو تسحر لَا يلْزمه الْقَضَاء لِأَن بَقَاء اللَّيْل أصل وَهُوَ ثَابت بغالب الرَّأْي وَإِنَّمَا الشَّك وَالِاحْتِمَال فِي طُلُوع الْفجْر فَلَا يجب الْقَضَاء بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَال
وَلَو أَن أَكثر رَأْيه أَن الْفجْر طالع فَأكل عَن الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه يلْزمه الْقَضَاء
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه لَا يلْزمه الْقَضَاء لِأَن الأَصْل هُوَ اللَّيْل فَلَا ينْقل عَنهُ إِلَّا بِيَقِين
وَالصَّحِيح هُوَ الأول لِأَن غَالب الرَّأْي دَلِيل وَاجِب الْعَمَل بِهِ
وَلَو كَانَ غَالب ظَنّه أَن الشَّمْس قد غربت لَا يَسعهُ أَن يفْطر لاحْتِمَال أَن الشَّمْس لم تغرب وَلَو أفطر لَا قَضَاء عَلَيْهِ لِأَن الْغَالِب فِي حق الْعَمَل بِمَنْزِلَة الْمُتَيَقن
وَلَو كَانَ غَالب ظَنّه أَن الشَّمْس لم تغرب ثمَّ أفطر كَانَ عَلَيْهِ الْقَضَاء لِأَن بَقَاء النَّهَار أصل وَالِاحْتِمَال فِي الْغُرُوب وَلَكِن لَا كَفَّارَة عَلَيْهِ خلافًا لما قَالَ بعض الْفُقَهَاء أَنه تجب الْكَفَّارَة لِأَنَّهُ مُتَيَقن بِالنَّهَارِ
وَالصَّحِيح مَا ذكرنَا لِأَن احْتِمَال الْغُرُوب قَائِم وَإنَّهُ يَكْفِي شُبْهَة
وَلَا بَأْس بِأَن يكتحل الصَّائِم بالإثمد وَغَيره وَإِن وجد طعم ذَلِك فِي حلقه لَا يفطره خلافًا لِابْنِ أبي ليلى
وَأَصله مَا رُوِيَ عَن أبي مَسْعُود الْأنْصَارِيّ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام خرج فِي رَمَضَان وَعَيناهُ مملوءتان كحلا كحلته أم سَلمَة
وَلِأَن الْعين لَا منفذ بهَا إِلَى الْجوف وَمَا يجد فِي حلقه فَذَلِك أَثَره لَا عينه
وَيكرهُ إِدْخَال شَيْء مطعوم فِي الْغم للذوق أَو ليمضغه لصبي لَهُ لِأَنَّهُ رُبمَا يصل إِلَى جَوْفه مِنْهُ شَيْء فيفطره وَلَكِن لَا يفْسد صَوْمه إِلَّا أَن
يصل إِلَى جَوْفه شَيْء مِنْهُ بِيَقِين أَو بغالب الرَّأْي
وَكره أَبُو حنيفَة أَن يمضع الصَّائِم العلك لِأَنَّهُ لَا يُؤمن من أَن ينْفَصل مِنْهُ شَيْء فَيدْخل جَوْفه
وَقيل إِنَّمَا يكره إِذا كَانَ متفتتا فَأَما إِذا كَانَ معجونا فَلَا يكره لِأَنَّهُ لَا يصل شَيْء مِنْهُ إِلَى جَوْفه
وَقيل إِنَّمَا لَا يفْسد إِذا لم يكن متيقنا فَأَما إِذا كَانَ متيقنا فَيفْسد لِأَنَّهُ يصل إِلَى جَوْفه شَيْء مِنْهُ لَا محَالة
وَلَا بَأْس للصَّائِم أَن يستاك رطبا كَانَ أَو يَابسا مبلولا بِالْمَاءِ أَو غير مبلول فِي أول النَّهَار أَو فِي آخِره
وَقَالَ الشَّافِعِي يكره فِي آخر النَّهَار
وَقَالَ أَبُو يُوسُف يكره إِذا كَانَ مبلولا بِالْمَاءِ
وَالصَّحِيح مَا ذكرنَا لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ خير خلال الصَّائِم السِّوَاك من غير فصل بَين حَال وَحَال
وَلَا يَنْبَغِي للمقيم إِذا سَافر فِي بعض نَهَار رَمَضَان أَن يفْطر لِأَنَّهُ تعين الْيَوْم للصَّوْم لكَونه مُقيما فِي أَوله
وَمثله لَو أَرَادَ الْمُسَافِر أَن يُقيم فِي مصر من الْأَمْصَار أَو يدْخل مصره فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَن يفْطر لِأَنَّهُ فِي آخِره مُقيم والمقيم لَا يجوز لَهُ الْإِفْطَار وَلما فِيهِ من إِيقَاع نَفسه فِي التُّهْمَة
وَلَا بَأْس أَن يقبل ويباشر إِذا كَانَ يَأْمَن على نَفسه مَا سوى ذَلِك
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه لَا بَأْس بالقبلة للصَّائِم وَيكرهُ لَهُ المعانقة والمباشرة
وَأَصله مَا رُوِيَ أَن شَابًّا وشيخا سَأَلَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْقبْلَة للصَّائِم فَنهى الشَّاب وَرخّص للشَّيْخ
وَأما الْمُبَاشرَة فمكروهة على رِوَايَة الْحسن لِأَن الْغَالِب أَن الْمُبَاشرَة تَدْعُو إِلَى مَا سواهَا بِخِلَاف الْقبْلَة
وَهُوَ الْأَصَح
وَأما الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق فَلَا بَأْس بهما لصَلَاة
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه يكره لغير الصَّلَاة لاحْتِمَال وُصُول شَيْء إِلَى الْجوف
وَمَا الِاسْتِنْشَاق لغير الصَّلَاة والاغتسال وصب المَاء على الرَّأْس والتلفف بِالثَّوْبِ المبلول فَروِيَ عَن أبي حنيفَة أَنه يكره لِأَن إِظْهَار الضجر من الْعِبَادَة
وَقَالَ أَبُو يُوسُف لَا يكره
فَأخذ أَبُو حنيفَة بقول الشّعبِيّ وَأخذ أَبُو يُوسُف بقول الْبَصْرِيّ
وَلَا يكره الْحجامَة للصَّائِم
وَقَالَ بعض أَصْحَاب الحَدِيث إِنَّهَا تفطر الصَّائِم لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ أفطر الحاجم والمحجوم
وَالصَّحِيح قَول الْعَامَّة لما روى أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ ثَلَاث لَا يفطرن الصَّائِم الْقَيْء والحجامة والاحتلام وَأما الحَدِيث فَذَاك فِي الِابْتِدَاء لما أَنه سَبَب ضعف الصَّائِم ثمَّ رخص بعد ذَلِك
وَلَيْسَ للْمَرْأَة أَن تَصُوم تَطَوّعا إِلَّا بِإِذن زَوجهَا وَكَذَا العَبْد لَيْسَ لَهُ أَن يَصُوم تَطَوّعا إِلَّا بِإِذن الْمولى لِأَن فِي ذَلِك تَفْوِيت حَقّهمَا عَن الِانْتِفَاع الْمُسْتَحق فيمنعان عَن ذَلِك
وَلَا بَأْس بِأَن يصبح الرجل جنبا وَإِن ذَلِك لَا يفْسد صَوْمه
وَقَالَ بعض النَّاس بِأَنَّهُ يفْسد صَوْمه لما روى أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ من أصبح جنبا فَلَا صَوْم لَهُ مُحَمَّد وَرب الْكَعْبَة قَالَه
وَحجَّة عَامَّة الْعلمَاء مَا روى مُحَمَّد فِي الْكتاب عَن عَائِشَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يصبح جنبا من غير احْتِلَام ويصوم يَوْمه ذَلِك وَذَلِكَ فِي رَمَضَان وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة روته عَائِشَة فَلَا يُعَارض بِمَا روينَا
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
بَاب الِاعْتِكَاف
بَاب الِاعْتِكَاف
الْكَلَام فِي الِاعْتِكَاف فِي مَوَاضِع فِي بَيَان كَونه سنة أَو وَاجِبا
وَفِي بَيَان شَرَائِطه
وَفِي بَيَان رُكْنه
وَفِي بَيَان مَا يُفْسِدهُ
وَفِي بَيَان سنَنه وآدابه
أما الأول فالاعتكاف سنة فقد فعله النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وواظب عَلَيْهِ على مَا رُوِيَ عَن عَائِشَة وَأبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يعْتَكف الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان حَتَّى توفاه الله
لَكِن يصير وَاجِبا بِالنذرِ وبالشروع لِأَنَّهُمَا جعلا من أَسبَاب الْوُجُوب فِي الشَّرْع
فَأَما الشَّرَائِط فَمِنْهَا الصَّوْم فِي الِاعْتِكَاف الْوَاجِب فِي ظَاهر الرِّوَايَة لَا فِي التَّطَوُّع
وَفِي رِوَايَة الْحسن فِي التَّطَوُّع أَيْضا
وَقَالَ الشَّافِعِي لَيْسَ بِشَرْط
وروى الْحسن عَن عَائِشَة وَابْن عَبَّاس وَفِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن
عَليّ مثل قَوْلنَا
وَرُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود مثل قَول الشَّافِعِي
وَلنَا أَن أحد ركني الصَّوْم وَهُوَ الْإِمْسَاك عَن الْجِمَاع شَرط فِي بَاب الِاعْتِكَاف فَكَذَلِك الرُّكْن الآخر وَهُوَ الْإِمْسَاك عَن الْأكل وَالشرب وَهَذَا لِأَن الِاعْتِكَاف مجاورة بَيت الله تَعَالَى والإعراض عَن الدُّنْيَا والاشتغال بِخِدْمَة الْمولى وَهَذَا لَا يتَحَقَّق بِدُونِ ترك قَضَاء الشهوتين إِلَّا بِقدر مَا فِيهِ ضَرُورَة وَهُوَ الْأكل وَالشرب فِي اللَّيَالِي وَلَا ضَرُورَة فِي الْجِمَاع
وَيَنْبَنِي على هَذَا الأَصْل أَن الِاعْتِكَاف لَا يجوز فِي اللَّيْل وَحده عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ لِأَن الصَّوْم شَرط الِاعْتِكَاف أَو رُكْنه على مَا ذكرنَا وَلَا وجود للشَّيْء بِدُونِ رُكْنه وَشَرطه
وَأما إِذا أوجب الِاعْتِكَاف أَيَّامًا يدْخل اللَّيْل تبعا فَلَا يشْتَرط لَهُ شَرط الأَصْل
وَعند الشَّافِعِي الصَّوْم لَيْسَ بِشَرْط فَيكون اللَّيْل وَالنَّهَار سَوَاء
وَمِنْهَا أَن الْإِمْسَاك عَن الْجِمَاع شَرط قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تباشروهن وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد}
وَأما الْمَرْأَة فقد ذكر هَهُنَا وَقَالَ لَا تعتكف الْمَرْأَة إِلَّا فِي مَسْجِد بَيتهَا وَلَا يَنْبَغِي أَن تخرج من الْمنزل فِي الِاعْتِكَاف
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَن للْمَرْأَة أَن تعتكف فِي مَسْجِد
الْجَمَاعَة وَإِن شَاءَت اعتكفت فِي مَسْجِد بَيتهَا وَمَسْجِد بَيتهَا أفضل لَهَا من مَسْجِد حيها وَمَسْجِد حيها أفضل لَهَا من الْمَسْجِد الْجَامِع
وَهَذَا لَيْسَ باخْتلَاف الرِّوَايَة لِأَنَّهُ على الرِّوَايَتَيْنِ يجوز الِاعْتِكَاف فِي الْمَسْجِد وَالْأَفْضَل هُوَ فِي مَسْجِد بَيتهَا
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يجوز فِي مَسْجِد بَيتهَا
وَهُوَ فَاسد فَإِن صلَاتهَا تجوز فِي مَسْجِد بَيتهَا وَهَذَا الْمَكَان مُتَعَيّن للصَّلَاة فالاعتكاف أولى
وَأما ركن الِاعْتِكَاف فَهُوَ كاسمه وَهُوَ اللَّيْث وَالْمقَام فِي الْمَسْجِد
وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَيحرم الْخُرُوج من مُعْتَكفه لِأَنَّهُ يضاده وَلَا بَقَاء للشَّيْء مَعَ ضِدّه وَإِبْطَال الْعِبَادَة حرَام
وَإِنَّمَا يُبَاح الْخُرُوج لأجل الضَّرُورَة وَذَلِكَ لحجة الْبَوْل وَالْغَائِط ولأداء الْجُمُعَة لِأَنَّهَا فرض عَلَيْهِ
فَأَما الْأكل وَالشرب وَالنَّوْم فَجَائِز فِي الْمَسْجِد فَلَا ضَرُورَة فِي ذَلِك
وَلِهَذَا قَالُوا لَا يُبَاح لَهُ فخروج لعيادة الْمَرِيض وتشييع الْجِنَازَة لِأَن ذَلِك لَيْسَ بِفَرْض عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْض عين فَإِذا قَامَ بِهِ الْبَعْض سقط عَن البَاقِينَ
ثمَّ إِذا أَرَادَ أَن يخرج إِلَى الْجُمُعَة يَنْبَغِي أَن يخرج وَقت سَماع الْأَذَان فَيكون فِي الْمَسْجِد مِقْدَار مَا يُصَلِّي قبلهَا أَرْبعا وَبعدهَا أَرْبعا أَو سِتا كَذَا ذكر هَهُنَا
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة مِقْدَار مَا يُصَلِّي قبلهَا أَرْبعا وَبعدهَا أَرْبعا
وَقَالَ مُحَمَّد إِذا كَانَ منزله بَعيدا يخرج حِين يرى أَنه يبلغ الْمَسْجِد
عِنْد النداء لِأَن الْفَرْض أَدَاء الْجُمُعَة فَيقدر بِوَقْت يُمكنهُ فِيهِ أَدَاء الْجُمُعَة بسنتها
فَإِن أَقَامَ فِي الْمَسْجِد الْجَامِع
حِين خرج إِلَى الْجُمُعَة يَوْمًا وَلَيْلَة لم ينْتَقض اعْتِكَافه لِأَن الْجَامِع يصلح لابتداء الِاعْتِكَاف فيصلح للبقاء وَلَكِن لَا أحب أَن يفعل ذَلِك بل يكره لَهُ ذَلِك لِأَن الْتزم فعل الِاعْتِكَاف فِي الْمَسْجِد الْمعِين فَيلْزمهُ ذَلِك مَعَ الْإِمْكَان
وَلَو أَنه انْهَدم الْمَسْجِد الَّذِي اعْتكف فِيهِ أَو أخرجه عَنهُ سُلْطَان أَو غَيره فَدخل مَسْجِدا آخر من سَاعَته صَحَّ اعْتِكَافه اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاس أَن يفْسد لِأَنَّهُ ترك اللّّبْث الْمُسْتَحق وَهُوَ الِاعْتِكَاف فِي الْمَسْجِد الْمعِين وَوجه الِاسْتِحْسَان أَنه مَعْذُور فِي الْخُرُوج فَقدر زمَان الْمَشْي مُسْتَثْنى من الْجُمْلَة كَمَا فِي الْخُرُوج إِلَى الْجُمُعَة
فَأَما إِذا خرج لغير مَا ذكرنَا من الْأُمُور سَاعَة فسد اعْتِكَافه عِنْد أبي حنيفَة
وعندأبي يُوسُف وَمُحَمّد لَا يفْسد حَتَّى يخرج أَكثر من نصف يَوْم
وَقَالَ مُحَمَّد قَول أبي حنيفَة أَقيس وَقَول أبي يُوسُف أوسع
هَذَا الَّذِي ذكرنَا فِي الِاعْتِكَاف الْوَاجِب
فَأَما فِي اعْتِكَاف التَّطَوُّع فَلَا بَأْس بِأَن يعود الْمَرِيض وَيشْهد الْجِنَازَة على جَوَاب ظَاهر الرِّوَايَة
وَأما على رِوَايَة الْحسن مُقَدّر بِالْيَوْمِ فَالْجَوَاب فِيهِ وَفِي الْوَاجِب سَوَاء لِأَنَّهُ صَار وَاجِبا بِالشُّرُوعِ
وَأما بَيَان مَا يفْسد الِاعْتِكَاف فَمن ذَلِك مَا لَو جَامع فِي الِاعْتِكَاف لَيْلًا أَو نَهَارا نَاسِيا أَو عَامِدًا فَإِنَّهُ يفْسد الِاعْتِكَاف لِأَنَّهُ من مَحْظُورَات الِاعْتِكَاف قَالَ الله
تَعَالَى {وَلَا تباشروهن وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد}
وَلِهَذَا إِنَّه إِذا خرج من الْمَسْجِد نَاسِيا للاعتكاف يفْسد اعْتِكَافه فالنسيان لم يَجْعَل عذرا فِي بَاب الِاعْتِكَاف وَفِي بَاب الصَّوْم جعل عذرا بِالنَّصِّ الْخَاص
وَلَو جَامع فِيمَا دون الْفرج أَو قبل وَأنزل يفْسد اعْتِكَافه فَأَما إِذا لم ينزل فَلَا يفْسد اعْتِكَافه وَلَكِن يكون حَرَامًا لِأَن الْجِمَاع حرَام هَهُنَا بِالنَّصِّ فَيحرم بدواعيه وَفِي بَاب الصَّوْم الْإِفْطَار حرَام وَحرم الْجِمَاع لكَونه إفطارا وَذَلِكَ الْمَعْنى لم يُوجد فِي الدَّوَاعِي
وَلَو خرج الْمُعْتَكف إِلَى مَسْجِد آخر من غير عذر انْتقض اعْتِكَافه عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا لَا يبطل لما ذكرنَا أَن الْخُرُوج من غير عذر مُبْطل للاعتكاف عِنْده خلافًا لَهما
وَلَيْسَ للْمَرْأَة أَن تعتكف بِدُونِ إِذن زَوجهَا وَكَذَلِكَ العَبْد فَإِن أذن الزَّوْج لَهَا فِي الِاعْتِكَاف فاعتكفت لَيْسَ لَهُ أَن يرجع بِخِلَاف الْمولى لِأَن مَنَافِع العَبْد مَمْلُوكَة للْمولى وَإِنَّمَا أعارها من العَبْد فيمكنه الرُّجُوع والاسترداد بِخِلَاف الزَّوْجَة فَإِنَّهَا حرَّة لَكِنَّهَا أمرت بِخِدْمَة الزَّوْج فَمَتَى أذن فقد أسقط فِي حق نَفسه فَيظْهر حَقّهَا الْأَصْلِيّ فَمَا لم تمض الْمدَّة الَّتِي أذن لَهَا فِيهَا لَيْسَ لَهُ حق الرُّجُوع
وَلَو أوجب على نَفسه اعْتِكَافه لَيْلَة لَا يلْزمه لِأَنَّهَا لَيست بِوَقْت للصَّوْم
وَلَو أوجب اعْتِكَاف يَوْم يَصح وَلَا يلْزمه اعْتِكَاف يَوْم بليلة لِأَن الْيَوْم اعْتِكَاف يَوْم مَعَ ليلته
وَإِن أوجب على نَفسه اعْتِكَاف يَوْمَيْنِ أَو أَكثر تلْزمهُ الْأَيَّام وَمَا يقابلها من اللَّيَالِي لِأَن ذكر الْأَيَّام ذكر اللَّيَالِي وَكَذَلِكَ ذكر اللَّيَالِي ذكر الْأَيَّام قَالَ الله تَعَالَى {ثَلَاثَة أَيَّام إِلَّا رمزا} وَقَالَ فِي مَوضِع آخر {ثَلَاث لَيَال} اسْم لزمان مُقَدّر وَهُوَ وَقت الصَّوْم فَيجوز
وَإِن نوى يَوْمًا بليلته يلْزمه سويا والقصة قصَّة وَاحِدَة
وَلَو لم يكن الْأَمر على مَا قُلْنَا يُؤَدِّي إِلَى التَّنَاقُض فِي خبر الله تَعَالَى وَإنَّهُ لَا يجوز
وَلَو أوجب على نَفسه اعْتِكَاف شهر بِعَيْنِه يجب عَلَيْهِ اعْتِكَاف ذَلِك الشَّهْر لِأَنَّهُ أوجب عينا وَلَو أفسد صَوْم يَوْم يجب عَلَيْهِ اعْتِكَاف الْبَاقِي وَكَذَلِكَ لَو ترك اعْتِكَاف يَوْم يجب عَلَيْهِ بَاقِي الشَّهْر وَيَقْضِي يَوْمًا وَلَا يلْزمه اسْتِقْبَال لِأَن التَّتَابُع ثَبت لمجاورة الْأَيَّام لَا بِالنذرِ
وَلَو قَالَ لله عَليّ أَن أعتكف شهرا أَو ثَلَاثِينَ يَوْمًا يلْزمه مُتَتَابِعًا حَتَّى لَو ترك اعْتِكَاف يَوْم فِيهِ يلْزمه الِاسْتِقْبَال لِأَن التَّتَابُع وَجب حكم النّذر فَيجب الْوَفَاء بِهِ
وَلَو أوجب على نَفسه اعْتِكَاف شهر بِعَيْنِه وَترك الِاعْتِكَاف فِيهِ حَتَّى مضى يجب عَلَيْهِ قَضَاء شهر مُتَتَابِعًا لِأَنَّهُ وَجب عَلَيْهِ قَضَاء شهر بِغَيْر عينه
وَلَو أوجب على نَفسه اعْتِكَاف ثَلَاثِينَ يَوْمًا وعنى بِهِ النَّهَار دون اللَّيْل تصح نِيَّته لِأَن حَقِيقَة الْيَوْم لبياض النَّهَار وَإِنَّمَا يحمل على الْوَقْت الْمُطلق بِدَلِيل فَإِذا نوى حَقِيقَة كَلَامه يَصح
وَلَو أوجب على نَفسه اعْتِكَاف ثَلَاثِينَ لَيْلَة وَنوى اللَّيْل دون النَّهَار يصدق وَلَا يَصح الِاعْتِكَاف لعدم وَقت الصَّوْم
وَلَو أوجب اعْتِكَاف شهر بِغَيْر عينه وَنوى اللَّيَالِي دون الْأَيَّام أَو الْأَيَّام دون اللَّيَالِي لَا يصدق لِأَن الشَّهْر اسْم لزمان مُقَدّر بعضه أَيَّام وَبَعضه لَيَال فَيكون اسْما لمركب خَاص فَلَا ينْطَلق اسْم الشَّهْر على بعضه فَإِذا نوى مَا ذكرنَا فقد نوى مَا لَا يحْتَملهُ كَلَامه بِخِلَاف مَا إِذا قَالَ إِلَّا اللَّيَالِي أَو أوجب اعْتِكَاف شهر بِالنَّهَارِ دون اللَّيَالِي صَحَّ لِأَن الِاسْتِثْنَاء تكلم بِالْبَاقِي وَذكر النَّهَار مُقَارنًا لذكر الشَّهْر بَيَان وَتَفْسِير لَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ لله عَليّ أَن أعتكف ثَلَاثِينَ نَهَارا فَهُوَ الْفرق بَينهمَا وَالله أعلم
الْكَلَام فِي الِاعْتِكَاف فِي مَوَاضِع فِي بَيَان كَونه سنة أَو وَاجِبا
وَفِي بَيَان شَرَائِطه
وَفِي بَيَان رُكْنه
وَفِي بَيَان مَا يُفْسِدهُ
وَفِي بَيَان سنَنه وآدابه
أما الأول فالاعتكاف سنة فقد فعله النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وواظب عَلَيْهِ على مَا رُوِيَ عَن عَائِشَة وَأبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يعْتَكف الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان حَتَّى توفاه الله
لَكِن يصير وَاجِبا بِالنذرِ وبالشروع لِأَنَّهُمَا جعلا من أَسبَاب الْوُجُوب فِي الشَّرْع
فَأَما الشَّرَائِط فَمِنْهَا الصَّوْم فِي الِاعْتِكَاف الْوَاجِب فِي ظَاهر الرِّوَايَة لَا فِي التَّطَوُّع
وَفِي رِوَايَة الْحسن فِي التَّطَوُّع أَيْضا
وَقَالَ الشَّافِعِي لَيْسَ بِشَرْط
وروى الْحسن عَن عَائِشَة وَابْن عَبَّاس وَفِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن
عَليّ مثل قَوْلنَا
وَرُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود مثل قَول الشَّافِعِي
وَلنَا أَن أحد ركني الصَّوْم وَهُوَ الْإِمْسَاك عَن الْجِمَاع شَرط فِي بَاب الِاعْتِكَاف فَكَذَلِك الرُّكْن الآخر وَهُوَ الْإِمْسَاك عَن الْأكل وَالشرب وَهَذَا لِأَن الِاعْتِكَاف مجاورة بَيت الله تَعَالَى والإعراض عَن الدُّنْيَا والاشتغال بِخِدْمَة الْمولى وَهَذَا لَا يتَحَقَّق بِدُونِ ترك قَضَاء الشهوتين إِلَّا بِقدر مَا فِيهِ ضَرُورَة وَهُوَ الْأكل وَالشرب فِي اللَّيَالِي وَلَا ضَرُورَة فِي الْجِمَاع
وَيَنْبَنِي على هَذَا الأَصْل أَن الِاعْتِكَاف لَا يجوز فِي اللَّيْل وَحده عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ لِأَن الصَّوْم شَرط الِاعْتِكَاف أَو رُكْنه على مَا ذكرنَا وَلَا وجود للشَّيْء بِدُونِ رُكْنه وَشَرطه
وَأما إِذا أوجب الِاعْتِكَاف أَيَّامًا يدْخل اللَّيْل تبعا فَلَا يشْتَرط لَهُ شَرط الأَصْل
وَعند الشَّافِعِي الصَّوْم لَيْسَ بِشَرْط فَيكون اللَّيْل وَالنَّهَار سَوَاء
وَمِنْهَا أَن الْإِمْسَاك عَن الْجِمَاع شَرط قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تباشروهن وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد}
وَأما الْمَرْأَة فقد ذكر هَهُنَا وَقَالَ لَا تعتكف الْمَرْأَة إِلَّا فِي مَسْجِد بَيتهَا وَلَا يَنْبَغِي أَن تخرج من الْمنزل فِي الِاعْتِكَاف
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَن للْمَرْأَة أَن تعتكف فِي مَسْجِد
الْجَمَاعَة وَإِن شَاءَت اعتكفت فِي مَسْجِد بَيتهَا وَمَسْجِد بَيتهَا أفضل لَهَا من مَسْجِد حيها وَمَسْجِد حيها أفضل لَهَا من الْمَسْجِد الْجَامِع
وَهَذَا لَيْسَ باخْتلَاف الرِّوَايَة لِأَنَّهُ على الرِّوَايَتَيْنِ يجوز الِاعْتِكَاف فِي الْمَسْجِد وَالْأَفْضَل هُوَ فِي مَسْجِد بَيتهَا
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يجوز فِي مَسْجِد بَيتهَا
وَهُوَ فَاسد فَإِن صلَاتهَا تجوز فِي مَسْجِد بَيتهَا وَهَذَا الْمَكَان مُتَعَيّن للصَّلَاة فالاعتكاف أولى
وَأما ركن الِاعْتِكَاف فَهُوَ كاسمه وَهُوَ اللَّيْث وَالْمقَام فِي الْمَسْجِد
وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَيحرم الْخُرُوج من مُعْتَكفه لِأَنَّهُ يضاده وَلَا بَقَاء للشَّيْء مَعَ ضِدّه وَإِبْطَال الْعِبَادَة حرَام
وَإِنَّمَا يُبَاح الْخُرُوج لأجل الضَّرُورَة وَذَلِكَ لحجة الْبَوْل وَالْغَائِط ولأداء الْجُمُعَة لِأَنَّهَا فرض عَلَيْهِ
فَأَما الْأكل وَالشرب وَالنَّوْم فَجَائِز فِي الْمَسْجِد فَلَا ضَرُورَة فِي ذَلِك
وَلِهَذَا قَالُوا لَا يُبَاح لَهُ فخروج لعيادة الْمَرِيض وتشييع الْجِنَازَة لِأَن ذَلِك لَيْسَ بِفَرْض عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْض عين فَإِذا قَامَ بِهِ الْبَعْض سقط عَن البَاقِينَ
ثمَّ إِذا أَرَادَ أَن يخرج إِلَى الْجُمُعَة يَنْبَغِي أَن يخرج وَقت سَماع الْأَذَان فَيكون فِي الْمَسْجِد مِقْدَار مَا يُصَلِّي قبلهَا أَرْبعا وَبعدهَا أَرْبعا أَو سِتا كَذَا ذكر هَهُنَا
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة مِقْدَار مَا يُصَلِّي قبلهَا أَرْبعا وَبعدهَا أَرْبعا
وَقَالَ مُحَمَّد إِذا كَانَ منزله بَعيدا يخرج حِين يرى أَنه يبلغ الْمَسْجِد
عِنْد النداء لِأَن الْفَرْض أَدَاء الْجُمُعَة فَيقدر بِوَقْت يُمكنهُ فِيهِ أَدَاء الْجُمُعَة بسنتها
فَإِن أَقَامَ فِي الْمَسْجِد الْجَامِع
حِين خرج إِلَى الْجُمُعَة يَوْمًا وَلَيْلَة لم ينْتَقض اعْتِكَافه لِأَن الْجَامِع يصلح لابتداء الِاعْتِكَاف فيصلح للبقاء وَلَكِن لَا أحب أَن يفعل ذَلِك بل يكره لَهُ ذَلِك لِأَن الْتزم فعل الِاعْتِكَاف فِي الْمَسْجِد الْمعِين فَيلْزمهُ ذَلِك مَعَ الْإِمْكَان
وَلَو أَنه انْهَدم الْمَسْجِد الَّذِي اعْتكف فِيهِ أَو أخرجه عَنهُ سُلْطَان أَو غَيره فَدخل مَسْجِدا آخر من سَاعَته صَحَّ اعْتِكَافه اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاس أَن يفْسد لِأَنَّهُ ترك اللّّبْث الْمُسْتَحق وَهُوَ الِاعْتِكَاف فِي الْمَسْجِد الْمعِين وَوجه الِاسْتِحْسَان أَنه مَعْذُور فِي الْخُرُوج فَقدر زمَان الْمَشْي مُسْتَثْنى من الْجُمْلَة كَمَا فِي الْخُرُوج إِلَى الْجُمُعَة
فَأَما إِذا خرج لغير مَا ذكرنَا من الْأُمُور سَاعَة فسد اعْتِكَافه عِنْد أبي حنيفَة
وعندأبي يُوسُف وَمُحَمّد لَا يفْسد حَتَّى يخرج أَكثر من نصف يَوْم
وَقَالَ مُحَمَّد قَول أبي حنيفَة أَقيس وَقَول أبي يُوسُف أوسع
هَذَا الَّذِي ذكرنَا فِي الِاعْتِكَاف الْوَاجِب
فَأَما فِي اعْتِكَاف التَّطَوُّع فَلَا بَأْس بِأَن يعود الْمَرِيض وَيشْهد الْجِنَازَة على جَوَاب ظَاهر الرِّوَايَة
وَأما على رِوَايَة الْحسن مُقَدّر بِالْيَوْمِ فَالْجَوَاب فِيهِ وَفِي الْوَاجِب سَوَاء لِأَنَّهُ صَار وَاجِبا بِالشُّرُوعِ
وَأما بَيَان مَا يفْسد الِاعْتِكَاف فَمن ذَلِك مَا لَو جَامع فِي الِاعْتِكَاف لَيْلًا أَو نَهَارا نَاسِيا أَو عَامِدًا فَإِنَّهُ يفْسد الِاعْتِكَاف لِأَنَّهُ من مَحْظُورَات الِاعْتِكَاف قَالَ الله
تَعَالَى {وَلَا تباشروهن وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد}
وَلِهَذَا إِنَّه إِذا خرج من الْمَسْجِد نَاسِيا للاعتكاف يفْسد اعْتِكَافه فالنسيان لم يَجْعَل عذرا فِي بَاب الِاعْتِكَاف وَفِي بَاب الصَّوْم جعل عذرا بِالنَّصِّ الْخَاص
وَلَو جَامع فِيمَا دون الْفرج أَو قبل وَأنزل يفْسد اعْتِكَافه فَأَما إِذا لم ينزل فَلَا يفْسد اعْتِكَافه وَلَكِن يكون حَرَامًا لِأَن الْجِمَاع حرَام هَهُنَا بِالنَّصِّ فَيحرم بدواعيه وَفِي بَاب الصَّوْم الْإِفْطَار حرَام وَحرم الْجِمَاع لكَونه إفطارا وَذَلِكَ الْمَعْنى لم يُوجد فِي الدَّوَاعِي
وَلَو خرج الْمُعْتَكف إِلَى مَسْجِد آخر من غير عذر انْتقض اعْتِكَافه عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا لَا يبطل لما ذكرنَا أَن الْخُرُوج من غير عذر مُبْطل للاعتكاف عِنْده خلافًا لَهما
وَلَيْسَ للْمَرْأَة أَن تعتكف بِدُونِ إِذن زَوجهَا وَكَذَلِكَ العَبْد فَإِن أذن الزَّوْج لَهَا فِي الِاعْتِكَاف فاعتكفت لَيْسَ لَهُ أَن يرجع بِخِلَاف الْمولى لِأَن مَنَافِع العَبْد مَمْلُوكَة للْمولى وَإِنَّمَا أعارها من العَبْد فيمكنه الرُّجُوع والاسترداد بِخِلَاف الزَّوْجَة فَإِنَّهَا حرَّة لَكِنَّهَا أمرت بِخِدْمَة الزَّوْج فَمَتَى أذن فقد أسقط فِي حق نَفسه فَيظْهر حَقّهَا الْأَصْلِيّ فَمَا لم تمض الْمدَّة الَّتِي أذن لَهَا فِيهَا لَيْسَ لَهُ حق الرُّجُوع
وَلَو أوجب على نَفسه اعْتِكَافه لَيْلَة لَا يلْزمه لِأَنَّهَا لَيست بِوَقْت للصَّوْم
وَلَو أوجب اعْتِكَاف يَوْم يَصح وَلَا يلْزمه اعْتِكَاف يَوْم بليلة لِأَن الْيَوْم اعْتِكَاف يَوْم مَعَ ليلته
وَإِن أوجب على نَفسه اعْتِكَاف يَوْمَيْنِ أَو أَكثر تلْزمهُ الْأَيَّام وَمَا يقابلها من اللَّيَالِي لِأَن ذكر الْأَيَّام ذكر اللَّيَالِي وَكَذَلِكَ ذكر اللَّيَالِي ذكر الْأَيَّام قَالَ الله تَعَالَى {ثَلَاثَة أَيَّام إِلَّا رمزا} وَقَالَ فِي مَوضِع آخر {ثَلَاث لَيَال} اسْم لزمان مُقَدّر وَهُوَ وَقت الصَّوْم فَيجوز
وَإِن نوى يَوْمًا بليلته يلْزمه سويا والقصة قصَّة وَاحِدَة
وَلَو لم يكن الْأَمر على مَا قُلْنَا يُؤَدِّي إِلَى التَّنَاقُض فِي خبر الله تَعَالَى وَإنَّهُ لَا يجوز
وَلَو أوجب على نَفسه اعْتِكَاف شهر بِعَيْنِه يجب عَلَيْهِ اعْتِكَاف ذَلِك الشَّهْر لِأَنَّهُ أوجب عينا وَلَو أفسد صَوْم يَوْم يجب عَلَيْهِ اعْتِكَاف الْبَاقِي وَكَذَلِكَ لَو ترك اعْتِكَاف يَوْم يجب عَلَيْهِ بَاقِي الشَّهْر وَيَقْضِي يَوْمًا وَلَا يلْزمه اسْتِقْبَال لِأَن التَّتَابُع ثَبت لمجاورة الْأَيَّام لَا بِالنذرِ
وَلَو قَالَ لله عَليّ أَن أعتكف شهرا أَو ثَلَاثِينَ يَوْمًا يلْزمه مُتَتَابِعًا حَتَّى لَو ترك اعْتِكَاف يَوْم فِيهِ يلْزمه الِاسْتِقْبَال لِأَن التَّتَابُع وَجب حكم النّذر فَيجب الْوَفَاء بِهِ
وَلَو أوجب على نَفسه اعْتِكَاف شهر بِعَيْنِه وَترك الِاعْتِكَاف فِيهِ حَتَّى مضى يجب عَلَيْهِ قَضَاء شهر مُتَتَابِعًا لِأَنَّهُ وَجب عَلَيْهِ قَضَاء شهر بِغَيْر عينه
وَلَو أوجب على نَفسه اعْتِكَاف ثَلَاثِينَ يَوْمًا وعنى بِهِ النَّهَار دون اللَّيْل تصح نِيَّته لِأَن حَقِيقَة الْيَوْم لبياض النَّهَار وَإِنَّمَا يحمل على الْوَقْت الْمُطلق بِدَلِيل فَإِذا نوى حَقِيقَة كَلَامه يَصح
وَلَو أوجب على نَفسه اعْتِكَاف ثَلَاثِينَ لَيْلَة وَنوى اللَّيْل دون النَّهَار يصدق وَلَا يَصح الِاعْتِكَاف لعدم وَقت الصَّوْم
وَلَو أوجب اعْتِكَاف شهر بِغَيْر عينه وَنوى اللَّيَالِي دون الْأَيَّام أَو الْأَيَّام دون اللَّيَالِي لَا يصدق لِأَن الشَّهْر اسْم لزمان مُقَدّر بعضه أَيَّام وَبَعضه لَيَال فَيكون اسْما لمركب خَاص فَلَا ينْطَلق اسْم الشَّهْر على بعضه فَإِذا نوى مَا ذكرنَا فقد نوى مَا لَا يحْتَملهُ كَلَامه بِخِلَاف مَا إِذا قَالَ إِلَّا اللَّيَالِي أَو أوجب اعْتِكَاف شهر بِالنَّهَارِ دون اللَّيَالِي صَحَّ لِأَن الِاسْتِثْنَاء تكلم بِالْبَاقِي وَذكر النَّهَار مُقَارنًا لذكر الشَّهْر بَيَان وَتَفْسِير لَهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ لله عَليّ أَن أعتكف ثَلَاثِينَ نَهَارا فَهُوَ الْفرق بَينهمَا وَالله أعلم
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
كتاب الْمَنَاسِك : مَسْأَلَة الْحَج :
كتاب الْمَنَاسِك
اعْلَم أَن الْحَج فَرِيضَة
عرفت فرضيته بِالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة
أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى {الْحَيّ من الْمَيِّت وَتخرج الْمَيِّت من الْحَيّ وترزق من} وَكلمَة على مَوْضُوعَة للْإِيجَاب
وَأما السّنة فَلَمَّا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ قَالَ بني الْإِسْلَام على خمس وَذكر مِنْهَا حج الْبَيْت
وَلما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ من ملك زادا وراحلة تبلغه إِلَى بَيت الله فَلم يحجّ فليمت إِن شَاءَ يَهُودِيّا أَو نَصْرَانِيّا
وَعَلِيهِ الْإِجْمَاع
ثمَّ يحْتَاج إِلَى بَيَان كَيْفيَّة فرضيته
وَبَيَان أَرْكَانه وواجباته وسننه وآدابه
وَبَيَان شَرَائِط وُجُوبه وأدائه
وَبَيَان محظوراته
أما بَيَان كَيْفيَّة فَرضِيَّة الْحَج فَنَقُول لَا خلاف أَن الْحَج فرض عين لَا فرض كِفَايَة فَإِنَّهُ يجب على كل
مُكَلّف استجمع شَرَائِط فَإِذا قَامَ بِهِ الْبَعْض لَا يسْقط عَن البَاقِينَ بِخِلَاف الْجِهَاد فَإِنَّهُ إِذا قَامَ بِهِ الْبَعْض يسْقط عَن البَاقِينَ
وَكَذَلِكَ يجب فِي الْعُمر مرّة وَاحِدَة فَيكون وقته الْعُمر بِخِلَاف الصَّلَاة فَإِنَّهُ يتَكَرَّر وُجُوبهَا فِي كل يَوْم خمس مَرَّات وَالزَّكَاة وَالصَّوْم يجبان فِي كل سنة
وَأَصله مَا رُوِيَ أَنه لما نزلت آيَة الْحَج قالالأقرع بن حَابِس يَا رَسُول الله ألعامنا هَذَا أم لِلْأَبَد فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لِلْأَبَد
وَاخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَصْحَابنَا أَنه يجب وجوبا موسعا أَو مضيقا ذكرالكرخيأنه يجب على الْفَوْر وَكَذَا كل فرض ثَبت مُطلقًا عَن الْوَقْت كالكفارات وَقَضَاء رَمَضَان وَنَحْوهَا
وَذكر مُحَمَّد بن شُجَاع أَنه على التَّرَاخِي
وَذكر الزجاجي
مَسْأَلَة الْحَج
على الِاخْتِلَاف فَقَالَ على قَول أبي يُوسُف يجب على الْفَوْر وعَلى قَول مُحَمَّد يجب على التَّرَاخِي
وروى مُحَمَّد بن شُجَاع الثَّلْجِي قَول أبي حنيفَة مثل قَول أبي يُوسُف
وَفَائِدَة الْخلاف أَن من أخر الْحَج عَن أول أَحْوَال الْإِمْكَان هَل يَأْثَم أم لَا أما لَا خلاف أَنه إِذا أخر ثمَّ أدّى فِي سنة أُخْرَى فَإِنَّهُ يكون مُؤديا وَلَا يكون قَاضِيا بِخِلَاف الْعِبَادَات المؤقتة إِذا فَاتَت عَن أَوْقَاتهَا ثمَّ أدّيت يكون قَضَاء بِالْإِجْمَاع
وَهَذَا حجَّة مُحَمَّد فِي الْمَسْأَلَة
وهما يَقُولَانِ إِنَّا نقُول بِالْوُجُوب على الْفَوْر مَعَ إِطْلَاق الصِّيغَة عَن
الْوَقْت احْتِيَاطًا فَيظْهر فِي حق الآثم حَتَّى يكون حَامِلا على الْأَدَاء وَبَقِي الْإِطْلَاق فِيمَا رَوَاهُ ذَلِك
وَأما ركن الْحَج فشيئان الْوُقُوف بِعَرَفَة وَطواف الزِّيَارَة
وَأما الْوَاجِبَات فخمسة السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة وَالْوُقُوف بِمُزْدَلِفَة وَرمي الْجمار وَالْخُرُوج عَن الْإِحْرَام بِالْحلقِ أَو بالتقصير وَطواف الصَّدْر
وَأما السّنَن والآداب فسنته مَا واظب عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْحَج
وَلم يتْركهُ إِلَّا مرّة أَو مرَّتَيْنِ لِمَعْنى من الْمعَانِي
وآدابه مَا لم يواظب عَلَيْهِ وَفعل ذَلِك مرّة أَو مرَّتَيْنِ على مَا يعرف فِي أثْنَاء الْمسَائِل عِنْد بَيَان أَدَاء الْحَج على التَّرْتِيب
ثمَّ إِذا ترك الرُّكْن لَا يجوز الْحَج وَلَا يجزىء عَنهُ الْبَدَل من ذبح الْبَدنَة وَالشَّاة
وَإِذا ترك السّنة أَو الْآدَاب لَا يلْزمه شَيْء وَيكون مسيئا
وَإِذا ترك الْوَاجِب لَا يفوت الْحَج ويجزىء عَنهُ الْبَدَل إِن عجز عَن الْأَدَاء
وَبَيَان ذَلِك أَن الْحَج لَهُ ثَلَاثَة أطوفة
طواف اللِّقَاء وَيُسمى طواف التَّحِيَّة وَطواف أول عهد بِالْبَيْتِ
وَالثَّانِي طواف الزِّيَارَة وَيُسمى طواف يَوْم النَّحْر وَطواف الرُّكْن
وَالثَّالِث طواف الصَّدْر وَيُسمى طواف الْوَدَاع وَطواف الْإِفَاضَة
وَطواف اللِّقَاء سنة وَالسَّعْي عَقِيبه وَاجِب
فَإِذا ترك الطّواف فَلَا شَيْء عَلَيْهِ
وَإِذا ترك السَّعْي فَعَلَيهِ أَن يسْعَى عقيب طواف الزياة وَلَو تَركه أصلا فَعَلَيهِ الدَّم
وَكَذَلِكَ من ترك طواف الصَّدْر أصلا وَهُوَ مِمَّن يجب عَلَيْهِ ذَلِك يجب عَلَيْهِ الدَّم
وَلَو ترك طواف الزِّيَارَة لَا يَخْلُو إِمَّا إِن ترك طواف الزِّيَارَة وَطواف الصَّدْر جَمِيعًا أَو ترك أَحدهَا دون الآخر وَلَا يَخْلُو إِمَّا إِن عَاد إِلَى أَهله أَو لم يعد
فَأَما إِذا تَركهمَا جَمِيعًا فَمَا دَامَ بِمَكَّة فَإِنَّهُ يُعِيدهَا
فَإِن أعَاد طواف الزِّيَارَة فِي أَيَّام النَّحْر فَلَا شَيْء عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ فِي وقته
وَإِن أعَاد بعد مُضِيّ أَيَّام النَّحْر فَعَلَيهِ الدَّم للتأخير عَن وقته عِنْد أبي حنيفَة
وَعِنْدَهُمَا لَا شَيْء عَلَيْهِ للتأخير
ثمَّ يطوف طواف الصَّدْر قَضَاء لِأَنَّهُ قَاض فِيهِ
وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء لتأخير طواف الصَّدْر بِالْإِجْمَاع
وَإِن رَجَعَ إِلَى أَهله فَهُوَ محرم على النِّسَاء أبدا
وَعَلِيهِ أَن يعود إِلَى مَكَّة بذلك الْإِحْرَام وَيَطوف طواف الزِّيَارَة وَطواف الصَّدْر وَعَلِيهِ دم لتأخير طواف الزِّيَارَة عَن أَيَّام النَّحْر عِنْده وَعِنْدَهُمَا لَا شَيْء عَلَيْهِ
وَأما إِذا طَاف للزيارة وَلم يطف للصدر فَإِن كَانَ بِمَكَّة يَأْتِي بِهِ وَلَا شَيْء عَلَيْهِ للتأخير بِالْإِجْمَاع
وَإِن رَجَعَ إِلَى أَهله فَإِنَّهُ لَا يعود إِلَى مَكَّة وَعَلِيهِ دم لترك طواف الصَّدْر فَإِذا أَرَادَ أَن يعود إِلَى مَكَّة ويقضيه يعود بِإِحْرَام الْعمرَة وَيقوم بِالْعُمْرَةِ
فَإِذا فرغ مِنْهَا طَاف للصدر ثمَّ يرجع
وَأما إِذا طَاف للصدر وَلم يطف للزيارة فَإِن طواف الصَّدْر ينْقل إِلَى طواف الزِّيَارَة
فَمَا دَامَ بِمَكَّة فَيَأْتِي بِطواف الصَّدْر وَعَلِيهِ دم لتأخير طواف الزِّيَارَة عَن أَيَّام النَّحْر عِنْد أبي حنيفَة خلافًا لَهما
وَإِن عَاد إِلَى أَهله فَعَلَيهِ لترك طواف الصَّدْر دم بالِاتِّفَاقِ وَفِي وجوب الدَّم
فِي تَأْخِير طواف الزِّيَارَة عَن وقته اخْتِلَاف على مَا ذكرنَا
وَأما شَرَائِط الْوُجُوب فبعضها عَام فِي الْعِبَادَات كلهَا نَحْو الْعقل وَالْبُلُوغ وَالْإِسْلَام حَتَّى لَا يجب الْحَج على الصَّبِي وَالْمَجْنُون وَالْكَافِر وَإِن ملكوا الزَّاد وَالرَّاحِلَة لِأَنَّهُ لَا خطاب على هَؤُلَاءِ
وَلَو أَنه إِذا وجد مِنْهُم الْإِحْرَام ثمَّ بلغ الصَّبِي وأفاق الْمَجْنُون وَأسلم الْكَافِر وَوقت الْحَج بَاقٍ فَإِن جددوا الْإِحْرَام بنية حجَّة الْإِسْلَام فَإِنَّهُ يَقع عَن حجَّة الْإِسْلَام لِأَن إِحْرَام الْكَافِر وَالْمَجْنُون لَا يَصح أصلا لعدم الْأَهْلِيَّة وإحرام الصَّبِي الْعَاقِل صَحِيح لكنه غير مُلْزم فينتقض بِخِلَاف العَبْد إِذا أحرم بِإِذن الْمولى ثمَّ عتق وَالْوَقْت بَاقٍ فجدد الْإِحْرَام بنية حجَّة الْإِسْلَام وَهُوَ مَالك للزاد وَالرَّاحِلَة فَإِنَّهُ لَا ينْتَقض إِحْرَامه الأول وَلَا يَصح الثَّانِي لِأَن إِحْرَام العَبْد بِإِذن الْمولى لَازم فَلَا يحْتَمل الِانْفِسَاخ
وَأما الشَّرْط الْخَاص فالحرية حَتَّى لَا يجب الْحَج على العَبْد وَإِن أذن لَهُ مَوْلَاهُ لِأَن مَنَافِعه فِي حق الْحَج غير مُسْتَثْنَاة عَن ملك الْمولى فَإِذا أذن لَهُ الْمولى فقد أَعَارَهُ مَنَافِع بدنه وَالْحج لَا يجب بقدرة عَارِية
وَلِهَذَا بِالْإِجْمَاع إِن الْأَجْنَبِيّ إِذا أعَار الزَّاد وَالرَّاحِلَة لمن لَا يملك
الزَّاد وَالرَّاحِلَة فَإِنَّهُ لَا يجب الْحَج عَلَيْهِ فَكَذَلِك هَذَا بِخِلَاف الْفَقِير إِنَّه لَا يجب الْحَج عَلَيْهِ وَلَو تكلّف وَذهب إِلَى مَكَّة بالسؤال وَأدّى يَقع عَن حجَّة الْإِسْلَام لِأَنَّهُ مَالك لمنافع بدنه لَكِن لَا يملك الزَّاد وَالرَّاحِلَة فَلم يجب عَلَيْهِ فَمَتَى وصل إِلَى مَكَّة وَصَارَ قَادِرًا على الْحَج بِالْمَشْيِ وَقَلِيل الزَّاد وَجب عَلَيْهِ الْحَج فَيَقَع عَن الْفَرْض فَهُوَ الْفرق
وَمن شَرطه أَيْضا صِحَة الْبدن وَزَوَال الْمَوَانِع الحسية عَن الذّهاب إِلَى الْحَج حَتَّى إِن المقعد وَالْمَرِيض والزمن والمحبوس والخائف من السُّلْطَان الَّذِي يمْنَع النَّاس من الْخُرُوج إِلَى الْحَج فَإِنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِم الْحَج بِأَنْفسِهِم لِأَن هَذِه عبَادَة بدنية فَلَا بُد من الْقُدْرَة بِصِحَّة الْبدن وَزَوَال الْمَانِع حَتَّى يتَوَجَّه عَلَيْهِم التَّكْلِيف وَلَكِن يجب عَلَيْهِم الإحجاج إِذا ملكوا الزَّاد وَالرَّاحِلَة
وَأما الْأَعْمَى إِذا وجد قائدا بطرِيق الْملك بِأَن كَانَ لَهُ مَال فَاشْترى عبدا أَو اسْتَأْجر أَجِيرا بِمَالِه هَل يجب عَلَيْهِ أَن يحجّ بِنَفسِهِ ذكر فِي الأَصْل أَنه لَا يجب عَلَيْهِ أَن يحجّ بِنَفسِهِ وَلَكِن يجب فِي ملكه عِنْد أبي حنيفَة
وروى الْحسن عَنهُ أَنه يجب عَلَيْهِ أَن يحجّ بِنَفسِهِ
وَكَذَلِكَ رُوِيَ فِي المقعد والزمن أَنه يجب عَلَيْهِمَا إِذا قدر أَن يشتريا عبدا أَو يسْتَأْجر أَجِيرا
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد بِالْوُجُوب فِي حق الْأَعْمَى دون المقعد والزمن
وَجه رِوَايَة الْحسن أَن الْقُدْرَة وَسِيلَة إِلَى أَدَاء الْحَج فيستوي الْقُدْرَة بِالْملكِ وَالْعَارِية
وهما يَقُولَانِ إِن الْأَعْمَى قَادر بِنَفسِهِ على أَدَاء الْحَج إِلَّا أَنه لَا
يَهْتَدِي إِلَى الطَّرِيق وَذَلِكَ يحصل بالقائد فَأَما المقعد فعاجز عَن الْأَدَاء بِنَفسِهِ فَلَا يُكَلف بِالْقُدْرَةِ الَّتِي تحصل بِالْغَيْر لِأَن ذَلِك قد يكون وَقد لَا يكون بِأَن أبق العَبْد وَنقض المتسأجر العقد لعذر من الْأَعْذَار
وابوحنيفة يَقُول بِأَن الْأَعْمَى وَإِن كَانَ قَادِرًا بِنَفسِهِ لَكِن لَا يعْمل قدرته بِدُونِ الْقَائِد وإباقه وَمَوته مُحْتَمل
ثمَّ إِذا لم يجب الْحَج على هَؤُلَاءِ بِأَنْفسِهِم وَلَهُم مَال وَزَاد وراحلة فَعَلَيْهِم أَن يأمروا من يحجّ عَنْهُم بمالهم وَيكون ذَلِك مجزئا عَن حجَّة الْإِسْلَام
وَأَصله ماروي أَن الخثعمية جَاءَت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَت إِن أبي أَدْرَكته فَرِيضَة الْحَج وَهُوَ شيخ كَبِير لَا يسْتَمْسك على الرَّاحِلَة فيجزئني أَن أحج عَنهُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أَرَأَيْت لَو كَانَ على أَبِيك دين فقضيته أما كَانَ يقبل مِنْك فَقَالَت نعم فَقَالَ دين الله أَحَق
فَإِن مَاتَ هَؤُلَاءِ قبل أَن يقدروا على الْحَج بِأَنْفسِهِم وَقع ذَلِك عَن حجَّة الْإِسْلَام وَإِن قدرُوا على الْحَج بِأَنْفسِهِم يجب عَلَيْهِم حجَّة الْإِسْلَام وَمَا حج عَنْهُم يكون تَطَوّعا لِأَنَّهُ خلف ضَرُورِيّ فَيسْقط اعْتِبَاره بِالْقُدْرَةِ على الأَصْل كالشيخ الفاني إِذا عجز عَن صَوْم رَمَضَان ثمَّ صَار قَادِرًا على الصَّوْم يجب عَلَيْهِ الْإِعَادَة لما قُلْنَا كَذَا هَذَا
وَلَو تكلّف المقعد والزمن وَالْمَرِيض فحجوا بِأَنْفسِهِم على الدَّابَّة وَكَذَلِكَ الْأَعْمَى مَعَ الْقَائِد فَإِنَّهُ يسْقط عَنْهُم الْحَج لِأَنَّهُ إِنَّمَا لم يجب عَلَيْهِم دفعا للْحَرج عَنْهُم فَمَتَى تحملوا الْحَرج وَقع موقعه كَالْجُمُعَةِ سَاقِطَة عَن العَبْد بِحَق الْمولى فَإِذا حضر وَأدّى جَازَ لما ذكرنَا كَذَا هَذَا
وَمن شَرطه أَيْضا ملك الزَّاد وَالرَّاحِلَة حَتَّى لَا يجب الْحَج عندنَا لوُجُود الزَّاد بطرِيق الْإِبَاحَة سَوَاء كَانَت الْإِبَاحَة من جِهَة من لَا منَّة لَهُ عَلَيْهِ كالوالدين والمولودين أَو من جِهَة من لَهُ عَلَيْهِ الْمِنَّة كالأجانب
وَقَالَ الشَّافِعِي إِن كَانَت من جِهَة من لَا منَّة لَهُ عَلَيْهِ يجب عَلَيْهِ الْحَج
وَإِن كَانَت من جِهَة الْأَجْنَبِيّ فَلهُ فِيهِ قَولَانِ
وَأما إِذا وهبه إِنْسَان مَالا يحجّ بِهِ فَلَا يجب عَلَيْهِ الْقبُول عندنَا
وَله فِيهِ قَولَانِ
وَأَصله مَا ذكرنَا أَن الْقُدْرَة بِالْملكِ هِيَ الأَصْل فِي توجه الْخطاب
وَأما تَفْسِير الزَّاد وَالرَّاحِلَة فَأن يكون عِنْده دَرَاهِم مِقْدَار مَا يبلغهُ إِلَى مَكَّة ذَاهِبًا وجائيا رَاكِبًا لَا مَاشِيا سوى مَا هُوَ من كفافه وحوائجه من الْمسكن وَالْخَادِم وَالسِّلَاح نَحْو ذَلِك وَسوى مَا يقْضِي بِهِ دُيُونه ويمسك لنفقة عِيَاله وَمَرَمَّة مسكنة وَنَحْوهَا إِلَى وَقت انْصِرَافه
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف وَنَفَقَة شهر بعد انْصِرَافه أَيْضا
وَإِن لم يبلغ مَاله يكتري رَاحِلَة أَو شقّ رَاحِلَة وَلَكِن يَكْفِي لنفقة الْأَجِير وَالْمَشْي رَاجِلا فَإِنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِ الْحَج
وَهَذَا فِي حق الْبعيد من مَكَّة
وَأما فِي حق من كَانَ بِمَكَّة أَو بمنى وعرفات فَهَل يشْتَرط الزَّاد وَالرَّاحِلَة بَعضهم قَالُوا إِذا كَانَ رجلا قَوِيا يُمكنهُ الْمَشْي بالقدم يجب عَلَيْهِ الْحَج لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَى مشي أَرْبَعَة فراسخ لِأَن بَين مَكَّة وعرفات أَرْبَعَة فراسخ وَإِمَّا إِذا كَانَ ضَعِيفا فَلَا يجب عَلَيْهِ مَا لم يقدر على الرَّاحِلَة
وَقَالَ بَعضهم لَا يجب بِدُونِ الرَّاحِلَة لِأَن الْمَشْي رَاجِلا فِيهِ حرج وكل أحد لَا يقدر على مشي أَرْبَعَة فراسخ رَاجِلا وَالله تَعَالَى يَقُول {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج}
وَمن شَرطه أَمن الطَّرِيق أَيْضا لِأَنَّهُ لَا يجب بِدُونِ الزَّاد وَالرَّاحِلَة وَلَا بَقَاء للزاد وَالرَّاحِلَة بِدُونِ الْأَمْن
وَهَذَا فِي حق الرجل فَأَما فِي حق الْمَرْأَة فَلَا بُد من وجود هَذِه الشَّرَائِط وَيشْتَرط فِي حَقّهَا شَرْطَانِ آخرَانِ
أَحدهمَا أَن يكون لَهَا زوج أَو من لَا يجوز المناكحة بَينهمَا على طَرِيق التأييد إِمَّا بِسَبَب الْقَرَابَة أَو الرَّضَاع أَو الصهرية
وَإِذا لم يخرج الْمحرم إِلَّا بِنَفَقَة مِنْهَا هَل يجب عَلَيْهَا نَفَقَته ذكر فِي شرح الْقَدُورِيّ إِنَّهَا تجب لِأَنَّهَا لَا تتمكن من الْحَج إِلَّا بالمحرم كَمَا لَا تتمكن إِلَّا بالزاد وَالرَّاحِلَة فَيجب عَلَيْهَا بذلك إِذا كَانَ لَهَا مَال
وَذكر فِي شرح الطَّحَاوِيّ أَنه لَا يجب عَلَيْهَا نَفَقَته وَلَا يجب عَلَيْهَا الْحَج
وَإِذا لم يكن لَهَا زوج وَلَا محرم لَا يجب عَلَيْهَا أَن تتَزَوَّج ليذْهب مَعهَا
إِلَى الْحَج وَلَا يجب عَلَيْهَا الْحَج بِنَفسِهَا وَيجب فِي مَالهَا
وَهَذَا عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي يجب عَلَيْهَا إِذا كَانَ فِي الرّفْقَة نسَاء
وَإِذا وجدت محرما يجب عَلَيْهَا الْحَج وَلَا يشْتَرط رضَا الزَّوْج وإذنه عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا بُد من إِذن الزَّوْج لِأَن فِيهِ فَوَات حَقه
وَلَكنَّا نقُول إِن الْحَج من الْفَرَائِض اللَّازِمَة فَيكون مَنَافِعهَا مُسْتَثْنَاة عَن ملك الزَّوْج فَأَما فِي التَّطَوُّع فَللزَّوْج حق الْمَنْع كَمَا فِي الصَّلَاة
وَيَسْتَوِي الْجَواب بَين أَن تكون الْمَرْأَة شَابة أَو عجوزا فِي اشْتِرَاط الْمحرم لِأَنَّهَا عَورَة أَيْضا
هَذَا إِذا كَانَ بَينهَا وَبَين مَكَّة مُدَّة السّفر وَهِي ثَلَاثَة أَيَّام ولياليها فَأَما إِذا كَانَ دون مُدَّة السّفر فَإِنَّهُ لَا يشْتَرط الْمحرم
وَالشّرط الثَّانِي أَن لَا تكون مُعْتَدَّة من طَلَاق بَائِن أَو رَجْعِيّ أَو عَن وَفَاة لِأَن الْحَج مِمَّا يُمكن أَدَاؤُهُ فِي وَقت آخر فَأَما الْعدة فَيجب قَضَاؤُهَا فِي هَذَا الْوَقْت خَاصَّة وَالله تَعَالَى يَقُول {لَا تخرجوهن من بُيُوتهنَّ وَلَا يخْرجن}
فَإِن لزمتها الْعدة بعد الْخُرُوج إِلَى الْحَج إِن كَانَ الطَّلَاق رَجْعِيًا فَإِنَّهَا لَا تفارق زَوجهَا لِأَن النِّكَاح قَائِم فتمضي مَعَه وَالْأَفْضَل للزَّوْج أَن يُرَاجِعهَا
وَإِن كَانَ الطَّلَاق بَائِنا أَو عَن وَفَاة فَإِن كَانَ إِلَى منزلهَا أقل من مُدَّة
السّفر وَإِلَى مَكَّة مُدَّة السّفر فَإِنَّهَا تعود وَجعلت كَأَنَّهَا فِي الْمصر
وَإِن كَانَ إِلَى مَكَّة أقل من مُدَّة السّفر فَإِنَّهَا تمْضِي لِأَنَّهُ لَا حَاجَة بهَا إِلَى الْمحرم وَفِي أقل من مُدَّة السّفر
وَإِن كَانَ إِلَى الْجَانِبَيْنِ مُدَّة السّفر فَإِن كَانَت فِي الْمصر فَإِنَّهَا لَا تخرج حَتَّى تَنْقَضِي الْعدة وَإِن وجدت محرما
وَعِنْدَهُمَا تخرج إِن وجدت محرما
وَلَا تخرج بِغَيْر محرم بِالْإِجْمَاع
وَإِن كَانَت فِي الْمَفَازَة أَو فِي قَرْيَة لَا يُؤمن على نَفسهَا وَمَالهَا تمْضِي حَتَّى تدخل مَوضِع الْأَمْن ثمَّ لَا تخرج مَا لم تنقض عدتهَا وَإِن وجدت محرما عِنْده
وَعِنْدَهُمَا تخرج على مَا نذْكر فِي بَاب الْعدة
وَهَذَا كُله مَذْهَب عُلَمَائِنَا
وَقَالَ مالكو الضَّحَّاك بن مُزَاحم بِأَن الزَّاد وَالرَّاحِلَة ليسَا بِشَرْط بل يجب الْحَج على كل مُسلم بَالغ عَاقل صَحِيح الْبدن
وَالصَّحِيح قَول عَامَّة الْعلمَاء لقَوْله تَعَالَى {الْحَيّ من الْمَيِّت وَتخرج الْمَيِّت من الْحَيّ وترزق من} قَالَ أهل التَّفْسِير بِأَن المُرَاد مِنْهُ الزَّاد وَالرَّاحِلَة
ثمَّ هَذِه الشَّرَائِط الَّتِي ذكرنَا إِنَّمَا تعْتَبر عِنْد خُرُوج أهل بَلْدَة إِلَى الْحَج لِأَن ذَلِك وَقت الْوُجُوب فِي حَقه حَتَّى إِنَّه إِذا كَانَ عِنْده دَرَاهِم قبل خُرُوج أهل بَلَده وَاشْترى بهَا الْمسكن وَالْخَادِم وأثاث الْبَيْت وَنَحْو
ذَلِك
فَعِنْدَ خُرُوج أهل بَلَده لَا يجب عَلَيْهِ أَن يَبِيع ذَلِك وَلَا يجب الْحَج عَلَيْهِ
فَأَما إِذا كَانَ لَهُ دَرَاهِم وَقت الْخُرُوج مِقْدَار الزَّاد وَالرَّاحِلَة وَلم يكن لَهُ مسكن وَلَا خدام وَلَا زَوْجَة فَأَرَادَ أَن يصرفهَا إِلَى هَذِه الْأَشْيَاء فَإِنَّهُ يَأْثَم وَيجب عَلَيْهِ الْحَج وَيلْزمهُ الْخُرُوج مَعَهم
وَمن شَرَائِط الْأَدَاء الْإِحْرَام فَإِنَّهُ لَا يَصح أَدَاء أَفعَال الْحَج بِدُونِ الْإِحْرَام كَمَا لَا تصح الصَّلَاة بِدُونِ التَّحْرِيمَة وَهِي التَّكْبِير
وَهَذَا عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي الْإِحْرَام ركن وَلَيْسَ بِشَرْط
وَيَنْبَنِي على هَذَا الأَصْل أَن الْإِحْرَام قبل أشهر الْحَج جَائِز عندنَا
وَعند الشَّافِعِي لَا يجوز وَهِي شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَعشر من ذِي الْحجَّة لِأَن ركن عِنْده وَأَدَاء الرُّكْن لَا يَصح فِي غير وقته كأداء الصَّلَاة قبل الْوَقْت
وَعِنْدنَا لما كَانَ شرطا يجوز وجوده قبل وَقت الْفِعْل كالطهارة وَستر الْعَوْرَة فِي بَاب الصَّلَاة قبل الْوَقْت
وَأَجْمعُوا أَن الْإِحْرَام قبل أشهر الْحَج مَكْرُوه لَا لِأَنَّهُ قبل وَقت الْفِعْل لَكِن لاحْتِمَال أَن يلْحقهُ حرج عَظِيم فِي الِامْتِنَاع عَن مَحْظُورَات الْحَج
وَمِنْهَا الْوَقْت شَرط لِأَن أَدَاء الْحَج فِي غير وقته غير مَشْرُوع لكَونه مؤقتا قَالَ الله تَعَالَى {الْحَج أشهر مَعْلُومَات} وَهُوَ شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَعشر من ذِي الْحجَّة فَلَا يجوز أَدَاء شَيْء من الْأَفْعَال قبلهَا
ومعظم أَفعَال الْحَج مُؤَقّت بِوَقْت خَاص فِي مَكَان خَاص كطواف الزِّيَارَة فِي يَوْم النَّحْر وَالْوُقُوف بِعَرَفَة فِي يَوْم عَرَفَة وَنَحْو ذَلِك على مَا يعرف إِن شَاءَ الله
وَمِنْهَا شَرط الْخُرُوج عَن الْحَج وَهُوَ الْحلق أَو التَّقْصِير بِمَنْزِلَة السَّلَام شَرط الْخُرُوج عَن الصَّلَاة
وَأما الطَّهَارَة عَن الْحَدث والجنابة فِي حَالَة الطّواف فَشرط الْكَمَال عندنَا لَا شَرط الْجَوَاز
وَعند الشَّافِعِي شَرط الْجَوَاز حَتَّى إِن الْأَفْضَل أَن يُعِيد الطّواف وَلَو لم يعد يلْزمه الدَّم فِي الْجَنَابَة يلْزمه الْبَدنَة وَفِي الْحَدث يلْزمه الشَّاة لِأَن النُّقْصَان بِسَبَب الْجَنَابَة أفحش فَكَانَ الْجَزَاء أكمل
وَأما مَحْظُورَات الْإِحْرَام فكثيرة وَهُوَ الارتفاق بمرافق المقيمين لِأَنَّهُ عبَادَة سفر من لبس الْمخيط وَالْوَطْء ودواعيه من اللَّمْس والقبلة والتطيب وَإِزَالَة التفث وَحلق الشّعْر ونتف شعر الْإِبِط وتقليم الْأَظْفَار وَقتل الْقمل من أَخذ الصيود وَالْإِشَارَة إِلَيْهَا وَالدّلَالَة عَلَيْهَا وقتلها سَوَاء كَانَ مَأْكُول اللَّحْم أَولا وَنَحْو ذَلِك
هَذَا بَيَان شَرَائِط الْحَج
فَأَما الْعمرَة فعندنا لَيست بفريضة
وَقَالَ الشَّافِعِي فَرِيضَة وَهِي الْحجَّة الصُّغْرَى
وَاخْتلف مَشَايِخنَا بَعضهم قَالُوا هِيَ سنة مُؤَكدَة وَبَعْضهمْ قَالُوا وَاجِبَة وهما متقاربان
وَاحْتج بقوله تَعَالَى {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} وَلقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الْعمرَة هِيَ الْحجَّة الصُّغْرَى
وَلنَا مَا روى أَبُو هُرَيْرَة أَن أَعْرَابِيًا سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْإِيمَان والشرائع فَبين إِلَى أَن قَالَ وَأَن تقيم الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة وَتُؤَدِّي الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة وَأَن تحج الْبَيْت فَقَالَ الْأَعرَابِي هَل عَليّ شَيْء سوى هَذَا فَقَالَ لَا أَن تتطوع وَلم يذكر الْعمرَة وَأما الْآيَة فَقَرَأَ بَعضهم {وَالْعمْرَة} بِالرَّفْع ووقف على قَوْله {وَأَتمُّوا الْحَج}
وَمَعَ اخْتِلَاف الْقُرَّاء لَا تكون حجَّة وَلِأَن الْآيَة نزلت فِي أهل الْحُدَيْبِيَة وهم خَرجُوا محرمين بِالْعُمْرَةِ وَأَنَّهَا تصير وَاجِبَة بِالشُّرُوعِ ثمَّ حصروا فَأوجب عَلَيْهِم إتْمَام الْعمرَة بطرِيق الْقَضَاء وَالْحج بطرِيق الِابْتِدَاء
وَأما ركن الْعمرَة فشيئان الطّواف وَالسَّعْي
وَالْإِحْرَام شَرط أَدَائِهَا
وَالْحلق أَو التَّقْصِير شَرط الْخُرُوج
وَمَا ذكرنَا من الشَّرَائِط فِي الْحَج فَشرط فِي الْعمرَة
وَكَذَلِكَ مَا ذكرنَا من مَحْظُورَات الْحَج فَهُوَ من مَحْظُورَات الْعمرَة
وَأما وَقت الْعمرَة فَالسنة كلهَا وَقت لَهَا وَلَا تكره سَوَاء كَانَت فِي أشهر الْحَج أَو فِي غَيره إِلَّا فِي خَمْسَة أَيَّام يَوْم عَرَفَة وَيَوْم النَّحْر وَأَيَّام التَّشْرِيق لِأَن الْحَاج مَشْغُول بأَدَاء الْحَج إِلَّا إِذا قضى الْقُرْآن أَو التَّمَتُّع فَلَا بَأْس بِهِ يكون أفضل فِي حق الآفاقي
اعْلَم أَن الْحَج فَرِيضَة
عرفت فرضيته بِالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة
أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى {الْحَيّ من الْمَيِّت وَتخرج الْمَيِّت من الْحَيّ وترزق من} وَكلمَة على مَوْضُوعَة للْإِيجَاب
وَأما السّنة فَلَمَّا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ قَالَ بني الْإِسْلَام على خمس وَذكر مِنْهَا حج الْبَيْت
وَلما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ من ملك زادا وراحلة تبلغه إِلَى بَيت الله فَلم يحجّ فليمت إِن شَاءَ يَهُودِيّا أَو نَصْرَانِيّا
وَعَلِيهِ الْإِجْمَاع
ثمَّ يحْتَاج إِلَى بَيَان كَيْفيَّة فرضيته
وَبَيَان أَرْكَانه وواجباته وسننه وآدابه
وَبَيَان شَرَائِط وُجُوبه وأدائه
وَبَيَان محظوراته
أما بَيَان كَيْفيَّة فَرضِيَّة الْحَج فَنَقُول لَا خلاف أَن الْحَج فرض عين لَا فرض كِفَايَة فَإِنَّهُ يجب على كل
مُكَلّف استجمع شَرَائِط فَإِذا قَامَ بِهِ الْبَعْض لَا يسْقط عَن البَاقِينَ بِخِلَاف الْجِهَاد فَإِنَّهُ إِذا قَامَ بِهِ الْبَعْض يسْقط عَن البَاقِينَ
وَكَذَلِكَ يجب فِي الْعُمر مرّة وَاحِدَة فَيكون وقته الْعُمر بِخِلَاف الصَّلَاة فَإِنَّهُ يتَكَرَّر وُجُوبهَا فِي كل يَوْم خمس مَرَّات وَالزَّكَاة وَالصَّوْم يجبان فِي كل سنة
وَأَصله مَا رُوِيَ أَنه لما نزلت آيَة الْحَج قالالأقرع بن حَابِس يَا رَسُول الله ألعامنا هَذَا أم لِلْأَبَد فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لِلْأَبَد
وَاخْتلفت الرِّوَايَة عَن أَصْحَابنَا أَنه يجب وجوبا موسعا أَو مضيقا ذكرالكرخيأنه يجب على الْفَوْر وَكَذَا كل فرض ثَبت مُطلقًا عَن الْوَقْت كالكفارات وَقَضَاء رَمَضَان وَنَحْوهَا
وَذكر مُحَمَّد بن شُجَاع أَنه على التَّرَاخِي
وَذكر الزجاجي
مَسْأَلَة الْحَج
على الِاخْتِلَاف فَقَالَ على قَول أبي يُوسُف يجب على الْفَوْر وعَلى قَول مُحَمَّد يجب على التَّرَاخِي
وروى مُحَمَّد بن شُجَاع الثَّلْجِي قَول أبي حنيفَة مثل قَول أبي يُوسُف
وَفَائِدَة الْخلاف أَن من أخر الْحَج عَن أول أَحْوَال الْإِمْكَان هَل يَأْثَم أم لَا أما لَا خلاف أَنه إِذا أخر ثمَّ أدّى فِي سنة أُخْرَى فَإِنَّهُ يكون مُؤديا وَلَا يكون قَاضِيا بِخِلَاف الْعِبَادَات المؤقتة إِذا فَاتَت عَن أَوْقَاتهَا ثمَّ أدّيت يكون قَضَاء بِالْإِجْمَاع
وَهَذَا حجَّة مُحَمَّد فِي الْمَسْأَلَة
وهما يَقُولَانِ إِنَّا نقُول بِالْوُجُوب على الْفَوْر مَعَ إِطْلَاق الصِّيغَة عَن
الْوَقْت احْتِيَاطًا فَيظْهر فِي حق الآثم حَتَّى يكون حَامِلا على الْأَدَاء وَبَقِي الْإِطْلَاق فِيمَا رَوَاهُ ذَلِك
وَأما ركن الْحَج فشيئان الْوُقُوف بِعَرَفَة وَطواف الزِّيَارَة
وَأما الْوَاجِبَات فخمسة السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة وَالْوُقُوف بِمُزْدَلِفَة وَرمي الْجمار وَالْخُرُوج عَن الْإِحْرَام بِالْحلقِ أَو بالتقصير وَطواف الصَّدْر
وَأما السّنَن والآداب فسنته مَا واظب عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْحَج
وَلم يتْركهُ إِلَّا مرّة أَو مرَّتَيْنِ لِمَعْنى من الْمعَانِي
وآدابه مَا لم يواظب عَلَيْهِ وَفعل ذَلِك مرّة أَو مرَّتَيْنِ على مَا يعرف فِي أثْنَاء الْمسَائِل عِنْد بَيَان أَدَاء الْحَج على التَّرْتِيب
ثمَّ إِذا ترك الرُّكْن لَا يجوز الْحَج وَلَا يجزىء عَنهُ الْبَدَل من ذبح الْبَدنَة وَالشَّاة
وَإِذا ترك السّنة أَو الْآدَاب لَا يلْزمه شَيْء وَيكون مسيئا
وَإِذا ترك الْوَاجِب لَا يفوت الْحَج ويجزىء عَنهُ الْبَدَل إِن عجز عَن الْأَدَاء
وَبَيَان ذَلِك أَن الْحَج لَهُ ثَلَاثَة أطوفة
طواف اللِّقَاء وَيُسمى طواف التَّحِيَّة وَطواف أول عهد بِالْبَيْتِ
وَالثَّانِي طواف الزِّيَارَة وَيُسمى طواف يَوْم النَّحْر وَطواف الرُّكْن
وَالثَّالِث طواف الصَّدْر وَيُسمى طواف الْوَدَاع وَطواف الْإِفَاضَة
وَطواف اللِّقَاء سنة وَالسَّعْي عَقِيبه وَاجِب
فَإِذا ترك الطّواف فَلَا شَيْء عَلَيْهِ
وَإِذا ترك السَّعْي فَعَلَيهِ أَن يسْعَى عقيب طواف الزياة وَلَو تَركه أصلا فَعَلَيهِ الدَّم
وَكَذَلِكَ من ترك طواف الصَّدْر أصلا وَهُوَ مِمَّن يجب عَلَيْهِ ذَلِك يجب عَلَيْهِ الدَّم
وَلَو ترك طواف الزِّيَارَة لَا يَخْلُو إِمَّا إِن ترك طواف الزِّيَارَة وَطواف الصَّدْر جَمِيعًا أَو ترك أَحدهَا دون الآخر وَلَا يَخْلُو إِمَّا إِن عَاد إِلَى أَهله أَو لم يعد
فَأَما إِذا تَركهمَا جَمِيعًا فَمَا دَامَ بِمَكَّة فَإِنَّهُ يُعِيدهَا
فَإِن أعَاد طواف الزِّيَارَة فِي أَيَّام النَّحْر فَلَا شَيْء عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ فِي وقته
وَإِن أعَاد بعد مُضِيّ أَيَّام النَّحْر فَعَلَيهِ الدَّم للتأخير عَن وقته عِنْد أبي حنيفَة
وَعِنْدَهُمَا لَا شَيْء عَلَيْهِ للتأخير
ثمَّ يطوف طواف الصَّدْر قَضَاء لِأَنَّهُ قَاض فِيهِ
وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء لتأخير طواف الصَّدْر بِالْإِجْمَاع
وَإِن رَجَعَ إِلَى أَهله فَهُوَ محرم على النِّسَاء أبدا
وَعَلِيهِ أَن يعود إِلَى مَكَّة بذلك الْإِحْرَام وَيَطوف طواف الزِّيَارَة وَطواف الصَّدْر وَعَلِيهِ دم لتأخير طواف الزِّيَارَة عَن أَيَّام النَّحْر عِنْده وَعِنْدَهُمَا لَا شَيْء عَلَيْهِ
وَأما إِذا طَاف للزيارة وَلم يطف للصدر فَإِن كَانَ بِمَكَّة يَأْتِي بِهِ وَلَا شَيْء عَلَيْهِ للتأخير بِالْإِجْمَاع
وَإِن رَجَعَ إِلَى أَهله فَإِنَّهُ لَا يعود إِلَى مَكَّة وَعَلِيهِ دم لترك طواف الصَّدْر فَإِذا أَرَادَ أَن يعود إِلَى مَكَّة ويقضيه يعود بِإِحْرَام الْعمرَة وَيقوم بِالْعُمْرَةِ
فَإِذا فرغ مِنْهَا طَاف للصدر ثمَّ يرجع
وَأما إِذا طَاف للصدر وَلم يطف للزيارة فَإِن طواف الصَّدْر ينْقل إِلَى طواف الزِّيَارَة
فَمَا دَامَ بِمَكَّة فَيَأْتِي بِطواف الصَّدْر وَعَلِيهِ دم لتأخير طواف الزِّيَارَة عَن أَيَّام النَّحْر عِنْد أبي حنيفَة خلافًا لَهما
وَإِن عَاد إِلَى أَهله فَعَلَيهِ لترك طواف الصَّدْر دم بالِاتِّفَاقِ وَفِي وجوب الدَّم
فِي تَأْخِير طواف الزِّيَارَة عَن وقته اخْتِلَاف على مَا ذكرنَا
وَأما شَرَائِط الْوُجُوب فبعضها عَام فِي الْعِبَادَات كلهَا نَحْو الْعقل وَالْبُلُوغ وَالْإِسْلَام حَتَّى لَا يجب الْحَج على الصَّبِي وَالْمَجْنُون وَالْكَافِر وَإِن ملكوا الزَّاد وَالرَّاحِلَة لِأَنَّهُ لَا خطاب على هَؤُلَاءِ
وَلَو أَنه إِذا وجد مِنْهُم الْإِحْرَام ثمَّ بلغ الصَّبِي وأفاق الْمَجْنُون وَأسلم الْكَافِر وَوقت الْحَج بَاقٍ فَإِن جددوا الْإِحْرَام بنية حجَّة الْإِسْلَام فَإِنَّهُ يَقع عَن حجَّة الْإِسْلَام لِأَن إِحْرَام الْكَافِر وَالْمَجْنُون لَا يَصح أصلا لعدم الْأَهْلِيَّة وإحرام الصَّبِي الْعَاقِل صَحِيح لكنه غير مُلْزم فينتقض بِخِلَاف العَبْد إِذا أحرم بِإِذن الْمولى ثمَّ عتق وَالْوَقْت بَاقٍ فجدد الْإِحْرَام بنية حجَّة الْإِسْلَام وَهُوَ مَالك للزاد وَالرَّاحِلَة فَإِنَّهُ لَا ينْتَقض إِحْرَامه الأول وَلَا يَصح الثَّانِي لِأَن إِحْرَام العَبْد بِإِذن الْمولى لَازم فَلَا يحْتَمل الِانْفِسَاخ
وَأما الشَّرْط الْخَاص فالحرية حَتَّى لَا يجب الْحَج على العَبْد وَإِن أذن لَهُ مَوْلَاهُ لِأَن مَنَافِعه فِي حق الْحَج غير مُسْتَثْنَاة عَن ملك الْمولى فَإِذا أذن لَهُ الْمولى فقد أَعَارَهُ مَنَافِع بدنه وَالْحج لَا يجب بقدرة عَارِية
وَلِهَذَا بِالْإِجْمَاع إِن الْأَجْنَبِيّ إِذا أعَار الزَّاد وَالرَّاحِلَة لمن لَا يملك
الزَّاد وَالرَّاحِلَة فَإِنَّهُ لَا يجب الْحَج عَلَيْهِ فَكَذَلِك هَذَا بِخِلَاف الْفَقِير إِنَّه لَا يجب الْحَج عَلَيْهِ وَلَو تكلّف وَذهب إِلَى مَكَّة بالسؤال وَأدّى يَقع عَن حجَّة الْإِسْلَام لِأَنَّهُ مَالك لمنافع بدنه لَكِن لَا يملك الزَّاد وَالرَّاحِلَة فَلم يجب عَلَيْهِ فَمَتَى وصل إِلَى مَكَّة وَصَارَ قَادِرًا على الْحَج بِالْمَشْيِ وَقَلِيل الزَّاد وَجب عَلَيْهِ الْحَج فَيَقَع عَن الْفَرْض فَهُوَ الْفرق
وَمن شَرطه أَيْضا صِحَة الْبدن وَزَوَال الْمَوَانِع الحسية عَن الذّهاب إِلَى الْحَج حَتَّى إِن المقعد وَالْمَرِيض والزمن والمحبوس والخائف من السُّلْطَان الَّذِي يمْنَع النَّاس من الْخُرُوج إِلَى الْحَج فَإِنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِم الْحَج بِأَنْفسِهِم لِأَن هَذِه عبَادَة بدنية فَلَا بُد من الْقُدْرَة بِصِحَّة الْبدن وَزَوَال الْمَانِع حَتَّى يتَوَجَّه عَلَيْهِم التَّكْلِيف وَلَكِن يجب عَلَيْهِم الإحجاج إِذا ملكوا الزَّاد وَالرَّاحِلَة
وَأما الْأَعْمَى إِذا وجد قائدا بطرِيق الْملك بِأَن كَانَ لَهُ مَال فَاشْترى عبدا أَو اسْتَأْجر أَجِيرا بِمَالِه هَل يجب عَلَيْهِ أَن يحجّ بِنَفسِهِ ذكر فِي الأَصْل أَنه لَا يجب عَلَيْهِ أَن يحجّ بِنَفسِهِ وَلَكِن يجب فِي ملكه عِنْد أبي حنيفَة
وروى الْحسن عَنهُ أَنه يجب عَلَيْهِ أَن يحجّ بِنَفسِهِ
وَكَذَلِكَ رُوِيَ فِي المقعد والزمن أَنه يجب عَلَيْهِمَا إِذا قدر أَن يشتريا عبدا أَو يسْتَأْجر أَجِيرا
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد بِالْوُجُوب فِي حق الْأَعْمَى دون المقعد والزمن
وَجه رِوَايَة الْحسن أَن الْقُدْرَة وَسِيلَة إِلَى أَدَاء الْحَج فيستوي الْقُدْرَة بِالْملكِ وَالْعَارِية
وهما يَقُولَانِ إِن الْأَعْمَى قَادر بِنَفسِهِ على أَدَاء الْحَج إِلَّا أَنه لَا
يَهْتَدِي إِلَى الطَّرِيق وَذَلِكَ يحصل بالقائد فَأَما المقعد فعاجز عَن الْأَدَاء بِنَفسِهِ فَلَا يُكَلف بِالْقُدْرَةِ الَّتِي تحصل بِالْغَيْر لِأَن ذَلِك قد يكون وَقد لَا يكون بِأَن أبق العَبْد وَنقض المتسأجر العقد لعذر من الْأَعْذَار
وابوحنيفة يَقُول بِأَن الْأَعْمَى وَإِن كَانَ قَادِرًا بِنَفسِهِ لَكِن لَا يعْمل قدرته بِدُونِ الْقَائِد وإباقه وَمَوته مُحْتَمل
ثمَّ إِذا لم يجب الْحَج على هَؤُلَاءِ بِأَنْفسِهِم وَلَهُم مَال وَزَاد وراحلة فَعَلَيْهِم أَن يأمروا من يحجّ عَنْهُم بمالهم وَيكون ذَلِك مجزئا عَن حجَّة الْإِسْلَام
وَأَصله ماروي أَن الخثعمية جَاءَت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَت إِن أبي أَدْرَكته فَرِيضَة الْحَج وَهُوَ شيخ كَبِير لَا يسْتَمْسك على الرَّاحِلَة فيجزئني أَن أحج عَنهُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أَرَأَيْت لَو كَانَ على أَبِيك دين فقضيته أما كَانَ يقبل مِنْك فَقَالَت نعم فَقَالَ دين الله أَحَق
فَإِن مَاتَ هَؤُلَاءِ قبل أَن يقدروا على الْحَج بِأَنْفسِهِم وَقع ذَلِك عَن حجَّة الْإِسْلَام وَإِن قدرُوا على الْحَج بِأَنْفسِهِم يجب عَلَيْهِم حجَّة الْإِسْلَام وَمَا حج عَنْهُم يكون تَطَوّعا لِأَنَّهُ خلف ضَرُورِيّ فَيسْقط اعْتِبَاره بِالْقُدْرَةِ على الأَصْل كالشيخ الفاني إِذا عجز عَن صَوْم رَمَضَان ثمَّ صَار قَادِرًا على الصَّوْم يجب عَلَيْهِ الْإِعَادَة لما قُلْنَا كَذَا هَذَا
وَلَو تكلّف المقعد والزمن وَالْمَرِيض فحجوا بِأَنْفسِهِم على الدَّابَّة وَكَذَلِكَ الْأَعْمَى مَعَ الْقَائِد فَإِنَّهُ يسْقط عَنْهُم الْحَج لِأَنَّهُ إِنَّمَا لم يجب عَلَيْهِم دفعا للْحَرج عَنْهُم فَمَتَى تحملوا الْحَرج وَقع موقعه كَالْجُمُعَةِ سَاقِطَة عَن العَبْد بِحَق الْمولى فَإِذا حضر وَأدّى جَازَ لما ذكرنَا كَذَا هَذَا
وَمن شَرطه أَيْضا ملك الزَّاد وَالرَّاحِلَة حَتَّى لَا يجب الْحَج عندنَا لوُجُود الزَّاد بطرِيق الْإِبَاحَة سَوَاء كَانَت الْإِبَاحَة من جِهَة من لَا منَّة لَهُ عَلَيْهِ كالوالدين والمولودين أَو من جِهَة من لَهُ عَلَيْهِ الْمِنَّة كالأجانب
وَقَالَ الشَّافِعِي إِن كَانَت من جِهَة من لَا منَّة لَهُ عَلَيْهِ يجب عَلَيْهِ الْحَج
وَإِن كَانَت من جِهَة الْأَجْنَبِيّ فَلهُ فِيهِ قَولَانِ
وَأما إِذا وهبه إِنْسَان مَالا يحجّ بِهِ فَلَا يجب عَلَيْهِ الْقبُول عندنَا
وَله فِيهِ قَولَانِ
وَأَصله مَا ذكرنَا أَن الْقُدْرَة بِالْملكِ هِيَ الأَصْل فِي توجه الْخطاب
وَأما تَفْسِير الزَّاد وَالرَّاحِلَة فَأن يكون عِنْده دَرَاهِم مِقْدَار مَا يبلغهُ إِلَى مَكَّة ذَاهِبًا وجائيا رَاكِبًا لَا مَاشِيا سوى مَا هُوَ من كفافه وحوائجه من الْمسكن وَالْخَادِم وَالسِّلَاح نَحْو ذَلِك وَسوى مَا يقْضِي بِهِ دُيُونه ويمسك لنفقة عِيَاله وَمَرَمَّة مسكنة وَنَحْوهَا إِلَى وَقت انْصِرَافه
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف وَنَفَقَة شهر بعد انْصِرَافه أَيْضا
وَإِن لم يبلغ مَاله يكتري رَاحِلَة أَو شقّ رَاحِلَة وَلَكِن يَكْفِي لنفقة الْأَجِير وَالْمَشْي رَاجِلا فَإِنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِ الْحَج
وَهَذَا فِي حق الْبعيد من مَكَّة
وَأما فِي حق من كَانَ بِمَكَّة أَو بمنى وعرفات فَهَل يشْتَرط الزَّاد وَالرَّاحِلَة بَعضهم قَالُوا إِذا كَانَ رجلا قَوِيا يُمكنهُ الْمَشْي بالقدم يجب عَلَيْهِ الْحَج لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَى مشي أَرْبَعَة فراسخ لِأَن بَين مَكَّة وعرفات أَرْبَعَة فراسخ وَإِمَّا إِذا كَانَ ضَعِيفا فَلَا يجب عَلَيْهِ مَا لم يقدر على الرَّاحِلَة
وَقَالَ بَعضهم لَا يجب بِدُونِ الرَّاحِلَة لِأَن الْمَشْي رَاجِلا فِيهِ حرج وكل أحد لَا يقدر على مشي أَرْبَعَة فراسخ رَاجِلا وَالله تَعَالَى يَقُول {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج}
وَمن شَرطه أَمن الطَّرِيق أَيْضا لِأَنَّهُ لَا يجب بِدُونِ الزَّاد وَالرَّاحِلَة وَلَا بَقَاء للزاد وَالرَّاحِلَة بِدُونِ الْأَمْن
وَهَذَا فِي حق الرجل فَأَما فِي حق الْمَرْأَة فَلَا بُد من وجود هَذِه الشَّرَائِط وَيشْتَرط فِي حَقّهَا شَرْطَانِ آخرَانِ
أَحدهمَا أَن يكون لَهَا زوج أَو من لَا يجوز المناكحة بَينهمَا على طَرِيق التأييد إِمَّا بِسَبَب الْقَرَابَة أَو الرَّضَاع أَو الصهرية
وَإِذا لم يخرج الْمحرم إِلَّا بِنَفَقَة مِنْهَا هَل يجب عَلَيْهَا نَفَقَته ذكر فِي شرح الْقَدُورِيّ إِنَّهَا تجب لِأَنَّهَا لَا تتمكن من الْحَج إِلَّا بالمحرم كَمَا لَا تتمكن إِلَّا بالزاد وَالرَّاحِلَة فَيجب عَلَيْهَا بذلك إِذا كَانَ لَهَا مَال
وَذكر فِي شرح الطَّحَاوِيّ أَنه لَا يجب عَلَيْهَا نَفَقَته وَلَا يجب عَلَيْهَا الْحَج
وَإِذا لم يكن لَهَا زوج وَلَا محرم لَا يجب عَلَيْهَا أَن تتَزَوَّج ليذْهب مَعهَا
إِلَى الْحَج وَلَا يجب عَلَيْهَا الْحَج بِنَفسِهَا وَيجب فِي مَالهَا
وَهَذَا عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي يجب عَلَيْهَا إِذا كَانَ فِي الرّفْقَة نسَاء
وَإِذا وجدت محرما يجب عَلَيْهَا الْحَج وَلَا يشْتَرط رضَا الزَّوْج وإذنه عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا بُد من إِذن الزَّوْج لِأَن فِيهِ فَوَات حَقه
وَلَكنَّا نقُول إِن الْحَج من الْفَرَائِض اللَّازِمَة فَيكون مَنَافِعهَا مُسْتَثْنَاة عَن ملك الزَّوْج فَأَما فِي التَّطَوُّع فَللزَّوْج حق الْمَنْع كَمَا فِي الصَّلَاة
وَيَسْتَوِي الْجَواب بَين أَن تكون الْمَرْأَة شَابة أَو عجوزا فِي اشْتِرَاط الْمحرم لِأَنَّهَا عَورَة أَيْضا
هَذَا إِذا كَانَ بَينهَا وَبَين مَكَّة مُدَّة السّفر وَهِي ثَلَاثَة أَيَّام ولياليها فَأَما إِذا كَانَ دون مُدَّة السّفر فَإِنَّهُ لَا يشْتَرط الْمحرم
وَالشّرط الثَّانِي أَن لَا تكون مُعْتَدَّة من طَلَاق بَائِن أَو رَجْعِيّ أَو عَن وَفَاة لِأَن الْحَج مِمَّا يُمكن أَدَاؤُهُ فِي وَقت آخر فَأَما الْعدة فَيجب قَضَاؤُهَا فِي هَذَا الْوَقْت خَاصَّة وَالله تَعَالَى يَقُول {لَا تخرجوهن من بُيُوتهنَّ وَلَا يخْرجن}
فَإِن لزمتها الْعدة بعد الْخُرُوج إِلَى الْحَج إِن كَانَ الطَّلَاق رَجْعِيًا فَإِنَّهَا لَا تفارق زَوجهَا لِأَن النِّكَاح قَائِم فتمضي مَعَه وَالْأَفْضَل للزَّوْج أَن يُرَاجِعهَا
وَإِن كَانَ الطَّلَاق بَائِنا أَو عَن وَفَاة فَإِن كَانَ إِلَى منزلهَا أقل من مُدَّة
السّفر وَإِلَى مَكَّة مُدَّة السّفر فَإِنَّهَا تعود وَجعلت كَأَنَّهَا فِي الْمصر
وَإِن كَانَ إِلَى مَكَّة أقل من مُدَّة السّفر فَإِنَّهَا تمْضِي لِأَنَّهُ لَا حَاجَة بهَا إِلَى الْمحرم وَفِي أقل من مُدَّة السّفر
وَإِن كَانَ إِلَى الْجَانِبَيْنِ مُدَّة السّفر فَإِن كَانَت فِي الْمصر فَإِنَّهَا لَا تخرج حَتَّى تَنْقَضِي الْعدة وَإِن وجدت محرما
وَعِنْدَهُمَا تخرج إِن وجدت محرما
وَلَا تخرج بِغَيْر محرم بِالْإِجْمَاع
وَإِن كَانَت فِي الْمَفَازَة أَو فِي قَرْيَة لَا يُؤمن على نَفسهَا وَمَالهَا تمْضِي حَتَّى تدخل مَوضِع الْأَمْن ثمَّ لَا تخرج مَا لم تنقض عدتهَا وَإِن وجدت محرما عِنْده
وَعِنْدَهُمَا تخرج على مَا نذْكر فِي بَاب الْعدة
وَهَذَا كُله مَذْهَب عُلَمَائِنَا
وَقَالَ مالكو الضَّحَّاك بن مُزَاحم بِأَن الزَّاد وَالرَّاحِلَة ليسَا بِشَرْط بل يجب الْحَج على كل مُسلم بَالغ عَاقل صَحِيح الْبدن
وَالصَّحِيح قَول عَامَّة الْعلمَاء لقَوْله تَعَالَى {الْحَيّ من الْمَيِّت وَتخرج الْمَيِّت من الْحَيّ وترزق من} قَالَ أهل التَّفْسِير بِأَن المُرَاد مِنْهُ الزَّاد وَالرَّاحِلَة
ثمَّ هَذِه الشَّرَائِط الَّتِي ذكرنَا إِنَّمَا تعْتَبر عِنْد خُرُوج أهل بَلْدَة إِلَى الْحَج لِأَن ذَلِك وَقت الْوُجُوب فِي حَقه حَتَّى إِنَّه إِذا كَانَ عِنْده دَرَاهِم قبل خُرُوج أهل بَلَده وَاشْترى بهَا الْمسكن وَالْخَادِم وأثاث الْبَيْت وَنَحْو
ذَلِك
فَعِنْدَ خُرُوج أهل بَلَده لَا يجب عَلَيْهِ أَن يَبِيع ذَلِك وَلَا يجب الْحَج عَلَيْهِ
فَأَما إِذا كَانَ لَهُ دَرَاهِم وَقت الْخُرُوج مِقْدَار الزَّاد وَالرَّاحِلَة وَلم يكن لَهُ مسكن وَلَا خدام وَلَا زَوْجَة فَأَرَادَ أَن يصرفهَا إِلَى هَذِه الْأَشْيَاء فَإِنَّهُ يَأْثَم وَيجب عَلَيْهِ الْحَج وَيلْزمهُ الْخُرُوج مَعَهم
وَمن شَرَائِط الْأَدَاء الْإِحْرَام فَإِنَّهُ لَا يَصح أَدَاء أَفعَال الْحَج بِدُونِ الْإِحْرَام كَمَا لَا تصح الصَّلَاة بِدُونِ التَّحْرِيمَة وَهِي التَّكْبِير
وَهَذَا عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي الْإِحْرَام ركن وَلَيْسَ بِشَرْط
وَيَنْبَنِي على هَذَا الأَصْل أَن الْإِحْرَام قبل أشهر الْحَج جَائِز عندنَا
وَعند الشَّافِعِي لَا يجوز وَهِي شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَعشر من ذِي الْحجَّة لِأَن ركن عِنْده وَأَدَاء الرُّكْن لَا يَصح فِي غير وقته كأداء الصَّلَاة قبل الْوَقْت
وَعِنْدنَا لما كَانَ شرطا يجوز وجوده قبل وَقت الْفِعْل كالطهارة وَستر الْعَوْرَة فِي بَاب الصَّلَاة قبل الْوَقْت
وَأَجْمعُوا أَن الْإِحْرَام قبل أشهر الْحَج مَكْرُوه لَا لِأَنَّهُ قبل وَقت الْفِعْل لَكِن لاحْتِمَال أَن يلْحقهُ حرج عَظِيم فِي الِامْتِنَاع عَن مَحْظُورَات الْحَج
وَمِنْهَا الْوَقْت شَرط لِأَن أَدَاء الْحَج فِي غير وقته غير مَشْرُوع لكَونه مؤقتا قَالَ الله تَعَالَى {الْحَج أشهر مَعْلُومَات} وَهُوَ شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَعشر من ذِي الْحجَّة فَلَا يجوز أَدَاء شَيْء من الْأَفْعَال قبلهَا
ومعظم أَفعَال الْحَج مُؤَقّت بِوَقْت خَاص فِي مَكَان خَاص كطواف الزِّيَارَة فِي يَوْم النَّحْر وَالْوُقُوف بِعَرَفَة فِي يَوْم عَرَفَة وَنَحْو ذَلِك على مَا يعرف إِن شَاءَ الله
وَمِنْهَا شَرط الْخُرُوج عَن الْحَج وَهُوَ الْحلق أَو التَّقْصِير بِمَنْزِلَة السَّلَام شَرط الْخُرُوج عَن الصَّلَاة
وَأما الطَّهَارَة عَن الْحَدث والجنابة فِي حَالَة الطّواف فَشرط الْكَمَال عندنَا لَا شَرط الْجَوَاز
وَعند الشَّافِعِي شَرط الْجَوَاز حَتَّى إِن الْأَفْضَل أَن يُعِيد الطّواف وَلَو لم يعد يلْزمه الدَّم فِي الْجَنَابَة يلْزمه الْبَدنَة وَفِي الْحَدث يلْزمه الشَّاة لِأَن النُّقْصَان بِسَبَب الْجَنَابَة أفحش فَكَانَ الْجَزَاء أكمل
وَأما مَحْظُورَات الْإِحْرَام فكثيرة وَهُوَ الارتفاق بمرافق المقيمين لِأَنَّهُ عبَادَة سفر من لبس الْمخيط وَالْوَطْء ودواعيه من اللَّمْس والقبلة والتطيب وَإِزَالَة التفث وَحلق الشّعْر ونتف شعر الْإِبِط وتقليم الْأَظْفَار وَقتل الْقمل من أَخذ الصيود وَالْإِشَارَة إِلَيْهَا وَالدّلَالَة عَلَيْهَا وقتلها سَوَاء كَانَ مَأْكُول اللَّحْم أَولا وَنَحْو ذَلِك
هَذَا بَيَان شَرَائِط الْحَج
فَأَما الْعمرَة فعندنا لَيست بفريضة
وَقَالَ الشَّافِعِي فَرِيضَة وَهِي الْحجَّة الصُّغْرَى
وَاخْتلف مَشَايِخنَا بَعضهم قَالُوا هِيَ سنة مُؤَكدَة وَبَعْضهمْ قَالُوا وَاجِبَة وهما متقاربان
وَاحْتج بقوله تَعَالَى {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} وَلقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الْعمرَة هِيَ الْحجَّة الصُّغْرَى
وَلنَا مَا روى أَبُو هُرَيْرَة أَن أَعْرَابِيًا سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْإِيمَان والشرائع فَبين إِلَى أَن قَالَ وَأَن تقيم الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة وَتُؤَدِّي الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة وَأَن تحج الْبَيْت فَقَالَ الْأَعرَابِي هَل عَليّ شَيْء سوى هَذَا فَقَالَ لَا أَن تتطوع وَلم يذكر الْعمرَة وَأما الْآيَة فَقَرَأَ بَعضهم {وَالْعمْرَة} بِالرَّفْع ووقف على قَوْله {وَأَتمُّوا الْحَج}
وَمَعَ اخْتِلَاف الْقُرَّاء لَا تكون حجَّة وَلِأَن الْآيَة نزلت فِي أهل الْحُدَيْبِيَة وهم خَرجُوا محرمين بِالْعُمْرَةِ وَأَنَّهَا تصير وَاجِبَة بِالشُّرُوعِ ثمَّ حصروا فَأوجب عَلَيْهِم إتْمَام الْعمرَة بطرِيق الْقَضَاء وَالْحج بطرِيق الِابْتِدَاء
وَأما ركن الْعمرَة فشيئان الطّواف وَالسَّعْي
وَالْإِحْرَام شَرط أَدَائِهَا
وَالْحلق أَو التَّقْصِير شَرط الْخُرُوج
وَمَا ذكرنَا من الشَّرَائِط فِي الْحَج فَشرط فِي الْعمرَة
وَكَذَلِكَ مَا ذكرنَا من مَحْظُورَات الْحَج فَهُوَ من مَحْظُورَات الْعمرَة
وَأما وَقت الْعمرَة فَالسنة كلهَا وَقت لَهَا وَلَا تكره سَوَاء كَانَت فِي أشهر الْحَج أَو فِي غَيره إِلَّا فِي خَمْسَة أَيَّام يَوْم عَرَفَة وَيَوْم النَّحْر وَأَيَّام التَّشْرِيق لِأَن الْحَاج مَشْغُول بأَدَاء الْحَج إِلَّا إِذا قضى الْقُرْآن أَو التَّمَتُّع فَلَا بَأْس بِهِ يكون أفضل فِي حق الآفاقي
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
بَاب الْإِحْرَام
بَاب الْإِحْرَام
فِي الْبَاب فُصُول بَيَان أَنْوَاع المحرمين
وَبَيَان مَوَاقِيت إحرامهم
وَبَيَان الْإِحْرَام
وَبَيَان الْحَج وَالْعمْرَة وَالْقُرْآن والمتعة بشروطها وأركانها وسننها وآدابها على التَّرْتِيب
أما بَيَان أَنْوَاع المحرمينفنقول المحرمون أَرْبَعَة الْمُفْرد بِالْحَجِّ والمفرد بِالْعُمْرَةِ والقارن بَينهمَا والمتمتع
فَأَما الْمُفْرد بِالْحَجِّ أَن يحرم بِالْحَجِّ لَا غير
والمفرد بِالْعُمْرَةِ أَن يحرم بِالْعُمْرَةِ لَا غير
والقارن أَن يجمع بَين الْحَج وَالْعمْرَة فَيحرم بهما
وَيَقُول لبيْك اللَّهُمَّ بِحجَّة وَعمرَة
والمتمتع أَن يَأْتِي بِالْعُمْرَةِ وَالْحج فِي أشهر الْحَج من غير أَن يلم بأَهْله سَوَاء حل من إِحْرَامه الأول أم لَا على مَا نذْكر
ثمَّ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَاف ثَلَاثَة
صنف مِنْهُم أهل الْآفَاق
وصنف مِنْهُم من كَانَ دَاخل الْحرم وهم أهل مَكَّة وَالْحرم
وصنف مِنْهُم من كَانَ خَارج الْحرم دَاخل مَوَاقِيت أهل الْآفَاق
وَأما مَوَاقِيت إحرامهم فمواقيت أهل الْآفَاق خَمْسَة لِلْحَجِّ وَالْعمْرَة
وَهِي مَوَاقِيت بَينهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَعْظِيمًا للبيت حَتَّى لَا يجوز للآفاقي التجاوز عَن هَذِه الْمَوَاقِيت لدُخُول مَكَّة لقصد الْحَج أَو للتِّجَارَة وَنَحْوهَا إِلَّا محرما فلأهل الْعرَاق ذَات عرق وَلأَهل الْمَدِينَة ذُو الحليفة وَلأَهل الشَّام الْجحْفَة وَلأَهل الْيمن يَلَمْلَم وَلأَهل نجد قرن وَقد وَردت أَحَادِيث مَشْهُورَة فِي هَذَا الْبَاب
ثمَّ هَذِه الْمَوَاقِيت لهَؤُلَاء من أهل الْآفَاق وَلمن حصل من أهل مِيقَات آخر فِي هَذَا الْمِيقَات
وَكَذَلِكَ إِن كَانَ من أهل الْحرم وَأهل الْحل من دَاخل هَذِه الْمَوَاقِيت إِذا خرج إِلَى الْآفَاق للتِّجَارَة ثمَّ رَجَعَ فَحكمه حكم أهل الْآفَاق لَا يجوز لَهُ مجاوزته إِلَّا محرما إِذا قصد مَكَّة إِمَّا الْحَج أَو الْعمرَة
فَأَما إِذا قصدُوا بالمجاوزة السُّكْنَى فِي بُسْتَان بني عَامر الَّذِي هُوَ دَاخل الْمَوَاقِيت خَارج الْحرم فَإِنَّهُ يُبَاح لَهُم الْمُجَاوزَة من غير إِحْرَام وَهِي الْحِيلَة فِي إِسْقَاط الْإِحْرَام
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه لَا يسْقط مَا لم ينْو أَن يُقيم بالبستان خَمْسَة عشر يَوْمًا
وَأما مِيقَات من كَانَ دَاخل الْمَوَاقِيت خَارج الْحرم كَأَهل بُسْتَان بني عَامر لِلْحَجِّ وَالْعمْرَة جَمِيعًا فَمن دويرة أهلهم أَو حَيْثُ شاؤوا من الْحل وَلَا يُبَاح لَهُم دُخُول مَكَّة بِقصد الْحَج وَالْعمْرَة إِلَّا محرمين
وَكَذَلِكَ الآفاقي إِذا حضر بالبستان والمكي إِذا خرج من الْحرم إِلَيْهِ وَأَرَادَ أَن يحجّ أَو يعْتَمر فَيكون حكمهمَا كَحكم أهل الْبُسْتَان
وَأما مِيقَات من كَانَ دَاخل الْحرم فللحج من دويرة أهلهم وحيثما شاؤوا من الْحرم ولعمرة من الْحل كالتنعيم وَغَيره
وَكَذَلِكَ من حصل بِمَكَّة من غير أَهلهَا من البستاني والآفاقي فَحكمه حكم أهل الْحرم
ثمَّ الآفاقي إِذا جَاوز الْمِيقَات بِغَيْر إِحْرَام
وَهُوَ يُرِيد الْحَج أَو الْعمرَة ثمَّ عَاد إِلَى الْمِيقَات قبل أَن يحرم فَأحْرم مِنْهُ وجاوزه محرما فَإِنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِ الدَّم لِأَنَّهُ قضى حَقه بِالْإِحْرَامِ
فَأَما إِذا أحرم بعد الْمُجَاوزَة من دَاخل الْمِيقَات لِلْحَجِّ أَو الْعمرَة وَمضى على إِحْرَامه ذَلِك وَلم يعد فيحب عَلَيْهِ الدَّم لِأَنَّهُ أَدخل النَّقْص فِي إِحْرَامه
فَأَما إِذا أحرم ثمَّ عَاد إِلَى الْمِيقَات وجدد التَّلْبِيَة وَالْإِحْرَام فَيسْقط عَنهُ الدَّم فِي قَول أَصْحَابنَا الثَّلَاثَة
وعندزفر لَا يسْقط
وَلَو عَاد إِلَى الْمِيقَات محرما وَلم يجدد التَّلْبِيَة لَا يسْقط عَنهُ الدَّم عِنْد أبي حنيفَة
وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد يسْقط لبّى أَو لم يلب
وَلَو لم يعد إِلَى الْمِيقَات حَتَّى طَاف شوطا أَو شوطين أَو وقف بِعَرَفَة فِي الْحَج تَأَكد عَلَيْهِ الدَّم حَتَّى لَا يسْقط عَنهُ وَإِن عَاد إِلَى الْمِيقَات وجدد الْمِيقَات والتلبية
وَلَو عَاد إِلَى مِيقَات آخر سوى الْمِيقَات الَّذِي جاوزه من غير إِحْرَام وجدد التَّلْبِيَة قبل أَن يتَّصل إِحْرَامه بِأَفْعَال الْحَج أَو الْعمرَة فَهُوَ كَمَا لَو عَاد إِلَى ذَلِك الْمِيقَات
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف إِن كَانَ هَذَا الْمِيقَات محاذيا لذَلِك الْمِيقَات الَّذِي جاوزه أَو أبعد إِلَى الْحرم سقط الدَّم عَنهُ وَإِلَّا فَلَا
وَكَذَلِكَ هَذَا الحكم فِي حق من كَانَ دَاخل الْمَوَاقِيت خَارج الْحرم فميقاته دويرة أَهله
وَلَو دخل الْحرم لقصد الْحَج أَو الْعمرَة من غير إِحْرَام ثمَّ عَاد إِلَى الْحل وجدد التَّلْبِيَة فَهُوَ على مَا ذكرنَا من الِاخْتِلَاف
وَكَذَلِكَ هَذَا الحكم فِي حق أهل مَكَّة فَإِن إحرامهم لِلْحَجِّ فِي الْحرم وللعمرة من الْحل
وَلَو أَنه إِذا أحرم لِلْحَجِّ من الْحل وللعمرة من الْحرم يجب عَلَيْهِ الدَّم إِلَّا إِذا أَعَادَهُ على الِاخْتِلَاف الَّذِي ذكرنَا
لَو أَن الآفاقي إِذا جَاوز الْمِيقَات لقصد الْحَج أَو لقصد مَكَّة للتِّجَارَة من غير إِحْرَام وَدخل مَكَّة كَذَلِك فَإِنَّهُ يلْزمه إِمَّا حجَّة أَو عمْرَة عندنَا
وَعند الشَّافِعِي لَا يلْزمه شَيْء
فَأَما من كَانَ خَارج الْحرم دَاخل الْمَوَاقِيت إِذا دخل الْحرم
للتِّجَارَة لَا لقصد الْحَج وَالْعمْرَة فَإِنَّهُ لَا يلْزمه شَيْء
وَكَذَلِكَ الْمَكِّيّ إِذا خرج إِلَى الْحل للاحتطاب والاحتشاش ثمَّ دخل مَكَّة لَا يلْزمه شَيْء وَيُبَاح لَهُ الدُّخُول من غير إِحْرَام
وَأَصله مَا رُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السلامرخص للحطابة فِي الدُّخُول من غير إِحْرَام وَهَذَا الْمَعْنى مَوْجُود فِي حق من حوالي مَكَّة من أهل الْحل دون الْمَوَاقِيت لِأَن من حوالي مَكَّة محتاجون إِلَى الدُّخُول فِيهَا لحوائجهم بِخِلَاف الآفاقي وَمن صَار فِي جُمْلَتهمْ من أهل الْحرم وخارج الْحرم دون الْمَوَاقِيت لِأَن الأَصْل هُوَ الْمُجَاوزَة مَعَ الْإِحْرَام تَعْظِيمًا للحرم والكعبة وَإِنَّمَا سقط بِاعْتِبَار الضَّرُورَة وَلَا ضَرُورَة فِي حق الآفاقي لِأَنَّهُ يدْخل مرّة وَاحِدَة
وَكَذَلِكَ الْجَواب فِي حق الآفاقي إِذا صَار من أهل الْبُسْتَان بِأَن قصد دُخُول الْبُسْتَان لَا دُخُول مَكَّة ثمَّ أَرَادَ بعد ذَلِك أَن يدْخل مَكَّة من غير إِحْرَام لَهُ ذَلِك وَلَا يلْزمه شَيْء لِأَنَّهُ صَار من أهل الْبُسْتَان حكما
ثمَّ الآفاقي إِذا لزمَه الْحَج أَو الْعمرَة بِسَبَب مجاوزته الْمِيقَات فِي دُخُول مَكَّة من غير إِحْرَام فَأحْرم فِي تِلْكَ السّنة لما وَجب عَلَيْهِ بِسَبَب الْمُجَاوزَة أَو لحجة الْإِسْلَام أَو للحجة الَّتِي وَجَبت عَلَيْهِ بِسَبَب النّذر فَإِنَّهُ يسْقط عَنهُ مَا وَجب عَلَيْهِ بِسَبَب الْمُجَاوزَة
ثمَّ ينظر إِن خرج إِلَى مِيقَاته وَأحرم مِنْهُ لَا يجب عَلَيْهِ الدَّم لمجاوزته من غير إِحْرَام
وَإِن لم يخرج إِلَى مِيقَاته لَكِن أحرم من مِيقَات أهل مَكَّة إِن كَانَ بهَا أَو من مِيقَات أهل الْبُسْتَان إِن كَانَ بهَا يجب عَلَيْهِ الدَّم لمجاوزته غير محرم عَن مِيقَاته الْأَصْلِيّ
وَهَذَا عندنَا
وَعند زفر لَا يسْقط عَنهُ الْحَج الَّذِي وَجب عَلَيْهِ لدُخُوله مَكَّة من غير إِحْرَام إِلَّا أَن يَنْوِي مَا وَجب عَلَيْهِ بِسَبَب الْمُجَاوزَة
وَلَو تحولت السّنة لَا يسْقط عَنهُ إِلَّا بِتَعْيِين النِّيَّة بِالْإِجْمَاع لِأَنَّهُ صَار دينا عَلَيْهِ فَلَا بُد من تعْيين النِّيَّة
وَلَو أَنه إِذا نوى فِي السّنة الثَّانِيَة عَمَّا وَجب عَلَيْهِ لأجل الْمُجَاوزَة وَأحرم لَكِن أحرم فِي وَقت أهل مَكَّة وَهُوَ بِمَكَّة أَو فِي وَقت أهل الْبُسْتَان وَهُوَ بهَا لم يخرج إِلَى مِيقَاته فَإِنَّهُ يسْقط عَنهُ مَا وَجب عَلَيْهِ لأجل الْمُجَاوزَة
وَلَا يجب عَلَيْهِ الدَّم لترك التَّلْبِيَة عِنْد مِيقَاته لِأَنَّهُ لما حصل بِمَكَّة صَار كالمكي وَكَذَلِكَ إِذا حصل بالبستان صَار من أَهله فقد أَتَى بِالْإِحْرَامِ فِي مِيقَاته وَنوى قَضَاء مَا عَلَيْهِ فَيسْقط عَنهُ فَأَما فِي السّنة الأولى فَهُوَ مؤد لما عَلَيْهِ وَقد وَجب عَلَيْهِ الدَّم بِسَبَب مُجَاوزَة مِيقَاته غير محرم فَلَا يسْقط عَنهُ إِلَّا بتجديد التَّلْبِيَة أَو بِالْعودِ إِلَيْهِ محرما وَلم يُوجد
وَأما بَيَان الإحراموهو أَن يُوجد مِنْهُ فعل هُوَ من خَصَائِص الْحَج وتقترن بِهِ نِيَّة الْحَج أَو الْعمرَة بِأَن يَقُول لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك لَا شريك لَك لبيْك إِن الْحَمد وَالنعْمَة لَك وَالْملك لَا شريك لَك وَيَنْوِي بِهِ الْحَج أَو الْعمرَة إِذا كَانَ مُفردا بِالْحَجِّ أَو بِالْعُمْرَةِ أَو ينويهما جَمِيعًا إِن كَانَ قَارنا
وَإِن كَانَ مُتَمَتِّعا يُرِيد الْحَج وَالْعمْرَة فَإِن شَاءَ ذكر الْعمرَة أَو الْحَج فِي إهلاله فَيَقُول لبيْك بِحجَّة أَو بِعُمْرَة أَو بهما أَو بِالْعُمْرَةِ وَالْحجّة فَإِنَّهُ رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ أَتَانِي آتٍ من رَبِّي وَقَالَ قل لبيْك بِعُمْرَة وَحجَّة
وَالْأَفْضَل أَن يذكر النِّيَّة بِاللِّسَانِ مَعَ الْقلب فَيَقُول اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيد الْحَج وَالْعمْرَة فيسرهما لي وتقبهلما مني
وَلَو ذكر مَكَان التَّلْبِيَة وَالتَّسْبِيح أَو التهليل أَو التَّحْمِيد وَنوى بِهِ الْإِحْرَام يصير محرما سَوَاء كَانَ يحسن التَّلْبِيَة أَو لَا
وَكَذَلِكَ إِذا أَتَى بِلِسَان آخر أَجزَأَهُ سَوَاء كَانَ يحسن الْعَرَبيَّة أَو لَا يحسنها هَكَذَا جَوَاب ظَاهر الرِّوَايَة
وروى الْحسن عَن أبي يُوسُف أَنه إِذا كَانَ لَا يحسن التَّلْبِيَة جَازَ وَإِلَّا فَلَا كَمَا فِي الصَّلَاة
وَالصَّحِيح أَن هَذَا بالِاتِّفَاقِ وَأما أَبُو حنيفَة فقد مر على أَصله فِي بَاب الصَّلَاة وهما فرقا بَين الصَّلَاة وَالْحج لِأَن النِّيَابَة جَارِيَة فِي الْحَج بِخِلَاف الصَّلَاة
وَلَو قلد بَدَنَة وَنوى الْإِحْرَام وساقها وَتوجه مَعهَا يصير محرما سَوَاء قلد بَدَنَة تَطَوّعا أَو نذرا أَو جَزَاء صيد وَنَحْو ذَلِك لِأَن تَقْلِيد الْبَدنَة مَعَ السُّوق من خَصَائِص أَفعَال الْحَج لِأَن الْحجَّاج يقلدون بدنهم وَذَلِكَ بِأَن يعلقوا عَلَيْهَا شِرَاك نعل أَو عُرْوَة مزادة أَو مَا أشبه ذَلِك من الْجُلُود
فَإِذا وجدت نِيَّة الْإِحْرَام مُقَارنَة لفعل هُوَ من خَصَائِص الْحَج يصير محرما لما عرف أَن مُجَرّد النِّيَّة لَا يعْتَبر مَا لم يقْتَرن بِالْفِعْلِ
فَأَما إِذا قلد بَدَنَة وَنوى الْإِحْرَام وَلم يسق الْبَدنَة وَلم يتَوَجَّه مَعهَا بل بعث بهَا على يَد رجل وَأقَام فِي بَلَده لَا يصير محرما لِأَنَّهُ لم
يُوجد مِنْهُ إِلَّا الْأَمر بِالذبْحِ وَذَلِكَ لَا يكون من أَفعَال الْحَج
وَلَو قلد شاته وساقها وَنوى الْإِحْرَام لَا يصير محرما لِأَن تَقْلِيد الشَّاة غير مُعْتَاد فِي بَاب الْحَج
وَكَذَلِكَ لَو جلل بدنه بِأَن ألبسها الجل وَنوى الْإِحْرَام وساقها لَا يصير محرما لِأَن ذَلِك لَيْسَ بقربة وَلَا نسك من مَنَاسِك الْحَج
وَلَو أشعر بدنته بِأَن طَعنهَا فِي سنامها فِي الْجَانِب الْأَيْسَر فَسَالَ مِنْهُ الدَّم وَنوى بِهِ الْإِحْرَام وَلَا يصير محرما أما عِنْد أبي حنيفَة فَلِأَن الْإِشْعَار مَكْرُوه وَلَيْسَ بِسنة وَعِنْدَهُمَا وَإِن كَانَ سنة وَلَكِن لَيْسَ من خَصَائِص الْحَج لِأَن النَّاس تَرَكُوهُ لِأَنَّهُ يشبه الْمثلَة
فَأَما إِذا نوى عِنْد الْإِحْرَام وَلم يذكر التَّلْبِيَة وَلم يُوجد مِنْهُ تَقْلِيد الْبَدنَة والسوق لَا يصير محرما عندنَا
وَعند الشَّافِعِي يصير محرما
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف مثله
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن مُجَرّد النِّيَّة لَا عِبْرَة بِهِ لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ إِن الله تَعَالَى عَفا عَن أمتِي مَا تحدثت بهَا أنفسهم مَا لم يتكلموا أَو يَفْعَلُوا
وَأما بَيَان الْحَج وَالْعمْرَة وَالْقرَان والمتعة على سَبِيل الاستقصاءفنقول إِن من كَانَ من أهل الْآفَاق إِذا بلغ الْمِيقَات وَهُوَ يُرِيد الْعمرَة وَحدهَا وَلم يسق الْهَدْي مَعَ نَفسه فَإِنَّهُ يتجرد ويغتسل أَو يتَوَضَّأ والاغتسال أفضل
ثمَّ يلبس ثَوْبَيْنِ إزارا ورداء غسيلين أَو جديدين ويمس من
الطّيب مَا شَاءَ ويدهن بِأَيّ دهن شَاءَ سَوَاء كَانَ يبْقى على بدنه أَثَره بعد الْإِحْرَام أَو لَا فِي قَول أبي حنيفَة أبي يُوسُف
وعَلى قَول مُحَمَّد وَزفر يكره أَن يتطيب يبْقى أَثَره بعد الْإِحْرَام
ثمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثمَّ يَنْوِي الْعمرَة ويلبي فِي دبر صلَاته بذلك أَو بَعْدَمَا تستوي بِهِ رَاحِلَته على الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا وَيرْفَع صَوته بِالتَّلْبِيَةِ لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ أفضل الْحَج العج والثج فالعج رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ والثج هُوَ تسييل الدَّم بِالذبْحِ
ثمَّ يُكَرر التَّلْبِيَة فِي أدابر الصَّلَوَات المكتوبات والنوافل بعد الْإِحْرَام وَكلما علا شرفا أَو هَبَط وَاديا أَو لَقِي ركبا وَكلما اسْتَيْقَظَ من مَنَامه وَفِي الأسحار هَكَذَا جَاءَت الْأَخْبَار عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَإِذا أَتَى مَكَّة فَلَا بَأْس بِأَن يدخلهَا لَيْلًا أَو نَهَارا وَيَأْتِي الْمَسْجِد الْحَرَام وَيبدأ بِالْحجرِ الْأسود فَإِن استقبله كبر وَرفع يَدَيْهِ كَمَا يرفع فِي الصَّلَاة ثمَّ يرسلهما ثمَّ يستلمه إِن أمكنه من غير أَن يُؤْذِي أحدا وَإِن لم يُمكنهُ كبر وَهَلل وَحمد الله وَصلى على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ رَافع يَدَيْهِ مُسْتَقْبلا بِوَجْهِهِ إِلَيْهِ
وَقَالَ مَشَايِخنَا إِن الْأَفْضَل أَن يقبل الْحجر إِن أمكنه ويستلمه فَإِنَّهُ رُوِيَ عنعمررضي الله عَنهُ أَنه قبله وَالْتَزَمَهُ وَقَالَ رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بك حفيا
ثمَّ يقطع التَّلْبِيَة عِنْد استلام الْحجر وَلَا يُلَبِّي بعده فِي الْعمرَة
ثمَّ يَأْخُذ عَن يَمِين الْحجر مِمَّا يَلِي الْبَاب فيفتتح الطّواف فيطوف حول الْكَعْبَة سَبْعَة أَشْرَاط يرمل فِي الثَّلَاثَة الأول وَيَمْشي على هينته فِي الْأَرْبَع الْبَوَاقِي من الْحجر إِلَى الْحجر ويستلم الْحجر فِي كل شوط مفتتحا لطوافه بِهِ فَإِن ازْدحم النَّاس فِي الرمل يرمل بعد ذَلِك إِذا وجد مسلكا
وَإِن اسْتَلم الرُّكْن الْيَمَانِيّ كَمَا اسْتَلم الْحجر الْأسود
فَهُوَ حسن وَإِن تَركه فَلَا يضرّهُ
وَذكر الطَّحَاوِيّ عَن مُحَمَّد أَنه يسْتَلم الرُّكْن وَيفْعل بِهِ مَا يفعل بِالْحجرِ الْأسود
وَيَنْبَغِي أَن يكون الطّواف فِي كل شوط من وَرَاء الْحطيم فَإِن الْحطيم من الْبَيْت
فَإِذا فرغ من الطّواف يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْد مقَام إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَو حَيْثُ تيَسّر عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِد وَهِي عندنَا وَاجِبَة
وَقَالَ الشَّافِعِي سنة
ثمَّ إِذا فرغ من رَكْعَتي الطّواف يعود إِلَى الْحجر الْأسود فيستلمه إِن أمكنه أَو يستقبله بِوَجْهِهِ وَيكبر ويهلل ويحمد الله تَعَالَى على مَا ذكرنَا حَتَّى يكون افْتِتَاح السَّعْي باستلام الْحجر كَمَا يكون افْتِتَاح الطّواف بِهِ
ثمَّ يخرج من بَاب الصفاء أَو من أَي بَاب تيَسّر لَهُ فَيبْدَأ بالصفا فيصعد عَلَيْهَا وَيقف من حَيْثُ يرى الْبَيْت ويحول وَجهه إِلَى الكبعة وَيكبر ويهلل ويحمد الله تَعَالَى ويثني عَلَيْهِ وَيُصلي على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيسْأل الله تَعَالَى حَوَائِجه
وَيرْفَع يَدَيْهِ وَيجْعَل بطُون كفيه نَحْو السَّمَاء
ثمَّ يهْبط مِنْهَا نَحْو الْمَرْوَة مَاشِيا على هينته حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى بطن الْوَادي فَإِذا كَانَ عِنْد الْميل الْأَخْضَر سعى فِي بطن الْوَادي سعيا حَتَّى يُجَاوز الْميل الْأَخْضَر ثمَّ يصعد على الْمَرْوَة مشيا على هينته
فَإِذا صعد يقف وَيسْتَقْبل بِوَجْهِهِ الْكَعْبَة وَيفْعل مِثْلَمَا فعل على الصَّفَا وَيَطوف بَينهمَا سَبْعَة أَشْوَاط يبْدَأ بالصفا وَيخْتم بالمروة يعد الْبدَاءَة شوطا وَالْعود شوطا آخر فيسعى فِي بطن الْوَادي كلما مر بِهِ
وَذكر الطَّحَاوِيّ وَقَالَ يبتدىء فِي كل مرّة بالصفا وَيخْتم بالمروة وَلم يعد عودة من الْمَرْوَة إِلَى الصَّفَا شوطا
وَالصَّحِيح هُوَ الأول
فَإِذا فرغ من السَّعْي يحلق أَو يقصر وَالْحلق أفضل وَقد تمت الْعمرَة وَحل لَهُ جَمِيع الْمَحْظُورَات الثَّابِتَة بِالْإِحْرَامِ
وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْعمرَة طواف الصَّدْر
هَذَا إِذا لم يسق الْهَدْي فَإِن سَاق الْهَدْي أَقَامَ محرما وَلم يقصر وَلم يحلق للْعُمْرَة لِأَن سوق الْهَدْي دَلِيل قصد التَّمَتُّع والمتمتع إِذا سَاق الْهَدْي لَا يحل لَهُ مَا لم يفرغ من الْحَج فَلهَذَا لم يقصر وَلم يحلق لِأَنَّهُ شَرط الْخُرُوج وَهُوَ لم يخرج
وَأما الْمُفْرد بِالْحَجِّ فَإِنَّهُ يَنْوِي إِحْرَام الْحَج عِنْد الْمِيقَات
فَإِذا أَتَى مَكَّة فَإِنَّهُ يسْتَقْبل بِطواف اللِّقَاء تَحِيَّة للبيت سَبْعَة أَشْوَاط
وَالْأَفْضَل أَن لَا يسْعَى بَين الصَّفَا والمروة لِأَن طواف اللِّقَاء سنة وَالسَّعْي وَاجِب فَمَا يَنْبَغِي أَن يَجْعَل الْوَاجِب تبعا للسّنة وَلكنه يُؤَخر إِلَى طواف الزِّيَارَة لِأَنَّهُ ركن وَالْوَاجِب يجوز أَن يكون تبعا للْفَرض
وَمَتى أخر السَّعْي عَن طواف اللِّقَاء فَإِنَّهُ لَا يرمل فِيهِ وَإِنَّمَا الرمل سنة فِي طواف يعقبه السَّعْي عَرفْنَاهُ بِالنَّصِّ بِخِلَاف الْقيَاس فَيقْتَصر على مورد النَّص لَكِن الْعلمَاء رخصوا فِي الْإِتْيَان بالسعي عقيب طواف اللِّقَاء لِأَن
يَوْم النَّحْر الَّذِي هُوَ وَقت طواف الزِّيَارَة يَوْم شغل من الذّبْح وَرمي الْجمار وَنَحْو ذَلِك فَكَانَ فِيهِ تَخْفيف بِالنَّاسِ
وَإِذا أَتَى بالسعي عقيب طواف اللِّقَاء فَيَنْبَغِي أَن يرمل كَمَا فِي طواف الْعمرَة
ثمَّ الْحَاج لَا يقطع التَّلْبِيَة عِنْد استلام الْحجر وَفِي الْعمرَة يقطع
ثمَّ بعد طواف اللِّقَاء لَهُ أَن يطوف مَا شَاءَ إِلَى يَوْم التَّرويَة وَيُصلي لكل أُسْبُوع رَكْعَتَيْنِ فِي الْوَقْت الَّذِي يُبَاح فِيهِ التَّطَوُّع
فَإِذا كَانَ يَوْم التَّرويَة وَهُوَ الْيَوْم الثَّامِن من ذِي الْحجَّة يُصَلِّي صَلَاة الْفجْر بِمَكَّة ثمَّ يَغْدُو مَعَ النَّاس إِلَى منى وَيُصلي بهَا الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء لأوقاتها ويبيت بهَا لَيْلَة عَرَفَة
فَإِذا أصبح يَوْم عَرَفَة يُصَلِّي صَلَاة الْفجْر بمنى لوَقْتهَا الْمَعْرُوف
فَإِذا طلعت الشَّمْس دفع مِنْهَا إِلَى عَرَفَات على السكينَة وَالْوَقار
فَإِذا بلغ إِلَيْهَا ينزل بهَا حَيْثُ أحب إِلَّا فِي بطن عَرَفَة
فَإِذا زَالَت الشَّمْس يُؤذن الْمُؤَذّن وَالْإِمَام على الْمِنْبَر فَإِذا فرغ من الْأَذَان يقوم الإِمَام ويخطب خطبتين قَائِما ويفصل بَينهمَا بجلسة خَفِيفَة كَمَا فِي يَوْم الْجُمُعَة
فَإِذا خطب الإِمَام يُقيم الْمُؤَذّن الصَّلَاة وَيُصلي بهم الإِمَام صَلَاة الظّهْر ثمَّ يقوم وَيُصلي بهم صَلَاة الْعَصْر فِي وَقت الظّهْر بآذان وَاحِد وَإِقَامَتَيْنِ
وَلَا يشْتَغل الإِمَام وَلَا الْقَوْم بالسنن والتطوع فِيمَا بَينهمَا وَإِذا اشتغلوا بذلك أعَاد الْمُؤَذّن آذان الْعَصْر ويخفي الإِمَام بِالْقِرَاءَةِ فيهمَا كَمَا فِي سَائِر الْأَيَّام
فَإِن كَانَ الإِمَام مُقيما من أهل مَكَّة يتم الصَّلَاتَيْنِ أَرْبعا أَرْبعا وَيتم الْقَوْم مَعَه وَإِن كَانُوا مسافرين لِأَن الْمُسَافِر إِذا اقْتدى بالمقيم فِي الْوَقْت يجب عَلَيْهِ الْإِتْمَام تبعا للْإِمَام
وَإِن كَانَ الإِمَام مُسَافِرًا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وَيَقُول لَهُم بعد الْفَرَاغ أَتموا صَلَاتكُمْ يَا أهل مَكَّة فَإنَّا قوم سفر
فَإِذا فرغ من الصَّلَاة رَاح الإِمَام إِلَى الْموقف وَالنَّاس مَعَه عقيب انصرافهم عَن الصَّلَاة فيقف الإِمَام على رَاحِلَته وَهُوَ أفضل وَإِلَّا فيقف قَائِما وَالنَّاس يقفون مَعَه
وكل من كَانَ وُقُوفه إِلَى الإِمَام أقرب فَهُوَ أفضل لِأَن الإِمَام يعلم النَّاس أُمُور الْمَنَاسِك حَتَّى يستمع مِنْهُ
وعرفات كلهَا موقف إِلَّا بطن عُرَنَة فَلَا يَنْبَغِي الْوُقُوف فِيهَا فيقفون إِلَى غرُوب الشَّمْس فيكبرون ويهللون ويحمدون الله ويثنون عَلَيْهِ وَيصلونَ على النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام ويسألون الله تَعَالَى حوائجهم فَإِنَّهُ وَقت مرجو قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أفضل الدُّعَاء دُعَاء أهل عَرَفَة وَأفضل مَا قلت وَقَالَت الْأَنْبِيَاء قبلي عَرَفَة لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد يحيي وَيُمِيت وَهُوَ حَيّ لَا يَمُوت بِيَدِهِ الْخَيْر وَهُوَ على كل شَيْء قدير وَرُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ إِن الله تَعَالَى يباهي بِأَهْل عَرَفَة يَوْم عَرَفَة فَيَقُول انْظُرُوا ملائكتي إِلَى عبَادي يأْتونَ شعثا غبرا يأْتونَ من كل فج عميق اشْهَدُوا أَنِّي قد غفرت لَهُم فيرجعون كَيَوْم ولدتهم أمّهم
فَإِذا غربت الشَّمْس دفع الإِمَام وَالْقَوْم خَلفه على السكينَة وَالْوَقار إِلَى مُزْدَلِفَة من غير أَن يصلوا صَلَاة الْمغرب بِعَرَفَة فَإِن دفع أحد مِنْهُم قبل غرُوب الشَّمْس ينظر إِن جَاوز حد عَرَفَة بعد غرُوب
الشَّمْس فَلَا شَيْء عَلَيْهِ فَإِن جَاوز قبل الْغُرُوب وَجب عَلَيْهِ دم وَإِن عَاد إِلَى عَرَفَة قبل الْغُرُوب ثمَّ دفع الإِمَام وَالْقَوْم بعد الْغُرُوب سقط عَنهُ الدَّم وقالزفر لَا يسْقط كَمَا فِي مُجَاوزَة الْمِيقَات
وَإِن عَاد إِلَى عَرَفَة بعد الْغُرُوب لَا يسْقط الدَّم بِالْإِجْمَاع
ثمَّ وَقت الْوُقُوف بِعَرَفَة بعد زَوَال الشَّمْس من يَوْم عَرَفَة إِلَى طُلُوع الْفجْر من يَوْم النَّحْر فَمن حصل فِي هَذَا الْوَقْت بِعَرَفَات وَهُوَ عَالم بهَا أَو جَاهِل أَو نَائِم أَو مغمى عَلَيْهِ فَوقف بهَا أَو مر بهَا وَلم يقف صَار مدْركا لِلْحَجِّ وَلَا يحْتَمل الْفَوات بعده لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الْحَج عَرَفَة فَمن وقف بهَا فقد تمّ حجه غير أَنه إِن أدْرك عَرَفَة بِالنَّهَارِ وَعلم بِهِ فَإِنَّهُ يقف بهَا إِلَى غرُوب الشَّمْس فَإِن لم يقف بهَا وَمر بهَا بعد الزَّوَال قبل الْغُرُوب يجب عَلَيْهِ الدَّم
وَإِن أدْركهَا بعد الْغُرُوب فَلم يقف وَمر بهَا فَلَا شَيْء عَلَيْهِ
وَإِن لم يدْرك عَرَفَة حَتَّى طلع الْفجْر من أول يَوْم النَّحْر فقد فَاتَ حجه وَسقط عَنهُ أَفعَال الْحَج ويتحول إِحْرَامه إِلَى الْعمرَة فَيَأْتِي بِأَفْعَال الْعمرَة وَيحل وَيجب عَلَيْهِ قَضَاء الْحَج من قَابل إِلَّا فِي فصل وَاحِد وَهُوَ إِنَّه إِذا اشْتبهَ عَلَيْهِم هِلَال ذِي الْحجَّة فأكملوا عدَّة ذِي الْقعدَة ثَلَاثِينَ يَوْمًا ووقفوا بِعَرَفَة ثمَّ تبين أَن ذَلِك يَوْم النَّحْر فَإِن وقوفهم صَحِيح وحجهم تَامّ لحَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَجكُمْ يَوْم تحجون
ثمَّ إِذا أَتَوا مُزْدَلِفَة ينزل وَاحِد حَيْثُ أحب بِمُزْدَلِفَة إِلَّا وَادي محسر وَيكرهُ النُّزُول على قَارِعَة الطَّرِيق وَلَكِن يتَنَحَّى عَنهُ يمنة أَو يسرة حَتَّى لَا يتَأَذَّى بِهِ الْمَار
فَإِذا غَابَ الشَّفق وَدخل وَقت الْعشَاء يُصَلِّي الإِمَام بهم صَلَاة
الْمغرب فِي وَقت الْعشَاء ثمَّ يُصَلِّي بهم صَلَاة الْعشَاء بآذان وَاحِد وَإِقَامَة وَاحِدَة وَلَا يشْتَغل بَينهمَا بتطوع وَلَا بِغَيْرِهِ فَإِن اشْتغل بذلك فَيَنْبَغِي أَن تُعَاد الْإِقَامَة وَيُصلي الْعشَاء لِأَنَّهُ وجد الْفَاصِل بَينهمَا فَلَا بُد من الْإِقَامَة لإعلام النَّاس
ثمَّ يبيت هُوَ مَعَ الإِمَام وَالنَّاس بِمُزْدَلِفَة
فَإِذا طلع الْفجْر يُصَلِّي الإِمَام مَعَ النَّاس بِغَلَس ثمَّ يقف مَعَ النَّاس فِي مَوْضُوع الْوُقُوف وَالْأَفْضَل أَن يكون وقُوف النَّاس خلف الإِمَام عِنْد الْجَبَل الَّذِي يُقَال لَهُ قزَح
وَوقت الْوُقُوف بِمُزْدَلِفَة بعد طُلُوع الْفجْر من يَوْم النَّحْر إِلَى أَن يسفر جدا فَمن حصل فِي هَذَا الْوَقْت فِي جُزْء من أَجزَاء الْمزْدَلِفَة فقد أَتَى بِالْوُقُوفِ وَلَا شَيْء عَلَيْهِ غير أَن السّنة مَا وَصفنَا
وَمن مر إِلَى منى قبل الْوُقُوف بِمُزْدَلِفَة قبل طُلُوع الْفجْر فَعَلَيهِ دم لترك الْوُقُوف بِمُزْدَلِفَة إِذْ هُوَ وَاجِب إِلَّا إِذا كَانَ بِهِ عِلّة وَضعف فيخاف الزحام فَيدْفَع مِنْهَا لَيْلًا وَلَا شَيْء عَلَيْهِ لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه رخص للضعفة أَن يتعجلوا من مُزْدَلِفَة بلَيْل
ثمَّ يفِيض الإِمَام مَعَ الْقَوْم من مُزْدَلِفَة قبل طُلُوع الشَّمْس وَيَأْتِي منى
وَيَنْبَغِي أَن يَأْخُذ كل وَاحِد حَصى الْجمار من الْمزْدَلِفَة أَو من الطَّرِيق وَلَا يَأْخُذ من الْجمار الَّتِي رميت عِنْد الْجَمْرَة لما قيل إِنَّه حَصى من لم يقبل حجَّة فَإِن من قبلت حجَّته رفعت جمرته
ثمَّ يَأْتِي جَمْرَة الْعقبَة قبل الزَّوَال فيرميها بِسبع حَصَيَات فِي بطن الْوَادي من أَسْفَل إِلَى أَعلَى فَوق حَاجِبه الْأَيْمن مثل حَصى الخزف وَيكبر مَعَ كل حَصَاة يرميها وَلَا يَرْمِي يَوْمئِذٍ من الْجمار شَيْئا غَيرهَا
وَلَا يقف عِنْدهَا وَبِأَيِّ شَيْء رَمَاه من الأَرْض أَجزَأَهُ حجرا كَانَ أَو طينا
وَلَو رمى جَمْرَة الْعقبَة بعد طُلُوع الْفجْر قبل طُلُوع الشَّمْس أَجزَأَهُ عندنَا
وَعند الشَّافِعِي لَا يجوز إِلَّا بعد طُلُوع الشَّمْس
وَالْأَفْضَل عندنَا أَن يَرْمِي بعد طُلُوع الشَّمْس
ثمَّ يرجع إِلَى منى فَإِن كَانَ مَعَه شَاة يذبح وَإِن لم يذبح فَلَا يضرّهُ لِأَنَّهُ مُفْرد بِالْحَجِّ فَلَا دم عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَن يحلق أَو يقصر وَالْحلق أفضل
وَإِن كَانَ قَارنا أَو مُتَمَتِّعا فَعَلَيهِ الذّبْح فَيَنْبَغِي أَن يذبح أَولا ثمَّ يحلق أَو يقصر
فَإِذا حلق حل لَهُ كل شَيْء إِلَّا النِّسَاء
ثمَّ يزور الْبَيْت من يَوْمه ذَلِك وَيَطوف طواف الزِّيَارَة أَو من الْغَد أَو بعد الْغَد فوقته أَيَّام النَّحْر وَهِي ثَلَاثَة أَيَّام وأولها أفضل
ثمَّ إِن سعى فِي طواف اللِّقَاء لَا يرمل فِي طواف الزِّيَارَة وَإِن لم يسع عقيب طواف اللِّقَاء فيسعى عقيب طواف الزِّيَارَة بَين الصَّفَا والمروة ويرمل فِي هَذَا الطّواف
فَإِذا طَاف طواف الزِّيَارَة أَو أَكْثَره حل لَهُ النِّسَاء أَيْضا
ثمَّ يخرج إِلَى منى وَلَا يبيت بِمَكَّة وَلَا بِالطَّرِيقِ وَيكرهُ أَن يبيت فِي غير منى فِي أَيَّام منى
فَإِذا كَانَ فِي الْيَوْم الثَّانِي من أَيَّام النَّحْر رمى الْجمار الثَّلَاث بعد الزَّوَال فَيبْدَأ بالجمرة الأولى الَّتِي عِنْد مَسْجِد الْخَفِيف فيرمها بِسبع
حَصَيَات مثل حَصى الخزف وَيكبر مَعَ كل حَصَاة يرميها وقف عِنْدهَا وَيكبر ويحمد الله تَعَالَى ويثني عَلَيْهِ وَيُصلي على النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَيَدْعُو الله حَوَائِجه وَيرْفَع يَدَيْهِ عِنْد الدُّعَاء بسطا
ثمَّ يَأْتِي الْجَمْرَة الْوُسْطَى وَيفْعل فِيهَا كَمَا يفعل فِي الأولى
ثمَّ يَأْتِي جَمْرَة الْعقبَة فيفعل بهَا كَمَا فعل بالْأَمْس وَلَا يقف
ثمَّ يرجع إِلَى رَحْله فَإِن أَرَادَ أَن ينفر من منى إِلَى مَكَّة فَلهُ ذَلِك لقَوْله تَعَالَى {فَمن تعجل فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ}
وَإِن أَقَامَ وَلم ينفر حَتَّى طلع الْفجْر من الْيَوْم الثَّالِث من أَيَّام النَّحْر فَعَلَيهِ أَن يَرْمِي الْجمار الثَّلَاث فِيهِ بعد الزَّوَال كَمَا رماهن بالْأَمْس فيقف عِنْد الْجَمْرَتَيْن الْأَوليين وَلَا يقف عِنْد الْعقبَة
وَإِذا أَرَادَ أَن ينفر وَيدخل مَكَّة نفر قبل غرُوب الشَّمْس فَإِن لم ينفر حَتَّى غربت الشَّمْس فَإِن الْأَفْضَل لَهُ أَن لَا ينفر حَتَّى يَرْمِي الْجمار الثَّلَاث من الْغَد
وَلَو نفر قبل طُلُوع الْفجْر من الْيَوْم الرَّابِع فَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَقد أَسَاءَ
وعَلى قَول الشَّافِعِي إِذا أغربت الشَّمْس من الْيَوْم الثَّالِث فَلَا يحل لَهُ النَّفر حَتَّى يَرْمِي الْجمار الثَّلَاث فِي الْيَوْم الرَّابِع
وَكَذَلِكَ عندنَا إِذا طلع الْفجْر من الْيَوْم الرَّابِع وَهُوَ آخر أَيَّام التَّشْرِيق يجب عَلَيْهِ الْإِقَامَة وَلَا يحل لَهُ النَّفر حَتَّى يَرْمِي الْجمار الثَّلَاث كَمَا فِي الأمس وَلَو نفر قبل الرَّمْي فَعَلَيهِ دم
ثمَّ من نفر فِي النَّفر الأول أَو فِي الثَّانِي فَإِن لَهُ أَن يحمل ثقله مَعَ نَفسه وَيكرهُ أَن يقدمهُ لِأَنَّهُ سَبَب لشغل قلبه
وَيَنْبَغِي أَن ينزل بِالْأَبْطح سَاعَة وَيُقَال لَهُ المحصب وَهُوَ مَوضِع بَين منى وَمَكَّة لِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام نزل بِهِ
ثمَّ يدْخل مَكَّة وَيَطوف طواف الصَّدْر لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ من حج الْبَيْت فَلْيَكُن آخر عَهده بِالْبَيْتِ الطّواف
فَإِذا فرغ من طواف الصَّدْر فَيَأْتِي الْمقَام فَيصَلي عِنْده رَكْعَتَيْنِ ثمَّ يَأْتِي زَمْزَم وَيشْرب من مَائِهَا قَائِما وَيصب بعضه على وَجهه وَرَأسه
ثمَّ يَأْتِي الْمُلْتَزم وَهُوَ بَين الْحجر الْأسود وَالْبَاب وَيَضَع صَدره وَوَجهه عَلَيْهِ ويتشبث بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة وَيسْأل الله تَعَالَى حَوَائِجه ثمَّ يسْتَلم الْحجر وَيكبر الله إِن أمكنه أَن يدْخل الْبَيْت فَحسن وَإِن لم يدْخل أَجزَأَهُ وَلَا يضرّهُ
ثمَّ يرجع فَإِن أَرَادَ أَن يعْتَمر بعد الْفَرَاغ من الْحَج وَبَعْدَمَا مضى أَيَّام النَّحْر والتشريف كَانَ لَهُ ذَلِك وَلكنه يخرج إِلَى التَّنْعِيم فَيحرم من ذَلِك الْموضع لِأَنَّهُ لما فرغ من الْحَج صَار كواحد من أهل مَكَّة وميقاتهم للْعُمْرَة من الْحل نَحْو التَّنْعِيم وَغَيره
وَلَيْسَ على أهل مَكَّة وَلَا على أهل الْمَوَاقِيت طواف الصَّدْر إِذا حجُّوا لِأَنَّهُ طواف الْوَدَاع عِنْد الْمُفَارقَة وهم غير مفارقين للبيت
وَلَيْسَ على المعتمرين من أهل الأفاق طواف الصَّدْر أَيْضا لِأَن ركن الْعمرَة هُوَ الطّواف فَكيف يصير رُكْنه تبعا لَهُ
وَلَيْسَ على الْحَائِض وَالنُّفَسَاء طواف الصَّدْر وَلَا شَيْء عَلَيْهِمَا التَّرِكَة لِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السلامرخص للنِّسَاء الْحيض بِتَرْكِهِ وَلم يَأْمُرهُنَّ بِإِقَامَة شَيْء مقَامه
وَلَو نفر قبل طواف الصَّدْر فَقبل أَن جَاوز الْمِيقَات لَهُ أَن يرجع وَيَطوف لِأَنَّهُ وَاجِب
وَإِن جَاوز فَإِن مضى يجب عَلَيْهِ الدَّم وَإِن رَجَعَ لَا بُد لَهُ من إِحْرَام الْعمرَة فَيرجع ويعتمر ثمَّ يطوف للصدر
هَذَا فِي حق الْمُفْرد بِالْحَجِّ
وَأما الْقَارِن فَحكمه مَا ذكرنَا فِي الْمُفْرد بِالْحَجِّ إِلَّا أَنه يحرم بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة جَمِيعًا ثمَّ إِذا أَتَى مَكَّة يطوف لعمرته وَيسْعَى ثمَّ بعد ذَلِك يطوف وَيسْعَى لحجته وَيقدم أَفعَال الْعمرَة على أَفعَال الْحَج
فَأَما إِذا أفرد بِالْحَجِّ ثمَّ قبل الْفَرَاغ من أَفعَال الْحَج أحرم للْعُمْرَة يصير قَارنا أَيْضا لكنه أَسَاءَ لترك السّنة فَإِن السّنة تَقْدِيم أَفعَال الْعمرَة على أَفعَال الْحَج للقارن
وَإِذا جَاءَ وَقت الْحلق فَإِنَّهُ يذبح أَولا ثمَّ يحلق
وَأما الْمُتَمَتّع فَإِنَّهُ يحرم للْعُمْرَة أَولا وَيَأْتِي بهَا قبل يَوْم التَّرويَة ثمَّ يحرم لِلْحَجِّ سَوَاء حل من الْعمرَة أَو لم يحل وَهُوَ مِمَّن يحصل لَهُ الْعمرَة وَالْحج فِي أشهر الْحَج بسفر وَاحِد من غير أَن يلم بأَهْله فِيمَا بَينهمَا إلماما صَحِيحا
وَلَو قدم إِحْرَامه لِلْحَجِّ على يَوْم التَّرويَة فَهُوَ أفضل
وَهَذَا إِذا لم يسق مَعَ نَفسه هدي الْمُتْعَة
فَأَما إِذا سَاق فَإِنَّهُ لَا يحل عَن إِحْرَام الْعمرَة إِلَّا بعد الْفَرَاغ من الْحَج فَلهُ أَن يحرم بِالْحَجِّ وَيتم
ثمَّ الْمُتْعَة وَالْقرَان مشروعان فِي حق أهل الأفاق
فَأَما فِي حق حاضري الْمَسْجِد الْحَرَام وهم أهل مَكَّة وَأهل دَاخل
الْمَوَاقِيت فمكروه
وَأَصله قَوْله تَعَالَى (فَمن تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج) إِلَى أَن قَالَ (ذَلِك لمن لم يكن أهلة حاضري الْمَسْجِد الْحَرَام)
وَلَو تمَتَّعُوا مَعَ ذَلِك أَو قرنوا يجوز ويلزمهم دم لإساءتهم وَيكون ذَلِك دم جبر حَتَّى لَا يحل لَهُم أكله وَعَلَيْهِم أَن يتصدقوا بِهِ على الْفُقَرَاء
فَأَما فِي حق أهل الْآفَاق فمشروعة مُسْتَحبَّة ويلزمهم الدَّم شكرا لما أنعم الله عَلَيْهِم فِي الْجمع بَين النُّسُكَيْنِ بسفر وَاحِد حَتَّى يحل لَهُ الْأكل مِنْهُ وَيطْعم من شَاءَ من الْغَنِيّ وَالْفَقِير وَلَا يجب عَلَيْهِ التَّصَدُّق لَكِن الْمُسْتَحبّ أَن يَأْكُل الثُّلُث وَيتَصَدَّق بِالثُّلثِ وَيهْدِي الثُّلُث إِلَى أقربائه وجيرانه
كَمَا فِي الْأُضْحِية
وَإِنَّمَا يذبح فِي أَيَّام النَّحْر ويذبح فِي الْحرم فَإِن كَانَ مُعسرا وَلم يجد الْهَدْي فَإِنَّهُ يَصُوم ثَلَاثَة أَيَّام قبل يَوْم عَرَفَة بعد إِحْرَام الْعمرَة وَالْأَفْضَل أَن تكون ثَلَاثَة أَيَّام آخرهَا يَوْم عَرَفَة
فَإِن فعل ذَلِك ثمَّ جَاءَ يَوْم النَّحْر حلق أَو قصر ثمَّ يَصُوم سَبْعَة أَيَّام بعد مُضِيّ أَيَّام النَّحْر والتشريق وَإِن لم يرجع إِلَى أَهله
وَهَذَا عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي يَصُوم السَّبْعَة بَعْدَمَا رَجَعَ إِلَى أَهله وَلَا يجوز قبله لقَوْله تَعَالَى {فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رجعتم تِلْكَ عشرَة كَامِلَة}
إِلَّا أَنا نقُول معنى قَوْله رجعتم أَي فَرَغْتُمْ من أَفعَال الْحَج
كَذَا قَالَ أهل التَّفْسِير
ثمَّ الْقرَان أفضل من الْإِفْرَاد عندنَا ثمَّ التَّمَتُّع ثمَّ الْإِفْرَاد
وَقَالَ الشَّافِعِي الْإِفْرَاد أفضل مِنْهُمَا جَمِيعًا
وَقَالَ مَالك التَّمَتُّع أفضل ثمَّ الْقرَان ثمَّ الْإِفْرَاد
وَحَاصِل الْخلاف أَن الْقَارِن محرم بإحرامين وَلَا يدْخل إِحْرَام الْعمرَة فِي إِحْرَام الْحَج عندنَا
وَعِنْده يكون محرما بِإِحْرَام وَاحِد وَيدخل إِحْرَام الْعمرَة فِي إِحْرَام الْحَج لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام دخلت الْعمرَة فِي الْحَج إِلَى يَوْم الْقِيَامَة
وَلَكنَّا نستدل بِإِجْمَاع الْأمة على تَسْمِيَته قرانا وَالْقرَان يكون بَين شَيْئَيْنِ وَأما الحَدِيث فتأويله دخل وَقت الْعمرَة فِي وَقت الْحجَّة فَإِنَّهُم كَانُوا يعدون الْعمرَة فِي أشهر الْحَج من أفجر الْفُجُور فنسخ الْإِسْلَام ذَلِك
وَيَنْبَنِي على هَذَا الأَصْل مسَائِل مِنْهَا مَا قُلْنَا إِن الْقرَان أفضل لِأَنَّهُ جمع بَين العبادتين بإحرامين وَعِنْده بِخِلَافِهِ
وَمِنْهَا أَن الْقَارِن يطوف طوافين وَيسْعَى سعين وَيقدم أَفعَال الْعمرَة على أَفعَال الْحَج وَعِنْده يطوف طَوافا وَاحِدًا وَيسْعَى سعيا وَاحِدًا
وَمِنْهَا أَن الدَّم الْوَاجِب فِيهِ دم نسك عندنَا شكرا للْجمع بَين العبادتين وَعِنْده دم جبر لتمكن النُّقْصَان فِي الْحَج بِسَبَب إِدْخَال الْعمرَة فِيهِ حَتَّى لَا يحل لَهُ أكل هَدْيه عِنْده وَعِنْدنَا يحل
وَمِنْهَا أَنه إِذا تنَاول مَحْظُور إِحْرَامه فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ دمان عندنَا
وَعِنْده يجب عَلَيْهِ دم وَاحِد
وَمِنْهَا أَنه لَو أحْصر الْقَارِن فَإِنَّهُ يحل بهديين عندنَا وَعِنْده يهدي وَاحِد
ثمَّ النِّسَاء فِي الْحَج وَالْعمْرَة كالرجال إِلَّا فِي أَشْيَاء مِنْهَا أَنه لَا يحرم عَلَيْهِم لبس الْمخيط
وعليهن أَن يغطين رؤوسهن لَكِن لَا يغطين وجوههن وَلَو غطين حافين فَيكون إحرامهم فِي وجوهن
وَكَذَا لَا يرفعن أصواتهن بِالتَّلْبِيَةِ
وَكَذَا لَا يرملن فِي الطّواف
وَلَا يسعين فِي بطن الْوَادي بَين الصَّفَا والمروة بل يَمْشين على هينتهن
وَلَا يَحْلِقن رؤوسهن وَلَكِن يقصرن فيأخذن من أَطْرَاف شعورهن قدر أُنْمُلَة
وَيسْقط عَنْهُن طواف الصَّدْر فِي بَاب الْحَج إِذا حضن أَو نفسن
وَلَا يجب عَلَيْهِم بِتَأْخِير طواف الزِّيَارَة عَن أَيَّام النَّحْر بِسَبَب الْحيض وَالنّفاس شَيْء
فِي الْبَاب فُصُول بَيَان أَنْوَاع المحرمين
وَبَيَان مَوَاقِيت إحرامهم
وَبَيَان الْإِحْرَام
وَبَيَان الْحَج وَالْعمْرَة وَالْقُرْآن والمتعة بشروطها وأركانها وسننها وآدابها على التَّرْتِيب
أما بَيَان أَنْوَاع المحرمينفنقول المحرمون أَرْبَعَة الْمُفْرد بِالْحَجِّ والمفرد بِالْعُمْرَةِ والقارن بَينهمَا والمتمتع
فَأَما الْمُفْرد بِالْحَجِّ أَن يحرم بِالْحَجِّ لَا غير
والمفرد بِالْعُمْرَةِ أَن يحرم بِالْعُمْرَةِ لَا غير
والقارن أَن يجمع بَين الْحَج وَالْعمْرَة فَيحرم بهما
وَيَقُول لبيْك اللَّهُمَّ بِحجَّة وَعمرَة
والمتمتع أَن يَأْتِي بِالْعُمْرَةِ وَالْحج فِي أشهر الْحَج من غير أَن يلم بأَهْله سَوَاء حل من إِحْرَامه الأول أم لَا على مَا نذْكر
ثمَّ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَاف ثَلَاثَة
صنف مِنْهُم أهل الْآفَاق
وصنف مِنْهُم من كَانَ دَاخل الْحرم وهم أهل مَكَّة وَالْحرم
وصنف مِنْهُم من كَانَ خَارج الْحرم دَاخل مَوَاقِيت أهل الْآفَاق
وَأما مَوَاقِيت إحرامهم فمواقيت أهل الْآفَاق خَمْسَة لِلْحَجِّ وَالْعمْرَة
وَهِي مَوَاقِيت بَينهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَعْظِيمًا للبيت حَتَّى لَا يجوز للآفاقي التجاوز عَن هَذِه الْمَوَاقِيت لدُخُول مَكَّة لقصد الْحَج أَو للتِّجَارَة وَنَحْوهَا إِلَّا محرما فلأهل الْعرَاق ذَات عرق وَلأَهل الْمَدِينَة ذُو الحليفة وَلأَهل الشَّام الْجحْفَة وَلأَهل الْيمن يَلَمْلَم وَلأَهل نجد قرن وَقد وَردت أَحَادِيث مَشْهُورَة فِي هَذَا الْبَاب
ثمَّ هَذِه الْمَوَاقِيت لهَؤُلَاء من أهل الْآفَاق وَلمن حصل من أهل مِيقَات آخر فِي هَذَا الْمِيقَات
وَكَذَلِكَ إِن كَانَ من أهل الْحرم وَأهل الْحل من دَاخل هَذِه الْمَوَاقِيت إِذا خرج إِلَى الْآفَاق للتِّجَارَة ثمَّ رَجَعَ فَحكمه حكم أهل الْآفَاق لَا يجوز لَهُ مجاوزته إِلَّا محرما إِذا قصد مَكَّة إِمَّا الْحَج أَو الْعمرَة
فَأَما إِذا قصدُوا بالمجاوزة السُّكْنَى فِي بُسْتَان بني عَامر الَّذِي هُوَ دَاخل الْمَوَاقِيت خَارج الْحرم فَإِنَّهُ يُبَاح لَهُم الْمُجَاوزَة من غير إِحْرَام وَهِي الْحِيلَة فِي إِسْقَاط الْإِحْرَام
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه لَا يسْقط مَا لم ينْو أَن يُقيم بالبستان خَمْسَة عشر يَوْمًا
وَأما مِيقَات من كَانَ دَاخل الْمَوَاقِيت خَارج الْحرم كَأَهل بُسْتَان بني عَامر لِلْحَجِّ وَالْعمْرَة جَمِيعًا فَمن دويرة أهلهم أَو حَيْثُ شاؤوا من الْحل وَلَا يُبَاح لَهُم دُخُول مَكَّة بِقصد الْحَج وَالْعمْرَة إِلَّا محرمين
وَكَذَلِكَ الآفاقي إِذا حضر بالبستان والمكي إِذا خرج من الْحرم إِلَيْهِ وَأَرَادَ أَن يحجّ أَو يعْتَمر فَيكون حكمهمَا كَحكم أهل الْبُسْتَان
وَأما مِيقَات من كَانَ دَاخل الْحرم فللحج من دويرة أهلهم وحيثما شاؤوا من الْحرم ولعمرة من الْحل كالتنعيم وَغَيره
وَكَذَلِكَ من حصل بِمَكَّة من غير أَهلهَا من البستاني والآفاقي فَحكمه حكم أهل الْحرم
ثمَّ الآفاقي إِذا جَاوز الْمِيقَات بِغَيْر إِحْرَام
وَهُوَ يُرِيد الْحَج أَو الْعمرَة ثمَّ عَاد إِلَى الْمِيقَات قبل أَن يحرم فَأحْرم مِنْهُ وجاوزه محرما فَإِنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِ الدَّم لِأَنَّهُ قضى حَقه بِالْإِحْرَامِ
فَأَما إِذا أحرم بعد الْمُجَاوزَة من دَاخل الْمِيقَات لِلْحَجِّ أَو الْعمرَة وَمضى على إِحْرَامه ذَلِك وَلم يعد فيحب عَلَيْهِ الدَّم لِأَنَّهُ أَدخل النَّقْص فِي إِحْرَامه
فَأَما إِذا أحرم ثمَّ عَاد إِلَى الْمِيقَات وجدد التَّلْبِيَة وَالْإِحْرَام فَيسْقط عَنهُ الدَّم فِي قَول أَصْحَابنَا الثَّلَاثَة
وعندزفر لَا يسْقط
وَلَو عَاد إِلَى الْمِيقَات محرما وَلم يجدد التَّلْبِيَة لَا يسْقط عَنهُ الدَّم عِنْد أبي حنيفَة
وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد يسْقط لبّى أَو لم يلب
وَلَو لم يعد إِلَى الْمِيقَات حَتَّى طَاف شوطا أَو شوطين أَو وقف بِعَرَفَة فِي الْحَج تَأَكد عَلَيْهِ الدَّم حَتَّى لَا يسْقط عَنهُ وَإِن عَاد إِلَى الْمِيقَات وجدد الْمِيقَات والتلبية
وَلَو عَاد إِلَى مِيقَات آخر سوى الْمِيقَات الَّذِي جاوزه من غير إِحْرَام وجدد التَّلْبِيَة قبل أَن يتَّصل إِحْرَامه بِأَفْعَال الْحَج أَو الْعمرَة فَهُوَ كَمَا لَو عَاد إِلَى ذَلِك الْمِيقَات
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف إِن كَانَ هَذَا الْمِيقَات محاذيا لذَلِك الْمِيقَات الَّذِي جاوزه أَو أبعد إِلَى الْحرم سقط الدَّم عَنهُ وَإِلَّا فَلَا
وَكَذَلِكَ هَذَا الحكم فِي حق من كَانَ دَاخل الْمَوَاقِيت خَارج الْحرم فميقاته دويرة أَهله
وَلَو دخل الْحرم لقصد الْحَج أَو الْعمرَة من غير إِحْرَام ثمَّ عَاد إِلَى الْحل وجدد التَّلْبِيَة فَهُوَ على مَا ذكرنَا من الِاخْتِلَاف
وَكَذَلِكَ هَذَا الحكم فِي حق أهل مَكَّة فَإِن إحرامهم لِلْحَجِّ فِي الْحرم وللعمرة من الْحل
وَلَو أَنه إِذا أحرم لِلْحَجِّ من الْحل وللعمرة من الْحرم يجب عَلَيْهِ الدَّم إِلَّا إِذا أَعَادَهُ على الِاخْتِلَاف الَّذِي ذكرنَا
لَو أَن الآفاقي إِذا جَاوز الْمِيقَات لقصد الْحَج أَو لقصد مَكَّة للتِّجَارَة من غير إِحْرَام وَدخل مَكَّة كَذَلِك فَإِنَّهُ يلْزمه إِمَّا حجَّة أَو عمْرَة عندنَا
وَعند الشَّافِعِي لَا يلْزمه شَيْء
فَأَما من كَانَ خَارج الْحرم دَاخل الْمَوَاقِيت إِذا دخل الْحرم
للتِّجَارَة لَا لقصد الْحَج وَالْعمْرَة فَإِنَّهُ لَا يلْزمه شَيْء
وَكَذَلِكَ الْمَكِّيّ إِذا خرج إِلَى الْحل للاحتطاب والاحتشاش ثمَّ دخل مَكَّة لَا يلْزمه شَيْء وَيُبَاح لَهُ الدُّخُول من غير إِحْرَام
وَأَصله مَا رُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السلامرخص للحطابة فِي الدُّخُول من غير إِحْرَام وَهَذَا الْمَعْنى مَوْجُود فِي حق من حوالي مَكَّة من أهل الْحل دون الْمَوَاقِيت لِأَن من حوالي مَكَّة محتاجون إِلَى الدُّخُول فِيهَا لحوائجهم بِخِلَاف الآفاقي وَمن صَار فِي جُمْلَتهمْ من أهل الْحرم وخارج الْحرم دون الْمَوَاقِيت لِأَن الأَصْل هُوَ الْمُجَاوزَة مَعَ الْإِحْرَام تَعْظِيمًا للحرم والكعبة وَإِنَّمَا سقط بِاعْتِبَار الضَّرُورَة وَلَا ضَرُورَة فِي حق الآفاقي لِأَنَّهُ يدْخل مرّة وَاحِدَة
وَكَذَلِكَ الْجَواب فِي حق الآفاقي إِذا صَار من أهل الْبُسْتَان بِأَن قصد دُخُول الْبُسْتَان لَا دُخُول مَكَّة ثمَّ أَرَادَ بعد ذَلِك أَن يدْخل مَكَّة من غير إِحْرَام لَهُ ذَلِك وَلَا يلْزمه شَيْء لِأَنَّهُ صَار من أهل الْبُسْتَان حكما
ثمَّ الآفاقي إِذا لزمَه الْحَج أَو الْعمرَة بِسَبَب مجاوزته الْمِيقَات فِي دُخُول مَكَّة من غير إِحْرَام فَأحْرم فِي تِلْكَ السّنة لما وَجب عَلَيْهِ بِسَبَب الْمُجَاوزَة أَو لحجة الْإِسْلَام أَو للحجة الَّتِي وَجَبت عَلَيْهِ بِسَبَب النّذر فَإِنَّهُ يسْقط عَنهُ مَا وَجب عَلَيْهِ بِسَبَب الْمُجَاوزَة
ثمَّ ينظر إِن خرج إِلَى مِيقَاته وَأحرم مِنْهُ لَا يجب عَلَيْهِ الدَّم لمجاوزته من غير إِحْرَام
وَإِن لم يخرج إِلَى مِيقَاته لَكِن أحرم من مِيقَات أهل مَكَّة إِن كَانَ بهَا أَو من مِيقَات أهل الْبُسْتَان إِن كَانَ بهَا يجب عَلَيْهِ الدَّم لمجاوزته غير محرم عَن مِيقَاته الْأَصْلِيّ
وَهَذَا عندنَا
وَعند زفر لَا يسْقط عَنهُ الْحَج الَّذِي وَجب عَلَيْهِ لدُخُوله مَكَّة من غير إِحْرَام إِلَّا أَن يَنْوِي مَا وَجب عَلَيْهِ بِسَبَب الْمُجَاوزَة
وَلَو تحولت السّنة لَا يسْقط عَنهُ إِلَّا بِتَعْيِين النِّيَّة بِالْإِجْمَاع لِأَنَّهُ صَار دينا عَلَيْهِ فَلَا بُد من تعْيين النِّيَّة
وَلَو أَنه إِذا نوى فِي السّنة الثَّانِيَة عَمَّا وَجب عَلَيْهِ لأجل الْمُجَاوزَة وَأحرم لَكِن أحرم فِي وَقت أهل مَكَّة وَهُوَ بِمَكَّة أَو فِي وَقت أهل الْبُسْتَان وَهُوَ بهَا لم يخرج إِلَى مِيقَاته فَإِنَّهُ يسْقط عَنهُ مَا وَجب عَلَيْهِ لأجل الْمُجَاوزَة
وَلَا يجب عَلَيْهِ الدَّم لترك التَّلْبِيَة عِنْد مِيقَاته لِأَنَّهُ لما حصل بِمَكَّة صَار كالمكي وَكَذَلِكَ إِذا حصل بالبستان صَار من أَهله فقد أَتَى بِالْإِحْرَامِ فِي مِيقَاته وَنوى قَضَاء مَا عَلَيْهِ فَيسْقط عَنهُ فَأَما فِي السّنة الأولى فَهُوَ مؤد لما عَلَيْهِ وَقد وَجب عَلَيْهِ الدَّم بِسَبَب مُجَاوزَة مِيقَاته غير محرم فَلَا يسْقط عَنهُ إِلَّا بتجديد التَّلْبِيَة أَو بِالْعودِ إِلَيْهِ محرما وَلم يُوجد
وَأما بَيَان الإحراموهو أَن يُوجد مِنْهُ فعل هُوَ من خَصَائِص الْحَج وتقترن بِهِ نِيَّة الْحَج أَو الْعمرَة بِأَن يَقُول لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك لَا شريك لَك لبيْك إِن الْحَمد وَالنعْمَة لَك وَالْملك لَا شريك لَك وَيَنْوِي بِهِ الْحَج أَو الْعمرَة إِذا كَانَ مُفردا بِالْحَجِّ أَو بِالْعُمْرَةِ أَو ينويهما جَمِيعًا إِن كَانَ قَارنا
وَإِن كَانَ مُتَمَتِّعا يُرِيد الْحَج وَالْعمْرَة فَإِن شَاءَ ذكر الْعمرَة أَو الْحَج فِي إهلاله فَيَقُول لبيْك بِحجَّة أَو بِعُمْرَة أَو بهما أَو بِالْعُمْرَةِ وَالْحجّة فَإِنَّهُ رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ أَتَانِي آتٍ من رَبِّي وَقَالَ قل لبيْك بِعُمْرَة وَحجَّة
وَالْأَفْضَل أَن يذكر النِّيَّة بِاللِّسَانِ مَعَ الْقلب فَيَقُول اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيد الْحَج وَالْعمْرَة فيسرهما لي وتقبهلما مني
وَلَو ذكر مَكَان التَّلْبِيَة وَالتَّسْبِيح أَو التهليل أَو التَّحْمِيد وَنوى بِهِ الْإِحْرَام يصير محرما سَوَاء كَانَ يحسن التَّلْبِيَة أَو لَا
وَكَذَلِكَ إِذا أَتَى بِلِسَان آخر أَجزَأَهُ سَوَاء كَانَ يحسن الْعَرَبيَّة أَو لَا يحسنها هَكَذَا جَوَاب ظَاهر الرِّوَايَة
وروى الْحسن عَن أبي يُوسُف أَنه إِذا كَانَ لَا يحسن التَّلْبِيَة جَازَ وَإِلَّا فَلَا كَمَا فِي الصَّلَاة
وَالصَّحِيح أَن هَذَا بالِاتِّفَاقِ وَأما أَبُو حنيفَة فقد مر على أَصله فِي بَاب الصَّلَاة وهما فرقا بَين الصَّلَاة وَالْحج لِأَن النِّيَابَة جَارِيَة فِي الْحَج بِخِلَاف الصَّلَاة
وَلَو قلد بَدَنَة وَنوى الْإِحْرَام وساقها وَتوجه مَعهَا يصير محرما سَوَاء قلد بَدَنَة تَطَوّعا أَو نذرا أَو جَزَاء صيد وَنَحْو ذَلِك لِأَن تَقْلِيد الْبَدنَة مَعَ السُّوق من خَصَائِص أَفعَال الْحَج لِأَن الْحجَّاج يقلدون بدنهم وَذَلِكَ بِأَن يعلقوا عَلَيْهَا شِرَاك نعل أَو عُرْوَة مزادة أَو مَا أشبه ذَلِك من الْجُلُود
فَإِذا وجدت نِيَّة الْإِحْرَام مُقَارنَة لفعل هُوَ من خَصَائِص الْحَج يصير محرما لما عرف أَن مُجَرّد النِّيَّة لَا يعْتَبر مَا لم يقْتَرن بِالْفِعْلِ
فَأَما إِذا قلد بَدَنَة وَنوى الْإِحْرَام وَلم يسق الْبَدنَة وَلم يتَوَجَّه مَعهَا بل بعث بهَا على يَد رجل وَأقَام فِي بَلَده لَا يصير محرما لِأَنَّهُ لم
يُوجد مِنْهُ إِلَّا الْأَمر بِالذبْحِ وَذَلِكَ لَا يكون من أَفعَال الْحَج
وَلَو قلد شاته وساقها وَنوى الْإِحْرَام لَا يصير محرما لِأَن تَقْلِيد الشَّاة غير مُعْتَاد فِي بَاب الْحَج
وَكَذَلِكَ لَو جلل بدنه بِأَن ألبسها الجل وَنوى الْإِحْرَام وساقها لَا يصير محرما لِأَن ذَلِك لَيْسَ بقربة وَلَا نسك من مَنَاسِك الْحَج
وَلَو أشعر بدنته بِأَن طَعنهَا فِي سنامها فِي الْجَانِب الْأَيْسَر فَسَالَ مِنْهُ الدَّم وَنوى بِهِ الْإِحْرَام وَلَا يصير محرما أما عِنْد أبي حنيفَة فَلِأَن الْإِشْعَار مَكْرُوه وَلَيْسَ بِسنة وَعِنْدَهُمَا وَإِن كَانَ سنة وَلَكِن لَيْسَ من خَصَائِص الْحَج لِأَن النَّاس تَرَكُوهُ لِأَنَّهُ يشبه الْمثلَة
فَأَما إِذا نوى عِنْد الْإِحْرَام وَلم يذكر التَّلْبِيَة وَلم يُوجد مِنْهُ تَقْلِيد الْبَدنَة والسوق لَا يصير محرما عندنَا
وَعند الشَّافِعِي يصير محرما
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف مثله
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن مُجَرّد النِّيَّة لَا عِبْرَة بِهِ لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ إِن الله تَعَالَى عَفا عَن أمتِي مَا تحدثت بهَا أنفسهم مَا لم يتكلموا أَو يَفْعَلُوا
وَأما بَيَان الْحَج وَالْعمْرَة وَالْقرَان والمتعة على سَبِيل الاستقصاءفنقول إِن من كَانَ من أهل الْآفَاق إِذا بلغ الْمِيقَات وَهُوَ يُرِيد الْعمرَة وَحدهَا وَلم يسق الْهَدْي مَعَ نَفسه فَإِنَّهُ يتجرد ويغتسل أَو يتَوَضَّأ والاغتسال أفضل
ثمَّ يلبس ثَوْبَيْنِ إزارا ورداء غسيلين أَو جديدين ويمس من
الطّيب مَا شَاءَ ويدهن بِأَيّ دهن شَاءَ سَوَاء كَانَ يبْقى على بدنه أَثَره بعد الْإِحْرَام أَو لَا فِي قَول أبي حنيفَة أبي يُوسُف
وعَلى قَول مُحَمَّد وَزفر يكره أَن يتطيب يبْقى أَثَره بعد الْإِحْرَام
ثمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثمَّ يَنْوِي الْعمرَة ويلبي فِي دبر صلَاته بذلك أَو بَعْدَمَا تستوي بِهِ رَاحِلَته على الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا وَيرْفَع صَوته بِالتَّلْبِيَةِ لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ أفضل الْحَج العج والثج فالعج رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ والثج هُوَ تسييل الدَّم بِالذبْحِ
ثمَّ يُكَرر التَّلْبِيَة فِي أدابر الصَّلَوَات المكتوبات والنوافل بعد الْإِحْرَام وَكلما علا شرفا أَو هَبَط وَاديا أَو لَقِي ركبا وَكلما اسْتَيْقَظَ من مَنَامه وَفِي الأسحار هَكَذَا جَاءَت الْأَخْبَار عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَإِذا أَتَى مَكَّة فَلَا بَأْس بِأَن يدخلهَا لَيْلًا أَو نَهَارا وَيَأْتِي الْمَسْجِد الْحَرَام وَيبدأ بِالْحجرِ الْأسود فَإِن استقبله كبر وَرفع يَدَيْهِ كَمَا يرفع فِي الصَّلَاة ثمَّ يرسلهما ثمَّ يستلمه إِن أمكنه من غير أَن يُؤْذِي أحدا وَإِن لم يُمكنهُ كبر وَهَلل وَحمد الله وَصلى على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ رَافع يَدَيْهِ مُسْتَقْبلا بِوَجْهِهِ إِلَيْهِ
وَقَالَ مَشَايِخنَا إِن الْأَفْضَل أَن يقبل الْحجر إِن أمكنه ويستلمه فَإِنَّهُ رُوِيَ عنعمررضي الله عَنهُ أَنه قبله وَالْتَزَمَهُ وَقَالَ رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بك حفيا
ثمَّ يقطع التَّلْبِيَة عِنْد استلام الْحجر وَلَا يُلَبِّي بعده فِي الْعمرَة
ثمَّ يَأْخُذ عَن يَمِين الْحجر مِمَّا يَلِي الْبَاب فيفتتح الطّواف فيطوف حول الْكَعْبَة سَبْعَة أَشْرَاط يرمل فِي الثَّلَاثَة الأول وَيَمْشي على هينته فِي الْأَرْبَع الْبَوَاقِي من الْحجر إِلَى الْحجر ويستلم الْحجر فِي كل شوط مفتتحا لطوافه بِهِ فَإِن ازْدحم النَّاس فِي الرمل يرمل بعد ذَلِك إِذا وجد مسلكا
وَإِن اسْتَلم الرُّكْن الْيَمَانِيّ كَمَا اسْتَلم الْحجر الْأسود
فَهُوَ حسن وَإِن تَركه فَلَا يضرّهُ
وَذكر الطَّحَاوِيّ عَن مُحَمَّد أَنه يسْتَلم الرُّكْن وَيفْعل بِهِ مَا يفعل بِالْحجرِ الْأسود
وَيَنْبَغِي أَن يكون الطّواف فِي كل شوط من وَرَاء الْحطيم فَإِن الْحطيم من الْبَيْت
فَإِذا فرغ من الطّواف يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عِنْد مقَام إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَو حَيْثُ تيَسّر عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِد وَهِي عندنَا وَاجِبَة
وَقَالَ الشَّافِعِي سنة
ثمَّ إِذا فرغ من رَكْعَتي الطّواف يعود إِلَى الْحجر الْأسود فيستلمه إِن أمكنه أَو يستقبله بِوَجْهِهِ وَيكبر ويهلل ويحمد الله تَعَالَى على مَا ذكرنَا حَتَّى يكون افْتِتَاح السَّعْي باستلام الْحجر كَمَا يكون افْتِتَاح الطّواف بِهِ
ثمَّ يخرج من بَاب الصفاء أَو من أَي بَاب تيَسّر لَهُ فَيبْدَأ بالصفا فيصعد عَلَيْهَا وَيقف من حَيْثُ يرى الْبَيْت ويحول وَجهه إِلَى الكبعة وَيكبر ويهلل ويحمد الله تَعَالَى ويثني عَلَيْهِ وَيُصلي على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيسْأل الله تَعَالَى حَوَائِجه
وَيرْفَع يَدَيْهِ وَيجْعَل بطُون كفيه نَحْو السَّمَاء
ثمَّ يهْبط مِنْهَا نَحْو الْمَرْوَة مَاشِيا على هينته حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى بطن الْوَادي فَإِذا كَانَ عِنْد الْميل الْأَخْضَر سعى فِي بطن الْوَادي سعيا حَتَّى يُجَاوز الْميل الْأَخْضَر ثمَّ يصعد على الْمَرْوَة مشيا على هينته
فَإِذا صعد يقف وَيسْتَقْبل بِوَجْهِهِ الْكَعْبَة وَيفْعل مِثْلَمَا فعل على الصَّفَا وَيَطوف بَينهمَا سَبْعَة أَشْوَاط يبْدَأ بالصفا وَيخْتم بالمروة يعد الْبدَاءَة شوطا وَالْعود شوطا آخر فيسعى فِي بطن الْوَادي كلما مر بِهِ
وَذكر الطَّحَاوِيّ وَقَالَ يبتدىء فِي كل مرّة بالصفا وَيخْتم بالمروة وَلم يعد عودة من الْمَرْوَة إِلَى الصَّفَا شوطا
وَالصَّحِيح هُوَ الأول
فَإِذا فرغ من السَّعْي يحلق أَو يقصر وَالْحلق أفضل وَقد تمت الْعمرَة وَحل لَهُ جَمِيع الْمَحْظُورَات الثَّابِتَة بِالْإِحْرَامِ
وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْعمرَة طواف الصَّدْر
هَذَا إِذا لم يسق الْهَدْي فَإِن سَاق الْهَدْي أَقَامَ محرما وَلم يقصر وَلم يحلق للْعُمْرَة لِأَن سوق الْهَدْي دَلِيل قصد التَّمَتُّع والمتمتع إِذا سَاق الْهَدْي لَا يحل لَهُ مَا لم يفرغ من الْحَج فَلهَذَا لم يقصر وَلم يحلق لِأَنَّهُ شَرط الْخُرُوج وَهُوَ لم يخرج
وَأما الْمُفْرد بِالْحَجِّ فَإِنَّهُ يَنْوِي إِحْرَام الْحَج عِنْد الْمِيقَات
فَإِذا أَتَى مَكَّة فَإِنَّهُ يسْتَقْبل بِطواف اللِّقَاء تَحِيَّة للبيت سَبْعَة أَشْوَاط
وَالْأَفْضَل أَن لَا يسْعَى بَين الصَّفَا والمروة لِأَن طواف اللِّقَاء سنة وَالسَّعْي وَاجِب فَمَا يَنْبَغِي أَن يَجْعَل الْوَاجِب تبعا للسّنة وَلكنه يُؤَخر إِلَى طواف الزِّيَارَة لِأَنَّهُ ركن وَالْوَاجِب يجوز أَن يكون تبعا للْفَرض
وَمَتى أخر السَّعْي عَن طواف اللِّقَاء فَإِنَّهُ لَا يرمل فِيهِ وَإِنَّمَا الرمل سنة فِي طواف يعقبه السَّعْي عَرفْنَاهُ بِالنَّصِّ بِخِلَاف الْقيَاس فَيقْتَصر على مورد النَّص لَكِن الْعلمَاء رخصوا فِي الْإِتْيَان بالسعي عقيب طواف اللِّقَاء لِأَن
يَوْم النَّحْر الَّذِي هُوَ وَقت طواف الزِّيَارَة يَوْم شغل من الذّبْح وَرمي الْجمار وَنَحْو ذَلِك فَكَانَ فِيهِ تَخْفيف بِالنَّاسِ
وَإِذا أَتَى بالسعي عقيب طواف اللِّقَاء فَيَنْبَغِي أَن يرمل كَمَا فِي طواف الْعمرَة
ثمَّ الْحَاج لَا يقطع التَّلْبِيَة عِنْد استلام الْحجر وَفِي الْعمرَة يقطع
ثمَّ بعد طواف اللِّقَاء لَهُ أَن يطوف مَا شَاءَ إِلَى يَوْم التَّرويَة وَيُصلي لكل أُسْبُوع رَكْعَتَيْنِ فِي الْوَقْت الَّذِي يُبَاح فِيهِ التَّطَوُّع
فَإِذا كَانَ يَوْم التَّرويَة وَهُوَ الْيَوْم الثَّامِن من ذِي الْحجَّة يُصَلِّي صَلَاة الْفجْر بِمَكَّة ثمَّ يَغْدُو مَعَ النَّاس إِلَى منى وَيُصلي بهَا الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء لأوقاتها ويبيت بهَا لَيْلَة عَرَفَة
فَإِذا أصبح يَوْم عَرَفَة يُصَلِّي صَلَاة الْفجْر بمنى لوَقْتهَا الْمَعْرُوف
فَإِذا طلعت الشَّمْس دفع مِنْهَا إِلَى عَرَفَات على السكينَة وَالْوَقار
فَإِذا بلغ إِلَيْهَا ينزل بهَا حَيْثُ أحب إِلَّا فِي بطن عَرَفَة
فَإِذا زَالَت الشَّمْس يُؤذن الْمُؤَذّن وَالْإِمَام على الْمِنْبَر فَإِذا فرغ من الْأَذَان يقوم الإِمَام ويخطب خطبتين قَائِما ويفصل بَينهمَا بجلسة خَفِيفَة كَمَا فِي يَوْم الْجُمُعَة
فَإِذا خطب الإِمَام يُقيم الْمُؤَذّن الصَّلَاة وَيُصلي بهم الإِمَام صَلَاة الظّهْر ثمَّ يقوم وَيُصلي بهم صَلَاة الْعَصْر فِي وَقت الظّهْر بآذان وَاحِد وَإِقَامَتَيْنِ
وَلَا يشْتَغل الإِمَام وَلَا الْقَوْم بالسنن والتطوع فِيمَا بَينهمَا وَإِذا اشتغلوا بذلك أعَاد الْمُؤَذّن آذان الْعَصْر ويخفي الإِمَام بِالْقِرَاءَةِ فيهمَا كَمَا فِي سَائِر الْأَيَّام
فَإِن كَانَ الإِمَام مُقيما من أهل مَكَّة يتم الصَّلَاتَيْنِ أَرْبعا أَرْبعا وَيتم الْقَوْم مَعَه وَإِن كَانُوا مسافرين لِأَن الْمُسَافِر إِذا اقْتدى بالمقيم فِي الْوَقْت يجب عَلَيْهِ الْإِتْمَام تبعا للْإِمَام
وَإِن كَانَ الإِمَام مُسَافِرًا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وَيَقُول لَهُم بعد الْفَرَاغ أَتموا صَلَاتكُمْ يَا أهل مَكَّة فَإنَّا قوم سفر
فَإِذا فرغ من الصَّلَاة رَاح الإِمَام إِلَى الْموقف وَالنَّاس مَعَه عقيب انصرافهم عَن الصَّلَاة فيقف الإِمَام على رَاحِلَته وَهُوَ أفضل وَإِلَّا فيقف قَائِما وَالنَّاس يقفون مَعَه
وكل من كَانَ وُقُوفه إِلَى الإِمَام أقرب فَهُوَ أفضل لِأَن الإِمَام يعلم النَّاس أُمُور الْمَنَاسِك حَتَّى يستمع مِنْهُ
وعرفات كلهَا موقف إِلَّا بطن عُرَنَة فَلَا يَنْبَغِي الْوُقُوف فِيهَا فيقفون إِلَى غرُوب الشَّمْس فيكبرون ويهللون ويحمدون الله ويثنون عَلَيْهِ وَيصلونَ على النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام ويسألون الله تَعَالَى حوائجهم فَإِنَّهُ وَقت مرجو قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أفضل الدُّعَاء دُعَاء أهل عَرَفَة وَأفضل مَا قلت وَقَالَت الْأَنْبِيَاء قبلي عَرَفَة لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد يحيي وَيُمِيت وَهُوَ حَيّ لَا يَمُوت بِيَدِهِ الْخَيْر وَهُوَ على كل شَيْء قدير وَرُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ إِن الله تَعَالَى يباهي بِأَهْل عَرَفَة يَوْم عَرَفَة فَيَقُول انْظُرُوا ملائكتي إِلَى عبَادي يأْتونَ شعثا غبرا يأْتونَ من كل فج عميق اشْهَدُوا أَنِّي قد غفرت لَهُم فيرجعون كَيَوْم ولدتهم أمّهم
فَإِذا غربت الشَّمْس دفع الإِمَام وَالْقَوْم خَلفه على السكينَة وَالْوَقار إِلَى مُزْدَلِفَة من غير أَن يصلوا صَلَاة الْمغرب بِعَرَفَة فَإِن دفع أحد مِنْهُم قبل غرُوب الشَّمْس ينظر إِن جَاوز حد عَرَفَة بعد غرُوب
الشَّمْس فَلَا شَيْء عَلَيْهِ فَإِن جَاوز قبل الْغُرُوب وَجب عَلَيْهِ دم وَإِن عَاد إِلَى عَرَفَة قبل الْغُرُوب ثمَّ دفع الإِمَام وَالْقَوْم بعد الْغُرُوب سقط عَنهُ الدَّم وقالزفر لَا يسْقط كَمَا فِي مُجَاوزَة الْمِيقَات
وَإِن عَاد إِلَى عَرَفَة بعد الْغُرُوب لَا يسْقط الدَّم بِالْإِجْمَاع
ثمَّ وَقت الْوُقُوف بِعَرَفَة بعد زَوَال الشَّمْس من يَوْم عَرَفَة إِلَى طُلُوع الْفجْر من يَوْم النَّحْر فَمن حصل فِي هَذَا الْوَقْت بِعَرَفَات وَهُوَ عَالم بهَا أَو جَاهِل أَو نَائِم أَو مغمى عَلَيْهِ فَوقف بهَا أَو مر بهَا وَلم يقف صَار مدْركا لِلْحَجِّ وَلَا يحْتَمل الْفَوات بعده لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الْحَج عَرَفَة فَمن وقف بهَا فقد تمّ حجه غير أَنه إِن أدْرك عَرَفَة بِالنَّهَارِ وَعلم بِهِ فَإِنَّهُ يقف بهَا إِلَى غرُوب الشَّمْس فَإِن لم يقف بهَا وَمر بهَا بعد الزَّوَال قبل الْغُرُوب يجب عَلَيْهِ الدَّم
وَإِن أدْركهَا بعد الْغُرُوب فَلم يقف وَمر بهَا فَلَا شَيْء عَلَيْهِ
وَإِن لم يدْرك عَرَفَة حَتَّى طلع الْفجْر من أول يَوْم النَّحْر فقد فَاتَ حجه وَسقط عَنهُ أَفعَال الْحَج ويتحول إِحْرَامه إِلَى الْعمرَة فَيَأْتِي بِأَفْعَال الْعمرَة وَيحل وَيجب عَلَيْهِ قَضَاء الْحَج من قَابل إِلَّا فِي فصل وَاحِد وَهُوَ إِنَّه إِذا اشْتبهَ عَلَيْهِم هِلَال ذِي الْحجَّة فأكملوا عدَّة ذِي الْقعدَة ثَلَاثِينَ يَوْمًا ووقفوا بِعَرَفَة ثمَّ تبين أَن ذَلِك يَوْم النَّحْر فَإِن وقوفهم صَحِيح وحجهم تَامّ لحَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَجكُمْ يَوْم تحجون
ثمَّ إِذا أَتَوا مُزْدَلِفَة ينزل وَاحِد حَيْثُ أحب بِمُزْدَلِفَة إِلَّا وَادي محسر وَيكرهُ النُّزُول على قَارِعَة الطَّرِيق وَلَكِن يتَنَحَّى عَنهُ يمنة أَو يسرة حَتَّى لَا يتَأَذَّى بِهِ الْمَار
فَإِذا غَابَ الشَّفق وَدخل وَقت الْعشَاء يُصَلِّي الإِمَام بهم صَلَاة
الْمغرب فِي وَقت الْعشَاء ثمَّ يُصَلِّي بهم صَلَاة الْعشَاء بآذان وَاحِد وَإِقَامَة وَاحِدَة وَلَا يشْتَغل بَينهمَا بتطوع وَلَا بِغَيْرِهِ فَإِن اشْتغل بذلك فَيَنْبَغِي أَن تُعَاد الْإِقَامَة وَيُصلي الْعشَاء لِأَنَّهُ وجد الْفَاصِل بَينهمَا فَلَا بُد من الْإِقَامَة لإعلام النَّاس
ثمَّ يبيت هُوَ مَعَ الإِمَام وَالنَّاس بِمُزْدَلِفَة
فَإِذا طلع الْفجْر يُصَلِّي الإِمَام مَعَ النَّاس بِغَلَس ثمَّ يقف مَعَ النَّاس فِي مَوْضُوع الْوُقُوف وَالْأَفْضَل أَن يكون وقُوف النَّاس خلف الإِمَام عِنْد الْجَبَل الَّذِي يُقَال لَهُ قزَح
وَوقت الْوُقُوف بِمُزْدَلِفَة بعد طُلُوع الْفجْر من يَوْم النَّحْر إِلَى أَن يسفر جدا فَمن حصل فِي هَذَا الْوَقْت فِي جُزْء من أَجزَاء الْمزْدَلِفَة فقد أَتَى بِالْوُقُوفِ وَلَا شَيْء عَلَيْهِ غير أَن السّنة مَا وَصفنَا
وَمن مر إِلَى منى قبل الْوُقُوف بِمُزْدَلِفَة قبل طُلُوع الْفجْر فَعَلَيهِ دم لترك الْوُقُوف بِمُزْدَلِفَة إِذْ هُوَ وَاجِب إِلَّا إِذا كَانَ بِهِ عِلّة وَضعف فيخاف الزحام فَيدْفَع مِنْهَا لَيْلًا وَلَا شَيْء عَلَيْهِ لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه رخص للضعفة أَن يتعجلوا من مُزْدَلِفَة بلَيْل
ثمَّ يفِيض الإِمَام مَعَ الْقَوْم من مُزْدَلِفَة قبل طُلُوع الشَّمْس وَيَأْتِي منى
وَيَنْبَغِي أَن يَأْخُذ كل وَاحِد حَصى الْجمار من الْمزْدَلِفَة أَو من الطَّرِيق وَلَا يَأْخُذ من الْجمار الَّتِي رميت عِنْد الْجَمْرَة لما قيل إِنَّه حَصى من لم يقبل حجَّة فَإِن من قبلت حجَّته رفعت جمرته
ثمَّ يَأْتِي جَمْرَة الْعقبَة قبل الزَّوَال فيرميها بِسبع حَصَيَات فِي بطن الْوَادي من أَسْفَل إِلَى أَعلَى فَوق حَاجِبه الْأَيْمن مثل حَصى الخزف وَيكبر مَعَ كل حَصَاة يرميها وَلَا يَرْمِي يَوْمئِذٍ من الْجمار شَيْئا غَيرهَا
وَلَا يقف عِنْدهَا وَبِأَيِّ شَيْء رَمَاه من الأَرْض أَجزَأَهُ حجرا كَانَ أَو طينا
وَلَو رمى جَمْرَة الْعقبَة بعد طُلُوع الْفجْر قبل طُلُوع الشَّمْس أَجزَأَهُ عندنَا
وَعند الشَّافِعِي لَا يجوز إِلَّا بعد طُلُوع الشَّمْس
وَالْأَفْضَل عندنَا أَن يَرْمِي بعد طُلُوع الشَّمْس
ثمَّ يرجع إِلَى منى فَإِن كَانَ مَعَه شَاة يذبح وَإِن لم يذبح فَلَا يضرّهُ لِأَنَّهُ مُفْرد بِالْحَجِّ فَلَا دم عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَن يحلق أَو يقصر وَالْحلق أفضل
وَإِن كَانَ قَارنا أَو مُتَمَتِّعا فَعَلَيهِ الذّبْح فَيَنْبَغِي أَن يذبح أَولا ثمَّ يحلق أَو يقصر
فَإِذا حلق حل لَهُ كل شَيْء إِلَّا النِّسَاء
ثمَّ يزور الْبَيْت من يَوْمه ذَلِك وَيَطوف طواف الزِّيَارَة أَو من الْغَد أَو بعد الْغَد فوقته أَيَّام النَّحْر وَهِي ثَلَاثَة أَيَّام وأولها أفضل
ثمَّ إِن سعى فِي طواف اللِّقَاء لَا يرمل فِي طواف الزِّيَارَة وَإِن لم يسع عقيب طواف اللِّقَاء فيسعى عقيب طواف الزِّيَارَة بَين الصَّفَا والمروة ويرمل فِي هَذَا الطّواف
فَإِذا طَاف طواف الزِّيَارَة أَو أَكْثَره حل لَهُ النِّسَاء أَيْضا
ثمَّ يخرج إِلَى منى وَلَا يبيت بِمَكَّة وَلَا بِالطَّرِيقِ وَيكرهُ أَن يبيت فِي غير منى فِي أَيَّام منى
فَإِذا كَانَ فِي الْيَوْم الثَّانِي من أَيَّام النَّحْر رمى الْجمار الثَّلَاث بعد الزَّوَال فَيبْدَأ بالجمرة الأولى الَّتِي عِنْد مَسْجِد الْخَفِيف فيرمها بِسبع
حَصَيَات مثل حَصى الخزف وَيكبر مَعَ كل حَصَاة يرميها وقف عِنْدهَا وَيكبر ويحمد الله تَعَالَى ويثني عَلَيْهِ وَيُصلي على النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَيَدْعُو الله حَوَائِجه وَيرْفَع يَدَيْهِ عِنْد الدُّعَاء بسطا
ثمَّ يَأْتِي الْجَمْرَة الْوُسْطَى وَيفْعل فِيهَا كَمَا يفعل فِي الأولى
ثمَّ يَأْتِي جَمْرَة الْعقبَة فيفعل بهَا كَمَا فعل بالْأَمْس وَلَا يقف
ثمَّ يرجع إِلَى رَحْله فَإِن أَرَادَ أَن ينفر من منى إِلَى مَكَّة فَلهُ ذَلِك لقَوْله تَعَالَى {فَمن تعجل فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْم عَلَيْهِ}
وَإِن أَقَامَ وَلم ينفر حَتَّى طلع الْفجْر من الْيَوْم الثَّالِث من أَيَّام النَّحْر فَعَلَيهِ أَن يَرْمِي الْجمار الثَّلَاث فِيهِ بعد الزَّوَال كَمَا رماهن بالْأَمْس فيقف عِنْد الْجَمْرَتَيْن الْأَوليين وَلَا يقف عِنْد الْعقبَة
وَإِذا أَرَادَ أَن ينفر وَيدخل مَكَّة نفر قبل غرُوب الشَّمْس فَإِن لم ينفر حَتَّى غربت الشَّمْس فَإِن الْأَفْضَل لَهُ أَن لَا ينفر حَتَّى يَرْمِي الْجمار الثَّلَاث من الْغَد
وَلَو نفر قبل طُلُوع الْفجْر من الْيَوْم الرَّابِع فَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَقد أَسَاءَ
وعَلى قَول الشَّافِعِي إِذا أغربت الشَّمْس من الْيَوْم الثَّالِث فَلَا يحل لَهُ النَّفر حَتَّى يَرْمِي الْجمار الثَّلَاث فِي الْيَوْم الرَّابِع
وَكَذَلِكَ عندنَا إِذا طلع الْفجْر من الْيَوْم الرَّابِع وَهُوَ آخر أَيَّام التَّشْرِيق يجب عَلَيْهِ الْإِقَامَة وَلَا يحل لَهُ النَّفر حَتَّى يَرْمِي الْجمار الثَّلَاث كَمَا فِي الأمس وَلَو نفر قبل الرَّمْي فَعَلَيهِ دم
ثمَّ من نفر فِي النَّفر الأول أَو فِي الثَّانِي فَإِن لَهُ أَن يحمل ثقله مَعَ نَفسه وَيكرهُ أَن يقدمهُ لِأَنَّهُ سَبَب لشغل قلبه
وَيَنْبَغِي أَن ينزل بِالْأَبْطح سَاعَة وَيُقَال لَهُ المحصب وَهُوَ مَوضِع بَين منى وَمَكَّة لِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام نزل بِهِ
ثمَّ يدْخل مَكَّة وَيَطوف طواف الصَّدْر لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ من حج الْبَيْت فَلْيَكُن آخر عَهده بِالْبَيْتِ الطّواف
فَإِذا فرغ من طواف الصَّدْر فَيَأْتِي الْمقَام فَيصَلي عِنْده رَكْعَتَيْنِ ثمَّ يَأْتِي زَمْزَم وَيشْرب من مَائِهَا قَائِما وَيصب بعضه على وَجهه وَرَأسه
ثمَّ يَأْتِي الْمُلْتَزم وَهُوَ بَين الْحجر الْأسود وَالْبَاب وَيَضَع صَدره وَوَجهه عَلَيْهِ ويتشبث بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة وَيسْأل الله تَعَالَى حَوَائِجه ثمَّ يسْتَلم الْحجر وَيكبر الله إِن أمكنه أَن يدْخل الْبَيْت فَحسن وَإِن لم يدْخل أَجزَأَهُ وَلَا يضرّهُ
ثمَّ يرجع فَإِن أَرَادَ أَن يعْتَمر بعد الْفَرَاغ من الْحَج وَبَعْدَمَا مضى أَيَّام النَّحْر والتشريف كَانَ لَهُ ذَلِك وَلكنه يخرج إِلَى التَّنْعِيم فَيحرم من ذَلِك الْموضع لِأَنَّهُ لما فرغ من الْحَج صَار كواحد من أهل مَكَّة وميقاتهم للْعُمْرَة من الْحل نَحْو التَّنْعِيم وَغَيره
وَلَيْسَ على أهل مَكَّة وَلَا على أهل الْمَوَاقِيت طواف الصَّدْر إِذا حجُّوا لِأَنَّهُ طواف الْوَدَاع عِنْد الْمُفَارقَة وهم غير مفارقين للبيت
وَلَيْسَ على المعتمرين من أهل الأفاق طواف الصَّدْر أَيْضا لِأَن ركن الْعمرَة هُوَ الطّواف فَكيف يصير رُكْنه تبعا لَهُ
وَلَيْسَ على الْحَائِض وَالنُّفَسَاء طواف الصَّدْر وَلَا شَيْء عَلَيْهِمَا التَّرِكَة لِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السلامرخص للنِّسَاء الْحيض بِتَرْكِهِ وَلم يَأْمُرهُنَّ بِإِقَامَة شَيْء مقَامه
وَلَو نفر قبل طواف الصَّدْر فَقبل أَن جَاوز الْمِيقَات لَهُ أَن يرجع وَيَطوف لِأَنَّهُ وَاجِب
وَإِن جَاوز فَإِن مضى يجب عَلَيْهِ الدَّم وَإِن رَجَعَ لَا بُد لَهُ من إِحْرَام الْعمرَة فَيرجع ويعتمر ثمَّ يطوف للصدر
هَذَا فِي حق الْمُفْرد بِالْحَجِّ
وَأما الْقَارِن فَحكمه مَا ذكرنَا فِي الْمُفْرد بِالْحَجِّ إِلَّا أَنه يحرم بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة جَمِيعًا ثمَّ إِذا أَتَى مَكَّة يطوف لعمرته وَيسْعَى ثمَّ بعد ذَلِك يطوف وَيسْعَى لحجته وَيقدم أَفعَال الْعمرَة على أَفعَال الْحَج
فَأَما إِذا أفرد بِالْحَجِّ ثمَّ قبل الْفَرَاغ من أَفعَال الْحَج أحرم للْعُمْرَة يصير قَارنا أَيْضا لكنه أَسَاءَ لترك السّنة فَإِن السّنة تَقْدِيم أَفعَال الْعمرَة على أَفعَال الْحَج للقارن
وَإِذا جَاءَ وَقت الْحلق فَإِنَّهُ يذبح أَولا ثمَّ يحلق
وَأما الْمُتَمَتّع فَإِنَّهُ يحرم للْعُمْرَة أَولا وَيَأْتِي بهَا قبل يَوْم التَّرويَة ثمَّ يحرم لِلْحَجِّ سَوَاء حل من الْعمرَة أَو لم يحل وَهُوَ مِمَّن يحصل لَهُ الْعمرَة وَالْحج فِي أشهر الْحَج بسفر وَاحِد من غير أَن يلم بأَهْله فِيمَا بَينهمَا إلماما صَحِيحا
وَلَو قدم إِحْرَامه لِلْحَجِّ على يَوْم التَّرويَة فَهُوَ أفضل
وَهَذَا إِذا لم يسق مَعَ نَفسه هدي الْمُتْعَة
فَأَما إِذا سَاق فَإِنَّهُ لَا يحل عَن إِحْرَام الْعمرَة إِلَّا بعد الْفَرَاغ من الْحَج فَلهُ أَن يحرم بِالْحَجِّ وَيتم
ثمَّ الْمُتْعَة وَالْقرَان مشروعان فِي حق أهل الأفاق
فَأَما فِي حق حاضري الْمَسْجِد الْحَرَام وهم أهل مَكَّة وَأهل دَاخل
الْمَوَاقِيت فمكروه
وَأَصله قَوْله تَعَالَى (فَمن تمتّع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج) إِلَى أَن قَالَ (ذَلِك لمن لم يكن أهلة حاضري الْمَسْجِد الْحَرَام)
وَلَو تمَتَّعُوا مَعَ ذَلِك أَو قرنوا يجوز ويلزمهم دم لإساءتهم وَيكون ذَلِك دم جبر حَتَّى لَا يحل لَهُم أكله وَعَلَيْهِم أَن يتصدقوا بِهِ على الْفُقَرَاء
فَأَما فِي حق أهل الْآفَاق فمشروعة مُسْتَحبَّة ويلزمهم الدَّم شكرا لما أنعم الله عَلَيْهِم فِي الْجمع بَين النُّسُكَيْنِ بسفر وَاحِد حَتَّى يحل لَهُ الْأكل مِنْهُ وَيطْعم من شَاءَ من الْغَنِيّ وَالْفَقِير وَلَا يجب عَلَيْهِ التَّصَدُّق لَكِن الْمُسْتَحبّ أَن يَأْكُل الثُّلُث وَيتَصَدَّق بِالثُّلثِ وَيهْدِي الثُّلُث إِلَى أقربائه وجيرانه
كَمَا فِي الْأُضْحِية
وَإِنَّمَا يذبح فِي أَيَّام النَّحْر ويذبح فِي الْحرم فَإِن كَانَ مُعسرا وَلم يجد الْهَدْي فَإِنَّهُ يَصُوم ثَلَاثَة أَيَّام قبل يَوْم عَرَفَة بعد إِحْرَام الْعمرَة وَالْأَفْضَل أَن تكون ثَلَاثَة أَيَّام آخرهَا يَوْم عَرَفَة
فَإِن فعل ذَلِك ثمَّ جَاءَ يَوْم النَّحْر حلق أَو قصر ثمَّ يَصُوم سَبْعَة أَيَّام بعد مُضِيّ أَيَّام النَّحْر والتشريق وَإِن لم يرجع إِلَى أَهله
وَهَذَا عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي يَصُوم السَّبْعَة بَعْدَمَا رَجَعَ إِلَى أَهله وَلَا يجوز قبله لقَوْله تَعَالَى {فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رجعتم تِلْكَ عشرَة كَامِلَة}
إِلَّا أَنا نقُول معنى قَوْله رجعتم أَي فَرَغْتُمْ من أَفعَال الْحَج
كَذَا قَالَ أهل التَّفْسِير
ثمَّ الْقرَان أفضل من الْإِفْرَاد عندنَا ثمَّ التَّمَتُّع ثمَّ الْإِفْرَاد
وَقَالَ الشَّافِعِي الْإِفْرَاد أفضل مِنْهُمَا جَمِيعًا
وَقَالَ مَالك التَّمَتُّع أفضل ثمَّ الْقرَان ثمَّ الْإِفْرَاد
وَحَاصِل الْخلاف أَن الْقَارِن محرم بإحرامين وَلَا يدْخل إِحْرَام الْعمرَة فِي إِحْرَام الْحَج عندنَا
وَعِنْده يكون محرما بِإِحْرَام وَاحِد وَيدخل إِحْرَام الْعمرَة فِي إِحْرَام الْحَج لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام دخلت الْعمرَة فِي الْحَج إِلَى يَوْم الْقِيَامَة
وَلَكنَّا نستدل بِإِجْمَاع الْأمة على تَسْمِيَته قرانا وَالْقرَان يكون بَين شَيْئَيْنِ وَأما الحَدِيث فتأويله دخل وَقت الْعمرَة فِي وَقت الْحجَّة فَإِنَّهُم كَانُوا يعدون الْعمرَة فِي أشهر الْحَج من أفجر الْفُجُور فنسخ الْإِسْلَام ذَلِك
وَيَنْبَنِي على هَذَا الأَصْل مسَائِل مِنْهَا مَا قُلْنَا إِن الْقرَان أفضل لِأَنَّهُ جمع بَين العبادتين بإحرامين وَعِنْده بِخِلَافِهِ
وَمِنْهَا أَن الْقَارِن يطوف طوافين وَيسْعَى سعين وَيقدم أَفعَال الْعمرَة على أَفعَال الْحَج وَعِنْده يطوف طَوافا وَاحِدًا وَيسْعَى سعيا وَاحِدًا
وَمِنْهَا أَن الدَّم الْوَاجِب فِيهِ دم نسك عندنَا شكرا للْجمع بَين العبادتين وَعِنْده دم جبر لتمكن النُّقْصَان فِي الْحَج بِسَبَب إِدْخَال الْعمرَة فِيهِ حَتَّى لَا يحل لَهُ أكل هَدْيه عِنْده وَعِنْدنَا يحل
وَمِنْهَا أَنه إِذا تنَاول مَحْظُور إِحْرَامه فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ دمان عندنَا
وَعِنْده يجب عَلَيْهِ دم وَاحِد
وَمِنْهَا أَنه لَو أحْصر الْقَارِن فَإِنَّهُ يحل بهديين عندنَا وَعِنْده يهدي وَاحِد
ثمَّ النِّسَاء فِي الْحَج وَالْعمْرَة كالرجال إِلَّا فِي أَشْيَاء مِنْهَا أَنه لَا يحرم عَلَيْهِم لبس الْمخيط
وعليهن أَن يغطين رؤوسهن لَكِن لَا يغطين وجوههن وَلَو غطين حافين فَيكون إحرامهم فِي وجوهن
وَكَذَا لَا يرفعن أصواتهن بِالتَّلْبِيَةِ
وَكَذَا لَا يرملن فِي الطّواف
وَلَا يسعين فِي بطن الْوَادي بَين الصَّفَا والمروة بل يَمْشين على هينتهن
وَلَا يَحْلِقن رؤوسهن وَلَكِن يقصرن فيأخذن من أَطْرَاف شعورهن قدر أُنْمُلَة
وَيسْقط عَنْهُن طواف الصَّدْر فِي بَاب الْحَج إِذا حضن أَو نفسن
وَلَا يجب عَلَيْهِم بِتَأْخِير طواف الزِّيَارَة عَن أَيَّام النَّحْر بِسَبَب الْحيض وَالنّفاس شَيْء
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
بَاب آخر جمع فِي الْكتاب مسَائِل الْإِحْصَار
بَاب آخر جمع فِي الْكتاب مسَائِل الْإِحْصَار
ومسائل الْمَحْظُورَات
ومسائل الْأَمر بِالْحَجِّ
وَبَدَأَ بالإحصار فَقَالَ من منع عَن الْوُصُول إِلَى الْبَيْت بَعْدَمَا أحرم بِالْحَجِّ أَو بِالْعُمْرَةِ أَو بهما بِسَبَب مرض أَو عَدو فَهُوَ محصر
وَالْكَلَام فِي الْإِحْصَار فِي مَوَاضِع أَحدهَا أَن الْإِحْصَار قد يكون بالعدو كفَّارًا كَانُوا أَو مُسلمين وَقد يكون بِالْمرضِ أَو بعلة مَانِعَة عَن الْمَشْي وَهَذَا عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يكون إِلَّا بالعدو
وعَلى هَذَا إِذا أَحرمت الْمَرْأَة بِحجَّة الْإِسْلَام فَلم تَجِد محرما أَو مَاتَ عَنْهَا زَوجهَا فَهِيَ محصرة
فَأَما إِذا سرقت نَفَقَة الْحَاج
أَو هَلَكت رَاحِلَته فَإِن كَانَ لَا يقدر على الْمَشْي أَو يقدر فِي الْجُمْلَة لَكِن يخَاف أَن لَا يُمكنهُ الْمَشْي مَعَ الْقَافِلَة فَإِنَّهُ يكون محصرا وَإِن كَانَ مِمَّن يقدر على الْمَشْي لَا يكون محصرا بل يجب عَلَيْهِ أَن يذهب بِخِلَاف مَا إِذا لم يكن قَادِرًا على الرَّاحِلَة فِي
الِابْتِدَاء لِأَنَّهُ صَار الْحَج لَازِما عَلَيْهِ بِسَبَب الشُّرُوع
فَأَما الْمَرْأَة إِذا أَحرمت بِالْحَجِّ تَطَوّعا فَللزَّوْج أَن يمْنَعهَا لِأَن مَنْفَعَتهَا ملك الزَّوْج وَلم تصر مُسْتَثْنَاة فِي حق التَّطَوُّع فَتَصِير محصرة وَللزَّوْج أَن يحللها بِأَن يقبلهَا أَو يعانقها فَتحل للْحَال من غير أَن تذبح وَعَلَيْهَا أَن تبْعَث الْهَدْي فَيذْبَح فِي الْحرم لِأَن الْإِحْلَال مُسْتَحقّ عَلَيْهَا حَقًا للزَّوْج
وَكَذَلِكَ العَبْد وَالْأمة إِذا أحرما فللمولى أَن يحللهما وَعَلَيْهَا الْهَدْي بعد الْعتاق وَقَضَاء الْحَج وَالْعمْرَة لِأَنَّهُ يصير وَاجِبا بِالشُّرُوعِ
وَلَو أذن الْمولى لعَبْدِهِ فِي الْحَج فَأحْرم يكره لَهُ أَن يحلله لِأَنَّهُ خلاف وعده وَلَكِن مَعَ هَذَا لَو حلله يجوز وَيحل وَلَا يلْزم الْمولى الْهَدْي بِسَبَب الْإِحْلَال لِأَن الْإِحْلَال حق الْمولى
وَقَالَ أَبُو يُوسُف لَيْسَ لَهُ أَن يحلله لِأَنَّهُ أسقط حق نَفسه بِالْإِذْنِ
وَلَو بَاعَ العَبْد فَلِلْمُشْتَرِي أَن يحلله من غير كَرَاهَة وعَلى قولزفر يكره
وَلَو أذن لأمته بِالْحَجِّ وَلها زوج فأحرمت فَلَيْسَ للزَّوْج أَن يحللها لِأَن للْمولى أَن يُسَافر بهَا فَكَانَ لَهُ أَن يَأْذَن بذلك
وَالصَّحِيح مَذْهَبنَا لِأَن الْإِحْصَار يتَحَقَّق بِكُل مَانع من الْوُصُول إِلَى الْبَيْت قَوْله تَعَالَى {فَإِن أحصرتم فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي} من غير فصل بَين سَبَب وَسبب فَهُوَ على الْإِطْلَاق
وَمِنْهَا حكم الْإِحْصَار وَهُوَ أَن يبْعَث الْهَدْي إِلَى الْحرم أَو يَأْمر رجلا ليَشْتَرِي هَديا ثمَّة ويواعده بِأَن يذبحه عَنهُ ثمَّة فِي يَوْم
معِين فَإِذا ذبحه عَنهُ يحل لَهُ كل شَيْء وَلَا يحْتَاج إِلَى الْحلق فِي قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَإِن فعل فَحسن
وَقَالَ أَبُو يُوسُف يَنْبَغِي أَن يحلق وَإِن لم يفعل فَلَا شَيْء عَلَيْهِ
وَرُوِيَ عَنهُ أَنه وَاجِب لَا يسع تَركه
وَله أَن يرجع إِلَى أَهله إِذا بعث الْهَدْي سَوَاء ذبح عَنهُ أَو لَا لِأَن إِذا لم يتَمَكَّن من الْمَشْي إِلَى الْحَج فَلَا فَائِدَة فِي الْمقَام
وَمِنْهَا أَن يتَحَلَّل بِشَاة وَإِن كَانَ اسْم الْهَدْي يَقع على الشَّاة وَالْإِبِل وَالْبَقر لما روى جَابر أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَمر النَّاس عَام الْحُدَيْبِيَة أَن يتحللوا بِشَاة ويذبحوا الْبَقَرَة عَن سَبْعَة
وَمِنْهَا أَن هدي الْإِحْصَار لَا يجوز ذبحه إِلَّا فِي الْحرم عندنَا
وَعند الشَّافِعِي فِي الْموضع الَّذِي يتَحَلَّل فِيهِ
وَالصَّحِيح مَذْهَبنَا لقَوْله تَعَالَى {وَالْهَدْي معكوفا أَن يبلغ مَحَله}
وَمِنْهَا أَن دم الْإِحْصَار يجوز تَقْدِيمه على أَيَّام النَّحْر عِنْد أبي حنيفَة
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد لَا يجوز تَقْدِيمه على أَيَّام النَّحْر
وَأَجْمعُوا أَن هدي الْإِحْصَار عَن الْعمرَة يجوز فِي أَي وَقت شَاءَ
وَمِنْهَا أَن الْمحصر إِذا لم يجد الْهَدْي وَلَا ثمن الْهَدْي لَا يحل بِالْإِطْعَامِ وَالصَّوْم بل يبْقى محرما إِلَى أَن يجد الْهَدْي
فَيذْبَح عَنهُ فِي الْحرم بأَمْره أَو مَتى زَالَ الْإِحْصَار فَيذْهب إِلَى مَكَّة فيحج إِن بَقِي وَقت الْحَج وَإِن فَاتَ وَقت الْحَج فيتحلل بِأَفْعَال الْعمرَة
هَذَا هُوَ الْمَشْهُور من قَوْلنَا
وَقَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح يحل بِالْإِطْعَامِ ثمَّ بِالصَّوْمِ بِأَن يقوم الْهَدْي طَعَاما فَيتَصَدَّق بِهِ على الْمَسَاكِين وَإِن لم يجد الطَّعَام يَصُوم لكل نصف صَاع يَوْمًا
وَبِه أَخذ أَبُو يُوسُف فِي رِوَايَة
وَقَالَ الشَّافِعِي فِي قَول يحل بِالصَّوْمِ ويصوم ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج ويصوم سَبْعَة أَيَّام بعْدهَا كَمَا فِي الْمُتَمَتّع والقارن
وَفِي قَول يطعم وَإِن فَاتَ
وَمِنْهَا أَن الْمحصر إِذا حل بِالْهَدْي فَعَلَيهِ قَضَاء حجَّة وَعمرَة من الْقَابِل أما الْحجَّة فَلِأَنَّهُ أوجبهَا بِالشُّرُوعِ وَإِن كَانَت تَطَوّعا وَإِن كَانَت حجَّة الْإِسْلَام وفاتت فَعَلَيهِ أَدَاؤُهَا وَعَلِيهِ قَضَاء عمْرَة لفَوَات الْحَج فِي عَامَّة ذَلِك وفائت الْحَج يتَحَلَّل بِأَفْعَال الْعمرَة هَذَا هُوَ الأَصْل
فَإِذا خرج بِالْهَدْي فَعَلَيهِ قَضَاء الْعمرَة الَّتِي يتَحَلَّل بهَا فَائت الْحَج وَإِن كَانَ قَارنا يقْضِي حجَّة وَعمرَة مَكَان مَا فَاتَهُ من الْحَج وَالْعمْرَة وَعمرَة أُخْرَى لكَونه فَائت الْحَج
وَمِنْهَا مَا ذكرنَا أَن الْقَارِن إِذا أحْصر يبْعَث بهديين وَمَا لم يذبحا جَمِيعًا لَا يحل خلافًا للشَّافِعِيّ
وَمِنْهَا أَنه إِذا ذبح هَدْيه قبل الْيَوْم الَّذِي وَاعد فِيهِ أَو قبل يَوْم النَّحْر على قَوْلهمَا وَقد بَاشر أفعالا هِيَ حرَام بِسَبَب الْإِحْرَام فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ الْجَزَاء لِأَنَّهُ مَتى ذبح فِي غير ذَلِك الْيَوْم أَو ذبحه فِي غير الْحرم فَهُوَ محمر بعد وَالْمحرم إِذا بَاشر محظوره يجب عَلَيْهِ الْجَزَاء
وَمِنْهَا أَنه إِذا زَالَ الْإِحْصَار وَقدر على إِدْرَاك الْهَدْي وَالْحج جَمِيعًا فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ التَّوَجُّه إِلَى الْبَيْت لِأَن الْهَدْي إِنَّمَا شرع عِنْد الضَّرُورَة للإحلال وَقد زَالَت الضَّرُورَة
وَإِن قدر على إِدْرَاك الْهَدْي دون الْحَج فقد تحقق الْإِحْصَار لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي إِدْرَاك الْهَدْي إِذا فَاتَ الْحَج فَيذْبَح عَنهُ وَيحل وَلَا يجب عَلَيْهِ الذّهاب إِلَى مَكَّة
وَإِن قدر على إِدْرَاك الْحَج دون الْهَدْي فَهَذَا إِنَّمَا يتَحَقَّق على قَول أبي حنيفَة فِي الْحَج وَعند الْكل فِي الْإِحْصَار بِالْعُمْرَةِ لِأَن ذبح الْهَدْي غير مُؤَقّت بِيَوْم النَّحْر فَأَما عِنْدهمَا فَفِي ذبح هدي الْإِحْصَار عَن الْحَج لَا يتَحَقَّق لِأَنَّهُ يذبح يَوْم النَّحْر فَإِذا أدْرك الْحَج فقد أدْرك الْهَدْي
ثمَّ الْجَواب على قِيَاس قَوْله لَا يحل بِالْهَدْي لِأَنَّهُ لم يتَحَقَّق بالإحصار لِأَنَّهُ صَار قادما على أَدَاء الْحَج فَصَارَ كالشيخ الفاني إِذا قدر على الصَّوْم
وَفِي الِاسْتِحْسَان يحل بِالْهَدْي لِأَنَّهُ لما لم يكن قَادِرًا على إِدْرَاك الْهَدْي صَار حَلَالا بِالذبْحِ
فَإِن ذهب من عَامه ذَلِك إِلَى قَضَاء الْحَج فَإِنَّهُ يقْضِي بِإِحْرَام جَدِيد وَعَلِيهِ قَضَاء الْحَج لَا غير لِأَنَّهُ لم يفت عَنهُ الْحَج فِي هَذَا الْعَام
وَإِن قضى فِي عَام آخر فَعَلَيهِ قَضَاء الْحَج وَعَلِيهِ الْعمرَة لفَوَات الْحَج من الْعَام الأول
وَأما مسَائِل المحظوراتفنقول إِذا لبس الْمحرم الْمخيط فَإِن كَانَ يَوْمًا كَامِلا فَعَلَيهِ دم فَأَما إِذا كَانَ فِي بعض الْيَوْم فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ صَدَقَة لِأَن لبس الْمخيط إِنَّمَا حرم لكَونه من مرافق المقيمين واللبس يَوْمًا كَامِلا يكون استمتاعا كَامِلا فَعَلَيهِ دم وَإِلَّا فَيجب بِقَدرِهِ من الصَّدَقَة بِأَن يقسم قيمَة الْهَدْي على سَاعَات الْيَوْم فَمَا يُصِيب ذَلِك الْوَقْت الَّذِي لَيْسَ فِيهِ يجب عَلَيْهِ بِقَدرِهِ وَكَذَا قَالَ بعض أَصْحَابنَا
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه يطعم نصف صَاع من بر
وكل صَدَقَة فِي الْإِحْرَام غير مقدرَة فَهِيَ نصف صَاع إِلَّا فِي قتل الجرادة والقملة فَهِيَ كف من طَعَام
وَلَو لبس جَمِيع الثِّيَاب وَلبس الْخُفَّيْنِ أَيْضا لَا يلْزمه إِلَّا جَزَاء وَاحِد لِأَن الْجِنْس وَاحِد
وَلَو لبس قلنسوة ولف عِمَامَة للضَّرُورَة لَا يلْزمه إِلَّا فديَة وَاحِدَة
وَلَو وضع قَمِيصًا على رَأسه وقلنسوة يلْزمه للضَّرُورَة فديَة وللقميص دم لِأَنَّهُ لَا حَاجَة إِلَى الْقَمِيص فِي الرَّأْس
وَلَو لبس قَمِيصًا للضَّرُورَة وَلبس خُفَّيْنِ من غير ضَرُورَة يلْزمه الْفِدْيَة لأجل الضَّرُورَة وَالدَّم لأجل الْخُفَّيْنِ من غير ضَرُورَة
وَكَذَلِكَ الْجَواب فِي لبس الْخُفَّيْنِ وتغطية الْوَجْه وَالرَّأْس فِي حق الرجل
أما الْمَرْأَة فعلَيْهَا أَن تغطي رَأسهَا وَلَكِن لَا تغطي وَجههَا
ثمَّ فِي الْجَواب ظَاهر الرِّوَايَة إِذا غطى ربع الرَّأْس أَو الْوَجْه يَوْمًا وَاحِدًا يجب عَلَيْهِ الدَّم وَإِن كَانَ أقل من يَوْم يجب عَلَيْهِ الصَّدَقَة بِقَدرِهِ
وَفِي رِوَايَة عَن مُحَمَّد أَنه قدر بِالْأَكْثَرِ
وَإِن ألْقى على مَنْكِبَيْه قبَاء أَو توشح قَمِيصًا أَو اتزر بسراويل لَا شَيْء عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلبْس مُعْتَاد
وَكَذَا لَو غطى رَأسه بِمَا لبس بمعتاد بِأَن وضع الإجانة على رَأسه أَو جوالق حِنْطَة على رَأسه فَلَا شَيْء عَلَيْهِ
وَلَو أَدخل الْيَد فِي الكمين بَعْدَمَا ألْقى القباء على مَنْكِبَيْه يجب الْجَزَاء لِأَن لبس القباء فِي الْعَادة هَكَذَا
وَإِن لم يجد النَّعْلَيْنِ يَنْبَغِي أَن يقطع الْخُفَّيْنِ أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ ويلبس وَلَا شَيْء عَلَيْهِ
وَكَذَا لَو فتق السَّرَاوِيل وَلم يبْق إِلَى مَوضِع التكة لَا شَيْء عَلَيْهِ لِأَن هَذَا اتزار وَلَيْسَ بِلبْس
وَلَو حلق رَأسه أَو ربع رَأسه فَعَلَيهِ دم عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا إِن حلق أَكثر الرَّأْس يجب دم وَإِن كَانَ أقل يجب صَدَقَة
وَلَو قلم الْأَظْفَار إِن كَانَ قلم يدا وَاحِدَة ورجلا وَاحِدَة أَو قلم الأظافير كلهَا لَا يلْزمه إِلَّا دم وَاحِد لِأَن جنس الْجَنَابَة وَاحِد
وَلَو قلم خَمْسَة أظافير من الْيَدَيْنِ أَو الرجلَيْن لَا يجب عَلَيْهِ الدَّم لِأَن هَذَا لَيْسَ من بَاب الارتفاق وَلَكِن يجب لكل ظفر نصف صَاع من حِنْطَة
وَهَذَا إِذا فعل بِغَيْر عذر
فَأَما إِذا فعل بِعُذْر فَعَلَيهِ الْفِدْيَة وَهُوَ أحد الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة صِيَام ثَلَاثَة أَيَّام أَو صَدَقَة على سِتَّة مَسَاكِين أَو ذبح شَاة لقَوْله تَعَالَى {ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك}
ثمَّ الْمحرم يحرم عَلَيْهِ أَخذ صيد الْبر وَقَتله وَالْإِشَارَة إِلَيْهِ وَالدّلَالَة عَلَيْهِ فَأَما صيد الْبَحْر فحلال لَهُ قَالَ الله تَعَالَى {أحل لكم صيد الْبَحْر وَطَعَامه مَتَاعا لكم وللسيارة وَحرم عَلَيْكُم صيد الْبر مَا دمتم حرما}
وَالصَّيْد مَا كَانَ متوحشا مُمْتَنعا إِمَّا بجناحيه أَو بقوائمه حَتَّى إِن الدَّجَاج والبط الأهلي لم يكن من الصَّيْد
فَإِن قتل صيدا
فَإِن لم يقْصد الصَّيْد بالإيذاء يلْزمه الْجَزَاء
وَأما إِذا قصد بالإيذاء وَإِن لم يكن مُؤْذِيًا فِي الأَصْل أَو كَانَ من جملَة المؤذيات كَالْكَلْبِ الْعَقُور وَالذِّئْب فَلَا شَيْء عَلَيْهِ
وَأَصله حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ خمس يقتلن فِي الْحل وَالْحرم الْحَيَّة وَالْعَقْرَب والفأرة والحدأة وَالْكَلب الْعَقُور وَفِي رِوَايَة الْغُرَاب الأبقع
وَإِذا قتل شَيْئا من غير المؤذيات ابْتِدَاء ينظر إِمَّا إِن كَانَ مَأْكُول اللَّحْم أَو لم يكن مَأْكُول اللَّحْم
فَإِن كَانَ مَأْكُول اللَّحْم فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ قِيمَته عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَتعْتَبر قِيمَته فِي الْموضع الَّذِي قَتله فِيهِ إِن كَانَ مِمَّا يُبَاع فِي ذَلِك الْموضع أَو فِي أقرب الْأَمَاكِن الَّذِي يُبَاح فِيهِ وَيقوم
وَإِذا ظَهرت قِيمَته فَالْخِيَار إِلَى الْقَاتِل عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَفِي رِوَايَة الْكَرْخِي إِن بلغت قِيمَته هَديا إِن شَاءَ اشْترى بهَا هَديا فذبح فِي الْحرم وَإِن شَاءَ اشْترى بهَا طَعَاما فَتصدق على كل فَقير نصف صَاع من حِنْطَة وَإِن شَاءَ صَامَ مَكَان كل نصف صَاع من حِنْطَة يَوْمًا
فَإِن اشْترى هَديا ذبح فِي الْحرم سقط عَنهُ الْجَزَاء بِمُجَرَّد الذّبْح حَتَّى إِنَّه لَو سرق بعد الذّبْح أَو ضَاعَ بِوَجْه مَا قبل التَّصَدُّق فَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَلَو تصدق بكله على فَقير وَاحِد جَازَ لَا يجب عَلَيْهِ التَّفْرِيق على الْمَسَاكِين
وَلَو ذبحه فِي الْحل لَا يسْقط عَنهُ الْجَزَاء إِلَّا إِذا تصدق بِلَحْمِهِ على الْفُقَرَاء على كل فَقير قدر قيمَة نصف صَاع من حِنْطَة فيجزئه بَدَلا عَن الطَّعَام أَو الصّيام إِذا بلغت قِيمَته قيمَة الصَّيْد وَإِلَّا فيكمل
وَإِذا اخْتَار الطَّعَام أَو الصّيام يجزئانه فِي الْأَمَاكِن كلهَا
وَيجوز فِي الْإِطْعَام الْإِبَاحَة وَالتَّمْلِيك
وَيجوز الصَّوْم مُتَتَابِعًا ومتفرقا
وَلَو لم تبلغ قيمَة الْهَدْي فَلهُ الْخِيَار بَين الْإِطْعَام وَالصِّيَام
وَالْهَدْي هُوَ كل مَا يجوز فِي الْأَضَاحِي من الثنايا فِي الْمعز وَالشَّاة الَّتِي أَتَت عَلَيْهَا السّنة إِلَّا الْجذع من الضَّأْن إِذا كَانَ عَظِيما وَهُوَ الَّذِي أَتَت عَلَيْهِ سِتَّة أشهر فَصَاعِدا
وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ عَن مُحَمَّد الْخِيَار فِي ذَلِك إِلَى الْحكمَيْنِ إِن شاءا حكما عَلَيْهِ هَديا وَإِن شاءا حكما عَلَيْهِ طَعَاما وَإِن شاءا حكما عَلَيْهِ صياما وَلَيْسَ لَهُ أَن يخرج من حكمهمَا فَإِن حكما عَلَيْهِ هَديا يجب عَلَيْهِ ذبح نَظِير الْمُتْلف من النعم الأهلي من حَيْثُ الْهَيْئَة وَالصُّورَة إِن كَانَ لَهُ نَظِير من حَيْثُ الصُّورَة عِنْد مُحَمَّد وَالشَّافِعِيّ سَوَاء كَانَت قِيمَته مثل قيمَة الْمُتْلف أَو أقل أَو أَكثر بِأَن يجب فِي الظبي شَاة وَفِي النعامة بَدَنَة وَفِي الأرنب عنَاق وَفِي اليربوع جفرة والجفرة من أَوْلَاد الْمعز الَّذِي أَتَى عَلَيْهِ سِتَّة أشهر
وَإِن لم يكن لَهُ نَظِير من حَيْثُ الْخلقَة فَإِنَّهُ يَشْتَرِي بِقِيمَتِه هَديا فَيذْبَح فِي الْحرم
فَأَما إِذا مَا حكما عَلَيْهِ طَعَاما أَو صياما فعلى مَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف
فَأَما إِذا كَانَ الْمَقْتُول غير مَأْكُول اللَّحْم سوى المؤذيات الْمَنْصُوص عَلَيْهَا وَقد قَتله ابْتِدَاء لَا بطرِيق الدّفع لأذاة فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ الْجَزَاء عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ إِلَّا أَنه لَا يُجَاوز عَن ثمن هدي وَإِن كَانَت قِيمَته أَكثر من ذَلِك فِي ظَاهر الرِّوَايَة
وَعَن الْكَرْخِي أَنه قَالَ لَا يبلغ دَمًا بل ينقص مِنْهُ شَيْء
هَذَا حكم الْمحرم
فَأَما حكم صيد الْحرم فَنَقُول إِن أَخذ صيد الْحرم وَقَتله حرَام لحُرْمَة الْحرم قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فِي صفة الْحرم لَا يخْتَلى خَلاهَا وَلَا يعضد شَوْكهَا وَلَا ينفر صيدها
إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول الْحَلَال إِذا أتلف صيدا مَمْلُوكا فِي الْحَرَام معلما كالبازي وَالْحمام فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ قيمتان قِيمَته معلما للْمَالِك وَقِيمَته غير معلم حَقًا لله تَعَالَى لِأَنَّهُ جنى على حقين إِلَّا أَن فِي حق الله تَعَالَى يضمن من حَيْثُ إِنَّه صيد لَا من حَيْثُ إِنَّه معلم
وَلَو أتلف صيدا غير مَمْلُوك يجب عَلَيْهِ جَزَاء وَاحِد وَهُوَ قِيمَته
وَلَو أتلف الْمحرم صيدا الْحرم فَالْقِيَاس أَن يجب عَلَيْهِ جزآن لوُجُود الْجِنَايَة على الْحرم وَالْإِحْرَام
وَفِي الِاسْتِحْسَان يجب عَلَيْهِ جَزَاء وَاحِد لِأَن حُرْمَة الْإِحْرَام أقوى من حُرْمَة الْحرم فَيجب اعْتِبَار الْأَقْوَى
وَلَو اشْترك الحلالان فِي إِتْلَاف صيد الْحرم يجب عَلَيْهِمَا جَزَاء وَاحِد لِأَنَّهُ فِي معنى إِتْلَاف مَال النَّاس كإتلاف الْمَسَاجِد لِأَن مَنَافِعهَا ترجع إِلَى الْعباد فَكَانَ وَاجِبا بطرِيق الْجَبْر والفائت وَاحِد فيكتفي بِضَمَان وَاحِد بِخِلَاف المحرمين إِذا أتلفا صيدا يجب على كل وَاحِد مِنْهُمَا جَزَاء كَامِل لِأَنَّهُ وَجب حزاء الْفِعْل وَفعل كل وَاحِد مِنْهُمَا جِنَايَة على حِدة
وَلَو اشْترك الْحَلَال وَالْحرَام فِي قتل صيد خَارج الْحرم إِن كَانَ غير مَمْلُوك لَا يجب على الْحَلَال شَيْء وَيجب على الْمحرم جَزَاء كَامِل
وَإِن كَانَ مَمْلُوكا يجب على الْحَلَال نصف الْقيمَة للْمَالِك وعَلى الْمحرم نصف الْقيمَة للْمَالِك وَجَزَاء كَامِل لأجل الْجِنَايَة على الْإِحْرَام
وَلَو أَن حَلَالا ومفردا بِالْحَجِّ اشْتَركَا فِي قتل صيد الْحرم يجب على الْحَلَال نصف الْجَزَاء وعَلى الْمُفْرد جَزَاء كَامِل
وَلَو اشْترك الْحَلَال والقارن يجب على الْحَلَال النّصْف وعَلى الْقَارِن جزآن
وَلَو اشْترك الْحَلَال والقارن والمفرد يجب على الْحَلَال ثلث الْجَزَاء وعَلى الْمُفْرد جَزَاء وَاحِد وعَلى الْقَارِن جزآن
وَكَذَلِكَ قطع شَجَرَة وحشيش نبت بِنَفسِهِ فِي الْحرم فَإِنَّهُ يحرم قطعه وَعَلِيهِ الْجَزَاء بِقدر قِيمَته
وَإِن كَانَ مِمَّا ينبته النَّاس وَصَارَ ملكا لَهُم لَا يجب الْجَزَاء بِقطعِهِ وَلَكِن تجب الْقيمَة لصَاحبه إِلَّا فِي الْإِذْخر فَإِنَّهُ لَا يجب بإتلافه شَيْء فَإِن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لما قَالَ لَا يخْتَلى خَلاهَا قَالَ الْعَبَّاس إِلَّا الْإِذْخر فَقَالَ الْإِذْخر اسْتَثْنَاهُ وَحكم الْمُسْتَثْنى خلاف حكم الْمُسْتَثْنى مِنْهُ
وَأما الكمأة فِي الْحرم فَلَا بَأْس بأخذها لِأَنَّهَا لَيست من جنس النَّبَات
وَكَذَلِكَ إِذا جف النَّبَات وَالشَّجر وَسقط فَلَا بَأْس بِأَخْذِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ من النَّبَات لِأَنَّهُ خرج عَن حد النمو
وَلَو أَن الْحَلَال إِذا دخل الْحرم وَمَعَهُ صيد مَمْلُوك يجب عَلَيْهِ إرْسَاله فِي الْحل وَلم يجز بَيْعه لِأَن التَّعَرُّض للصَّيْد حرَام عَلَيْهِ فِي الْحرم وَفِي إِمْسَاكه تعرض لَهُ وَكَذَلِكَ فِي بَيْعه
وَمعنى يجب عَلَيْهِ إرْسَاله فِي الْحل أَن يَضَعهُ فِي يَد رجل وَدِيعَة لَا أَن يضيعه ويطيره
وَلَو ذبحه يجب عَلَيْهِ الْجَزَاء لِأَنَّهُ لما وَجب عَلَيْهِ الْإِرْسَال لحُرْمَة الْحرم فَيكون بِالذبْحِ تَارِكًا للْوَاجِب
وَكَذَلِكَ الْجَواب فِي الْمحرم فِي الْحل إِذا كَانَ فِي يَده صيد مَمْلُوك يجب أَن يُرْسِلهُ فِي يَد رجل وَلَا يجوز لَهُ أَن يَبِيعهُ ويذبحه لِأَنَّهُ تعرض لَهُ وَإِزَالَة لأمنه وَعَلِيهِ الْجَزَاء لَو فعل ذَلِك
وَأما مسَائِل الْأَمر بالحجفنقول من مَاتَ وَعَلِيهِ حجَّة الْإِسْلَام وَله مَال فَلَا يَخْلُو إِمَّا إِن أَمر بِأَن يحجّ عَنهُ وَأوصى بِهِ أَو لم يَأْمر الْوَصِيّ بِشَيْء
أما إِذا لم يوص سقط عَنهُ فِي حق أَحْكَام الدُّنْيَا وَلَا يجب على الْوَارِث وَالْوَصِيّ أَن يَأْمر بِالْحَجِّ عَنهُ بِمَالِه عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي يجب كمن مَاتَ وَعَلِيهِ الزَّكَاة من غير إيصاء فَإِنَّهُ تسْقط الزَّكَاة عَنهُ عندنَا خلافًا لَهُ وَقد ذكرنَا فِي كتاب الزَّكَاة
وَلَو أحج الْوَارِث عَنهُ رجلا بِمَال نَفسه أَو حج عَنهُ بِنَفسِهِ من غير وَصِيَّة من الْمَيِّت قَالَ تسْقط عَن الْمَيِّت حجَّة الْإِسْلَام إِن شَاءَ الله
وَأَصله مَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه سَأَلَهُ رجل وَقَالَ إِن أُمِّي قد مَاتَت وَلم تحج أفأحج عَنْهَا فَقَالَ نعم
وَإِنَّمَا قَالَ يجوز إِن شَاءَ الله لِأَن سُقُوط الْحَج بِفعل الْوَارِث بِغَيْر أمره أَنما يثبت بِخَبَر الْوَاحِد وَإنَّهُ لَا يُوجب الْعلم قطعا فَلَا يحكم بسقوطه عَنهُ قطعا وَلَكِن علق السُّقُوط بِالْمَشِيئَةِ احْتِرَازًا عَن الشَّهَادَة على الله تَعَالَى من غير علم قطعا
فَأَما إِذا أوصى فَإِنَّهُ تصح وَصيته من الثُّلُث لِأَن دُيُون الله تَعَالَى من حَيْثُ إِنَّه لَا يجب بمقابلتها عوض مَالِي فَهِيَ بِمَنْزِلَة التَّبَرُّعَات فَيعْتَبر خُرُوجهَا من الثُّلُث
ويحج عَن الْمَيِّت من بَلَده الَّذِي يسكنهُ إِن بلغ الثُّلُث ذَلِك لِأَن الْوَاجِب عَلَيْهِ الْحَج من بَلَده الَّذِي هُوَ يسكنهُ
وَلَو أَنه خرج إِلَى بلد آخر أقرب إِلَى مَكَّة فَمَاتَ فِيهِ وَأوصى بِالْحَجِّ ينظر إِن خرج لغير الْحَج يحجّ من بَلَده بالِاتِّفَاقِ
فَأَما إِذا خرج لِلْحَجِّ ثمَّ مَاتَ فِي الطَّرِيق قَالَ أَبُو حنيفَة يحجّ من بَلَده
وَقَالا يحجّ من حَيْثُ بلغ لِأَن الْخُرُوج من بَلَده بنية الْحَج يعْتد من الْحَج وَلم يسْقط اعْتِبَاره بِالْمَوْتِ قَالَ الله تَعَالَى {وَمن يخرج من بَيته مُهَاجرا إِلَى الله وَرَسُوله ثمَّ يُدْرِكهُ الْمَوْت فقد وَقع أجره على الله} أَلا أَن أَبَا حنيفَة قَالَ إِنَّه لما لم يتَّصل بِالْحَجِّ بذلك الْخُرُوج خرج من أَن يكون وَسِيلَة وَإِن كَانَ حكم الثَّوَاب قَائِما بوعد الله أَلا ترى أَنه إِذا خرج إِلَى السقر بنية الْحَج ثمَّ أَقَامَ فِي بعض الْبِلَاد لعذر حَتَّى دارت السّنة ثمَّ مَاتَ وَأوصى بِأَن يحجّ عَنهُ فإنة يحجّ عنة من بَلْدَة لَا من
هَذَا الْموضع الَّذِي مَا لما ذكرنَا كَذَا هُنَا
وَلَو أوصى بِأَن يحجّ عَنهُ من غير بَلَده من مَوضِع أقرب إِلَى مَكَّة أَو أبعد فَإِنَّهُ يحجّ عَنهُ كَمَا أوصى لِأَنَّهُ لَا يجب الإحجاج عَنهُ بِدُونِ الْوَصِيَّة فَيجب بِمِقْدَار الْوَصِيَّة
وَكَذَلِكَ إِذا أوصى بِأَن يحجّ عَنهُ بِمَال مُقَدّر إِن كَانَ يبلغ أَن يحجّ عَنهُ من بَلَده يحجّ من بَلَده وَإِلَّا يحجّ عَنهُ من حَيْثُ بلغ لِأَنَّهُ لما عين المَال يجب الْحَج بِهَذَا الْقدر من المَال لِأَنَّهُ لم تُوجد الْوَصِيَّة بِالزِّيَادَةِ عَنهُ وَبِدُون الْوَصِيَّة لَا يجب
وَأما إِذا أوصى بِأَن يحجّ عَنهُ مُطلقًا فَإِنَّهُ يحجّ عَنهُ من ثلث مَاله فَإِن بلغ ثلث مَاله أَن يحجّ عَنهُ من بَلَده يجب ذَلِك
وَإِن لم يبلغ من بَلَده فَالْقِيَاس أَن تبطل الْوَصِيَّة لِأَنَّهُ لَا يُمكن تنفيذها على مَا قَصده الْمُوصي
وَفِي الِاسْتِحْسَان يحجّ من حَيْثُ يبلغ لِأَن قَصده إِسْقَاط الْفَرْض عَن نَفسه فَإِن لم يكن على الْكَمَال فيصر إِلَى قدر الْمُمكن
ثمَّ إِن كَانَ الثُّلُث يبلغ أَن يحجّ عَنهُ رَاكِبًا من بَلَده فأحج عَنهُ مَاشِيا لم يجز لِأَن الْفَرْض هُوَ الْحَج رَاكِبًا
أما إِذا لم يبلغ الْحَج رَاكِبًا من بَلَده وَبلغ الْحَج رَاكِبًا من بلد آخر أقرب إِلَى مَكَّة وَمن بَلَده مَاشِيا روى هِشَام عَن مُحَمَّد أَنه يحجّ من حَيْثُ بلغ رَاكِبًا وَلَا يجوز أَن يحجّ من بَلَده مَاشِيا لما ذكرنَا أَن الْفَرْض هُوَ الْحَج رَاكِبًا فتنصرف الْوَصِيَّة إِلَيْهِ
وروى الْحسن عنأبي حنيفَة أَنه قَالَ أَن أحجوا عَنهُ مَاشِيا من بَلْدَة جَازَ وَإِن أحجوا رَاكِبًا من حَيْثُ بلغ جَازَ لِأَن فِي كل وَاحِد
من الْوَجْهَيْنِ نقص من وَجه وَكَمَال من وَجه فاستويا
ثمَّ الْأَفْضَل أَن يحجّ عَنهُ من قد حج عَن نَفسه حجَّة الْإِسْلَام لِأَن من حضر مَكَّة يكره لَهُ أَن يتْرك حجَّة الْإِسْلَام فَيكون مَا أدّى حجا مَكْرُوها وَلَكِن جَازَ لِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ للخثعمية حجي عَن أَبِيك وَلم يسْأَلهَا عَن الْحَج عَن نَفسهَا وَلَو كَانَ الحكم يخْتَلف لاستفسر
وَهَذَا عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يجوز وَيَقَع الْحَج عَن الضَّرُورَة أَي عَن نَفسه
وعَلى هَذَا إِذا حج الضَّرُورَة بنية التَّطَوُّع يَقع عَن التَّطَوُّع عندنَا وَعِنْده يَقع عَن الْفَرِيضَة
ثمَّ الْحَاج عَن غَيره إِذا أصَاب فِي إِحْرَامه مَا يُوجب الدَّم وَغير ذَلِك من الصَّدَقَة فَهُوَ على الْحَاج
وَكَذَا دم الْمُتْعَة وَالْقرَان إِذا أَمر بالقران
وَلَا يجب على المحجوج عَنهُ إِلَّا دم الْإِحْصَار لِأَن هَذِه الدِّمَاء إِنَّمَا وَجَبت لفعله فإمَّا دم الْإِحْصَار فَإِنَّهُ يجب للتخليص عَن مشقة السّفر وَهُوَ الَّذِي أوقعه فِي هَذِه الْمَشَقَّة فَعَلَيهِ التخليص
وَلَو جَامع الْحَاج عَن غَيره قبل الْوُقُوف بِعَرَفَة فسد حجه ويمضي فِيهِ وَينْفق من مَاله وَيضمن مَا أنْفق من مَال المحجوج عَنهُ ثمَّ يقْضِي الْحَاج من مَال نَفسه حجَّة وعمره من الْقَابِل لِأَنَّهُ أَمر بِحَجّ صَحِيح فَإِذا أفسد فقد خَالف الْأَمر فَصَارَ حَاجا على نَفسه والمأمور بِالْحَجِّ إِذا حج عَن نَفسه بِنَفَقَة الْآمِر يضمن فَإِذا أفْسدهُ يجب عَلَيْهِ الْقَضَاء على مَا بَينا
وَلَو كَانَ مَأْمُورا بالقران فأفسد يلْزمه قَضَاء حجَّة وَعمرَة من مَال نَفسه لما قُلْنَا
فَأَما إِذا فَاتَهُ الْحَج فَإِنَّهُ يصنع كَمَا يصنع الَّذِي فَوته الْحَج وَلَا يضمن النَّفَقَة لِأَنَّهُ لم يُوجد مِنْهُ الْمُخَالفَة حَتَّى يَنْقَلِب الْحَج عَنهُ والفوات حصل لَا بصنعه فَلَا يلْزمه الضَّمَان وَعَلِيهِ من مَال نَفسه الْحَج من قَابل لِأَن الْحجَّة لَزِمته بِالدُّخُولِ فَإِذا فَاتَت لزمَه قَضَاؤُهَا لِأَن فعل الْحَج يَقع عَن الْحَاج وَإِنَّمَا تقع عَن الْمَأْمُور ثَوَاب الْحَج
ثمَّ مَا فضل فِي يَد الْحَاج من النَّفَقَة بعد رُجُوعه فَإِنَّهُ يردهُ على الْوَرَثَة وَلَا يَسعهُ أَن يمسِكهُ لِأَن النَّفَقَة لَا تصير ملكا للْحَاج لِأَن الِاسْتِئْجَار لَا يَصح عندنَا فِي بَاب الْحَج وَسَائِر الْقرب الَّتِي تجْرِي فِيهَا النِّيَابَة حَتَّى يكون المَال أُجْرَة فَيكون ملكا للْأَجِير وَلَكِن ينْفق المَال على حكم ملك الْمَيِّت فِي الْحَج ليَكُون لَهُ ثَوَاب النَّفَقَة فَإِذا فرغ من الْحَج يجب صرفه إِلَى وَرَثَة الْمَيِّت
وَلَو كَانَ للْمُوصي بِالْحَجِّ وطنان فَإِنَّهُ يحجّ عَنهُ من أقرب الوطنين من مَكَّة لأَنا تَيَقنا بِدُخُول الْأَقْرَب فِي الْوَصِيَّة فَكَانَ الْأَخْذ بِالْيَقِينِ أولى
وَلَو كَانَ مكيا فَقدم الرّيّ بِالتِّجَارَة فَمَاتَ وَأوصى بِالْحَجِّ فَإِنَّهُ يحجّ عَنهُ من مَكَّة لما ذكرنَا أَن الْوَصِيَّة بِالْحَجِّ تصرف إِلَى مَا فرض الله عَلَيْهِ وَالْفَرْض عَلَيْهِ من وَطنه
وَلَو أوصى بِأَن يحجّ عَنهُ فَأعْطى الْوَصِيّ دَرَاهِم إِلَى رجل ليحج عَنهُ فحج عَنهُ مَاشِيا قَالَ يضمن النَّفَقَة ويحج عَن الْمَيِّت رَاكِبًا لِأَن الْحَج الْوَاجِب على الْمُوصي هُوَ الْحَج رَاكِبًا فتنصرف الْوَصِيَّة إِلَيْهِ فَصَارَ كَمَا لَو نَص أَن يحجّ عَنهُ رَاكِبًا وَلَو نَص وَحج مَاشِيا يضمن النَّفَقَة لمُخَالفَة
أمره كَذَا هُنَا
وَمن حج عَن ميت وَقضى حجه ثمَّ نوى الْمقَام بِمَكَّة خَمْسَة عشر يَوْمًا لَهُ أَن ينْفق من مَال نَفسه فِي مقَامه وَإِذا رَجَعَ بعد ذَلِك ينْفق من مَال الْمَيِّت
وَالْحَاصِل أَن الْإِقَامَة بعد الْفَرَاغ عَن الْحَج إِن كَانَت مُعْتَادَة فالنفقة فِي مَال الْمَيِّت
وَإِن زَادَت على الْعَادة فالنفقة فِي مَاله وَذَلِكَ مُدَّة مقَام الْقَافِلَة لِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ الْخُرُوج إِلَّا مَعَ النَّاس
وَإِذا كَانَ منتظرا لخُرُوج الْقَافِلَة فالنفقة فِي مَال الْمَيِّت
وَإِذا تخلف عَن الْقَافِلَة فالنفقة فِي مَاله
وَقد قَالُوا فِي الآفاقي إِذا حج عَن غَيره فَدخل بَغْدَاد فَأَقَامَ بهَا مِقْدَار مَا يُقيم النَّاس فالنفقة فِي مَال الْمَيِّت وَإِن أَقَامَ أَكثر من ذَلِك فَفِي مَاله لَكِن إِذا رَجَعَ فالنفقة فِي مَال الْمَيِّت لِأَن هَذِه مُدَّة الرُّجُوع فَلم يَنْقَطِع حكم السّفر الأول فَهِيَ محسوبة على الْمَيِّت
هَذَا إِذا لم يتَّخذ دَارا بِمَكَّة للإقامة
فَأَما إِذا اتخذ دَارا وَأقَام بهَا مُدَّة
ثمَّ رَجَعَ فالنفقة فِي مَاله لَا فِي مَال الْمَيِّت لِأَنَّهُ انْقَطع حكم السّفر الأول باتخاذه دَارا للإقامة
وَلَو أَن الْحَاج عَن غَيره إِذا تعجل الدُّخُول بِمَكَّة بِأَن دخل فِي شهر رَمَضَان محرما فَإِن عَلَيْهِ أَن ينْفق من مَاله إِلَى عشر الْأَضْحَى وَرُوِيَ إِلَى مَا قبل الْحَج بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ لِأَن هَذَا الْقدر من الْمقَام يعْتَاد فِي مَكَّة لِلْحَجِّ فَأَما الزِّيَادَة عَلَيْهِ فَلَا فَيَنْصَرِف الْأَمر إِلَى الْمُعْتَاد
وَلَو دفع مَالا إِلَى رجل ليحج عَن الْمَيِّت فَلم يبلغ مَال الْمَيِّت
النَّفَقَة فأنفق الْحَاج من مَال نَفسه وَمن مَال الْمَيِّت فَإِن كَانَ مَال الْمَيِّت يبلغ الْكِرَاء وَعَامة النَّفَقَة فَهُوَ جَائِز وَإِلَّا فَهُوَ لمَال الْمَيِّت ويحج عَن الْمَيِّت من مَاله من حَيْثُ يبلغ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ عَامَّة النَّفَقَة من مَال الْمَيِّت والقليل من مَال الْحَاج فالقليل يسْقط اعْتِبَاره بمقابلته الْكثير لحَاجَة النَّاس لِأَن الْحَاج يحْتَاج إِلَى أَن يزِيد من عِنْده النَّفَقَة لزِيَادَة الترفه والتوسعة وَأَن يزِيد ثيابًا وَلَو جعل هَذَا مَانِعا لامتنع النَّاس عَن الْحَج عَن الْغَيْر
فَأَما إِذا كَانَ الْأَكْثَر من مَال نَفسه فَلَا عِبْرَة للقليل فَيكون حَاجا عَن نَفسه فَيضمن
ثمَّ فِي الْحَج ثَلَاث خطب بَين كل خطبتين فاصل بِيَوْم فالخطبة الأولى قبل يَوْم التَّرويَة وَهُوَ الْيَوْم السَّابِع من ذِي الْحجَّة بِمَكَّة خطْبَة وَاحِدَة لَا يجلس فِيهَا بعد صَلَاة الظّهْر وَيعلم النَّاس فِيهَا أَحْكَام الْمَنَاسِك إِلَى يَوْم عَرَفَة
وَالْخطْبَة الثَّانِيَة يَوْم عَرَفَة قبل صَلَاة الظّهْر يخْطب خطبتين يجلس بَينهمَا جلْسَة خَفِيفَة وَيعلم النَّاس فِيهَا أَحْكَام الْمَنَاسِك إِلَى أَيَّام الثَّانِي من أَيَّام النَّحْر وَذَلِكَ بعد الْأَذَان كَمَا فِي يَوْم الْجُمُعَة
وَالْخطْبَة الثَّالِثَة فِي الْيَوْم الثَّانِي من أَيَّام النَّحْر بعد صَلَاة الظّهْر بمنى خطْبَة وَاحِدَة يعلمهُمْ فِيهَا مَا بَقِي من أَحْكَام الْمَنَاسِك
وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا الثَّلَاثَة
وقالزفر يخْطب فِي الْحَج ثَلَاث خطب مُتَوَالِيَات يَوْم التَّرويَة وَيَوْم عَرَفَة وَيَوْم النَّحْر
ومسائل الْمَحْظُورَات
ومسائل الْأَمر بِالْحَجِّ
وَبَدَأَ بالإحصار فَقَالَ من منع عَن الْوُصُول إِلَى الْبَيْت بَعْدَمَا أحرم بِالْحَجِّ أَو بِالْعُمْرَةِ أَو بهما بِسَبَب مرض أَو عَدو فَهُوَ محصر
وَالْكَلَام فِي الْإِحْصَار فِي مَوَاضِع أَحدهَا أَن الْإِحْصَار قد يكون بالعدو كفَّارًا كَانُوا أَو مُسلمين وَقد يكون بِالْمرضِ أَو بعلة مَانِعَة عَن الْمَشْي وَهَذَا عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يكون إِلَّا بالعدو
وعَلى هَذَا إِذا أَحرمت الْمَرْأَة بِحجَّة الْإِسْلَام فَلم تَجِد محرما أَو مَاتَ عَنْهَا زَوجهَا فَهِيَ محصرة
فَأَما إِذا سرقت نَفَقَة الْحَاج
أَو هَلَكت رَاحِلَته فَإِن كَانَ لَا يقدر على الْمَشْي أَو يقدر فِي الْجُمْلَة لَكِن يخَاف أَن لَا يُمكنهُ الْمَشْي مَعَ الْقَافِلَة فَإِنَّهُ يكون محصرا وَإِن كَانَ مِمَّن يقدر على الْمَشْي لَا يكون محصرا بل يجب عَلَيْهِ أَن يذهب بِخِلَاف مَا إِذا لم يكن قَادِرًا على الرَّاحِلَة فِي
الِابْتِدَاء لِأَنَّهُ صَار الْحَج لَازِما عَلَيْهِ بِسَبَب الشُّرُوع
فَأَما الْمَرْأَة إِذا أَحرمت بِالْحَجِّ تَطَوّعا فَللزَّوْج أَن يمْنَعهَا لِأَن مَنْفَعَتهَا ملك الزَّوْج وَلم تصر مُسْتَثْنَاة فِي حق التَّطَوُّع فَتَصِير محصرة وَللزَّوْج أَن يحللها بِأَن يقبلهَا أَو يعانقها فَتحل للْحَال من غير أَن تذبح وَعَلَيْهَا أَن تبْعَث الْهَدْي فَيذْبَح فِي الْحرم لِأَن الْإِحْلَال مُسْتَحقّ عَلَيْهَا حَقًا للزَّوْج
وَكَذَلِكَ العَبْد وَالْأمة إِذا أحرما فللمولى أَن يحللهما وَعَلَيْهَا الْهَدْي بعد الْعتاق وَقَضَاء الْحَج وَالْعمْرَة لِأَنَّهُ يصير وَاجِبا بِالشُّرُوعِ
وَلَو أذن الْمولى لعَبْدِهِ فِي الْحَج فَأحْرم يكره لَهُ أَن يحلله لِأَنَّهُ خلاف وعده وَلَكِن مَعَ هَذَا لَو حلله يجوز وَيحل وَلَا يلْزم الْمولى الْهَدْي بِسَبَب الْإِحْلَال لِأَن الْإِحْلَال حق الْمولى
وَقَالَ أَبُو يُوسُف لَيْسَ لَهُ أَن يحلله لِأَنَّهُ أسقط حق نَفسه بِالْإِذْنِ
وَلَو بَاعَ العَبْد فَلِلْمُشْتَرِي أَن يحلله من غير كَرَاهَة وعَلى قولزفر يكره
وَلَو أذن لأمته بِالْحَجِّ وَلها زوج فأحرمت فَلَيْسَ للزَّوْج أَن يحللها لِأَن للْمولى أَن يُسَافر بهَا فَكَانَ لَهُ أَن يَأْذَن بذلك
وَالصَّحِيح مَذْهَبنَا لِأَن الْإِحْصَار يتَحَقَّق بِكُل مَانع من الْوُصُول إِلَى الْبَيْت قَوْله تَعَالَى {فَإِن أحصرتم فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي} من غير فصل بَين سَبَب وَسبب فَهُوَ على الْإِطْلَاق
وَمِنْهَا حكم الْإِحْصَار وَهُوَ أَن يبْعَث الْهَدْي إِلَى الْحرم أَو يَأْمر رجلا ليَشْتَرِي هَديا ثمَّة ويواعده بِأَن يذبحه عَنهُ ثمَّة فِي يَوْم
معِين فَإِذا ذبحه عَنهُ يحل لَهُ كل شَيْء وَلَا يحْتَاج إِلَى الْحلق فِي قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَإِن فعل فَحسن
وَقَالَ أَبُو يُوسُف يَنْبَغِي أَن يحلق وَإِن لم يفعل فَلَا شَيْء عَلَيْهِ
وَرُوِيَ عَنهُ أَنه وَاجِب لَا يسع تَركه
وَله أَن يرجع إِلَى أَهله إِذا بعث الْهَدْي سَوَاء ذبح عَنهُ أَو لَا لِأَن إِذا لم يتَمَكَّن من الْمَشْي إِلَى الْحَج فَلَا فَائِدَة فِي الْمقَام
وَمِنْهَا أَن يتَحَلَّل بِشَاة وَإِن كَانَ اسْم الْهَدْي يَقع على الشَّاة وَالْإِبِل وَالْبَقر لما روى جَابر أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَمر النَّاس عَام الْحُدَيْبِيَة أَن يتحللوا بِشَاة ويذبحوا الْبَقَرَة عَن سَبْعَة
وَمِنْهَا أَن هدي الْإِحْصَار لَا يجوز ذبحه إِلَّا فِي الْحرم عندنَا
وَعند الشَّافِعِي فِي الْموضع الَّذِي يتَحَلَّل فِيهِ
وَالصَّحِيح مَذْهَبنَا لقَوْله تَعَالَى {وَالْهَدْي معكوفا أَن يبلغ مَحَله}
وَمِنْهَا أَن دم الْإِحْصَار يجوز تَقْدِيمه على أَيَّام النَّحْر عِنْد أبي حنيفَة
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد لَا يجوز تَقْدِيمه على أَيَّام النَّحْر
وَأَجْمعُوا أَن هدي الْإِحْصَار عَن الْعمرَة يجوز فِي أَي وَقت شَاءَ
وَمِنْهَا أَن الْمحصر إِذا لم يجد الْهَدْي وَلَا ثمن الْهَدْي لَا يحل بِالْإِطْعَامِ وَالصَّوْم بل يبْقى محرما إِلَى أَن يجد الْهَدْي
فَيذْبَح عَنهُ فِي الْحرم بأَمْره أَو مَتى زَالَ الْإِحْصَار فَيذْهب إِلَى مَكَّة فيحج إِن بَقِي وَقت الْحَج وَإِن فَاتَ وَقت الْحَج فيتحلل بِأَفْعَال الْعمرَة
هَذَا هُوَ الْمَشْهُور من قَوْلنَا
وَقَالَ عَطاء بن أبي رَبَاح يحل بِالْإِطْعَامِ ثمَّ بِالصَّوْمِ بِأَن يقوم الْهَدْي طَعَاما فَيتَصَدَّق بِهِ على الْمَسَاكِين وَإِن لم يجد الطَّعَام يَصُوم لكل نصف صَاع يَوْمًا
وَبِه أَخذ أَبُو يُوسُف فِي رِوَايَة
وَقَالَ الشَّافِعِي فِي قَول يحل بِالصَّوْمِ ويصوم ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج ويصوم سَبْعَة أَيَّام بعْدهَا كَمَا فِي الْمُتَمَتّع والقارن
وَفِي قَول يطعم وَإِن فَاتَ
وَمِنْهَا أَن الْمحصر إِذا حل بِالْهَدْي فَعَلَيهِ قَضَاء حجَّة وَعمرَة من الْقَابِل أما الْحجَّة فَلِأَنَّهُ أوجبهَا بِالشُّرُوعِ وَإِن كَانَت تَطَوّعا وَإِن كَانَت حجَّة الْإِسْلَام وفاتت فَعَلَيهِ أَدَاؤُهَا وَعَلِيهِ قَضَاء عمْرَة لفَوَات الْحَج فِي عَامَّة ذَلِك وفائت الْحَج يتَحَلَّل بِأَفْعَال الْعمرَة هَذَا هُوَ الأَصْل
فَإِذا خرج بِالْهَدْي فَعَلَيهِ قَضَاء الْعمرَة الَّتِي يتَحَلَّل بهَا فَائت الْحَج وَإِن كَانَ قَارنا يقْضِي حجَّة وَعمرَة مَكَان مَا فَاتَهُ من الْحَج وَالْعمْرَة وَعمرَة أُخْرَى لكَونه فَائت الْحَج
وَمِنْهَا مَا ذكرنَا أَن الْقَارِن إِذا أحْصر يبْعَث بهديين وَمَا لم يذبحا جَمِيعًا لَا يحل خلافًا للشَّافِعِيّ
وَمِنْهَا أَنه إِذا ذبح هَدْيه قبل الْيَوْم الَّذِي وَاعد فِيهِ أَو قبل يَوْم النَّحْر على قَوْلهمَا وَقد بَاشر أفعالا هِيَ حرَام بِسَبَب الْإِحْرَام فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ الْجَزَاء لِأَنَّهُ مَتى ذبح فِي غير ذَلِك الْيَوْم أَو ذبحه فِي غير الْحرم فَهُوَ محمر بعد وَالْمحرم إِذا بَاشر محظوره يجب عَلَيْهِ الْجَزَاء
وَمِنْهَا أَنه إِذا زَالَ الْإِحْصَار وَقدر على إِدْرَاك الْهَدْي وَالْحج جَمِيعًا فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ التَّوَجُّه إِلَى الْبَيْت لِأَن الْهَدْي إِنَّمَا شرع عِنْد الضَّرُورَة للإحلال وَقد زَالَت الضَّرُورَة
وَإِن قدر على إِدْرَاك الْهَدْي دون الْحَج فقد تحقق الْإِحْصَار لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي إِدْرَاك الْهَدْي إِذا فَاتَ الْحَج فَيذْبَح عَنهُ وَيحل وَلَا يجب عَلَيْهِ الذّهاب إِلَى مَكَّة
وَإِن قدر على إِدْرَاك الْحَج دون الْهَدْي فَهَذَا إِنَّمَا يتَحَقَّق على قَول أبي حنيفَة فِي الْحَج وَعند الْكل فِي الْإِحْصَار بِالْعُمْرَةِ لِأَن ذبح الْهَدْي غير مُؤَقّت بِيَوْم النَّحْر فَأَما عِنْدهمَا فَفِي ذبح هدي الْإِحْصَار عَن الْحَج لَا يتَحَقَّق لِأَنَّهُ يذبح يَوْم النَّحْر فَإِذا أدْرك الْحَج فقد أدْرك الْهَدْي
ثمَّ الْجَواب على قِيَاس قَوْله لَا يحل بِالْهَدْي لِأَنَّهُ لم يتَحَقَّق بالإحصار لِأَنَّهُ صَار قادما على أَدَاء الْحَج فَصَارَ كالشيخ الفاني إِذا قدر على الصَّوْم
وَفِي الِاسْتِحْسَان يحل بِالْهَدْي لِأَنَّهُ لما لم يكن قَادِرًا على إِدْرَاك الْهَدْي صَار حَلَالا بِالذبْحِ
فَإِن ذهب من عَامه ذَلِك إِلَى قَضَاء الْحَج فَإِنَّهُ يقْضِي بِإِحْرَام جَدِيد وَعَلِيهِ قَضَاء الْحَج لَا غير لِأَنَّهُ لم يفت عَنهُ الْحَج فِي هَذَا الْعَام
وَإِن قضى فِي عَام آخر فَعَلَيهِ قَضَاء الْحَج وَعَلِيهِ الْعمرَة لفَوَات الْحَج من الْعَام الأول
وَأما مسَائِل المحظوراتفنقول إِذا لبس الْمحرم الْمخيط فَإِن كَانَ يَوْمًا كَامِلا فَعَلَيهِ دم فَأَما إِذا كَانَ فِي بعض الْيَوْم فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ صَدَقَة لِأَن لبس الْمخيط إِنَّمَا حرم لكَونه من مرافق المقيمين واللبس يَوْمًا كَامِلا يكون استمتاعا كَامِلا فَعَلَيهِ دم وَإِلَّا فَيجب بِقَدرِهِ من الصَّدَقَة بِأَن يقسم قيمَة الْهَدْي على سَاعَات الْيَوْم فَمَا يُصِيب ذَلِك الْوَقْت الَّذِي لَيْسَ فِيهِ يجب عَلَيْهِ بِقَدرِهِ وَكَذَا قَالَ بعض أَصْحَابنَا
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه يطعم نصف صَاع من بر
وكل صَدَقَة فِي الْإِحْرَام غير مقدرَة فَهِيَ نصف صَاع إِلَّا فِي قتل الجرادة والقملة فَهِيَ كف من طَعَام
وَلَو لبس جَمِيع الثِّيَاب وَلبس الْخُفَّيْنِ أَيْضا لَا يلْزمه إِلَّا جَزَاء وَاحِد لِأَن الْجِنْس وَاحِد
وَلَو لبس قلنسوة ولف عِمَامَة للضَّرُورَة لَا يلْزمه إِلَّا فديَة وَاحِدَة
وَلَو وضع قَمِيصًا على رَأسه وقلنسوة يلْزمه للضَّرُورَة فديَة وللقميص دم لِأَنَّهُ لَا حَاجَة إِلَى الْقَمِيص فِي الرَّأْس
وَلَو لبس قَمِيصًا للضَّرُورَة وَلبس خُفَّيْنِ من غير ضَرُورَة يلْزمه الْفِدْيَة لأجل الضَّرُورَة وَالدَّم لأجل الْخُفَّيْنِ من غير ضَرُورَة
وَكَذَلِكَ الْجَواب فِي لبس الْخُفَّيْنِ وتغطية الْوَجْه وَالرَّأْس فِي حق الرجل
أما الْمَرْأَة فعلَيْهَا أَن تغطي رَأسهَا وَلَكِن لَا تغطي وَجههَا
ثمَّ فِي الْجَواب ظَاهر الرِّوَايَة إِذا غطى ربع الرَّأْس أَو الْوَجْه يَوْمًا وَاحِدًا يجب عَلَيْهِ الدَّم وَإِن كَانَ أقل من يَوْم يجب عَلَيْهِ الصَّدَقَة بِقَدرِهِ
وَفِي رِوَايَة عَن مُحَمَّد أَنه قدر بِالْأَكْثَرِ
وَإِن ألْقى على مَنْكِبَيْه قبَاء أَو توشح قَمِيصًا أَو اتزر بسراويل لَا شَيْء عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلبْس مُعْتَاد
وَكَذَا لَو غطى رَأسه بِمَا لبس بمعتاد بِأَن وضع الإجانة على رَأسه أَو جوالق حِنْطَة على رَأسه فَلَا شَيْء عَلَيْهِ
وَلَو أَدخل الْيَد فِي الكمين بَعْدَمَا ألْقى القباء على مَنْكِبَيْه يجب الْجَزَاء لِأَن لبس القباء فِي الْعَادة هَكَذَا
وَإِن لم يجد النَّعْلَيْنِ يَنْبَغِي أَن يقطع الْخُفَّيْنِ أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ ويلبس وَلَا شَيْء عَلَيْهِ
وَكَذَا لَو فتق السَّرَاوِيل وَلم يبْق إِلَى مَوضِع التكة لَا شَيْء عَلَيْهِ لِأَن هَذَا اتزار وَلَيْسَ بِلبْس
وَلَو حلق رَأسه أَو ربع رَأسه فَعَلَيهِ دم عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا إِن حلق أَكثر الرَّأْس يجب دم وَإِن كَانَ أقل يجب صَدَقَة
وَلَو قلم الْأَظْفَار إِن كَانَ قلم يدا وَاحِدَة ورجلا وَاحِدَة أَو قلم الأظافير كلهَا لَا يلْزمه إِلَّا دم وَاحِد لِأَن جنس الْجَنَابَة وَاحِد
وَلَو قلم خَمْسَة أظافير من الْيَدَيْنِ أَو الرجلَيْن لَا يجب عَلَيْهِ الدَّم لِأَن هَذَا لَيْسَ من بَاب الارتفاق وَلَكِن يجب لكل ظفر نصف صَاع من حِنْطَة
وَهَذَا إِذا فعل بِغَيْر عذر
فَأَما إِذا فعل بِعُذْر فَعَلَيهِ الْفِدْيَة وَهُوَ أحد الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة صِيَام ثَلَاثَة أَيَّام أَو صَدَقَة على سِتَّة مَسَاكِين أَو ذبح شَاة لقَوْله تَعَالَى {ففدية من صِيَام أَو صَدَقَة أَو نسك}
ثمَّ الْمحرم يحرم عَلَيْهِ أَخذ صيد الْبر وَقَتله وَالْإِشَارَة إِلَيْهِ وَالدّلَالَة عَلَيْهِ فَأَما صيد الْبَحْر فحلال لَهُ قَالَ الله تَعَالَى {أحل لكم صيد الْبَحْر وَطَعَامه مَتَاعا لكم وللسيارة وَحرم عَلَيْكُم صيد الْبر مَا دمتم حرما}
وَالصَّيْد مَا كَانَ متوحشا مُمْتَنعا إِمَّا بجناحيه أَو بقوائمه حَتَّى إِن الدَّجَاج والبط الأهلي لم يكن من الصَّيْد
فَإِن قتل صيدا
فَإِن لم يقْصد الصَّيْد بالإيذاء يلْزمه الْجَزَاء
وَأما إِذا قصد بالإيذاء وَإِن لم يكن مُؤْذِيًا فِي الأَصْل أَو كَانَ من جملَة المؤذيات كَالْكَلْبِ الْعَقُور وَالذِّئْب فَلَا شَيْء عَلَيْهِ
وَأَصله حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ خمس يقتلن فِي الْحل وَالْحرم الْحَيَّة وَالْعَقْرَب والفأرة والحدأة وَالْكَلب الْعَقُور وَفِي رِوَايَة الْغُرَاب الأبقع
وَإِذا قتل شَيْئا من غير المؤذيات ابْتِدَاء ينظر إِمَّا إِن كَانَ مَأْكُول اللَّحْم أَو لم يكن مَأْكُول اللَّحْم
فَإِن كَانَ مَأْكُول اللَّحْم فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ قِيمَته عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَتعْتَبر قِيمَته فِي الْموضع الَّذِي قَتله فِيهِ إِن كَانَ مِمَّا يُبَاع فِي ذَلِك الْموضع أَو فِي أقرب الْأَمَاكِن الَّذِي يُبَاح فِيهِ وَيقوم
وَإِذا ظَهرت قِيمَته فَالْخِيَار إِلَى الْقَاتِل عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَفِي رِوَايَة الْكَرْخِي إِن بلغت قِيمَته هَديا إِن شَاءَ اشْترى بهَا هَديا فذبح فِي الْحرم وَإِن شَاءَ اشْترى بهَا طَعَاما فَتصدق على كل فَقير نصف صَاع من حِنْطَة وَإِن شَاءَ صَامَ مَكَان كل نصف صَاع من حِنْطَة يَوْمًا
فَإِن اشْترى هَديا ذبح فِي الْحرم سقط عَنهُ الْجَزَاء بِمُجَرَّد الذّبْح حَتَّى إِنَّه لَو سرق بعد الذّبْح أَو ضَاعَ بِوَجْه مَا قبل التَّصَدُّق فَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَلَو تصدق بكله على فَقير وَاحِد جَازَ لَا يجب عَلَيْهِ التَّفْرِيق على الْمَسَاكِين
وَلَو ذبحه فِي الْحل لَا يسْقط عَنهُ الْجَزَاء إِلَّا إِذا تصدق بِلَحْمِهِ على الْفُقَرَاء على كل فَقير قدر قيمَة نصف صَاع من حِنْطَة فيجزئه بَدَلا عَن الطَّعَام أَو الصّيام إِذا بلغت قِيمَته قيمَة الصَّيْد وَإِلَّا فيكمل
وَإِذا اخْتَار الطَّعَام أَو الصّيام يجزئانه فِي الْأَمَاكِن كلهَا
وَيجوز فِي الْإِطْعَام الْإِبَاحَة وَالتَّمْلِيك
وَيجوز الصَّوْم مُتَتَابِعًا ومتفرقا
وَلَو لم تبلغ قيمَة الْهَدْي فَلهُ الْخِيَار بَين الْإِطْعَام وَالصِّيَام
وَالْهَدْي هُوَ كل مَا يجوز فِي الْأَضَاحِي من الثنايا فِي الْمعز وَالشَّاة الَّتِي أَتَت عَلَيْهَا السّنة إِلَّا الْجذع من الضَّأْن إِذا كَانَ عَظِيما وَهُوَ الَّذِي أَتَت عَلَيْهِ سِتَّة أشهر فَصَاعِدا
وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ عَن مُحَمَّد الْخِيَار فِي ذَلِك إِلَى الْحكمَيْنِ إِن شاءا حكما عَلَيْهِ هَديا وَإِن شاءا حكما عَلَيْهِ طَعَاما وَإِن شاءا حكما عَلَيْهِ صياما وَلَيْسَ لَهُ أَن يخرج من حكمهمَا فَإِن حكما عَلَيْهِ هَديا يجب عَلَيْهِ ذبح نَظِير الْمُتْلف من النعم الأهلي من حَيْثُ الْهَيْئَة وَالصُّورَة إِن كَانَ لَهُ نَظِير من حَيْثُ الصُّورَة عِنْد مُحَمَّد وَالشَّافِعِيّ سَوَاء كَانَت قِيمَته مثل قيمَة الْمُتْلف أَو أقل أَو أَكثر بِأَن يجب فِي الظبي شَاة وَفِي النعامة بَدَنَة وَفِي الأرنب عنَاق وَفِي اليربوع جفرة والجفرة من أَوْلَاد الْمعز الَّذِي أَتَى عَلَيْهِ سِتَّة أشهر
وَإِن لم يكن لَهُ نَظِير من حَيْثُ الْخلقَة فَإِنَّهُ يَشْتَرِي بِقِيمَتِه هَديا فَيذْبَح فِي الْحرم
فَأَما إِذا مَا حكما عَلَيْهِ طَعَاما أَو صياما فعلى مَا قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف
فَأَما إِذا كَانَ الْمَقْتُول غير مَأْكُول اللَّحْم سوى المؤذيات الْمَنْصُوص عَلَيْهَا وَقد قَتله ابْتِدَاء لَا بطرِيق الدّفع لأذاة فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ الْجَزَاء عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ إِلَّا أَنه لَا يُجَاوز عَن ثمن هدي وَإِن كَانَت قِيمَته أَكثر من ذَلِك فِي ظَاهر الرِّوَايَة
وَعَن الْكَرْخِي أَنه قَالَ لَا يبلغ دَمًا بل ينقص مِنْهُ شَيْء
هَذَا حكم الْمحرم
فَأَما حكم صيد الْحرم فَنَقُول إِن أَخذ صيد الْحرم وَقَتله حرَام لحُرْمَة الْحرم قَالَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام فِي صفة الْحرم لَا يخْتَلى خَلاهَا وَلَا يعضد شَوْكهَا وَلَا ينفر صيدها
إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول الْحَلَال إِذا أتلف صيدا مَمْلُوكا فِي الْحَرَام معلما كالبازي وَالْحمام فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ قيمتان قِيمَته معلما للْمَالِك وَقِيمَته غير معلم حَقًا لله تَعَالَى لِأَنَّهُ جنى على حقين إِلَّا أَن فِي حق الله تَعَالَى يضمن من حَيْثُ إِنَّه صيد لَا من حَيْثُ إِنَّه معلم
وَلَو أتلف صيدا غير مَمْلُوك يجب عَلَيْهِ جَزَاء وَاحِد وَهُوَ قِيمَته
وَلَو أتلف الْمحرم صيدا الْحرم فَالْقِيَاس أَن يجب عَلَيْهِ جزآن لوُجُود الْجِنَايَة على الْحرم وَالْإِحْرَام
وَفِي الِاسْتِحْسَان يجب عَلَيْهِ جَزَاء وَاحِد لِأَن حُرْمَة الْإِحْرَام أقوى من حُرْمَة الْحرم فَيجب اعْتِبَار الْأَقْوَى
وَلَو اشْترك الحلالان فِي إِتْلَاف صيد الْحرم يجب عَلَيْهِمَا جَزَاء وَاحِد لِأَنَّهُ فِي معنى إِتْلَاف مَال النَّاس كإتلاف الْمَسَاجِد لِأَن مَنَافِعهَا ترجع إِلَى الْعباد فَكَانَ وَاجِبا بطرِيق الْجَبْر والفائت وَاحِد فيكتفي بِضَمَان وَاحِد بِخِلَاف المحرمين إِذا أتلفا صيدا يجب على كل وَاحِد مِنْهُمَا جَزَاء كَامِل لِأَنَّهُ وَجب حزاء الْفِعْل وَفعل كل وَاحِد مِنْهُمَا جِنَايَة على حِدة
وَلَو اشْترك الْحَلَال وَالْحرَام فِي قتل صيد خَارج الْحرم إِن كَانَ غير مَمْلُوك لَا يجب على الْحَلَال شَيْء وَيجب على الْمحرم جَزَاء كَامِل
وَإِن كَانَ مَمْلُوكا يجب على الْحَلَال نصف الْقيمَة للْمَالِك وعَلى الْمحرم نصف الْقيمَة للْمَالِك وَجَزَاء كَامِل لأجل الْجِنَايَة على الْإِحْرَام
وَلَو أَن حَلَالا ومفردا بِالْحَجِّ اشْتَركَا فِي قتل صيد الْحرم يجب على الْحَلَال نصف الْجَزَاء وعَلى الْمُفْرد جَزَاء كَامِل
وَلَو اشْترك الْحَلَال والقارن يجب على الْحَلَال النّصْف وعَلى الْقَارِن جزآن
وَلَو اشْترك الْحَلَال والقارن والمفرد يجب على الْحَلَال ثلث الْجَزَاء وعَلى الْمُفْرد جَزَاء وَاحِد وعَلى الْقَارِن جزآن
وَكَذَلِكَ قطع شَجَرَة وحشيش نبت بِنَفسِهِ فِي الْحرم فَإِنَّهُ يحرم قطعه وَعَلِيهِ الْجَزَاء بِقدر قِيمَته
وَإِن كَانَ مِمَّا ينبته النَّاس وَصَارَ ملكا لَهُم لَا يجب الْجَزَاء بِقطعِهِ وَلَكِن تجب الْقيمَة لصَاحبه إِلَّا فِي الْإِذْخر فَإِنَّهُ لَا يجب بإتلافه شَيْء فَإِن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لما قَالَ لَا يخْتَلى خَلاهَا قَالَ الْعَبَّاس إِلَّا الْإِذْخر فَقَالَ الْإِذْخر اسْتَثْنَاهُ وَحكم الْمُسْتَثْنى خلاف حكم الْمُسْتَثْنى مِنْهُ
وَأما الكمأة فِي الْحرم فَلَا بَأْس بأخذها لِأَنَّهَا لَيست من جنس النَّبَات
وَكَذَلِكَ إِذا جف النَّبَات وَالشَّجر وَسقط فَلَا بَأْس بِأَخْذِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ من النَّبَات لِأَنَّهُ خرج عَن حد النمو
وَلَو أَن الْحَلَال إِذا دخل الْحرم وَمَعَهُ صيد مَمْلُوك يجب عَلَيْهِ إرْسَاله فِي الْحل وَلم يجز بَيْعه لِأَن التَّعَرُّض للصَّيْد حرَام عَلَيْهِ فِي الْحرم وَفِي إِمْسَاكه تعرض لَهُ وَكَذَلِكَ فِي بَيْعه
وَمعنى يجب عَلَيْهِ إرْسَاله فِي الْحل أَن يَضَعهُ فِي يَد رجل وَدِيعَة لَا أَن يضيعه ويطيره
وَلَو ذبحه يجب عَلَيْهِ الْجَزَاء لِأَنَّهُ لما وَجب عَلَيْهِ الْإِرْسَال لحُرْمَة الْحرم فَيكون بِالذبْحِ تَارِكًا للْوَاجِب
وَكَذَلِكَ الْجَواب فِي الْمحرم فِي الْحل إِذا كَانَ فِي يَده صيد مَمْلُوك يجب أَن يُرْسِلهُ فِي يَد رجل وَلَا يجوز لَهُ أَن يَبِيعهُ ويذبحه لِأَنَّهُ تعرض لَهُ وَإِزَالَة لأمنه وَعَلِيهِ الْجَزَاء لَو فعل ذَلِك
وَأما مسَائِل الْأَمر بالحجفنقول من مَاتَ وَعَلِيهِ حجَّة الْإِسْلَام وَله مَال فَلَا يَخْلُو إِمَّا إِن أَمر بِأَن يحجّ عَنهُ وَأوصى بِهِ أَو لم يَأْمر الْوَصِيّ بِشَيْء
أما إِذا لم يوص سقط عَنهُ فِي حق أَحْكَام الدُّنْيَا وَلَا يجب على الْوَارِث وَالْوَصِيّ أَن يَأْمر بِالْحَجِّ عَنهُ بِمَالِه عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي يجب كمن مَاتَ وَعَلِيهِ الزَّكَاة من غير إيصاء فَإِنَّهُ تسْقط الزَّكَاة عَنهُ عندنَا خلافًا لَهُ وَقد ذكرنَا فِي كتاب الزَّكَاة
وَلَو أحج الْوَارِث عَنهُ رجلا بِمَال نَفسه أَو حج عَنهُ بِنَفسِهِ من غير وَصِيَّة من الْمَيِّت قَالَ تسْقط عَن الْمَيِّت حجَّة الْإِسْلَام إِن شَاءَ الله
وَأَصله مَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه سَأَلَهُ رجل وَقَالَ إِن أُمِّي قد مَاتَت وَلم تحج أفأحج عَنْهَا فَقَالَ نعم
وَإِنَّمَا قَالَ يجوز إِن شَاءَ الله لِأَن سُقُوط الْحَج بِفعل الْوَارِث بِغَيْر أمره أَنما يثبت بِخَبَر الْوَاحِد وَإنَّهُ لَا يُوجب الْعلم قطعا فَلَا يحكم بسقوطه عَنهُ قطعا وَلَكِن علق السُّقُوط بِالْمَشِيئَةِ احْتِرَازًا عَن الشَّهَادَة على الله تَعَالَى من غير علم قطعا
فَأَما إِذا أوصى فَإِنَّهُ تصح وَصيته من الثُّلُث لِأَن دُيُون الله تَعَالَى من حَيْثُ إِنَّه لَا يجب بمقابلتها عوض مَالِي فَهِيَ بِمَنْزِلَة التَّبَرُّعَات فَيعْتَبر خُرُوجهَا من الثُّلُث
ويحج عَن الْمَيِّت من بَلَده الَّذِي يسكنهُ إِن بلغ الثُّلُث ذَلِك لِأَن الْوَاجِب عَلَيْهِ الْحَج من بَلَده الَّذِي هُوَ يسكنهُ
وَلَو أَنه خرج إِلَى بلد آخر أقرب إِلَى مَكَّة فَمَاتَ فِيهِ وَأوصى بِالْحَجِّ ينظر إِن خرج لغير الْحَج يحجّ من بَلَده بالِاتِّفَاقِ
فَأَما إِذا خرج لِلْحَجِّ ثمَّ مَاتَ فِي الطَّرِيق قَالَ أَبُو حنيفَة يحجّ من بَلَده
وَقَالا يحجّ من حَيْثُ بلغ لِأَن الْخُرُوج من بَلَده بنية الْحَج يعْتد من الْحَج وَلم يسْقط اعْتِبَاره بِالْمَوْتِ قَالَ الله تَعَالَى {وَمن يخرج من بَيته مُهَاجرا إِلَى الله وَرَسُوله ثمَّ يُدْرِكهُ الْمَوْت فقد وَقع أجره على الله} أَلا أَن أَبَا حنيفَة قَالَ إِنَّه لما لم يتَّصل بِالْحَجِّ بذلك الْخُرُوج خرج من أَن يكون وَسِيلَة وَإِن كَانَ حكم الثَّوَاب قَائِما بوعد الله أَلا ترى أَنه إِذا خرج إِلَى السقر بنية الْحَج ثمَّ أَقَامَ فِي بعض الْبِلَاد لعذر حَتَّى دارت السّنة ثمَّ مَاتَ وَأوصى بِأَن يحجّ عَنهُ فإنة يحجّ عنة من بَلْدَة لَا من
هَذَا الْموضع الَّذِي مَا لما ذكرنَا كَذَا هُنَا
وَلَو أوصى بِأَن يحجّ عَنهُ من غير بَلَده من مَوضِع أقرب إِلَى مَكَّة أَو أبعد فَإِنَّهُ يحجّ عَنهُ كَمَا أوصى لِأَنَّهُ لَا يجب الإحجاج عَنهُ بِدُونِ الْوَصِيَّة فَيجب بِمِقْدَار الْوَصِيَّة
وَكَذَلِكَ إِذا أوصى بِأَن يحجّ عَنهُ بِمَال مُقَدّر إِن كَانَ يبلغ أَن يحجّ عَنهُ من بَلَده يحجّ من بَلَده وَإِلَّا يحجّ عَنهُ من حَيْثُ بلغ لِأَنَّهُ لما عين المَال يجب الْحَج بِهَذَا الْقدر من المَال لِأَنَّهُ لم تُوجد الْوَصِيَّة بِالزِّيَادَةِ عَنهُ وَبِدُون الْوَصِيَّة لَا يجب
وَأما إِذا أوصى بِأَن يحجّ عَنهُ مُطلقًا فَإِنَّهُ يحجّ عَنهُ من ثلث مَاله فَإِن بلغ ثلث مَاله أَن يحجّ عَنهُ من بَلَده يجب ذَلِك
وَإِن لم يبلغ من بَلَده فَالْقِيَاس أَن تبطل الْوَصِيَّة لِأَنَّهُ لَا يُمكن تنفيذها على مَا قَصده الْمُوصي
وَفِي الِاسْتِحْسَان يحجّ من حَيْثُ يبلغ لِأَن قَصده إِسْقَاط الْفَرْض عَن نَفسه فَإِن لم يكن على الْكَمَال فيصر إِلَى قدر الْمُمكن
ثمَّ إِن كَانَ الثُّلُث يبلغ أَن يحجّ عَنهُ رَاكِبًا من بَلَده فأحج عَنهُ مَاشِيا لم يجز لِأَن الْفَرْض هُوَ الْحَج رَاكِبًا
أما إِذا لم يبلغ الْحَج رَاكِبًا من بَلَده وَبلغ الْحَج رَاكِبًا من بلد آخر أقرب إِلَى مَكَّة وَمن بَلَده مَاشِيا روى هِشَام عَن مُحَمَّد أَنه يحجّ من حَيْثُ بلغ رَاكِبًا وَلَا يجوز أَن يحجّ من بَلَده مَاشِيا لما ذكرنَا أَن الْفَرْض هُوَ الْحَج رَاكِبًا فتنصرف الْوَصِيَّة إِلَيْهِ
وروى الْحسن عنأبي حنيفَة أَنه قَالَ أَن أحجوا عَنهُ مَاشِيا من بَلْدَة جَازَ وَإِن أحجوا رَاكِبًا من حَيْثُ بلغ جَازَ لِأَن فِي كل وَاحِد
من الْوَجْهَيْنِ نقص من وَجه وَكَمَال من وَجه فاستويا
ثمَّ الْأَفْضَل أَن يحجّ عَنهُ من قد حج عَن نَفسه حجَّة الْإِسْلَام لِأَن من حضر مَكَّة يكره لَهُ أَن يتْرك حجَّة الْإِسْلَام فَيكون مَا أدّى حجا مَكْرُوها وَلَكِن جَازَ لِأَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ للخثعمية حجي عَن أَبِيك وَلم يسْأَلهَا عَن الْحَج عَن نَفسهَا وَلَو كَانَ الحكم يخْتَلف لاستفسر
وَهَذَا عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يجوز وَيَقَع الْحَج عَن الضَّرُورَة أَي عَن نَفسه
وعَلى هَذَا إِذا حج الضَّرُورَة بنية التَّطَوُّع يَقع عَن التَّطَوُّع عندنَا وَعِنْده يَقع عَن الْفَرِيضَة
ثمَّ الْحَاج عَن غَيره إِذا أصَاب فِي إِحْرَامه مَا يُوجب الدَّم وَغير ذَلِك من الصَّدَقَة فَهُوَ على الْحَاج
وَكَذَا دم الْمُتْعَة وَالْقرَان إِذا أَمر بالقران
وَلَا يجب على المحجوج عَنهُ إِلَّا دم الْإِحْصَار لِأَن هَذِه الدِّمَاء إِنَّمَا وَجَبت لفعله فإمَّا دم الْإِحْصَار فَإِنَّهُ يجب للتخليص عَن مشقة السّفر وَهُوَ الَّذِي أوقعه فِي هَذِه الْمَشَقَّة فَعَلَيهِ التخليص
وَلَو جَامع الْحَاج عَن غَيره قبل الْوُقُوف بِعَرَفَة فسد حجه ويمضي فِيهِ وَينْفق من مَاله وَيضمن مَا أنْفق من مَال المحجوج عَنهُ ثمَّ يقْضِي الْحَاج من مَال نَفسه حجَّة وعمره من الْقَابِل لِأَنَّهُ أَمر بِحَجّ صَحِيح فَإِذا أفسد فقد خَالف الْأَمر فَصَارَ حَاجا على نَفسه والمأمور بِالْحَجِّ إِذا حج عَن نَفسه بِنَفَقَة الْآمِر يضمن فَإِذا أفْسدهُ يجب عَلَيْهِ الْقَضَاء على مَا بَينا
وَلَو كَانَ مَأْمُورا بالقران فأفسد يلْزمه قَضَاء حجَّة وَعمرَة من مَال نَفسه لما قُلْنَا
فَأَما إِذا فَاتَهُ الْحَج فَإِنَّهُ يصنع كَمَا يصنع الَّذِي فَوته الْحَج وَلَا يضمن النَّفَقَة لِأَنَّهُ لم يُوجد مِنْهُ الْمُخَالفَة حَتَّى يَنْقَلِب الْحَج عَنهُ والفوات حصل لَا بصنعه فَلَا يلْزمه الضَّمَان وَعَلِيهِ من مَال نَفسه الْحَج من قَابل لِأَن الْحجَّة لَزِمته بِالدُّخُولِ فَإِذا فَاتَت لزمَه قَضَاؤُهَا لِأَن فعل الْحَج يَقع عَن الْحَاج وَإِنَّمَا تقع عَن الْمَأْمُور ثَوَاب الْحَج
ثمَّ مَا فضل فِي يَد الْحَاج من النَّفَقَة بعد رُجُوعه فَإِنَّهُ يردهُ على الْوَرَثَة وَلَا يَسعهُ أَن يمسِكهُ لِأَن النَّفَقَة لَا تصير ملكا للْحَاج لِأَن الِاسْتِئْجَار لَا يَصح عندنَا فِي بَاب الْحَج وَسَائِر الْقرب الَّتِي تجْرِي فِيهَا النِّيَابَة حَتَّى يكون المَال أُجْرَة فَيكون ملكا للْأَجِير وَلَكِن ينْفق المَال على حكم ملك الْمَيِّت فِي الْحَج ليَكُون لَهُ ثَوَاب النَّفَقَة فَإِذا فرغ من الْحَج يجب صرفه إِلَى وَرَثَة الْمَيِّت
وَلَو كَانَ للْمُوصي بِالْحَجِّ وطنان فَإِنَّهُ يحجّ عَنهُ من أقرب الوطنين من مَكَّة لأَنا تَيَقنا بِدُخُول الْأَقْرَب فِي الْوَصِيَّة فَكَانَ الْأَخْذ بِالْيَقِينِ أولى
وَلَو كَانَ مكيا فَقدم الرّيّ بِالتِّجَارَة فَمَاتَ وَأوصى بِالْحَجِّ فَإِنَّهُ يحجّ عَنهُ من مَكَّة لما ذكرنَا أَن الْوَصِيَّة بِالْحَجِّ تصرف إِلَى مَا فرض الله عَلَيْهِ وَالْفَرْض عَلَيْهِ من وَطنه
وَلَو أوصى بِأَن يحجّ عَنهُ فَأعْطى الْوَصِيّ دَرَاهِم إِلَى رجل ليحج عَنهُ فحج عَنهُ مَاشِيا قَالَ يضمن النَّفَقَة ويحج عَن الْمَيِّت رَاكِبًا لِأَن الْحَج الْوَاجِب على الْمُوصي هُوَ الْحَج رَاكِبًا فتنصرف الْوَصِيَّة إِلَيْهِ فَصَارَ كَمَا لَو نَص أَن يحجّ عَنهُ رَاكِبًا وَلَو نَص وَحج مَاشِيا يضمن النَّفَقَة لمُخَالفَة
أمره كَذَا هُنَا
وَمن حج عَن ميت وَقضى حجه ثمَّ نوى الْمقَام بِمَكَّة خَمْسَة عشر يَوْمًا لَهُ أَن ينْفق من مَال نَفسه فِي مقَامه وَإِذا رَجَعَ بعد ذَلِك ينْفق من مَال الْمَيِّت
وَالْحَاصِل أَن الْإِقَامَة بعد الْفَرَاغ عَن الْحَج إِن كَانَت مُعْتَادَة فالنفقة فِي مَال الْمَيِّت
وَإِن زَادَت على الْعَادة فالنفقة فِي مَاله وَذَلِكَ مُدَّة مقَام الْقَافِلَة لِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ الْخُرُوج إِلَّا مَعَ النَّاس
وَإِذا كَانَ منتظرا لخُرُوج الْقَافِلَة فالنفقة فِي مَال الْمَيِّت
وَإِذا تخلف عَن الْقَافِلَة فالنفقة فِي مَاله
وَقد قَالُوا فِي الآفاقي إِذا حج عَن غَيره فَدخل بَغْدَاد فَأَقَامَ بهَا مِقْدَار مَا يُقيم النَّاس فالنفقة فِي مَال الْمَيِّت وَإِن أَقَامَ أَكثر من ذَلِك فَفِي مَاله لَكِن إِذا رَجَعَ فالنفقة فِي مَال الْمَيِّت لِأَن هَذِه مُدَّة الرُّجُوع فَلم يَنْقَطِع حكم السّفر الأول فَهِيَ محسوبة على الْمَيِّت
هَذَا إِذا لم يتَّخذ دَارا بِمَكَّة للإقامة
فَأَما إِذا اتخذ دَارا وَأقَام بهَا مُدَّة
ثمَّ رَجَعَ فالنفقة فِي مَاله لَا فِي مَال الْمَيِّت لِأَنَّهُ انْقَطع حكم السّفر الأول باتخاذه دَارا للإقامة
وَلَو أَن الْحَاج عَن غَيره إِذا تعجل الدُّخُول بِمَكَّة بِأَن دخل فِي شهر رَمَضَان محرما فَإِن عَلَيْهِ أَن ينْفق من مَاله إِلَى عشر الْأَضْحَى وَرُوِيَ إِلَى مَا قبل الْحَج بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ لِأَن هَذَا الْقدر من الْمقَام يعْتَاد فِي مَكَّة لِلْحَجِّ فَأَما الزِّيَادَة عَلَيْهِ فَلَا فَيَنْصَرِف الْأَمر إِلَى الْمُعْتَاد
وَلَو دفع مَالا إِلَى رجل ليحج عَن الْمَيِّت فَلم يبلغ مَال الْمَيِّت
النَّفَقَة فأنفق الْحَاج من مَال نَفسه وَمن مَال الْمَيِّت فَإِن كَانَ مَال الْمَيِّت يبلغ الْكِرَاء وَعَامة النَّفَقَة فَهُوَ جَائِز وَإِلَّا فَهُوَ لمَال الْمَيِّت ويحج عَن الْمَيِّت من مَاله من حَيْثُ يبلغ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ عَامَّة النَّفَقَة من مَال الْمَيِّت والقليل من مَال الْحَاج فالقليل يسْقط اعْتِبَاره بمقابلته الْكثير لحَاجَة النَّاس لِأَن الْحَاج يحْتَاج إِلَى أَن يزِيد من عِنْده النَّفَقَة لزِيَادَة الترفه والتوسعة وَأَن يزِيد ثيابًا وَلَو جعل هَذَا مَانِعا لامتنع النَّاس عَن الْحَج عَن الْغَيْر
فَأَما إِذا كَانَ الْأَكْثَر من مَال نَفسه فَلَا عِبْرَة للقليل فَيكون حَاجا عَن نَفسه فَيضمن
ثمَّ فِي الْحَج ثَلَاث خطب بَين كل خطبتين فاصل بِيَوْم فالخطبة الأولى قبل يَوْم التَّرويَة وَهُوَ الْيَوْم السَّابِع من ذِي الْحجَّة بِمَكَّة خطْبَة وَاحِدَة لَا يجلس فِيهَا بعد صَلَاة الظّهْر وَيعلم النَّاس فِيهَا أَحْكَام الْمَنَاسِك إِلَى يَوْم عَرَفَة
وَالْخطْبَة الثَّانِيَة يَوْم عَرَفَة قبل صَلَاة الظّهْر يخْطب خطبتين يجلس بَينهمَا جلْسَة خَفِيفَة وَيعلم النَّاس فِيهَا أَحْكَام الْمَنَاسِك إِلَى أَيَّام الثَّانِي من أَيَّام النَّحْر وَذَلِكَ بعد الْأَذَان كَمَا فِي يَوْم الْجُمُعَة
وَالْخطْبَة الثَّالِثَة فِي الْيَوْم الثَّانِي من أَيَّام النَّحْر بعد صَلَاة الظّهْر بمنى خطْبَة وَاحِدَة يعلمهُمْ فِيهَا مَا بَقِي من أَحْكَام الْمَنَاسِك
وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا الثَّلَاثَة
وقالزفر يخْطب فِي الْحَج ثَلَاث خطب مُتَوَالِيَات يَوْم التَّرويَة وَيَوْم عَرَفَة وَيَوْم النَّحْر
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
كتاب الْبيُوع : بَاب السّلم البيع
كتاب الْبيُوع
اعْلَم أَن البيع مَشْرُوع عرفت شرعيته بِالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة
أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى {وَأحل الله البيع} وَقَالَ تَعَالَى {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تكون تِجَارَة عَن ترَاض مِنْكُم}
وَأما السّنة فَمَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ يَا معشر التُّجَّار إِن بيعكم هَذَا يحضرهُ اللَّغْو وَالْكذب فشوبوه بِالصَّدَقَةِ وَكَذَلِكَ بعث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَالنَّاس يتبايعون فقررهم على ذَلِك والتقرير أحد وُجُوه السّنة وَعَلِيهِ إِجْمَاع الْأمة
بَاب السّلم البيع
أَنْوَاع أَرْبَعَة أَحدهَا بيع الْعين بِالْعينِ كَبيع السّلع بأمثالها نَحْو بيع الثَّوْب بِالْعَبدِ وَغَيره وَيُسمى هَذَا بيع المقايضة
وَالثَّانِي بيع الْعين بِالدّينِ نَحْو بيع السّلع بالأثمان الْمُطلقَة وَبَيْعهَا بالفلوس الرائجة والمكيل وَالْمَوْزُون والعددي المتقارب دينا
وَالثَّالِث بيع الدّين بِالدّينِ وَهُوَ بيع الثّمن الْمُطلق بِالثّمن الْمُطلق وَهُوَ الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير وَإنَّهُ يُسمى عقد الصّرْف وَيعرف فِي كِتَابه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَالرَّابِع بيع الدّين بِالْعينِ وَهُوَ السّلم فَإِن الْمُسلم فِيهِ مَبِيع وَهُوَ دين وَرَأس المَال قد يكون عينا وَقد يكون دينا وَلَكِن قَبضه شَرط قبل افْتِرَاق الْعَاقِدين بأنفسهما فَيصير عينا
وَالْكَلَام فِي السّلم فِي خَمْسَة مَوَاضِع فِي بَيَان مشروعيته وَفِي بَيَان تَفْسِيره لُغَة وَشَرِيعَة وَفِي بَيَان رُكْنه وَفِي بَيَان شَرطه وَفِي بَيَان حكمه شرعا
أما الأول فَالْقِيَاس أَن لَا يجوز السّلم لِأَنَّهُ بيع الْمَعْدُوم
وَفِي الِاسْتِحْسَان جَائِز بِالْحَدِيثِ بِخِلَاف الْقيَاس لحَاجَة النَّاس إِلَيْهِ وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام من أسلم مِنْكُم فليسلم فِي كل مَعْلُوم وَوزن مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم وَرُوِيَ عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه نهى عَن بيع مَا لَيْسَ عِنْد الْإِنْسَان وَرخّص فِي السّلم
وَأما تَفْسِيره لُغَة فَهُوَ عقد يثبت بِهِ الْملك فِي الثّمن عَاجلا وَفِي الْمُثمن آجلا يُسمى سلما وإسلاما وسلفا وإسلافا لما فِيهِ من تَسْلِيم رَأس المَال للْحَال
وَفِي عرف الشَّرْع عبارَة عَن هَذَا أَيْضا مَعَ زِيَادَة شَرَائِط ورد بهَا الشَّرْع لم يعرفهَا أهل اللُّغَة
وَأما رُكْنه فَهُوَ الْإِيجَاب وَالْقَبُول
والإيجاب هُوَ لفظ السّلم وَالسَّلَف بِأَن يَقُول رب السّلم لآخر أسلمت إِلَيْك عشرَة دَرَاهِم فِي كرّ حِنْطَة أَو أسلفت وَقَالَ الآخر قبلت
وَيُسمى هَذَا رب السّلم وَيُسمى الْمُسلم أَيْضا
وَالْآخر يُسمى الْمُسلم إِلَيْهِ
وَتسَمى الْحِنْطَة الْمُسلم فِيهِ
وَلَو قَالَ الْمُسلم إِلَيْهِ لآخر بِعْت مِنْك كرّ حِنْطَة بِكَذَا وَذكر شَرَائِط السّلم فَإِنَّهُ ينْعَقد أَيْضا لِأَنَّهُ بيع على مَا روينَا أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام نهى عَن بيع مَا لَيْسَ عِنْد الْإِنْسَان وَرخّص فِي السّلم
وَأما شَرَائِط جَوَاز السّلم فسبعة عشر سِتَّة فِي رَأس المَال وَأحد عشر فِي الْمُسلم فِيهِ
أما السِّتَّة الَّتِي فِي رَأس المَال فَهِيَ أَحدهَا بَيَان الْجِنْس أَنه دَرَاهِم أَو دَنَانِير أَو من الْمكيل حِنْطَة أَو شعير أَو من الْمَوْزُون قطن أَو حَدِيد وَنَحْو ذَلِك
وَالثَّانِي بَيَان النَّوْع أَنه دَرَاهِم غطريفية أَو عدلية أَو دَنَانِير محمودية أَو هروية أَو مروية
وَهَذَا إِذا كَانَ فِي الْبَلَد نقود مُخْتَلفَة فَأَما إِذا كَانَ فِي الْبَلَد نقد وَاحِد فَذكر الْجِنْس كَاف وينصرف إِلَيْهِ لتعينه عرفا
وَالثَّالِث بَيَان الصّفة أَنه جيد أَو رَدِيء أَو وسط
وَالرَّابِع إِعْلَام قدر رَأس المَال فَهُوَ شَرط جَوَاز السّلم فِيمَا يتَعَلَّق العقد فِيهِ بِالْقدرِ كالمكيل وَالْمَوْزُون والعددي المتقارب
وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ وَأحد قولي الشَّافِعِي
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد لَيْسَ بِشَرْط وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي
وَصُورَة الْمَسْأَلَة إِذا قَالَ رب السّلم أسلمت إِلَيْك هَذِه الدَّرَاهِم وَأَشَارَ إِلَيْهَا أَو هَذِه الدَّنَانِير وَأَشَارَ إِلَيْهَا وَلم يعرف وَزنهَا
وَكَذَا إِذا قَالَ أسلمت هَذِه الْحِنْطَة فِي كَذَا وَلم يعرف مِقْدَار كيل رَأس المَال
وعَلى هَذَا الْخلاف
إِذا قَالَ أسلمت إِلَيْك عشرَة دَرَاهِم فِي كرحنطة وكرشعير وَلم يبين
حِصَّة كل وَاحِد مِنْهُمَا من الْعشْرَة
وَكَذَلِكَ إِذا أسلم عشرَة دَرَاهِم فِي ثَوْبَيْنِ مُخْتَلفين فِي الْقيمَة
هَذَا إِذا أسلم فِيمَا يتَعَلَّق العقد فِيهِ بِالْقدرِ
فَأَما إِذا أسلم فِيمَا لَا يتَعَلَّق العقد فِيهِ بِالْقدرِ كالذرعيات والعدديات المتفاوتة فَإِنَّهُ لَا يشْتَرط بَيَان الذرع فِي الذرعيات وَلَا بَيَان الْقيمَة فِيهَا ويكتفي بِالْإِشَارَةِ وَالتَّعْيِين فِي قَوْلهم جَمِيعًا
وَأَجْمعُوا فِي بيع الْعين أَن إِعْلَام قدر الثّمن لَيْسَ بِشَرْط إِذا كَانَ مشارا إِلَيْهِ وَدَلَائِل الْمَسْأَلَة تعرف فِي الْمَبْسُوط إِن شَاءَ الله
وَالْخَامِس كَون الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير منتقدة فَهُوَ شَرط الْجَوَاز عِنْد أبي حنيفَة أَيْضا مَعَ إِعْلَام الْقدر
وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِشَرْط
وَالسَّادِس تَعْجِيل رَأس المَال وَقَبضه قبل افْتِرَاق الْعَاقِدين بأنفسهما فَهُوَ شَرط الْجَوَاز عِنْد عَامَّة الْعلمَاء سَوَاء كَانَ رَأس المَال عينا أَو دينا
وَقَالَ مَالك إِن كَانَ رَأس المَال عينا لَا يشْتَرط تَعْجِيله وَإِن كَانَ دينا يشْتَرط فِي قَول وَفِي قَول قَالَ يجوز التَّأْخِير يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ
وَأَجْمعُوا أَن فِي الصّرْف يشْتَرط قبض الْبَدَلَيْنِ قبل الِافْتِرَاق بأبدانهما سَوَاء كَانَ عينا كالتبر والمصوغ أَو دينا كالدراهم وَالدَّنَانِير
وَأما الشَّرَائِط الَّتِي فِي الْمُسلم فِيهِ فَهِيَ أحد عشر أَحدهَا بَيَان جنس الْمُسلم فِيهِ حِنْطَة أَو شعير أَو نَحْوهمَا
وَالثَّانِي بَيَان نَوعه حِنْطَة سقية أَو بخسية سهلية أَو جبلية
وَالثَّالِث بَيَان الصّفة حِنْطَة جَيِّدَة أَو رَدِيئَة أَو وسط
وَالرَّابِع إِعْلَام قدر الْمُسلم فِيهِ أَنه كرّ أَو قفيز بكيل مَعْرُوف عِنْد النَّاس لِأَن ترك بَيَان هَذِه الْأَشْيَاء يُوجب جَهَالَة مفضية إِلَى الْمُنَازعَة وَهِي مفْسدَة بِالْإِجْمَاع
وَالْخَامِس أَن لَا يَشْمَل الْبَدَلَيْنِ أحد وصفي عِلّة رَبًّا الْفضل وَهُوَ الْقدر الْمُتَّفق أَو الْجِنْس لِأَنَّهُ يتَضَمَّن رَبًّا النِّسَاء وَالْعقد الَّذِي فِيهِ رَبًّا فَاسد
وَالسَّادِس أَن يكون الْمُسلم فِيهِ مِمَّا يتَعَيَّن بِالتَّعْيِينِ حَتَّى لَا يجوز السّلم فِي الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير
فَأَما فِي التبر هَل يجوز السّلم فِيهِ على قِيَاس رِوَايَة كتاب الصّرْف لَا يجوز لِأَنَّهُ ألحقهُ بالمضروب وعَلى قِيَاس رِوَايَة كتاب الشّركَة جَازَ لِأَنَّهُ ألحقهُ بالعروض وَهُوَ رِوَايَة عَن أبي يُوسُف أَيْضا أَنه كالعروض
وَأما السّلم فِي الْفُلُوس فقد ذكر فِي الأَصْل وَقَالَ إِنَّه يجوز وَلم يذكر الِاخْتِلَاف وَيجب أَن يكون ذَلِك على قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف لِأَن عِنْدهمَا لَيْسَ بِثمن مُطلق بل يحْتَمل التَّعْيِين فِي الْجُمْلَة
وعَلى قَول مُحَمَّد لَا يجوز لِأَنَّهُ ثمن مُطلق على مَا عرف فِي بيع الْفلس بالفلسين بأعيانهما
وَالسَّابِع الْأَجَل فِي الْمُسلم فِيهِ شَرط الْجَوَاز وَهَذَا عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي لَيْسَ بِشَرْط
ولقب الْمَسْأَلَة أَن السّلم الْحَال لَا يجوز عندنَا وَعِنْده يجوز
ثمَّ لَا رِوَايَة عَن أَصْحَابنَا فِي الْمَبْسُوط فِي مِقْدَار الْأَجَل وَاخْتلفت الرِّوَايَات عَنْهُم وَالأَصَح مَا رُوِيَ عَن مُحَمَّد أَنه مُقَدّر بالشهر
لِأَنَّهُ أدنى الآجل وأقصى العاجل
وَالثَّامِن أَن يكون جنس الْمُسلم فِيهِ مَوْجُودا من وَقت العقد إِلَى وَقت مَحل الْأَجَل وَلَا يتَوَهَّم انْقِطَاعه عَن أَيدي النَّاس كالحبوب
فَأَما إِذا كَانَ مُنْقَطِعًا وَقت العقد أَو وَقت حُلُول الْأَجَل أَو فِيمَا بَين ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يجوز عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي إِن كَانَ مَوْجُودا وَقت مَحل الْأَجَل يجوز وَإِن كَانَ مُنْقَطِعًا فِي غَيره من الْأَحْوَال
ولقب الْمَسْأَلَة أَن السّلم فِي الْمُنْقَطع هَل يجوز أم لَا وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَكَذَلِكَ الْمُسلم فِيهِ إِذا كَانَ مَنْسُوبا إِلَى مَوضِع مَعْلُوم يحْتَمل انْقِطَاعه عَلَيْهِ بالآفة كحنطة قَرْيَة كَذَا أَو أَرض كَذَا لَا يجوز لِأَنَّهُ يحْتَمل الِانْقِطَاع بالآفة
وَذكر فِي الأَصْل إِذا أسلم فِي حِنْطَة هراة لَا يجوز
وقاس عَلَيْهِ بعض مَشَايِخنَا أَنه لَو أسلم فِي حِنْطَة سَمَرْقَنْد أَو بُخَارى لَا يجوز وَإِنَّمَا يجوز إِذا ذكر الْولَايَة نَحْو خُرَاسَان وفرغانة
وَالصَّحِيح أَن فِي حِنْطَة الْبَلدة الْكَبِيرَة يجوز لِأَنَّهَا لَا تحْتَمل الِانْقِطَاع غَالِبا
وَمَا ذكره مُحَمَّد فِي الأَصْل من حِنْطَة هراة أَرَادَ بِهِ اسْم قَرْيَة من قرى عراق دون الْبَلدة الْمَعْرُوفَة الَّتِي تسمى هراة
وَالتَّاسِع أَن يكون العقد باتا لَيْسَ فِيهِ خِيَار الشَّرْط لَهما أَو لأَحَدهمَا حَتَّى لَو أسلم عشرَة دَرَاهِم فِي كرحنطة على أَنه بِالْخِيَارِ ثَلَاثَة أَيَّام وَقبض الْمُسلم إِلَيْهِ رَأس المَال وتفرقا بأبدانهما وَيبْطل عقد السّلم لِأَن البيع بِشَرْط الْخِيَار ثَبت بِخِلَاف الْقيَاس لحَاجَة النَّاس فَلَا حَاجَة إِلَيْهِ فِي السّلم
وَلَو أبطلا الْخِيَار قبل التَّفَرُّق وَرَأس المَال قَائِم فِي يَد الْمُسلم إِلَيْهِ يَنْقَلِب جَائِزا عندنَا خلافًا ل زفر وَلَو كَانَ رَأس المَال هَالكا لَا يَنْقَلِب إِلَى الْجَوَاز بِالْإِجْمَاع
والعاشر بَيَان مَكَان الْإِيفَاء فِيمَا لَهُ حمل ومؤونة كالحنطة وَالشعِير وَغَيرهمَا فَإِنَّهُ شَرط لجَوَاز السّلم حَتَّى لَو ترك لم يجز السّلم فِي قَول أبي حنيفَة الآخر
وَكَذَا الْخلاف فِي الْإِجَارَة إِذا آجر دَاره سنة بِأَجْر لَهُ حمل ومؤونة وَلم يعين مَكَانا للإيفاء لم تجز الْإِجَارَة فِي قَوْله الآخر
وعَلى قَوْلهمَا جَازَ
وَحَاصِل الْخلاف رَاجع إِلَى أَن مَكَان العقد هَل يتَعَيَّن مَكَانا للإيفاء فِيمَا لَهُ حمل ومؤونة مَعَ اتِّفَاقهم على أَن مَكَان الْإِيفَاء إِذا كَانَ مَجْهُولا لَا يجوز السّلم لِأَنَّهُ جَهَالَة مفضية إِلَى الْمُنَازعَة
وَإِذا لم يتَعَيَّن مَكَان العقد مَكَانا للإيفاء عِنْد أبي حنيفَة وَلم يعينا مَكَانا آخر للإيفاء صَار مَكَان الْإِيفَاء مَجْهُولا فَيفْسد السّلم
وَعِنْدَهُمَا يتَعَيَّن مَكَان العقد مَكَانا للإيفاء فَلَا يُؤَدِّي إِلَى الْجَهَالَة فَيصح السّلم
وَفِي الْإِجَارَة عِنْدهمَا يتَعَيَّن بتعين مَكَان إِيفَاء الْمَعْقُود عَلَيْهِ مَكَان إِيفَاء الْأُجْرَة فَإِن كَانَ لمستأجر دَارا أَو أَرضًا فتسلم عِنْد الدَّار وَالْأَرْض وَإِن كَانَت دَابَّة فَعِنْدَ المرحلة وَإِن كَانَ ثوبا دفع إِلَى قصار وَنَحْوه يَدْفَعهَا فِي الْموضع الَّذِي يسلم فِيهِ الثَّوْب إِلَيْهِ
وَإِنَّمَا يتَعَيَّن مَكَان العقد مَكَان التَّسْلِيم عِنْدهمَا إِذا أمكن التَّسْلِيم فِي مَكَان العقد فَأَما إِذا لم يُمكن بِأَن كَانَ فِي الْبَحْر أَو على رَأس الْجَبَل فَإِنَّهُ لَا يتَعَيَّن مَكَان العقد للتسليم وَلَكِن يسلم فِي أقرب الْأَمَاكِن الَّذِي
يُمكن التَّسْلِيم فِيهِ من مَكَان العقد
فَأَما الْمُسلم فِيهِ إِذا كَانَ شَيْئا لَيْسَ لَهُ حمل ومؤونة كالمسك والكافور والجواهر واللآلىء وَنَحْوهَا فَعَن أَصْحَابنَا رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة يتَعَيَّن مَكَان العقد
وَفِي رِوَايَة يسلم حَيْثُمَا لقِيه وَلَا يتَعَيَّن مَكَان العقد
وَلَو شرطا مَكَانا آخر للإيفاء سوى مَكَان العقد فَإِن كَانَ فِيمَا لَهُ حمل ومؤونة يتَعَيَّن
وَإِن كَانَ فِيمَا لَيْسَ لَهُ حمل ومؤونة فَفِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة لَا يتَعَيَّن وَله أَن يُوفيه فِي أَي مَكَان شَاءَ
وَفِي رِوَايَة يتَعَيَّن وَهُوَ الْأَصَح
وَالْحَادِي عشر أَن يكون الْمُسلم فِيهِ مِمَّا يضْبط بِالْوَصْفِ وَهُوَ أَن يكون من الْأَجْنَاس الْأَرْبَعَة الْمكيل وَالْمَوْزُون والذرعي والعددي المتقارب
فَأَما إِذا كَانَ مِمَّا لَا يضْبط بِالْوَصْفِ كالعدديات المتفاوتة والذرعيات المتفاوتة مثل الدّور وَالْعَقار والجواهر واللآلىء والأدم والجلود والخشب والروس والأكارع وَالرُّمَّان والسفرجل والبطاطيخ وَنَحْوهَا لَا يجوز لِأَن الْمُسلم فِيهِ مَا يثبت دينا فِي الذِّمَّة وَسوى هَذِه الْأَجْنَاس الْأَرْبَعَة لَا يثبت دينا فِي الذِّمَّة فِي عُقُود الْمُعَاوَضَات إِلَّا إِذا كَانَ شَيْئا من جنس الْجُلُود والأدم والخشب والجذوع إِذا بَين شَيْئا مَعْلُوما من هَذِه الْأَشْيَاء وطولا مَعْلُوما وغلظا مَعْلُوما وَأَن تَجْتَمِع فِيهِ شَرَائِط السّلم والتحق بالمتقارب يجوز
يُمكن التَّسْلِيم فِيهِ من مَكَان العقد
وَكَذَلِكَ السّلم فِي الجوالق والمسوح والفرش
وَأما السّلم فِي الْحَيَوَان فَجَائِز عِنْد الشَّافِعِي إِذا بَين جنسه ونوعه وسنه وَصفته وَأَنه فِي نجارى فلَان أَو إبل فلَان أَو غنم فلَان
وَعِنْدنَا لَا يجوز كَيْفَمَا كَانَ
وَيجوز السّلم فِي الأليات والشحوم وزنا بِلَا خلاف
وَأما السّلم فِي اللَّحْم مَعَ الْعظم الَّذِي فِيهِ فَلَا يجوز عِنْد أبي حنيفَة أصلا
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ يجوز إِذا بَين جنس اللَّحْم بِأَن قَالَ لحم شَاة أَو بقر وَبَين السن بِأَن قَالَ لحم شَاة ثني أَو جَذَعَة وَبَين النَّوْع بِأَن قَالَ لحم شَاة ذكر أَو أُنْثَى خصي أَو فَحل معلوفة أَو سَائِمَة وَبَين صفة اللَّحْم بِأَن قَالَ سمين أَو مهزول أَو وسط وَبَين الْموضع بِأَن قَالَ من الْكَتف أَو من الْجنب وَبَين الْمِقْدَار بِأَن قَالَ عشرَة أُمَنَاء
وَأما منزوع الْعظم فقد اخْتلف الْمَشَايِخ على قَول أبي حنيفَة ذكر الْكَرْخِي وَقَالَ يجوز
وَذكر الْجَصَّاص وَقَالَ لَا يجوز لاخْتِلَاف السّمن والهزال
وَأما السّلم فِي السّمك فقد اضْطَرَبَتْ عبارَة الرِّوَايَات عَن أَصْحَابنَا فِي الأَصْل والنوادر
وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب أَن السّلم يجوز فِي السّمك الصغار كَيْلا أَو وزنا وَيَسْتَوِي فِيهِ المالح والطري فِي حِينه وَأما الْكِبَار فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَن أبي حنيفَة فِي ظَاهر الرِّوَايَة يجوز كَيْفَمَا كَانَ وزنا
وَفِي رِوَايَة أبي يُوسُف فِي الأمالي عَنهُ أَنه لَا يجوز
وعَلى قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد يجوز فِي ظَاهر الرِّوَايَة كَمَا فِي اللَّحْم
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَنْهُمَا لَا يجوز بِخِلَاف اللَّحْم
وَأما السّلم فِي الثِّيَاب فَإِذا بَين جنسه ونوعه وَصفته ورقعته وذرعه يجوز اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاس أَن لَا يجوز
وَهل يشْتَرط بَيَان الْوَزْن فِي الثَّوْب الْحَرِير اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ قَالَ بَعضهم هُوَ شَرط
وَقَالَ بَعضهم لَيْسَ بِشَرْط لِأَن الْحَرِير ذرعي كالكتان والكرباس
وعَلى هَذَا السّلم فِي الْأَعْدَاد المتقاربة مثل الْجَوْز وَالْبيض وَنَحْوهمَا جَائِز كَيْلا ووزنا وعددا فِي قَول عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَة
وَقَالَ زفر يجوز كَيْلا ووزنا وَلَا يجوز عددا
وَقَالَ الشَّافِعِي يجوز كَيْلا ووزنا فِي الْجَوْز واللوز وَلَا يجوز عددا
وَفِي الْبيض يجوز كَيْلا ووزنا وعددا
وَلَو أسلم فِي الْفُلُوس عددا يجوز فِي ظَاهر الرِّوَايَة
وَعَن مُحَمَّد أَنه لَا يجوز لِأَنَّهَا من جملَة الْأَثْمَان
وَلَو أسلم فِي التِّبْن أوقارا لَا يجوز لتَفَاوت فَاحش بَين الوقرين إِلَّا إِذا كَانَ فِي فيمان مَعْلُوم من فيامين النَّاس لم يخْتَلف فَيجوز
وَلَو أسلم فِي الْخبز هَل يجوز لم يذكر مُحَمَّد فِي ظَاهر الرِّوَايَة
وَذكر فِي نَوَادِر ابْن رستم على قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد لَا يجوز وعَلى قَول أبي
وَأما الِاسْتِبْدَال بِرَأْس المَال بعد الْإِقَالَة أَو بعد انْفِسَاخ السّلم بِأَيّ طَرِيق كَانَ فَلَا يجوز فِي قَول عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَة اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاس أَن يجوز وَهُوَ قَول زفر سَوَاء كَانَ رَأس المَال عينا أَو دينا
وَأَجْمعُوا على أَن الِاسْتِبْدَال ببدلي الصّرْف بعد الْإِقَالَة قبل الْقَبْض جَائِز
وَأَجْمعُوا أَن قبض رَأس المَال بعد الْإِقَالَة فِي بَاب السّلم فِي مجْلِس الْإِقَالَة لَيْسَ بِشَرْط لصِحَّة الْإِقَالَة وَفِي الصّرْف شَرط لصِحَّة الْإِقَالَة
وَأَجْمعُوا على أَن السّلم إِذا كَانَ فَاسِدا فِي الأَصْل فَلَا بَأْس بالاستبدال فِيهِ قبل الْقَبْض وَلَا يكون لَهُ حكم السّلم كَسَائِر الدُّيُون
وَمِنْهَا أَن رب السّلم لَو أَخذ بعض رَأس المَال وَبَعض الْمُسلم فِيهِ بعد مَحل الْأَجَل أَو قبله بِرِضا صَاحبه فَإِنَّهُ يجوز وَيكون إِقَالَة للسلم فِيمَا أَخذ من رَأس المَال وَيبقى السّلم فِي الْبَاقِي وَهُوَ قَول عَامَّة الْعلمَاء
وَقَالَ مَالك وَابْن أبي ليلى لَيْسَ لَهُ ذَلِك فَهُوَ إِمَّا أَن يَأْخُذ جَمِيع رَأس المَال أَو يَأْخُذ جَمِيع الْمُسلم فِيهِ
وَفِي بيع الْعين إِذا أقَال فِي الْبَعْض دون الْبَعْض جَازَ بِالْإِجْمَاع
وَأَجْمعُوا أَنه لَو أَخذ جَمِيع رَأس المَال بِرِضا صَاحبه أَو أقَال جَمِيع السّلم أَو تصالحا على رَأس المَال فَإِنَّهُ يكون إِقَالَة صَحِيحَة وينفسخ السّلم
وَلَو أَخذ بعض رَأس المَال قبل مَحل الْأَجَل ليعجل بَاقِي السّلم فَإِنَّهُ لَا يجوز كَذَا ذكر فِي الْكتاب وَمَعْنَاهُ أَنه لَا يجوز هَذَا الشَّرْط
وَتَصِح الْإِقَالَة لِأَنَّهُ يصير فِي معنى الِاعْتِيَاض عَن الْأَجَل فَيكون شرطا فَاسِدا إِلَّا أَن الْإِقَالَة لَا تبطل بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَة وَهَذَا على قِيَاس قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد
فَأَما على قِيَاس قَول أبي يُوسُف فَتبْطل الْإِقَالَة وَالسّلم كُله بَاقٍ إِلَى أَجله لِأَن عِنْده الْإِقَالَة بيع جَدِيد وَالْبيع يبطل بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَة
وَمِنْهَا أَن الْمُسلم إِلَيْهِ إِذا أَبْرَأ رب السّلم عَن رَأس المَال لَا يَصح بِدُونِ قبُول رب السّلم وَإِذا قبل يَصح الْإِبْرَاء وَيبْطل السّلم لِأَنَّهُ فَاتَ قبض رَأس المَال لِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر قَبضه بعد صِحَة الْإِبْرَاء
وَلَو رده أَو لم يقبله بَقِي عقد السّلم صَحِيحا فَلهُ أَن يسلم رَأس المَال قبل الِافْتِرَاق حَتَّى لَا يفْسد
وَلَو أَبْرَأ عَن ثمن الْمَبِيع صَحَّ من غير قبُول إِلَّا أَنه يرْتَد بِالرَّدِّ
وَالْفرق هُوَ أَن قبض رَأس المَال فِي الْمجْلس شَرط صِحَة عقد السّلم فَلَو صَحَّ الْإِبْرَاء من غير قبُول الآخر لانفسخ السّلم من غير رضَا صَاحبه وَهَذَا لَا يجوز بِخِلَاف الثّمن لِأَن قَبضه لَيْسَ بِشَرْط
وَلَو أَبْرَأ عَن الْمُسلم فِيهِ جَازَ لِأَن قَبضه لَيْسَ بِشَرْط وَالْإِبْرَاء عَن دين لَا يجب قَبضه شرعا إِسْقَاط لحقه لَا غير فَيملك ذَلِك
وَلَو أَبْرَأ عَن الْمَبِيع لَا يَصح لِأَن الْإِبْرَاء عَن الْأَعْيَان لَا يَصح
وَمِنْهَا أَن الْحِوَالَة بِرَأْس مَال السّلم وَالْكَفَالَة بِهِ وَالرَّهْن بِهِ وبالمسلم فِيهِ أَيْضا جَائِز عندنَا
وَعند زفر يجوز بِالْمُسلمِ فِيهِ وَلَا يجوز بِرَأْس المَال
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه لَا يجوز ذَلِك كُله لَا بِرَأْس المَال وَلَا بِالْمُسلمِ فِيهِ
وعَلى هَذَا الْخلاف الْحِوَالَة وَالْكَفَالَة وَالرَّهْن بِأحد بدلي الصّرْف
ثمَّ مَتى جَازَ ذَلِك عندنَا يجب أَن يقبض الْمُسلم إِلَيْهِ رَأس المَال من الحويل وَالْكَفِيل أَو من رب السّلم أَو يهْلك الرَّهْن قبل أَن يَتَفَرَّقَا عَن الْمجْلس وَقِيمَة الرَّهْن مثل رَأس المَال أَو أَكثر حَتَّى يحصل الِافْتِرَاق عَن قبض رَأس المَال فَيجوز وَلَا يبطل العقد
وَأما إِذا تفرق رب السّلم وَالْمُسلم إِلَيْهِ قبل الْقَبْض يبطل السّلم وَإِن بَقِي الحويل وَالْكَفِيل مَعَ رب السّلم
وَلَو ذهب الحويل وَالْكَفِيل وَبَقِي الْمُسلم إِلَيْهِ مَعَ رب السّلم لَا يبطل السّلم وَالْعبْرَة لبَقَاء الْعَاقِدين وافتراقهما
وَكَذَلِكَ فِي بَاب الصّرْف الْعبْرَة لبَقَاء الْعَاقِدين
وَكَذَلِكَ فِي الرَّهْن إِذا لم يهْلك حَتَّى تفَرقا يبطل السّلم لِانْعِدَامِ قبض رَأس المَال
هَذَا فِي جَانب رَأس المَال
فَأَما فِي جَانب الْمُسلم فِيهِ فالمحيل يبرأ بِنَفس عقد الْحِوَالَة وَيبقى تَسْلِيم الْمُسلم فِيهِ وَاجِبا على الْمُحْتَال عَلَيْهِ إِذا حل الْأَجَل فَإِذا حل الْأَجَل يُطَالب رب السّلم الْمُحْتَال عَلَيْهِ وَلَا سَبِيل لَهُ على الْمُحِيل
وَفِي الْكفَالَة رب السّلم بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ طَالب الْأَصِيل وَإِن شَاءَ طَالب الْكَفِيل وَله أَن يحبس الرَّهْن حَتَّى يَأْخُذ الْمُسلم فِيهِ
وَمِنْهَا أَن الْمُسلم إِلَيْهِ إِذا قَالَ بعد قبض رَأس المَال إِنَّه زيوف أَو نبهرجة أَو مُسْتَحقّ أَو ستوقة أَو معيب فَلَا يَخْلُو إِمَّا إِن صدقه رب السّلم أَو كذبه
أما إِذا صدقه فَلهُ حق الرَّد ثمَّ لَا يَخْلُو إِمَّا إِن كَانَ رَأس المَال عينا أَو دينا فَإِن كَانَ عينا فَاسْتحقَّ فِي الْمجْلس أَو رد بِالْعَيْبِ بعد الِافْتِرَاق وَلم يجز لمستحق وَلم يرض الْمُسلم إِلَيْهِ بِالْعَيْبِ فَإِنَّهُ يبطل السّلم لِأَن العقد وَقع على الْعين
فَإِذا لم يجز فقد فَاتَ الْبَدَل فَصَارَ كَمَا لَو هلك الْمَبِيع قبل الْقَبْض
وَلَو أجَاز الْمُسْتَحق أَو رَضِي الْمُسلم إِلَيْهِ بِالْعَيْبِ جَازَ لِأَنَّهُ سلم لَهُ الْبَدَل من الأَصْل
فَأَما إِذا كَانَ رَأس المَال دينا فَقَبضهُ ثمَّ وجده ستوقة أَو رصاصا أَو مُسْتَحقّا أَو زُيُوفًا أَو نبهرجة فَلَا يَخْلُو إِمَّا إِن وجد ذَلِك فِي مجْلِس السّلم أَو بعد الِافْتِرَاق وَلَا يَخْلُو إِمَّا إِن تجوز بذلك الْمُسلم إِلَيْهِ أَو لم يتجوز
أما إِذا وجد ستوقة أَو رصاصا فِي الْمجْلس فَتجوز بِهِ فَلَا يجوز لِأَن هَذَا لَيْسَ من جنس حَقه فَيكون استبدالا بِرَأْس المَال قبل الْقَبْض فَصَارَ كَمَا لَو استبدل ثوبا من رب السّلم مَكَان الدِّرْهَم
فَأَما إِذا رده وَقبض شَيْئا آخر مَكَانَهُ جَازَ لِأَنَّهُ لما رده وانتقض قَبضه جعل كَأَن لم يكن وَأخر الْقَبْض إِلَى آخر الْمجْلس فَإِن ذَلِك جَائِز كَذَلِك هَذَا
وَأما إِذا وجد ذَلِك مُسْتَحقّا فَإِن صِحَة الْقَبْض مَوْقُوفَة على إجَازَة الْمُسْتَحق إِن أجَاز جَازَ وَإِن لم يجز بَطل
فَأَما إِذا وجد زُيُوفًا أَو نبهرجة فَإِن تجوز بهَا جَازَ لِأَنَّهَا من جنس حَقه فَيصير مُسْتَوْفيا مَعَ النُّقْصَان
وَإِن رده واستبدل مَكَانَهُ فِي مجْلِس العقد جَازَ لِأَنَّهُ وجد مثله فِي
الْمجْلس فَكَانَ الْقَبْض مُتَأَخِّرًا
هَذَا الَّذِي ذكرنَا إِذا كَانَ ذَلِك فِي مجْلِس السّلم
فَأَما إِذا كَانَ بعد تفرقهما فَإِن وجد شَيْئا من رَأس المَال ستوقة أَو رصاصا بَطل السّلم بِقَدرِهِ قل أَو كثر كَيْفَمَا كَانَ لِأَنَّهَا لَيست من جنس حق الْمُسلم إِلَيْهِ فَظهر أَن الِافْتِرَاق حصل من غير قبض رَأس المَال بِقدر الستوقة فَيبْطل بِقَدرِهِ وَلَا يعود جَائِزا بِالْقَبْضِ بعد الْمجْلس كَمَا لَو لم يقبض أصلا ثمَّ قبض بعد الِافْتِرَاق
وَإِن وجد ذَلِك مُسْتَحقّا إِن أجَاز الْمُسْتَحق جَازَ لِأَن الْقَبْض مَوْقُوف على إِجَازَته إِذا كَانَ رَأس المَال قَائِما نَص على ذَلِك فِي الْجَامِع الْكَبِير وَإِن رد بَطل السّلم بِقَدرِهِ لما ذكرنَا أَن الْقَبْض مَوْقُوف
وَأما إِذا وجد ذَلِك زُيُوفًا أَو نبهرجة إِن تجوز بِهِ جَازَ وَإِن لم يتجوز بِهِ ورده أَجمعُوا على أَنه إِن لم يسْتَبْدل فِي مجْلِس الرَّد بَطل السّلم بِقدر مَا رد
فَأَما إِذا استبدل مَكَانَهُ جيادا فِي مجْلِس الرَّد فَالْقِيَاس أَن يبطل السّلم بِقَدرِهِ قَالَ الْمَرْدُود أَو كثر وَبِه أَخذ زفر
وَفِي الِاسْتِحْسَان لَا يبطل قل أَو كثر وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد
وَأَبُو حنيفَة أَخذ فِي الْكثير بِالْقِيَاسِ وَفِي الْقَلِيل بالاستحسان
وَكَذَلِكَ على هَذَا الْخلاف أحد المتصارفين إِذا وجد شَيْئا مِمَّا قبض زُيُوفًا ورده بعد الْمجْلس
ثمَّ اتّفقت الرِّوَايَات عَن أبي حنيفَة أَن مَا زَاد على النّصْف كثير وَمَا دونه فَهُوَ قَلِيل
وَأما فِي النّصْف فَذكر فِي الأَصْل وَجعله فِي حكم الْقَلِيل فِي مَوضِع وَحكم الْكثير فِي مَوضِع
وَرُوِيَ فِي النَّوَادِر أَنه قدره بِالثُّلثِ فَصَاعِدا وَهُوَ الْأَصَح
هَذَا الَّذِي ذكرنَا حكم رَأس المَال فَأَما حكم الْمُسلم فِيهِ إِذا وجد رب السّلم بِالْمُسلمِ فِيهِ عَيْبا بَعْدَمَا قَبضه فَإِن لَهُ خِيَار الْعَيْب إِن شَاءَ تجوز بِهِ وَإِن شَاءَ رده وَيَأْخُذ مِنْهُ السّلم غير معيب لِأَن حَقه فِي السَّلِيم دون الْمَعِيب
إِلَّا أَن خِيَار الشَّرْط والرؤية لَا يثبت فِي السّلم على مَا ذكرنَا فِي جَانب رَأس المَال
هَذَا إِذا صدقه رب السّلم فَأَما إِذا كذبه وَأنكر أَن تكون الدَّرَاهِم الَّتِي جَاءَ بهَا من دَرَاهِمه الَّتِي أَعْطَاهَا وَادّعى الْمُسلم إِلَيْهِ أَنَّهَا من دَرَاهِمه فَهَذَا لَا يَخْلُو من سِتَّة أوجه إِمَّا إِن كَانَ الْمُسلم إِلَيْهِ أقرّ ذَلِك قبل ذَلِك فَقَالَ قبضت الْجِيَاد أَو قبضت حَقي أَو قبضت رَأس المَال أَو استوفيت الدَّرَاهِم أَو قبضت الدَّرَاهِم أَو قَالَ قبضت وَلم يقل شَيْئا آخر
فَفِي الْفُصُول الْأَرْبَعَة الأولى لَا تسمع دَعْوَاهُ بعد ذَلِك أَنِّي وجدته زُيُوفًا وَلم يكن لَهُ حق استحلاف رب السّلم بِاللَّه إِنَّهَا لَيست من دراهمك الَّتِي قبضتها مِنْك لِأَنَّهُ بِإِقْرَارِهِ بِقَبض الْجِيَاد يصير مناقضا فِي دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ أقرّ بِقَبض الْجِيَاد ثمَّ قَالَ لم أَقبض الْجِيَاد بل هِيَ زيوف والمناقضة تمنع صِحَة الدَّعْوَى وَالْحلف بِنَاء على الدَّعْوَى الصَّحِيحَة
وَأما إِذا قَالَ الْمُسلم إِلَيْهِ قبضت الدَّرَاهِم ثمَّ قَالَ هِيَ زيوف فَالْقِيَاس أَن يكون القَوْل قَول رب السّلم إِنَّهَا لَيست من دَرَاهِمه مَعَ يَمِينه
على ذَلِك وعَلى الْمُسلم إِلَيْهِ الْبَيِّنَة أَنَّهَا من الدَّرَاهِم الَّتِي قبضهَا مِنْهُ لِأَن الْمُسلم إِلَيْهِ يَدعِي أَنَّهَا مَقْبُوضَة مَعَ الْعَيْب وَرب السّلم يُنكر أَنَّهَا مَقْبُوضَة أَو أَنَّهَا الَّتِي قبضهَا مِنْهُ وَيكون القَوْل قَول الْمُنكر مَعَ يَمِينه
وَفِي الِاسْتِحْسَان القَوْل قَول الْمُسلم إِلَيْهِ مَعَ يَمِينه وعَلى رب السّلم الْبَيِّنَة أَنه أعطَاهُ الْجِيَاد لِأَن رب السّلم بإنكاره أَنَّهَا لَيست من دَرَاهِمه يَدعِي إِيفَاء حَقه وَهُوَ الْجِيَاد وَالْمُسلم إِلَيْهِ بِدَعْوَاهُ أَن هَذِه الدَّرَاهِم قبضتها مِنْك وَإِنَّهَا زيوف يُنكر قبض حَقه فَيكون القَوْل قَوْله مَعَ يَمِينه أَنه لم يقبض حَقه وعَلى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَة أَنه أوفاه حَقه
وَهَذَا هُوَ الْقيَاس فِي الْفُصُول الْأُخَر إِلَّا أَن ثمَّة سبق مِنْهُ مَا يُنَاقض دَعْوَاهُ وَهُوَ الْإِقْرَار بالجياد وَهَهُنَا لم يسْبق لِأَن ذكر قبض الدَّرَاهِم يَقع على الزُّيُوف والجياد جَمِيعًا بِخِلَاف الْفُصُول الأولى
وَأما إِذا قَالَ قبضت لَا غير ثمَّ قَالَ وجدته زُيُوفًا يكون القَوْل قَوْله كَمَا قُلْنَا فِي الْفَصْل الأول إِلَّا أَن هَهُنَا إِذا قَالَ وجدته ستوقة أَو رصاصا فَإِنَّهُ يصدق بِخِلَاف مَا إِذا قَالَ قبضت الدَّرَاهِم ثمَّ قَالَ وَجدتهَا ستوقة أَو رصاصا فَإِنَّهُ لَا يقبل قَوْله لِأَن فِي قَوْله قبضت إِقْرَارا بِمُطلق الْقَبْض والستوقة تقبض فبقوله مَا قَبضته ستوقة لَا يكون مناقضا وَفِي قَوْله قبضت الدَّرَاهِم يصير مناقضا لقَوْله قبضت الستوقة والرصاص لِأَنَّهُ خلاف جنس الدَّرَاهِم
اعْلَم أَن البيع مَشْرُوع عرفت شرعيته بِالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة
أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى {وَأحل الله البيع} وَقَالَ تَعَالَى {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تكون تِجَارَة عَن ترَاض مِنْكُم}
وَأما السّنة فَمَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ يَا معشر التُّجَّار إِن بيعكم هَذَا يحضرهُ اللَّغْو وَالْكذب فشوبوه بِالصَّدَقَةِ وَكَذَلِكَ بعث النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام وَالنَّاس يتبايعون فقررهم على ذَلِك والتقرير أحد وُجُوه السّنة وَعَلِيهِ إِجْمَاع الْأمة
بَاب السّلم البيع
أَنْوَاع أَرْبَعَة أَحدهَا بيع الْعين بِالْعينِ كَبيع السّلع بأمثالها نَحْو بيع الثَّوْب بِالْعَبدِ وَغَيره وَيُسمى هَذَا بيع المقايضة
وَالثَّانِي بيع الْعين بِالدّينِ نَحْو بيع السّلع بالأثمان الْمُطلقَة وَبَيْعهَا بالفلوس الرائجة والمكيل وَالْمَوْزُون والعددي المتقارب دينا
وَالثَّالِث بيع الدّين بِالدّينِ وَهُوَ بيع الثّمن الْمُطلق بِالثّمن الْمُطلق وَهُوَ الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير وَإنَّهُ يُسمى عقد الصّرْف وَيعرف فِي كِتَابه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَالرَّابِع بيع الدّين بِالْعينِ وَهُوَ السّلم فَإِن الْمُسلم فِيهِ مَبِيع وَهُوَ دين وَرَأس المَال قد يكون عينا وَقد يكون دينا وَلَكِن قَبضه شَرط قبل افْتِرَاق الْعَاقِدين بأنفسهما فَيصير عينا
وَالْكَلَام فِي السّلم فِي خَمْسَة مَوَاضِع فِي بَيَان مشروعيته وَفِي بَيَان تَفْسِيره لُغَة وَشَرِيعَة وَفِي بَيَان رُكْنه وَفِي بَيَان شَرطه وَفِي بَيَان حكمه شرعا
أما الأول فَالْقِيَاس أَن لَا يجوز السّلم لِأَنَّهُ بيع الْمَعْدُوم
وَفِي الِاسْتِحْسَان جَائِز بِالْحَدِيثِ بِخِلَاف الْقيَاس لحَاجَة النَّاس إِلَيْهِ وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام من أسلم مِنْكُم فليسلم فِي كل مَعْلُوم وَوزن مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم وَرُوِيَ عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه نهى عَن بيع مَا لَيْسَ عِنْد الْإِنْسَان وَرخّص فِي السّلم
وَأما تَفْسِيره لُغَة فَهُوَ عقد يثبت بِهِ الْملك فِي الثّمن عَاجلا وَفِي الْمُثمن آجلا يُسمى سلما وإسلاما وسلفا وإسلافا لما فِيهِ من تَسْلِيم رَأس المَال للْحَال
وَفِي عرف الشَّرْع عبارَة عَن هَذَا أَيْضا مَعَ زِيَادَة شَرَائِط ورد بهَا الشَّرْع لم يعرفهَا أهل اللُّغَة
وَأما رُكْنه فَهُوَ الْإِيجَاب وَالْقَبُول
والإيجاب هُوَ لفظ السّلم وَالسَّلَف بِأَن يَقُول رب السّلم لآخر أسلمت إِلَيْك عشرَة دَرَاهِم فِي كرّ حِنْطَة أَو أسلفت وَقَالَ الآخر قبلت
وَيُسمى هَذَا رب السّلم وَيُسمى الْمُسلم أَيْضا
وَالْآخر يُسمى الْمُسلم إِلَيْهِ
وَتسَمى الْحِنْطَة الْمُسلم فِيهِ
وَلَو قَالَ الْمُسلم إِلَيْهِ لآخر بِعْت مِنْك كرّ حِنْطَة بِكَذَا وَذكر شَرَائِط السّلم فَإِنَّهُ ينْعَقد أَيْضا لِأَنَّهُ بيع على مَا روينَا أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام نهى عَن بيع مَا لَيْسَ عِنْد الْإِنْسَان وَرخّص فِي السّلم
وَأما شَرَائِط جَوَاز السّلم فسبعة عشر سِتَّة فِي رَأس المَال وَأحد عشر فِي الْمُسلم فِيهِ
أما السِّتَّة الَّتِي فِي رَأس المَال فَهِيَ أَحدهَا بَيَان الْجِنْس أَنه دَرَاهِم أَو دَنَانِير أَو من الْمكيل حِنْطَة أَو شعير أَو من الْمَوْزُون قطن أَو حَدِيد وَنَحْو ذَلِك
وَالثَّانِي بَيَان النَّوْع أَنه دَرَاهِم غطريفية أَو عدلية أَو دَنَانِير محمودية أَو هروية أَو مروية
وَهَذَا إِذا كَانَ فِي الْبَلَد نقود مُخْتَلفَة فَأَما إِذا كَانَ فِي الْبَلَد نقد وَاحِد فَذكر الْجِنْس كَاف وينصرف إِلَيْهِ لتعينه عرفا
وَالثَّالِث بَيَان الصّفة أَنه جيد أَو رَدِيء أَو وسط
وَالرَّابِع إِعْلَام قدر رَأس المَال فَهُوَ شَرط جَوَاز السّلم فِيمَا يتَعَلَّق العقد فِيهِ بِالْقدرِ كالمكيل وَالْمَوْزُون والعددي المتقارب
وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ وَأحد قولي الشَّافِعِي
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد لَيْسَ بِشَرْط وَهُوَ أحد قولي الشَّافِعِي
وَصُورَة الْمَسْأَلَة إِذا قَالَ رب السّلم أسلمت إِلَيْك هَذِه الدَّرَاهِم وَأَشَارَ إِلَيْهَا أَو هَذِه الدَّنَانِير وَأَشَارَ إِلَيْهَا وَلم يعرف وَزنهَا
وَكَذَا إِذا قَالَ أسلمت هَذِه الْحِنْطَة فِي كَذَا وَلم يعرف مِقْدَار كيل رَأس المَال
وعَلى هَذَا الْخلاف
إِذا قَالَ أسلمت إِلَيْك عشرَة دَرَاهِم فِي كرحنطة وكرشعير وَلم يبين
حِصَّة كل وَاحِد مِنْهُمَا من الْعشْرَة
وَكَذَلِكَ إِذا أسلم عشرَة دَرَاهِم فِي ثَوْبَيْنِ مُخْتَلفين فِي الْقيمَة
هَذَا إِذا أسلم فِيمَا يتَعَلَّق العقد فِيهِ بِالْقدرِ
فَأَما إِذا أسلم فِيمَا لَا يتَعَلَّق العقد فِيهِ بِالْقدرِ كالذرعيات والعدديات المتفاوتة فَإِنَّهُ لَا يشْتَرط بَيَان الذرع فِي الذرعيات وَلَا بَيَان الْقيمَة فِيهَا ويكتفي بِالْإِشَارَةِ وَالتَّعْيِين فِي قَوْلهم جَمِيعًا
وَأَجْمعُوا فِي بيع الْعين أَن إِعْلَام قدر الثّمن لَيْسَ بِشَرْط إِذا كَانَ مشارا إِلَيْهِ وَدَلَائِل الْمَسْأَلَة تعرف فِي الْمَبْسُوط إِن شَاءَ الله
وَالْخَامِس كَون الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير منتقدة فَهُوَ شَرط الْجَوَاز عِنْد أبي حنيفَة أَيْضا مَعَ إِعْلَام الْقدر
وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِشَرْط
وَالسَّادِس تَعْجِيل رَأس المَال وَقَبضه قبل افْتِرَاق الْعَاقِدين بأنفسهما فَهُوَ شَرط الْجَوَاز عِنْد عَامَّة الْعلمَاء سَوَاء كَانَ رَأس المَال عينا أَو دينا
وَقَالَ مَالك إِن كَانَ رَأس المَال عينا لَا يشْتَرط تَعْجِيله وَإِن كَانَ دينا يشْتَرط فِي قَول وَفِي قَول قَالَ يجوز التَّأْخِير يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ
وَأَجْمعُوا أَن فِي الصّرْف يشْتَرط قبض الْبَدَلَيْنِ قبل الِافْتِرَاق بأبدانهما سَوَاء كَانَ عينا كالتبر والمصوغ أَو دينا كالدراهم وَالدَّنَانِير
وَأما الشَّرَائِط الَّتِي فِي الْمُسلم فِيهِ فَهِيَ أحد عشر أَحدهَا بَيَان جنس الْمُسلم فِيهِ حِنْطَة أَو شعير أَو نَحْوهمَا
وَالثَّانِي بَيَان نَوعه حِنْطَة سقية أَو بخسية سهلية أَو جبلية
وَالثَّالِث بَيَان الصّفة حِنْطَة جَيِّدَة أَو رَدِيئَة أَو وسط
وَالرَّابِع إِعْلَام قدر الْمُسلم فِيهِ أَنه كرّ أَو قفيز بكيل مَعْرُوف عِنْد النَّاس لِأَن ترك بَيَان هَذِه الْأَشْيَاء يُوجب جَهَالَة مفضية إِلَى الْمُنَازعَة وَهِي مفْسدَة بِالْإِجْمَاع
وَالْخَامِس أَن لَا يَشْمَل الْبَدَلَيْنِ أحد وصفي عِلّة رَبًّا الْفضل وَهُوَ الْقدر الْمُتَّفق أَو الْجِنْس لِأَنَّهُ يتَضَمَّن رَبًّا النِّسَاء وَالْعقد الَّذِي فِيهِ رَبًّا فَاسد
وَالسَّادِس أَن يكون الْمُسلم فِيهِ مِمَّا يتَعَيَّن بِالتَّعْيِينِ حَتَّى لَا يجوز السّلم فِي الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير
فَأَما فِي التبر هَل يجوز السّلم فِيهِ على قِيَاس رِوَايَة كتاب الصّرْف لَا يجوز لِأَنَّهُ ألحقهُ بالمضروب وعَلى قِيَاس رِوَايَة كتاب الشّركَة جَازَ لِأَنَّهُ ألحقهُ بالعروض وَهُوَ رِوَايَة عَن أبي يُوسُف أَيْضا أَنه كالعروض
وَأما السّلم فِي الْفُلُوس فقد ذكر فِي الأَصْل وَقَالَ إِنَّه يجوز وَلم يذكر الِاخْتِلَاف وَيجب أَن يكون ذَلِك على قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف لِأَن عِنْدهمَا لَيْسَ بِثمن مُطلق بل يحْتَمل التَّعْيِين فِي الْجُمْلَة
وعَلى قَول مُحَمَّد لَا يجوز لِأَنَّهُ ثمن مُطلق على مَا عرف فِي بيع الْفلس بالفلسين بأعيانهما
وَالسَّابِع الْأَجَل فِي الْمُسلم فِيهِ شَرط الْجَوَاز وَهَذَا عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي لَيْسَ بِشَرْط
ولقب الْمَسْأَلَة أَن السّلم الْحَال لَا يجوز عندنَا وَعِنْده يجوز
ثمَّ لَا رِوَايَة عَن أَصْحَابنَا فِي الْمَبْسُوط فِي مِقْدَار الْأَجَل وَاخْتلفت الرِّوَايَات عَنْهُم وَالأَصَح مَا رُوِيَ عَن مُحَمَّد أَنه مُقَدّر بالشهر
لِأَنَّهُ أدنى الآجل وأقصى العاجل
وَالثَّامِن أَن يكون جنس الْمُسلم فِيهِ مَوْجُودا من وَقت العقد إِلَى وَقت مَحل الْأَجَل وَلَا يتَوَهَّم انْقِطَاعه عَن أَيدي النَّاس كالحبوب
فَأَما إِذا كَانَ مُنْقَطِعًا وَقت العقد أَو وَقت حُلُول الْأَجَل أَو فِيمَا بَين ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يجوز عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي إِن كَانَ مَوْجُودا وَقت مَحل الْأَجَل يجوز وَإِن كَانَ مُنْقَطِعًا فِي غَيره من الْأَحْوَال
ولقب الْمَسْأَلَة أَن السّلم فِي الْمُنْقَطع هَل يجوز أم لَا وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَكَذَلِكَ الْمُسلم فِيهِ إِذا كَانَ مَنْسُوبا إِلَى مَوضِع مَعْلُوم يحْتَمل انْقِطَاعه عَلَيْهِ بالآفة كحنطة قَرْيَة كَذَا أَو أَرض كَذَا لَا يجوز لِأَنَّهُ يحْتَمل الِانْقِطَاع بالآفة
وَذكر فِي الأَصْل إِذا أسلم فِي حِنْطَة هراة لَا يجوز
وقاس عَلَيْهِ بعض مَشَايِخنَا أَنه لَو أسلم فِي حِنْطَة سَمَرْقَنْد أَو بُخَارى لَا يجوز وَإِنَّمَا يجوز إِذا ذكر الْولَايَة نَحْو خُرَاسَان وفرغانة
وَالصَّحِيح أَن فِي حِنْطَة الْبَلدة الْكَبِيرَة يجوز لِأَنَّهَا لَا تحْتَمل الِانْقِطَاع غَالِبا
وَمَا ذكره مُحَمَّد فِي الأَصْل من حِنْطَة هراة أَرَادَ بِهِ اسْم قَرْيَة من قرى عراق دون الْبَلدة الْمَعْرُوفَة الَّتِي تسمى هراة
وَالتَّاسِع أَن يكون العقد باتا لَيْسَ فِيهِ خِيَار الشَّرْط لَهما أَو لأَحَدهمَا حَتَّى لَو أسلم عشرَة دَرَاهِم فِي كرحنطة على أَنه بِالْخِيَارِ ثَلَاثَة أَيَّام وَقبض الْمُسلم إِلَيْهِ رَأس المَال وتفرقا بأبدانهما وَيبْطل عقد السّلم لِأَن البيع بِشَرْط الْخِيَار ثَبت بِخِلَاف الْقيَاس لحَاجَة النَّاس فَلَا حَاجَة إِلَيْهِ فِي السّلم
وَلَو أبطلا الْخِيَار قبل التَّفَرُّق وَرَأس المَال قَائِم فِي يَد الْمُسلم إِلَيْهِ يَنْقَلِب جَائِزا عندنَا خلافًا ل زفر وَلَو كَانَ رَأس المَال هَالكا لَا يَنْقَلِب إِلَى الْجَوَاز بِالْإِجْمَاع
والعاشر بَيَان مَكَان الْإِيفَاء فِيمَا لَهُ حمل ومؤونة كالحنطة وَالشعِير وَغَيرهمَا فَإِنَّهُ شَرط لجَوَاز السّلم حَتَّى لَو ترك لم يجز السّلم فِي قَول أبي حنيفَة الآخر
وَكَذَا الْخلاف فِي الْإِجَارَة إِذا آجر دَاره سنة بِأَجْر لَهُ حمل ومؤونة وَلم يعين مَكَانا للإيفاء لم تجز الْإِجَارَة فِي قَوْله الآخر
وعَلى قَوْلهمَا جَازَ
وَحَاصِل الْخلاف رَاجع إِلَى أَن مَكَان العقد هَل يتَعَيَّن مَكَانا للإيفاء فِيمَا لَهُ حمل ومؤونة مَعَ اتِّفَاقهم على أَن مَكَان الْإِيفَاء إِذا كَانَ مَجْهُولا لَا يجوز السّلم لِأَنَّهُ جَهَالَة مفضية إِلَى الْمُنَازعَة
وَإِذا لم يتَعَيَّن مَكَان العقد مَكَانا للإيفاء عِنْد أبي حنيفَة وَلم يعينا مَكَانا آخر للإيفاء صَار مَكَان الْإِيفَاء مَجْهُولا فَيفْسد السّلم
وَعِنْدَهُمَا يتَعَيَّن مَكَان العقد مَكَانا للإيفاء فَلَا يُؤَدِّي إِلَى الْجَهَالَة فَيصح السّلم
وَفِي الْإِجَارَة عِنْدهمَا يتَعَيَّن بتعين مَكَان إِيفَاء الْمَعْقُود عَلَيْهِ مَكَان إِيفَاء الْأُجْرَة فَإِن كَانَ لمستأجر دَارا أَو أَرضًا فتسلم عِنْد الدَّار وَالْأَرْض وَإِن كَانَت دَابَّة فَعِنْدَ المرحلة وَإِن كَانَ ثوبا دفع إِلَى قصار وَنَحْوه يَدْفَعهَا فِي الْموضع الَّذِي يسلم فِيهِ الثَّوْب إِلَيْهِ
وَإِنَّمَا يتَعَيَّن مَكَان العقد مَكَان التَّسْلِيم عِنْدهمَا إِذا أمكن التَّسْلِيم فِي مَكَان العقد فَأَما إِذا لم يُمكن بِأَن كَانَ فِي الْبَحْر أَو على رَأس الْجَبَل فَإِنَّهُ لَا يتَعَيَّن مَكَان العقد للتسليم وَلَكِن يسلم فِي أقرب الْأَمَاكِن الَّذِي
يُمكن التَّسْلِيم فِيهِ من مَكَان العقد
فَأَما الْمُسلم فِيهِ إِذا كَانَ شَيْئا لَيْسَ لَهُ حمل ومؤونة كالمسك والكافور والجواهر واللآلىء وَنَحْوهَا فَعَن أَصْحَابنَا رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة يتَعَيَّن مَكَان العقد
وَفِي رِوَايَة يسلم حَيْثُمَا لقِيه وَلَا يتَعَيَّن مَكَان العقد
وَلَو شرطا مَكَانا آخر للإيفاء سوى مَكَان العقد فَإِن كَانَ فِيمَا لَهُ حمل ومؤونة يتَعَيَّن
وَإِن كَانَ فِيمَا لَيْسَ لَهُ حمل ومؤونة فَفِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة لَا يتَعَيَّن وَله أَن يُوفيه فِي أَي مَكَان شَاءَ
وَفِي رِوَايَة يتَعَيَّن وَهُوَ الْأَصَح
وَالْحَادِي عشر أَن يكون الْمُسلم فِيهِ مِمَّا يضْبط بِالْوَصْفِ وَهُوَ أَن يكون من الْأَجْنَاس الْأَرْبَعَة الْمكيل وَالْمَوْزُون والذرعي والعددي المتقارب
فَأَما إِذا كَانَ مِمَّا لَا يضْبط بِالْوَصْفِ كالعدديات المتفاوتة والذرعيات المتفاوتة مثل الدّور وَالْعَقار والجواهر واللآلىء والأدم والجلود والخشب والروس والأكارع وَالرُّمَّان والسفرجل والبطاطيخ وَنَحْوهَا لَا يجوز لِأَن الْمُسلم فِيهِ مَا يثبت دينا فِي الذِّمَّة وَسوى هَذِه الْأَجْنَاس الْأَرْبَعَة لَا يثبت دينا فِي الذِّمَّة فِي عُقُود الْمُعَاوَضَات إِلَّا إِذا كَانَ شَيْئا من جنس الْجُلُود والأدم والخشب والجذوع إِذا بَين شَيْئا مَعْلُوما من هَذِه الْأَشْيَاء وطولا مَعْلُوما وغلظا مَعْلُوما وَأَن تَجْتَمِع فِيهِ شَرَائِط السّلم والتحق بالمتقارب يجوز
يُمكن التَّسْلِيم فِيهِ من مَكَان العقد
وَكَذَلِكَ السّلم فِي الجوالق والمسوح والفرش
وَأما السّلم فِي الْحَيَوَان فَجَائِز عِنْد الشَّافِعِي إِذا بَين جنسه ونوعه وسنه وَصفته وَأَنه فِي نجارى فلَان أَو إبل فلَان أَو غنم فلَان
وَعِنْدنَا لَا يجوز كَيْفَمَا كَانَ
وَيجوز السّلم فِي الأليات والشحوم وزنا بِلَا خلاف
وَأما السّلم فِي اللَّحْم مَعَ الْعظم الَّذِي فِيهِ فَلَا يجوز عِنْد أبي حنيفَة أصلا
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ يجوز إِذا بَين جنس اللَّحْم بِأَن قَالَ لحم شَاة أَو بقر وَبَين السن بِأَن قَالَ لحم شَاة ثني أَو جَذَعَة وَبَين النَّوْع بِأَن قَالَ لحم شَاة ذكر أَو أُنْثَى خصي أَو فَحل معلوفة أَو سَائِمَة وَبَين صفة اللَّحْم بِأَن قَالَ سمين أَو مهزول أَو وسط وَبَين الْموضع بِأَن قَالَ من الْكَتف أَو من الْجنب وَبَين الْمِقْدَار بِأَن قَالَ عشرَة أُمَنَاء
وَأما منزوع الْعظم فقد اخْتلف الْمَشَايِخ على قَول أبي حنيفَة ذكر الْكَرْخِي وَقَالَ يجوز
وَذكر الْجَصَّاص وَقَالَ لَا يجوز لاخْتِلَاف السّمن والهزال
وَأما السّلم فِي السّمك فقد اضْطَرَبَتْ عبارَة الرِّوَايَات عَن أَصْحَابنَا فِي الأَصْل والنوادر
وَالصَّحِيح من الْمَذْهَب أَن السّلم يجوز فِي السّمك الصغار كَيْلا أَو وزنا وَيَسْتَوِي فِيهِ المالح والطري فِي حِينه وَأما الْكِبَار فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَن أبي حنيفَة فِي ظَاهر الرِّوَايَة يجوز كَيْفَمَا كَانَ وزنا
وَفِي رِوَايَة أبي يُوسُف فِي الأمالي عَنهُ أَنه لَا يجوز
وعَلى قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد يجوز فِي ظَاهر الرِّوَايَة كَمَا فِي اللَّحْم
وَفِي رِوَايَة أُخْرَى عَنْهُمَا لَا يجوز بِخِلَاف اللَّحْم
وَأما السّلم فِي الثِّيَاب فَإِذا بَين جنسه ونوعه وَصفته ورقعته وذرعه يجوز اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاس أَن لَا يجوز
وَهل يشْتَرط بَيَان الْوَزْن فِي الثَّوْب الْحَرِير اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ قَالَ بَعضهم هُوَ شَرط
وَقَالَ بَعضهم لَيْسَ بِشَرْط لِأَن الْحَرِير ذرعي كالكتان والكرباس
وعَلى هَذَا السّلم فِي الْأَعْدَاد المتقاربة مثل الْجَوْز وَالْبيض وَنَحْوهمَا جَائِز كَيْلا ووزنا وعددا فِي قَول عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَة
وَقَالَ زفر يجوز كَيْلا ووزنا وَلَا يجوز عددا
وَقَالَ الشَّافِعِي يجوز كَيْلا ووزنا فِي الْجَوْز واللوز وَلَا يجوز عددا
وَفِي الْبيض يجوز كَيْلا ووزنا وعددا
وَلَو أسلم فِي الْفُلُوس عددا يجوز فِي ظَاهر الرِّوَايَة
وَعَن مُحَمَّد أَنه لَا يجوز لِأَنَّهَا من جملَة الْأَثْمَان
وَلَو أسلم فِي التِّبْن أوقارا لَا يجوز لتَفَاوت فَاحش بَين الوقرين إِلَّا إِذا كَانَ فِي فيمان مَعْلُوم من فيامين النَّاس لم يخْتَلف فَيجوز
وَلَو أسلم فِي الْخبز هَل يجوز لم يذكر مُحَمَّد فِي ظَاهر الرِّوَايَة
وَذكر فِي نَوَادِر ابْن رستم على قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد لَا يجوز وعَلى قَول أبي
وَأما الِاسْتِبْدَال بِرَأْس المَال بعد الْإِقَالَة أَو بعد انْفِسَاخ السّلم بِأَيّ طَرِيق كَانَ فَلَا يجوز فِي قَول عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَة اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاس أَن يجوز وَهُوَ قَول زفر سَوَاء كَانَ رَأس المَال عينا أَو دينا
وَأَجْمعُوا على أَن الِاسْتِبْدَال ببدلي الصّرْف بعد الْإِقَالَة قبل الْقَبْض جَائِز
وَأَجْمعُوا أَن قبض رَأس المَال بعد الْإِقَالَة فِي بَاب السّلم فِي مجْلِس الْإِقَالَة لَيْسَ بِشَرْط لصِحَّة الْإِقَالَة وَفِي الصّرْف شَرط لصِحَّة الْإِقَالَة
وَأَجْمعُوا على أَن السّلم إِذا كَانَ فَاسِدا فِي الأَصْل فَلَا بَأْس بالاستبدال فِيهِ قبل الْقَبْض وَلَا يكون لَهُ حكم السّلم كَسَائِر الدُّيُون
وَمِنْهَا أَن رب السّلم لَو أَخذ بعض رَأس المَال وَبَعض الْمُسلم فِيهِ بعد مَحل الْأَجَل أَو قبله بِرِضا صَاحبه فَإِنَّهُ يجوز وَيكون إِقَالَة للسلم فِيمَا أَخذ من رَأس المَال وَيبقى السّلم فِي الْبَاقِي وَهُوَ قَول عَامَّة الْعلمَاء
وَقَالَ مَالك وَابْن أبي ليلى لَيْسَ لَهُ ذَلِك فَهُوَ إِمَّا أَن يَأْخُذ جَمِيع رَأس المَال أَو يَأْخُذ جَمِيع الْمُسلم فِيهِ
وَفِي بيع الْعين إِذا أقَال فِي الْبَعْض دون الْبَعْض جَازَ بِالْإِجْمَاع
وَأَجْمعُوا أَنه لَو أَخذ جَمِيع رَأس المَال بِرِضا صَاحبه أَو أقَال جَمِيع السّلم أَو تصالحا على رَأس المَال فَإِنَّهُ يكون إِقَالَة صَحِيحَة وينفسخ السّلم
وَلَو أَخذ بعض رَأس المَال قبل مَحل الْأَجَل ليعجل بَاقِي السّلم فَإِنَّهُ لَا يجوز كَذَا ذكر فِي الْكتاب وَمَعْنَاهُ أَنه لَا يجوز هَذَا الشَّرْط
وَتَصِح الْإِقَالَة لِأَنَّهُ يصير فِي معنى الِاعْتِيَاض عَن الْأَجَل فَيكون شرطا فَاسِدا إِلَّا أَن الْإِقَالَة لَا تبطل بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَة وَهَذَا على قِيَاس قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد
فَأَما على قِيَاس قَول أبي يُوسُف فَتبْطل الْإِقَالَة وَالسّلم كُله بَاقٍ إِلَى أَجله لِأَن عِنْده الْإِقَالَة بيع جَدِيد وَالْبيع يبطل بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَة
وَمِنْهَا أَن الْمُسلم إِلَيْهِ إِذا أَبْرَأ رب السّلم عَن رَأس المَال لَا يَصح بِدُونِ قبُول رب السّلم وَإِذا قبل يَصح الْإِبْرَاء وَيبْطل السّلم لِأَنَّهُ فَاتَ قبض رَأس المَال لِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر قَبضه بعد صِحَة الْإِبْرَاء
وَلَو رده أَو لم يقبله بَقِي عقد السّلم صَحِيحا فَلهُ أَن يسلم رَأس المَال قبل الِافْتِرَاق حَتَّى لَا يفْسد
وَلَو أَبْرَأ عَن ثمن الْمَبِيع صَحَّ من غير قبُول إِلَّا أَنه يرْتَد بِالرَّدِّ
وَالْفرق هُوَ أَن قبض رَأس المَال فِي الْمجْلس شَرط صِحَة عقد السّلم فَلَو صَحَّ الْإِبْرَاء من غير قبُول الآخر لانفسخ السّلم من غير رضَا صَاحبه وَهَذَا لَا يجوز بِخِلَاف الثّمن لِأَن قَبضه لَيْسَ بِشَرْط
وَلَو أَبْرَأ عَن الْمُسلم فِيهِ جَازَ لِأَن قَبضه لَيْسَ بِشَرْط وَالْإِبْرَاء عَن دين لَا يجب قَبضه شرعا إِسْقَاط لحقه لَا غير فَيملك ذَلِك
وَلَو أَبْرَأ عَن الْمَبِيع لَا يَصح لِأَن الْإِبْرَاء عَن الْأَعْيَان لَا يَصح
وَمِنْهَا أَن الْحِوَالَة بِرَأْس مَال السّلم وَالْكَفَالَة بِهِ وَالرَّهْن بِهِ وبالمسلم فِيهِ أَيْضا جَائِز عندنَا
وَعند زفر يجوز بِالْمُسلمِ فِيهِ وَلَا يجوز بِرَأْس المَال
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه لَا يجوز ذَلِك كُله لَا بِرَأْس المَال وَلَا بِالْمُسلمِ فِيهِ
وعَلى هَذَا الْخلاف الْحِوَالَة وَالْكَفَالَة وَالرَّهْن بِأحد بدلي الصّرْف
ثمَّ مَتى جَازَ ذَلِك عندنَا يجب أَن يقبض الْمُسلم إِلَيْهِ رَأس المَال من الحويل وَالْكَفِيل أَو من رب السّلم أَو يهْلك الرَّهْن قبل أَن يَتَفَرَّقَا عَن الْمجْلس وَقِيمَة الرَّهْن مثل رَأس المَال أَو أَكثر حَتَّى يحصل الِافْتِرَاق عَن قبض رَأس المَال فَيجوز وَلَا يبطل العقد
وَأما إِذا تفرق رب السّلم وَالْمُسلم إِلَيْهِ قبل الْقَبْض يبطل السّلم وَإِن بَقِي الحويل وَالْكَفِيل مَعَ رب السّلم
وَلَو ذهب الحويل وَالْكَفِيل وَبَقِي الْمُسلم إِلَيْهِ مَعَ رب السّلم لَا يبطل السّلم وَالْعبْرَة لبَقَاء الْعَاقِدين وافتراقهما
وَكَذَلِكَ فِي بَاب الصّرْف الْعبْرَة لبَقَاء الْعَاقِدين
وَكَذَلِكَ فِي الرَّهْن إِذا لم يهْلك حَتَّى تفَرقا يبطل السّلم لِانْعِدَامِ قبض رَأس المَال
هَذَا فِي جَانب رَأس المَال
فَأَما فِي جَانب الْمُسلم فِيهِ فالمحيل يبرأ بِنَفس عقد الْحِوَالَة وَيبقى تَسْلِيم الْمُسلم فِيهِ وَاجِبا على الْمُحْتَال عَلَيْهِ إِذا حل الْأَجَل فَإِذا حل الْأَجَل يُطَالب رب السّلم الْمُحْتَال عَلَيْهِ وَلَا سَبِيل لَهُ على الْمُحِيل
وَفِي الْكفَالَة رب السّلم بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ طَالب الْأَصِيل وَإِن شَاءَ طَالب الْكَفِيل وَله أَن يحبس الرَّهْن حَتَّى يَأْخُذ الْمُسلم فِيهِ
وَمِنْهَا أَن الْمُسلم إِلَيْهِ إِذا قَالَ بعد قبض رَأس المَال إِنَّه زيوف أَو نبهرجة أَو مُسْتَحقّ أَو ستوقة أَو معيب فَلَا يَخْلُو إِمَّا إِن صدقه رب السّلم أَو كذبه
أما إِذا صدقه فَلهُ حق الرَّد ثمَّ لَا يَخْلُو إِمَّا إِن كَانَ رَأس المَال عينا أَو دينا فَإِن كَانَ عينا فَاسْتحقَّ فِي الْمجْلس أَو رد بِالْعَيْبِ بعد الِافْتِرَاق وَلم يجز لمستحق وَلم يرض الْمُسلم إِلَيْهِ بِالْعَيْبِ فَإِنَّهُ يبطل السّلم لِأَن العقد وَقع على الْعين
فَإِذا لم يجز فقد فَاتَ الْبَدَل فَصَارَ كَمَا لَو هلك الْمَبِيع قبل الْقَبْض
وَلَو أجَاز الْمُسْتَحق أَو رَضِي الْمُسلم إِلَيْهِ بِالْعَيْبِ جَازَ لِأَنَّهُ سلم لَهُ الْبَدَل من الأَصْل
فَأَما إِذا كَانَ رَأس المَال دينا فَقَبضهُ ثمَّ وجده ستوقة أَو رصاصا أَو مُسْتَحقّا أَو زُيُوفًا أَو نبهرجة فَلَا يَخْلُو إِمَّا إِن وجد ذَلِك فِي مجْلِس السّلم أَو بعد الِافْتِرَاق وَلَا يَخْلُو إِمَّا إِن تجوز بذلك الْمُسلم إِلَيْهِ أَو لم يتجوز
أما إِذا وجد ستوقة أَو رصاصا فِي الْمجْلس فَتجوز بِهِ فَلَا يجوز لِأَن هَذَا لَيْسَ من جنس حَقه فَيكون استبدالا بِرَأْس المَال قبل الْقَبْض فَصَارَ كَمَا لَو استبدل ثوبا من رب السّلم مَكَان الدِّرْهَم
فَأَما إِذا رده وَقبض شَيْئا آخر مَكَانَهُ جَازَ لِأَنَّهُ لما رده وانتقض قَبضه جعل كَأَن لم يكن وَأخر الْقَبْض إِلَى آخر الْمجْلس فَإِن ذَلِك جَائِز كَذَلِك هَذَا
وَأما إِذا وجد ذَلِك مُسْتَحقّا فَإِن صِحَة الْقَبْض مَوْقُوفَة على إجَازَة الْمُسْتَحق إِن أجَاز جَازَ وَإِن لم يجز بَطل
فَأَما إِذا وجد زُيُوفًا أَو نبهرجة فَإِن تجوز بهَا جَازَ لِأَنَّهَا من جنس حَقه فَيصير مُسْتَوْفيا مَعَ النُّقْصَان
وَإِن رده واستبدل مَكَانَهُ فِي مجْلِس العقد جَازَ لِأَنَّهُ وجد مثله فِي
الْمجْلس فَكَانَ الْقَبْض مُتَأَخِّرًا
هَذَا الَّذِي ذكرنَا إِذا كَانَ ذَلِك فِي مجْلِس السّلم
فَأَما إِذا كَانَ بعد تفرقهما فَإِن وجد شَيْئا من رَأس المَال ستوقة أَو رصاصا بَطل السّلم بِقَدرِهِ قل أَو كثر كَيْفَمَا كَانَ لِأَنَّهَا لَيست من جنس حق الْمُسلم إِلَيْهِ فَظهر أَن الِافْتِرَاق حصل من غير قبض رَأس المَال بِقدر الستوقة فَيبْطل بِقَدرِهِ وَلَا يعود جَائِزا بِالْقَبْضِ بعد الْمجْلس كَمَا لَو لم يقبض أصلا ثمَّ قبض بعد الِافْتِرَاق
وَإِن وجد ذَلِك مُسْتَحقّا إِن أجَاز الْمُسْتَحق جَازَ لِأَن الْقَبْض مَوْقُوف على إِجَازَته إِذا كَانَ رَأس المَال قَائِما نَص على ذَلِك فِي الْجَامِع الْكَبِير وَإِن رد بَطل السّلم بِقَدرِهِ لما ذكرنَا أَن الْقَبْض مَوْقُوف
وَأما إِذا وجد ذَلِك زُيُوفًا أَو نبهرجة إِن تجوز بِهِ جَازَ وَإِن لم يتجوز بِهِ ورده أَجمعُوا على أَنه إِن لم يسْتَبْدل فِي مجْلِس الرَّد بَطل السّلم بِقدر مَا رد
فَأَما إِذا استبدل مَكَانَهُ جيادا فِي مجْلِس الرَّد فَالْقِيَاس أَن يبطل السّلم بِقَدرِهِ قَالَ الْمَرْدُود أَو كثر وَبِه أَخذ زفر
وَفِي الِاسْتِحْسَان لَا يبطل قل أَو كثر وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد
وَأَبُو حنيفَة أَخذ فِي الْكثير بِالْقِيَاسِ وَفِي الْقَلِيل بالاستحسان
وَكَذَلِكَ على هَذَا الْخلاف أحد المتصارفين إِذا وجد شَيْئا مِمَّا قبض زُيُوفًا ورده بعد الْمجْلس
ثمَّ اتّفقت الرِّوَايَات عَن أبي حنيفَة أَن مَا زَاد على النّصْف كثير وَمَا دونه فَهُوَ قَلِيل
وَأما فِي النّصْف فَذكر فِي الأَصْل وَجعله فِي حكم الْقَلِيل فِي مَوضِع وَحكم الْكثير فِي مَوضِع
وَرُوِيَ فِي النَّوَادِر أَنه قدره بِالثُّلثِ فَصَاعِدا وَهُوَ الْأَصَح
هَذَا الَّذِي ذكرنَا حكم رَأس المَال فَأَما حكم الْمُسلم فِيهِ إِذا وجد رب السّلم بِالْمُسلمِ فِيهِ عَيْبا بَعْدَمَا قَبضه فَإِن لَهُ خِيَار الْعَيْب إِن شَاءَ تجوز بِهِ وَإِن شَاءَ رده وَيَأْخُذ مِنْهُ السّلم غير معيب لِأَن حَقه فِي السَّلِيم دون الْمَعِيب
إِلَّا أَن خِيَار الشَّرْط والرؤية لَا يثبت فِي السّلم على مَا ذكرنَا فِي جَانب رَأس المَال
هَذَا إِذا صدقه رب السّلم فَأَما إِذا كذبه وَأنكر أَن تكون الدَّرَاهِم الَّتِي جَاءَ بهَا من دَرَاهِمه الَّتِي أَعْطَاهَا وَادّعى الْمُسلم إِلَيْهِ أَنَّهَا من دَرَاهِمه فَهَذَا لَا يَخْلُو من سِتَّة أوجه إِمَّا إِن كَانَ الْمُسلم إِلَيْهِ أقرّ ذَلِك قبل ذَلِك فَقَالَ قبضت الْجِيَاد أَو قبضت حَقي أَو قبضت رَأس المَال أَو استوفيت الدَّرَاهِم أَو قبضت الدَّرَاهِم أَو قَالَ قبضت وَلم يقل شَيْئا آخر
فَفِي الْفُصُول الْأَرْبَعَة الأولى لَا تسمع دَعْوَاهُ بعد ذَلِك أَنِّي وجدته زُيُوفًا وَلم يكن لَهُ حق استحلاف رب السّلم بِاللَّه إِنَّهَا لَيست من دراهمك الَّتِي قبضتها مِنْك لِأَنَّهُ بِإِقْرَارِهِ بِقَبض الْجِيَاد يصير مناقضا فِي دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ أقرّ بِقَبض الْجِيَاد ثمَّ قَالَ لم أَقبض الْجِيَاد بل هِيَ زيوف والمناقضة تمنع صِحَة الدَّعْوَى وَالْحلف بِنَاء على الدَّعْوَى الصَّحِيحَة
وَأما إِذا قَالَ الْمُسلم إِلَيْهِ قبضت الدَّرَاهِم ثمَّ قَالَ هِيَ زيوف فَالْقِيَاس أَن يكون القَوْل قَول رب السّلم إِنَّهَا لَيست من دَرَاهِمه مَعَ يَمِينه
على ذَلِك وعَلى الْمُسلم إِلَيْهِ الْبَيِّنَة أَنَّهَا من الدَّرَاهِم الَّتِي قبضهَا مِنْهُ لِأَن الْمُسلم إِلَيْهِ يَدعِي أَنَّهَا مَقْبُوضَة مَعَ الْعَيْب وَرب السّلم يُنكر أَنَّهَا مَقْبُوضَة أَو أَنَّهَا الَّتِي قبضهَا مِنْهُ وَيكون القَوْل قَول الْمُنكر مَعَ يَمِينه
وَفِي الِاسْتِحْسَان القَوْل قَول الْمُسلم إِلَيْهِ مَعَ يَمِينه وعَلى رب السّلم الْبَيِّنَة أَنه أعطَاهُ الْجِيَاد لِأَن رب السّلم بإنكاره أَنَّهَا لَيست من دَرَاهِمه يَدعِي إِيفَاء حَقه وَهُوَ الْجِيَاد وَالْمُسلم إِلَيْهِ بِدَعْوَاهُ أَن هَذِه الدَّرَاهِم قبضتها مِنْك وَإِنَّهَا زيوف يُنكر قبض حَقه فَيكون القَوْل قَوْله مَعَ يَمِينه أَنه لم يقبض حَقه وعَلى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَة أَنه أوفاه حَقه
وَهَذَا هُوَ الْقيَاس فِي الْفُصُول الْأُخَر إِلَّا أَن ثمَّة سبق مِنْهُ مَا يُنَاقض دَعْوَاهُ وَهُوَ الْإِقْرَار بالجياد وَهَهُنَا لم يسْبق لِأَن ذكر قبض الدَّرَاهِم يَقع على الزُّيُوف والجياد جَمِيعًا بِخِلَاف الْفُصُول الأولى
وَأما إِذا قَالَ قبضت لَا غير ثمَّ قَالَ وجدته زُيُوفًا يكون القَوْل قَوْله كَمَا قُلْنَا فِي الْفَصْل الأول إِلَّا أَن هَهُنَا إِذا قَالَ وجدته ستوقة أَو رصاصا فَإِنَّهُ يصدق بِخِلَاف مَا إِذا قَالَ قبضت الدَّرَاهِم ثمَّ قَالَ وَجدتهَا ستوقة أَو رصاصا فَإِنَّهُ لَا يقبل قَوْله لِأَن فِي قَوْله قبضت إِقْرَارا بِمُطلق الْقَبْض والستوقة تقبض فبقوله مَا قَبضته ستوقة لَا يكون مناقضا وَفِي قَوْله قبضت الدَّرَاهِم يصير مناقضا لقَوْله قبضت الستوقة والرصاص لِأَنَّهُ خلاف جنس الدَّرَاهِم
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
بَاب الرِّبَا
بَاب الرِّبَا
الرِّبَا نَوْعَانِ رَبًّا الْفضل وَربا النِّسَاء
فَالْأول هُوَ فضل عين مَال على المعيار الشَّرْعِيّ وَهُوَ الْكَيْل وَالْوَزْن عِنْد اتِّحَاد الْجِنْس
وَالثَّانِي هُوَ فضل الْحُلُول على الْأَجَل وَفضل الْعين على الدّين فِي المكيلين والموزونين عِنْد اخْتِلَاف الْجِنْس أَو فِي غير المكيلين وَغير الموزونين عِنْد اتِّحَاد الْجِنْس
وَعلة رَبًّا الْفضل هِيَ الْقدر الْمُتَّفق مَعَ الْجِنْس أَعنِي الْكَيْل فِي المكيلات وَالْوَزْن فِي الْأَثْمَان والمثمنات
وَعلة رَبًّا النِّسَاء هِيَ وجود أحد وصفي عِلّة رَبًّا الْفضل وَهِي الْكَيْل فِي المكيلات أَو الْوَزْن الْمُتَّفق أَعنِي أَن يَكُونَا ثمنين أَو مثمنين لِأَن وزن الثّمن يُخَالف وزن الْمُثمن
وَهَذَا عندنَا وَعند الشَّافِعِي رَبًّا الْفضل هُوَ الْفضل الْمُطلق من حَيْثُ الذَّات أَو حُرْمَة بيع المطعوم بِجِنْسِهِ ثمَّ التَّسَاوِي فِي المعيار الشَّرْعِيّ مَعَ الْيَد مخلص عَن هَذِه الْحُرْمَة بطرِيق الرُّخْصَة
وَربا النِّسَاء هُوَ فضل الْحُلُول فِي المطعومات والأثمان
وَعلة رَبًّا الْفضل هِيَ الطّعْم فِي المطعومات والثمنية فِي الْأَثْمَان الْمُطلقَة وَهِي الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْجِنْس شَرط
وَعلة رَبًّا النِّسَاء هِيَ عِلّة رَبًّا الْفضل دون الْجِنْس وَهِي الطّعْم أَو الثمنية
وَدَلَائِل هَذِه الْجُمْلَة تعرف فِي الخلافيات
وَفَائِدَة الْخلاف فِي رَبًّا الْفضل تظهر فِي فصلين أَحدهمَا فِي بيع مطعوم بِجِنْسِهِ غير مُقَدّر كَبيع الحفنة بالحفنتين والسفرجلة بالسفرجلتين والبطيخة بالبطيختين وَنَحْوهَا يجوز عندنَا لعدم الْقدر وَلَا يجوز عِنْده لوُجُود الْعلَّة وَهِي الطّعْم
وَالثَّانِي فِي بيع مُقَدّر بمقدر غير مطعوم كَبيع قفيز جص بقفيزي جص أَو من من حَدِيد بمنوي حَدِيد وَنَحْوهمَا لَا يجوز عندنَا فِي الجص لوُجُود عِلّة رَبًّا الْفضل وَهِي الْكَيْل وَالْجِنْس وَعِنْده يجوز لعدم الْعلَّة وَهِي الطّعْم
وَفِي الْحَدِيد لَا يجوز عندنَا لوُجُود الْوَزْن وَالْجِنْس وَعِنْده يجوز لعدم الثمنية والطعم
وَأَجْمعُوا أَنه لَو بَاعَ قفيز أرز بقفيزي أرز لَا يجوز لوُجُود الْكَيْل وَالْجِنْس عندنَا ولوجود الْجِنْس والطعم عِنْده
وَأَجْمعُوا أَنه إِذا بَاعَ من زعفران بمنوي زعفران أَو من سكر بمنوي سكر لَا يجوز لوُجُود الْوَزْن وَالْجِنْس عندنَا ولوجود الطّعْم وَالْجِنْس عِنْده
وَأما فروع رَبًّا النِّسَاء وَفَائِدَة الْخلاف بَيْننَا وَبَين الشَّافِعِي أَنه إِذا بَاعَ قفيز حِنْطَة بقفيزي شعير نَسِيئَة مُؤَجّلَة أَو دينا مَوْصُوفا فِي الذِّمَّة غير مُؤَجل لَا يجوز بِالْإِجْمَاع لوُجُود عِلّة رَبًّا النِّسَاء وَهِي أحد وصفي عِلّة رَبًّا الْفضل وَهِي الْكَيْل عندنَا والطعم عِنْده
وَإِذا بَاعَ قفيز جص بقفيزي نورة مُؤَجّلا بِأَن أسلم أَو غير مُؤَجل بِأَن بَاعَ دينا فِي الْخدمَة وَلَا يجوز عندنَا لوُجُود الْكَيْل وَعِنْده يجوز لعدم الطّعْم
وَلَو أسلم من حَدِيد فِي مني حَدِيد لَا يجوز عندنَا لوُجُود الْوَزْن الْمُتَّفق لِكَوْنِهِمَا موزونين وَعِنْده يجوز لعدم الطّعْم والثمنية
وَلَو بَاعَ من سكر بِمن زعفران دينا فِي الذِّمَّة لَا يجوز بِالْإِجْمَاع لوُجُود أحد وصفي عِلّة رَبًّا الْفضل وَهُوَ الْوَزْن الْمُتَّفق عندنَا لِأَنَّهُمَا مثمنان ولوجود الطّعْم عِنْده
وَلَو أسلم دَرَاهِم فِي زعفران أَو فِي قطن أَو حَدِيد فَإِنَّهُ يجوز بِالْإِجْمَاع أما عندنَا فَلِأَنَّهُ لم يُوجد الْوَزْن الْمُتَّفق فَإِن الدَّرَاهِم توزن بالمثاقيل والقطن وَالْحَدِيد والزعفران يُوزن بالقبان
وَلَو أسلم نقرة فضَّة فِي نقرة ذهب لَا يجوز بِالْإِجْمَاع لوُجُود الْوَزْن الْمُتَّفق عندنَا فَإِنَّهُمَا يوزنان بالمثاقيل وَعِنْده لوُجُود الثمنية
وَلَو أسلم الْحِنْطَة فِي الزَّيْت جَازَ عندنَا لِأَن أَحدهمَا مَكِيل وَالْآخر مَوْزُون فَكَانَا مُخْتَلفين قدرا على قَوْله لَا يجوز لوُجُود الطّعْم
فَأَما تَفْسِير الْجِنْس بِانْفِرَادِهِ إِذا أسلم ثوبا هرويا فِي ثوب ههروي لَا يجوز عندنَا لِأَن الْجِنْس أحد وصفي عِلّة رَبًّا الْفضل فَيحرم النِّسَاء وَعند الشَّافِعِي يجوز لِأَن الْجِنْس عِنْده شَرط
وَلَو أسلم ثوبا هرويا فِي ثوب مَرْوِيّ جَازَ بِالْإِجْمَاع لِأَنَّهُ لم يُوجد
الْجِنْس وَلَا الْوَزْن الْمُتَّفق وَلَا الطّعْم وَلَا الثمنية
وَلَو أسلم جوزة فِي جوزة أَو سفرجلة فِي سفرجلة لَا يجوز بِالْإِجْمَاع لوُجُود الْجِنْس عندنَا ولوجود الطّعْم عِنْده
ثمَّ فرق بَين الْمكيل وَالْمَوْزُون وَبَين الثَّوْب وَالثَّوْب من وَجه وَهُوَ أَن رَبًّا النِّسَاء لَا يتَحَقَّق فِي الثَّوْب إِلَّا بطرِيق السّلم لِأَن الثِّيَاب لَا تثبت دينا فِي الذِّمَّة إِلَّا سلما فَأَما فِي الْمكيل وَالْمَوْزُون فَيتَحَقَّق رَبًّا النِّسَاء مُؤَجّلا وَحَالا دينا مَوْصُوفا فِي الذِّمَّة
بَيَانه لَو أسلم ثوبا هرويا فِي ثوب هروي لَا يجوز لِأَنَّهُ مُؤَجل
وَلَو بَاعَ ثوبا هرويا بِثَوْب هروي مَوْصُوف فِي الذِّمَّة حَالا لَا يجوز لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يكون ثمنا إِلَّا بِاعْتِبَار رَبًّا النِّسَاء
وَلَو بَاعَ قفيز حِنْطَة بِعَينهَا بقفيزي شعير مَوْصُوف فِي الذِّمَّة دينا غير مُؤَجل لَا يجوز لِأَن الْعين خير من الدّين وَإِن كَانَ حَالا
الرِّبَا نَوْعَانِ رَبًّا الْفضل وَربا النِّسَاء
فَالْأول هُوَ فضل عين مَال على المعيار الشَّرْعِيّ وَهُوَ الْكَيْل وَالْوَزْن عِنْد اتِّحَاد الْجِنْس
وَالثَّانِي هُوَ فضل الْحُلُول على الْأَجَل وَفضل الْعين على الدّين فِي المكيلين والموزونين عِنْد اخْتِلَاف الْجِنْس أَو فِي غير المكيلين وَغير الموزونين عِنْد اتِّحَاد الْجِنْس
وَعلة رَبًّا الْفضل هِيَ الْقدر الْمُتَّفق مَعَ الْجِنْس أَعنِي الْكَيْل فِي المكيلات وَالْوَزْن فِي الْأَثْمَان والمثمنات
وَعلة رَبًّا النِّسَاء هِيَ وجود أحد وصفي عِلّة رَبًّا الْفضل وَهِي الْكَيْل فِي المكيلات أَو الْوَزْن الْمُتَّفق أَعنِي أَن يَكُونَا ثمنين أَو مثمنين لِأَن وزن الثّمن يُخَالف وزن الْمُثمن
وَهَذَا عندنَا وَعند الشَّافِعِي رَبًّا الْفضل هُوَ الْفضل الْمُطلق من حَيْثُ الذَّات أَو حُرْمَة بيع المطعوم بِجِنْسِهِ ثمَّ التَّسَاوِي فِي المعيار الشَّرْعِيّ مَعَ الْيَد مخلص عَن هَذِه الْحُرْمَة بطرِيق الرُّخْصَة
وَربا النِّسَاء هُوَ فضل الْحُلُول فِي المطعومات والأثمان
وَعلة رَبًّا الْفضل هِيَ الطّعْم فِي المطعومات والثمنية فِي الْأَثْمَان الْمُطلقَة وَهِي الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْجِنْس شَرط
وَعلة رَبًّا النِّسَاء هِيَ عِلّة رَبًّا الْفضل دون الْجِنْس وَهِي الطّعْم أَو الثمنية
وَدَلَائِل هَذِه الْجُمْلَة تعرف فِي الخلافيات
وَفَائِدَة الْخلاف فِي رَبًّا الْفضل تظهر فِي فصلين أَحدهمَا فِي بيع مطعوم بِجِنْسِهِ غير مُقَدّر كَبيع الحفنة بالحفنتين والسفرجلة بالسفرجلتين والبطيخة بالبطيختين وَنَحْوهَا يجوز عندنَا لعدم الْقدر وَلَا يجوز عِنْده لوُجُود الْعلَّة وَهِي الطّعْم
وَالثَّانِي فِي بيع مُقَدّر بمقدر غير مطعوم كَبيع قفيز جص بقفيزي جص أَو من من حَدِيد بمنوي حَدِيد وَنَحْوهمَا لَا يجوز عندنَا فِي الجص لوُجُود عِلّة رَبًّا الْفضل وَهِي الْكَيْل وَالْجِنْس وَعِنْده يجوز لعدم الْعلَّة وَهِي الطّعْم
وَفِي الْحَدِيد لَا يجوز عندنَا لوُجُود الْوَزْن وَالْجِنْس وَعِنْده يجوز لعدم الثمنية والطعم
وَأَجْمعُوا أَنه لَو بَاعَ قفيز أرز بقفيزي أرز لَا يجوز لوُجُود الْكَيْل وَالْجِنْس عندنَا ولوجود الْجِنْس والطعم عِنْده
وَأَجْمعُوا أَنه إِذا بَاعَ من زعفران بمنوي زعفران أَو من سكر بمنوي سكر لَا يجوز لوُجُود الْوَزْن وَالْجِنْس عندنَا ولوجود الطّعْم وَالْجِنْس عِنْده
وَأما فروع رَبًّا النِّسَاء وَفَائِدَة الْخلاف بَيْننَا وَبَين الشَّافِعِي أَنه إِذا بَاعَ قفيز حِنْطَة بقفيزي شعير نَسِيئَة مُؤَجّلَة أَو دينا مَوْصُوفا فِي الذِّمَّة غير مُؤَجل لَا يجوز بِالْإِجْمَاع لوُجُود عِلّة رَبًّا النِّسَاء وَهِي أحد وصفي عِلّة رَبًّا الْفضل وَهِي الْكَيْل عندنَا والطعم عِنْده
وَإِذا بَاعَ قفيز جص بقفيزي نورة مُؤَجّلا بِأَن أسلم أَو غير مُؤَجل بِأَن بَاعَ دينا فِي الْخدمَة وَلَا يجوز عندنَا لوُجُود الْكَيْل وَعِنْده يجوز لعدم الطّعْم
وَلَو أسلم من حَدِيد فِي مني حَدِيد لَا يجوز عندنَا لوُجُود الْوَزْن الْمُتَّفق لِكَوْنِهِمَا موزونين وَعِنْده يجوز لعدم الطّعْم والثمنية
وَلَو بَاعَ من سكر بِمن زعفران دينا فِي الذِّمَّة لَا يجوز بِالْإِجْمَاع لوُجُود أحد وصفي عِلّة رَبًّا الْفضل وَهُوَ الْوَزْن الْمُتَّفق عندنَا لِأَنَّهُمَا مثمنان ولوجود الطّعْم عِنْده
وَلَو أسلم دَرَاهِم فِي زعفران أَو فِي قطن أَو حَدِيد فَإِنَّهُ يجوز بِالْإِجْمَاع أما عندنَا فَلِأَنَّهُ لم يُوجد الْوَزْن الْمُتَّفق فَإِن الدَّرَاهِم توزن بالمثاقيل والقطن وَالْحَدِيد والزعفران يُوزن بالقبان
وَلَو أسلم نقرة فضَّة فِي نقرة ذهب لَا يجوز بِالْإِجْمَاع لوُجُود الْوَزْن الْمُتَّفق عندنَا فَإِنَّهُمَا يوزنان بالمثاقيل وَعِنْده لوُجُود الثمنية
وَلَو أسلم الْحِنْطَة فِي الزَّيْت جَازَ عندنَا لِأَن أَحدهمَا مَكِيل وَالْآخر مَوْزُون فَكَانَا مُخْتَلفين قدرا على قَوْله لَا يجوز لوُجُود الطّعْم
فَأَما تَفْسِير الْجِنْس بِانْفِرَادِهِ إِذا أسلم ثوبا هرويا فِي ثوب ههروي لَا يجوز عندنَا لِأَن الْجِنْس أحد وصفي عِلّة رَبًّا الْفضل فَيحرم النِّسَاء وَعند الشَّافِعِي يجوز لِأَن الْجِنْس عِنْده شَرط
وَلَو أسلم ثوبا هرويا فِي ثوب مَرْوِيّ جَازَ بِالْإِجْمَاع لِأَنَّهُ لم يُوجد
الْجِنْس وَلَا الْوَزْن الْمُتَّفق وَلَا الطّعْم وَلَا الثمنية
وَلَو أسلم جوزة فِي جوزة أَو سفرجلة فِي سفرجلة لَا يجوز بِالْإِجْمَاع لوُجُود الْجِنْس عندنَا ولوجود الطّعْم عِنْده
ثمَّ فرق بَين الْمكيل وَالْمَوْزُون وَبَين الثَّوْب وَالثَّوْب من وَجه وَهُوَ أَن رَبًّا النِّسَاء لَا يتَحَقَّق فِي الثَّوْب إِلَّا بطرِيق السّلم لِأَن الثِّيَاب لَا تثبت دينا فِي الذِّمَّة إِلَّا سلما فَأَما فِي الْمكيل وَالْمَوْزُون فَيتَحَقَّق رَبًّا النِّسَاء مُؤَجّلا وَحَالا دينا مَوْصُوفا فِي الذِّمَّة
بَيَانه لَو أسلم ثوبا هرويا فِي ثوب هروي لَا يجوز لِأَنَّهُ مُؤَجل
وَلَو بَاعَ ثوبا هرويا بِثَوْب هروي مَوْصُوف فِي الذِّمَّة حَالا لَا يجوز لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يكون ثمنا إِلَّا بِاعْتِبَار رَبًّا النِّسَاء
وَلَو بَاعَ قفيز حِنْطَة بِعَينهَا بقفيزي شعير مَوْصُوف فِي الذِّمَّة دينا غير مُؤَجل لَا يجوز لِأَن الْعين خير من الدّين وَإِن كَانَ حَالا
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
بَاب الشِّرَاء وَالْبيع
بَاب الشِّرَاء وَالْبيع
يحْتَاج فِي هَذَا الْبَاب إِلَى بَيَان ركن البيع وَالشِّرَاء وَبَيَان شُرُوطه وَبَيَان أقسامه وَبَيَان حكمه شرعا
أما بَيَان الرُّكْن فَهُوَ الْإِيجَاب من البَائِع وَالْقَبُول من المُشْتَرِي إِلَّا أَن ذَلِك قد يكون بلفظين وَقد لَا يتَحَقَّق إِلَّا بِثَلَاثَة أَلْفَاظ
أما مَا يتَحَقَّق بلفظين فقد يكون بِدُونِ النِّيَّة وَقد يكون مَعَ النِّيَّة
أما من غير النِّيَّة فبأن يكون اللفظان بِصِيغَة الْمَاضِي نَحْو أَن يَقُول البَائِع بِعْت مِنْك هَذَا العَبْد بِكَذَا فَقَالَ المُشْتَرِي ابتعت أَو اشْتريت أَو مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ كَقَوْلِه أخذت وَقبلت ورضيت وَفعلت وَنَحْو ذَلِك لِأَن هَذَا فِي عرف أهل اللُّغَة وَالشَّرْع مُسْتَعْمل لإِيجَاب الْملك للْحَال بعوض وَإِن كَانَ بِصِيغَة الْمَاضِي
وَكَذَلِكَ إِذا بَدَأَ المُشْتَرِي فَقَالَ اشْتريت مِنْك هَذَا العَبْد بِكَذَا فَقَالَ البَائِع بِعته مِنْك أَو أَعْطيته أَو بذلته أَو رضيت أَو هولك
وَأما الَّذِي لَا ينْعَقد بِدُونِ النِّيَّة فَأن يخبر عَن نَفسه فِي الْمُسْتَقْبل بِلَفْظَة الِاسْتِقْبَال وَهُوَ أَن يَقُول البَائِع أبيع مِنْك هَذَا العَبْد بِأَلف أَو أبذله أَو أعطيكه
فَقَالَ المُشْتَرِي اشتريه بذلك أَو آخذه ونويا الْإِيجَاب للْحَال أَو كَانَ أَحدهمَا بِلَفْظ الْمَاضِي وَالْآخر بِلَفْظ الْمُسْتَقْبل مَعَ نِيَّة الْإِيجَاب للْحَال فَإِنَّهُ ينْعَقد البيع لِأَن صِيغَة الِاسْتِقْبَال تحْتَمل الْحَال فَصحت النِّيَّة
وَإِن كَانَ أَحدهمَا بِلَفْظ الِاسْتِفْهَام بِأَن قَالَ أتبيع مني هَذَا الشَّيْء فَقَالَ بِعْت وَنوى لَا ينْعَقد البيع لِأَن لفظ الِاسْتِفْهَام لَا يسْتَعْمل للْحَال إِذا أمكن الْعَمَل بِحَقِيقَة الِاسْتِفْهَام
فَأَما إِذا كَانَ بلفظين يعبر بهما عَن الْمُسْتَقْبل إِمَّا على سَبِيل الْأَمر أَو الْخَبَر أَو بِأَحَدِهِمَا من غير نِيَّة الْحَال فَإِنَّهُ لَا ينْعَقد البيع عندنَا وَذَلِكَ أَن يَقُول البَائِع اشْتَرِ مني هَذَا العَبْد بِأَلف دِرْهَم فَقَالَ المُشْتَرِي اشْتريت أَو قَالَ المُشْتَرِي بِعْ مني هَذَا العَبْد فَقَالَ بِعْت أَو قَالَ البَائِع أبيع هَذَا العَبْد مِنْك بِأَلف دِرْهَم فَقَالَ المُشْتَرِي اشْتريت
وَفِي بَاب النِّكَاح إِذا كَانَ أحد اللَّفْظَيْنِ يعبر بِهِ عَن الْأَمر أَو الْخَبَر فِي الْمُسْتَقْبل بِأَن قَالَ زوجيني نَفسك بِأَلف دِرْهَم فَقَالَت زوجت أَو قَالَ الزَّوْج أتزوجك على ألف دِرْهَم فَقَالَت زوجت نَفسِي مِنْك بذلك ينْعَقد النِّكَاح
وَقَالَ الشَّافِعِي البيع وَالنِّكَاح سَوَاء ينعقدان بلفظين يعبر بِأَحَدِهِمَا عَن الْمَاضِي وَالْآخر عَن الْحَال من غير نِيَّة
فَأَما إِذا كَانَ أحد اللَّفْظَيْنِ بطرِيق الِاسْتِفْهَام فَإِنَّهُ لَا ينْعَقد النِّكَاح وَالْبيع بِالْإِجْمَاع
وَالصَّحِيح مَذْهَبنَا فَإِن البيع فِي الْعرف غَالِبا لَا يكون بِنَاء على مُقَدمَات وَلَفظ الْمُسْتَقْبل للعدة فِي الأَصْل وَلَفظ الْأَمر للمساومة فَيحمل على حَقِيقَته إِلَّا بِدَلِيل
وَلم يُوجد بِخِلَاف النِّكَاح فَإِنَّهُ بِنَاء على مُقَدّمَة الْخطْبَة فَلَا يحمل على المساومة بِدلَالَة الْعَادة
وَأما إِذا وجد ثَلَاثَة أَلْفَاظ بِأَن قَالَ المُشْتَرِي بِعْ عَبدك هَذَا مني بِأَلف دِرْهَم فَقَالَ البَائِع بِعْت فَقَالَ المُشْتَرِي اشْتريت فَإِنَّهُ ينْعَقد بِالْإِجْمَاع
فَأَما إِذا تبَايعا وهما يمشيان أَو يسيران على دَابَّة وَاحِدَة أَو دابتين فَإِن كَانَ الْإِيجَاب وَالْقَبُول متصلين وَخرج الكلامان من غير فصل بَينهمَا فَإِنَّهُ يَصح البيع فَأَما إِذا كَانَ بَينهمَا فصل وسكوت وَإِن قل فَإِنَّهُ لَا يَصح لِأَن الْمجْلس يتبدل بِالْمَشْيِ وَالسير هَكَذَا قَالَ عَامَّة مَشَايِخنَا وقاسوا على آيَة السَّجْدَة وَخيَار المخيرة
وَقَالَ بعض مَشَايِخنَا إِذا تبَايعا فِي حَال السّير وَالْمَشْي فَوجدَ الْإِيجَاب مُنْفَصِلا عَن الْقبُول فَإِنَّهُ ينْعَقد مَا لم يفترقا بأبدانهما وَإِن وجد الْقبُول بعد الِافْتِرَاق لَا يجوز لِأَن الْقيام عَن الْمجْلس دَلِيل الْإِعْرَاض عَن الْجَواب فَأَما السّير بِلَا افْتِرَاق فَلَيْسَ بِدَلِيل الْإِعْرَاض فصح الْقبُول وَيكون جَوَابا وَهَكَذَا قَالُوا فِي خِيَار المخيرة
أما فِي تِلَاوَة السَّجْدَة فبخلافه لِأَن الأَصْل أَن تجب السَّجْدَة لكل تِلَاوَة لَكِن جعلت التلاوات كتلاوة وَاحِدَة عِنْد اتِّحَاد الْمجْلس والمجلس يخْتَلف بالسير حَقِيقَة
وَلَو وَقفا وتبايعا جَازَ وَإِن وجد الْقبُول بعد الْإِيجَاب بسكتة لِاتِّحَاد الْمجْلس
فَأَما إِذا وَقفا فَأوجب أَحدهمَا البيع فَسَار الآخر وَلم يقبل ثمَّ قبل بعد ذَلِك لَا يَصح وَيجْعَل سيره دَلِيل الْإِعْرَاض
وَكَذَا لَو سَار البَائِع قبل أَن يقبل المُشْتَرِي لِأَنَّهُ دَلِيل الْإِعْرَاض أَيْضا وَإنَّهُ يملك الرُّجُوع فِي إِيجَاب البيع
وَلَو خير امْرَأَته بَعْدَمَا وَقفا ثمَّ سَار الرجل وَبقيت الْمَرْأَة واقفة فلهَا الْخِيَار لِأَن الْعبْرَة بجانبها فَمَا دَامَت فِي مجلسها فَلم يُوجد مِنْهَا دَلِيل الْإِعْرَاض وَكَلَام الزَّوْج لَا يبطل بِالْإِعْرَاضِ
هَذَا إِذا كَانَ العاقدان حاضرين فِي الْمجْلس
فَأَما إِذا كَانَ أَحدهمَا غَائِبا فَوجدَ من أَحدهَا البيع أَو الشِّرَاء فَإِنَّهُ لَا يتَوَقَّف
بَيَانه أَن من قَالَ بِعْت عَبدِي هَذَا من فلَان الْغَائِب بِأَلف دِرْهَم فَبَلغهُ الْخَبَر فَقبل لَا يَصح لِأَن شطر البيع لَا يتَوَقَّف بِالْإِجْمَاع
وَلَو قَالَ بِعْت عَبدِي هَذَا بِأَلف دِرْهَم من فلَان بَين يَدي رجل وَقَالَ لَهُ اذْهَبْ إِلَى فلَان وَقل لَهُ: إِن فلَانا بَاعَ عَبده فلَانا مِنْك بِأَلف دِرْهَم فجَاء الرَّسُول وَأخْبرهُ بِمَا قَالَ فَقَالَ المُشْتَرِي فِي مَجْلِسه ذَلِك: اشْتريت أَو قبلت تمّ البيع بَينهمَا لِأَن الرَّسُول معبر وسفير فينقل كَلَامه إِلَيْهِ فَإِذا اتَّصل بِهِ الْجَواب ينْعَقد وَكَذَا الْكتاب على هَذَا بِأَن كتب إِلَى رجل وَقَالَ أما بعد فقد بِعْت عَبدِي فلَانا مِنْك بِأَلف دِرْهَم فَلَمَّا بلغه الْكتاب وَقَرَأَ وَفهم مَا فِيهِ قَالَ فِي مَجْلِسه ذَلِك: اشْتريت أَو قبلت ينْعَقد البيع لِأَن الْخطاب وَالْجَوَاب من الْغَائِب بِالْكتاب يكون
وعَلى هَذَا الْجَواب فِي الْإِجَارَة وَالْهِبَة وَالْكِتَابَة فَأَما فِي الْخلْع وَالْعِتْق على مَال فَإِنَّهُ يتَوَقَّف شطر العقد من الزَّوْج وَالْمولى على قبُول الآخر وَرَاء الْمجْلس بِالْإِجْمَاع فَإِن من قَالَ: خلعت امْرَأَتي فُلَانَة الغائبة على ألف دِرْهَم فبلغها الْخَبَر فأجازت أَو قبلت صَحَّ وَكَذَا إِذا قَالَ: اعتقت عَبدِي فلَانا الْغَائِب بِأَلف دِرْهَم فَإِنَّهُ يتَوَقَّف على إجَازَة العَبْد فَأَما فِي جَانب الْمَرْأَة وَالْعَبْد: فَلَا يتَوَقَّف إِذا كَانَ الزَّوْج وَالْمولى غائبين فَأَما فِي النِّكَاح فَلَا يتَوَقَّف الشّطْر عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد وعَلى قَول أبي يُوسُف: يتَوَقَّف ثمَّ فِي كل مَوضِع لَا يتَوَقَّف شطر العقد فَإِنَّهُ يجوز من الْعَاقِد الرُّجُوع عَنهُ وَلَا يجوز تَعْلِيقه بِالشُّرُوطِ والإخطار لِأَنَّهُ عقد مُعَاوضَة وَفِي كل مَوضِع يتَوَقَّف شطر العقد كالخلع وَالْعِتْق على مَال لَا يَصح الرُّجُوع عَنهُ وَيصِح التَّعْلِيق بِالشُّرُوطِ لِأَنَّهُ فِي جَانب الزَّوْج وَالْمولى بِمَنْزِلَة التَّعْلِيق وَفِي جَانبهَا بِمَنْزِلَة الْمُعَاوضَة
يحْتَاج فِي هَذَا الْبَاب إِلَى بَيَان ركن البيع وَالشِّرَاء وَبَيَان شُرُوطه وَبَيَان أقسامه وَبَيَان حكمه شرعا
أما بَيَان الرُّكْن فَهُوَ الْإِيجَاب من البَائِع وَالْقَبُول من المُشْتَرِي إِلَّا أَن ذَلِك قد يكون بلفظين وَقد لَا يتَحَقَّق إِلَّا بِثَلَاثَة أَلْفَاظ
أما مَا يتَحَقَّق بلفظين فقد يكون بِدُونِ النِّيَّة وَقد يكون مَعَ النِّيَّة
أما من غير النِّيَّة فبأن يكون اللفظان بِصِيغَة الْمَاضِي نَحْو أَن يَقُول البَائِع بِعْت مِنْك هَذَا العَبْد بِكَذَا فَقَالَ المُشْتَرِي ابتعت أَو اشْتريت أَو مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ كَقَوْلِه أخذت وَقبلت ورضيت وَفعلت وَنَحْو ذَلِك لِأَن هَذَا فِي عرف أهل اللُّغَة وَالشَّرْع مُسْتَعْمل لإِيجَاب الْملك للْحَال بعوض وَإِن كَانَ بِصِيغَة الْمَاضِي
وَكَذَلِكَ إِذا بَدَأَ المُشْتَرِي فَقَالَ اشْتريت مِنْك هَذَا العَبْد بِكَذَا فَقَالَ البَائِع بِعته مِنْك أَو أَعْطيته أَو بذلته أَو رضيت أَو هولك
وَأما الَّذِي لَا ينْعَقد بِدُونِ النِّيَّة فَأن يخبر عَن نَفسه فِي الْمُسْتَقْبل بِلَفْظَة الِاسْتِقْبَال وَهُوَ أَن يَقُول البَائِع أبيع مِنْك هَذَا العَبْد بِأَلف أَو أبذله أَو أعطيكه
فَقَالَ المُشْتَرِي اشتريه بذلك أَو آخذه ونويا الْإِيجَاب للْحَال أَو كَانَ أَحدهمَا بِلَفْظ الْمَاضِي وَالْآخر بِلَفْظ الْمُسْتَقْبل مَعَ نِيَّة الْإِيجَاب للْحَال فَإِنَّهُ ينْعَقد البيع لِأَن صِيغَة الِاسْتِقْبَال تحْتَمل الْحَال فَصحت النِّيَّة
وَإِن كَانَ أَحدهمَا بِلَفْظ الِاسْتِفْهَام بِأَن قَالَ أتبيع مني هَذَا الشَّيْء فَقَالَ بِعْت وَنوى لَا ينْعَقد البيع لِأَن لفظ الِاسْتِفْهَام لَا يسْتَعْمل للْحَال إِذا أمكن الْعَمَل بِحَقِيقَة الِاسْتِفْهَام
فَأَما إِذا كَانَ بلفظين يعبر بهما عَن الْمُسْتَقْبل إِمَّا على سَبِيل الْأَمر أَو الْخَبَر أَو بِأَحَدِهِمَا من غير نِيَّة الْحَال فَإِنَّهُ لَا ينْعَقد البيع عندنَا وَذَلِكَ أَن يَقُول البَائِع اشْتَرِ مني هَذَا العَبْد بِأَلف دِرْهَم فَقَالَ المُشْتَرِي اشْتريت أَو قَالَ المُشْتَرِي بِعْ مني هَذَا العَبْد فَقَالَ بِعْت أَو قَالَ البَائِع أبيع هَذَا العَبْد مِنْك بِأَلف دِرْهَم فَقَالَ المُشْتَرِي اشْتريت
وَفِي بَاب النِّكَاح إِذا كَانَ أحد اللَّفْظَيْنِ يعبر بِهِ عَن الْأَمر أَو الْخَبَر فِي الْمُسْتَقْبل بِأَن قَالَ زوجيني نَفسك بِأَلف دِرْهَم فَقَالَت زوجت أَو قَالَ الزَّوْج أتزوجك على ألف دِرْهَم فَقَالَت زوجت نَفسِي مِنْك بذلك ينْعَقد النِّكَاح
وَقَالَ الشَّافِعِي البيع وَالنِّكَاح سَوَاء ينعقدان بلفظين يعبر بِأَحَدِهِمَا عَن الْمَاضِي وَالْآخر عَن الْحَال من غير نِيَّة
فَأَما إِذا كَانَ أحد اللَّفْظَيْنِ بطرِيق الِاسْتِفْهَام فَإِنَّهُ لَا ينْعَقد النِّكَاح وَالْبيع بِالْإِجْمَاع
وَالصَّحِيح مَذْهَبنَا فَإِن البيع فِي الْعرف غَالِبا لَا يكون بِنَاء على مُقَدمَات وَلَفظ الْمُسْتَقْبل للعدة فِي الأَصْل وَلَفظ الْأَمر للمساومة فَيحمل على حَقِيقَته إِلَّا بِدَلِيل
وَلم يُوجد بِخِلَاف النِّكَاح فَإِنَّهُ بِنَاء على مُقَدّمَة الْخطْبَة فَلَا يحمل على المساومة بِدلَالَة الْعَادة
وَأما إِذا وجد ثَلَاثَة أَلْفَاظ بِأَن قَالَ المُشْتَرِي بِعْ عَبدك هَذَا مني بِأَلف دِرْهَم فَقَالَ البَائِع بِعْت فَقَالَ المُشْتَرِي اشْتريت فَإِنَّهُ ينْعَقد بِالْإِجْمَاع
فَأَما إِذا تبَايعا وهما يمشيان أَو يسيران على دَابَّة وَاحِدَة أَو دابتين فَإِن كَانَ الْإِيجَاب وَالْقَبُول متصلين وَخرج الكلامان من غير فصل بَينهمَا فَإِنَّهُ يَصح البيع فَأَما إِذا كَانَ بَينهمَا فصل وسكوت وَإِن قل فَإِنَّهُ لَا يَصح لِأَن الْمجْلس يتبدل بِالْمَشْيِ وَالسير هَكَذَا قَالَ عَامَّة مَشَايِخنَا وقاسوا على آيَة السَّجْدَة وَخيَار المخيرة
وَقَالَ بعض مَشَايِخنَا إِذا تبَايعا فِي حَال السّير وَالْمَشْي فَوجدَ الْإِيجَاب مُنْفَصِلا عَن الْقبُول فَإِنَّهُ ينْعَقد مَا لم يفترقا بأبدانهما وَإِن وجد الْقبُول بعد الِافْتِرَاق لَا يجوز لِأَن الْقيام عَن الْمجْلس دَلِيل الْإِعْرَاض عَن الْجَواب فَأَما السّير بِلَا افْتِرَاق فَلَيْسَ بِدَلِيل الْإِعْرَاض فصح الْقبُول وَيكون جَوَابا وَهَكَذَا قَالُوا فِي خِيَار المخيرة
أما فِي تِلَاوَة السَّجْدَة فبخلافه لِأَن الأَصْل أَن تجب السَّجْدَة لكل تِلَاوَة لَكِن جعلت التلاوات كتلاوة وَاحِدَة عِنْد اتِّحَاد الْمجْلس والمجلس يخْتَلف بالسير حَقِيقَة
وَلَو وَقفا وتبايعا جَازَ وَإِن وجد الْقبُول بعد الْإِيجَاب بسكتة لِاتِّحَاد الْمجْلس
فَأَما إِذا وَقفا فَأوجب أَحدهمَا البيع فَسَار الآخر وَلم يقبل ثمَّ قبل بعد ذَلِك لَا يَصح وَيجْعَل سيره دَلِيل الْإِعْرَاض
وَكَذَا لَو سَار البَائِع قبل أَن يقبل المُشْتَرِي لِأَنَّهُ دَلِيل الْإِعْرَاض أَيْضا وَإنَّهُ يملك الرُّجُوع فِي إِيجَاب البيع
وَلَو خير امْرَأَته بَعْدَمَا وَقفا ثمَّ سَار الرجل وَبقيت الْمَرْأَة واقفة فلهَا الْخِيَار لِأَن الْعبْرَة بجانبها فَمَا دَامَت فِي مجلسها فَلم يُوجد مِنْهَا دَلِيل الْإِعْرَاض وَكَلَام الزَّوْج لَا يبطل بِالْإِعْرَاضِ
هَذَا إِذا كَانَ العاقدان حاضرين فِي الْمجْلس
فَأَما إِذا كَانَ أَحدهمَا غَائِبا فَوجدَ من أَحدهَا البيع أَو الشِّرَاء فَإِنَّهُ لَا يتَوَقَّف
بَيَانه أَن من قَالَ بِعْت عَبدِي هَذَا من فلَان الْغَائِب بِأَلف دِرْهَم فَبَلغهُ الْخَبَر فَقبل لَا يَصح لِأَن شطر البيع لَا يتَوَقَّف بِالْإِجْمَاع
وَلَو قَالَ بِعْت عَبدِي هَذَا بِأَلف دِرْهَم من فلَان بَين يَدي رجل وَقَالَ لَهُ اذْهَبْ إِلَى فلَان وَقل لَهُ: إِن فلَانا بَاعَ عَبده فلَانا مِنْك بِأَلف دِرْهَم فجَاء الرَّسُول وَأخْبرهُ بِمَا قَالَ فَقَالَ المُشْتَرِي فِي مَجْلِسه ذَلِك: اشْتريت أَو قبلت تمّ البيع بَينهمَا لِأَن الرَّسُول معبر وسفير فينقل كَلَامه إِلَيْهِ فَإِذا اتَّصل بِهِ الْجَواب ينْعَقد وَكَذَا الْكتاب على هَذَا بِأَن كتب إِلَى رجل وَقَالَ أما بعد فقد بِعْت عَبدِي فلَانا مِنْك بِأَلف دِرْهَم فَلَمَّا بلغه الْكتاب وَقَرَأَ وَفهم مَا فِيهِ قَالَ فِي مَجْلِسه ذَلِك: اشْتريت أَو قبلت ينْعَقد البيع لِأَن الْخطاب وَالْجَوَاب من الْغَائِب بِالْكتاب يكون
وعَلى هَذَا الْجَواب فِي الْإِجَارَة وَالْهِبَة وَالْكِتَابَة فَأَما فِي الْخلْع وَالْعِتْق على مَال فَإِنَّهُ يتَوَقَّف شطر العقد من الزَّوْج وَالْمولى على قبُول الآخر وَرَاء الْمجْلس بِالْإِجْمَاع فَإِن من قَالَ: خلعت امْرَأَتي فُلَانَة الغائبة على ألف دِرْهَم فبلغها الْخَبَر فأجازت أَو قبلت صَحَّ وَكَذَا إِذا قَالَ: اعتقت عَبدِي فلَانا الْغَائِب بِأَلف دِرْهَم فَإِنَّهُ يتَوَقَّف على إجَازَة العَبْد فَأَما فِي جَانب الْمَرْأَة وَالْعَبْد: فَلَا يتَوَقَّف إِذا كَانَ الزَّوْج وَالْمولى غائبين فَأَما فِي النِّكَاح فَلَا يتَوَقَّف الشّطْر عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد وعَلى قَول أبي يُوسُف: يتَوَقَّف ثمَّ فِي كل مَوضِع لَا يتَوَقَّف شطر العقد فَإِنَّهُ يجوز من الْعَاقِد الرُّجُوع عَنهُ وَلَا يجوز تَعْلِيقه بِالشُّرُوطِ والإخطار لِأَنَّهُ عقد مُعَاوضَة وَفِي كل مَوضِع يتَوَقَّف شطر العقد كالخلع وَالْعِتْق على مَال لَا يَصح الرُّجُوع عَنهُ وَيصِح التَّعْلِيق بِالشُّرُوطِ لِأَنَّهُ فِي جَانب الزَّوْج وَالْمولى بِمَنْزِلَة التَّعْلِيق وَفِي جَانبهَا بِمَنْزِلَة الْمُعَاوضَة
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
وَأما بَيَان الشُّرُوط :وَأما أَقسَام البيع
وَأما بَيَان الشُّرُوط
فللبيع شُرُ
وَالشِّرَاء وباعا جَازَ وَنفذ عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ وَمِنْهَا: شَرط الِانْعِقَاد وَهُوَ الْمحل وَهُوَ أَن يكون مَالا مُتَقَوّما حَتَّى لَو بَاعَ الْخمر وَالْخِنْزِير وَالْميتَة وَالدَّم وَجلد الْميتَة فَإِنَّهُ لَا يجوز أصلا حَتَّى لَا يملك بِالْقَبْضِ بِخِلَاف مَا إِذا كَانَت هَذِه الْأَشْيَاء ثمنا فَإِنَّهُ ينْعَقد البيع بِالْقيمَةِ وَمِنْهَا: شَرط النَّفاذ وَهُوَ الْملك أَو الْولَايَة حَتَّى إِذا بَاعَ ملك نَفسه نفذ وَلَو بَاعَ الْوَكِيل نفذ لوُجُود الْولَايَة
وَأما أَقسَام البيع
فَنَقُول: هُوَ فِي الأَصْل قِسْمَانِ: بيع نَافِذ وَبيع مَوْقُوف فَأَما البيع النَّافِذ فَهُوَ أَن يُوجد الرُّكْن مَعَ وجود شَرط الِانْعِقَاد والنفاذ جَمِيعًا وَأما البيع الْمَوْقُوف فَهُوَ أَن يُوجد الرُّكْن مَعَ وجود شَرط الِانْعِقَاد والأهلية لَكِن لم يُوجد شَرط النَّفاذ وَهُوَ الْملك وَالْولَايَة بَيَانه: أَن الْفُضُولِيّ إِذا بَاعَ مَال غَيره من إِنْسَان أَو اشْترى لغيره شَيْئا معينا فَإِنَّهُ يتَوَقَّف على إِجَازَته عندنَا وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يتَوَقَّف ولقب الْمَسْأَلَة أَن الْعُقُود والفسوخ من الْفُضُولِيّ تتَوَقَّف على إجَازَة الْمَالِك وَإِنَّمَا ينْعَقد عندنَا على التَّوَقُّف كل عقد لَهُ مجيز حَالَة العقد فَأَما إِذا لم يكن لَهُ مجيز فَإِنَّهُ لَا يتَوَقَّف حَتَّى إِن الطَّلَاق وَالْعتاق فِي حق الْبَالِغ من الْفُضُولِيّ فَهُوَ على الْخلاف لِأَن لَهُ مجيزا فِي الْحَال فَأَما إِذا وجد الطَّلَاق الْعتاق والتبرعات من الْفُضُولِيّ الْبَالِغ فِي امْرَأَة
الصَّبِي وَالْمَجْنُون ومالهما فَإِنَّهُ لَا يتَوَقَّف لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مجيز فِي حَالَة العقد لِأَنَّهُمَا ليسَا من أهل الطَّلَاق وَالْعتاق والتبرعات وَكَذَلِكَ وليهما وَكَذَلِكَ الْأَب وَالْوَصِيّ إِذا أعتقا أَو طلقا عبد الصَّبِي أَو امْرَأَته ثمَّ إِنَّمَا يجوز العقد الْمَوْقُوف إِذا كَانَ الْمحل قَابلا لإنشاء البيع حَالَة الْإِجَازَة فَأَما إِذا لم يكن قَابلا فَلَا بِأَن هلك الْمحل بِالْإِجَازَةِ ينفذ للْحَال مُسْتَندا إِلَى مَا قبله فَلَا بُد من الْمحل فِي الْحَال وَكَذَا الْجَواب لَو كَانَ العاقدان فضوليين فَإِنَّهُ يتَوَقَّف أَيْضا على إجَازَة المالكين وَكَذَلِكَ الْجَواب فِي النِّكَاح
وَلَو كَانَ الْفُضُولِيّ الْوَاحِد بَاعَ عبد إِنْسَان من إِنْسَان وهما غائبان وَقبل عَن المُشْتَرِي أَيْضا فَإِنَّهُ لَا يتَوَقَّف وَفِي النِّكَاح إِذا قبل عَنْهُمَا لَا يتَوَقَّف أَيْضا وَبَعض مَشَايِخنَا قَالُوا: يَنْبَغِي أَن يتَوَقَّف عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَإِنَّمَا الْخلاف فِيمَا إِذا زوج رجل امْرَأَة وَلم يقبل مِنْهُ لِأَن الْوَاحِد يجوز أَن يكون وَكيلا من الْجَانِبَيْنِ وَلَا يتَوَقَّف فِي النِّكَاح وَيجوز أَن يكون وليا من الْجَانِبَيْنِ بِأَن زوج ابْنة أُخْته من ابْن أَخِيه وَالْإِجَازَة اللاحقة بِمَنْزِلَة الْوكَالَة السَّابِقَة بِخِلَاف البيع فَإِن الْوَاحِد لَا يجوز أَن يكون وَكيلا من الْجَانِبَيْنِ فَلَا يتَوَقَّف من رجل وَاحِد وَإِن وجد مِنْهُ الْإِيجَاب وَالْقَبُول جَمِيعًا ثمَّ إِنَّمَا جَازَ أَن يكون الرجل وليا ووكيلا من الْجَانِبَيْنِ فِي النِّكَاح وَفِي البيع لَا يجوز أَن يكون وَكيلا من الْجَانِبَيْنِ وَإِمَّا يجوز أَن يكون وليا من الْجَانِبَيْنِ فَإِن الْأَب إِذا اشْترى مَال الصَّبِي لنَفسِهِ أَو بَاعَ مَاله من
الصَّبِي بِمثل قِيمَته أَو بِغَبن يسير يتَغَابَن النَّاس فِي مثله: فَإِنَّهُ يجوز وَكَذَلِكَ الْوَصِيّ: إِذا اشْترى مَال الصَّبِي لنَفسِهِ أَو بَاعَ مَال نَفسه من الصَّبِي وَفِيه نفع ظَاهر للصَّبِيّ جَازَ بِلَا خلاف فَأَما إِذا كَانَ بِمثل الْقيمَة جَازَ عِنْد أبي حنيفَة وَعند مُحَمَّد لَا يجوز وَأما إِذا كَانَ بِدُونِ الْقيمَة فَلَا يجوز بِلَا خلاف وَالْفرق بَين الْفُصُول أَن الْوَلِيّ وَالْوَكِيل فِي بَاب النِّكَاح بِمَنْزِلَة الرَّسُول لِأَنَّهُ لَا يرجع إِلَيْهِ حُقُوق العقد فَأَما الْوَكِيل فِي بَاب البيع فَأصل فِي حق الْحُقُوق وللبيع حُقُوق متضادة من التَّسْلِيم والتسلم فَلَا يجوز أَن يكون الْوَاحِد فِي شَيْء وَاحِد فِي زمَان وَاحِد مُسلما ومتسلما بِخِلَاف الْأَب الْوَصِيّ لِأَن ثمَّ جعلناهما كشخصين لاخْتِلَاف الولايتين وَلَو بَاعَ العَبْد الْمَحْجُور مَال مَوْلَاهُ من إِنْسَان بِثمن مَعْلُوم فَإِنَّهُ يتَوَقَّف على إجَازَة مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة الْأَجْنَبِيّ وَلَو أذن لَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي البيع وَالشِّرَاء وَأَجَازَ ذَلِك لَا ينفذ إِلَّا بِإِجَازَة الْمولى لِأَن العَبْد الْمَأْذُون لَا يملك بيع مَال الْمولى وَإِنَّمَا يملك الشِّرَاء وَلَو اشْترى عبدا لمَوْلَاهُ بِغَيْر إِذْنه فَإِنَّهُ يتَوَقَّف على إِجَازَته وَلَو أذن لَهُ بِالتَّصَرُّفِ نفذ الشِّرَاء على مَوْلَاهُ من غير إجَازَة مُبتَدأَة لذَلِك لِأَنَّهُ بِالْإِذْنِ ملك إنْشَاء الشِّرَاء فِي حَقه فَيملك الْإِجَازَة وعَلى هَذَا: الصَّبِي الْعَاقِل إِذا بَاعَ مَاله وَهُوَ مَحْجُور فَإِنَّهُ ينْعَقد تصرفه مَوْقُوفا على إجَازَة وليه وعَلى إِذن وليه بِالتَّصَرُّفِ أَيْضا وعَلى بُلُوغه أَيْضا لِأَن فِي انْعِقَاده فَائِدَة لوُجُود الْمُجِيز للْحَال وَهُوَ الْوَلِيّ
وَهَذَا فِي التَّصَرُّفَات الدائرة بَين الضَّرَر والنفع كَالْبيع وَالْإِجَارَة فَأَما التَّصَرُّفَات الضارة كَالطَّلَاقِ وَالْعتاق وَالْهِبَة وَالصَّدَََقَة وَالْإِقْرَار فَإِنَّهُ لَا تصح وَلَا تتَوَقَّف لِأَن الْوَلِيّ لَا يملك هَذِه التَّصَرُّفَات فَلَا مجيز لَهَا الْحَال وَأما التَّصَرُّفَات النافعة كالاحتطاب والاحتشاش والاصطياد وَقبُول الْهِبَة وَالصَّدَََقَة فَتَصِح مِنْهُمَا من غير إِذن
فللبيع شُرُ
وَالشِّرَاء وباعا جَازَ وَنفذ عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ وَمِنْهَا: شَرط الِانْعِقَاد وَهُوَ الْمحل وَهُوَ أَن يكون مَالا مُتَقَوّما حَتَّى لَو بَاعَ الْخمر وَالْخِنْزِير وَالْميتَة وَالدَّم وَجلد الْميتَة فَإِنَّهُ لَا يجوز أصلا حَتَّى لَا يملك بِالْقَبْضِ بِخِلَاف مَا إِذا كَانَت هَذِه الْأَشْيَاء ثمنا فَإِنَّهُ ينْعَقد البيع بِالْقيمَةِ وَمِنْهَا: شَرط النَّفاذ وَهُوَ الْملك أَو الْولَايَة حَتَّى إِذا بَاعَ ملك نَفسه نفذ وَلَو بَاعَ الْوَكِيل نفذ لوُجُود الْولَايَة
وَأما أَقسَام البيع
فَنَقُول: هُوَ فِي الأَصْل قِسْمَانِ: بيع نَافِذ وَبيع مَوْقُوف فَأَما البيع النَّافِذ فَهُوَ أَن يُوجد الرُّكْن مَعَ وجود شَرط الِانْعِقَاد والنفاذ جَمِيعًا وَأما البيع الْمَوْقُوف فَهُوَ أَن يُوجد الرُّكْن مَعَ وجود شَرط الِانْعِقَاد والأهلية لَكِن لم يُوجد شَرط النَّفاذ وَهُوَ الْملك وَالْولَايَة بَيَانه: أَن الْفُضُولِيّ إِذا بَاعَ مَال غَيره من إِنْسَان أَو اشْترى لغيره شَيْئا معينا فَإِنَّهُ يتَوَقَّف على إِجَازَته عندنَا وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يتَوَقَّف ولقب الْمَسْأَلَة أَن الْعُقُود والفسوخ من الْفُضُولِيّ تتَوَقَّف على إجَازَة الْمَالِك وَإِنَّمَا ينْعَقد عندنَا على التَّوَقُّف كل عقد لَهُ مجيز حَالَة العقد فَأَما إِذا لم يكن لَهُ مجيز فَإِنَّهُ لَا يتَوَقَّف حَتَّى إِن الطَّلَاق وَالْعتاق فِي حق الْبَالِغ من الْفُضُولِيّ فَهُوَ على الْخلاف لِأَن لَهُ مجيزا فِي الْحَال فَأَما إِذا وجد الطَّلَاق الْعتاق والتبرعات من الْفُضُولِيّ الْبَالِغ فِي امْرَأَة
الصَّبِي وَالْمَجْنُون ومالهما فَإِنَّهُ لَا يتَوَقَّف لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مجيز فِي حَالَة العقد لِأَنَّهُمَا ليسَا من أهل الطَّلَاق وَالْعتاق والتبرعات وَكَذَلِكَ وليهما وَكَذَلِكَ الْأَب وَالْوَصِيّ إِذا أعتقا أَو طلقا عبد الصَّبِي أَو امْرَأَته ثمَّ إِنَّمَا يجوز العقد الْمَوْقُوف إِذا كَانَ الْمحل قَابلا لإنشاء البيع حَالَة الْإِجَازَة فَأَما إِذا لم يكن قَابلا فَلَا بِأَن هلك الْمحل بِالْإِجَازَةِ ينفذ للْحَال مُسْتَندا إِلَى مَا قبله فَلَا بُد من الْمحل فِي الْحَال وَكَذَا الْجَواب لَو كَانَ العاقدان فضوليين فَإِنَّهُ يتَوَقَّف أَيْضا على إجَازَة المالكين وَكَذَلِكَ الْجَواب فِي النِّكَاح
وَلَو كَانَ الْفُضُولِيّ الْوَاحِد بَاعَ عبد إِنْسَان من إِنْسَان وهما غائبان وَقبل عَن المُشْتَرِي أَيْضا فَإِنَّهُ لَا يتَوَقَّف وَفِي النِّكَاح إِذا قبل عَنْهُمَا لَا يتَوَقَّف أَيْضا وَبَعض مَشَايِخنَا قَالُوا: يَنْبَغِي أَن يتَوَقَّف عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَإِنَّمَا الْخلاف فِيمَا إِذا زوج رجل امْرَأَة وَلم يقبل مِنْهُ لِأَن الْوَاحِد يجوز أَن يكون وَكيلا من الْجَانِبَيْنِ وَلَا يتَوَقَّف فِي النِّكَاح وَيجوز أَن يكون وليا من الْجَانِبَيْنِ بِأَن زوج ابْنة أُخْته من ابْن أَخِيه وَالْإِجَازَة اللاحقة بِمَنْزِلَة الْوكَالَة السَّابِقَة بِخِلَاف البيع فَإِن الْوَاحِد لَا يجوز أَن يكون وَكيلا من الْجَانِبَيْنِ فَلَا يتَوَقَّف من رجل وَاحِد وَإِن وجد مِنْهُ الْإِيجَاب وَالْقَبُول جَمِيعًا ثمَّ إِنَّمَا جَازَ أَن يكون الرجل وليا ووكيلا من الْجَانِبَيْنِ فِي النِّكَاح وَفِي البيع لَا يجوز أَن يكون وَكيلا من الْجَانِبَيْنِ وَإِمَّا يجوز أَن يكون وليا من الْجَانِبَيْنِ فَإِن الْأَب إِذا اشْترى مَال الصَّبِي لنَفسِهِ أَو بَاعَ مَاله من
الصَّبِي بِمثل قِيمَته أَو بِغَبن يسير يتَغَابَن النَّاس فِي مثله: فَإِنَّهُ يجوز وَكَذَلِكَ الْوَصِيّ: إِذا اشْترى مَال الصَّبِي لنَفسِهِ أَو بَاعَ مَال نَفسه من الصَّبِي وَفِيه نفع ظَاهر للصَّبِيّ جَازَ بِلَا خلاف فَأَما إِذا كَانَ بِمثل الْقيمَة جَازَ عِنْد أبي حنيفَة وَعند مُحَمَّد لَا يجوز وَأما إِذا كَانَ بِدُونِ الْقيمَة فَلَا يجوز بِلَا خلاف وَالْفرق بَين الْفُصُول أَن الْوَلِيّ وَالْوَكِيل فِي بَاب النِّكَاح بِمَنْزِلَة الرَّسُول لِأَنَّهُ لَا يرجع إِلَيْهِ حُقُوق العقد فَأَما الْوَكِيل فِي بَاب البيع فَأصل فِي حق الْحُقُوق وللبيع حُقُوق متضادة من التَّسْلِيم والتسلم فَلَا يجوز أَن يكون الْوَاحِد فِي شَيْء وَاحِد فِي زمَان وَاحِد مُسلما ومتسلما بِخِلَاف الْأَب الْوَصِيّ لِأَن ثمَّ جعلناهما كشخصين لاخْتِلَاف الولايتين وَلَو بَاعَ العَبْد الْمَحْجُور مَال مَوْلَاهُ من إِنْسَان بِثمن مَعْلُوم فَإِنَّهُ يتَوَقَّف على إجَازَة مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة الْأَجْنَبِيّ وَلَو أذن لَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي البيع وَالشِّرَاء وَأَجَازَ ذَلِك لَا ينفذ إِلَّا بِإِجَازَة الْمولى لِأَن العَبْد الْمَأْذُون لَا يملك بيع مَال الْمولى وَإِنَّمَا يملك الشِّرَاء وَلَو اشْترى عبدا لمَوْلَاهُ بِغَيْر إِذْنه فَإِنَّهُ يتَوَقَّف على إِجَازَته وَلَو أذن لَهُ بِالتَّصَرُّفِ نفذ الشِّرَاء على مَوْلَاهُ من غير إجَازَة مُبتَدأَة لذَلِك لِأَنَّهُ بِالْإِذْنِ ملك إنْشَاء الشِّرَاء فِي حَقه فَيملك الْإِجَازَة وعَلى هَذَا: الصَّبِي الْعَاقِل إِذا بَاعَ مَاله وَهُوَ مَحْجُور فَإِنَّهُ ينْعَقد تصرفه مَوْقُوفا على إجَازَة وليه وعَلى إِذن وليه بِالتَّصَرُّفِ أَيْضا وعَلى بُلُوغه أَيْضا لِأَن فِي انْعِقَاده فَائِدَة لوُجُود الْمُجِيز للْحَال وَهُوَ الْوَلِيّ
وَهَذَا فِي التَّصَرُّفَات الدائرة بَين الضَّرَر والنفع كَالْبيع وَالْإِجَارَة فَأَما التَّصَرُّفَات الضارة كَالطَّلَاقِ وَالْعتاق وَالْهِبَة وَالصَّدَََقَة وَالْإِقْرَار فَإِنَّهُ لَا تصح وَلَا تتَوَقَّف لِأَن الْوَلِيّ لَا يملك هَذِه التَّصَرُّفَات فَلَا مجيز لَهَا الْحَال وَأما التَّصَرُّفَات النافعة كالاحتطاب والاحتشاش والاصطياد وَقبُول الْهِبَة وَالصَّدَََقَة فَتَصِح مِنْهُمَا من غير إِذن
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
وَأما حكم البيع
وَأما حكم البيع
فَهُوَ ثُبُوت الْملك فِي الْمَبِيع للْمُشْتَرِي وَثُبُوت الْملك فِي الثّمن للْبَائِع إِذا كَانَ البيع باتا من غير خِيَار فَأَما إِذا كَانَ فِيهِ خِيَار الرُّؤْيَة أَو الْعَيْب أَو خِيَار الشَّرْط فَالْجَوَاب على مَا نذْكر ثمَّ إِذا كَانَ البيع باتا فَلَا يملك أَحدهمَا الْفَسْخ بِدُونِ رضَا صَاحبه وَإِن لم يَتَفَرَّقَا عَن الْمجْلس وَهَذَا عندنَا وَقَالَ الشَّافِعِي: لَهما خِيَار الْفَسْخ مَا لم يَتَفَرَّقَا عَن الْمجْلس ولقب الْمَسْأَلَة أَن خِيَار الْمجْلس هَل هُوَ ثَابت شرعا فعندنا غير ثَابت وَعِنْده ثَابت وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة فَإِذا ثَبت الْملك فِي الطَّرفَيْنِ أَعنِي فِي الْمَبِيع وَالثمن جَمِيعًا وَحكم الْمَبِيع يُخَالف حكم الثّمن فِيمَا سوى ثُبُوت الْملك فَلَا بُد من بَيَان الثّمن وَالْمَبِيع فَنَقُول: إِن الْمَبِيع فِي الأَصْل مَا يتَعَيَّن بِالتَّعْيِينِ وَالثمن فِي الأَصْل مَا لَا يتَعَيَّن بِالتَّعْيِينِ وَإِن كَانَ قد يتَعَيَّن بِعَارِض فَيصير الْمَبِيع دينا كَمَا فِي
السّلم وَيصير الثّمن عينا كَبيع الْعين بِالْعينِ لَكِن الثّمن الْمُطلق هُوَ الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير وَإِنَّمَا لَا يتعينان فِي عُقُود الْمُعَاوَضَات فِي حق الِاسْتِحْقَاق وَإِن عينت وتتعين فِي حق بَيَان الْقدر وَالْجِنْس وَالصّفة وَهَذَا عندنَا وَقَالَ زفر وَالشَّافِعِيّ: تتَعَيَّن
وَأَجْمعُوا أَنَّهُمَا إِذا كَانَتَا فِي الذِّمَّة لَا يتعينان وَإِذا عينتا فعندهما حكمهمَا كَحكم الْمَبِيع وَأَجْمعُوا أَنَّهُمَا يتعينان فِي الغصوب والأمانات والوكالات وَبَيَان ذَلِك: أَن من بَاعَ عبدا بِأَلف دِرْهَم وعينها فِي الْمجْلس فَإِن البَائِع لَا يسْتَحق عينهَا حَتَّى لَو أَرَادَ المُشْتَرِي أَن يمْنَعهَا وَيرد غَيرهَا لَهُ ذَلِك وَلَكِن تتَعَيَّن فِي حق الْجِنْس حَتَّى تجب عَلَيْهِ الدَّرَاهِم وتتعين فِي حق الْقدر حَتَّى تجب عَلَيْهِ ألف دِرْهَم وتتعين فِي حق الصّفة حَتَّى إِن الدَّرَاهِم الْمعينَة فِي العقد إِذا كَانَت جَيِّدَة يجب عَلَيْهِ مثلهَا جَيِّدَة وَإِن كَانَت رَدِيئَة فَكَذَلِك وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي اسْتِحْقَاق عينهَا فِي الْمُعَاوَضَات لِأَن الْمثل يقوم مقَامهَا فِي كل عوض يكون فِي عُقُود الْمُعَاوَضَات فَكَانَ التَّعْيِين وَتَركه سَوَاء فِي حق اسْتِحْقَاق الْعين فَأَما فِي تعْيين الْجِنْس وَالْقدر وَالصّفة فَفِيهِ فَائِدَة فتتعين ثمَّ الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير أَثمَان أبدا سَوَاء كَانَت فِي مقابلتها أَمْثَالهَا أَو أَعْيَان أخر صحبتهَا حرف الْبَاء أَو لَا حَتَّى إِن فِي الْأَثْمَان يصير صرفا وَإِذا كَانَت فِي مقابلتها السّلْعَة تصير ثمنا والسلعة مَبِيع على كل حَال لِأَنَّهَا أَثمَان مُطلقَة على كل حَال فَلَا تتَعَيَّن بِالتَّعْيِينِ
فقد اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ وَأما إِذا كسد الثّمن بِأَن كَانَ الثّمن فُلُوسًا فكسدت أَو كسد بعض الدَّرَاهِم الرائجة وَهُوَ كَانَ ثمنا قبل الْقَبْض فعلى قَول أبي حنيفَة يَنْفَسِخ العقد وَجعل الكساد كالهلاك لِأَن قيام الثّمن من حَيْثُ الْمَعْنى بالرواج وعَلى قَوْلهمَا: لَا يَنْفَسِخ لَكِن يُخَيّر إِن شَاءَ أَخذ قِيمَته وَإِن شَاءَ فسخ وجعلاه كالعيب ثمَّ اخْتلفَا فِيمَا بَينهمَا فَقَالَ أَبُو يُوسُف: يعْتَبر قِيمَته يَوْم العقد لِأَن الثّمن يجب عِنْد العقد فَيضمن قِيمَته حِينَئِذٍ وَقَالَ مُحَمَّد: تعْتَبر قِيمَته فِي آخر مَا ترك النَّاس الْمُعَامَلَة بذلك لِأَنَّهُ عجز عَن التَّسْلِيم يَوْمئِذٍ وَمِنْهَا: أَنه لَا يجوز التَّصَرُّف فِي الْمَبِيع الْمَنْقُول قبل الْقَبْض بِلَا خلاف وَفِي الْعقار الْمَبِيع يجوز عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَعند مُحَمَّد وَالشَّافِعِيّ لَا يجوز وَأما الْأَثْمَان فَيجوز التَّصَرُّف فِيهَا قبل الْقَبْض لِأَنَّهَا دُيُون وَكَذَلِكَ التَّصَرُّف فِي سَائِر الدُّيُون من الْمهْر وَالْأُجْرَة وَضَمان الْمُتْلفَات وَنَحْوهَا يجوز قبل الْقَبْض وَمِنْهَا: إِذا بَاعَ عينا بِعَين فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِمَا التَّسْلِيم مَعًا تَحْقِيقا للمساواة فِي الْمُعَاوضَة الْمُقْتَضِيَة للمساواة عَادَة فَأَما إِذا كَانَ بيع الْعين بِالدّينِ فَإِنَّهُ يجب تَسْلِيم الدّين أَولا حَتَّى يتَعَيَّن ثمَّ يجب تَسْلِيم الْعين ليتساويا فَإِذا سلم المُشْتَرِي الثّمن يجب على البَائِع تَسْلِيم الْمَبِيع
وَلَو هلك الْمَبِيع قبل التَّسْلِيم فالهلاك يكون على البَائِع يَعْنِي يسْقط الثّمن وينفسخ العقد وَلَو كَانَ الثّمن مُؤَجّلا يجب تَسْلِيم الْمَبِيع للْحَال لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أسقط حق نَفسه فِي التَّأْجِيل فَلَا يسْقط حق الآخر وَإِن أجل الثّمن إِلَّا درهما لَهُ أَن يحبس كل الْمَبِيع لِأَن حق الْحَبْس مِمَّا لَا يتَجَزَّأ وَكَذَلِكَ لَو أوفى جَمِيع الثّمن إِلَّا درهما أَو أَبرَأَهُ عَن جَمِيع الثّمن إِلَّا درهما وَكَذَا فِي الرَّهْن إِذا قبض الدّين كُله أَو أَبرَأَهُ إِلَّا درهما فَإِنَّهُ يحبس كل الرَّهْن حَتَّى يصل إِلَيْهِ الْبَاقِي وَلَو دفع المُشْتَرِي إِلَى البَائِع بِالثّمن رهنا أَو كفل بِهِ كَفِيلا لَا يسْقط حق الْحَبْس لِأَن هَذَا وَثِيقَة بِالثّمن فَلَا يبطل حَقه عَن حبس الْمَبِيع لِاسْتِيفَاء الثّمن وَلَو أحَال البَائِع رجلا على المُشْتَرِي بِالثّمن وَقبل سقط حق الْحَبْس وَكَذَلِكَ إِذا أحَال المُشْتَرِي البَائِع على رجل وَهَذَا عِنْد أبي يُوسُف وَعَن مُحَمَّد رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُف وَقَالَ فِي رِوَايَة: إِذا أحَال البَائِع رجلا على المُشْتَرِي يسْقط حق الْحَبْس وَإِن أحَال المُشْتَرِي البَائِع على رجل لم يسْقط حق الْحَبْس وَهِي مَسْأَلَة كتاب الْحِوَالَة
وَلَو أتلف المُشْتَرِي الْمَبِيع فِي يَد البَائِع صَار قَابِضا للْمَبِيع وتقرر عَلَيْهِ الثّمن
وَكَذَلِكَ إِذا قطع يَده أَو شج رَأسه وكل تصرف نقص مِنْهُ شَيْئا وَكَذَلِكَ لَو فعله البَائِع بِإِذن المُشْتَرِي لِأَن أمره بِالْإِتْلَافِ فِي ملكه صَحِيح وَصَارَ فعله مَنْقُولًا إِلَيْهِ حكما كَأَنَّهُ فعل بِنَفسِهِ وَلَو أعتق المُشْتَرِي العَبْد وَهُوَ فِي يَد البَائِع يكون قبضا مِنْهُ لِأَنَّهُ إِتْلَاف وَلَو زوج الْأمة الْمَبِيعَة قبل الْقَبْض فَالْقِيَاس أَن يصير قَابِضا لِأَن التَّزْوِيج عيب فِي الْجَوَارِي وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَفِي الِاسْتِحْسَان لَا يكون قبضا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَيْب حَقِيقَة وَإِن أقرّ المُشْتَرِي بِالدّينِ على العَبْد الْمَبِيع قبل الْقَبْض لَا يكون قبضا لِأَنَّهُ لَيْسَ بتعييب حكمي وَلَو زَوجهَا المُشْتَرِي وَوَطئهَا الزَّوْج فِي يَد البَائِع يكون قبضا فِي قَوْلهم لِأَن وَطْء الزَّوْج بِإِذن المُشْتَرِي بِمَنْزِلَة وَطْء المُشْتَرِي وَلَو أودع البَائِع الْمَبِيع عِنْد المُشْتَرِي أَو أَعَارَهُ مِنْهُ فَفِي الْمَشْهُور من الرِّوَايَة أَنه يسْقط حق الْحَبْس وَلَيْسَ لَهُ أَن يسْتَردّهُ لِأَن الْإِيدَاع والإعارة من الْمَالِك لَا تصح فَيكون هَذَا تَسْلِيمًا بِحكم البيع فَيسْقط حق الْحَبْس وَلَو أودع المُشْتَرِي من البَائِع أَو أَعَارَهُ مِنْهُ لم يكن ذَلِك قبضا لِأَن للْبَائِع حق الْحَبْس بطرِيق الْأَصَالَة فَلَا يَصح أَن يصير نَائِبا عَن غَيره وَلَو أودع المُشْتَرِي عِنْد أَجْنَبِي وَأمر بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ أَو أَعَارَهُ يصير قَابِضا لِأَن يَد أَمِينه كَيده وَلَو جنى رجل على الْمَبِيع فَاتبع المُشْتَرِي الْجَانِي وَأخذ الْأَرْش سقط حق الْحَبْس وَيصير قَابِضا حَتَّى لَو هلك يكون الْهَلَاك على المُشْتَرِي وَيصير كَأَن الْجَانِي فعله بأَمْره وَهَذَا قَول أبي يُوسُف
وَقَالَ مُحَمَّد: لَا يصير قَابِضا وَيبقى فِي ضَمَان البَائِع وَيُؤمر البَائِع بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ هَذَا الَّذِي ذكرنَا إِذا كَانَ الْمَبِيع فِي يَد البَائِع فَأَما إِذا كَانَ فِي يَد المُشْتَرِي فَبَاعَهُ الْمَالِك مِنْهُ فَنَقُول: إِن كَانَ فِي يَده غصبا يصير قَابِضا بِنَفس الشِّرَاء وَلَا يحْتَاج إِلَى تَجْدِيد الْقَبْض حَتَّى لَو هلك قبل أَن يتَمَكَّن من قَبضه حَقِيقَة فَإِنَّهُ يهْلك على المُشْتَرِي لِأَن ضَمَان الْغَصْب ضَمَان الْعين نَظِير ضَمَان البيع فَيكون من جنسه فينوب قبض الْغَصْب عَن قبض البيع
وَلَو بَاعَ الرَّاهِن الْمَرْهُون من الْمُرْتَهن وَهُوَ فِي حَبسه لَا يصير قَابِضا بِنَفس الشِّرَاء مَا لم يجدد الْقَبْض بِأَن يُمكن من قَبضه حَقِيقَة بِأَن كَانَ حَاضرا فِي مجْلِس الشِّرَاء أَو يذهب إِلَى بَيته ويتمكن من قَبضه لِأَن قبض الرَّهْن قبض أَمَانَة وَإِنَّمَا يسْقط الدّين بهلاكه لَا بِكَوْنِهِ مَضْمُونا وَلَكِن بِمَعْنى آخر عرف فِي مَوْضِعه وَقبض الْأَمَانَة لَا يَنُوب عَن قبض الشِّرَاء وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ فِي يَده أَمَانَة مثل الْوَدِيعَة وَالْعَارِية وَالْإِجَارَة وَنَحْوهَا لم يدْخل فِي ضَمَان المُشْتَرِي إِلَّا أَن يتَمَكَّن من قبض جَدِيد لِأَن قبض الْأَمَانَة لَا يَنُوب عَن قبض الضَّمَان وَلَو أَن المُشْتَرِي قبض الْمَبِيع بِغَيْر إِذن البَائِع قبل نقد الثّمن فَللْبَائِع أَن يسْتَردّهُ حَتَّى يُعْطِيهِ الثّمن لِأَن للْبَائِع حق الْحَبْس حَتَّى يَسْتَوْفِي الثّمن وَقد أبطل حَقه بِالْأَخْذِ فَعَلَيهِ الْإِعَادَة كالراهن إِذا أَخذ الْمَرْهُون من يَد الْمُرْتَهن لَهُ أَن يُعِيدهُ إِلَى يَده كَمَا قُلْنَا وَلَو قبض بِغَيْر إِذن البَائِع بعد نقد الثّمن لَيْسَ لَهُ أَن يسْتَردّهُ لِأَنَّهُ بَطل حق الْحَبْس بإيفاء الثّمن فَيكون قبضا بِحَق وَلَو أَن المُشْتَرِي قَبضه بِغَيْر إِذن البَائِع قبل إِيفَاء الثّمن ثمَّ
تصرف فِي الْمَبِيع بِغَيْر إِذن البَائِع إِن كَانَ تَصرفا يحْتَمل الْفَسْخ كَالْبيع وَالْهِبَة وَالْإِجَارَة وَالرَّهْن وَنَحْوهَا فَللْبَائِع أَن يسْتَردّهُ لِأَن حق الْحَبْس قَائِم
فَأَما إِذا تصرف تَصرفا لَا يحْتَمل الْفَسْخ كالإعتاق وَالتَّدْبِير وَالِاسْتِيلَاد فَإِنَّهُ لَا يسْتَردّهُ لِأَنَّهُ لَا يبْقى حق الْحَبْس لِأَن المُشْتَرِي تصرف فِي ملكه تَصرفا لَا يحْتَمل الرَّد فنفذ كالراهن إِذا أعتق وَحبس الْحر أَو الْحرَّة من وَجه لَا يجوز لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي بَقَاء الْحَبْس
فَهُوَ ثُبُوت الْملك فِي الْمَبِيع للْمُشْتَرِي وَثُبُوت الْملك فِي الثّمن للْبَائِع إِذا كَانَ البيع باتا من غير خِيَار فَأَما إِذا كَانَ فِيهِ خِيَار الرُّؤْيَة أَو الْعَيْب أَو خِيَار الشَّرْط فَالْجَوَاب على مَا نذْكر ثمَّ إِذا كَانَ البيع باتا فَلَا يملك أَحدهمَا الْفَسْخ بِدُونِ رضَا صَاحبه وَإِن لم يَتَفَرَّقَا عَن الْمجْلس وَهَذَا عندنَا وَقَالَ الشَّافِعِي: لَهما خِيَار الْفَسْخ مَا لم يَتَفَرَّقَا عَن الْمجْلس ولقب الْمَسْأَلَة أَن خِيَار الْمجْلس هَل هُوَ ثَابت شرعا فعندنا غير ثَابت وَعِنْده ثَابت وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة فَإِذا ثَبت الْملك فِي الطَّرفَيْنِ أَعنِي فِي الْمَبِيع وَالثمن جَمِيعًا وَحكم الْمَبِيع يُخَالف حكم الثّمن فِيمَا سوى ثُبُوت الْملك فَلَا بُد من بَيَان الثّمن وَالْمَبِيع فَنَقُول: إِن الْمَبِيع فِي الأَصْل مَا يتَعَيَّن بِالتَّعْيِينِ وَالثمن فِي الأَصْل مَا لَا يتَعَيَّن بِالتَّعْيِينِ وَإِن كَانَ قد يتَعَيَّن بِعَارِض فَيصير الْمَبِيع دينا كَمَا فِي
السّلم وَيصير الثّمن عينا كَبيع الْعين بِالْعينِ لَكِن الثّمن الْمُطلق هُوَ الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير وَإِنَّمَا لَا يتعينان فِي عُقُود الْمُعَاوَضَات فِي حق الِاسْتِحْقَاق وَإِن عينت وتتعين فِي حق بَيَان الْقدر وَالْجِنْس وَالصّفة وَهَذَا عندنَا وَقَالَ زفر وَالشَّافِعِيّ: تتَعَيَّن
وَأَجْمعُوا أَنَّهُمَا إِذا كَانَتَا فِي الذِّمَّة لَا يتعينان وَإِذا عينتا فعندهما حكمهمَا كَحكم الْمَبِيع وَأَجْمعُوا أَنَّهُمَا يتعينان فِي الغصوب والأمانات والوكالات وَبَيَان ذَلِك: أَن من بَاعَ عبدا بِأَلف دِرْهَم وعينها فِي الْمجْلس فَإِن البَائِع لَا يسْتَحق عينهَا حَتَّى لَو أَرَادَ المُشْتَرِي أَن يمْنَعهَا وَيرد غَيرهَا لَهُ ذَلِك وَلَكِن تتَعَيَّن فِي حق الْجِنْس حَتَّى تجب عَلَيْهِ الدَّرَاهِم وتتعين فِي حق الْقدر حَتَّى تجب عَلَيْهِ ألف دِرْهَم وتتعين فِي حق الصّفة حَتَّى إِن الدَّرَاهِم الْمعينَة فِي العقد إِذا كَانَت جَيِّدَة يجب عَلَيْهِ مثلهَا جَيِّدَة وَإِن كَانَت رَدِيئَة فَكَذَلِك وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي اسْتِحْقَاق عينهَا فِي الْمُعَاوَضَات لِأَن الْمثل يقوم مقَامهَا فِي كل عوض يكون فِي عُقُود الْمُعَاوَضَات فَكَانَ التَّعْيِين وَتَركه سَوَاء فِي حق اسْتِحْقَاق الْعين فَأَما فِي تعْيين الْجِنْس وَالْقدر وَالصّفة فَفِيهِ فَائِدَة فتتعين ثمَّ الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير أَثمَان أبدا سَوَاء كَانَت فِي مقابلتها أَمْثَالهَا أَو أَعْيَان أخر صحبتهَا حرف الْبَاء أَو لَا حَتَّى إِن فِي الْأَثْمَان يصير صرفا وَإِذا كَانَت فِي مقابلتها السّلْعَة تصير ثمنا والسلعة مَبِيع على كل حَال لِأَنَّهَا أَثمَان مُطلقَة على كل حَال فَلَا تتَعَيَّن بِالتَّعْيِينِ
فقد اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ وَأما إِذا كسد الثّمن بِأَن كَانَ الثّمن فُلُوسًا فكسدت أَو كسد بعض الدَّرَاهِم الرائجة وَهُوَ كَانَ ثمنا قبل الْقَبْض فعلى قَول أبي حنيفَة يَنْفَسِخ العقد وَجعل الكساد كالهلاك لِأَن قيام الثّمن من حَيْثُ الْمَعْنى بالرواج وعَلى قَوْلهمَا: لَا يَنْفَسِخ لَكِن يُخَيّر إِن شَاءَ أَخذ قِيمَته وَإِن شَاءَ فسخ وجعلاه كالعيب ثمَّ اخْتلفَا فِيمَا بَينهمَا فَقَالَ أَبُو يُوسُف: يعْتَبر قِيمَته يَوْم العقد لِأَن الثّمن يجب عِنْد العقد فَيضمن قِيمَته حِينَئِذٍ وَقَالَ مُحَمَّد: تعْتَبر قِيمَته فِي آخر مَا ترك النَّاس الْمُعَامَلَة بذلك لِأَنَّهُ عجز عَن التَّسْلِيم يَوْمئِذٍ وَمِنْهَا: أَنه لَا يجوز التَّصَرُّف فِي الْمَبِيع الْمَنْقُول قبل الْقَبْض بِلَا خلاف وَفِي الْعقار الْمَبِيع يجوز عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَعند مُحَمَّد وَالشَّافِعِيّ لَا يجوز وَأما الْأَثْمَان فَيجوز التَّصَرُّف فِيهَا قبل الْقَبْض لِأَنَّهَا دُيُون وَكَذَلِكَ التَّصَرُّف فِي سَائِر الدُّيُون من الْمهْر وَالْأُجْرَة وَضَمان الْمُتْلفَات وَنَحْوهَا يجوز قبل الْقَبْض وَمِنْهَا: إِذا بَاعَ عينا بِعَين فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِمَا التَّسْلِيم مَعًا تَحْقِيقا للمساواة فِي الْمُعَاوضَة الْمُقْتَضِيَة للمساواة عَادَة فَأَما إِذا كَانَ بيع الْعين بِالدّينِ فَإِنَّهُ يجب تَسْلِيم الدّين أَولا حَتَّى يتَعَيَّن ثمَّ يجب تَسْلِيم الْعين ليتساويا فَإِذا سلم المُشْتَرِي الثّمن يجب على البَائِع تَسْلِيم الْمَبِيع
وَلَو هلك الْمَبِيع قبل التَّسْلِيم فالهلاك يكون على البَائِع يَعْنِي يسْقط الثّمن وينفسخ العقد وَلَو كَانَ الثّمن مُؤَجّلا يجب تَسْلِيم الْمَبِيع للْحَال لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أسقط حق نَفسه فِي التَّأْجِيل فَلَا يسْقط حق الآخر وَإِن أجل الثّمن إِلَّا درهما لَهُ أَن يحبس كل الْمَبِيع لِأَن حق الْحَبْس مِمَّا لَا يتَجَزَّأ وَكَذَلِكَ لَو أوفى جَمِيع الثّمن إِلَّا درهما أَو أَبرَأَهُ عَن جَمِيع الثّمن إِلَّا درهما وَكَذَا فِي الرَّهْن إِذا قبض الدّين كُله أَو أَبرَأَهُ إِلَّا درهما فَإِنَّهُ يحبس كل الرَّهْن حَتَّى يصل إِلَيْهِ الْبَاقِي وَلَو دفع المُشْتَرِي إِلَى البَائِع بِالثّمن رهنا أَو كفل بِهِ كَفِيلا لَا يسْقط حق الْحَبْس لِأَن هَذَا وَثِيقَة بِالثّمن فَلَا يبطل حَقه عَن حبس الْمَبِيع لِاسْتِيفَاء الثّمن وَلَو أحَال البَائِع رجلا على المُشْتَرِي بِالثّمن وَقبل سقط حق الْحَبْس وَكَذَلِكَ إِذا أحَال المُشْتَرِي البَائِع على رجل وَهَذَا عِنْد أبي يُوسُف وَعَن مُحَمَّد رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُف وَقَالَ فِي رِوَايَة: إِذا أحَال البَائِع رجلا على المُشْتَرِي يسْقط حق الْحَبْس وَإِن أحَال المُشْتَرِي البَائِع على رجل لم يسْقط حق الْحَبْس وَهِي مَسْأَلَة كتاب الْحِوَالَة
وَلَو أتلف المُشْتَرِي الْمَبِيع فِي يَد البَائِع صَار قَابِضا للْمَبِيع وتقرر عَلَيْهِ الثّمن
وَكَذَلِكَ إِذا قطع يَده أَو شج رَأسه وكل تصرف نقص مِنْهُ شَيْئا وَكَذَلِكَ لَو فعله البَائِع بِإِذن المُشْتَرِي لِأَن أمره بِالْإِتْلَافِ فِي ملكه صَحِيح وَصَارَ فعله مَنْقُولًا إِلَيْهِ حكما كَأَنَّهُ فعل بِنَفسِهِ وَلَو أعتق المُشْتَرِي العَبْد وَهُوَ فِي يَد البَائِع يكون قبضا مِنْهُ لِأَنَّهُ إِتْلَاف وَلَو زوج الْأمة الْمَبِيعَة قبل الْقَبْض فَالْقِيَاس أَن يصير قَابِضا لِأَن التَّزْوِيج عيب فِي الْجَوَارِي وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَفِي الِاسْتِحْسَان لَا يكون قبضا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَيْب حَقِيقَة وَإِن أقرّ المُشْتَرِي بِالدّينِ على العَبْد الْمَبِيع قبل الْقَبْض لَا يكون قبضا لِأَنَّهُ لَيْسَ بتعييب حكمي وَلَو زَوجهَا المُشْتَرِي وَوَطئهَا الزَّوْج فِي يَد البَائِع يكون قبضا فِي قَوْلهم لِأَن وَطْء الزَّوْج بِإِذن المُشْتَرِي بِمَنْزِلَة وَطْء المُشْتَرِي وَلَو أودع البَائِع الْمَبِيع عِنْد المُشْتَرِي أَو أَعَارَهُ مِنْهُ فَفِي الْمَشْهُور من الرِّوَايَة أَنه يسْقط حق الْحَبْس وَلَيْسَ لَهُ أَن يسْتَردّهُ لِأَن الْإِيدَاع والإعارة من الْمَالِك لَا تصح فَيكون هَذَا تَسْلِيمًا بِحكم البيع فَيسْقط حق الْحَبْس وَلَو أودع المُشْتَرِي من البَائِع أَو أَعَارَهُ مِنْهُ لم يكن ذَلِك قبضا لِأَن للْبَائِع حق الْحَبْس بطرِيق الْأَصَالَة فَلَا يَصح أَن يصير نَائِبا عَن غَيره وَلَو أودع المُشْتَرِي عِنْد أَجْنَبِي وَأمر بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ أَو أَعَارَهُ يصير قَابِضا لِأَن يَد أَمِينه كَيده وَلَو جنى رجل على الْمَبِيع فَاتبع المُشْتَرِي الْجَانِي وَأخذ الْأَرْش سقط حق الْحَبْس وَيصير قَابِضا حَتَّى لَو هلك يكون الْهَلَاك على المُشْتَرِي وَيصير كَأَن الْجَانِي فعله بأَمْره وَهَذَا قَول أبي يُوسُف
وَقَالَ مُحَمَّد: لَا يصير قَابِضا وَيبقى فِي ضَمَان البَائِع وَيُؤمر البَائِع بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ هَذَا الَّذِي ذكرنَا إِذا كَانَ الْمَبِيع فِي يَد البَائِع فَأَما إِذا كَانَ فِي يَد المُشْتَرِي فَبَاعَهُ الْمَالِك مِنْهُ فَنَقُول: إِن كَانَ فِي يَده غصبا يصير قَابِضا بِنَفس الشِّرَاء وَلَا يحْتَاج إِلَى تَجْدِيد الْقَبْض حَتَّى لَو هلك قبل أَن يتَمَكَّن من قَبضه حَقِيقَة فَإِنَّهُ يهْلك على المُشْتَرِي لِأَن ضَمَان الْغَصْب ضَمَان الْعين نَظِير ضَمَان البيع فَيكون من جنسه فينوب قبض الْغَصْب عَن قبض البيع
وَلَو بَاعَ الرَّاهِن الْمَرْهُون من الْمُرْتَهن وَهُوَ فِي حَبسه لَا يصير قَابِضا بِنَفس الشِّرَاء مَا لم يجدد الْقَبْض بِأَن يُمكن من قَبضه حَقِيقَة بِأَن كَانَ حَاضرا فِي مجْلِس الشِّرَاء أَو يذهب إِلَى بَيته ويتمكن من قَبضه لِأَن قبض الرَّهْن قبض أَمَانَة وَإِنَّمَا يسْقط الدّين بهلاكه لَا بِكَوْنِهِ مَضْمُونا وَلَكِن بِمَعْنى آخر عرف فِي مَوْضِعه وَقبض الْأَمَانَة لَا يَنُوب عَن قبض الشِّرَاء وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ فِي يَده أَمَانَة مثل الْوَدِيعَة وَالْعَارِية وَالْإِجَارَة وَنَحْوهَا لم يدْخل فِي ضَمَان المُشْتَرِي إِلَّا أَن يتَمَكَّن من قبض جَدِيد لِأَن قبض الْأَمَانَة لَا يَنُوب عَن قبض الضَّمَان وَلَو أَن المُشْتَرِي قبض الْمَبِيع بِغَيْر إِذن البَائِع قبل نقد الثّمن فَللْبَائِع أَن يسْتَردّهُ حَتَّى يُعْطِيهِ الثّمن لِأَن للْبَائِع حق الْحَبْس حَتَّى يَسْتَوْفِي الثّمن وَقد أبطل حَقه بِالْأَخْذِ فَعَلَيهِ الْإِعَادَة كالراهن إِذا أَخذ الْمَرْهُون من يَد الْمُرْتَهن لَهُ أَن يُعِيدهُ إِلَى يَده كَمَا قُلْنَا وَلَو قبض بِغَيْر إِذن البَائِع بعد نقد الثّمن لَيْسَ لَهُ أَن يسْتَردّهُ لِأَنَّهُ بَطل حق الْحَبْس بإيفاء الثّمن فَيكون قبضا بِحَق وَلَو أَن المُشْتَرِي قَبضه بِغَيْر إِذن البَائِع قبل إِيفَاء الثّمن ثمَّ
تصرف فِي الْمَبِيع بِغَيْر إِذن البَائِع إِن كَانَ تَصرفا يحْتَمل الْفَسْخ كَالْبيع وَالْهِبَة وَالْإِجَارَة وَالرَّهْن وَنَحْوهَا فَللْبَائِع أَن يسْتَردّهُ لِأَن حق الْحَبْس قَائِم
فَأَما إِذا تصرف تَصرفا لَا يحْتَمل الْفَسْخ كالإعتاق وَالتَّدْبِير وَالِاسْتِيلَاد فَإِنَّهُ لَا يسْتَردّهُ لِأَنَّهُ لَا يبْقى حق الْحَبْس لِأَن المُشْتَرِي تصرف فِي ملكه تَصرفا لَا يحْتَمل الرَّد فنفذ كالراهن إِذا أعتق وَحبس الْحر أَو الْحرَّة من وَجه لَا يجوز لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي بَقَاء الْحَبْس
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
بَاب البيع الْفَاسِد
بَاب البيع الْفَاسِد
وَمَا يملك بِهِ وَمَا لَا يملك فِي الْبَاب فصلان أَحدهمَا فِي بَيَان أَنْوَاع الْبيُوع الْفَاسِدَة
وَالثَّانِي فِي بَيَان حكمهمَا
أما الأول فَنَقُول الْبيُوع الْفَاسِدَة أَنْوَاع مِنْهَا أَن يكون الْمَبِيع مَجْهُولا وَالثمن مَجْهُولا جَهَالَة توجب الْمُنَازعَة لِأَنَّهَا مَانِعَة عَن التَّسْلِيم والتسلم وبدونهما يكون البيع فَاسِدا لِأَنَّهُ لَا يُفِيد مَقْصُوده
بَيَانه إِذا اشْترى شَاة من قطيع أَو اشْترى أحد الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة بِكَذَا على أَنه بِالْخِيَارِ بَين أَن يَأْخُذ وَاحِدًا مِنْهَا وَيرد الْبَاقِي أَو اشْترى أحد الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة أَو أحد الشَّيْئَيْنِ وَلم يذكر فِيهِ الْخِيَار فَأَما إِذا ذكر الثَّلَاثَة أَو الِاثْنَيْنِ وَشرط الْخِيَار لنَفسِهِ بَين أَن يَأْخُذ وَاحِدًا وَيرد الْبَاقِي فَهَذَا جَائِز اسْتِحْسَانًا اعْتِبَارا بِشَرْط الْخِيَار ثَلَاثَة أَيَّام
وَهل يشْتَرط فِيهِ ذكر مُدَّة خِيَار الشَّرْط اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ وَالأَصَح أَنه لَا يشْتَرط
وَكَذَا إِذا بَاعَ العَبْد بِمِائَة شَاة من هَذَا القطيع وَنَحْوه لَا يجوز لجَهَالَة الثّمن
فَأَما الْجَهَالَة الَّتِي لَا تُفْضِي إِلَى الْمُنَازعَة فَلَا تمنع الْجَوَاز فَإِنَّهُ إِذا بَاعَ قَفِيزا من صبرَة مُعينَة بِدَرَاهِم أَو بَاعَ هَذَا الْعدْل من الثِّيَاب بِكَذَا وَلَا يعرف عَددهَا أَو بَاعَ هَذِه الصُّبْرَة بِكَذَا وَلَا يعلم عدد القفزان جَازَ لما ذكرنَا
وعَلى هَذَا إِذا اشْترى شَيْئا لم يره بِأَن اشْترى فرسا مجللا أَو جَارِيَة منتقبة أَو كرى حِنْطَة فِي هَذَا الْبَيْت أَو عبدا تركيا فِي هَذَا الْبَيْت فَإِنَّهُ يجوز إِذا وجد كَذَلِك وَللْمُشْتَرِي الْخِيَار إِذا رَآهُ
وَعند الشَّافِعِي فَاسد
وَلَو بَاعَ هَذَا العَبْد بِقِيمَتِه فَهُوَ فَاسد لِأَن الْقيمَة تعرف بالحزر وَالظَّن
وَكَذَا لَو اشْترى عدل زطي أَو جراب هروي بِقِيمَتِه لما قُلْنَا
وَلَو اشْترى بِحكم البَائِع أَو المُشْتَرِي أَو بِحكم فلَان فَهُوَ فَاسد لِأَن الثّمن مَجْهُول
وَكَذَلِكَ لَو اشْترى شَيْئا بِأَلف دِرْهَم إِلَّا دِينَار أَو بِمِائَة دِينَار إِلَّا درهما لِأَن مَعْنَاهُ إِلَّا قدر قيمَة الدِّينَار وَهَذِه جَهَالَة مفضية إِلَى الْمُنَازعَة
وَلَو بَاعَ وَقَالَ هُوَ بِالنَّسِيئَةِ كَذَا وبالنقد كَذَا فَهُوَ فَاسد لِأَن الثّمن مَجْهُول
وَكَذَا لَو قَالَ بِعْت إِلَى أجل كَذَا أَو كَذَا فَهُوَ فَاسد لِأَن الْأَجَل مَجْهُول
وَلَو بَاعَ إِلَى الْحَصاد والدياس أَو إِلَى رُجُوع الْحَاج وقدومهم فَالْبيع
فَاسد لما ذكرنَا
وَلَو بَاعَ عدل زطي بِرَأْس مَاله أَو برقمه وَلَا يعلم المُشْتَرِي رقمه وَلَا رَأس مَاله فَهُوَ فَاسد لِأَن الثّمن مَجْهُول
فَإِن علم رَأس مَاله أَو رقمه فِي الْمجْلس فَإِنَّهُ يعود البيع جَائِزا اسْتِحْسَانًا خلافًا لزفَر كَمَا فِي الْحَصاد والدياس أَو بِشَرْط الْخِيَار إِلَى شهر إِلَّا أَن الْفرق أَن هُنَاكَ إِذا رفع الْمُفْسد قبل مَجِيء الْحَصاد والدياس وَقبل مَجِيء الْيَوْم الرَّابِع يعود إِلَى الْجَوَاز سَوَاء كَانَ فِي مجْلِس العقد أَو بعد الْمجْلس وَفِي الرقم يشْتَرط لانقلاب البيع جَائِزا ارْتِفَاع الْمُفْسد فِي الْمجْلس
وَمِنْهَا أَن يكون الْمَبِيع محرما أَو ثمنه بِأَن بَاعَ الْخمر أَو الْخِنْزِير أَو بَاعَ بهما فَإِنَّهُ لَا يجوز
وَكَذَا الْمحرم إِذا بَاعَ صيدا مَمْلُوكا أَو اشْترى بصيد مَمْلُوك لِأَن الْحَرَام لَا يصلح مَبِيعًا وَثمنا غير أَنه إِذا كَانَ مَبِيعًا يكون البيع بَاطِلا وَإِذا كَانَ ثمنا ينْعَقد البيع بِالْقيمَةِ عندنَا بيعا فَاسِدا
وَأما إِذا ذكر الْميتَة وَالدَّم ثمنا فقد اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ
وَمِنْهَا إِذا تعلق بِالْمَبِيعِ حق مُحْتَرم للْغَيْر لَا يملك البَائِع إِبْطَاله يكون البيع فَاسِدا نَحْو أَن يَبِيع الرَّاهِن الْمَرْهُون أَو المؤاجر الْمُسْتَأْجر
وَاخْتلفت الْعبارَة فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فِي الْكتب ذكر فِي بَعْضهَا أَن البيع فَاسد
وَفِي بَعْضهَا أَنه مَوْقُوف على إجَازَة الْمُرْتَهن وَالْمُسْتَأْجر وَهُوَ الصَّحِيح حَتَّى إِن الرَّاهِن لَا يقدر على فَسخه وَكَذَلِكَ المؤاجر وَكَذَا الْمُرْتَهن وَالْمُسْتَأْجر لَا يملكَانِ الْفَسْخ ويملكان الْإِجَازَة
وَإِذا انْقَضتْ هَذِه الْإِجَارَة أَو أفتك الرَّاهِن الرَّهْن يثبت الْملك للْمُشْتَرِي
وَمِنْهَا أَن الْمَبِيع إِذا كَانَ لَا يقدر على تَسْلِيمه وَقت العقد مثل الطير
الَّذِي طَار عَن يَده أَو العَبْد الْآبِق واللقطة وَالْمَغْصُوب يكون البيع فَاسِدا
وَلَو قدر على التَّسْلِيم فِي الْمجْلس لَا يعود إِلَى الْجَوَاز لِأَنَّهُ وَقع فَاسِدا
وَكَذَلِكَ إِذا جعله ثمنا لِأَن الثّمن إِذا كَانَ عينا فَهُوَ مَبِيع فِي حق صَاحبه
وَعَن الطَّحَاوِيّ أَنه يعود جَائِزا
وَمِنْهَا أَن يكون فِي الْمَبِيع أَو فِي ثمنه غرر مثل بيع السّمك فِي المَاء وَهُوَ لَا يقدر على تَسْلِيمه بِدُونِ الِاصْطِيَاد وَالْحِيلَة وَبيع الطير فِي الْهَوَاء أَو بيع مَال الْغَيْر على أَن يَشْتَرِيهِ فيسلمه إِلَيْهِ لِأَنَّهُ بَاعَ لَيْسَ بمملوك لَهُ للْحَال وَفِي ثُبُوته غرر وخطر
وَمِنْهَا بيع مَا هُوَ مَمْلُوك لَهُ لَكِن قبل الْقَبْض وَقد ذكرنَا تَفْصِيله
وَمِنْهَا إِدْخَال الشَّرْطَيْنِ فِي بيع وَاحِد وَذَلِكَ أَن يَقُول إِن أَعْطَيْتنِي حَالا فبألف وَإِن أجلت شهرا فبألفين أَو قَالَ أبيعك بقفيز حِنْطَة أَو بقفيزي شعير فَهُوَ فَاسد لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه نهى عَن الشَّرْطَيْنِ فِي بيع
وَمِنْهَا بيع الأتباع والأوصاف مَقْصُودا وَذَلِكَ نَحْو بيع الإلية من الشَّاة الْحَيَّة والذراع وَالرَّأْس وَنَحْوهَا وَكَذَا بيع ذِرَاع من الثَّوْب لِأَنَّهُ تبع وَلَا يُمكن تَسْلِيمه إِلَّا بِضَرَر وَهُوَ ذبح الشَّاة وَقطع الثَّوْب
وَكَذَلِكَ بيع جذع من سقف وَلَكِن إِذا نزع من السّقف وَسلم جَازَ
أما بيع قفيز من صبرَة أَو بيع عشرَة دَرَاهِم من نقرة وَنَحْوهَا
فَجَائِز لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّبْعِيض ضَرَر وَهُوَ لَيْسَ بتبع أَيْضا لِأَن الْقدر أصل فِي المقدرات بِخِلَاف الذرع فِي الذرعيات
وَمِنْهَا بيع الْمَعْدُوم الَّذِي انْعَقَد سَبَب وجوده أَو مَا هُوَ على خطر الْوُجُود كَبيع المضامين والملاقيح ونتاج الْفرس لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه نهى عَن بيع المضامين والملاقيح وَبيع حَبل الحبلة
وَمِنْهَا أَن يشْتَرط الْأَجَل فِي الْمَبِيع الْعين أَو الثّمن الْعين لِأَن الْأَجَل فِي الْأَعْيَان لَا يُفِيد فَلَا يَصح فَيكون شرطا لَا يَقْتَضِيهِ العقد فَيفْسد البيع
وَأما فِي الثّمن الدّين فَإِن كَانَ الْأَجَل مَعْلُوما جَازَ وَإِن كَانَ مَجْهُولا لَا يجوز على مَا مر
وَمِنْهَا البيع بِشَرْط وَهُوَ أَنْوَاع إِن شرطا شرطا يَقْتَضِيهِ العقد بِأَن اشْترى شَيْئا بِشَرْط أَن يسلم البَائِع الْمَبِيع أَو يسلم المُشْتَرِي الثّمن أَو بِشَرْط أَن يملك الْمَبِيع أَو الثّمن فَالْبيع جَائِز لِأَن هَذَا شَرط مُقَرر مُوجب العقد فَإِن ثُبُوت الْملك وَالتَّسْلِيم والتسلم من مُقْتَضى الْمُعَاوَضَات
وَإِن شرطا شرطا لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلَكِن ورد الشَّرْع بِجَوَازِهِ كالأجل وَالْخيَار رخصَة وتيسيرا فَإِنَّهُ لَا يفْسد العقد لِأَنَّهُ لما ورد الشَّرْع بِهِ ذَلِك أَنه من بَاب الْمصلحَة دون الْمفْسدَة وَهَذَا جَوَاب الِاسْتِحْسَان
وَالْقِيَاس أَن يفْسد لكَونه شرطا مُخَالفا لموجب العقد وَهُوَ ثُبُوت الْملك فِي الْحَال فِي الْعِوَضَيْنِ مَعًا
وَلَكنَّا أَخذنَا بالاستحسان للْحَدِيث الْوَارِد فِي بَاب الْخِيَار
وَإِن شرطا شرطا لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلم يرد الشَّرْع بِهِ أَيْضا لكنه يلائم العقد وَيُوَافِقهُ وَذَلِكَ نَحْو أَن يَشْتَرِي شَيْئا بِشَرْط أَن يُعْطي للْبَائِع كَفِيلا بِالثّمن أَو رهنا بِالثّمن فَهَذَا على وَجْهَيْن إِمَّا أَن يكون الْكَفِيل أَو الرَّهْن مَعْلُوما بِالْإِشَارَةِ وَالتَّسْمِيَة أَو لم يكن مَعْلُوما بِالْإِشَارَةِ وَالتَّسْمِيَة
فَإِن لم يكن مَعْلُوما بِأَن قَالَ أبيعك بِشَرْط أَن تُعْطِينِي رهنا بِالثّمن وَلم يسم رهنا وَلَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَو قَالَ بِشَرْط أَن تُعْطِينِي كَفِيلا بِالثّمن وَلم يسم إنْسَانا وَلَا أَشَارَ إِلَى إِنْسَان كَانَ البيع فَاسِدا لِأَن هَذِه جَهَالَة تُفْضِي إِلَى مُنَازعَة مَانِعَة عَن التَّسْلِيم والتسلم
وَأما إِذا كَانَ مَعْلُوما بِالْإِشَارَةِ أَو بِالتَّسْمِيَةِ فَالْقِيَاس أَن لَا يجوز البيع وَبِه أَخذ زفر
وَفِي الِاسْتِحْسَان يجوز وَهُوَ قَول عُلَمَائِنَا وَهُوَ الصَّحِيح لِأَن الرَّهْن وَالْكَفَالَة بِالثّمن شرعا توثيقا للثّمن فَيكون بِمَنْزِلَة اشْتِرَاط الْجَوْدَة فِي الثّمن فَيكون شرطا مقررا لما يَقْتَضِيهِ العقد معنى
ثمَّ إِنَّمَا يجوز البيع اسْتِحْسَانًا فِي اشْتِرَاط الْكفَالَة إِذا كَانَ الْكَفِيل حَاضرا فِي الْمجْلس وَقبل
فَأَما إِذا كَانَ غَائِبا فَإِنَّهُ لَا يجوز وَإِن بلغه الْخَبَر فَقبل لِأَن وجوب الثّمن فِي ذمَّة الْكَفِيل مُضَاف إِلَى البيع فَيصير الْكَفِيل بِمَنْزِلَة المُشْتَرِي إِذا كَانَت الْكفَالَة مَشْرُوطَة فِي البيع وحضرة المُشْتَرِي فِي الْمجْلس شَرط لصِحَّة الْإِيجَاب من البَائِع وَلَا يتَوَقَّف إِلَى مَا وَرَاء الْمجْلس فَكَذَلِك حَضْرَة الْكَفِيل بِخِلَاف الرَّهْن فَإِن حَضرته لَيست بِشَرْط فِي الْمجْلس لِأَن الرَّهْن من المُشْتَرِي وَهُوَ حَاضر وَالْتزم الرَّهْن فالرهن صَحِيح
ثمَّ فِي الرَّهْن مَا لم يسلم المُشْتَرِي الرَّهْن إِلَى البَائِع لَا يثبت فِيهِ حكم الرَّهْن
وَإِن انْعَقَد عقد الرَّهْن بذلك الْكَلَام لِأَن الرَّهْن لَا يثبت فِي حق الحكم إِلَّا بِالْقَبْضِ على مَا عرف فَإِن سلم الرَّهْن مضى العقد على مَا عقدا وَإِن امْتنع عَن التَّسْلِيم لَا يجْبر على التَّسْلِيم عندنَا وَعند زفر يجْبر لَكِن عندنَا يُقَال للْمُشْتَرِي إِمَّا أَن تدفع الرَّهْن أَو قِيمَته أَو تدفع الثّمن أَو تفسخ البيع لِأَن البَائِع مَا رَضِي بِوُجُوب الثّمن فِي ذمَّة المُشْتَرِي إِلَّا بوثيقة الرَّهْن وَفِي هَذِه الْوُجُوه وَثِيقَة فَإِن لم يفعل المُشْتَرِي شَيْئا من ذَلِك فَللْبَائِع أَن يفْسخ البيع لِأَنَّهُ فَاتَ غَرَضه فَلَا يكون العقد لَازِما فَلهُ أَن يفْسخ
وَقَالُوا فِي البيع إِذا شَرط فِيهِ رهن مَجْهُول حَتَّى فسد البيع ثمَّ اتفقَا على تعْيين رهن فِي الْمجْلس إِنَّه يجوز العقد وَإِن افْتَرقَا عَن الْمجْلس تقرر الْفساد لِأَن تَمام الْقبُول توقف على الرَّهْن الْمَشْرُوط فِي العقد أَلا ترى أَن البَائِع لَو قَالَ للْمُشْتَرِي قبلت الثّمن بِغَيْر رهن فَإِنَّهُ لَا يَصح البيع فَإِذا لم يُوجد الرَّهْن لم يُوجد الْقبُول معنى فَإِذا عينا فِي الْمجْلس جَازَ لِأَن الْمجْلس بِمَنْزِلَة حَالَة وَاحِدَة فَصَارَ كَأَنَّهُ قبل العقد فِي آخر الْمجْلس وَإِن افْتَرقَا بَطل
وعَلى هَذَا إِذا قَالَ المُشْتَرِي فِي الرَّهْن الْمَجْهُول أَنا أعطي الثّمن لم يفْسد العقد لِأَن الْغَرَض من الرَّهْن هُوَ الْوُصُول إِلَى الثّمن وَهُوَ حَاصِل فَسقط اعْتِبَار الْوَثِيقَة
وَلَو شَرط البَائِع فِي البيع أَن يحيله المُشْتَرِي بِالثّمن على غَرِيم من غُرَمَائه فَهَذَا على وَجْهَيْن إِن أحَال بِجَمِيعِ الثّمن فَالْبيع فَاسد لِأَنَّهُ يصير بَائِعا بِشَرْط أَن يكون الثّمن على غير المُشْتَرِي وَهُوَ بَاطِل
وَإِن بَاعَ بِشَرْط أَن يحِيل نصف الثّمن على فلَان فَهُوَ جَائِز
إِذا كَانَ حَاضرا وَقبل الْحِوَالَة كَمَا إِذا بَاعَ عبدا من رجل بِأَلف دِرْهَم على أَن يكون نصفه على فلَان وَهُوَ حَاضر فَقبل جَازَ كَذَا هَذَا
ثمَّ إِذا كَانَ الْكَفِيل والمحتال عَلَيْهِ غائبين عَن الْمجْلس فَلم يحضرا حَتَّى افترق العاقدان فَلَا يَصح البيع إِلَّا بِإِيجَاب مبتد لِأَن تَمام العقد يقف على قبُول الْكَفِيل والمحتال عَلَيْهِ فَجعل كَأَن الْقبُول لم يُوجد من المُشْتَرِي فِي الْمجْلس
وَلَو حضرا فِي الْمجْلس وقبلا جَازَ كَمَا لَو قبلا عِنْد العقد لِأَن الْمجْلس لَهُ حكم سَاعَة وَاحِدَة
وَلَو شَرط المُشْتَرِي فِي البيع على أَن يحِيل البَائِع على غَرِيم من غُرَمَائه بِالثّمن ليدفع إِلَيْهِ أَو بَاعَ بِشَرْط أَن يضمن المُشْتَرِي لغريم من غُرَمَائه الثّمن فَالْبيع فَاسد لِأَن شَرط الضَّمَان وَالْحوالَة ثمَّة صَار بِمَنْزِلَة اشْتِرَاط صفة الْجَوْدَة فِي الثّمن لكَونه توكيدا للثّمن وتوثيقا لَهُ وَشرط الضَّمَان هَهُنَا لَيْسَ بِصفة للثّمن بل هُوَ شَرط فِيهِ مَنْفَعَة الْعَاقِد وَالْعقد لَا يَقْتَضِيهِ فَيفْسد البيع
وَإِن شرطا شرطا لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلَا يلائمه ولأحدهما فِيهِ مَنْفَعَة إِلَّا أَنه مُتَعَارَف بِأَن اشْترى نعلا وشراكا على أَن يحذوه البَائِع جَازَ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاس أَن لَا يجوز وَهُوَ قَول زفر
وَلَكِن أَخذنَا بالاستحسان لتعارف النَّاس كَمَا فِي الاستصناع
وَلَو شرطا شرطا لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلَا يلائمه وَلَا يتعارفه النَّاس وَفِيه مَنْفَعَة لأحد الْعَاقِدين بِأَن اشْترى حِنْطَة على أَن يطحنها البَائِع أَو ثوبا على أَن يخيطه البَائِع أَو اشْترى حِنْطَة على أَن يَتْرُكهَا فِي دَار البَائِع شهرا وَنَحْو ذَلِك فَالْبيع فَاسد
وَهَذَا كُله مَذْهَب عُلَمَائِنَا
وَقَالَ ابْن أبي ليلى بِأَن البيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل
وَقَالَ ابْن شبْرمَة بِأَن البيع جَائِز وَالشّرط جَائِز
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن اشْتِرَاط الْمَنْفَعَة الزَّائِدَة فِي عقد الْمُعَاوضَة لأحد الْعَاقِدين من بَاب الرِّبَا أَو شُبْهَة الرِّبَا وَإِنَّهَا مُلْحقَة بِحَقِيقَة الرِّبَا فِي بَاب البيع احْتِيَاطًا
وَلَو شرطا شرطا فِيهِ ضَرَر لأحد الْعَاقِدين بِأَن بَاعَ ثوبا أَو حَيَوَانا سوى الرَّقِيق بِشَرْط أَن لَا يَبِيعهُ وَلَا يَهبهُ ذكر فِي الْمُزَارعَة الْكَبِيرَة مَا يدل على أَن البيع بِهَذَا الشَّرْط لَا يفْسد فَإِنَّهُ ذكر أَن أحد المزارعين لَو شَرط فِي الْمُزَارعَة أَن لَا يَبِيع الآخر نصِيبه أَو لَا يَهبهُ قَالَ الْمُزَارعَة جَائِزَة وَالشّرط بَاطِل لِأَنَّهُ لَيْسَ لأحد المتعاملين فِيهِ مَنْفَعَة هَكَذَا ذكر الْحسن فِي الْمُجَرّد
وروى أَبُو يُوسُف فِي الأمالي خِلَافه وَهُوَ قَوْله إِن البيع بِمثل هَذَا الشَّرْط فَاسد
وَالصَّحِيح هُوَ الأول
وَلَو بَاعَ جَارِيَة بِشَرْط أَن يَطَأهَا أَو لَا يَطَأهَا لم يذكر فِي ظَاهر الرِّوَايَة
وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ البيع فَاسد فِي الْمَوْضِعَيْنِ
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد أَنه قَالَ لَا تفْسد فِي الْمَوْضِعَيْنِ
وَعَن أبي يُوسُف أَنه قَالَ إِن بَاعَ بِشَرْط أَن يَطَأهَا فَالْبيع جَائِز وَإِن بَاعَ بِشَرْط أَن لَا يَطَأهَا فَالْبيع فَاسد
فَالْحَاصِل أَن البيع بِشَرْط أَن يَطَأهَا فَاسد عِنْد أبي حنيفَة
وَعِنْدَهُمَا جَائِز لِأَن إِبَاحَة الْوَطْء حكم يَقْتَضِيهِ العقد فَصَارَ كَمَا لَو اشْترى طَعَاما بِشَرْط أَن يَأْكُلهُ وَنَحْو ذَلِك
وَأَبُو حنيفَة يَقُول هَذَا شَرط لَا يَقْتَضِيهِ العقد فَإِنَّهُ لَو صَحَّ الشَّرْط كَانَ حكمه وجوب الْوَطْء وَالْبيع لَا يَقْتَضِيهِ وَفِيه نفع للمعقود عَلَيْهِ وَهُوَ من أهل اسْتِحْقَاق الْحق على مَوْلَاهُ فِي الْجُمْلَة فَإِنَّهُ يسْتَحق النَّفَقَة عَلَيْهِ بِخِلَاف مَا إِذا بَاعَ حَيَوَانا بِشَرْط أَن يعلفه لِأَنَّهُ لَيْسَ من أهل اسْتِحْقَاق الْحق على مَالِكه
وَأما البيع بِشَرْط أَن لَا يَطَأهَا فقد قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف البيع فَاسد
وعَلى قَول مُحَمَّد جَائِز
وَهُوَ قِيَاس مَا روى أَبُو يُوسُف عَنهُ فِي الأمالي إِذا بَاعَ طَعَاما بِشَرْط أَن لَا يَأْكُل أَو لَا يَبِيع فَإِن البيع فَاسد
فَأَما على قِيَاس مَا ذكر فِي الْمُزَارعَة الْكَبِيرَة فَيجب أَن يكون الْجَواب على قَول أبي حنيفَة فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مثل قَول مُحَمَّد
وَلَو اشْترى عبدا بِشَرْط أَن يعتقهُ المُشْتَرِي قَالَ عُلَمَاؤُنَا البيع فَاسد حَتَّى لَو أعْتقهُ المُشْتَرِي قبل الْقَبْض لم ينفذ عتقه وَإِن أعْتقهُ بعد الْقَبْض عتق فَانْقَلَبَ العقد جَائِزا اسْتِحْسَانًا فِي قَول أبي حنيفَة حَتَّى يجب عَلَيْهِ الثّمن
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد لَا يَنْقَلِب العقد جَائِزا إِذا أعْتقهُ حَتَّى يجب عَلَيْهِ قيمَة العَبْد
وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة مثل قَوْلهمَا
وَقَالَ الشَّافِعِي فِي أحد قوليه إِن البيع بِهَذَا الشَّرْط جَائِز
وَقد روى أَبُو يُوسُف عَن أبي حنيفَة مثله
وَالصَّحِيح قَول أبي حنيفَة لِأَن هَذَا شَرط يلائم العقد من وَجه دون
وَجه فَمن حَيْثُ إِن الْإِعْتَاق إِزَالَة الْملك يكون تغييرا لحكم العقد وَمن حَيْثُ إِنَّه إنهاء للْملك يكون ملائما لَهُ لِأَن فِيهِ تقريرا فَقُلْنَا بِفساد البيع فِي الِابْتِدَاء وبالجواز فِي الِانْتِهَاء عملا بالدليلين وَبِالْعَكْسِ لَا يكون عملا بهما لأَنا نجد فَاسِدا يَنْقَلِب جَائِزا كَمَا فِي بيع الرقم وَلَكِن لم نجد جَائِزا يَنْقَلِب فَاسِدا فَكَانَ الْوَجْه الأول أولى
وَلَو بَاعَ بِشَرْط التَّدْبِير وَالْكِتَابَة وَفِي الْأمة بِشَرْط الِاسْتِيلَاد فَالْبيع فَاسد وَلَا يَنْقَلِب إِلَى الْجَوَاز عِنْد وجود الشَّرْط لِأَن هَذَا شَرط لَا يلائم البيع لِأَنَّهُ لَا يثبت إنهاء الْملك هَهُنَا بِيَقِين لاحْتِمَال أَن القَاضِي يقْضِي بِالْجَوَازِ فِي التَّدْبِير وَالِاسْتِيلَاد فَلَا يَتَقَرَّر حكمه
وَلَو بَاعَ الثِّمَار على الْأَشْجَار والزروع الْمَوْجُودَة هَل يكون البيع فَاسِدا فَهَذَا لَا يَخْلُو من وُجُوه إِمَّا إِن كَانَ قبل الْإِدْرَاك أَو بعده بِشَرْط الْقطع أَو بِشَرْط التّرْك
فَإِن كَانَ قبل الْإِدْرَاك فَإِن كَانَ بِشَرْط الْقطع جَازَ وَإِن اشْترى مُطلقًا جَازَ
وَقَالَ الشَّافِعِي إِن اشْترى بِشَرْط الْقطع جَازَ
وَإِن اشْترى مُطلقًا لَا يجوز لِأَنَّهُ صَار شارطا للترك دلَالَة
وَلَكِن الصَّحِيح قَوْلنَا لِأَنَّهُ اشْترى مَا هُوَ مَال وَإِن كَانَ لَا يتكامل الِانْتِفَاع بِهِ بِمَنْزِلَة شِرَاء الجحش وَالْكَلَام الْمُطلق لَا يحمل على الْمُقَيد خُصُوصا إِذا كَانَ فِي ذَلِك فَسَاد العقد
وَأما إِذا بَاعَ بِشَرْط التّرْك فَهُوَ فَاسد بِلَا خلاف بَين أَصْحَابنَا لِأَنَّهُ شَرط فِيهِ مَنْفَعَة للْمُشْتَرِي فَصَارَ كَمَا لَو اشْترى حِنْطَة بِشَرْط أَن يَتْرُكهَا فِي دَار البَائِع شهرا
هَذَا إِذا بَاعَ قبل أَن يَبْدُو صَلَاحهَا
وَإِمَّا إِذا بَاعَ بعد بَدو صَلَاحهَا
مُطلقًا أَو بِشَرْط الْقطع جَازَ
وَلَو بَاعَ بِشَرْط التّرْك لَا يجوز عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف
وَقَالَ مُحَمَّد إِن تناهى عظمها جَازَ وَإِن لم يتناه عظمها لَا يجوز لِأَن النَّاس تعاملوا ذَلِك من غير نَكِير
وَالصَّحِيح قَوْلهمَا لِأَن هَذَا شَرط فِيهِ مَنْفَعَة للْمُشْتَرِي وَالْعقد لَا يَقْتَضِيهِ والتعامل لم يكن بِشَرْط التّرْك وَلَكِن الْإِذْن مُعْتَاد بِلَا شَرط فِي العقد
وَلَو اشْترى مُطلقًا وَتركهَا على النّخل من غير شَرط التّرْك وَلم يتناه عظمها فَإِن كَانَ ذَلِك بِإِذن البَائِع جَازَ وَطلب لَهُ الْفضل
وَإِن ترك بِغَيْر إِذن البَائِع تصدق بِمَا زَاد على مَا كَانَ عِنْد العقد لِأَنَّهُ حصل من وَجه بِسَبَب مَحْظُور
وَإِن أخرج النّخل وَالشَّجر فِي مُدَّة التّرْك ثَمَرَة أُخْرَى فَذَلِك كُله للْبَائِع سَوَاء كَانَ التّرْك بِإِذْنِهِ أَو بِغَيْر إِذْنه
وَإِن جللها مِنْهُ البَائِع جَازَ لِأَن هَذَا الْحَادِث لم يَقع عَلَيْهِ العقد وَإِنَّمَا هُوَ نَمَاء ملك البَائِع فَيكون لَهُ فَإِن اخْتَلَط الْحَادِث بالموجود وَقت العقد بِحَيْثُ لَا يُمكن التَّمْيِيز بَينهمَا فَإِن كَانَ قبل أَن يخلي البَائِع بَين المُشْتَرِي وَالثِّمَار فسد البيع لِأَن الْمَبِيع صَار مَجْهُولا بِحَيْثُ يتَعَذَّر تَسْلِيمه حَال وجوب التَّسْلِيم وَالْعجز عَن التَّسْلِيم مُفسد للْبيع وَإِن كَانَ ذَلِك بعد التَّخْلِيَة لم يفْسد البيع وَكَانَت الثَّمَرَة بَينهمَا وَالْقَوْل فِي الزِّيَادَة قَول المُشْتَرِي لِأَن البيع قد تمّ بعد الْقَبْض
فَأَما إِذا اشْترى ثَمَرَة قد تناهى عظمها وَتركهَا على الشَّجَرَة بِغَيْر إِذن البَائِع لم يتَصَدَّق بِشَيْء لِأَنَّهَا لَا تزيد بعد التناهي بل تنقص فَلم يحصل لَهَا زِيَادَة بِسَبَب مَحْظُور
فَأَما فِي الزَّرْع فالنماء يكون للْمُشْتَرِي طيبا وَإِن تَركه بِغَيْر إِذْنه لِأَنَّهُ نَمَاء ملك المُشْتَرِي لِأَن السَّاق ملكه حَتَّى يكون التِّبْن لَهُ بِخِلَاف الشَّجَرَة
وَأما الزروع الَّتِي يُوجد بَعْضهَا بعد وجود بعض كالباذنجان والبطيخ والكراث وَنَحْوهَا فقد قَالَ أَصْحَابنَا يجوز بيع مَا ظهر مِنْهَا من الْخَارِج الأول وَلَا يجوز بيع مَا لم يظْهر لِأَنَّهُ بيع مَعْدُوم
وَقَالَ مَالك إِذا ظهر الْخَارِج الأول جَازَ بيع الْكل لأجل الضَّرُورَة إِلَّا أَنا نقُول لَا ضَرُورَة فَإِنَّهُ يُمكنهُ بيع الأَصْل بِمَا فِيهِ من الثَّمر فَيصير الأَصْل ملكا لَهُ فَبعد ذَلِك مَا تولد من الأَصْل يحدث على ملكه
وَمِنْهَا أَن يَشْتَرِي شَيْئا بِثمن مَعْلُوم ثمَّ يَبِيعهُ من البَائِع بِأَقَلّ مِمَّا بَاعه قبل نقد الثّمن
فَإِن بَاعه بِجِنْس الثّمن الأول بِأَن اشْتَرَاهُ بِأَلف دِرْهَم ثمَّ بَاعه مِنْهُ بِخَمْسِمِائَة دِرْهَم قبل نقد الثّمن فَهُوَ فَاسد عندنَا
وَعند الشَّافِعِي صَحِيح
وَإِن كَانَ بِخِلَاف جنس الثّمن الأول جَازَ
وَالْأَصْل فِي ذَلِك حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي قصَّة زيد بن أَرقم وَهُوَ مَعْرُوف
ثمَّ مَا ذكرنَا من الشُّرُوط الَّتِي إِذا أدخلها فِي نفس العقد يكون مُفْسِدا للْعقد إِذا اعترضت على العقد الصَّحِيح هَل يفْسد العقد عِنْد أبي حنيفَة يفْسد ويلتحق بِأَصْل العقد بِمَنْزِلَة اشْتِرَاط الْخِيَار فِي العقد البات وَالزِّيَادَة والحط فِي الثّمن وَعِنْدَهُمَا لَا يلْتَحق وَيبْطل الشَّرْط وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما حكم البيع الْفَاسِد فَنَقُول هَذَا على وَجْهَيْن إِن كَانَ الْفساد من قبل الْمَبِيع بِأَن كَانَ محرما نَحْو الْخمر وَالْخِنْزِير وصيد الْحرم وَالْإِحْرَام فَالْبيع بَاطِل لَا يُفِيد الْملك أصلا وَإِن قبض لِأَنَّهُ لَا يثبت الْملك فِي الْخمر وَالْخِنْزِير للْمُسلمِ بِالْبيعِ وَالْبيع لَا ينْعَقد بِلَا مَبِيع
وَكَذَلِكَ إِذا بَاعَ الْميتَة وَالدَّم وكل مَا لَيْسَ بِمَال مُتَقَوّم
وَكَذَلِكَ إِذا بَاعَ الْمُدبر وَأم الْوَلَد وَالْمكَاتب والمستسعي وَنَحْو ذَلِك
وَكَذَلِكَ الصَّيْد الَّذِي ذبحه الْمحرم أَو صيد الْحرم إِذا ذبح فَإِنَّهُ يكون ميتَة فَلَا يجوز بَيْعه
وَإِن كَانَ الْفساد يرجع لثمن فَإِن ذكر مَا هُوَ مَال فِي الْجُمْلَة شرعا أَو مَا هُوَ مَرْغُوب عِنْد النَّاس لَا يُوجد مجَّانا بِغَيْر شَيْء كَمَا إِذا بَاعَ بِالْخمرِ وَالْخِنْزِير وصيد الْحرم وَالْإِحْرَام فَإِن البيع ينْعَقد بِقِيمَة الْمَبِيع ويفيد الْملك فِي الْمَبِيع بِالْقَبْضِ لِأَن ذكر الثّمن المرغوب دَلِيل على أَن غرضهما البيع فَينْعَقد بيعا بِقِيمَة الْمَبِيع
وَكَذَلِكَ إِذا جعلا الثّمن مُدبرا أَو مكَاتبا أَو أم ولد لِأَنَّهُ مَرْغُوب فِيهِ
وَإِذا جعلا الْميتَة وَالدَّم ثمنا فقد اخْتلف الْمَشَايِخ
وَكَذَلِكَ لَو بَاعه بِمَا يرْعَى بِهِ إبِله فِي أرضه من الْكلأ أَو بِمَا يشرب دَابَّته من مَاء بئره لِأَنَّهُ ذكر شَيْئا مرغوبا فِيهِ
وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ الْفساد بِإِدْخَال شَرط فَاسد أَو بِاعْتِبَار الْجَهَالَة وَنَحْو ذَلِك
وَإِن ذكر الْمَبِيع وَالثمن فَهُوَ على هَذَا يُفِيد الْملك بِالْقيمَةِ عِنْد الْقَبْض
وَهَذَا كُله عندنَا
وَعند الشَّافِعِي البيع فَاسد لَا يُفِيد الْملك أصلا وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وعَلى هَذَا لَو قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا العَبْد وَلم يذكر الثّمن ينْعَقد البيع بِالْقيمَةِ وَلَو قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا العَبْد بِقِيمَتِه فَكَذَلِك
ثمَّ فِي البيع الْفَاسِد إِنَّمَا يملك بِالْقَبْضِ إِذا كَانَ بِإِذن البَائِع فَأَما إِذا كَانَ بِغَيْر إِذْنه فَهُوَ كَمَا لَو لم يقبض هَذَا هُوَ الْمَشْهُور من الرِّوَايَات عَن أَصْحَابنَا
وَذكر مُحَمَّد فِي الزِّيَادَات إِذا قَبضه بِحَضْرَة البَائِع فَلم يَنْهَهُ وَسكت إِنَّه يكون قبضا وَيصير ملكا لَهُ وَلم يحك خلافًا
وَقد قَالَ أَصْحَابنَا فِيمَن وهب هبة وَالْقِيَاس أَن لَا يملكهَا الْمَوْهُوب لَهُ حَتَّى يقبضهَا بِإِذن الْوَاهِب أَو بتسليمها إِلَيْهِ
إِلَّا أَنهم استحسنوا وَقَالُوا إِذا قبضهَا فِي مجْلِس العقد بِحَضْرَة الْوَاهِب وَلم يَنْهَهُ وَسكت
جَازَت ويفيد الْملك وَإِذا قبض بعد الِافْتِرَاق عَن الْمجْلس بِحَضْرَتِهِ لَا يَصح الْقَبْض وَإِن سكت لِأَن الْملك من الْمَوْهُوب إِنَّمَا يَقع بِالْعقدِ وَالْقَبْض فَيكون الْإِقْدَام على إِيجَاب الْهِبَة إِذْنا بِالْقَبْضِ كَمَا يكون إِذْنا بِالْقبُولِ وَبعد الِافْتِرَاق عَن الْمجْلس لَا يكون إِذْنا بِالْقبُولِ وَكَذَلِكَ لَا يكون إِذْنا بِالْقَبْضِ فعلى هَذَا يجب أَن يكون فِي البيع الْفَاسِد فِي مجْلِس العقد يكون إِذْنا بِالْقَبْضِ وَبعد الِافْتِرَاق لَا يكون إِذْنا
ثمَّ المُشْتَرِي شِرَاء فَاسِدا هَل يملك التَّصَرُّف فِي الْمُشْتَرى وَهل يكره ذَلِك فَنَقُول لَا شكّ أَنه قبل الْقَبْض لَا يملك تَصرفا مَا لعدم الْملك فَأَما بعد الْقَبْض فَيملك التَّصَرُّفَات المزيلة للْملك من كل وَجه أَو من وَجه نَحْو الْإِعْتَاق وَالْبيع وَالْهِبَة وَالتَّسْلِيم وَالتَّدْبِير وَالِاسْتِيلَاد وَالْكِتَابَة لِأَن هَذِه التَّصَرُّفَات تزيل حق الِانْتِفَاع بالحرام
وَلَكِن هَل يُبَاح لَهُ التَّصَرُّفَات الَّتِي فِيهَا انْتِفَاع بِالْمَبِيعِ مَعَ قيام الْملك اخْتلف الْمَشَايِخ
قَالَ بَعضهم لَا يُبَاح الِانْتِفَاع بِهِ حَتَّى لَا يُبَاح لَهُ الْوَطْء إِن كَانَت جَارِيَة وَلَا الْأكل إِن كَانَ طَعَاما وَلَا الِانْتِفَاع بِهِ إِن كَانَ دَارا أَو دَابَّة أَو ثوبا
وَبَعض مَشَايِخنَا قَالُوا لَا يُبَاح لَهُ الْوَطْء لَا غير وَيُبَاح لَهُ سَائِر أَنْوَاع الانتفاعات
فالأولون قَالُوا إِن هَذَا ملك خَبِيث فَلَا يظْهر الْملك فِي حق حل الْوَطْء وَالِانْتِفَاع احْتِيَاطًا
وَالْآخرُونَ قَالُوا إِن الْمَالِك سلطه على التَّصَرُّف وأباح لَهُ التَّصَرُّف فَكل تصرف يُبَاح بِالْإِذْنِ يُبَاح بِهَذَا البيع وَالْوَطْء لَا يُبَاح بِإِذن المَال فَلَا يُبَاح بالتسليط بِخِلَاف سَائِر الانتفاعات
وَأما الْكَرَاهَة فَنَقُول ذكر الْكَرْخِي وَقَالَ يكره التَّصَرُّفَات كلهَا لِأَنَّهُ يجب عَلَيْهِ الْفَسْخ لحق الشَّرْع وَفِي هَذِه التَّصَرُّفَات إبِْطَال حق الْفَسْخ أَو تَأْخِيره فَيكْرَه
وَقَالَ بعض مَشَايِخنَا لَا يكره التَّصَرُّفَات المزيلة للْملك لِأَنَّهُ يَزُول الْفساد بِسَبَبِهَا
فَأَما التَّصَرُّفَات الَّتِي توجب تَقْرِير الْملك الْفَاسِد فَإِنَّهُ يكره
وَالصَّحِيح هُوَ الأول
ثمَّ المُشْتَرِي شِرَاء فَاسِدا إِذا تصرف فِي المُشْتَرِي بعض الْقَبْض فَإِن كَانَ تَصرفا مزيلا للْملك من كل وَجه كالإعتاق وَالْبيع وَالْهِبَة فَإِنَّهُ يجوز وَلَا يفْسخ لِأَن الْفساد قد زَالَ بِزَوَال الْملك
وَإِن كَانَ تَصرفا مزيلا للْملك من وَجه أَو لَا يكون مزيلا للْملك فَإِن كَانَ تَصرفا لَا يحْتَمل الْفَسْخ كالتدبير وَالِاسْتِيلَاد وَالْكِتَابَة فَإِنَّهُ يبطل حق الْفَسْخ
إِن كَانَ يحْتَمل الْفَسْخ إِن كَانَ يفْسخ بالعذر كَالْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ يفْسخ الْإِجَارَة ثمَّ يفْسخ البيع بِسَبَب الْفساد وَيجْعَل حق الْفَسْخ بِسَبَب الْفساد عذرا فِي فسخ الْإِجَارَة
وَلَو زَوجهَا من إِنْسَان بعد الْقَبْض فَإِن النِّكَاح لَا يمْنَع الْفَسْخ وَالنِّكَاح بِحَالهِ لِأَنَّهُ زَوجهَا وَهِي مَمْلُوكَة لَهُ فصح نِكَاحهَا وَالنِّكَاح مِمَّا لَا يحْتَمل الْفَسْخ فَبَقيَ النِّكَاح
وَلَو أوصى بِالْعَبدِ الْمَبِيع بيعا فَاسِدا فَإِنَّهُ يفْسخ لِأَن الْوَصِيَّة مِمَّا يحْتَمل الرُّجُوع
وَلَو مَاتَ الْمُوصي قبل الْفَسْخ سقط الْفَسْخ لِأَن الْملك انْتقل إِلَى الْمُوصى لَهُ فَصَارَ كَالْبيع
وَلَو مَاتَ المُشْتَرِي شِرَاء فَاسِدا فورثه الْوَرَثَة فَللْبَائِع حق الْفَسْخ وَكَذَلِكَ للْوَرَثَة لِأَن الْوَارِث يقوم مقَام الْمَيِّت فِي حق الْفَسْخ وَلِهَذَا يرد بِالْعَيْبِ وَيرد عَلَيْهِ بِخِلَاف الْمُوصى لَهُ
وَلَو حصل فِي الْمَبِيع بيعا فَاسِدا زِيَادَة مُنْفَصِلَة كَالْوَلَدِ وَالثَّمَر وَاللَّبن أَو الْأَرْش بِسَبَب تَفْوِيت بعضه فَإِنَّهُ لَا يمْنَع الْفَسْخ بل للْبَائِع أَن يَأْخُذ الْمَبِيع مَعَ الزَّوَائِد وَيفْسخ البيع لِأَن قبض المُشْتَرِي شِرَاء فَاسِدا بِمَنْزِلَة قبض الْغَصْب
ثمَّ إِذا أَخذ الْوَلَد فَإِن كَانَت الْولادَة نقصت الْجَارِيَة نظر فِي قيمَة الْوَلَد فَإِن كَانَ فِيهِ وَفَاء بِالنُّقْصَانِ فَلَا شَيْء على المُشْتَرِي وَإِن لم يكن فِيهِ وَفَاء غرم تَمام النُّقْصَان
وَإِن وطىء المُشْتَرِي الْمَبِيعَة بيعا فَاسِدا فَهَذَا على وَجْهَيْن إِن لم يعلقها فَللْبَائِع أَن يسْتَردّ الْجَارِيَة وَيضمن المُشْتَرِي عقرهَا للْبَائِع بِاتِّفَاق الرِّوَايَات بِخِلَاف الْجَارِيَة الْمَوْهُوبَة إِذا وَطئهَا الْمَوْهُوب لَهُ ثمَّ رَجَعَ الْوَاهِب فَإِنَّهُ لَا يضمن للْوَاهِب عقرهَا لِأَنَّهُ وطىء ملك نَفسه ملكا مُطلقًا فِي حق حل الْوَطْء وَغَيره وبالرجوع لم يظْهر أَن الْملك لم يكن أما فِي البيع الْفَاسِد فَلم يظْهر الْملك فِي حق حل الْوَطْء لَكِن لم يحد للشهبة فَيجب الْعقر
وَإِن أعلقها وَادّعى الْوَلَد يثبت نسب الْوَلَد مِنْهُ وَتصير الْجَارِيَة أم ولد لَهُ وَللْبَائِع أَن يضمن المُشْتَرِي قيمَة الْجَارِيَة وَيبْطل حَقه فِي الْجَارِيَة
وَإِذا وَجَبت الْقيمَة هَل يجب الْعقر ذكر فِي كتاب الْبيُوع وَقَالَ لَا عقر عَلَيْهِ
وَذكر فِي كتاب الشّرْب وَقَالَ عَلَيْهِ الْعقر
وَلَو أحدث المُشْتَرِي فِي الْمَبِيع بيعا فَاسِدا صنعا لَو فعله الْغَاصِب فِي الْمَغْصُوب يصير ملكا لَهُ بِالْقيمَةِ كَمَا إِذا طحن الْحِنْطَة أَو خاط الثَّوْب قَمِيصًا وَنَحْو ذَلِك يَنْقَطِع حق البَائِع فِي الْفَسْخ وَيلْزمهُ قِيمَته يَوْم الْقَبْض كَمَا فِي الْغَصْب
وَكَذَلِكَ لَو كَانَ الْمَبِيع ساجة فَأدْخلهَا فِي بنائِهِ
وَإِن كَانَ الْمَبِيع أَرضًا فَبنى فِيهَا المُشْتَرِي فَلَيْسَ للْبَائِع أَن ينْقض البيع عِنْد أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله للْبَائِع أَن ينْقض كَمَا فِي الْغَصْب فَإِن الْغَاصِب إِذا بنى على الأَرْض الْمَغْصُوبَة لَا يَنْقَطِع حق الْمَالِك فَكَذَا هَذَا
وَأَبُو حنيفَة يَقُول إِن الْمَبِيع صَار ملكا لَهُ وَفِي النَّقْض ضَرَر كثير فَلَا ينْقض بِخِلَاف الْغَاصِب
وَمَا يملك بِهِ وَمَا لَا يملك فِي الْبَاب فصلان أَحدهمَا فِي بَيَان أَنْوَاع الْبيُوع الْفَاسِدَة
وَالثَّانِي فِي بَيَان حكمهمَا
أما الأول فَنَقُول الْبيُوع الْفَاسِدَة أَنْوَاع مِنْهَا أَن يكون الْمَبِيع مَجْهُولا وَالثمن مَجْهُولا جَهَالَة توجب الْمُنَازعَة لِأَنَّهَا مَانِعَة عَن التَّسْلِيم والتسلم وبدونهما يكون البيع فَاسِدا لِأَنَّهُ لَا يُفِيد مَقْصُوده
بَيَانه إِذا اشْترى شَاة من قطيع أَو اشْترى أحد الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة بِكَذَا على أَنه بِالْخِيَارِ بَين أَن يَأْخُذ وَاحِدًا مِنْهَا وَيرد الْبَاقِي أَو اشْترى أحد الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة أَو أحد الشَّيْئَيْنِ وَلم يذكر فِيهِ الْخِيَار فَأَما إِذا ذكر الثَّلَاثَة أَو الِاثْنَيْنِ وَشرط الْخِيَار لنَفسِهِ بَين أَن يَأْخُذ وَاحِدًا وَيرد الْبَاقِي فَهَذَا جَائِز اسْتِحْسَانًا اعْتِبَارا بِشَرْط الْخِيَار ثَلَاثَة أَيَّام
وَهل يشْتَرط فِيهِ ذكر مُدَّة خِيَار الشَّرْط اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ وَالأَصَح أَنه لَا يشْتَرط
وَكَذَا إِذا بَاعَ العَبْد بِمِائَة شَاة من هَذَا القطيع وَنَحْوه لَا يجوز لجَهَالَة الثّمن
فَأَما الْجَهَالَة الَّتِي لَا تُفْضِي إِلَى الْمُنَازعَة فَلَا تمنع الْجَوَاز فَإِنَّهُ إِذا بَاعَ قَفِيزا من صبرَة مُعينَة بِدَرَاهِم أَو بَاعَ هَذَا الْعدْل من الثِّيَاب بِكَذَا وَلَا يعرف عَددهَا أَو بَاعَ هَذِه الصُّبْرَة بِكَذَا وَلَا يعلم عدد القفزان جَازَ لما ذكرنَا
وعَلى هَذَا إِذا اشْترى شَيْئا لم يره بِأَن اشْترى فرسا مجللا أَو جَارِيَة منتقبة أَو كرى حِنْطَة فِي هَذَا الْبَيْت أَو عبدا تركيا فِي هَذَا الْبَيْت فَإِنَّهُ يجوز إِذا وجد كَذَلِك وَللْمُشْتَرِي الْخِيَار إِذا رَآهُ
وَعند الشَّافِعِي فَاسد
وَلَو بَاعَ هَذَا العَبْد بِقِيمَتِه فَهُوَ فَاسد لِأَن الْقيمَة تعرف بالحزر وَالظَّن
وَكَذَا لَو اشْترى عدل زطي أَو جراب هروي بِقِيمَتِه لما قُلْنَا
وَلَو اشْترى بِحكم البَائِع أَو المُشْتَرِي أَو بِحكم فلَان فَهُوَ فَاسد لِأَن الثّمن مَجْهُول
وَكَذَلِكَ لَو اشْترى شَيْئا بِأَلف دِرْهَم إِلَّا دِينَار أَو بِمِائَة دِينَار إِلَّا درهما لِأَن مَعْنَاهُ إِلَّا قدر قيمَة الدِّينَار وَهَذِه جَهَالَة مفضية إِلَى الْمُنَازعَة
وَلَو بَاعَ وَقَالَ هُوَ بِالنَّسِيئَةِ كَذَا وبالنقد كَذَا فَهُوَ فَاسد لِأَن الثّمن مَجْهُول
وَكَذَا لَو قَالَ بِعْت إِلَى أجل كَذَا أَو كَذَا فَهُوَ فَاسد لِأَن الْأَجَل مَجْهُول
وَلَو بَاعَ إِلَى الْحَصاد والدياس أَو إِلَى رُجُوع الْحَاج وقدومهم فَالْبيع
فَاسد لما ذكرنَا
وَلَو بَاعَ عدل زطي بِرَأْس مَاله أَو برقمه وَلَا يعلم المُشْتَرِي رقمه وَلَا رَأس مَاله فَهُوَ فَاسد لِأَن الثّمن مَجْهُول
فَإِن علم رَأس مَاله أَو رقمه فِي الْمجْلس فَإِنَّهُ يعود البيع جَائِزا اسْتِحْسَانًا خلافًا لزفَر كَمَا فِي الْحَصاد والدياس أَو بِشَرْط الْخِيَار إِلَى شهر إِلَّا أَن الْفرق أَن هُنَاكَ إِذا رفع الْمُفْسد قبل مَجِيء الْحَصاد والدياس وَقبل مَجِيء الْيَوْم الرَّابِع يعود إِلَى الْجَوَاز سَوَاء كَانَ فِي مجْلِس العقد أَو بعد الْمجْلس وَفِي الرقم يشْتَرط لانقلاب البيع جَائِزا ارْتِفَاع الْمُفْسد فِي الْمجْلس
وَمِنْهَا أَن يكون الْمَبِيع محرما أَو ثمنه بِأَن بَاعَ الْخمر أَو الْخِنْزِير أَو بَاعَ بهما فَإِنَّهُ لَا يجوز
وَكَذَا الْمحرم إِذا بَاعَ صيدا مَمْلُوكا أَو اشْترى بصيد مَمْلُوك لِأَن الْحَرَام لَا يصلح مَبِيعًا وَثمنا غير أَنه إِذا كَانَ مَبِيعًا يكون البيع بَاطِلا وَإِذا كَانَ ثمنا ينْعَقد البيع بِالْقيمَةِ عندنَا بيعا فَاسِدا
وَأما إِذا ذكر الْميتَة وَالدَّم ثمنا فقد اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ
وَمِنْهَا إِذا تعلق بِالْمَبِيعِ حق مُحْتَرم للْغَيْر لَا يملك البَائِع إِبْطَاله يكون البيع فَاسِدا نَحْو أَن يَبِيع الرَّاهِن الْمَرْهُون أَو المؤاجر الْمُسْتَأْجر
وَاخْتلفت الْعبارَة فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فِي الْكتب ذكر فِي بَعْضهَا أَن البيع فَاسد
وَفِي بَعْضهَا أَنه مَوْقُوف على إجَازَة الْمُرْتَهن وَالْمُسْتَأْجر وَهُوَ الصَّحِيح حَتَّى إِن الرَّاهِن لَا يقدر على فَسخه وَكَذَلِكَ المؤاجر وَكَذَا الْمُرْتَهن وَالْمُسْتَأْجر لَا يملكَانِ الْفَسْخ ويملكان الْإِجَازَة
وَإِذا انْقَضتْ هَذِه الْإِجَارَة أَو أفتك الرَّاهِن الرَّهْن يثبت الْملك للْمُشْتَرِي
وَمِنْهَا أَن الْمَبِيع إِذا كَانَ لَا يقدر على تَسْلِيمه وَقت العقد مثل الطير
الَّذِي طَار عَن يَده أَو العَبْد الْآبِق واللقطة وَالْمَغْصُوب يكون البيع فَاسِدا
وَلَو قدر على التَّسْلِيم فِي الْمجْلس لَا يعود إِلَى الْجَوَاز لِأَنَّهُ وَقع فَاسِدا
وَكَذَلِكَ إِذا جعله ثمنا لِأَن الثّمن إِذا كَانَ عينا فَهُوَ مَبِيع فِي حق صَاحبه
وَعَن الطَّحَاوِيّ أَنه يعود جَائِزا
وَمِنْهَا أَن يكون فِي الْمَبِيع أَو فِي ثمنه غرر مثل بيع السّمك فِي المَاء وَهُوَ لَا يقدر على تَسْلِيمه بِدُونِ الِاصْطِيَاد وَالْحِيلَة وَبيع الطير فِي الْهَوَاء أَو بيع مَال الْغَيْر على أَن يَشْتَرِيهِ فيسلمه إِلَيْهِ لِأَنَّهُ بَاعَ لَيْسَ بمملوك لَهُ للْحَال وَفِي ثُبُوته غرر وخطر
وَمِنْهَا بيع مَا هُوَ مَمْلُوك لَهُ لَكِن قبل الْقَبْض وَقد ذكرنَا تَفْصِيله
وَمِنْهَا إِدْخَال الشَّرْطَيْنِ فِي بيع وَاحِد وَذَلِكَ أَن يَقُول إِن أَعْطَيْتنِي حَالا فبألف وَإِن أجلت شهرا فبألفين أَو قَالَ أبيعك بقفيز حِنْطَة أَو بقفيزي شعير فَهُوَ فَاسد لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه نهى عَن الشَّرْطَيْنِ فِي بيع
وَمِنْهَا بيع الأتباع والأوصاف مَقْصُودا وَذَلِكَ نَحْو بيع الإلية من الشَّاة الْحَيَّة والذراع وَالرَّأْس وَنَحْوهَا وَكَذَا بيع ذِرَاع من الثَّوْب لِأَنَّهُ تبع وَلَا يُمكن تَسْلِيمه إِلَّا بِضَرَر وَهُوَ ذبح الشَّاة وَقطع الثَّوْب
وَكَذَلِكَ بيع جذع من سقف وَلَكِن إِذا نزع من السّقف وَسلم جَازَ
أما بيع قفيز من صبرَة أَو بيع عشرَة دَرَاهِم من نقرة وَنَحْوهَا
فَجَائِز لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّبْعِيض ضَرَر وَهُوَ لَيْسَ بتبع أَيْضا لِأَن الْقدر أصل فِي المقدرات بِخِلَاف الذرع فِي الذرعيات
وَمِنْهَا بيع الْمَعْدُوم الَّذِي انْعَقَد سَبَب وجوده أَو مَا هُوَ على خطر الْوُجُود كَبيع المضامين والملاقيح ونتاج الْفرس لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه نهى عَن بيع المضامين والملاقيح وَبيع حَبل الحبلة
وَمِنْهَا أَن يشْتَرط الْأَجَل فِي الْمَبِيع الْعين أَو الثّمن الْعين لِأَن الْأَجَل فِي الْأَعْيَان لَا يُفِيد فَلَا يَصح فَيكون شرطا لَا يَقْتَضِيهِ العقد فَيفْسد البيع
وَأما فِي الثّمن الدّين فَإِن كَانَ الْأَجَل مَعْلُوما جَازَ وَإِن كَانَ مَجْهُولا لَا يجوز على مَا مر
وَمِنْهَا البيع بِشَرْط وَهُوَ أَنْوَاع إِن شرطا شرطا يَقْتَضِيهِ العقد بِأَن اشْترى شَيْئا بِشَرْط أَن يسلم البَائِع الْمَبِيع أَو يسلم المُشْتَرِي الثّمن أَو بِشَرْط أَن يملك الْمَبِيع أَو الثّمن فَالْبيع جَائِز لِأَن هَذَا شَرط مُقَرر مُوجب العقد فَإِن ثُبُوت الْملك وَالتَّسْلِيم والتسلم من مُقْتَضى الْمُعَاوَضَات
وَإِن شرطا شرطا لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلَكِن ورد الشَّرْع بِجَوَازِهِ كالأجل وَالْخيَار رخصَة وتيسيرا فَإِنَّهُ لَا يفْسد العقد لِأَنَّهُ لما ورد الشَّرْع بِهِ ذَلِك أَنه من بَاب الْمصلحَة دون الْمفْسدَة وَهَذَا جَوَاب الِاسْتِحْسَان
وَالْقِيَاس أَن يفْسد لكَونه شرطا مُخَالفا لموجب العقد وَهُوَ ثُبُوت الْملك فِي الْحَال فِي الْعِوَضَيْنِ مَعًا
وَلَكنَّا أَخذنَا بالاستحسان للْحَدِيث الْوَارِد فِي بَاب الْخِيَار
وَإِن شرطا شرطا لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلم يرد الشَّرْع بِهِ أَيْضا لكنه يلائم العقد وَيُوَافِقهُ وَذَلِكَ نَحْو أَن يَشْتَرِي شَيْئا بِشَرْط أَن يُعْطي للْبَائِع كَفِيلا بِالثّمن أَو رهنا بِالثّمن فَهَذَا على وَجْهَيْن إِمَّا أَن يكون الْكَفِيل أَو الرَّهْن مَعْلُوما بِالْإِشَارَةِ وَالتَّسْمِيَة أَو لم يكن مَعْلُوما بِالْإِشَارَةِ وَالتَّسْمِيَة
فَإِن لم يكن مَعْلُوما بِأَن قَالَ أبيعك بِشَرْط أَن تُعْطِينِي رهنا بِالثّمن وَلم يسم رهنا وَلَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَو قَالَ بِشَرْط أَن تُعْطِينِي كَفِيلا بِالثّمن وَلم يسم إنْسَانا وَلَا أَشَارَ إِلَى إِنْسَان كَانَ البيع فَاسِدا لِأَن هَذِه جَهَالَة تُفْضِي إِلَى مُنَازعَة مَانِعَة عَن التَّسْلِيم والتسلم
وَأما إِذا كَانَ مَعْلُوما بِالْإِشَارَةِ أَو بِالتَّسْمِيَةِ فَالْقِيَاس أَن لَا يجوز البيع وَبِه أَخذ زفر
وَفِي الِاسْتِحْسَان يجوز وَهُوَ قَول عُلَمَائِنَا وَهُوَ الصَّحِيح لِأَن الرَّهْن وَالْكَفَالَة بِالثّمن شرعا توثيقا للثّمن فَيكون بِمَنْزِلَة اشْتِرَاط الْجَوْدَة فِي الثّمن فَيكون شرطا مقررا لما يَقْتَضِيهِ العقد معنى
ثمَّ إِنَّمَا يجوز البيع اسْتِحْسَانًا فِي اشْتِرَاط الْكفَالَة إِذا كَانَ الْكَفِيل حَاضرا فِي الْمجْلس وَقبل
فَأَما إِذا كَانَ غَائِبا فَإِنَّهُ لَا يجوز وَإِن بلغه الْخَبَر فَقبل لِأَن وجوب الثّمن فِي ذمَّة الْكَفِيل مُضَاف إِلَى البيع فَيصير الْكَفِيل بِمَنْزِلَة المُشْتَرِي إِذا كَانَت الْكفَالَة مَشْرُوطَة فِي البيع وحضرة المُشْتَرِي فِي الْمجْلس شَرط لصِحَّة الْإِيجَاب من البَائِع وَلَا يتَوَقَّف إِلَى مَا وَرَاء الْمجْلس فَكَذَلِك حَضْرَة الْكَفِيل بِخِلَاف الرَّهْن فَإِن حَضرته لَيست بِشَرْط فِي الْمجْلس لِأَن الرَّهْن من المُشْتَرِي وَهُوَ حَاضر وَالْتزم الرَّهْن فالرهن صَحِيح
ثمَّ فِي الرَّهْن مَا لم يسلم المُشْتَرِي الرَّهْن إِلَى البَائِع لَا يثبت فِيهِ حكم الرَّهْن
وَإِن انْعَقَد عقد الرَّهْن بذلك الْكَلَام لِأَن الرَّهْن لَا يثبت فِي حق الحكم إِلَّا بِالْقَبْضِ على مَا عرف فَإِن سلم الرَّهْن مضى العقد على مَا عقدا وَإِن امْتنع عَن التَّسْلِيم لَا يجْبر على التَّسْلِيم عندنَا وَعند زفر يجْبر لَكِن عندنَا يُقَال للْمُشْتَرِي إِمَّا أَن تدفع الرَّهْن أَو قِيمَته أَو تدفع الثّمن أَو تفسخ البيع لِأَن البَائِع مَا رَضِي بِوُجُوب الثّمن فِي ذمَّة المُشْتَرِي إِلَّا بوثيقة الرَّهْن وَفِي هَذِه الْوُجُوه وَثِيقَة فَإِن لم يفعل المُشْتَرِي شَيْئا من ذَلِك فَللْبَائِع أَن يفْسخ البيع لِأَنَّهُ فَاتَ غَرَضه فَلَا يكون العقد لَازِما فَلهُ أَن يفْسخ
وَقَالُوا فِي البيع إِذا شَرط فِيهِ رهن مَجْهُول حَتَّى فسد البيع ثمَّ اتفقَا على تعْيين رهن فِي الْمجْلس إِنَّه يجوز العقد وَإِن افْتَرقَا عَن الْمجْلس تقرر الْفساد لِأَن تَمام الْقبُول توقف على الرَّهْن الْمَشْرُوط فِي العقد أَلا ترى أَن البَائِع لَو قَالَ للْمُشْتَرِي قبلت الثّمن بِغَيْر رهن فَإِنَّهُ لَا يَصح البيع فَإِذا لم يُوجد الرَّهْن لم يُوجد الْقبُول معنى فَإِذا عينا فِي الْمجْلس جَازَ لِأَن الْمجْلس بِمَنْزِلَة حَالَة وَاحِدَة فَصَارَ كَأَنَّهُ قبل العقد فِي آخر الْمجْلس وَإِن افْتَرقَا بَطل
وعَلى هَذَا إِذا قَالَ المُشْتَرِي فِي الرَّهْن الْمَجْهُول أَنا أعطي الثّمن لم يفْسد العقد لِأَن الْغَرَض من الرَّهْن هُوَ الْوُصُول إِلَى الثّمن وَهُوَ حَاصِل فَسقط اعْتِبَار الْوَثِيقَة
وَلَو شَرط البَائِع فِي البيع أَن يحيله المُشْتَرِي بِالثّمن على غَرِيم من غُرَمَائه فَهَذَا على وَجْهَيْن إِن أحَال بِجَمِيعِ الثّمن فَالْبيع فَاسد لِأَنَّهُ يصير بَائِعا بِشَرْط أَن يكون الثّمن على غير المُشْتَرِي وَهُوَ بَاطِل
وَإِن بَاعَ بِشَرْط أَن يحِيل نصف الثّمن على فلَان فَهُوَ جَائِز
إِذا كَانَ حَاضرا وَقبل الْحِوَالَة كَمَا إِذا بَاعَ عبدا من رجل بِأَلف دِرْهَم على أَن يكون نصفه على فلَان وَهُوَ حَاضر فَقبل جَازَ كَذَا هَذَا
ثمَّ إِذا كَانَ الْكَفِيل والمحتال عَلَيْهِ غائبين عَن الْمجْلس فَلم يحضرا حَتَّى افترق العاقدان فَلَا يَصح البيع إِلَّا بِإِيجَاب مبتد لِأَن تَمام العقد يقف على قبُول الْكَفِيل والمحتال عَلَيْهِ فَجعل كَأَن الْقبُول لم يُوجد من المُشْتَرِي فِي الْمجْلس
وَلَو حضرا فِي الْمجْلس وقبلا جَازَ كَمَا لَو قبلا عِنْد العقد لِأَن الْمجْلس لَهُ حكم سَاعَة وَاحِدَة
وَلَو شَرط المُشْتَرِي فِي البيع على أَن يحِيل البَائِع على غَرِيم من غُرَمَائه بِالثّمن ليدفع إِلَيْهِ أَو بَاعَ بِشَرْط أَن يضمن المُشْتَرِي لغريم من غُرَمَائه الثّمن فَالْبيع فَاسد لِأَن شَرط الضَّمَان وَالْحوالَة ثمَّة صَار بِمَنْزِلَة اشْتِرَاط صفة الْجَوْدَة فِي الثّمن لكَونه توكيدا للثّمن وتوثيقا لَهُ وَشرط الضَّمَان هَهُنَا لَيْسَ بِصفة للثّمن بل هُوَ شَرط فِيهِ مَنْفَعَة الْعَاقِد وَالْعقد لَا يَقْتَضِيهِ فَيفْسد البيع
وَإِن شرطا شرطا لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلَا يلائمه ولأحدهما فِيهِ مَنْفَعَة إِلَّا أَنه مُتَعَارَف بِأَن اشْترى نعلا وشراكا على أَن يحذوه البَائِع جَازَ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاس أَن لَا يجوز وَهُوَ قَول زفر
وَلَكِن أَخذنَا بالاستحسان لتعارف النَّاس كَمَا فِي الاستصناع
وَلَو شرطا شرطا لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلَا يلائمه وَلَا يتعارفه النَّاس وَفِيه مَنْفَعَة لأحد الْعَاقِدين بِأَن اشْترى حِنْطَة على أَن يطحنها البَائِع أَو ثوبا على أَن يخيطه البَائِع أَو اشْترى حِنْطَة على أَن يَتْرُكهَا فِي دَار البَائِع شهرا وَنَحْو ذَلِك فَالْبيع فَاسد
وَهَذَا كُله مَذْهَب عُلَمَائِنَا
وَقَالَ ابْن أبي ليلى بِأَن البيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل
وَقَالَ ابْن شبْرمَة بِأَن البيع جَائِز وَالشّرط جَائِز
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن اشْتِرَاط الْمَنْفَعَة الزَّائِدَة فِي عقد الْمُعَاوضَة لأحد الْعَاقِدين من بَاب الرِّبَا أَو شُبْهَة الرِّبَا وَإِنَّهَا مُلْحقَة بِحَقِيقَة الرِّبَا فِي بَاب البيع احْتِيَاطًا
وَلَو شرطا شرطا فِيهِ ضَرَر لأحد الْعَاقِدين بِأَن بَاعَ ثوبا أَو حَيَوَانا سوى الرَّقِيق بِشَرْط أَن لَا يَبِيعهُ وَلَا يَهبهُ ذكر فِي الْمُزَارعَة الْكَبِيرَة مَا يدل على أَن البيع بِهَذَا الشَّرْط لَا يفْسد فَإِنَّهُ ذكر أَن أحد المزارعين لَو شَرط فِي الْمُزَارعَة أَن لَا يَبِيع الآخر نصِيبه أَو لَا يَهبهُ قَالَ الْمُزَارعَة جَائِزَة وَالشّرط بَاطِل لِأَنَّهُ لَيْسَ لأحد المتعاملين فِيهِ مَنْفَعَة هَكَذَا ذكر الْحسن فِي الْمُجَرّد
وروى أَبُو يُوسُف فِي الأمالي خِلَافه وَهُوَ قَوْله إِن البيع بِمثل هَذَا الشَّرْط فَاسد
وَالصَّحِيح هُوَ الأول
وَلَو بَاعَ جَارِيَة بِشَرْط أَن يَطَأهَا أَو لَا يَطَأهَا لم يذكر فِي ظَاهر الرِّوَايَة
وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ البيع فَاسد فِي الْمَوْضِعَيْنِ
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد أَنه قَالَ لَا تفْسد فِي الْمَوْضِعَيْنِ
وَعَن أبي يُوسُف أَنه قَالَ إِن بَاعَ بِشَرْط أَن يَطَأهَا فَالْبيع جَائِز وَإِن بَاعَ بِشَرْط أَن لَا يَطَأهَا فَالْبيع فَاسد
فَالْحَاصِل أَن البيع بِشَرْط أَن يَطَأهَا فَاسد عِنْد أبي حنيفَة
وَعِنْدَهُمَا جَائِز لِأَن إِبَاحَة الْوَطْء حكم يَقْتَضِيهِ العقد فَصَارَ كَمَا لَو اشْترى طَعَاما بِشَرْط أَن يَأْكُلهُ وَنَحْو ذَلِك
وَأَبُو حنيفَة يَقُول هَذَا شَرط لَا يَقْتَضِيهِ العقد فَإِنَّهُ لَو صَحَّ الشَّرْط كَانَ حكمه وجوب الْوَطْء وَالْبيع لَا يَقْتَضِيهِ وَفِيه نفع للمعقود عَلَيْهِ وَهُوَ من أهل اسْتِحْقَاق الْحق على مَوْلَاهُ فِي الْجُمْلَة فَإِنَّهُ يسْتَحق النَّفَقَة عَلَيْهِ بِخِلَاف مَا إِذا بَاعَ حَيَوَانا بِشَرْط أَن يعلفه لِأَنَّهُ لَيْسَ من أهل اسْتِحْقَاق الْحق على مَالِكه
وَأما البيع بِشَرْط أَن لَا يَطَأهَا فقد قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف البيع فَاسد
وعَلى قَول مُحَمَّد جَائِز
وَهُوَ قِيَاس مَا روى أَبُو يُوسُف عَنهُ فِي الأمالي إِذا بَاعَ طَعَاما بِشَرْط أَن لَا يَأْكُل أَو لَا يَبِيع فَإِن البيع فَاسد
فَأَما على قِيَاس مَا ذكر فِي الْمُزَارعَة الْكَبِيرَة فَيجب أَن يكون الْجَواب على قَول أبي حنيفَة فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مثل قَول مُحَمَّد
وَلَو اشْترى عبدا بِشَرْط أَن يعتقهُ المُشْتَرِي قَالَ عُلَمَاؤُنَا البيع فَاسد حَتَّى لَو أعْتقهُ المُشْتَرِي قبل الْقَبْض لم ينفذ عتقه وَإِن أعْتقهُ بعد الْقَبْض عتق فَانْقَلَبَ العقد جَائِزا اسْتِحْسَانًا فِي قَول أبي حنيفَة حَتَّى يجب عَلَيْهِ الثّمن
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد لَا يَنْقَلِب العقد جَائِزا إِذا أعْتقهُ حَتَّى يجب عَلَيْهِ قيمَة العَبْد
وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة مثل قَوْلهمَا
وَقَالَ الشَّافِعِي فِي أحد قوليه إِن البيع بِهَذَا الشَّرْط جَائِز
وَقد روى أَبُو يُوسُف عَن أبي حنيفَة مثله
وَالصَّحِيح قَول أبي حنيفَة لِأَن هَذَا شَرط يلائم العقد من وَجه دون
وَجه فَمن حَيْثُ إِن الْإِعْتَاق إِزَالَة الْملك يكون تغييرا لحكم العقد وَمن حَيْثُ إِنَّه إنهاء للْملك يكون ملائما لَهُ لِأَن فِيهِ تقريرا فَقُلْنَا بِفساد البيع فِي الِابْتِدَاء وبالجواز فِي الِانْتِهَاء عملا بالدليلين وَبِالْعَكْسِ لَا يكون عملا بهما لأَنا نجد فَاسِدا يَنْقَلِب جَائِزا كَمَا فِي بيع الرقم وَلَكِن لم نجد جَائِزا يَنْقَلِب فَاسِدا فَكَانَ الْوَجْه الأول أولى
وَلَو بَاعَ بِشَرْط التَّدْبِير وَالْكِتَابَة وَفِي الْأمة بِشَرْط الِاسْتِيلَاد فَالْبيع فَاسد وَلَا يَنْقَلِب إِلَى الْجَوَاز عِنْد وجود الشَّرْط لِأَن هَذَا شَرط لَا يلائم البيع لِأَنَّهُ لَا يثبت إنهاء الْملك هَهُنَا بِيَقِين لاحْتِمَال أَن القَاضِي يقْضِي بِالْجَوَازِ فِي التَّدْبِير وَالِاسْتِيلَاد فَلَا يَتَقَرَّر حكمه
وَلَو بَاعَ الثِّمَار على الْأَشْجَار والزروع الْمَوْجُودَة هَل يكون البيع فَاسِدا فَهَذَا لَا يَخْلُو من وُجُوه إِمَّا إِن كَانَ قبل الْإِدْرَاك أَو بعده بِشَرْط الْقطع أَو بِشَرْط التّرْك
فَإِن كَانَ قبل الْإِدْرَاك فَإِن كَانَ بِشَرْط الْقطع جَازَ وَإِن اشْترى مُطلقًا جَازَ
وَقَالَ الشَّافِعِي إِن اشْترى بِشَرْط الْقطع جَازَ
وَإِن اشْترى مُطلقًا لَا يجوز لِأَنَّهُ صَار شارطا للترك دلَالَة
وَلَكِن الصَّحِيح قَوْلنَا لِأَنَّهُ اشْترى مَا هُوَ مَال وَإِن كَانَ لَا يتكامل الِانْتِفَاع بِهِ بِمَنْزِلَة شِرَاء الجحش وَالْكَلَام الْمُطلق لَا يحمل على الْمُقَيد خُصُوصا إِذا كَانَ فِي ذَلِك فَسَاد العقد
وَأما إِذا بَاعَ بِشَرْط التّرْك فَهُوَ فَاسد بِلَا خلاف بَين أَصْحَابنَا لِأَنَّهُ شَرط فِيهِ مَنْفَعَة للْمُشْتَرِي فَصَارَ كَمَا لَو اشْترى حِنْطَة بِشَرْط أَن يَتْرُكهَا فِي دَار البَائِع شهرا
هَذَا إِذا بَاعَ قبل أَن يَبْدُو صَلَاحهَا
وَإِمَّا إِذا بَاعَ بعد بَدو صَلَاحهَا
مُطلقًا أَو بِشَرْط الْقطع جَازَ
وَلَو بَاعَ بِشَرْط التّرْك لَا يجوز عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف
وَقَالَ مُحَمَّد إِن تناهى عظمها جَازَ وَإِن لم يتناه عظمها لَا يجوز لِأَن النَّاس تعاملوا ذَلِك من غير نَكِير
وَالصَّحِيح قَوْلهمَا لِأَن هَذَا شَرط فِيهِ مَنْفَعَة للْمُشْتَرِي وَالْعقد لَا يَقْتَضِيهِ والتعامل لم يكن بِشَرْط التّرْك وَلَكِن الْإِذْن مُعْتَاد بِلَا شَرط فِي العقد
وَلَو اشْترى مُطلقًا وَتركهَا على النّخل من غير شَرط التّرْك وَلم يتناه عظمها فَإِن كَانَ ذَلِك بِإِذن البَائِع جَازَ وَطلب لَهُ الْفضل
وَإِن ترك بِغَيْر إِذن البَائِع تصدق بِمَا زَاد على مَا كَانَ عِنْد العقد لِأَنَّهُ حصل من وَجه بِسَبَب مَحْظُور
وَإِن أخرج النّخل وَالشَّجر فِي مُدَّة التّرْك ثَمَرَة أُخْرَى فَذَلِك كُله للْبَائِع سَوَاء كَانَ التّرْك بِإِذْنِهِ أَو بِغَيْر إِذْنه
وَإِن جللها مِنْهُ البَائِع جَازَ لِأَن هَذَا الْحَادِث لم يَقع عَلَيْهِ العقد وَإِنَّمَا هُوَ نَمَاء ملك البَائِع فَيكون لَهُ فَإِن اخْتَلَط الْحَادِث بالموجود وَقت العقد بِحَيْثُ لَا يُمكن التَّمْيِيز بَينهمَا فَإِن كَانَ قبل أَن يخلي البَائِع بَين المُشْتَرِي وَالثِّمَار فسد البيع لِأَن الْمَبِيع صَار مَجْهُولا بِحَيْثُ يتَعَذَّر تَسْلِيمه حَال وجوب التَّسْلِيم وَالْعجز عَن التَّسْلِيم مُفسد للْبيع وَإِن كَانَ ذَلِك بعد التَّخْلِيَة لم يفْسد البيع وَكَانَت الثَّمَرَة بَينهمَا وَالْقَوْل فِي الزِّيَادَة قَول المُشْتَرِي لِأَن البيع قد تمّ بعد الْقَبْض
فَأَما إِذا اشْترى ثَمَرَة قد تناهى عظمها وَتركهَا على الشَّجَرَة بِغَيْر إِذن البَائِع لم يتَصَدَّق بِشَيْء لِأَنَّهَا لَا تزيد بعد التناهي بل تنقص فَلم يحصل لَهَا زِيَادَة بِسَبَب مَحْظُور
فَأَما فِي الزَّرْع فالنماء يكون للْمُشْتَرِي طيبا وَإِن تَركه بِغَيْر إِذْنه لِأَنَّهُ نَمَاء ملك المُشْتَرِي لِأَن السَّاق ملكه حَتَّى يكون التِّبْن لَهُ بِخِلَاف الشَّجَرَة
وَأما الزروع الَّتِي يُوجد بَعْضهَا بعد وجود بعض كالباذنجان والبطيخ والكراث وَنَحْوهَا فقد قَالَ أَصْحَابنَا يجوز بيع مَا ظهر مِنْهَا من الْخَارِج الأول وَلَا يجوز بيع مَا لم يظْهر لِأَنَّهُ بيع مَعْدُوم
وَقَالَ مَالك إِذا ظهر الْخَارِج الأول جَازَ بيع الْكل لأجل الضَّرُورَة إِلَّا أَنا نقُول لَا ضَرُورَة فَإِنَّهُ يُمكنهُ بيع الأَصْل بِمَا فِيهِ من الثَّمر فَيصير الأَصْل ملكا لَهُ فَبعد ذَلِك مَا تولد من الأَصْل يحدث على ملكه
وَمِنْهَا أَن يَشْتَرِي شَيْئا بِثمن مَعْلُوم ثمَّ يَبِيعهُ من البَائِع بِأَقَلّ مِمَّا بَاعه قبل نقد الثّمن
فَإِن بَاعه بِجِنْس الثّمن الأول بِأَن اشْتَرَاهُ بِأَلف دِرْهَم ثمَّ بَاعه مِنْهُ بِخَمْسِمِائَة دِرْهَم قبل نقد الثّمن فَهُوَ فَاسد عندنَا
وَعند الشَّافِعِي صَحِيح
وَإِن كَانَ بِخِلَاف جنس الثّمن الأول جَازَ
وَالْأَصْل فِي ذَلِك حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي قصَّة زيد بن أَرقم وَهُوَ مَعْرُوف
ثمَّ مَا ذكرنَا من الشُّرُوط الَّتِي إِذا أدخلها فِي نفس العقد يكون مُفْسِدا للْعقد إِذا اعترضت على العقد الصَّحِيح هَل يفْسد العقد عِنْد أبي حنيفَة يفْسد ويلتحق بِأَصْل العقد بِمَنْزِلَة اشْتِرَاط الْخِيَار فِي العقد البات وَالزِّيَادَة والحط فِي الثّمن وَعِنْدَهُمَا لَا يلْتَحق وَيبْطل الشَّرْط وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما حكم البيع الْفَاسِد فَنَقُول هَذَا على وَجْهَيْن إِن كَانَ الْفساد من قبل الْمَبِيع بِأَن كَانَ محرما نَحْو الْخمر وَالْخِنْزِير وصيد الْحرم وَالْإِحْرَام فَالْبيع بَاطِل لَا يُفِيد الْملك أصلا وَإِن قبض لِأَنَّهُ لَا يثبت الْملك فِي الْخمر وَالْخِنْزِير للْمُسلمِ بِالْبيعِ وَالْبيع لَا ينْعَقد بِلَا مَبِيع
وَكَذَلِكَ إِذا بَاعَ الْميتَة وَالدَّم وكل مَا لَيْسَ بِمَال مُتَقَوّم
وَكَذَلِكَ إِذا بَاعَ الْمُدبر وَأم الْوَلَد وَالْمكَاتب والمستسعي وَنَحْو ذَلِك
وَكَذَلِكَ الصَّيْد الَّذِي ذبحه الْمحرم أَو صيد الْحرم إِذا ذبح فَإِنَّهُ يكون ميتَة فَلَا يجوز بَيْعه
وَإِن كَانَ الْفساد يرجع لثمن فَإِن ذكر مَا هُوَ مَال فِي الْجُمْلَة شرعا أَو مَا هُوَ مَرْغُوب عِنْد النَّاس لَا يُوجد مجَّانا بِغَيْر شَيْء كَمَا إِذا بَاعَ بِالْخمرِ وَالْخِنْزِير وصيد الْحرم وَالْإِحْرَام فَإِن البيع ينْعَقد بِقِيمَة الْمَبِيع ويفيد الْملك فِي الْمَبِيع بِالْقَبْضِ لِأَن ذكر الثّمن المرغوب دَلِيل على أَن غرضهما البيع فَينْعَقد بيعا بِقِيمَة الْمَبِيع
وَكَذَلِكَ إِذا جعلا الثّمن مُدبرا أَو مكَاتبا أَو أم ولد لِأَنَّهُ مَرْغُوب فِيهِ
وَإِذا جعلا الْميتَة وَالدَّم ثمنا فقد اخْتلف الْمَشَايِخ
وَكَذَلِكَ لَو بَاعه بِمَا يرْعَى بِهِ إبِله فِي أرضه من الْكلأ أَو بِمَا يشرب دَابَّته من مَاء بئره لِأَنَّهُ ذكر شَيْئا مرغوبا فِيهِ
وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ الْفساد بِإِدْخَال شَرط فَاسد أَو بِاعْتِبَار الْجَهَالَة وَنَحْو ذَلِك
وَإِن ذكر الْمَبِيع وَالثمن فَهُوَ على هَذَا يُفِيد الْملك بِالْقيمَةِ عِنْد الْقَبْض
وَهَذَا كُله عندنَا
وَعند الشَّافِعِي البيع فَاسد لَا يُفِيد الْملك أصلا وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وعَلى هَذَا لَو قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا العَبْد وَلم يذكر الثّمن ينْعَقد البيع بِالْقيمَةِ وَلَو قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا العَبْد بِقِيمَتِه فَكَذَلِك
ثمَّ فِي البيع الْفَاسِد إِنَّمَا يملك بِالْقَبْضِ إِذا كَانَ بِإِذن البَائِع فَأَما إِذا كَانَ بِغَيْر إِذْنه فَهُوَ كَمَا لَو لم يقبض هَذَا هُوَ الْمَشْهُور من الرِّوَايَات عَن أَصْحَابنَا
وَذكر مُحَمَّد فِي الزِّيَادَات إِذا قَبضه بِحَضْرَة البَائِع فَلم يَنْهَهُ وَسكت إِنَّه يكون قبضا وَيصير ملكا لَهُ وَلم يحك خلافًا
وَقد قَالَ أَصْحَابنَا فِيمَن وهب هبة وَالْقِيَاس أَن لَا يملكهَا الْمَوْهُوب لَهُ حَتَّى يقبضهَا بِإِذن الْوَاهِب أَو بتسليمها إِلَيْهِ
إِلَّا أَنهم استحسنوا وَقَالُوا إِذا قبضهَا فِي مجْلِس العقد بِحَضْرَة الْوَاهِب وَلم يَنْهَهُ وَسكت
جَازَت ويفيد الْملك وَإِذا قبض بعد الِافْتِرَاق عَن الْمجْلس بِحَضْرَتِهِ لَا يَصح الْقَبْض وَإِن سكت لِأَن الْملك من الْمَوْهُوب إِنَّمَا يَقع بِالْعقدِ وَالْقَبْض فَيكون الْإِقْدَام على إِيجَاب الْهِبَة إِذْنا بِالْقَبْضِ كَمَا يكون إِذْنا بِالْقبُولِ وَبعد الِافْتِرَاق عَن الْمجْلس لَا يكون إِذْنا بِالْقبُولِ وَكَذَلِكَ لَا يكون إِذْنا بِالْقَبْضِ فعلى هَذَا يجب أَن يكون فِي البيع الْفَاسِد فِي مجْلِس العقد يكون إِذْنا بِالْقَبْضِ وَبعد الِافْتِرَاق لَا يكون إِذْنا
ثمَّ المُشْتَرِي شِرَاء فَاسِدا هَل يملك التَّصَرُّف فِي الْمُشْتَرى وَهل يكره ذَلِك فَنَقُول لَا شكّ أَنه قبل الْقَبْض لَا يملك تَصرفا مَا لعدم الْملك فَأَما بعد الْقَبْض فَيملك التَّصَرُّفَات المزيلة للْملك من كل وَجه أَو من وَجه نَحْو الْإِعْتَاق وَالْبيع وَالْهِبَة وَالتَّسْلِيم وَالتَّدْبِير وَالِاسْتِيلَاد وَالْكِتَابَة لِأَن هَذِه التَّصَرُّفَات تزيل حق الِانْتِفَاع بالحرام
وَلَكِن هَل يُبَاح لَهُ التَّصَرُّفَات الَّتِي فِيهَا انْتِفَاع بِالْمَبِيعِ مَعَ قيام الْملك اخْتلف الْمَشَايِخ
قَالَ بَعضهم لَا يُبَاح الِانْتِفَاع بِهِ حَتَّى لَا يُبَاح لَهُ الْوَطْء إِن كَانَت جَارِيَة وَلَا الْأكل إِن كَانَ طَعَاما وَلَا الِانْتِفَاع بِهِ إِن كَانَ دَارا أَو دَابَّة أَو ثوبا
وَبَعض مَشَايِخنَا قَالُوا لَا يُبَاح لَهُ الْوَطْء لَا غير وَيُبَاح لَهُ سَائِر أَنْوَاع الانتفاعات
فالأولون قَالُوا إِن هَذَا ملك خَبِيث فَلَا يظْهر الْملك فِي حق حل الْوَطْء وَالِانْتِفَاع احْتِيَاطًا
وَالْآخرُونَ قَالُوا إِن الْمَالِك سلطه على التَّصَرُّف وأباح لَهُ التَّصَرُّف فَكل تصرف يُبَاح بِالْإِذْنِ يُبَاح بِهَذَا البيع وَالْوَطْء لَا يُبَاح بِإِذن المَال فَلَا يُبَاح بالتسليط بِخِلَاف سَائِر الانتفاعات
وَأما الْكَرَاهَة فَنَقُول ذكر الْكَرْخِي وَقَالَ يكره التَّصَرُّفَات كلهَا لِأَنَّهُ يجب عَلَيْهِ الْفَسْخ لحق الشَّرْع وَفِي هَذِه التَّصَرُّفَات إبِْطَال حق الْفَسْخ أَو تَأْخِيره فَيكْرَه
وَقَالَ بعض مَشَايِخنَا لَا يكره التَّصَرُّفَات المزيلة للْملك لِأَنَّهُ يَزُول الْفساد بِسَبَبِهَا
فَأَما التَّصَرُّفَات الَّتِي توجب تَقْرِير الْملك الْفَاسِد فَإِنَّهُ يكره
وَالصَّحِيح هُوَ الأول
ثمَّ المُشْتَرِي شِرَاء فَاسِدا إِذا تصرف فِي المُشْتَرِي بعض الْقَبْض فَإِن كَانَ تَصرفا مزيلا للْملك من كل وَجه كالإعتاق وَالْبيع وَالْهِبَة فَإِنَّهُ يجوز وَلَا يفْسخ لِأَن الْفساد قد زَالَ بِزَوَال الْملك
وَإِن كَانَ تَصرفا مزيلا للْملك من وَجه أَو لَا يكون مزيلا للْملك فَإِن كَانَ تَصرفا لَا يحْتَمل الْفَسْخ كالتدبير وَالِاسْتِيلَاد وَالْكِتَابَة فَإِنَّهُ يبطل حق الْفَسْخ
إِن كَانَ يحْتَمل الْفَسْخ إِن كَانَ يفْسخ بالعذر كَالْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ يفْسخ الْإِجَارَة ثمَّ يفْسخ البيع بِسَبَب الْفساد وَيجْعَل حق الْفَسْخ بِسَبَب الْفساد عذرا فِي فسخ الْإِجَارَة
وَلَو زَوجهَا من إِنْسَان بعد الْقَبْض فَإِن النِّكَاح لَا يمْنَع الْفَسْخ وَالنِّكَاح بِحَالهِ لِأَنَّهُ زَوجهَا وَهِي مَمْلُوكَة لَهُ فصح نِكَاحهَا وَالنِّكَاح مِمَّا لَا يحْتَمل الْفَسْخ فَبَقيَ النِّكَاح
وَلَو أوصى بِالْعَبدِ الْمَبِيع بيعا فَاسِدا فَإِنَّهُ يفْسخ لِأَن الْوَصِيَّة مِمَّا يحْتَمل الرُّجُوع
وَلَو مَاتَ الْمُوصي قبل الْفَسْخ سقط الْفَسْخ لِأَن الْملك انْتقل إِلَى الْمُوصى لَهُ فَصَارَ كَالْبيع
وَلَو مَاتَ المُشْتَرِي شِرَاء فَاسِدا فورثه الْوَرَثَة فَللْبَائِع حق الْفَسْخ وَكَذَلِكَ للْوَرَثَة لِأَن الْوَارِث يقوم مقَام الْمَيِّت فِي حق الْفَسْخ وَلِهَذَا يرد بِالْعَيْبِ وَيرد عَلَيْهِ بِخِلَاف الْمُوصى لَهُ
وَلَو حصل فِي الْمَبِيع بيعا فَاسِدا زِيَادَة مُنْفَصِلَة كَالْوَلَدِ وَالثَّمَر وَاللَّبن أَو الْأَرْش بِسَبَب تَفْوِيت بعضه فَإِنَّهُ لَا يمْنَع الْفَسْخ بل للْبَائِع أَن يَأْخُذ الْمَبِيع مَعَ الزَّوَائِد وَيفْسخ البيع لِأَن قبض المُشْتَرِي شِرَاء فَاسِدا بِمَنْزِلَة قبض الْغَصْب
ثمَّ إِذا أَخذ الْوَلَد فَإِن كَانَت الْولادَة نقصت الْجَارِيَة نظر فِي قيمَة الْوَلَد فَإِن كَانَ فِيهِ وَفَاء بِالنُّقْصَانِ فَلَا شَيْء على المُشْتَرِي وَإِن لم يكن فِيهِ وَفَاء غرم تَمام النُّقْصَان
وَإِن وطىء المُشْتَرِي الْمَبِيعَة بيعا فَاسِدا فَهَذَا على وَجْهَيْن إِن لم يعلقها فَللْبَائِع أَن يسْتَردّ الْجَارِيَة وَيضمن المُشْتَرِي عقرهَا للْبَائِع بِاتِّفَاق الرِّوَايَات بِخِلَاف الْجَارِيَة الْمَوْهُوبَة إِذا وَطئهَا الْمَوْهُوب لَهُ ثمَّ رَجَعَ الْوَاهِب فَإِنَّهُ لَا يضمن للْوَاهِب عقرهَا لِأَنَّهُ وطىء ملك نَفسه ملكا مُطلقًا فِي حق حل الْوَطْء وَغَيره وبالرجوع لم يظْهر أَن الْملك لم يكن أما فِي البيع الْفَاسِد فَلم يظْهر الْملك فِي حق حل الْوَطْء لَكِن لم يحد للشهبة فَيجب الْعقر
وَإِن أعلقها وَادّعى الْوَلَد يثبت نسب الْوَلَد مِنْهُ وَتصير الْجَارِيَة أم ولد لَهُ وَللْبَائِع أَن يضمن المُشْتَرِي قيمَة الْجَارِيَة وَيبْطل حَقه فِي الْجَارِيَة
وَإِذا وَجَبت الْقيمَة هَل يجب الْعقر ذكر فِي كتاب الْبيُوع وَقَالَ لَا عقر عَلَيْهِ
وَذكر فِي كتاب الشّرْب وَقَالَ عَلَيْهِ الْعقر
وَلَو أحدث المُشْتَرِي فِي الْمَبِيع بيعا فَاسِدا صنعا لَو فعله الْغَاصِب فِي الْمَغْصُوب يصير ملكا لَهُ بِالْقيمَةِ كَمَا إِذا طحن الْحِنْطَة أَو خاط الثَّوْب قَمِيصًا وَنَحْو ذَلِك يَنْقَطِع حق البَائِع فِي الْفَسْخ وَيلْزمهُ قِيمَته يَوْم الْقَبْض كَمَا فِي الْغَصْب
وَكَذَلِكَ لَو كَانَ الْمَبِيع ساجة فَأدْخلهَا فِي بنائِهِ
وَإِن كَانَ الْمَبِيع أَرضًا فَبنى فِيهَا المُشْتَرِي فَلَيْسَ للْبَائِع أَن ينْقض البيع عِنْد أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله للْبَائِع أَن ينْقض كَمَا فِي الْغَصْب فَإِن الْغَاصِب إِذا بنى على الأَرْض الْمَغْصُوبَة لَا يَنْقَطِع حق الْمَالِك فَكَذَا هَذَا
وَأَبُو حنيفَة يَقُول إِن الْمَبِيع صَار ملكا لَهُ وَفِي النَّقْض ضَرَر كثير فَلَا ينْقض بِخِلَاف الْغَاصِب
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
بَاب خِيَار الشَّرْط
بَاب خِيَار الشَّرْط
الْكَلَام فِي خِيَار الشَّرْط فِي مَوَاضِع أَحدهَا فِي بَيَان شَرط الْخِيَار الْمُفْسد وَالَّذِي لَيْسَ بمفسد وَالثَّانِي فِي بَيَان مِقْدَار مُدَّة الْخِيَار
وَالثَّالِث فِي بَيَان مَا يسْقط الْخِيَار وَالرَّابِع فِي بَيَان عمل الْخِيَار وَحكمه وَالْخَامِس فِي بَيَان كَيْفيَّة الْفَسْخ وَالْإِجَازَة
أما الأول فَنَقُول إِن الْخِيَار الْمُفْسد ثَلَاثَة أَنْوَاع بِأَن ذكر الْخِيَار مُؤَبَّدًا بِأَن قَالَ بِعْت أَو اشْتريت على أَنِّي بِالْخِيَارِ أبدا أَو ذكر الْخِيَار مُطلقًا وَلم يبين وقتا أصلا بِأَن قَالَ على أَنِّي بِالْخِيَارِ أَو ذكر وقتا مَجْهُولا بِأَن قَالَ على أَنِّي بِالْخِيَارِ أَيَّامًا وَلم يبين وقتا مَعْلُوما
وَالْجَوَاب فِي هَذِه الْفُصُول الثَّلَاثَة أَن البيع فَاسد
وَأما الْخِيَار الْمَشْرُوع فنوع وَاحِد وَهُوَ أَن يذكر وقتا مَعْلُوما وَلم يُجَاوز عَن الثَّلَاثَة بِأَن قَالَ على أَنِّي بِالْخِيَارِ يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة أَيَّام
وَهَذَا قَول عَامَّة الْعلمَاء سَوَاء كَانَ الْخِيَار للْبَائِع أَو للْمُشْتَرِي
وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ وَابْن شبْرمَة إِن كَانَ الْخِيَار للْمُشْتَرِي يجوز وَإِلَّا فَلَا
وأصل هَذَا أَن اشْتِرَاط الْخِيَار كَيْفَمَا كَانَ شَرط يُنَافِي مُوجب العقد وَهُوَ ثُبُوت الْملك عِنْد العقد وَإِنَّمَا عرفنَا جَوَازه بِحَدِيث حبَان بن منقذ بِخِلَاف الْقيَاس والْحَدِيث ورد بِالْخِيَارِ فِي مُدَّة مَعْلُومَة وَهِي ثَلَاثَة أَيَّام فَبَقيَ مَا وَرَاء ذَلِك على أصل الْقيَاس إِلَّا إِذا كَانَ ذَلِك فِي مَعْنَاهُ
وَأما إِذا شَرط الْخِيَار أَرْبَعَة أَيَّام أَو شهرا فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَزفر رحمهمَا الله بِأَن البيع فَاسد وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ رَحِمهم الله بِأَنَّهُ جَائِز
وَالصَّحِيح مَا قَالَه أَبُو حنيفَة لما قُلْنَا إِنَّه شَرط مُخَالف لمقْتَضى العقد وَالشَّرْع ورد فِي ثَلَاثَة أَيَّام فَبَقيَ مَا زَاد عَلَيْهَا على أصل الْقيَاس
وَأما بَيَان مَا يسْقط الْخِيَار فَنَقُول إِن الْخِيَار بعد ثُبُوته يسْقط بمعان ثَلَاثَة إِمَّا بالإسقاط صَرِيحًا أَو بالإسقاط بطرِيق الدّلَالَة أَو بطرِيق الضَّرُورَة
أما بالإسقاط صَرِيحًا فبأن يَقُول أسقطت الْخِيَار أَو أبطلته أَو أجزت البيع أَو رضيت بِهِ فَيبْطل الْخِيَار لِأَن الْخِيَار شرع للْفَسْخ فَإِذا سقط يبطل الْخِيَار وَالْأَصْل هُوَ لُزُوم العقد ونفاذه فَإِذا بَطل عَاد الأَصْل
وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ فسخت العقد
أَو نقضته أَو أبطلته يسْقط
الْخِيَار لِأَن الْخِيَار هُوَ التَّخْيِير بَين الْفَسْخ وَالْإِجَازَة فَأَيّهمَا وجد سقط
وَأما الْإِسْقَاط بطرِيق الدّلَالَة فَهُوَ أَن يُوجد مِمَّن لَهُ الْخِيَار تصرف يدل على إبْقَاء الْملك وإثباته فالإقدام عَلَيْهِ يبطل خِيَاره تَحْقِيقا لغرضه
إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول إِذا كَانَ الْخِيَار للْمُشْتَرِي وَالْمَبِيع فِي يَده فعرضه على البيع يبطل خِيَاره لِأَن عرض المُشْتَرِي الْمَبِيع على البيع لاختياره الثّمن وَلَا يصير الثّمن ملكا لَهُ إِلَّا بعد ثُبُوت الْملك فِي الْمُبدل فَيصير مُخْتَارًا للْملك وَلَا يكون ذَلِك إِلَّا بِإِبْطَال الْخِيَار فَيبْطل بطرِيق الدّلَالَة
وَأما الْخِيَار إِذا كَانَ للْبَائِع فعرضه على البيع فَلم يذكر فِي ظَاهر الرِّوَايَة وَعَن أبي حنيفَة رِوَايَتَانِ
وَالأَصَح أَنه يكون إِسْقَاطًا لخياره لِأَنَّهُ دَلِيل إبْقَاء الْملك لِأَنَّهُ لَا يصل إِلَى الثّمن من غَيره إِلَّا بالتمليك مِنْهُ وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا بِإِسْقَاط الْخِيَار وَفسخ العقد الأول
وَلَو أَن المُشْتَرِي إِذا كَانَ لَهُ الْخِيَار فِي عبد فَبَاعَهُ أَو أعْتقهُ أَو دبره أَو كَاتبه أَو رَهنه أَو وهبه سلم أَو لم يسلم أَو آجره فَإِن هَذَا كُله مِنْهُ اخْتِيَار للإجازة لِأَن نَفاذ هَذِه التَّصَرُّفَات مُخْتَصَّة بِالْملكِ فَيكون الْإِقْدَام عَلَيْهَا دَلِيل قصد إبْقَاء الْملك وَذَلِكَ بِالْإِجَازَةِ
وَلَو وجدت هَذِه التَّصَرُّفَات من البَائِع الَّذِي لَهُ الْخِيَار يسْقط خِيَاره أَيْضا لِأَنَّهُ لَا يَصح هَذِه التَّصَرُّفَات إِلَّا بعد نقض التَّصَرُّف الأول إِلَّا أَن الْهِبَة وَالرَّهْن لَا يسْقط الْخِيَار إِلَّا بعد التَّسْلِيم بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ الْخِيَار للْمُشْتَرِي وَوجد مِنْهُ الرَّهْن وَالْهِبَة بِلَا تَسْلِيم لِأَن الْهِبَة وَالرَّهْن بِلَا تَسْلِيم لَا يكون دون الْعرض على البيع وَذَلِكَ يسْقط خِيَار المُشْتَرِي دون البَائِع فِي رِوَايَة فَكَذَلِك هَذَا
وَأما الْإِجَازَة فَذكر فِي الْبيُوع الأَصْل أَنه يكون اخْتِيَارا من البَائِع وَالْمُشْتَرِي من غير شَرط الْقَبْض
وَذكر فِي بعض الرِّوَايَات وَشرط قبض الْمُسْتَأْجر
وَالأَصَح أَنه لَا يشْتَرط لِأَن الْإِجَارَة عقد لَازم بِخِلَاف الْهِبَة وَالرَّهْن قبل الْقَبْض فَإِنَّهُ غير لَازم
وَلَو كَانَ الْمَبِيع جَارِيَة فَوَطِئَهَا البَائِع أَو المُشْتَرِي إِذا كَانَ لَهُ الْخِيَار يسْقط الْخِيَار أما فِي البَائِع فَلِأَنَّهُ وَإِن كَانَ الْملك قَائِما للْحَال وَلَكِن لَو لم يسْقط الْخِيَار بِالْوَطْءِ فَإِذا أجَاز تبين أَنه وطىء جَارِيَة الْغَيْر من وَجه لِأَنَّهُ يثبت الْملك للْمُشْتَرِي بطرِيق الْإِسْنَاد وَأما فِي المُشْتَرِي فَلهَذَا الْمَعْنى أَيْضا ولمعنى آخر عِنْد أبي حنيفَة خَاصَّة لِأَن الْجَارِيَة الْمَبِيعَة لَا تدخل فِي ملك المُشْتَرِي إِذا كَانَ الْخِيَار لَهُ وَالْوَطْء لَا يحل بِدُونِ الْملك فالإقدام على الْوَطْء دَلِيل اخْتِيَار الْملك
وَلَو لمسها المُشْتَرِي لشَهْوَة وَله الْخِيَار سقط لِأَنَّهُ لَا يحل بِدُونِ الْملك
وَإِن لمس لَا عَن شَهْوَة لَا يسْقط لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَى ذَلِك فِي الْجُمْلَة للاختبار لتعرف لينها وخشونتها
وَلَو نظر إِلَى فرجهَا لشَهْوَة سقط لما قُلْنَا
وَلَو نظر بِغَيْر شَهْوَة لَا يسْقط لِأَن النّظر إِلَى الْفرج لَا عَن شَهْوَة قد يُبَاح عِنْد الْحَاجة والضرورة كَمَا فِي حق الْقَابِلَة والطبيب وَللْمُشْتَرِي حَاجَة فِي الْجُمْلَة
وَلَو نظر إِلَى سَائِر أعضائها عَن شَهْوَة لَا يسْقط لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَيْهِ للامتحان فِي الْجُمْلَة
وَكَذَلِكَ الْجَواب فِي حق البَائِع فِي اللَّمْس عَن شَهْوَة النّظر إِلَى فرجهَا عَن شَهْوَة فَأَما النّظر إِلَى فرجهَا لَا عَن شَهْوَة أَو النّظر إِلَى سَائِر أعضائها لَا عَن شَهْوَة أَو لمس سَائِر أعضائها لَا عَن شَهْوَة فَإِنَّهُ يجب أَن يسْقط بِهِ الْخِيَار بِخِلَاف المُشْتَرِي لِأَن ثمَّ فِي الْجُمْلَة لَهُ حَاجَة إِلَى ذَلِك وَلَا حَاجَة فِي حق البَائِع وَهَذِه التَّصَرُّفَات حرَام من غير ملك
وَلَو نظرت الْجَارِيَة الْمُشْتَرَاة إِلَى فرج المُشْتَرِي لشَهْوَة أَو لمسته فَإِن فعلت ذَلِك بتمكين المُشْتَرِي بِأَن علم المُشْتَرِي ذَلِك مِنْهَا فَتَركهَا حَتَّى فعلت يسْقط خِيَاره
فَأَما إِذا اختلست اختلاسا فلمست من غير تَمْكِين المُشْتَرِي بذلك فَقَالَ أَبُو يُوسُف يسْقط خِيَاره وَقَالَ مُحَمَّد لَا يسْقط وَقَول أبي حنيفَة مثل قَول أبي يُوسُف ذكره بشر بن الْوَلِيد أَنه يثبت الرّجْعَة بهَا فِي قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَلَا يثبت فِي قَول مُحَمَّد
وَأَجْمعُوا أَنَّهَا لَو أدخلت فرج الرجل فِي فرجهَا وَالزَّوْج نَائِم فَإِنَّهُ يسْقط الْخِيَار وَتثبت الرّجْعَة
وَالصَّحِيح قَوْلهمَا لِأَن الْخِيَار لَو لم يسْقط رُبمَا يفْسخ الشِّرَاء فيتبين أَن اللَّمْس وجد من غير ملك وَمَسّ الْعَوْرَة بِلَا ملك حرَام فَيسْقط صِيَانة عَن مُبَاشرَة الْحَرَام وَكَذَلِكَ فِي الرّجْعَة لهَذَا الْمَعْنى
وَأما الِاسْتِخْدَام مِنْهَا فَلَا يَجْعَل اخْتِيَارا لِأَنَّهُ تصرف لَا يخْتَص بِالْملكِ فَإِنَّهُ يُبَاح بِإِذن الْمَالِك
ثمَّ إِنَّمَا يعرف الشَّهْوَة من غير الشَّهْوَة بِإِقْرَار الواطىء والمتصرف وَفِي الْجَارِيَة المختلسة بِإِقْرَار المُشْتَرِي
وَأما الْأَجْنَبِيّ إِذا وطىء الْجَارِيَة الْمَبِيعَة فَإِن كَانَت فِي يَد المُشْتَرِي وَالْخيَار لَهُ سقط الْخِيَار لِأَنَّهُ إِن كَانَ عَن شُبْهَة يجب الْعقر وَإنَّهُ
زِيَادَة مُنْفَصِلَة حدثت بعد الْقَبْض فتمنع الرَّد
وَإِن كَانَ زنا فَهُوَ عيب فِي الْجوَار وحدوث الْعَيْب فِي يَد المُشْتَرِي يسْقط خِيَاره فَكَذَلِك إِذا ولدت الْجَارِيَة فِي يَد المُشْتَرِي يسْقط خِيَاره لِأَنَّهُ لَو كَانَ الْوَلَد حَيا وَفِيه وَفَاء بِنُقْصَان الْولادَة فينجبر لَكِن الْوَلَد زِيَادَة مُنْفَصِلَة فَيمْنَع الْفَسْخ وَيسْقط الْخِيَار وَإِن مَاتَ الْوَلَد فالنقصان قَائِم لم ينجبر وحدوث النُّقْصَان عِنْد المُشْتَرِي يمْنَع الرَّد
وَإِن كَانَ فِي يَد البَائِع وَالْخيَار لَهُ لَا يسْقط الْخِيَار فِي وَطْء الْأَجْنَبِيّ لِأَن الزِّنَا لَا يُوجب نقصا فِي عين الْجَارِيَة وَلَكِن للْمُشْتَرِي حق بِسَبَب الْعَيْب وَإِن كَانَ الْوَطْء عَن شُبْهَة والعقر زِيَادَة مُنْفَصِلَة قبل الْقَبْض فَلَا يمْنَع الْفَسْخ وَفِي فصل الْوَلَد إِن كَانَ حَيا ينجبر النُّقْصَان وَإنَّهُ زِيَادَة قبل الْقَبْض فَلَا يمْنَع الْفَسْخ لَكِن ثَبت الْخِيَار للْمُشْتَرِي بِسَبَب الْعَيْب لِأَن صُورَة النُّقْصَان قَائِمَة وَإِن انجبر معنى
وَإِن مَاتَ الْوَلَد فالنقصان قَائِم وَلَكِن لم يفت شَيْء من الْمَعْقُود عَلَيْهِ حَتَّى يَنْفَسِخ العقد فِيهِ فتتفرق الصَّفْقَة على المُشْتَرِي فَيسْقط الْخِيَار وَلَكِن للْمُشْتَرِي حق الْفَسْخ بِسَبَب الْعَيْب وَهُوَ نُقْصَان الْولادَة
وَكَذَلِكَ المُشْتَرِي لَو أسكن الدَّار الْمَبِيعَة رجلا بِأَجْر أَو بِغَيْر أجر أَو رم شَيْئا مِنْهَا بالتطيين والتجصيص أَو أحدث فِيهَا بِنَاء أَو هدم شَيْئا مِنْهَا فَإِنَّهُ يسْقط الْخِيَار لِأَن هَذِه التَّصَرُّفَات دَلِيل اخْتِيَار الْملك وَلَو سقط حَائِط مِنْهَا بِغَيْر صنع أحد يسْقط الْخِيَار لِأَنَّهُ نقص فِي الْمَعْقُود عَلَيْهِ
وَلَو كَانَ الْمَبِيع أَرضًا فِيهَا زروع وثمار قد دخلت تَحت البيع بِالشّرطِ فَسَقَاهُ أَو حصده أَو قصل مِنْهُ شَيْئا لدوابه أَو جد شَيْئا من
الثِّمَار فَهَذَا إجَازَة مِنْهُ لما ذكرنَا
وَلَو ركب المُشْتَرِي الدَّابَّة ليسقيها أَو ليردها على البَائِع فَالْقِيَاس أَن يكون إجَازَة لما ذكرنَا
وَفِي الِاسْتِحْسَان لَا يسْقط الْخِيَار لِأَن الدَّابَّة قد لَا يُمكن تسييرها إِلَّا بالركوب
وَلَو ركبهَا لينْظر إِلَى سَيرهَا وقوتها فَهُوَ على الْخِيَار
وَكَذَا لَو لبس الثَّوْب لينْظر إِلَى طوله وَعرضه لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَيْهِ للامتحان
وَلَو ركبهَا مرّة أُخْرَى لمعْرِفَة الْعَدو أَو ركبهَا لمعْرِفَة شَيْء آخر بِأَن ركب مرّة لمعْرِفَة أَنَّهَا هملاج ثمَّ ركب ثَانِيًا لمعْرِفَة الْعَدو لَا يسْقط خِيَاره لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَيْهِ أَيْضا
وَإِن ركبهَا لمعْرِفَة السّير الأول مرّة أُخْرَى ذكر فِي ظَاهر الرِّوَايَات أَنه يسْقط الْخِيَار
وَفِي الثَّوْب إِذا لبس ثَانِيًا لمعْرِفَة الطول وَالْعرض يسْقط الْخِيَار
وَفِي اسْتِخْدَام الرَّقِيق إِذا استخدم مرّة ثمَّ استخدم ثَانِيًا لنَوْع آخر لَا يسْقط الْخِيَار
وَبَعض مَشَايِخنَا قَالُوا فِي الِاسْتِخْدَام وَالرُّكُوب لَا يبطل الْخِيَار بالمرة الثَّانِيَة وَإِن كَانَ من نوع وَاحِد لِأَن الِاخْتِيَار لَا يحصل بِالْفِعْلِ مرّة لاحْتِمَال أَن ذَلِك وَقع اتِّفَاقًا وَإِنَّمَا الْحَاجة إِلَى معرفَة ذَلِك عَادَة لَهَا وَذَلِكَ لَا يحصل إِلَّا بالمرة الثَّانِيَة لِأَن الْعَادة مُشْتَقَّة من الْعود بِخِلَاف الثَّوْب فَإِن الْغَرَض يحصل بالمرة الْوَاحِدَة
وَأما سُقُوط الْخِيَار بطرِيق الضَّرُورَة فأنواع مِنْهَا إِذا مَضَت الْمدَّة لِأَن الْخِيَار مُؤَقّت بهَا فينتهي الْخِيَار ضَرُورَة فَيبقى العقد بِلَا خِيَار فَيلْزم العقد
وَمِنْهَا إِذا مَاتَ الْمَشْرُوط لَهُ الْخِيَار فَإِنَّهُ يسْقط الْخِيَار وَلَا يُورث سَوَاء كَانَ الْخِيَار للْبَائِع أَو للْمُشْتَرِي أَو لَهما
وَقَالَ الشَّافِعِي يُورث وَيقوم الْوَارِث مقَامه
وَأَجْمعُوا أَن خِيَار الْعَيْب وَخيَار التَّعْيِين يُورث وَأَجْمعُوا أَن خِيَار الْقبُول لَا يُورث
وَكَذَلِكَ خِيَار الْإِجَازَة فِي بيع الْفُضُولِيّ لَا يُورث
وَأما خِيَار الرُّؤْيَة فَهَل يُورث لم يذكر فِي الْبيُوع وَذكر فِي كتاب الْحِيَل أَنه لَا يُورث وَكَذَا روى ابْن سَمَّاعَة عَن مُحَمَّد
وَأَجْمعُوا أَن الْأَجَل لَا يُورث
ولقب الْمَسْأَلَة أَن خِيَار الشَّرْط هَل يُورث أم لَا وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَإِذا لم يُورث الْخِيَار عندنَا يسْقط ضَرُورَة فَيصير العقد لَازِما لِأَنَّهُ وَقع الْعَجز عَن الْفَسْخ فَيلْزم ضَرُورَة
وَكَذَا الْجَواب فِيمَا هُوَ فِي معنى الْمَوْت بِأَن ذهب عقل صَاحب الْخِيَار
بالجنون أَو بالإغماء فِي مُدَّة الْخِيَار وَمَضَت الْمدَّة وَهُوَ كَذَلِك صَار العقد لَازِما لِأَنَّهُ عجز عَن الْفَسْخ فَلَا فَائِدَة فِي بَقَاء الْخِيَار
فَإِذا أَفَاق فِي مُدَّة الْخِيَار كَانَ على خِيَاره لِإِمْكَان الْفَسْخ وَالْإِجَازَة
وَكَذَا لَو بَقِي نَائِما فِي آخر مُدَّة الْخِيَار حَتَّى مَضَت سقط الْخِيَار
وَلَو سكر بِحَيْثُ لَا يعلم حَتَّى مَضَت مُدَّة الْخِيَار لم يذكر فِي
الْكتاب
وَقَالُوا الصَّحِيح أَنه يسْقط الْخِيَار لما قُلْنَا
وَلَو ارْتَدَّ من لَهُ الْخِيَار فِي مُدَّة الْخِيَار إِن مَاتَ أَو قتل على الرَّد صَار البيع لَازِما
وَكَذَلِكَ إِن لحق بدار الْحَرْب وَقضى القَاضِي بلحاقه لِأَن الرِّدَّة بِمَنْزِلَة الْمَوْت بعد الالتحاق بدار الْحَرْب
وَإِن أسلم فِي مُدَّة الْخِيَار كَانَ على خِيَاره وَجعل الْعَارِض كَأَن لم يكن
هَذَا إِذا مَاتَ أَو قتل على الرِّدَّة أَو أسلم قبل أَن يتَصَرَّف بِحكم الْخِيَار فسخا أَو إجَازَة
فَأَما إِذا تصرف فِي مُدَّة الْخِيَار بعد الرِّدَّة فَإِن أجَاز جَازَت إِجَازَته وَلَا يتَوَقَّف بالِاتِّفَاقِ
وَلَو فسخ فَعِنْدَ أبي حنيفَة يتَوَقَّف فَإِن أسلم نفذ وَإِن مَاتَ أَو قتل على الرِّدَّة بَطل الْفَسْخ على مَا يعرف فِي مسَائِل السّير أَن تَصَرُّفَات الْمُرْتَد مَوْقُوفَة عِنْده خلافًا لَهما
وعَلى هَذَا إِذا هَلَكت السّلْعَة الْمَبِيعَة فِي مُدَّة الْخِيَار فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن تهْلك فِي يَد البَائِع أَو فِي يَد المُشْتَرِي وَالْخيَار للْبَائِع أَو للْمُشْتَرِي
فَإِن هَلَكت فِي يَد البَائِع فَإِنَّهُ يسْقط الْخِيَار سَوَاء كَانَ الْخِيَار للْبَائِع أَو للْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ يَنْفَسِخ العقد لِأَنَّهُ هلك لَا إِلَى خلف وَلَا يُمكنهُ مُطَالبَة المُشْتَرِي بِالثّمن بِدُونِ تَسْلِيم الْمَبِيع وَقد عجز عَن التَّسْلِيم فَلَا فَائِدَة فِي بَقَائِهِ فَيفْسخ فَيبْطل الْخِيَار ضَرُورَة
وَإِن هَلَكت فِي يَد المُشْتَرِي فَإِن كَانَ الْخِيَار للْبَائِع تهْلك بِالْقيمَةِ وَيسْقط الْخِيَار فِي قَول عَامَّة الْعلمَاء
وَقَالَ ابْن أبي ليلى تهْلك أَمَانَة
وَالصَّحِيح قَول الْعَامَّة لِأَن الْقَبْض بِسَبَب هَذَا العقد لَا يكون دون الْقَبْض على سوم الشِّرَاء وَذَلِكَ مَضْمُون بِالْقيمَةِ فَهَذَا أولى
وَإِن كَانَ الْخِيَار للْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يهْلك عَلَيْهِ بِالثّمن عندنَا
وَعند الشَّافِعِي يهْلك عَلَيْهِ بِالْقيمَةِ
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن الْمَبِيع يصير معيبا قبل الْهَلَاك مُتَّصِلا بِهِ لِأَن الْمَوْت يكون بِنَاء على سَبَب مُؤثر فِيهِ عَادَة وَالسَّبَب المفضي إِلَى الْهَلَاك يكون عَيْبا وحدوث الْعَيْب فِي يَد المُشْتَرِي يسْقط خِيَاره لِأَنَّهُ يعجز عَن الرَّد على الْوَجْه الَّذِي أَخذه سليما كَمَا إِذا حدث بِهِ عيب حسا
وَأما إِذا تعيب الْمَبِيع فَإِن كَانَ الْخِيَار للْبَائِع وَهُوَ عيب يُوجب نُقْصَانا فِي عين الْمَبِيع فَإِنَّهُ يبطل خِيَاره سَوَاء كَانَ الْمَبِيع فِي يَده أَو فِي يَد المُشْتَرِي إِذا تعيب بِآفَة سَمَاوِيَّة أَو بِفعل البَائِع لِأَنَّهُ هلك بعضه بِلَا خلف لِأَنَّهُ لَا يجب الضَّمَان على البَائِع لِأَنَّهُ ملكه فينفسخ البيع فِيهِ لفواته وَلَا يُمكن بَقَاء العقد فِي الْقَائِم لما فِيهِ من تَفْرِيق للصفقة على المُشْتَرِي قبل التَّمام
وَأما إِذا تعيب بِفعل المُشْتَرِي أَو بِفعل الْأَجْنَبِيّ كَانَ البَائِع على خِيَاره لِأَنَّهُ يُمكنهُ إجَازَة البيع فِي الْفَائِت والقائم لِأَنَّهُ فَاتَ إِلَى خلف مَضْمُون على المُشْتَرِي وَالْأَجْنَبِيّ بِالْقيمَةِ لِأَنَّهُمَا أتلفا ملك الْغَيْر بِغَيْر إِذْنه
فَأَما إِذا كَانَ عَيْبا لَا يُوجب نُقْصَانا فِي عين الْمَبِيع كَالْوَطْءِ من الْأَجْنَبِيّ وولادة الْوَلَد وَنَحْو ذَلِك فَلَا يسْقط خِيَاره إِذا تعيب بِفعل البَائِع حَتَّى لَو أَرَادَ أَن يرد على البَائِع بِغَيْر رِضَاهُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِك
وَلَكِن للْمُشْتَرِي حق الرَّد بِسَبَب الْعَيْب لِأَنَّهُ لم يفت شَيْء من الْمَبِيع فينفسخ العقد فِيهِ فتتفرق الصَّفْقَة على المُشْتَرِي وَكَذَا إِذا تعيب بِفعل المُشْتَرِي لِأَنَّهُ مَضْمُون عَلَيْهِ
وَأما إِذا كَانَ الْخِيَار للْمُشْتَرِي وَالْعَبْد فِي يَده يبطل خِيَاره سَوَاء حصل بِآفَة سَمَاوِيَّة أَو بِفعل البَائِع أَو بِفعل المُشْتَرِي أَو بِفعل الْأَجْنَبِيّ حَتَّى لَو أَرَادَ أَن يرد على البَائِع بِغَيْر رِضَاهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِك أما فِي الآفة السماوية وَفعل البَائِع فَلَمَّا ذكرنَا فِي خِيَار البَائِع وَأما فِي فعل المُشْتَرِي وَالْأَجْنَبِيّ فَلِأَنَّهُ فَاتَ شَرط الرَّد لِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ أَن يرد جَمِيع مَا قبض كَمَا قبض سليما وَفِي رد الْبَعْض تَفْرِيق الصَّفْقَة على البَائِع قبل التَّمام وَفِي الْأَجْنَبِيّ عِلّة أُخْرَى وَهِي أَنه أوجب الأَرْض وَالْأَرْش زِيَادَة مُنْفَصِلَة حدثت بعد الْقَبْض وَإِنَّهَا تمنع الْفَسْخ عندنَا كَسَائِر أَسبَاب الْفَسْخ فَكَذَا حكم الْخِيَار
ثمَّ فِي خِيَار البَائِع إِذا تعيب بِفعل المُشْتَرِي أَو بِفعل الْأَجْنَبِيّ وَهُوَ فِي يَد المُشْتَرِي لم يسْقط الْخِيَار وَبَقِي على خِيَاره فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يُجِيز أَو يفْسخ وَالْعَيْب حصل بِفعل المُشْتَرِي أَو الْأَجْنَبِيّ فَإِن أجَاز البيع وَجب على المُشْتَرِي جَمِيع الثّمن لِأَن البيع جَازَ فِي الْكل وَلم يكن للْمُشْتَرِي حق الرَّد وَالْفَسْخ بِسَبَب التَّغْيِير الَّذِي حصل فِي الْمَبِيع لِأَنَّهُ حدث فِي يَده وَفِي ضَمَانه إِلَّا أَن المُشْتَرِي إِن كَانَ هُوَ الْقَاطِع فَلَا سَبِيل لَهُ على أحد لِأَنَّهُ ضمن بِفعل نَفسه وَإِن كَانَ الْقَاطِع أَجْنَبِيّا فَلِلْمُشْتَرِي أَن يتبع الْجَانِي بِالْأَرْضِ لِأَنَّهُ بِالْإِجَازَةِ ملك العَبْد من وَقت البيع فحصلت الْجِنَايَة على ملكه
وَإِذا اخْتَار الْفَسْخ فَإِن كَانَ الْقَاطِع هُوَ المُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَأْخُذ الْبَاقِي وَيضمن المُشْتَرِي نصف قيمَة العَبْد للْبَائِع لِأَن العَبْد كَانَ
مَضْمُونا على المُشْتَرِي بِالْقيمَةِ وَقد عجز عَن رد مَا أتْلفه بِالْجِنَايَةِ فَعَلَيهِ رد قِيمَته
وَإِن كَانَ الْقَاطِع أَجْنَبِيّا فالبائع بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ اتبع الْجَانِي لِأَن الْجِنَايَة حصلت على ملكه وَإِن شَاءَ اتبع المُشْتَرِي لِأَن الْجِنَايَة حدثت فِي ضَمَان المُشْتَرِي فَإِن اخْتَار اتِّبَاع الْأَجْنَبِيّ فَلَا يرجع على أحد لِأَنَّهُ ضمن بِفعل نَفسه وَإِن اخْتَار اتِّبَاع المُشْتَرِي فَالْمُشْتَرِي يرجع بذلك على الْجَانِي لِأَن المُشْتَرِي بأَدَاء الضَّمَان قَامَ مقَام البَائِع فِي حق ملك الْبَدَل وَإِن لم يقم مقَامه فِي حق ملك نفس الْفَائِت كَمَا فِي غَاصِب الْمُدبر إِذا قتل الْمُدبر فِي يَده وَضَمنَهُ الْمَالِك كَانَ لَهُ أَن يرجع على الْقَاتِل وَإِن لم يملك الْمُدبر لما قُلْنَا كَذَلِك هَهُنَا
وَأما معرفَة عمل خِيَار الشَّرْط وَحكمه فَنَقُول قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله إِن البيع بِشَرْط الْخِيَار لَا ينْعَقد فِي حق الحكم بل هُوَ مَوْقُوف إِلَى وَقت سُقُوط الْخِيَار فَينْعَقد حِينَئِذٍ
وَقَالَ الشَّافِعِي فِي قَول مثل قَوْلنَا وَفِي قَول ينْعَقد مُفِيدا للْملك لَكِن يثبت لَهُ خِيَار الْفَسْخ بتسليط صَاحبه كَمَا فِي خِيَار الرُّؤْيَة وَخيَار الْعَيْب
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن خِيَار الشَّرْط شرع لدفع الْغبن لحَدِيث حبَان بن منقذ وَذَلِكَ لَا يحصل إِلَّا بِمَا ذكرنَا فَإِن الْمَبِيع إِذا كَانَ قَرِيبه يعْتق عَلَيْهِ لَو ثَبت الْملك فَلَا يحصل الْغَرَض
ثمَّ الْخِيَار إِذا كَانَ للعاقدين جَمِيعًا لَا يكون العقد منعقدا فِي حق الحكم فِي حَقّهمَا جَمِيعًا
وَإِن كَانَ الْخِيَار لأحد الْعَاقِدين فَلَا شكّ أَن العقد لَا ينْعَقد فِي حق الحكم فِي حق من لَهُ الْخِيَار
وَأما فِي حق الآخر فَهَل ينْعَقد فِي حق
الحكم وَهُوَ الحكم الَّذِي يثبت بِفِعْلِهِ أَعنِي ثُبُوت الْملك فِي الْمَبِيع بِتَمْلِيك البَائِع وَثُبُوت الْملك فِي الثّمن بِتَمْلِيك المُشْتَرِي قَالَ أَبُو حنيفَة لَا ينْعَقد
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد ينْعَقد حَتَّى إِن الْخِيَار إِذا كَانَ للْبَائِع لَا يَزُول الْمَبِيع عَن ملكه وَلَا يدْخل فِي ملك المُشْتَرِي
وَأما الثّمن فَهَل يدْخل فِي ملك البَائِع فَعِنْدَ أبي حنيفَة لَا يدْخل بِأَن كَانَ الثّمن عينا وَلَا يسْتَحق عَلَيْهِ الثّمن للْبَائِع إِن كَانَ دينا
وَعِنْدَهُمَا يدْخل وَيجب الثّمن للْبَائِع
وَإِن كَانَ الْخِيَار للْمُشْتَرِي لَا يسْتَحق عَلَيْهِ الثّمن وَلَا يخرج عَن ملكه إِذا كَانَ عينا
وَهل يدْخل الْمَبِيع فِي ملك المُشْتَرِي عِنْد أبي حنيفَة يَزُول عَن ملك البَائِع وَلَا يدْخل فِي ملك المُشْتَرِي
وَعِنْدَهُمَا يدْخل
وَالصَّحِيح قَول أبي حنيفَة لِأَن خِيَار المُشْتَرِي يمْنَع زَوَال الثّمن عَن ملكه وَيمْنَع من اسْتِحْقَاق الثّمن عَلَيْهِ وَلَو قُلْنَا إِنَّه يملك الْمَبِيع كَانَ فِيهِ جمع بَين الْبَدَل والمبدل فِي ملك رجل وَاحِد فِي عقد الْمُبَادلَة وَهَذَا لَا يجوز بِخِلَاف خِيَار الرُّؤْيَة وَالْعَيْب لِأَن هُنَاكَ لَا يمْنَع زَوَال الثّمن عَن ملك المُشْتَرِي فَجَاز أَن لَا يمْنَع دُخُول السّلْعَة فِي ملكه
وفوائد هَذَا الأَصْل تظهر فِي مسَائِل كَثِيرَة مَذْكُورَة فِي الْكتب فَنَذْكُر بَعْضهَا
مِنْهَا إِذا اشْترى الرجل أَبَاهُ أَو ذَا رحم محرم مِنْهُ على أَنه بِالْخِيَارِ
ثَلَاثَة أَيَّام لم يعْتق عِنْد أبي حنيفَة لِأَنَّهُ لم يدْخل فِي ملكه وَعِنْدَهُمَا يعْتق
وَأَجْمعُوا أَنه إِذا قَالَ لعبد الْغَيْر إِن اشتريتك فَأَنت حر فَاشْتَرَاهُ على أَنه بِالْخِيَارِ ثَلَاثَة أَيَّام يعْتق عَلَيْهِ وَيبْطل خِيَاره
أما عِنْدهمَا فَلِأَنَّهُ يدْخل فِي ملكه وَأما عِنْد أبي حنيفَة فَلِأَن الْمُعَلق بِالشّرطِ كالمنجز عِنْد وجود الشَّرْط وَلَو نجز عتقه بعد شِرَائِهِ بِشَرْط الْخِيَار ينفذ عتقه وَيبْطل الْخِيَار لاختياره الْملك كَذَا هَذَا
وَمِنْهَا إِذا اشْترى زَوجته على أَنه بِالْخِيَارِ ثَلَاثَة أَيَّام لَا يبطل نِكَاحه عِنْد أبي حنيفَة لِأَنَّهَا لم تدخل فِي ملكه
وَعِنْدَهُمَا يبطل لِأَنَّهَا دخلت فِي ملكه
وَلَو وَطئهَا الزَّوْج فِي مُدَّة الْخِيَار ينظر إِن كَانَت بكرا يبطل خِيَاره بالِاتِّفَاقِ لوُجُود التعيب وَإِن كَانَت ثَيِّبًا وَلم ينقصها الْوَطْء لَا يبطل خِيَاره عِنْد أبي حنيفَة لِأَنَّهُ وَطئهَا بِملك النِّكَاح وَلَا بِملك الْيَمين فَلَا يصير مُخْتَارًا ضَرُورَة فِي حل الْوَطْء
وَعِنْدَهُمَا يبطل خِيَاره لِأَنَّهُ وَطئهَا بِحكم الشِّرَاء
وَمِنْهَا أَن الْمَبِيع إِذا كَانَ دَارا إِن كَانَ للْبَائِع فِيهَا خِيَار لم يكن للشَّفِيع الشُّفْعَة بِالْإِجْمَاع لِأَن خِيَار البَائِع يمْنَع زَوَال الْمَبِيع عَن ملكه
وَإِن كَانَ الْخِيَار للْمُشْتَرِي تثبت الشُّفْعَة للشَّفِيع بِالْإِجْمَاع أما عِنْدهمَا فَلِأَن خِيَاره لَا يمْنَع دُخُول السّلْعَة فِي ملك المُشْتَرِي فَتثبت الشُّفْعَة للشَّفِيع وعَلى قَول أبي حنيفَة خِيَار المُشْتَرِي وَإِن منع دُخُول السّلْعَة فِي ملك المُشْتَرِي لم يمْنَع زَوَالهَا عَن ملك البَائِع وَحقّ الشَّفِيع فِي الشُّفْعَة يعْتَمد زَوَال حق البَائِع لَا ملك المُشْتَرِي
وَأما كَيْفيَّة الْفَسْخ وَالْإِجَازَة فَهُوَ على ضَرْبَيْنِ أَحدهمَا بطرِيق الضَّرُورَة وَالْآخر بطرِيق الْقَصْد وَالِاخْتِيَار
أما الْفَسْخ وَالْإِجَازَة بطرِيق الضَّرُورَة فَيصح من غير حَضْرَة خَصمه وَعلمه كمضي مُدَّة الْخِيَار وهلاك الْمَبِيع ونقصانه على مَا ذكرنَا
وَأما الْفَسْخ وَالْإِجَازَة بطرِيق الْقَصْد فقد أجمع أَصْحَابنَا أَن الْمَشْرُوط لَهُ الْخِيَار ملك إجَازَة العقد بِغَيْر محْضر من صَاحبه بِغَيْر علم مِنْهُ لِأَن صَاحبه الَّذِي لَا خِيَار لَهُ رَضِي بِحكم العقد وَأما من لَهُ الْخِيَار فَلم يرض حكمه ولزومه فَإِذا رَضِي ورضا الآخر قد وجد يجب القَوْل بنفاذ البيع علم الآخر أَو لم يعلم
لَكِن يشْتَرط الرِّضَا بِاللِّسَانِ بِأَن قَالَ أجزت هَذَا العقد أَو رضيت بِهِ فَأَما إِذا رَضِي بِقَلْبِه وَمَا أجَازه صَرِيحًا فَإِنَّهُ لَا يسْقط خِيَاره لِأَن الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة تتَعَلَّق بالأقوال وَالْأَفْعَال الظَّاهِرَة الدَّالَّة على الضمائر
وَأما الْفَسْخ وَالرَّدّ إِن وجد بِالْقَلْبِ دون اللِّسَان فَهُوَ بَاطِل لما ذكرنَا
وَأما إِذا فسخ بِلِسَانِهِ فَإِن كَانَ بِمحضر من صَاحبه فَإِنَّهُ يَصح بِالْإِجْمَاع سَوَاء رَضِي بِهِ أَو أَبى
وَأما إِذا كَانَ بِغَيْر محْضر من صَاحبه فقد قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد لَا يَصح وَهُوَ قَول أبي يُوسُف الأول سَوَاء كَانَ الْخِيَار للْبَائِع أَو للْمُشْتَرِي ثمَّ رَجَعَ وَقَالَ يَصح
وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ إِن كَانَ الْخِيَار للْبَائِع ملك فَسخه بِغَيْر محْضر من المُشْتَرِي وَإِن كَانَ الْخِيَار للْمُشْتَرِي لَا يملكهُ فَسخه بِغَيْر محْضر من البَائِع ونعني بالحضرة
الْعلم حَتَّى لَو كَانَ الآخر حَاضرا وَلم يكن عَالما بفسخه لَا يَصح وَلَو كَانَ غَائِبا وَعلم بفسخه فِي مُدَّة الْخِيَار يَنْبَغِي أَن يَصح
وَذكر الْكَرْخِي أَن خِيَار الرُّؤْيَة على هَذَا الْخلاف
وَأَجْمعُوا أَن المُشْتَرِي فِي خِيَار الْعَيْب إِذا فسخ بِغَيْر محْضر من البَائِع لَا يَصح وَإِن كَانَ قبل الْقَبْض وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَلَو اشْترى رجلَانِ على أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثَة أَيَّام أَو اشتريا شَيْئا وَلم يرياه أَو اشتريا شَيْئا فوجدا بِهِ عَيْبا هَل يملك أَحدهمَا أَن ينْفَرد بِالْفَسْخِ على قَول أبي حنيفَة لَا يملك وَلَو رد لَا يَصح
وعَلى قَوْلهمَا يَصح
وَإِنَّمَا يَصح عِنْد أبي حنيفَة إِذا اتفقَا على الرَّد أَو اتفقَا على الْإِجَازَة
أما إِذا رد أَحدهمَا وَأَجَازَ الآخر فَهُوَ على الِاخْتِلَاف
وَكَذَا لَو اختارا رد البيع فِي النّصْف وإجازة البيع فِي النّصْف فَهُوَ على الِاخْتِلَاف وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
الْكَلَام فِي خِيَار الشَّرْط فِي مَوَاضِع أَحدهَا فِي بَيَان شَرط الْخِيَار الْمُفْسد وَالَّذِي لَيْسَ بمفسد وَالثَّانِي فِي بَيَان مِقْدَار مُدَّة الْخِيَار
وَالثَّالِث فِي بَيَان مَا يسْقط الْخِيَار وَالرَّابِع فِي بَيَان عمل الْخِيَار وَحكمه وَالْخَامِس فِي بَيَان كَيْفيَّة الْفَسْخ وَالْإِجَازَة
أما الأول فَنَقُول إِن الْخِيَار الْمُفْسد ثَلَاثَة أَنْوَاع بِأَن ذكر الْخِيَار مُؤَبَّدًا بِأَن قَالَ بِعْت أَو اشْتريت على أَنِّي بِالْخِيَارِ أبدا أَو ذكر الْخِيَار مُطلقًا وَلم يبين وقتا أصلا بِأَن قَالَ على أَنِّي بِالْخِيَارِ أَو ذكر وقتا مَجْهُولا بِأَن قَالَ على أَنِّي بِالْخِيَارِ أَيَّامًا وَلم يبين وقتا مَعْلُوما
وَالْجَوَاب فِي هَذِه الْفُصُول الثَّلَاثَة أَن البيع فَاسد
وَأما الْخِيَار الْمَشْرُوع فنوع وَاحِد وَهُوَ أَن يذكر وقتا مَعْلُوما وَلم يُجَاوز عَن الثَّلَاثَة بِأَن قَالَ على أَنِّي بِالْخِيَارِ يَوْمًا أَو يَوْمَيْنِ أَو ثَلَاثَة أَيَّام
وَهَذَا قَول عَامَّة الْعلمَاء سَوَاء كَانَ الْخِيَار للْبَائِع أَو للْمُشْتَرِي
وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ وَابْن شبْرمَة إِن كَانَ الْخِيَار للْمُشْتَرِي يجوز وَإِلَّا فَلَا
وأصل هَذَا أَن اشْتِرَاط الْخِيَار كَيْفَمَا كَانَ شَرط يُنَافِي مُوجب العقد وَهُوَ ثُبُوت الْملك عِنْد العقد وَإِنَّمَا عرفنَا جَوَازه بِحَدِيث حبَان بن منقذ بِخِلَاف الْقيَاس والْحَدِيث ورد بِالْخِيَارِ فِي مُدَّة مَعْلُومَة وَهِي ثَلَاثَة أَيَّام فَبَقيَ مَا وَرَاء ذَلِك على أصل الْقيَاس إِلَّا إِذا كَانَ ذَلِك فِي مَعْنَاهُ
وَأما إِذا شَرط الْخِيَار أَرْبَعَة أَيَّام أَو شهرا فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَزفر رحمهمَا الله بِأَن البيع فَاسد وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ رَحِمهم الله بِأَنَّهُ جَائِز
وَالصَّحِيح مَا قَالَه أَبُو حنيفَة لما قُلْنَا إِنَّه شَرط مُخَالف لمقْتَضى العقد وَالشَّرْع ورد فِي ثَلَاثَة أَيَّام فَبَقيَ مَا زَاد عَلَيْهَا على أصل الْقيَاس
وَأما بَيَان مَا يسْقط الْخِيَار فَنَقُول إِن الْخِيَار بعد ثُبُوته يسْقط بمعان ثَلَاثَة إِمَّا بالإسقاط صَرِيحًا أَو بالإسقاط بطرِيق الدّلَالَة أَو بطرِيق الضَّرُورَة
أما بالإسقاط صَرِيحًا فبأن يَقُول أسقطت الْخِيَار أَو أبطلته أَو أجزت البيع أَو رضيت بِهِ فَيبْطل الْخِيَار لِأَن الْخِيَار شرع للْفَسْخ فَإِذا سقط يبطل الْخِيَار وَالْأَصْل هُوَ لُزُوم العقد ونفاذه فَإِذا بَطل عَاد الأَصْل
وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ فسخت العقد
أَو نقضته أَو أبطلته يسْقط
الْخِيَار لِأَن الْخِيَار هُوَ التَّخْيِير بَين الْفَسْخ وَالْإِجَازَة فَأَيّهمَا وجد سقط
وَأما الْإِسْقَاط بطرِيق الدّلَالَة فَهُوَ أَن يُوجد مِمَّن لَهُ الْخِيَار تصرف يدل على إبْقَاء الْملك وإثباته فالإقدام عَلَيْهِ يبطل خِيَاره تَحْقِيقا لغرضه
إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول إِذا كَانَ الْخِيَار للْمُشْتَرِي وَالْمَبِيع فِي يَده فعرضه على البيع يبطل خِيَاره لِأَن عرض المُشْتَرِي الْمَبِيع على البيع لاختياره الثّمن وَلَا يصير الثّمن ملكا لَهُ إِلَّا بعد ثُبُوت الْملك فِي الْمُبدل فَيصير مُخْتَارًا للْملك وَلَا يكون ذَلِك إِلَّا بِإِبْطَال الْخِيَار فَيبْطل بطرِيق الدّلَالَة
وَأما الْخِيَار إِذا كَانَ للْبَائِع فعرضه على البيع فَلم يذكر فِي ظَاهر الرِّوَايَة وَعَن أبي حنيفَة رِوَايَتَانِ
وَالأَصَح أَنه يكون إِسْقَاطًا لخياره لِأَنَّهُ دَلِيل إبْقَاء الْملك لِأَنَّهُ لَا يصل إِلَى الثّمن من غَيره إِلَّا بالتمليك مِنْهُ وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا بِإِسْقَاط الْخِيَار وَفسخ العقد الأول
وَلَو أَن المُشْتَرِي إِذا كَانَ لَهُ الْخِيَار فِي عبد فَبَاعَهُ أَو أعْتقهُ أَو دبره أَو كَاتبه أَو رَهنه أَو وهبه سلم أَو لم يسلم أَو آجره فَإِن هَذَا كُله مِنْهُ اخْتِيَار للإجازة لِأَن نَفاذ هَذِه التَّصَرُّفَات مُخْتَصَّة بِالْملكِ فَيكون الْإِقْدَام عَلَيْهَا دَلِيل قصد إبْقَاء الْملك وَذَلِكَ بِالْإِجَازَةِ
وَلَو وجدت هَذِه التَّصَرُّفَات من البَائِع الَّذِي لَهُ الْخِيَار يسْقط خِيَاره أَيْضا لِأَنَّهُ لَا يَصح هَذِه التَّصَرُّفَات إِلَّا بعد نقض التَّصَرُّف الأول إِلَّا أَن الْهِبَة وَالرَّهْن لَا يسْقط الْخِيَار إِلَّا بعد التَّسْلِيم بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ الْخِيَار للْمُشْتَرِي وَوجد مِنْهُ الرَّهْن وَالْهِبَة بِلَا تَسْلِيم لِأَن الْهِبَة وَالرَّهْن بِلَا تَسْلِيم لَا يكون دون الْعرض على البيع وَذَلِكَ يسْقط خِيَار المُشْتَرِي دون البَائِع فِي رِوَايَة فَكَذَلِك هَذَا
وَأما الْإِجَازَة فَذكر فِي الْبيُوع الأَصْل أَنه يكون اخْتِيَارا من البَائِع وَالْمُشْتَرِي من غير شَرط الْقَبْض
وَذكر فِي بعض الرِّوَايَات وَشرط قبض الْمُسْتَأْجر
وَالأَصَح أَنه لَا يشْتَرط لِأَن الْإِجَارَة عقد لَازم بِخِلَاف الْهِبَة وَالرَّهْن قبل الْقَبْض فَإِنَّهُ غير لَازم
وَلَو كَانَ الْمَبِيع جَارِيَة فَوَطِئَهَا البَائِع أَو المُشْتَرِي إِذا كَانَ لَهُ الْخِيَار يسْقط الْخِيَار أما فِي البَائِع فَلِأَنَّهُ وَإِن كَانَ الْملك قَائِما للْحَال وَلَكِن لَو لم يسْقط الْخِيَار بِالْوَطْءِ فَإِذا أجَاز تبين أَنه وطىء جَارِيَة الْغَيْر من وَجه لِأَنَّهُ يثبت الْملك للْمُشْتَرِي بطرِيق الْإِسْنَاد وَأما فِي المُشْتَرِي فَلهَذَا الْمَعْنى أَيْضا ولمعنى آخر عِنْد أبي حنيفَة خَاصَّة لِأَن الْجَارِيَة الْمَبِيعَة لَا تدخل فِي ملك المُشْتَرِي إِذا كَانَ الْخِيَار لَهُ وَالْوَطْء لَا يحل بِدُونِ الْملك فالإقدام على الْوَطْء دَلِيل اخْتِيَار الْملك
وَلَو لمسها المُشْتَرِي لشَهْوَة وَله الْخِيَار سقط لِأَنَّهُ لَا يحل بِدُونِ الْملك
وَإِن لمس لَا عَن شَهْوَة لَا يسْقط لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَى ذَلِك فِي الْجُمْلَة للاختبار لتعرف لينها وخشونتها
وَلَو نظر إِلَى فرجهَا لشَهْوَة سقط لما قُلْنَا
وَلَو نظر بِغَيْر شَهْوَة لَا يسْقط لِأَن النّظر إِلَى الْفرج لَا عَن شَهْوَة قد يُبَاح عِنْد الْحَاجة والضرورة كَمَا فِي حق الْقَابِلَة والطبيب وَللْمُشْتَرِي حَاجَة فِي الْجُمْلَة
وَلَو نظر إِلَى سَائِر أعضائها عَن شَهْوَة لَا يسْقط لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَيْهِ للامتحان فِي الْجُمْلَة
وَكَذَلِكَ الْجَواب فِي حق البَائِع فِي اللَّمْس عَن شَهْوَة النّظر إِلَى فرجهَا عَن شَهْوَة فَأَما النّظر إِلَى فرجهَا لَا عَن شَهْوَة أَو النّظر إِلَى سَائِر أعضائها لَا عَن شَهْوَة أَو لمس سَائِر أعضائها لَا عَن شَهْوَة فَإِنَّهُ يجب أَن يسْقط بِهِ الْخِيَار بِخِلَاف المُشْتَرِي لِأَن ثمَّ فِي الْجُمْلَة لَهُ حَاجَة إِلَى ذَلِك وَلَا حَاجَة فِي حق البَائِع وَهَذِه التَّصَرُّفَات حرَام من غير ملك
وَلَو نظرت الْجَارِيَة الْمُشْتَرَاة إِلَى فرج المُشْتَرِي لشَهْوَة أَو لمسته فَإِن فعلت ذَلِك بتمكين المُشْتَرِي بِأَن علم المُشْتَرِي ذَلِك مِنْهَا فَتَركهَا حَتَّى فعلت يسْقط خِيَاره
فَأَما إِذا اختلست اختلاسا فلمست من غير تَمْكِين المُشْتَرِي بذلك فَقَالَ أَبُو يُوسُف يسْقط خِيَاره وَقَالَ مُحَمَّد لَا يسْقط وَقَول أبي حنيفَة مثل قَول أبي يُوسُف ذكره بشر بن الْوَلِيد أَنه يثبت الرّجْعَة بهَا فِي قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَلَا يثبت فِي قَول مُحَمَّد
وَأَجْمعُوا أَنَّهَا لَو أدخلت فرج الرجل فِي فرجهَا وَالزَّوْج نَائِم فَإِنَّهُ يسْقط الْخِيَار وَتثبت الرّجْعَة
وَالصَّحِيح قَوْلهمَا لِأَن الْخِيَار لَو لم يسْقط رُبمَا يفْسخ الشِّرَاء فيتبين أَن اللَّمْس وجد من غير ملك وَمَسّ الْعَوْرَة بِلَا ملك حرَام فَيسْقط صِيَانة عَن مُبَاشرَة الْحَرَام وَكَذَلِكَ فِي الرّجْعَة لهَذَا الْمَعْنى
وَأما الِاسْتِخْدَام مِنْهَا فَلَا يَجْعَل اخْتِيَارا لِأَنَّهُ تصرف لَا يخْتَص بِالْملكِ فَإِنَّهُ يُبَاح بِإِذن الْمَالِك
ثمَّ إِنَّمَا يعرف الشَّهْوَة من غير الشَّهْوَة بِإِقْرَار الواطىء والمتصرف وَفِي الْجَارِيَة المختلسة بِإِقْرَار المُشْتَرِي
وَأما الْأَجْنَبِيّ إِذا وطىء الْجَارِيَة الْمَبِيعَة فَإِن كَانَت فِي يَد المُشْتَرِي وَالْخيَار لَهُ سقط الْخِيَار لِأَنَّهُ إِن كَانَ عَن شُبْهَة يجب الْعقر وَإنَّهُ
زِيَادَة مُنْفَصِلَة حدثت بعد الْقَبْض فتمنع الرَّد
وَإِن كَانَ زنا فَهُوَ عيب فِي الْجوَار وحدوث الْعَيْب فِي يَد المُشْتَرِي يسْقط خِيَاره فَكَذَلِك إِذا ولدت الْجَارِيَة فِي يَد المُشْتَرِي يسْقط خِيَاره لِأَنَّهُ لَو كَانَ الْوَلَد حَيا وَفِيه وَفَاء بِنُقْصَان الْولادَة فينجبر لَكِن الْوَلَد زِيَادَة مُنْفَصِلَة فَيمْنَع الْفَسْخ وَيسْقط الْخِيَار وَإِن مَاتَ الْوَلَد فالنقصان قَائِم لم ينجبر وحدوث النُّقْصَان عِنْد المُشْتَرِي يمْنَع الرَّد
وَإِن كَانَ فِي يَد البَائِع وَالْخيَار لَهُ لَا يسْقط الْخِيَار فِي وَطْء الْأَجْنَبِيّ لِأَن الزِّنَا لَا يُوجب نقصا فِي عين الْجَارِيَة وَلَكِن للْمُشْتَرِي حق بِسَبَب الْعَيْب وَإِن كَانَ الْوَطْء عَن شُبْهَة والعقر زِيَادَة مُنْفَصِلَة قبل الْقَبْض فَلَا يمْنَع الْفَسْخ وَفِي فصل الْوَلَد إِن كَانَ حَيا ينجبر النُّقْصَان وَإنَّهُ زِيَادَة قبل الْقَبْض فَلَا يمْنَع الْفَسْخ لَكِن ثَبت الْخِيَار للْمُشْتَرِي بِسَبَب الْعَيْب لِأَن صُورَة النُّقْصَان قَائِمَة وَإِن انجبر معنى
وَإِن مَاتَ الْوَلَد فالنقصان قَائِم وَلَكِن لم يفت شَيْء من الْمَعْقُود عَلَيْهِ حَتَّى يَنْفَسِخ العقد فِيهِ فتتفرق الصَّفْقَة على المُشْتَرِي فَيسْقط الْخِيَار وَلَكِن للْمُشْتَرِي حق الْفَسْخ بِسَبَب الْعَيْب وَهُوَ نُقْصَان الْولادَة
وَكَذَلِكَ المُشْتَرِي لَو أسكن الدَّار الْمَبِيعَة رجلا بِأَجْر أَو بِغَيْر أجر أَو رم شَيْئا مِنْهَا بالتطيين والتجصيص أَو أحدث فِيهَا بِنَاء أَو هدم شَيْئا مِنْهَا فَإِنَّهُ يسْقط الْخِيَار لِأَن هَذِه التَّصَرُّفَات دَلِيل اخْتِيَار الْملك وَلَو سقط حَائِط مِنْهَا بِغَيْر صنع أحد يسْقط الْخِيَار لِأَنَّهُ نقص فِي الْمَعْقُود عَلَيْهِ
وَلَو كَانَ الْمَبِيع أَرضًا فِيهَا زروع وثمار قد دخلت تَحت البيع بِالشّرطِ فَسَقَاهُ أَو حصده أَو قصل مِنْهُ شَيْئا لدوابه أَو جد شَيْئا من
الثِّمَار فَهَذَا إجَازَة مِنْهُ لما ذكرنَا
وَلَو ركب المُشْتَرِي الدَّابَّة ليسقيها أَو ليردها على البَائِع فَالْقِيَاس أَن يكون إجَازَة لما ذكرنَا
وَفِي الِاسْتِحْسَان لَا يسْقط الْخِيَار لِأَن الدَّابَّة قد لَا يُمكن تسييرها إِلَّا بالركوب
وَلَو ركبهَا لينْظر إِلَى سَيرهَا وقوتها فَهُوَ على الْخِيَار
وَكَذَا لَو لبس الثَّوْب لينْظر إِلَى طوله وَعرضه لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَيْهِ للامتحان
وَلَو ركبهَا مرّة أُخْرَى لمعْرِفَة الْعَدو أَو ركبهَا لمعْرِفَة شَيْء آخر بِأَن ركب مرّة لمعْرِفَة أَنَّهَا هملاج ثمَّ ركب ثَانِيًا لمعْرِفَة الْعَدو لَا يسْقط خِيَاره لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَيْهِ أَيْضا
وَإِن ركبهَا لمعْرِفَة السّير الأول مرّة أُخْرَى ذكر فِي ظَاهر الرِّوَايَات أَنه يسْقط الْخِيَار
وَفِي الثَّوْب إِذا لبس ثَانِيًا لمعْرِفَة الطول وَالْعرض يسْقط الْخِيَار
وَفِي اسْتِخْدَام الرَّقِيق إِذا استخدم مرّة ثمَّ استخدم ثَانِيًا لنَوْع آخر لَا يسْقط الْخِيَار
وَبَعض مَشَايِخنَا قَالُوا فِي الِاسْتِخْدَام وَالرُّكُوب لَا يبطل الْخِيَار بالمرة الثَّانِيَة وَإِن كَانَ من نوع وَاحِد لِأَن الِاخْتِيَار لَا يحصل بِالْفِعْلِ مرّة لاحْتِمَال أَن ذَلِك وَقع اتِّفَاقًا وَإِنَّمَا الْحَاجة إِلَى معرفَة ذَلِك عَادَة لَهَا وَذَلِكَ لَا يحصل إِلَّا بالمرة الثَّانِيَة لِأَن الْعَادة مُشْتَقَّة من الْعود بِخِلَاف الثَّوْب فَإِن الْغَرَض يحصل بالمرة الْوَاحِدَة
وَأما سُقُوط الْخِيَار بطرِيق الضَّرُورَة فأنواع مِنْهَا إِذا مَضَت الْمدَّة لِأَن الْخِيَار مُؤَقّت بهَا فينتهي الْخِيَار ضَرُورَة فَيبقى العقد بِلَا خِيَار فَيلْزم العقد
وَمِنْهَا إِذا مَاتَ الْمَشْرُوط لَهُ الْخِيَار فَإِنَّهُ يسْقط الْخِيَار وَلَا يُورث سَوَاء كَانَ الْخِيَار للْبَائِع أَو للْمُشْتَرِي أَو لَهما
وَقَالَ الشَّافِعِي يُورث وَيقوم الْوَارِث مقَامه
وَأَجْمعُوا أَن خِيَار الْعَيْب وَخيَار التَّعْيِين يُورث وَأَجْمعُوا أَن خِيَار الْقبُول لَا يُورث
وَكَذَلِكَ خِيَار الْإِجَازَة فِي بيع الْفُضُولِيّ لَا يُورث
وَأما خِيَار الرُّؤْيَة فَهَل يُورث لم يذكر فِي الْبيُوع وَذكر فِي كتاب الْحِيَل أَنه لَا يُورث وَكَذَا روى ابْن سَمَّاعَة عَن مُحَمَّد
وَأَجْمعُوا أَن الْأَجَل لَا يُورث
ولقب الْمَسْأَلَة أَن خِيَار الشَّرْط هَل يُورث أم لَا وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَإِذا لم يُورث الْخِيَار عندنَا يسْقط ضَرُورَة فَيصير العقد لَازِما لِأَنَّهُ وَقع الْعَجز عَن الْفَسْخ فَيلْزم ضَرُورَة
وَكَذَا الْجَواب فِيمَا هُوَ فِي معنى الْمَوْت بِأَن ذهب عقل صَاحب الْخِيَار
بالجنون أَو بالإغماء فِي مُدَّة الْخِيَار وَمَضَت الْمدَّة وَهُوَ كَذَلِك صَار العقد لَازِما لِأَنَّهُ عجز عَن الْفَسْخ فَلَا فَائِدَة فِي بَقَاء الْخِيَار
فَإِذا أَفَاق فِي مُدَّة الْخِيَار كَانَ على خِيَاره لِإِمْكَان الْفَسْخ وَالْإِجَازَة
وَكَذَا لَو بَقِي نَائِما فِي آخر مُدَّة الْخِيَار حَتَّى مَضَت سقط الْخِيَار
وَلَو سكر بِحَيْثُ لَا يعلم حَتَّى مَضَت مُدَّة الْخِيَار لم يذكر فِي
الْكتاب
وَقَالُوا الصَّحِيح أَنه يسْقط الْخِيَار لما قُلْنَا
وَلَو ارْتَدَّ من لَهُ الْخِيَار فِي مُدَّة الْخِيَار إِن مَاتَ أَو قتل على الرَّد صَار البيع لَازِما
وَكَذَلِكَ إِن لحق بدار الْحَرْب وَقضى القَاضِي بلحاقه لِأَن الرِّدَّة بِمَنْزِلَة الْمَوْت بعد الالتحاق بدار الْحَرْب
وَإِن أسلم فِي مُدَّة الْخِيَار كَانَ على خِيَاره وَجعل الْعَارِض كَأَن لم يكن
هَذَا إِذا مَاتَ أَو قتل على الرِّدَّة أَو أسلم قبل أَن يتَصَرَّف بِحكم الْخِيَار فسخا أَو إجَازَة
فَأَما إِذا تصرف فِي مُدَّة الْخِيَار بعد الرِّدَّة فَإِن أجَاز جَازَت إِجَازَته وَلَا يتَوَقَّف بالِاتِّفَاقِ
وَلَو فسخ فَعِنْدَ أبي حنيفَة يتَوَقَّف فَإِن أسلم نفذ وَإِن مَاتَ أَو قتل على الرِّدَّة بَطل الْفَسْخ على مَا يعرف فِي مسَائِل السّير أَن تَصَرُّفَات الْمُرْتَد مَوْقُوفَة عِنْده خلافًا لَهما
وعَلى هَذَا إِذا هَلَكت السّلْعَة الْمَبِيعَة فِي مُدَّة الْخِيَار فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن تهْلك فِي يَد البَائِع أَو فِي يَد المُشْتَرِي وَالْخيَار للْبَائِع أَو للْمُشْتَرِي
فَإِن هَلَكت فِي يَد البَائِع فَإِنَّهُ يسْقط الْخِيَار سَوَاء كَانَ الْخِيَار للْبَائِع أَو للْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ يَنْفَسِخ العقد لِأَنَّهُ هلك لَا إِلَى خلف وَلَا يُمكنهُ مُطَالبَة المُشْتَرِي بِالثّمن بِدُونِ تَسْلِيم الْمَبِيع وَقد عجز عَن التَّسْلِيم فَلَا فَائِدَة فِي بَقَائِهِ فَيفْسخ فَيبْطل الْخِيَار ضَرُورَة
وَإِن هَلَكت فِي يَد المُشْتَرِي فَإِن كَانَ الْخِيَار للْبَائِع تهْلك بِالْقيمَةِ وَيسْقط الْخِيَار فِي قَول عَامَّة الْعلمَاء
وَقَالَ ابْن أبي ليلى تهْلك أَمَانَة
وَالصَّحِيح قَول الْعَامَّة لِأَن الْقَبْض بِسَبَب هَذَا العقد لَا يكون دون الْقَبْض على سوم الشِّرَاء وَذَلِكَ مَضْمُون بِالْقيمَةِ فَهَذَا أولى
وَإِن كَانَ الْخِيَار للْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يهْلك عَلَيْهِ بِالثّمن عندنَا
وَعند الشَّافِعِي يهْلك عَلَيْهِ بِالْقيمَةِ
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن الْمَبِيع يصير معيبا قبل الْهَلَاك مُتَّصِلا بِهِ لِأَن الْمَوْت يكون بِنَاء على سَبَب مُؤثر فِيهِ عَادَة وَالسَّبَب المفضي إِلَى الْهَلَاك يكون عَيْبا وحدوث الْعَيْب فِي يَد المُشْتَرِي يسْقط خِيَاره لِأَنَّهُ يعجز عَن الرَّد على الْوَجْه الَّذِي أَخذه سليما كَمَا إِذا حدث بِهِ عيب حسا
وَأما إِذا تعيب الْمَبِيع فَإِن كَانَ الْخِيَار للْبَائِع وَهُوَ عيب يُوجب نُقْصَانا فِي عين الْمَبِيع فَإِنَّهُ يبطل خِيَاره سَوَاء كَانَ الْمَبِيع فِي يَده أَو فِي يَد المُشْتَرِي إِذا تعيب بِآفَة سَمَاوِيَّة أَو بِفعل البَائِع لِأَنَّهُ هلك بعضه بِلَا خلف لِأَنَّهُ لَا يجب الضَّمَان على البَائِع لِأَنَّهُ ملكه فينفسخ البيع فِيهِ لفواته وَلَا يُمكن بَقَاء العقد فِي الْقَائِم لما فِيهِ من تَفْرِيق للصفقة على المُشْتَرِي قبل التَّمام
وَأما إِذا تعيب بِفعل المُشْتَرِي أَو بِفعل الْأَجْنَبِيّ كَانَ البَائِع على خِيَاره لِأَنَّهُ يُمكنهُ إجَازَة البيع فِي الْفَائِت والقائم لِأَنَّهُ فَاتَ إِلَى خلف مَضْمُون على المُشْتَرِي وَالْأَجْنَبِيّ بِالْقيمَةِ لِأَنَّهُمَا أتلفا ملك الْغَيْر بِغَيْر إِذْنه
فَأَما إِذا كَانَ عَيْبا لَا يُوجب نُقْصَانا فِي عين الْمَبِيع كَالْوَطْءِ من الْأَجْنَبِيّ وولادة الْوَلَد وَنَحْو ذَلِك فَلَا يسْقط خِيَاره إِذا تعيب بِفعل البَائِع حَتَّى لَو أَرَادَ أَن يرد على البَائِع بِغَيْر رِضَاهُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِك
وَلَكِن للْمُشْتَرِي حق الرَّد بِسَبَب الْعَيْب لِأَنَّهُ لم يفت شَيْء من الْمَبِيع فينفسخ العقد فِيهِ فتتفرق الصَّفْقَة على المُشْتَرِي وَكَذَا إِذا تعيب بِفعل المُشْتَرِي لِأَنَّهُ مَضْمُون عَلَيْهِ
وَأما إِذا كَانَ الْخِيَار للْمُشْتَرِي وَالْعَبْد فِي يَده يبطل خِيَاره سَوَاء حصل بِآفَة سَمَاوِيَّة أَو بِفعل البَائِع أَو بِفعل المُشْتَرِي أَو بِفعل الْأَجْنَبِيّ حَتَّى لَو أَرَادَ أَن يرد على البَائِع بِغَيْر رِضَاهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِك أما فِي الآفة السماوية وَفعل البَائِع فَلَمَّا ذكرنَا فِي خِيَار البَائِع وَأما فِي فعل المُشْتَرِي وَالْأَجْنَبِيّ فَلِأَنَّهُ فَاتَ شَرط الرَّد لِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ أَن يرد جَمِيع مَا قبض كَمَا قبض سليما وَفِي رد الْبَعْض تَفْرِيق الصَّفْقَة على البَائِع قبل التَّمام وَفِي الْأَجْنَبِيّ عِلّة أُخْرَى وَهِي أَنه أوجب الأَرْض وَالْأَرْش زِيَادَة مُنْفَصِلَة حدثت بعد الْقَبْض وَإِنَّهَا تمنع الْفَسْخ عندنَا كَسَائِر أَسبَاب الْفَسْخ فَكَذَا حكم الْخِيَار
ثمَّ فِي خِيَار البَائِع إِذا تعيب بِفعل المُشْتَرِي أَو بِفعل الْأَجْنَبِيّ وَهُوَ فِي يَد المُشْتَرِي لم يسْقط الْخِيَار وَبَقِي على خِيَاره فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يُجِيز أَو يفْسخ وَالْعَيْب حصل بِفعل المُشْتَرِي أَو الْأَجْنَبِيّ فَإِن أجَاز البيع وَجب على المُشْتَرِي جَمِيع الثّمن لِأَن البيع جَازَ فِي الْكل وَلم يكن للْمُشْتَرِي حق الرَّد وَالْفَسْخ بِسَبَب التَّغْيِير الَّذِي حصل فِي الْمَبِيع لِأَنَّهُ حدث فِي يَده وَفِي ضَمَانه إِلَّا أَن المُشْتَرِي إِن كَانَ هُوَ الْقَاطِع فَلَا سَبِيل لَهُ على أحد لِأَنَّهُ ضمن بِفعل نَفسه وَإِن كَانَ الْقَاطِع أَجْنَبِيّا فَلِلْمُشْتَرِي أَن يتبع الْجَانِي بِالْأَرْضِ لِأَنَّهُ بِالْإِجَازَةِ ملك العَبْد من وَقت البيع فحصلت الْجِنَايَة على ملكه
وَإِذا اخْتَار الْفَسْخ فَإِن كَانَ الْقَاطِع هُوَ المُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَأْخُذ الْبَاقِي وَيضمن المُشْتَرِي نصف قيمَة العَبْد للْبَائِع لِأَن العَبْد كَانَ
مَضْمُونا على المُشْتَرِي بِالْقيمَةِ وَقد عجز عَن رد مَا أتْلفه بِالْجِنَايَةِ فَعَلَيهِ رد قِيمَته
وَإِن كَانَ الْقَاطِع أَجْنَبِيّا فالبائع بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ اتبع الْجَانِي لِأَن الْجِنَايَة حصلت على ملكه وَإِن شَاءَ اتبع المُشْتَرِي لِأَن الْجِنَايَة حدثت فِي ضَمَان المُشْتَرِي فَإِن اخْتَار اتِّبَاع الْأَجْنَبِيّ فَلَا يرجع على أحد لِأَنَّهُ ضمن بِفعل نَفسه وَإِن اخْتَار اتِّبَاع المُشْتَرِي فَالْمُشْتَرِي يرجع بذلك على الْجَانِي لِأَن المُشْتَرِي بأَدَاء الضَّمَان قَامَ مقَام البَائِع فِي حق ملك الْبَدَل وَإِن لم يقم مقَامه فِي حق ملك نفس الْفَائِت كَمَا فِي غَاصِب الْمُدبر إِذا قتل الْمُدبر فِي يَده وَضَمنَهُ الْمَالِك كَانَ لَهُ أَن يرجع على الْقَاتِل وَإِن لم يملك الْمُدبر لما قُلْنَا كَذَلِك هَهُنَا
وَأما معرفَة عمل خِيَار الشَّرْط وَحكمه فَنَقُول قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله إِن البيع بِشَرْط الْخِيَار لَا ينْعَقد فِي حق الحكم بل هُوَ مَوْقُوف إِلَى وَقت سُقُوط الْخِيَار فَينْعَقد حِينَئِذٍ
وَقَالَ الشَّافِعِي فِي قَول مثل قَوْلنَا وَفِي قَول ينْعَقد مُفِيدا للْملك لَكِن يثبت لَهُ خِيَار الْفَسْخ بتسليط صَاحبه كَمَا فِي خِيَار الرُّؤْيَة وَخيَار الْعَيْب
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن خِيَار الشَّرْط شرع لدفع الْغبن لحَدِيث حبَان بن منقذ وَذَلِكَ لَا يحصل إِلَّا بِمَا ذكرنَا فَإِن الْمَبِيع إِذا كَانَ قَرِيبه يعْتق عَلَيْهِ لَو ثَبت الْملك فَلَا يحصل الْغَرَض
ثمَّ الْخِيَار إِذا كَانَ للعاقدين جَمِيعًا لَا يكون العقد منعقدا فِي حق الحكم فِي حَقّهمَا جَمِيعًا
وَإِن كَانَ الْخِيَار لأحد الْعَاقِدين فَلَا شكّ أَن العقد لَا ينْعَقد فِي حق الحكم فِي حق من لَهُ الْخِيَار
وَأما فِي حق الآخر فَهَل ينْعَقد فِي حق
الحكم وَهُوَ الحكم الَّذِي يثبت بِفِعْلِهِ أَعنِي ثُبُوت الْملك فِي الْمَبِيع بِتَمْلِيك البَائِع وَثُبُوت الْملك فِي الثّمن بِتَمْلِيك المُشْتَرِي قَالَ أَبُو حنيفَة لَا ينْعَقد
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد ينْعَقد حَتَّى إِن الْخِيَار إِذا كَانَ للْبَائِع لَا يَزُول الْمَبِيع عَن ملكه وَلَا يدْخل فِي ملك المُشْتَرِي
وَأما الثّمن فَهَل يدْخل فِي ملك البَائِع فَعِنْدَ أبي حنيفَة لَا يدْخل بِأَن كَانَ الثّمن عينا وَلَا يسْتَحق عَلَيْهِ الثّمن للْبَائِع إِن كَانَ دينا
وَعِنْدَهُمَا يدْخل وَيجب الثّمن للْبَائِع
وَإِن كَانَ الْخِيَار للْمُشْتَرِي لَا يسْتَحق عَلَيْهِ الثّمن وَلَا يخرج عَن ملكه إِذا كَانَ عينا
وَهل يدْخل الْمَبِيع فِي ملك المُشْتَرِي عِنْد أبي حنيفَة يَزُول عَن ملك البَائِع وَلَا يدْخل فِي ملك المُشْتَرِي
وَعِنْدَهُمَا يدْخل
وَالصَّحِيح قَول أبي حنيفَة لِأَن خِيَار المُشْتَرِي يمْنَع زَوَال الثّمن عَن ملكه وَيمْنَع من اسْتِحْقَاق الثّمن عَلَيْهِ وَلَو قُلْنَا إِنَّه يملك الْمَبِيع كَانَ فِيهِ جمع بَين الْبَدَل والمبدل فِي ملك رجل وَاحِد فِي عقد الْمُبَادلَة وَهَذَا لَا يجوز بِخِلَاف خِيَار الرُّؤْيَة وَالْعَيْب لِأَن هُنَاكَ لَا يمْنَع زَوَال الثّمن عَن ملك المُشْتَرِي فَجَاز أَن لَا يمْنَع دُخُول السّلْعَة فِي ملكه
وفوائد هَذَا الأَصْل تظهر فِي مسَائِل كَثِيرَة مَذْكُورَة فِي الْكتب فَنَذْكُر بَعْضهَا
مِنْهَا إِذا اشْترى الرجل أَبَاهُ أَو ذَا رحم محرم مِنْهُ على أَنه بِالْخِيَارِ
ثَلَاثَة أَيَّام لم يعْتق عِنْد أبي حنيفَة لِأَنَّهُ لم يدْخل فِي ملكه وَعِنْدَهُمَا يعْتق
وَأَجْمعُوا أَنه إِذا قَالَ لعبد الْغَيْر إِن اشتريتك فَأَنت حر فَاشْتَرَاهُ على أَنه بِالْخِيَارِ ثَلَاثَة أَيَّام يعْتق عَلَيْهِ وَيبْطل خِيَاره
أما عِنْدهمَا فَلِأَنَّهُ يدْخل فِي ملكه وَأما عِنْد أبي حنيفَة فَلِأَن الْمُعَلق بِالشّرطِ كالمنجز عِنْد وجود الشَّرْط وَلَو نجز عتقه بعد شِرَائِهِ بِشَرْط الْخِيَار ينفذ عتقه وَيبْطل الْخِيَار لاختياره الْملك كَذَا هَذَا
وَمِنْهَا إِذا اشْترى زَوجته على أَنه بِالْخِيَارِ ثَلَاثَة أَيَّام لَا يبطل نِكَاحه عِنْد أبي حنيفَة لِأَنَّهَا لم تدخل فِي ملكه
وَعِنْدَهُمَا يبطل لِأَنَّهَا دخلت فِي ملكه
وَلَو وَطئهَا الزَّوْج فِي مُدَّة الْخِيَار ينظر إِن كَانَت بكرا يبطل خِيَاره بالِاتِّفَاقِ لوُجُود التعيب وَإِن كَانَت ثَيِّبًا وَلم ينقصها الْوَطْء لَا يبطل خِيَاره عِنْد أبي حنيفَة لِأَنَّهُ وَطئهَا بِملك النِّكَاح وَلَا بِملك الْيَمين فَلَا يصير مُخْتَارًا ضَرُورَة فِي حل الْوَطْء
وَعِنْدَهُمَا يبطل خِيَاره لِأَنَّهُ وَطئهَا بِحكم الشِّرَاء
وَمِنْهَا أَن الْمَبِيع إِذا كَانَ دَارا إِن كَانَ للْبَائِع فِيهَا خِيَار لم يكن للشَّفِيع الشُّفْعَة بِالْإِجْمَاع لِأَن خِيَار البَائِع يمْنَع زَوَال الْمَبِيع عَن ملكه
وَإِن كَانَ الْخِيَار للْمُشْتَرِي تثبت الشُّفْعَة للشَّفِيع بِالْإِجْمَاع أما عِنْدهمَا فَلِأَن خِيَاره لَا يمْنَع دُخُول السّلْعَة فِي ملك المُشْتَرِي فَتثبت الشُّفْعَة للشَّفِيع وعَلى قَول أبي حنيفَة خِيَار المُشْتَرِي وَإِن منع دُخُول السّلْعَة فِي ملك المُشْتَرِي لم يمْنَع زَوَالهَا عَن ملك البَائِع وَحقّ الشَّفِيع فِي الشُّفْعَة يعْتَمد زَوَال حق البَائِع لَا ملك المُشْتَرِي
وَأما كَيْفيَّة الْفَسْخ وَالْإِجَازَة فَهُوَ على ضَرْبَيْنِ أَحدهمَا بطرِيق الضَّرُورَة وَالْآخر بطرِيق الْقَصْد وَالِاخْتِيَار
أما الْفَسْخ وَالْإِجَازَة بطرِيق الضَّرُورَة فَيصح من غير حَضْرَة خَصمه وَعلمه كمضي مُدَّة الْخِيَار وهلاك الْمَبِيع ونقصانه على مَا ذكرنَا
وَأما الْفَسْخ وَالْإِجَازَة بطرِيق الْقَصْد فقد أجمع أَصْحَابنَا أَن الْمَشْرُوط لَهُ الْخِيَار ملك إجَازَة العقد بِغَيْر محْضر من صَاحبه بِغَيْر علم مِنْهُ لِأَن صَاحبه الَّذِي لَا خِيَار لَهُ رَضِي بِحكم العقد وَأما من لَهُ الْخِيَار فَلم يرض حكمه ولزومه فَإِذا رَضِي ورضا الآخر قد وجد يجب القَوْل بنفاذ البيع علم الآخر أَو لم يعلم
لَكِن يشْتَرط الرِّضَا بِاللِّسَانِ بِأَن قَالَ أجزت هَذَا العقد أَو رضيت بِهِ فَأَما إِذا رَضِي بِقَلْبِه وَمَا أجَازه صَرِيحًا فَإِنَّهُ لَا يسْقط خِيَاره لِأَن الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة تتَعَلَّق بالأقوال وَالْأَفْعَال الظَّاهِرَة الدَّالَّة على الضمائر
وَأما الْفَسْخ وَالرَّدّ إِن وجد بِالْقَلْبِ دون اللِّسَان فَهُوَ بَاطِل لما ذكرنَا
وَأما إِذا فسخ بِلِسَانِهِ فَإِن كَانَ بِمحضر من صَاحبه فَإِنَّهُ يَصح بِالْإِجْمَاع سَوَاء رَضِي بِهِ أَو أَبى
وَأما إِذا كَانَ بِغَيْر محْضر من صَاحبه فقد قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد لَا يَصح وَهُوَ قَول أبي يُوسُف الأول سَوَاء كَانَ الْخِيَار للْبَائِع أَو للْمُشْتَرِي ثمَّ رَجَعَ وَقَالَ يَصح
وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ إِن كَانَ الْخِيَار للْبَائِع ملك فَسخه بِغَيْر محْضر من المُشْتَرِي وَإِن كَانَ الْخِيَار للْمُشْتَرِي لَا يملكهُ فَسخه بِغَيْر محْضر من البَائِع ونعني بالحضرة
الْعلم حَتَّى لَو كَانَ الآخر حَاضرا وَلم يكن عَالما بفسخه لَا يَصح وَلَو كَانَ غَائِبا وَعلم بفسخه فِي مُدَّة الْخِيَار يَنْبَغِي أَن يَصح
وَذكر الْكَرْخِي أَن خِيَار الرُّؤْيَة على هَذَا الْخلاف
وَأَجْمعُوا أَن المُشْتَرِي فِي خِيَار الْعَيْب إِذا فسخ بِغَيْر محْضر من البَائِع لَا يَصح وَإِن كَانَ قبل الْقَبْض وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَلَو اشْترى رجلَانِ على أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثَة أَيَّام أَو اشتريا شَيْئا وَلم يرياه أَو اشتريا شَيْئا فوجدا بِهِ عَيْبا هَل يملك أَحدهمَا أَن ينْفَرد بِالْفَسْخِ على قَول أبي حنيفَة لَا يملك وَلَو رد لَا يَصح
وعَلى قَوْلهمَا يَصح
وَإِنَّمَا يَصح عِنْد أبي حنيفَة إِذا اتفقَا على الرَّد أَو اتفقَا على الْإِجَازَة
أما إِذا رد أَحدهمَا وَأَجَازَ الآخر فَهُوَ على الِاخْتِلَاف
وَكَذَا لَو اختارا رد البيع فِي النّصْف وإجازة البيع فِي النّصْف فَهُوَ على الِاخْتِلَاف وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
بَاب خِيَار الرُّؤْيَة
بَاب خِيَار الرُّؤْيَة
يحْتَاج إِلَى بَيَان مَشْرُوعِيَّة خِيَار الرُّؤْيَة وَإِلَى بَيَان أَنه فِي أَي وَقت يثبت وَفِي بَيَان أَنه يثبت مؤقتا أَو مُطلقًا
وَفِي بَيَان حكمه وَفِي بَيَان مَا يسْقطهُ
أما الأول فَنَقُول قَالَ أَصْحَابنَا رَحِمهم الله إِن خِيَار الرُّؤْيَة مَشْرُوع فِي شِرَاء مَا لم يره المُشْتَرِي فَيجوز الشِّرَاء وَيثبت لَهُ الْخِيَار
وَقَالَ الشَّافِعِي شِرَاء مَا لم يره المُشْتَرِي لَا يَصح فَلَا يكون الْخِيَار فِيهِ مَشْرُوعا
وَلَو بَاعَ شَيْئا لم يره البَائِع وَرَآهُ المُشْتَرِي يجوز عندنَا
وَعند الشَّافِعِي فِيهِ قَولَانِ
وَهل يثبت للْبَائِع فِيهِ خِيَار الرُّؤْيَة لم يذكر فِي ظَاهر الرِّوَايَة وَذكر الطَّحَاوِيّ فِي اخْتِلَاف الْعلمَاء أَن أَبَا حنيفَة كَانَ يَقُول بِأَنَّهُ يثبت
لَهُ الْخِيَار ثمَّ رَجَعَ وَقَالَ لَا يثبت
وَأما بَيَان وَقت ثُبُوت الْخِيَار فَنَقُول يثبت الْخِيَار عِنْد رُؤْيَة المُشْتَرِي لَا قبلهَا حَتَّى لَو أجَاز البيع قبل الرُّؤْيَة لَا يلْزم البيع وَلَا يسْقط الْخِيَار
وَهل يملك الْفَسْخ قبل الرُّؤْيَة لَا رِوَايَة فِي ذَا
وَاخْتلف الْمَشَايِخ قَالَ بَعضهم لَا يملك لِأَنَّهُ لَا يملك الْإِجَازَة قبل الرُّؤْيَة فَلَا يملك الْفَسْخ لِأَن الْخِيَار لم يثبت
وَبَعْضهمْ قَالُوا يملك الْفَسْخ لَا لسَبَب الْخِيَار لِأَنَّهُ غير ثَابت وَلَكِن لِأَن شِرَاء مَا لم يره المُشْتَرِي غير لَازم وَالْعقد الَّذِي لَيْسَ بِلَازِم يجوز فَسخه كالعارية والوديعة
وَأما بَيَان أَن الْخِيَار مُطلق أَو مُؤَقّت فَنَقُول اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ بَعضهم قَالُوا يثبت مُطلقًا فَيكون لَهُ الْخِيَار فِي جَمِيع الْعُمر إِلَّا إِذا وجد مَا يسْقطهُ
وَبَعْضهمْ قَالُوا بِأَنَّهُ مُؤَقّت بِوَقْت إِمْكَان الْفَسْخ بعد الرُّؤْيَة حَتَّى لَو تمكن من الْفَسْخ بعد الرُّؤْيَة وَلم يفْسخ يسْقط خِيَار الرُّؤْيَة وَإِن لم يُوجد مِنْهُ الْإِجَازَة وَالرِّضَا صَرِيحًا وَلَا دلَالَة
وَأما حكمه فَهُوَ التَّخْيِير بَين الْفَسْخ وَالْإِجَازَة إِذا رأى الْمَبِيع وَلَا يمْنَع ثُبُوت الْملك فِي الْبَدَلَيْنِ وَلَكِن يمْنَع اللُّزُوم بِخِلَاف خِيَار الشَّرْط
وَإِنَّمَا يثبت الْخِيَار فِي بيع الْعين بِالْعينِ لكل وَاحِد مِنْهُمَا
وَفِي بيع الْعين بِالدّينِ تثبت للْمُشْتَرِي
وَلَا يثبت فِي بيع الدّين بِالدّينِ وَهُوَ الصّرْف لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِيهِ
فَأَما إِذا كَانَ الْحق عينا فللناس أغراض فِي الْأَعْيَان فَكَانَ ثُبُوت الْخِيَار فِيهِ لينْظر أَنه هَل يصلح لَهُ فَإِن شَاءَ أجَاز إِن صلح وَإِن شَاءَ فسخ إِن لم يصلح
وَهَذَا إِذا رأى جَمِيع الْمَبِيع
فَأَما إِذا رأى الْبَعْض وَرَضي بِهِ وَلم ير الْبَعْض هَل يكون على خِيَاره أم لَا إِذا رأى الْمَبِيع فَنَقُول الأَصْل فِي هَذَا النَّوْع من الْمسَائِل هُوَ أَن غير المرئي إِذا كَانَ تبعا للمرئي فَلَا خِيَار لَهُ فِي غير المرئي وَإِن كَانَ رُؤْيَة مَا رأى لَا تعرف حَال مَا لم يره لِأَن حكم التبع حكم الأَصْل
وَإِن لم يكن غير المرئي تبعا للمرئي فَإِن كَانَ مَقْصُودا بِنَفسِهِ كالمرئي ينظر إِن كَانَ رُؤْيَة مَا قد رأى لم تعرف حَال غير المرئي كَانَ على خِيَاره فِيمَا لم يره لِأَن الْمَقْصُود من الرُّؤْيَة فِيمَا لم يره لم يحصل بِرُؤْيَتِهِ مَا رأى
وَإِن كَانَ رُؤْيَة مَا رأى تعرف حَال غير المرئي فَإِنَّهُ لَا خِيَار لَهُ أصلا فِي غير المرئي إِذا كَانَ غير المرئي مثل المرئي أَو فَوْقه لِأَنَّهُ حصل بِرُؤْيَة الْبَعْض رُؤْيَة الْبَاقِي من حَيْثُ الْمَعْنى
إِذا ثَبت هَذَا الأَصْل تخرج عَلَيْهِ الْمسَائِل الْآتِيَة إِذا اشْترى جَارِيَة أَو عبدا فَرَأى الْوَجْه دون سَائِر الْأَعْضَاء لَا خِيَار لَهُ وَإِن كَانَ رُؤْيَة الْوَجْه لَا تعرف حَال سَائِر الْأَعْضَاء لِأَن سَائِر
الْأَعْضَاء تبع للْوَجْه فِي شِرَاء العَبْد وَالْجَارِيَة فِي الْعَادة وَلَو رأى سَائِر الْأَعْضَاء دون الْوَجْه فَهُوَ على خِيَاره لِأَنَّهُ لم ير الْمَتْبُوع
هَذَا فِي بني آدم فَأَما فِي سَائِر الْحَيَوَان مثل الْفرس وَالْحمار وَنَحْوهمَا ذكر مُحَمَّد بن سَمَّاعَة عَن مُحَمَّد أَنه قَالَ إِن نظر إِلَى عَجزه يسْقط خِيَاره
وَإِن لم ير عَجزه فَهُوَ على خِيَاره فَجعل الْعَجز فِي الْحَيَوَانَات بِمَنْزِلَة الْوَجْه فِي بني آدم
وَعَن أبي يُوسُف أَنه قَالَ هُوَ على خِيَاره مَا لم ير وَجهه ومؤخره فَجعل الأَصْل هذَيْن العضوين وَغَيرهمَا تبعا
وَأما الشَّاة إِذا اشْتَرَاهَا للحم فقد رُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه قَالَ لَا بُد من الجس بعد الرُّؤْيَة حَتَّى يعرف سمنها لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُود
وَإِن اشْتَرَاهَا للدر والنسل فَلَا بُد من رُؤْيَة سَائِر جَسدهَا وَمن النّظر إِلَى ضرْعهَا أَيْضا لِأَنَّهَا تخْتَلف باخْتلَاف الضَّرع
فَأَما فِي غير الْحَيَوَان فَإِن كَانَ شَيْئا وَاحِدًا ينظر إِن كَانَ شَيْء مِنْهُ مَقْصُودا عِنْد النَّاس فِي الْعَادة كالوجه فِي المعافر والطنافس فَإِنَّهُ إِذا رأى الْوَجْه سقط الْخِيَار كَمَا فِي بني آدم وَإِذا رأى
الظّهْر لَا يسْقط هَكَذَا ذكر الْحسن فِي الْمُجَرّد عَن أبي حنيفَة
وَإِن لم يكن شَيْء مِنْهُ مَقْصُودا كالكرباس فَإِن رُؤْيَة بعضه أَي بعض كَانَ كرؤية الْكل لِأَن بِرُؤْيَة بعضه يعرف الْبَاقِي لِأَن تفَاوت الْأَطْرَاف فِي ثوب وَاحِد يسير فَإِن وجد الْبَاقِي مثل المرئي أَو فَوْقه فَلَا خِيَار لَهُ وَإِن وجده دونه كَانَ على خِيَاره على مَا ذكرنَا
وَإِن كَانَ الْمَعْقُود عَلَيْهِ دَارا أَو بستانا ذكر فِي كتاب الْقِسْمَة وَقَالَ إِذا رأى خَارج الدَّار وظاهرها يسْقط خِيَاره وَإِن لم ير داخلها لِأَنَّهَا شَيْء وَاحِد وَفِي الْبُسْتَان إِذا رأى الْخَارِج ورؤوس الْأَشْجَار يسْقط خِيَاره
وعَلى قَول زفر لَا يسْقط الْخِيَار بِدُونِ رُؤْيَة الدَّاخِل
وَلَكِن مَشَايِخنَا قَالُوا تَأْوِيل مَا ذكر فِي كتاب الْقِسْمَة أَنه إِذا لم يكن فِي دَاخل الدَّار أبنية
فَأَما إِذا كَانَ فِيهَا أبنية فَلَا يسْقط الْخِيَار مَا لم ير دَاخل الدَّار كُله أَو بعضه لِأَن الدَّاخِل هُوَ الْمَقْصُود وَالْخَارِج كالتبع لَهُ
وَذكر الْقَدُورِيّ أَن أَصْحَابنَا قَالُوا إِن أَبَا حنيفَة أجَاب على عَادَة أهل الْكُوفَة فِي زَمَانه فَإِن دُورهمْ وبساتينهم لَا تخْتَلف من حَيْثُ التقطيع والهيئة وَإِنَّمَا تخْتَلف من حَيْثُ الصغر وَالْكبر وَكَذَا من حَيْثُ صغر الْأَشْجَار وكبرها وَذَلِكَ يحصل بِرُؤْيَة الْخَارِج ورؤية رُؤُوس الْأَشْجَار وَعَادَة سَائِر الْبلدَانِ بِخِلَاف
هَذَا إِذا كَانَ الْمَعْقُود عَلَيْهِ شَيْئا وَاحِدًا
فَأَما إِذا كَانَ أَشْيَاء فَإِن كَانَ من العدديات المتفاوتة كالثياب الَّتِي اشْتَرَاهَا فِي جراب
أَو البطاطيخ فِي الشريجة أَو الرُّمَّان أَو السفرجل فِي القفة والكوارة فَإِذا رأى الْبَعْض فَإِنَّهُ يكون على خِيَاره فِي الْبَاقِي لِأَن الْكل مَقْصُود ورؤية مَا رأى لَا تعرف حَال الْبَاقِي لِأَنَّهَا مُتَفَاوِتَة
وَإِن كَانَ مَكِيلًا أَو مَوْزُونا أَو عدديا متقاربا فَإِنَّهُ إِذا رأى الْبَعْض وَرَضي بِهِ لَا خِيَار لَهُ فِي الَّذِي لم ير إِذا كَانَ مَا لم ير مثل الَّذِي رأى لِأَن رُؤْيَة الْبَعْض من هَذِه الْأَشْيَاء تعرف حَال الْبَاقِي
وَهَذَا إِذا كَانَ فِي وعَاء وَاحِد فَأَما إِذا كَانَ فِي وعاءين فقد اخْتلف الْمَشَايِخ
قَالَ مَشَايِخ بَلخ لَا يكون رُؤْيَة أَحدهمَا كرؤية الآخر لِأَنَّهُمَا شَيْئَانِ مُخْتَلِفَانِ إِذا كَانَا فِي وعاءين فَكَانَا كالثوبين
وَقَالَ مَشَايِخ الْعرَاق بِأَن رُؤْيَة أَحدهمَا كرؤيتهما جَمِيعًا إِذا كَانَ مَا لم ير مثل المرئي
وَهَكَذَا رُوِيَ عَن أبي يُوسُف وَهُوَ الْأَصَح
وَهَذَا إِذا كَانَ الْمُشْتَرى مغيبا فِي الْوِعَاء فَأَما إِذا كَانَ مغيبا فِي الأَرْض كالجزر والبصل والثوم والفجل والسلجم وبصل الزَّعْفَرَان وَنَحْو ذَلِك فَفِي أَي وَقت يسْقط الْخِيَار لم يذكر هَذَا فِي ظَاهر الرِّوَايَة
وروى بشر عَن أبي يُوسُف أَنه قَالَ إِذا كَانَ شَيْئا يُكَال أَو يُوزن بعد الْقلع كالثوم والبصل والجزر فَإِنَّهُ إِذا قلع المُشْتَرِي شَيْئا بِإِذن البَائِع أَو قلع البَائِع برضى المُشْتَرِي سقط خِيَاره فِي الْبَاقِي لِأَن رُؤْيَة بعض الْمكيل كرؤية الْكل
فَأَما إِذا حصل الْقلع من المُشْتَرِي بِغَيْر إِذن البَائِع لم يكن لَهُ أَن يرد سَوَاء رَضِي بالمقلوع أَو لم يرض إِذا كَانَ المقلوع شَيْئا لَهُ قيمَة عِنْد النَّاس لِأَنَّهُ بِالْقَلْعِ صَار معيبا لِأَنَّهُ كَانَ يَنْمُو وَيزِيد وَبعد الْقلع لَا يَنْمُو وَلَا يزِيد ويتسارع إِلَيْهِ الْفساد وحدوث الْعَيْب فِي الْمَبِيع فِي يَد المُشْتَرِي بِغَيْر صنعه يمْنَع الرَّد فَمَعَ صنعه أولى
وَإِن كَانَ المغيب فِي الأَرْض مِمَّا يُبَاع عددا كالفجل والسلق وَنَحْوهمَا فرؤية الْبَعْض لَا تكون كرؤية الْكل لِأَن هَذَا من بَاب العدديات المتفاوتة فرؤية الْبَعْض لَا تَكْفِي كَمَا فِي الثِّيَاب
وَإِن قلع المُشْتَرِي بِغَيْر إِذْنه سقط خِيَاره لأجل الْعَيْب إِذا كَانَ المقلوع شَيْئا لَهُ قيمَة فَأَما إِذا لم يكن لَهُ قيمَة فَلَا يسْقط خِيَاره لِأَنَّهُ لَا يحصل بِهِ الْعَيْب
وَذكر الْكَرْخِي هَهُنَا مُطلقًا من غير هَذَا التَّفْصِيل وَقَالَ إِذا اشْترى شَيْئا مغيبا فِي الأَرْض مثل الجزر والبصل والثوم وبصل الزَّعْفَرَان وَمَا أشبه ذَلِك فَلهُ الْخِيَار إِذا رأى جَمِيعه فَلَا يكون رُؤْيَة بعضه مُبْطلًا خِيَاره وَإِن رَضِي بذلك الْبَعْض فخياره بَاقٍ إِلَى أَن يرى جَمِيعه
وروى عَمْرو عَن مُحَمَّد أَنه قَالَ قَالَ أَبُو حنيفَة المُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إِذا قلع
قلت فَإِن قلع الْبَعْض قَالَ لم يزِيد أَبُو حنيفَة على مَا قلت لَك فَأَما فِي قَول أبي يُوسُف وَقَوْلِي إِذا قلع شَيْئا يسْتَدلّ بِهِ على مَا بَقِي فِي سمنه وعظمه فَرضِي المُشْتَرِي فَهُوَ لَازم لَهُ فهما يَقُولَانِ إِن التَّفَاوُت فِي هَذِه الْأَشْيَاء لَيْسَ بغالب فَصَارَ كالصبرة وَأَبُو حنيفَة يَقُول إِنَّهَا تخْتَلف من حَيْثُ الصغر وَالْكبر والجودة والرداءة فَلم يسْقط الْخِيَار
بِرُؤْيَتِهِ الْبَعْض كالثياب
وَلَو اشْترى دهن سمسم فِي قَارُورَة فَرَأى من خَارج القارورة الدّهن فِي القارورة روى ابْن سَمَّاعَة عَن مُحَمَّد أَنه قَالَ يَكْفِي وَيسْقط خِيَاره لِأَن رُؤْيَته من الْخَارِج تعرفه حَالَة الدّهن فَكَأَنَّهُ رَآهُ خَارج القارورة فِي قَصْعَة وَنَحْوهَا ثمَّ اشْتَرَاهُ
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد فِي رِوَايَة أُخْرَى أَنه لَا يبطل مَا لم ينظر إِلَى الدّهن بَعْدَمَا يخرج من القارورة لِأَن لون الدّهن مِمَّا يتَغَيَّر بلون القارورة
وَلَو نظر إِلَى الْمرْآة فَرَأى الْمَبِيع قَالُوا لَا يسْقط خِيَاره لِأَنَّهُ مَا رأى عين الْمَبِيع وَإِنَّمَا رأى مِثَاله
قَالَ هَكَذَا قَالَ بَعضهم وَالأَصَح أَنه يرى عين الْمَبِيع لَكِن يعرف بِهِ أَصله وَقد تَتَفَاوَت هيئاته بتفاوت الْمرْآة
وعَلى هَذَا قَالُوا من نظر فِي الْمرْآة فَرَأى فرج أم امْرَأَته عَن شَهْوَة لَا تثبت حُرْمَة الْمُصَاهَرَة
وَلَو نظر إِلَى فرج امْرَأَته الْمُطلقَة طَلَاقا رَجْعِيًا عَن شَهْوَة فِي الْمرْآة لَا يصير مراجعا لما قُلْنَا
وَلَو اشْترى سمكًا فِي المَاء يُمكن أَخذه من غير اصطياد فَرَآهُ فِي المَاء قَالَ بَعضهم يسْقط خِيَاره لِأَنَّهُ رأى عين الْمَبِيع
وَقَالَ بَعضهم لَا يسْقط وَهُوَ الصَّحِيح لِأَن الشَّيْء لَا يرى فِي المَاء كَمَا هُوَ بل يرى أَكثر مِمَّا هُوَ فبهذه الرُّؤْيَة لَا تعرف حَاله حَقِيقَة
وَلَو وكل رجلا بِالنّظرِ إِلَى مَا اشْتَرَاهُ وَلم يره فَيلْزم العقد إِن رَضِي وَيفْسخ العقد إِن شَاءَ وَقَالَ وَيصِح التَّوْكِيل وَيقوم نظره مقَام نظره لِأَنَّهُ جعل الرَّأْي إِلَيْهِ
وَلَو وكل بِقَبْضِهِ فَقَبضهُ فَرَآهُ هَل يسْقط خِيَار الْمُوكل
عِنْد أبي حنيفَة يسْقط لِأَنَّهُ من تَمام الْقَبْض وَعِنْدَهُمَا لَا يسْقط
وَأَجْمعُوا أَنه إِذا أرسل رَسُولا بِقَبْضِهِ فَرَآهُ الرَّسُول وَرَضي بِهِ كَانَ الْمُرْسل على خِيَاره
وَأَجْمعُوا فِي خِيَار الْعَيْب أَنه إِذا وكل رجلا بِقَبض الْمَبِيع فَقبض الْوَكِيل وَعلم بِالْعَيْبِ وَرَضي بِهِ لَا يسْقط خِيَار الْمُوكل
وَأما خِيَار الشَّرْط فَلَا رِوَايَة عَن أبي حنيفَة وَاخْتلف الْمَشَايِخ قَالَ بَعضهم على هَذَا الِاخْتِلَاف وَقَالَ بَعضهم لَا يسْقط بالِاتِّفَاقِ
وَأما بَيَان مَا يسْقط بِهِ الْخِيَار فَنَقُول إِن خِيَار الرُّؤْيَة لَا يسْقط بالإسقاط صَرِيحًا بِأَن قَالَ المُشْتَرِي أسقطت خياري
كَذَا روى ابْن رستم عَن مُحَمَّد لَا قبل الرُّؤْيَة وَلَا بعْدهَا بِخِلَاف خِيَار الشَّرْط وَخيَار الْعَيْب
وَالْفرق أَن هَذَا الْخِيَار ثَبت شرعا لحكمة فِيهِ فَلَا يملك العَبْد إِسْقَاطه كَمَا فِي خِيَار الرّجْعَة فَإِنَّهُ لَو قَالَ أسقطت الرّجْعَة وأبطلت لَا تبطل وَلَكِن إِن شَاءَ رَاجع وَإِن شَاءَ تَركهَا حَتَّى تَنْقَضِي الْعدة فَتبْطل الرّجْعَة حكما بِخِلَاف خِيَار الشَّرْط فَإِنَّهُ يثبت شَرطهمَا فَجَاز أَن يسْقط بإسقاطهما وَكَذَلِكَ خِيَار الْعَيْب فَإِن السَّلامَة مَشْرُوطَة من المُشْتَرِي عَادَة فَهُوَ كالمشروط صَرِيحًا
ثمَّ خِيَار الرُّؤْيَة إِنَّمَا يسْقط بِصَرِيح الرِّضَا وَدلَالَة الرِّضَا بعد الرُّؤْيَة لَا قبل الرُّؤْيَة وَيسْقط بتعذر الْفَسْخ وبلزوم العقد
حكما وضرورة قبل الرُّؤْيَة وَبعدهَا لما ذكرنَا أَنه لَا يثبت فِي الأَصْل إِلَّا بعد الرُّؤْيَة فَلَا يجوز أَن يسْقط بِالرِّضَا صَرِيحًا وَدلَالَة إِلَّا بعد ثُبُوته حَتَّى إِنَّه إِذا رأى وَصلح لَهُ يُجِيزهُ وَإِن لم يصلح لَهُ يردهُ لِأَنَّهُ شرع نظرا لَهُ وَلَكِن إِذا تعذر الْفَسْخ بِأَيّ سَبَب كَانَ أَو لزم العقد بطرِيق الضَّرُورَة سقط قبل الرُّؤْيَة خِيَاره أَو بعْدهَا لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي ثُبُوت حق الْفَسْخ فالتزم العقد ضَرُورَة وَيجوز أَن يثبت الشَّيْء ضَرُورَة وَإِن كَانَ لَا يثبت قصدا كالموكل لَا يملك عزل الْوَكِيل بِدُونِ علمه قصدا وَيملك ضَرُورَة بِأَن بَاعَ الْمُوكل بِنَفسِهِ ليعزل الْوَكِيل
إِذا ثَبت هَذَا تخرج عَلَيْهِ الْمسَائِل إِذا ذهب الْمَبِيع من غَيره وَلم يُسلمهُ أَو عرضه على البيع وَنَحْوهمَا قبل الرُّؤْيَة لَا يسْقط لِأَنَّهُ لَا يسْقط بِصَرِيح الرِّضَا فِي هَذِه الْحَالة فَكَذَا لَا يسْقط بِدلَالَة الرِّضَا
وَلَو أعتق المُشْتَرِي العَبْد أَو دبره أَو استولد الْجَارِيَة فَإِنَّهُ يسْقط الْخِيَار قبل الرُّؤْيَة وَبعدهَا لِأَنَّهُ تعذر الْفَسْخ لِأَن هَذِه حُقُوق لَازِمَة أثبتها للْعَبد وَمن ضَرُورَة ثُبُوت الْحق اللَّازِم من الْمَالِك لغيره لُزُوم الْملك لَهُ فَثَبت اللُّزُوم شرعا ضَرُورَة ثُبُوت الْحق اللَّازِم شرعا وَمَتى ثَبت اللُّزُوم تعذر الْفَسْخ
وَلَو رَهنه المُشْتَرِي وَلم يُسلمهُ أَو أجره من رجل أَو بَاعه على أَن المُشْتَرِي بِالْخِيَارِ سقط خِيَاره قبل الرُّؤْيَة وَبعدهَا حَتَّى لَو أفتك الرَّهْن أَو مَضَت الْمدَّة فِي الْإِجَازَة أَو رده على المُشْتَرِي بِخِيَار الشَّرْط ثمَّ رَآهُ لَا يكون لَهُ الرَّد بِخِيَار الرُّؤْيَة لِأَنَّهُ أثبت حَقًا لَازِما لغيره بِهَذِهِ التَّصَرُّفَات فَيكون من ضَرُورَته لُزُوم الْملك لَهُ وَذَلِكَ بامتناع ثُبُوت الْخِيَار فَيبْطل ضَرُورَة لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِيهِ
وَفِي خِيَار الْعَيْب لَا يسْقط بِهَذِهِ التَّصَرُّفَات لِأَن ثمَّة العقد لَازم
مَعَ الْعَيْب بعد الْقَبْض حَتَّى لَا يُمكنهُ الرَّد إِلَّا بِقَضَاء أَو رضَا وَإِذا كَانَ لَازِما فَلَا يسْقط الْخِيَار لضَرُورَة اللُّزُوم وَإنَّهُ لَازم
وعَلى هَذَا فَالْمُشْتَرِي إِذا كَاتب ثمَّ عجز العَبْد ورد فِي الرّقّ ثمَّ رَآهُ لَا يثبت لَهُ خِيَار الرُّؤْيَة لِأَن الْكِتَابَة عقد لَازم
وَكَذَلِكَ لَو وهب وَسلم قبل الرُّؤْيَة لِأَنَّهُ بِالتَّسْلِيمِ أثبت حَقًا لَازِما فَإِنَّهُ لَا يقدر على الرُّجُوع إِلَّا بِقَضَاء أَو رضَا
هَذَا إِذا كَانَ المُشْتَرِي بَصيرًا أما إِذا كَانَ المُشْتَرِي أعمى حَتَّى ثَبت لَهُ الْخِيَار بِسَبَب جَهَالَة الْأَوْصَاف لعدم الرُّؤْيَة فبماذا يسْقط خِيَاره اخْتلفت الرِّوَايَات عَن أَصْحَابنَا فِيهِ وَالْحَاصِل أَن مَا يُمكن جسه وذوقه وَشمه يَكْتَفِي بذلك لسُقُوط خِيَاره فِي أشهر الرِّوَايَات وَلَا يشْتَرط بَيَان الْوَصْف لَهُ وَيكون بِمَنْزِلَة نظر الْبَصِير وَفِي رِوَايَة هِشَام عَن مُحَمَّد أَنه يعْتَبر الْوَصْف مَعَ ذَلِك لِأَن التَّعْرِيف الْكَامِل فِي حَقه يثبت بِهَذَا
أما مَا لَا يُمكن جسه بِأَن اشْترى ثمارا على رُؤُوس الْأَشْجَار فَإِنَّهُ يعْتَبر فِيهِ الْوَصْف لَا غير فِي أشهر الرِّوَايَات وَفِي رِوَايَة يُوقف فِي مَكَان لَو كَانَ بَصيرًا لرَأى ذَلِك
وَأما إِذا كَانَ الْمَبِيع دَارا أَو عقارا فَالْأَصَحّ من الرِّوَايَات أَنه يَكْتَفِي بِالْوَصْفِ فَإِذا رَضِي بِهِ كَانَ بِمَنْزِلَة النّظر من الْبَصِير
وَقَالُوا فِي الْأَعْمَى إِذا اشْترى فوصف لَهُ وَرَضي بذلك ثمَّ زَالَ الْعَمى فَلَا خِيَار لَهُ لِأَن الْوَصْف خلف عَن الرُّؤْيَة فِي حَقه وَالْقُدْرَة على الأَصْل بعد حُصُول الْمَقْصُود بِالْبَدَلِ لَا تسْقط حكم الْبَدَل
وَلَو اشْترى الْبَصِير شَيْئا لم يره فوصف لَهُ فَرضِي بِهِ لم يسْقط خِيَاره لِأَنَّهُ لَا عِبْرَة للخلف مَعَ الْقُدْرَة على الأَصْل
وَلَو اخْتلف البَائِع وَالْمُشْتَرِي فَقَالَ البَائِع بِعْتُك هَذَا الشَّيْء وَقد رَأَيْته وَقَالَ المُشْتَرِي لم أره فَالْقَوْل قَول المُشْتَرِي لِأَن البَائِع يَدعِي عَلَيْهِ إِلْزَام العقد وَهُوَ مُنكر فَيكون القَوْل قَوْله ويستحلف المُشْتَرِي لِأَن البَائِع يَدعِي عَلَيْهِ سُقُوط حق الْفَسْخ وَلُزُوم العقد وَهَذَا مِمَّا يَصح بذله وَالْإِقْرَار بِهِ فَيجْرِي فِيهِ الِاسْتِحْلَاف
وَلَو رأى عبدا أَو دَابَّة ثمَّ اشْترى بعد ذَلِك بِشَهْر أَو نَحوه فَلَا خِيَار لَهُ لِأَنَّهُ اشْترى شَيْئا قد رَآهُ وَثُبُوت هَذَا الْخِيَار مُعَلّق بشرَاء شَيْء لم يره وَلِأَن مَا هُوَ الْمَقْصُود من الْخِيَار قد ثَبت فَكَانَ الْإِقْدَام على الشِّرَاء دلَالَة الرِّضَا
وَلَو اخْتلفَا فَقَالَ المُشْتَرِي قد تغير عَن الْحَالة الَّتِي رَأَيْته وَالْبَائِع يُنكر فَالْقَوْل قَول البَائِع مَعَ يَمِينه لِأَن دَعْوَى التَّغْيِير إِمَّا أَن تكون دَعْوَى الْعَيْب أَو دَعْوَى تبدل هَيئته فِيمَا يحْتَمل التبدل وَهَذَا دَعْوَى أَمر عَارض فَيكون القَوْل قَول من تمسك بِالْأَصْلِ
يحْتَاج إِلَى بَيَان مَشْرُوعِيَّة خِيَار الرُّؤْيَة وَإِلَى بَيَان أَنه فِي أَي وَقت يثبت وَفِي بَيَان أَنه يثبت مؤقتا أَو مُطلقًا
وَفِي بَيَان حكمه وَفِي بَيَان مَا يسْقطهُ
أما الأول فَنَقُول قَالَ أَصْحَابنَا رَحِمهم الله إِن خِيَار الرُّؤْيَة مَشْرُوع فِي شِرَاء مَا لم يره المُشْتَرِي فَيجوز الشِّرَاء وَيثبت لَهُ الْخِيَار
وَقَالَ الشَّافِعِي شِرَاء مَا لم يره المُشْتَرِي لَا يَصح فَلَا يكون الْخِيَار فِيهِ مَشْرُوعا
وَلَو بَاعَ شَيْئا لم يره البَائِع وَرَآهُ المُشْتَرِي يجوز عندنَا
وَعند الشَّافِعِي فِيهِ قَولَانِ
وَهل يثبت للْبَائِع فِيهِ خِيَار الرُّؤْيَة لم يذكر فِي ظَاهر الرِّوَايَة وَذكر الطَّحَاوِيّ فِي اخْتِلَاف الْعلمَاء أَن أَبَا حنيفَة كَانَ يَقُول بِأَنَّهُ يثبت
لَهُ الْخِيَار ثمَّ رَجَعَ وَقَالَ لَا يثبت
وَأما بَيَان وَقت ثُبُوت الْخِيَار فَنَقُول يثبت الْخِيَار عِنْد رُؤْيَة المُشْتَرِي لَا قبلهَا حَتَّى لَو أجَاز البيع قبل الرُّؤْيَة لَا يلْزم البيع وَلَا يسْقط الْخِيَار
وَهل يملك الْفَسْخ قبل الرُّؤْيَة لَا رِوَايَة فِي ذَا
وَاخْتلف الْمَشَايِخ قَالَ بَعضهم لَا يملك لِأَنَّهُ لَا يملك الْإِجَازَة قبل الرُّؤْيَة فَلَا يملك الْفَسْخ لِأَن الْخِيَار لم يثبت
وَبَعْضهمْ قَالُوا يملك الْفَسْخ لَا لسَبَب الْخِيَار لِأَنَّهُ غير ثَابت وَلَكِن لِأَن شِرَاء مَا لم يره المُشْتَرِي غير لَازم وَالْعقد الَّذِي لَيْسَ بِلَازِم يجوز فَسخه كالعارية والوديعة
وَأما بَيَان أَن الْخِيَار مُطلق أَو مُؤَقّت فَنَقُول اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ بَعضهم قَالُوا يثبت مُطلقًا فَيكون لَهُ الْخِيَار فِي جَمِيع الْعُمر إِلَّا إِذا وجد مَا يسْقطهُ
وَبَعْضهمْ قَالُوا بِأَنَّهُ مُؤَقّت بِوَقْت إِمْكَان الْفَسْخ بعد الرُّؤْيَة حَتَّى لَو تمكن من الْفَسْخ بعد الرُّؤْيَة وَلم يفْسخ يسْقط خِيَار الرُّؤْيَة وَإِن لم يُوجد مِنْهُ الْإِجَازَة وَالرِّضَا صَرِيحًا وَلَا دلَالَة
وَأما حكمه فَهُوَ التَّخْيِير بَين الْفَسْخ وَالْإِجَازَة إِذا رأى الْمَبِيع وَلَا يمْنَع ثُبُوت الْملك فِي الْبَدَلَيْنِ وَلَكِن يمْنَع اللُّزُوم بِخِلَاف خِيَار الشَّرْط
وَإِنَّمَا يثبت الْخِيَار فِي بيع الْعين بِالْعينِ لكل وَاحِد مِنْهُمَا
وَفِي بيع الْعين بِالدّينِ تثبت للْمُشْتَرِي
وَلَا يثبت فِي بيع الدّين بِالدّينِ وَهُوَ الصّرْف لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِيهِ
فَأَما إِذا كَانَ الْحق عينا فللناس أغراض فِي الْأَعْيَان فَكَانَ ثُبُوت الْخِيَار فِيهِ لينْظر أَنه هَل يصلح لَهُ فَإِن شَاءَ أجَاز إِن صلح وَإِن شَاءَ فسخ إِن لم يصلح
وَهَذَا إِذا رأى جَمِيع الْمَبِيع
فَأَما إِذا رأى الْبَعْض وَرَضي بِهِ وَلم ير الْبَعْض هَل يكون على خِيَاره أم لَا إِذا رأى الْمَبِيع فَنَقُول الأَصْل فِي هَذَا النَّوْع من الْمسَائِل هُوَ أَن غير المرئي إِذا كَانَ تبعا للمرئي فَلَا خِيَار لَهُ فِي غير المرئي وَإِن كَانَ رُؤْيَة مَا رأى لَا تعرف حَال مَا لم يره لِأَن حكم التبع حكم الأَصْل
وَإِن لم يكن غير المرئي تبعا للمرئي فَإِن كَانَ مَقْصُودا بِنَفسِهِ كالمرئي ينظر إِن كَانَ رُؤْيَة مَا قد رأى لم تعرف حَال غير المرئي كَانَ على خِيَاره فِيمَا لم يره لِأَن الْمَقْصُود من الرُّؤْيَة فِيمَا لم يره لم يحصل بِرُؤْيَتِهِ مَا رأى
وَإِن كَانَ رُؤْيَة مَا رأى تعرف حَال غير المرئي فَإِنَّهُ لَا خِيَار لَهُ أصلا فِي غير المرئي إِذا كَانَ غير المرئي مثل المرئي أَو فَوْقه لِأَنَّهُ حصل بِرُؤْيَة الْبَعْض رُؤْيَة الْبَاقِي من حَيْثُ الْمَعْنى
إِذا ثَبت هَذَا الأَصْل تخرج عَلَيْهِ الْمسَائِل الْآتِيَة إِذا اشْترى جَارِيَة أَو عبدا فَرَأى الْوَجْه دون سَائِر الْأَعْضَاء لَا خِيَار لَهُ وَإِن كَانَ رُؤْيَة الْوَجْه لَا تعرف حَال سَائِر الْأَعْضَاء لِأَن سَائِر
الْأَعْضَاء تبع للْوَجْه فِي شِرَاء العَبْد وَالْجَارِيَة فِي الْعَادة وَلَو رأى سَائِر الْأَعْضَاء دون الْوَجْه فَهُوَ على خِيَاره لِأَنَّهُ لم ير الْمَتْبُوع
هَذَا فِي بني آدم فَأَما فِي سَائِر الْحَيَوَان مثل الْفرس وَالْحمار وَنَحْوهمَا ذكر مُحَمَّد بن سَمَّاعَة عَن مُحَمَّد أَنه قَالَ إِن نظر إِلَى عَجزه يسْقط خِيَاره
وَإِن لم ير عَجزه فَهُوَ على خِيَاره فَجعل الْعَجز فِي الْحَيَوَانَات بِمَنْزِلَة الْوَجْه فِي بني آدم
وَعَن أبي يُوسُف أَنه قَالَ هُوَ على خِيَاره مَا لم ير وَجهه ومؤخره فَجعل الأَصْل هذَيْن العضوين وَغَيرهمَا تبعا
وَأما الشَّاة إِذا اشْتَرَاهَا للحم فقد رُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه قَالَ لَا بُد من الجس بعد الرُّؤْيَة حَتَّى يعرف سمنها لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُود
وَإِن اشْتَرَاهَا للدر والنسل فَلَا بُد من رُؤْيَة سَائِر جَسدهَا وَمن النّظر إِلَى ضرْعهَا أَيْضا لِأَنَّهَا تخْتَلف باخْتلَاف الضَّرع
فَأَما فِي غير الْحَيَوَان فَإِن كَانَ شَيْئا وَاحِدًا ينظر إِن كَانَ شَيْء مِنْهُ مَقْصُودا عِنْد النَّاس فِي الْعَادة كالوجه فِي المعافر والطنافس فَإِنَّهُ إِذا رأى الْوَجْه سقط الْخِيَار كَمَا فِي بني آدم وَإِذا رأى
الظّهْر لَا يسْقط هَكَذَا ذكر الْحسن فِي الْمُجَرّد عَن أبي حنيفَة
وَإِن لم يكن شَيْء مِنْهُ مَقْصُودا كالكرباس فَإِن رُؤْيَة بعضه أَي بعض كَانَ كرؤية الْكل لِأَن بِرُؤْيَة بعضه يعرف الْبَاقِي لِأَن تفَاوت الْأَطْرَاف فِي ثوب وَاحِد يسير فَإِن وجد الْبَاقِي مثل المرئي أَو فَوْقه فَلَا خِيَار لَهُ وَإِن وجده دونه كَانَ على خِيَاره على مَا ذكرنَا
وَإِن كَانَ الْمَعْقُود عَلَيْهِ دَارا أَو بستانا ذكر فِي كتاب الْقِسْمَة وَقَالَ إِذا رأى خَارج الدَّار وظاهرها يسْقط خِيَاره وَإِن لم ير داخلها لِأَنَّهَا شَيْء وَاحِد وَفِي الْبُسْتَان إِذا رأى الْخَارِج ورؤوس الْأَشْجَار يسْقط خِيَاره
وعَلى قَول زفر لَا يسْقط الْخِيَار بِدُونِ رُؤْيَة الدَّاخِل
وَلَكِن مَشَايِخنَا قَالُوا تَأْوِيل مَا ذكر فِي كتاب الْقِسْمَة أَنه إِذا لم يكن فِي دَاخل الدَّار أبنية
فَأَما إِذا كَانَ فِيهَا أبنية فَلَا يسْقط الْخِيَار مَا لم ير دَاخل الدَّار كُله أَو بعضه لِأَن الدَّاخِل هُوَ الْمَقْصُود وَالْخَارِج كالتبع لَهُ
وَذكر الْقَدُورِيّ أَن أَصْحَابنَا قَالُوا إِن أَبَا حنيفَة أجَاب على عَادَة أهل الْكُوفَة فِي زَمَانه فَإِن دُورهمْ وبساتينهم لَا تخْتَلف من حَيْثُ التقطيع والهيئة وَإِنَّمَا تخْتَلف من حَيْثُ الصغر وَالْكبر وَكَذَا من حَيْثُ صغر الْأَشْجَار وكبرها وَذَلِكَ يحصل بِرُؤْيَة الْخَارِج ورؤية رُؤُوس الْأَشْجَار وَعَادَة سَائِر الْبلدَانِ بِخِلَاف
هَذَا إِذا كَانَ الْمَعْقُود عَلَيْهِ شَيْئا وَاحِدًا
فَأَما إِذا كَانَ أَشْيَاء فَإِن كَانَ من العدديات المتفاوتة كالثياب الَّتِي اشْتَرَاهَا فِي جراب
أَو البطاطيخ فِي الشريجة أَو الرُّمَّان أَو السفرجل فِي القفة والكوارة فَإِذا رأى الْبَعْض فَإِنَّهُ يكون على خِيَاره فِي الْبَاقِي لِأَن الْكل مَقْصُود ورؤية مَا رأى لَا تعرف حَال الْبَاقِي لِأَنَّهَا مُتَفَاوِتَة
وَإِن كَانَ مَكِيلًا أَو مَوْزُونا أَو عدديا متقاربا فَإِنَّهُ إِذا رأى الْبَعْض وَرَضي بِهِ لَا خِيَار لَهُ فِي الَّذِي لم ير إِذا كَانَ مَا لم ير مثل الَّذِي رأى لِأَن رُؤْيَة الْبَعْض من هَذِه الْأَشْيَاء تعرف حَال الْبَاقِي
وَهَذَا إِذا كَانَ فِي وعَاء وَاحِد فَأَما إِذا كَانَ فِي وعاءين فقد اخْتلف الْمَشَايِخ
قَالَ مَشَايِخ بَلخ لَا يكون رُؤْيَة أَحدهمَا كرؤية الآخر لِأَنَّهُمَا شَيْئَانِ مُخْتَلِفَانِ إِذا كَانَا فِي وعاءين فَكَانَا كالثوبين
وَقَالَ مَشَايِخ الْعرَاق بِأَن رُؤْيَة أَحدهمَا كرؤيتهما جَمِيعًا إِذا كَانَ مَا لم ير مثل المرئي
وَهَكَذَا رُوِيَ عَن أبي يُوسُف وَهُوَ الْأَصَح
وَهَذَا إِذا كَانَ الْمُشْتَرى مغيبا فِي الْوِعَاء فَأَما إِذا كَانَ مغيبا فِي الأَرْض كالجزر والبصل والثوم والفجل والسلجم وبصل الزَّعْفَرَان وَنَحْو ذَلِك فَفِي أَي وَقت يسْقط الْخِيَار لم يذكر هَذَا فِي ظَاهر الرِّوَايَة
وروى بشر عَن أبي يُوسُف أَنه قَالَ إِذا كَانَ شَيْئا يُكَال أَو يُوزن بعد الْقلع كالثوم والبصل والجزر فَإِنَّهُ إِذا قلع المُشْتَرِي شَيْئا بِإِذن البَائِع أَو قلع البَائِع برضى المُشْتَرِي سقط خِيَاره فِي الْبَاقِي لِأَن رُؤْيَة بعض الْمكيل كرؤية الْكل
فَأَما إِذا حصل الْقلع من المُشْتَرِي بِغَيْر إِذن البَائِع لم يكن لَهُ أَن يرد سَوَاء رَضِي بالمقلوع أَو لم يرض إِذا كَانَ المقلوع شَيْئا لَهُ قيمَة عِنْد النَّاس لِأَنَّهُ بِالْقَلْعِ صَار معيبا لِأَنَّهُ كَانَ يَنْمُو وَيزِيد وَبعد الْقلع لَا يَنْمُو وَلَا يزِيد ويتسارع إِلَيْهِ الْفساد وحدوث الْعَيْب فِي الْمَبِيع فِي يَد المُشْتَرِي بِغَيْر صنعه يمْنَع الرَّد فَمَعَ صنعه أولى
وَإِن كَانَ المغيب فِي الأَرْض مِمَّا يُبَاع عددا كالفجل والسلق وَنَحْوهمَا فرؤية الْبَعْض لَا تكون كرؤية الْكل لِأَن هَذَا من بَاب العدديات المتفاوتة فرؤية الْبَعْض لَا تَكْفِي كَمَا فِي الثِّيَاب
وَإِن قلع المُشْتَرِي بِغَيْر إِذْنه سقط خِيَاره لأجل الْعَيْب إِذا كَانَ المقلوع شَيْئا لَهُ قيمَة فَأَما إِذا لم يكن لَهُ قيمَة فَلَا يسْقط خِيَاره لِأَنَّهُ لَا يحصل بِهِ الْعَيْب
وَذكر الْكَرْخِي هَهُنَا مُطلقًا من غير هَذَا التَّفْصِيل وَقَالَ إِذا اشْترى شَيْئا مغيبا فِي الأَرْض مثل الجزر والبصل والثوم وبصل الزَّعْفَرَان وَمَا أشبه ذَلِك فَلهُ الْخِيَار إِذا رأى جَمِيعه فَلَا يكون رُؤْيَة بعضه مُبْطلًا خِيَاره وَإِن رَضِي بذلك الْبَعْض فخياره بَاقٍ إِلَى أَن يرى جَمِيعه
وروى عَمْرو عَن مُحَمَّد أَنه قَالَ قَالَ أَبُو حنيفَة المُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إِذا قلع
قلت فَإِن قلع الْبَعْض قَالَ لم يزِيد أَبُو حنيفَة على مَا قلت لَك فَأَما فِي قَول أبي يُوسُف وَقَوْلِي إِذا قلع شَيْئا يسْتَدلّ بِهِ على مَا بَقِي فِي سمنه وعظمه فَرضِي المُشْتَرِي فَهُوَ لَازم لَهُ فهما يَقُولَانِ إِن التَّفَاوُت فِي هَذِه الْأَشْيَاء لَيْسَ بغالب فَصَارَ كالصبرة وَأَبُو حنيفَة يَقُول إِنَّهَا تخْتَلف من حَيْثُ الصغر وَالْكبر والجودة والرداءة فَلم يسْقط الْخِيَار
بِرُؤْيَتِهِ الْبَعْض كالثياب
وَلَو اشْترى دهن سمسم فِي قَارُورَة فَرَأى من خَارج القارورة الدّهن فِي القارورة روى ابْن سَمَّاعَة عَن مُحَمَّد أَنه قَالَ يَكْفِي وَيسْقط خِيَاره لِأَن رُؤْيَته من الْخَارِج تعرفه حَالَة الدّهن فَكَأَنَّهُ رَآهُ خَارج القارورة فِي قَصْعَة وَنَحْوهَا ثمَّ اشْتَرَاهُ
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد فِي رِوَايَة أُخْرَى أَنه لَا يبطل مَا لم ينظر إِلَى الدّهن بَعْدَمَا يخرج من القارورة لِأَن لون الدّهن مِمَّا يتَغَيَّر بلون القارورة
وَلَو نظر إِلَى الْمرْآة فَرَأى الْمَبِيع قَالُوا لَا يسْقط خِيَاره لِأَنَّهُ مَا رأى عين الْمَبِيع وَإِنَّمَا رأى مِثَاله
قَالَ هَكَذَا قَالَ بَعضهم وَالأَصَح أَنه يرى عين الْمَبِيع لَكِن يعرف بِهِ أَصله وَقد تَتَفَاوَت هيئاته بتفاوت الْمرْآة
وعَلى هَذَا قَالُوا من نظر فِي الْمرْآة فَرَأى فرج أم امْرَأَته عَن شَهْوَة لَا تثبت حُرْمَة الْمُصَاهَرَة
وَلَو نظر إِلَى فرج امْرَأَته الْمُطلقَة طَلَاقا رَجْعِيًا عَن شَهْوَة فِي الْمرْآة لَا يصير مراجعا لما قُلْنَا
وَلَو اشْترى سمكًا فِي المَاء يُمكن أَخذه من غير اصطياد فَرَآهُ فِي المَاء قَالَ بَعضهم يسْقط خِيَاره لِأَنَّهُ رأى عين الْمَبِيع
وَقَالَ بَعضهم لَا يسْقط وَهُوَ الصَّحِيح لِأَن الشَّيْء لَا يرى فِي المَاء كَمَا هُوَ بل يرى أَكثر مِمَّا هُوَ فبهذه الرُّؤْيَة لَا تعرف حَاله حَقِيقَة
وَلَو وكل رجلا بِالنّظرِ إِلَى مَا اشْتَرَاهُ وَلم يره فَيلْزم العقد إِن رَضِي وَيفْسخ العقد إِن شَاءَ وَقَالَ وَيصِح التَّوْكِيل وَيقوم نظره مقَام نظره لِأَنَّهُ جعل الرَّأْي إِلَيْهِ
وَلَو وكل بِقَبْضِهِ فَقَبضهُ فَرَآهُ هَل يسْقط خِيَار الْمُوكل
عِنْد أبي حنيفَة يسْقط لِأَنَّهُ من تَمام الْقَبْض وَعِنْدَهُمَا لَا يسْقط
وَأَجْمعُوا أَنه إِذا أرسل رَسُولا بِقَبْضِهِ فَرَآهُ الرَّسُول وَرَضي بِهِ كَانَ الْمُرْسل على خِيَاره
وَأَجْمعُوا فِي خِيَار الْعَيْب أَنه إِذا وكل رجلا بِقَبض الْمَبِيع فَقبض الْوَكِيل وَعلم بِالْعَيْبِ وَرَضي بِهِ لَا يسْقط خِيَار الْمُوكل
وَأما خِيَار الشَّرْط فَلَا رِوَايَة عَن أبي حنيفَة وَاخْتلف الْمَشَايِخ قَالَ بَعضهم على هَذَا الِاخْتِلَاف وَقَالَ بَعضهم لَا يسْقط بالِاتِّفَاقِ
وَأما بَيَان مَا يسْقط بِهِ الْخِيَار فَنَقُول إِن خِيَار الرُّؤْيَة لَا يسْقط بالإسقاط صَرِيحًا بِأَن قَالَ المُشْتَرِي أسقطت خياري
كَذَا روى ابْن رستم عَن مُحَمَّد لَا قبل الرُّؤْيَة وَلَا بعْدهَا بِخِلَاف خِيَار الشَّرْط وَخيَار الْعَيْب
وَالْفرق أَن هَذَا الْخِيَار ثَبت شرعا لحكمة فِيهِ فَلَا يملك العَبْد إِسْقَاطه كَمَا فِي خِيَار الرّجْعَة فَإِنَّهُ لَو قَالَ أسقطت الرّجْعَة وأبطلت لَا تبطل وَلَكِن إِن شَاءَ رَاجع وَإِن شَاءَ تَركهَا حَتَّى تَنْقَضِي الْعدة فَتبْطل الرّجْعَة حكما بِخِلَاف خِيَار الشَّرْط فَإِنَّهُ يثبت شَرطهمَا فَجَاز أَن يسْقط بإسقاطهما وَكَذَلِكَ خِيَار الْعَيْب فَإِن السَّلامَة مَشْرُوطَة من المُشْتَرِي عَادَة فَهُوَ كالمشروط صَرِيحًا
ثمَّ خِيَار الرُّؤْيَة إِنَّمَا يسْقط بِصَرِيح الرِّضَا وَدلَالَة الرِّضَا بعد الرُّؤْيَة لَا قبل الرُّؤْيَة وَيسْقط بتعذر الْفَسْخ وبلزوم العقد
حكما وضرورة قبل الرُّؤْيَة وَبعدهَا لما ذكرنَا أَنه لَا يثبت فِي الأَصْل إِلَّا بعد الرُّؤْيَة فَلَا يجوز أَن يسْقط بِالرِّضَا صَرِيحًا وَدلَالَة إِلَّا بعد ثُبُوته حَتَّى إِنَّه إِذا رأى وَصلح لَهُ يُجِيزهُ وَإِن لم يصلح لَهُ يردهُ لِأَنَّهُ شرع نظرا لَهُ وَلَكِن إِذا تعذر الْفَسْخ بِأَيّ سَبَب كَانَ أَو لزم العقد بطرِيق الضَّرُورَة سقط قبل الرُّؤْيَة خِيَاره أَو بعْدهَا لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي ثُبُوت حق الْفَسْخ فالتزم العقد ضَرُورَة وَيجوز أَن يثبت الشَّيْء ضَرُورَة وَإِن كَانَ لَا يثبت قصدا كالموكل لَا يملك عزل الْوَكِيل بِدُونِ علمه قصدا وَيملك ضَرُورَة بِأَن بَاعَ الْمُوكل بِنَفسِهِ ليعزل الْوَكِيل
إِذا ثَبت هَذَا تخرج عَلَيْهِ الْمسَائِل إِذا ذهب الْمَبِيع من غَيره وَلم يُسلمهُ أَو عرضه على البيع وَنَحْوهمَا قبل الرُّؤْيَة لَا يسْقط لِأَنَّهُ لَا يسْقط بِصَرِيح الرِّضَا فِي هَذِه الْحَالة فَكَذَا لَا يسْقط بِدلَالَة الرِّضَا
وَلَو أعتق المُشْتَرِي العَبْد أَو دبره أَو استولد الْجَارِيَة فَإِنَّهُ يسْقط الْخِيَار قبل الرُّؤْيَة وَبعدهَا لِأَنَّهُ تعذر الْفَسْخ لِأَن هَذِه حُقُوق لَازِمَة أثبتها للْعَبد وَمن ضَرُورَة ثُبُوت الْحق اللَّازِم من الْمَالِك لغيره لُزُوم الْملك لَهُ فَثَبت اللُّزُوم شرعا ضَرُورَة ثُبُوت الْحق اللَّازِم شرعا وَمَتى ثَبت اللُّزُوم تعذر الْفَسْخ
وَلَو رَهنه المُشْتَرِي وَلم يُسلمهُ أَو أجره من رجل أَو بَاعه على أَن المُشْتَرِي بِالْخِيَارِ سقط خِيَاره قبل الرُّؤْيَة وَبعدهَا حَتَّى لَو أفتك الرَّهْن أَو مَضَت الْمدَّة فِي الْإِجَازَة أَو رده على المُشْتَرِي بِخِيَار الشَّرْط ثمَّ رَآهُ لَا يكون لَهُ الرَّد بِخِيَار الرُّؤْيَة لِأَنَّهُ أثبت حَقًا لَازِما لغيره بِهَذِهِ التَّصَرُّفَات فَيكون من ضَرُورَته لُزُوم الْملك لَهُ وَذَلِكَ بامتناع ثُبُوت الْخِيَار فَيبْطل ضَرُورَة لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِيهِ
وَفِي خِيَار الْعَيْب لَا يسْقط بِهَذِهِ التَّصَرُّفَات لِأَن ثمَّة العقد لَازم
مَعَ الْعَيْب بعد الْقَبْض حَتَّى لَا يُمكنهُ الرَّد إِلَّا بِقَضَاء أَو رضَا وَإِذا كَانَ لَازِما فَلَا يسْقط الْخِيَار لضَرُورَة اللُّزُوم وَإنَّهُ لَازم
وعَلى هَذَا فَالْمُشْتَرِي إِذا كَاتب ثمَّ عجز العَبْد ورد فِي الرّقّ ثمَّ رَآهُ لَا يثبت لَهُ خِيَار الرُّؤْيَة لِأَن الْكِتَابَة عقد لَازم
وَكَذَلِكَ لَو وهب وَسلم قبل الرُّؤْيَة لِأَنَّهُ بِالتَّسْلِيمِ أثبت حَقًا لَازِما فَإِنَّهُ لَا يقدر على الرُّجُوع إِلَّا بِقَضَاء أَو رضَا
هَذَا إِذا كَانَ المُشْتَرِي بَصيرًا أما إِذا كَانَ المُشْتَرِي أعمى حَتَّى ثَبت لَهُ الْخِيَار بِسَبَب جَهَالَة الْأَوْصَاف لعدم الرُّؤْيَة فبماذا يسْقط خِيَاره اخْتلفت الرِّوَايَات عَن أَصْحَابنَا فِيهِ وَالْحَاصِل أَن مَا يُمكن جسه وذوقه وَشمه يَكْتَفِي بذلك لسُقُوط خِيَاره فِي أشهر الرِّوَايَات وَلَا يشْتَرط بَيَان الْوَصْف لَهُ وَيكون بِمَنْزِلَة نظر الْبَصِير وَفِي رِوَايَة هِشَام عَن مُحَمَّد أَنه يعْتَبر الْوَصْف مَعَ ذَلِك لِأَن التَّعْرِيف الْكَامِل فِي حَقه يثبت بِهَذَا
أما مَا لَا يُمكن جسه بِأَن اشْترى ثمارا على رُؤُوس الْأَشْجَار فَإِنَّهُ يعْتَبر فِيهِ الْوَصْف لَا غير فِي أشهر الرِّوَايَات وَفِي رِوَايَة يُوقف فِي مَكَان لَو كَانَ بَصيرًا لرَأى ذَلِك
وَأما إِذا كَانَ الْمَبِيع دَارا أَو عقارا فَالْأَصَحّ من الرِّوَايَات أَنه يَكْتَفِي بِالْوَصْفِ فَإِذا رَضِي بِهِ كَانَ بِمَنْزِلَة النّظر من الْبَصِير
وَقَالُوا فِي الْأَعْمَى إِذا اشْترى فوصف لَهُ وَرَضي بذلك ثمَّ زَالَ الْعَمى فَلَا خِيَار لَهُ لِأَن الْوَصْف خلف عَن الرُّؤْيَة فِي حَقه وَالْقُدْرَة على الأَصْل بعد حُصُول الْمَقْصُود بِالْبَدَلِ لَا تسْقط حكم الْبَدَل
وَلَو اشْترى الْبَصِير شَيْئا لم يره فوصف لَهُ فَرضِي بِهِ لم يسْقط خِيَاره لِأَنَّهُ لَا عِبْرَة للخلف مَعَ الْقُدْرَة على الأَصْل
وَلَو اخْتلف البَائِع وَالْمُشْتَرِي فَقَالَ البَائِع بِعْتُك هَذَا الشَّيْء وَقد رَأَيْته وَقَالَ المُشْتَرِي لم أره فَالْقَوْل قَول المُشْتَرِي لِأَن البَائِع يَدعِي عَلَيْهِ إِلْزَام العقد وَهُوَ مُنكر فَيكون القَوْل قَوْله ويستحلف المُشْتَرِي لِأَن البَائِع يَدعِي عَلَيْهِ سُقُوط حق الْفَسْخ وَلُزُوم العقد وَهَذَا مِمَّا يَصح بذله وَالْإِقْرَار بِهِ فَيجْرِي فِيهِ الِاسْتِحْلَاف
وَلَو رأى عبدا أَو دَابَّة ثمَّ اشْترى بعد ذَلِك بِشَهْر أَو نَحوه فَلَا خِيَار لَهُ لِأَنَّهُ اشْترى شَيْئا قد رَآهُ وَثُبُوت هَذَا الْخِيَار مُعَلّق بشرَاء شَيْء لم يره وَلِأَن مَا هُوَ الْمَقْصُود من الْخِيَار قد ثَبت فَكَانَ الْإِقْدَام على الشِّرَاء دلَالَة الرِّضَا
وَلَو اخْتلفَا فَقَالَ المُشْتَرِي قد تغير عَن الْحَالة الَّتِي رَأَيْته وَالْبَائِع يُنكر فَالْقَوْل قَول البَائِع مَعَ يَمِينه لِأَن دَعْوَى التَّغْيِير إِمَّا أَن تكون دَعْوَى الْعَيْب أَو دَعْوَى تبدل هَيئته فِيمَا يحْتَمل التبدل وَهَذَا دَعْوَى أَمر عَارض فَيكون القَوْل قَول من تمسك بِالْأَصْلِ
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
بَاب خِيَار الْعَيْب
بَاب خِيَار الْعَيْب
الْكَلَام فِيهِ فِي مَوَاضِع فِي بَيَان شَرْعِيَّة خِيَار الْعَيْب وَفِي بَيَان الْعُيُوب الَّتِي توجب الْخِيَار جملَة وتفصيلا وَفِي بَيَان كَيْفيَّة الرَّد وَفِي بَيَان مَا يمْنَع الرَّد وَيسْقط الْخِيَار وَفِي بَيَان مَا يمْنَع الرُّجُوع بِنُقْصَان الْعَيْب وَمَا لَا يمْنَع وَفِي بَيَان الْإِبْرَاء عَن الْعُيُوب
أما الأول فَلِأَن سَلامَة الْبَدَلَيْنِ فِي عقد الْمُبَادلَة مَطْلُوبَة عَادَة فَتكون بِمَنْزِلَة الْمَشْرُوط صَرِيحًا وَلَو اشْترى جَارِيَة على أَنَّهَا بكر أَو خبازة وَلم تُوجد ثَبت الْخِيَار لفَوَات غَرَضه كَذَا هَذَا
وَأما بَيَان الْعُيُوب الْمُوجبَة للخيار فِي الْجُمْلَة فَنَقُول كل مَا أوجب نُقْصَان الْقيمَة وَالثمن فِي عَادَة التُّجَّار فَهُوَ عيب يُوجب الْخِيَار
وَمَا لَا يُوجب نُقْصَان الْقيمَة وَالثمن فَلَيْسَ بِعَيْب
وَأما تَفْصِيل الْعُيُوب فَهِيَ على نَوْعَيْنِ
أَحدهمَا مَا يُوجب فَوَات جُزْء من الْمَبِيع أَو تَغْيِيره من حَيْثُ الظَّاهِر دون الْبَاطِن
وَالثَّانِي مَا يُوجب النُّقْصَان من حَيْثُ الْمَعْنى دون الصُّورَة
أما الأول فكثير نَحْو الْعَمى والعور والشلل والزمانة والإصبع النَّاقِصَة وَالسّن السَّوْدَاء وَالسّن الساقطة وَالسّن الشاغية وَالظفر الْأسود والصمم والخرس والبكم والقروح والشجاج وَأثر الْجراح والأمراض كلهَا الَّتِي تكون فِي سَائِر الْبدن والحميات وَهَذَا كُله ظَاهر
وَأما الثَّانِي فنحو السعال الْقَدِيم وارتفاع الْحيض فِي زمَان طَوِيل أدناه شَهْرَان فَصَاعِدا فِي الْجَوَارِي
وَمِنْهَا صهوبة الشّعْر والشمط والشيب فِي العبيد والجواري والبخر عيب فِي الْجَوَارِي دون العبيد إِلَّا أَن يكون فَاحِشا أَو يكون عَن دَاء وَكَذَلِكَ الزفر
وَمِنْهَا الزِّنَا عيب فِي الْجَوَارِي دون الغلمان إِلَّا إِذا كثر ذَلِك مِنْهُم وَصَارَ عَادَة لَهُم فَيكون عَيْبا
وَكَذَا كَونه ولد الزِّنَا يكون عَيْبا فِي الْجَوَارِي دون العبيد
وَالْحَبل عيب فِي الْجَارِيَة لَا فِي الْبَهَائِم
وَالنِّكَاح فِي الْغُلَام وَالْجَارِيَة عيب
وَالْكفْر عيب فِي الْجَارِيَة والغلام
وَمن هَذِه الْجُمْلَة الْإِبَاق وَالسَّرِقَة وَالْبَوْل فِي الْفراش وَالْجُنُون
وَحَاصِل الْجَواب فِيهَا أَنَّهَا فِي الصَّغِير الَّذِي لَا يعقل وَلَا يَأْكُل وَحده لَا تكون عَيْبا لِأَنَّهُ لَا يعرف الِامْتِنَاع من هَذِه الْأَشْيَاء فَلَا يثبت بِهِ وجود الْعَيْب بِالِاحْتِمَالِ فَأَما إِذا كَانَ صَبيا عَاقِلا فَإِنَّهُ يكون عَيْبا وَلَكِن عِنْد اتِّحَاد الْحَالة يثبت حق الرَّد لَا عِنْد الِاخْتِلَاف بِأَن ثَبت أَنه أبق عِنْد البَائِع ثمَّ يأبق عِنْد المُشْتَرِي كِلَاهُمَا فِي حَالَة الصغر أَو كِلَاهُمَا فِي حَالَة الْكبر لِأَن سَبَب وجود هَذِه الْأَشْيَاء فِي حَالَة الصغر عيب وَهُوَ قلَّة المبالاة وقصور الْعقل وَضعف المثانة وَفِي حَال الْكبر يكون السَّبَب سوء اخْتِيَاره وداء فِي الْبَاطِن فَإِذا اتّفق الحالان علم أَن السَّبَب وَاحِد فَيكون هَذَا الْعَيْب ثَابتا عِنْد البَائِع فَأَما إِذا اخْتلف فَلَا يعرف لِأَنَّهُ يجوز أَن يَزُول الَّذِي كَانَ عِنْد البَائِع ثمَّ يحدث النَّوْع الآخر عِنْد المُشْتَرِي فَلَا يكون لَهُ حق الرَّد كَالْعَبْدِ إِذا حم عِنْد البَائِع ثمَّ حم عِنْد المُشْتَرِي فَإِن كَانَ هَذَا الثَّانِي غير ذَلِك النَّوْع لَا يثبت حق الرَّد وَإِن كَانَ من نَوعه ثَبت حق الرَّد كَذَا هَذَا
فَأَما الْجُنُون إِذا ثَبت وجوده عِنْد البَائِع فَهَل يشْتَرط وجوده ثَانِيًا عِنْد المُشْتَرِي لَيْسَ فِيهِ رِوَايَة نصا وَاخْتلف الْمَشَايِخ فبعضهم قَالُوا لَا يشْتَرط لِأَن مُحَمَّدًا قَالَ الْجُنُون عيب لَازم أبدا فَلَا يشْتَرط وجوده ثَانِيًا عِنْد المُشْتَرِي بِخِلَاف السّرقَة والإباق
وَالْبَوْل فِي الْفراش فَإِنَّهُ مَا لم يُوجد عِنْد المُشْتَرِي لَا يثبت حق الرَّد
وَقَالَ بَعضهم لَا يكون لَهُ حق الرَّد مَا لم يُوجد ثَانِيًا عِنْد المُشْتَرِي كَمَا فِي الْإِبَاق ونظائره إِلَّا أَن الْفرق أَن فِي الْجُنُون لَا يشْتَرط اتِّحَاد الْحَالة فَإِن جن عِنْد البَائِع وَهُوَ صَغِير ثمَّ جن عِنْد المُشْتَرِي بعد الْبلُوغ فَإِنَّهُ يثبت حق الرَّد وَفِي الْإِبَاق وَنَظِيره لَا يثبت حق الرَّد إِلَّا عِنْد اتِّحَاد الْحَالة على مَا ذكرنَا
وَأما كَيْفيَّة الرَّد فَنَقُول إِن المُشْتَرِي إِذا ادّعى عَيْبا بِالْمَبِيعِ فَلَا يَخْلُو من ثَلَاثَة أوجه إِمَّا أَن يكون عَيْبا ظَاهرا مشاهدا كالإصبع الزَّائِدَة وَالسّن الشاغية الزَّائِدَة والعمى وَنَحْوهَا
أَو كَانَ عَيْبا بَاطِنا فِي نفس الْحَيَوَان لَا يعرفهُ إِلَّا الْأَطِبَّاء
أَو يكون فِي مَوضِع لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال ويطلع عَلَيْهِ النِّسَاء
أَو يكون عَيْبا لَا يعرف بِالْمُشَاهَدَةِ وَلَا بالتجربة والامتحان عِنْد الْخُصُومَة وَذَلِكَ كالإباق وَالسَّرِقَة وَالْبَوْل على الْفراش وَالْجُنُون
أما إِذا كَانَ عَيْبا مشاهدا فَإِن القَاضِي لَا يُكَلف المُشْتَرِي بِإِقَامَة الْبَيِّنَة على إِثْبَات الْعَيْب عِنْده لكَون الْعَيْب ثَابتا عِنْده بالعيان والمشاهدة وَيكون للْمُشْتَرِي حق الْخُصُومَة مَعَ البَائِع بِسَبَب هَذَا الْعَيْب فَبعد هَذَا القَاضِي ينظر فِي الْعَيْب الَّذِي يَدعِي فَإِن كَانَ عَيْبا لَا يحدث مثله فِي يَدي المُشْتَرِي كالإصبع الزَّائِدَة وَنَحْوهَا فَإِنَّهُ يرد على البَائِع وَلَا يُكَلف المُشْتَرِي بِإِقَامَة الْبَيِّنَة على ثُبُوت الْعَيْب عِنْد البَائِع لِأَنَّهُ تَيَقّن ثُبُوته عِنْده إِلَّا أَن يَدعِي البَائِع الرِّضَا وَالْإِبْرَاء فيطلب مِنْهُ الْبَيِّنَة فَإِن أَقَامَ الْبَيِّنَة عَلَيْهِ وَإِلَّا فَحِينَئِذٍ يسْتَحْلف المُشْتَرِي على دَعْوَاهُ
فَإِن نكل لم يرد عَلَيْهِ وَإِن حلف رد على البَائِع فَإِن كَانَ عَيْبا يجوز أَن يحدث مثله فِي يَد المُشْتَرِي فَإِن القَاضِي يَقُول للْبَائِع هَل حدث هَذَا عنْدك فَإِن قَالَ نعم قضى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ إِلَّا أَن يَدعِي الرِّضَا وَالْإِبْرَاء وَإِن أنكر الْحُدُوث عِنْده فَإِنَّهُ يَقُول للْمُشْتَرِي أَلَك بَيِّنَة فَإِن أَقَامَهَا قضى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ إِلَّا أَن يَدعِي الرِّضَا وَالْإِبْرَاء وَإِن لم يكن لَهُ بَيِّنَة ذكر فِي الأَصْل وَقَالَ يسْتَحْلف البَائِع على الْبَتَات بِاللَّه لقد بِعته وسلمته وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْب لِأَن هَذَا أَمر لَو أقرّ بِهِ لزمَه فَإِذا أنكر يحلف لصدق قَوْله وَإِنَّمَا يحلف على هَذَا الْوَجْه لِأَن الْعَيْب قد يحدث بعد البيع قبل الْقَبْض فَيثبت لَهُ حق الرَّد فَلَا بُد من ذكر البيع وَالتَّسْلِيم
ثمَّ من الْمَشَايِخ من قَالَ لَا يجب أَن يسْتَحْلف هَكَذَا لِأَنَّهُ يبطل حق المُشْتَرِي فِي الرَّد فِي بعض الْأَحْوَال لِأَنَّهُ يكون للْمُشْتَرِي حق الرَّد بِعَيْب حَادث بعد البيع قبل الْقَبْض فَمَتَى حلف على هَذَا الْوَجْه لم يَحْنَث إِذا حدث الْعَيْب قبل الْقَبْض لِأَن شَرط الْحِنْث وجود الْعَيْب عِنْد البيع وَالْقَبْض جَمِيعًا وَلَكِن الِاحْتِيَاط للْمُشْتَرِي أَن يحلف البَائِع بِاللَّه وَمَا للْمُشْتَرِي رد السّلْعَة بِهَذَا الْعَيْب الَّذِي يَدعِي وَقيل يحلف بِاللَّه لقد سلمته وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْب الَّذِي يَدعِي
وَمِنْهُم من قَالَ بِأَن مَا ذكر مُحَمَّد صَحِيح مَعَ إِضْمَار زِيَادَة فِي كَلَامه فَيحلف البَائِع بِاللَّه لقد بِعته وسلمته وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْب لَا عِنْد البيع وَلَا عِنْد التَّسْلِيم إِلَّا أَن مُحَمَّدًا اختصر كَلَامه والاختصار ثَابت فِي اللُّغَة فَيحمل كَلَامه عَلَيْهِ
وَأما إِذا كَانَ الْعَيْب بَاطِنا لَا يعرفهُ إِلَّا الْخَواص من النَّاس كالأطباء والنخاسين فَإِنَّهُ يعرف ذَلِك مِمَّن لَهُ بصارة فِي ذَلِك الْبَاب فَإِن اجْتمع
على ذَلِك الْعَيْب رجلَانِ مسلمان أَو قَالَ ذَلِك رجل مُسلم عدل فَإِنَّهُ يقبل قَوْله وَيثبت الْعَيْب فِي حق إِثْبَات الْخُصُومَة ثمَّ بعد هَذَا يَقُول القَاضِي للْبَائِع هَل حدث عنْدك الْعَيْب الَّذِي يَدعِي فَإِن قَالَ نعم قضى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ وَإِن أنكر يُقيم المُشْتَرِي الْبَيِّنَة فَإِن لم يكن لَهُ بَيِّنَة اسْتحْلف البَائِع على الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا فَإِن حلف لم يرد عَلَيْهِ وَإِن نكل قضى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ إِلَّا أَن يَدعِي الرِّضَا أَو الْإِبْرَاء
وَإِن كَانَ الْعَيْب مِمَّا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال ويطلع عَلَيْهِ النِّسَاء فَإِنَّهُ يرجع إِلَى قَول النِّسَاء فترى امْرَأَة مسلمة عدلة والثنتان أحوط
فَإِذا شهِدت على الْعَيْب فَفِي هَذِه الْمَسْأَلَة عَن أبي يُوسُف رِوَايَتَانِ وَكَذَا عَن مُحَمَّد رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة فرق أَبُو يُوسُف بَين مَا إِذا كَانَ الْمَبِيع فِي يَد البَائِع أَو فِي يَد المُشْتَرِي فَقَالَ إِن كَانَ فِي يَد البَائِع رد الْمَبِيع بشهادتها لِأَن مَا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال فَقَوْل الْمَرْأَة الْوَاحِدَة بِمَنْزِلَة الْبَيِّنَة فَيثبت الْعَيْب بقولِهَا وَالْعَيْب الْمَوْجُود عِنْد البَائِع يفْسخ بِهِ البيع
وَإِن كَانَ بعد الْقَبْض أقبل قَوْلهَا فِي حق إِثْبَات الْخُصُومَة وَلَا أقبل فِي حق الرَّد على البَائِع لِأَن الْمَبِيع وجد معيبا فِي ضَمَان المُشْتَرِي فَلَا أنقل الضَّمَان إِلَى البَائِع بقول النِّسَاء وَلَكِن أثبت حق الْخُصُومَة ليثبت الِاسْتِحْقَاق
وَفِي رِوَايَة قَالَ إِن كَانَ الْعَيْب مِمَّا لَا يحدث مثله يفْسخ بقولهن لِأَن الْعَيْب قد ثَبت بشهادتهن وَقد علمنَا كَون الْعَيْب عِنْد البَائِع بِيَقِين فَيثبت حق الْفَسْخ وَإِن كَانَ عَيْبا يحدث مثله لم يثبت حق الْفَسْخ بقولهن لِأَن هَذَا مِمَّا يعلم من جِهَة غَيْرهنَّ
وَأما عَن مُحَمَّد فَفِي رِوَايَة قَالَ لَا يفْسخ بقولهن بِحَال وَفِي رِوَايَة يفْسخ قبل الْقَبْض وَبعده بقولهن لِأَن قَوْلهَا فِيمَا لَا يطلع عَلَيْهِ
على ذَلِك الْعَيْب رجلَانِ مسلمان أَو قَالَ ذَلِك رجل مُسلم عدل فَإِنَّهُ يقبل قَوْله وَيثبت الْعَيْب فِي حق إِثْبَات الْخُصُومَة ثمَّ بعد هَذَا يَقُول القَاضِي للْبَائِع هَل حدث عنْدك الْعَيْب الَّذِي يَدعِي فَإِن قَالَ نعم قضى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ وَإِن أنكر يُقيم المُشْتَرِي الْبَيِّنَة فَإِن لم يكن لَهُ بَيِّنَة اسْتحْلف البَائِع على الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا فَإِن حلف لم يرد عَلَيْهِ وَإِن نكل قضى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ إِلَّا أَن يَدعِي الرِّضَا أَو الْإِبْرَاء
وَإِن كَانَ الْعَيْب مِمَّا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال ويطلع عَلَيْهِ النِّسَاء فَإِنَّهُ يرجع إِلَى قَول النِّسَاء فترى امْرَأَة مسلمة عدلة والثنتان أحوط
فَإِذا شهِدت على الْعَيْب فَفِي هَذِه الْمَسْأَلَة عَن أبي يُوسُف رِوَايَتَانِ وَكَذَا عَن مُحَمَّد رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة فرق أَبُو يُوسُف بَين مَا إِذا كَانَ الْمَبِيع فِي يَد البَائِع أَو فِي يَد المُشْتَرِي فَقَالَ إِن كَانَ فِي يَد البَائِع رد الْمَبِيع بشهادتها لِأَن مَا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال فَقَوْل الْمَرْأَة الْوَاحِدَة بِمَنْزِلَة الْبَيِّنَة فَيثبت الْعَيْب بقولِهَا وَالْعَيْب الْمَوْجُود عِنْد البَائِع يفْسخ بِهِ البيع
وَإِن كَانَ بعد الْقَبْض أقبل قَوْلهَا فِي حق إِثْبَات الْخُصُومَة وَلَا أقبل فِي حق الرَّد على البَائِع لِأَن الْمَبِيع وجد معيبا فِي ضَمَان المُشْتَرِي فَلَا أنقل الضَّمَان إِلَى البَائِع بقول النِّسَاء وَلَكِن أثبت حق الْخُصُومَة ليثبت الِاسْتِحْقَاق
وَفِي رِوَايَة قَالَ إِن كَانَ الْعَيْب مِمَّا لَا يحدث مثله يفْسخ بقولهن لِأَن الْعَيْب قد ثَبت بشهادتهن وَقد علمنَا كَون الْعَيْب عِنْد البَائِع بِيَقِين فَيثبت حق الْفَسْخ وَإِن كَانَ عَيْبا يحدث مثله لم يثبت حق الْفَسْخ بقولهن لِأَن هَذَا مِمَّا يعلم من جِهَة غَيْرهنَّ
وَأما عَن مُحَمَّد فَفِي رِوَايَة قَالَ لَا يفْسخ بقولهن بِحَال وَفِي رِوَايَة يفْسخ قبل الْقَبْض وَبعده بقولهن لِأَن قَوْلهَا فِيمَا لَا يطلع عَلَيْهِ
الرِّجَال كالبينة كَمَا فِي النّسَب
وَأما الْعَيْب الَّذِي لَيْسَ بمشاهد عِنْد الْخُصُومَة وَلَا يعرف بقول النَّاس كالإباق وَالْجُنُون وَالسَّرِقَة وَالْبَوْل على الْفراش فقد ذكرنَا أَنه لَا بُد من ثُبُوت الْعَيْب عِنْد المُشْتَرِي وَعند البَائِع عِنْد اتِّحَاد الْحَالة إِلَّا فِي الْجُنُون إِن اتِّحَاد الْحَال لَيْسَ بِشَرْط فِي الْجُنُون
فَإِن أَقَامَ المُشْتَرِي الْبَيِّنَة على حُدُوث الْعَيْب عِنْده فَإِنَّهُ يَقُول القَاضِي للْبَائِع هَل أبق عنْدك فَإِن قَالَ نعم قضى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ إِلَّا أَن يَدعِي الرِّضَا أَو الْإِبْرَاء وَإِن أنكر الْإِبَاق أصلا وَادّعى اخْتِلَاف الْحَالة يَقُول القَاضِي للْمُشْتَرِي أَلَك بَيِّنَة فَإِن قَالَ نعم وَأقَام الْبَيِّنَة على مَا يدعى قضى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ وَإِن قَالَ لَا يسْتَحْلف البَائِع بِاللَّه مَا أبق عنْدك قطّ مُنْذُ بلغ وَلَا جن عنْدك قطّ فَإِن حلف انْقَطَعت الْخُصُومَة بَينهمَا وَإِن نكل عَن الْيَمين قضى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ
وَإِن لم يجد المُشْتَرِي بَيِّنَة على إِثْبَات أصل الْعَيْب عِنْد نَفسه هَل يسْتَحْلف القَاضِي البَائِع على ذَلِك أم لَا لم يذكر فِي بُيُوع الأَصْل وَذكر فِي الْجَامِع وَقَالَ يستحلفه على قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد وَلم يذكر قَول أبي حنيفَة فَمن الْمَشَايِخ من قَالَ يسْتَحْلف بِلَا خلاف وَمِنْهُم من قَالَ هَذِه الْمَسْأَلَة على الِاخْتِلَاف فَقَوْل أبي حنيفَة لَا يسْتَحْلف نَص عَلَيْهِ فِي كتاب التَّزْكِيَة على مَا يعرف فِي الْجَامِع وَالله أعلم
ثمَّ كَيفَ يسْتَحْلف قَالُوا يسْتَحْلف على الْعلم لِأَنَّهَا يَمِين على غير فعله بِاللَّه مَا يعلم أَن هَذَا الْعَيْب مَوْجُود فِي هَذَا العَبْد الْآن فَإِن نكل عَن الْيَمين ثَبت الْعَيْب عِنْد المُشْتَرِي فَيثبت لَهُ حق الْخُصُومَة وَإِن حلف بَرِيء
وَأما مَا يبطل حق الرَّد وَيمْنَع وجوب الْأَرْش وَمَا لَا يمْنَع فَنَقُول أصل الْبَاب أَن الرَّد بِالْعَيْبِ يمْتَنع بِأَسْبَاب مِنْهَا حُدُوث الْعَيْب عِنْد المُشْتَرِي عندنَا خلافًا لمَالِك وَالشَّافِعِيّ فِي أحد قوليه
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن الْمَبِيع خرج عَن ملكه معيبا بِعَيْب وَاحِد فَلَو رد يرد بعيبين وَشرط الرَّد أَن يرد على الْوَجْه الَّذِي أَخذ وَلم يُوجد
وَمِنْهَا الزَّوَائِد الْمُنْفَصِلَة المتولدة من الْعين بعد الْقَبْض كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَة أَو المستفادة بِسَبَب الْعين كالأرض والعقر تمنع الرَّد بِالْعَيْبِ وَسَائِر أَسبَاب الْفَسْخ كالإقالة وَالرَّدّ بِخِيَار الرُّؤْيَة وَالشّرط فِي قَول عُلَمَائِنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا تمنع
وَأَجْمعُوا أَن الْكسْب أَو الْغلَّة الَّتِي تحدث بعد الْقَبْض لَا تمنع فسخ العقد
وَأَجْمعُوا أَن الزَّوَائِد الْمُنْفَصِلَة قبل الْقَبْض لَا تمنع الْفَسْخ بل يفْسخ على الأَصْل والزوائد جَمِيعًا
فَأَما فِي الزَّوَائِد الْمُتَّصِلَة كالسمن وَالْجمال وَنَحْوهَا وَقد حدثت بعد الْقَبْض فَإِنَّهُ لَا يمْنَع الرَّد بِالْعَيْبِ إِذا رَضِي المُشْتَرِي لكَونهَا تَابِعَة للْأَصْل حَقِيقَة وَقت الْفَسْخ فَإِذا انْفَسَخ العقد على الأَصْل يفْسخ فِيهَا تبعا
فَأَما إِذا أَبى المُشْتَرِي أَن يرد وَأَرَادَ الرُّجُوع بِنُقْصَان الْعَيْب وَقَالَ البَائِع لَا أُعْطِيك نُقْصَان الْعَيْب وَلَكِن رد عَليّ الْمَبِيع حَتَّى أرد عَلَيْك الثّمن هَل للْبَائِع ذَلِك
على قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف لَيْسَ لَهُ ذَلِك
وعَلى قَول مُحَمَّد لَهُ ذَلِك
وَهَذَا لِأَن الزِّيَادَة الْمُتَّصِلَة بعد الْقَبْض تمنع فسخ العقد على الأَصْل إِذا لم يُوجد الرضى مِمَّن لَهُ الْحق فِي الزِّيَادَة عِنْدهمَا وَعند مُحَمَّد لَا تمنع كَمَا فِي مَسْأَلَة الْمهْر إِذا ازْدَادَ زِيَادَة مُتَّصِلَة بعد الْقَبْض ثمَّ طَلقهَا الزَّوْج قبل الدُّخُول بهَا على مَا نذْكر فِي كتاب النِّكَاح
وَمِنْهَا تعذر الْفَسْخ بِأَسْبَاب مَانِعَة من الْفَسْخ على مَا عرف
وَمِنْهَا الرضى بِالْعَيْبِ صَرِيحًا أَو دلَالَة على مَا ذكرنَا فِي خِيَار الشَّرْط أَو وُصُول عوض الْفَائِت إِلَيْهِ حَقِيقَة أَو اعْتِبَارا وَكَانَ للْمُشْتَرِي حق الرُّجُوع بِنُقْصَان الْعَيْب فِي الْمَوَاضِع الَّتِي امْتنع الرَّد إِلَّا إِذا وجد الرِّضَا صَرِيحًا أَو دلَالَة أَو وصل إِلَيْهِ الْعِوَض حَقِيقَة أَو اعْتِبَارا لِأَن ضَمَان النُّقْصَان بدل الْجُزْء الْفَائِت فَإِذا رَضِي بِالْعَيْبِ فقد رَضِي بِالْمَبِيعِ الْقَائِم بِجَمِيعِ الثّمن بِدُونِ الْجُزْء الْفَائِت فَلَا يجب شَيْء وَإِذا حصل الْعِوَض فَكَأَن الْجُزْء الْفَائِت صَار قَائِما معنى بِقِيَام خَلفه
هَذَا الَّذِي ذكرنَا إِذا كَانَ المُشْتَرِي عاقدا لنَفسِهِ فَأَما إِذا كَانَ عاقدا لغيره فَإِن كَانَ مِمَّن يجوز أَن يلْزمه الْخُصُومَة كَالْوَكِيلِ وَالشَّرِيك وَالْمُضَارب والمأذون وَالْمكَاتب فالخصومة تلْزمهُ وَيرد عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ بِالْحجَّةِ لِأَنَّهَا من حُقُوق العقد وَحُقُوق العقد ترجع إِلَى الْعَاقِد إِذا كَانَ مِمَّن يلْزمه الْخُصُومَة كالعاقد لنَفسِهِ فَمَا قضى بِهِ على الْعَاقِد رَجَعَ بِهِ على من وَقع لَهُ العقد لكَونه قَائِما مقَامه إِلَّا الْمكَاتب والمأذون فَإِنَّهُمَا لَا يرجعان على الْمولى وَلَكِن الدّين يلْزم الْمكَاتب وَيُبَاع فِيهِ الْمَأْذُون لِأَنَّهُمَا يتصرفان لأنفسهما فَلَا يرجعان على غَيرهمَا
فَأَما القَاضِي وَالْإِمَام إِذا عقدا بِحكم الْولَايَة أَو أمينهما بأمرهما لم يلْزمهُم الْخُصُومَة وَلم يصيروا خصما فِي الْبَاب إِلَّا أَنه ينصب خصما يُخَاصم فِي ذَلِك فَمَا قضى بِهِ عَلَيْهِ رَجَعَ فِي مَال من وَقع التَّصَرُّف لَهُ وَإِن كَانَ التَّصَرُّف للْمُسلمين رَجَعَ فِي بَيت مَالهم
فَأَما الْعَاقِد إِن كَانَ صَبيا مَحْجُورا أَو عبدا مَحْجُورا بِإِذن إِنْسَان فِي بيع أَو شِرَاء فَلَا خُصُومَة عَلَيْهِمَا وَلَا ضَمَان وَإِنَّمَا الْخُصُومَة على من وكلهما فِي ذَلِك التَّصَرُّف لِأَن حكم العقد وَقع للْمُوكل والعاقد لَيْسَ من أهل لُزُوم الْعهْدَة فَيقوم مقَامه فِي مُبَاشرَة التَّصَرُّف لَا غير بِمَنْزِلَة الرَّسُول وَالْوَكِيل فِي النِّكَاح
وَأما الْبَرَاءَة عَن الْعُيُوب فَنَقُول جملَة هَذَا أَنه إِذا بَاعَ شَيْئا على أَن البَائِع برىء عَن كل عيب فَعم وَلم يخص شَيْئا من الْعُيُوب فَإِن البيع جَائِز وَالشّرط جَائِز فِي قَول عُلَمَائِنَا حَتَّى لَو وجد المُشْتَرِي بِهِ عَيْبا فَأَرَادَ أَن يردهُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِك
وَقَالَ الشَّافِعِي الْبَرَاءَة عَن كل عيب لَا يَصح مَا لم يسم الْعَيْب فَيَقُول عَن عيب كَذَا
وَكَذَلِكَ على هَذَا الْخلاف والبراءة وَالصُّلْح عَن الدُّيُون المجهولة
وَإِذا لم يَصح الْبَرَاءَة عَن كل عيب عِنْده هَل يفْسد العقد بِهِ أم لَا فَلهُ فِيهِ قَولَانِ فِي قَول يبطل العقد أَيْضا
وَفِي قَول يَصح العقد وَيبْطل الشَّرْط
وَقَالَ ابْن أبي ليلى مَا لم يعين الْعَيْب وَيَضَع يَده على الْعَيْب وَيَقُول أَبْرَأتك عَن هَذَا الْعَيْب فَإِنَّهُ لَا يَصح الْإِبْرَاء
ثمَّ إِذا صَحَّ هَذَا الشَّرْط عندنَا يبرأ عَن كل عيب من الْعُيُوب الظَّاهِرَة والباطنة لِأَن اسْم الْعَيْب يَقع على الْكل
فَأَما إِذا قَالَ أَبْرَأتك عَن كل دَاء رُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه يَقع على كل عيب ظَاهر دون الْبَاطِن
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة على عَكسه أَنه يَقع على كل عيب بَاطِن وَالْعَيْب الظَّاهِر يُسمى مَرضا
وَلَو أَبْرَأ البَائِع عَن كل غائلة رُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه يَقع على السّرقَة والإباق والفجور وَمَا كَانَ من فعل الْإِنْسَان مِمَّا يعد عَيْبا عِنْد التُّجَّار
ثمَّ اتّفق عُلَمَاؤُنَا على أَنه يدْخل تَحت الْبَرَاءَة الْمُطلقَة الْعَيْب الْمَوْجُود وَقت البيع
وَاخْتلفُوا فِي الْعَيْب الْحَادِث بعد البيع قبل الْقَبْض قَالَ أَبُو يُوسُف يدْخل تَحت الْبَرَاءَة حَتَّى لَا يملك المُشْتَرِي الرَّد بِالْعَيْبِ الْحَادِث
وَقَالَ مُحَمَّد لَا يدْخل حَتَّى يملك الرَّد بذلك الْعَيْب
وَهَذَا فرع مَسْأَلَة أُخْرَى وَهِي أَنه إِذا بَاعَ بِشَرْط الْبَرَاءَة عَن كل عيب يحدث بعد البيع قبل الْقَبْض هَل يَصح هَذَا الشَّرْط أم لَا عِنْد أبي يُوسُف يَصح
وَعند مُحَمَّد لَا يَصح
فَلَمَّا صحت الْبَرَاءَة عَن الْعَيْب الْحَادِث حَالَة التَّنْصِيص فَكَذَا فِي حَالَة الْإِطْلَاق عَن كل عيب فَيدْخل تَحْتَهُ الْحَادِث بعد البيع قبل الْقَبْض فَلَمَّا كَانَت الْبَرَاءَة عَن الْعَيْب الْحَادِث بعد البيع قبل الْقَبْض لَا تصح عِنْد مُحَمَّد حَالَة التَّنْصِيص فحالة الْإِطْلَاق أولى
ثمَّ مَا ذكرنَا من الْجَواب فِيمَا إِذا قَالَ أَبْرَأتك عَن كل عيب مُطلقًا
فَأَما إِذا قَالَ أبيعك على أَنِّي بَرِيء من كل عيب بِهِ لم يدْخل فِي ذَلِك الْعَيْب الْحَادِث فِي قَوْلهم جَمِيعًا لِأَنَّهُ لم يعم الْبَرَاءَة وَإِنَّمَا خصها بالموجود الْقَائِم عِنْد العقد دون غَيره
وَلَو قَالَ على أَنِّي بَرِيء من كل عيب كَذَا وسمى ضربا من الْعُيُوب أَو ضَرْبَيْنِ لم يبرأ من غير ذَلِك النَّوْع مثل أَن يبرأ من القروح أَو الكي وَنَحْو ذَلِك لِأَنَّهُ أسقط الْحق من نوع خَاص
وَلَو كَانَت الْبَرَاءَة عَامَّة فاختلفا فِي عيب فَقَالَ البَائِع كَانَ بِهِ يَوْم العقد وَقَالَ المُشْتَرِي بل حدث قبل الْقَبْض فَالْقَوْل قَول البَائِع عِنْد أبي يُوسُف وَعند مُحَمَّد لِأَن الْبَرَاءَة عَامَّة فَإِذا ادّعى المُشْتَرِي حُدُوث عيب فيريد إبِْطَال الْعُمُوم فَلَا يبطل قَوْله إِلَّا بِبَيِّنَة
وَقَالَ زفر وَالْحسن القَوْل قَول المُشْتَرِي لِأَن الأَصْل هُوَ ثُبُوت الْحق وَالْمُشْتَرِي هُوَ المبرىء فَيكون القَوْل قَوْله فِي مِقْدَار الْبَرَاءَة
وَلَو كَانَت الْبَرَاءَة من عيب خَاص سَمَّاهُ المُشْتَرِي ثمَّ اخْتلفَا فَقَالَ البَائِع كَانَ بهَا وَقَالَ المُشْتَرِي حدث قبل الْقَبْض فَالْقَوْل قَول المُشْتَرِي عِنْد مُحَمَّد وَلم يثبت عَن أبي يُوسُف قَول لِأَن هَذِه الْبَرَاءَة خَاصَّة فَالْقَوْل فِيهَا قَول المُشْتَرِي كَمَا فِي الْبَرَاءَة عَن دين خَاص
الْكَلَام فِيهِ فِي مَوَاضِع فِي بَيَان شَرْعِيَّة خِيَار الْعَيْب وَفِي بَيَان الْعُيُوب الَّتِي توجب الْخِيَار جملَة وتفصيلا وَفِي بَيَان كَيْفيَّة الرَّد وَفِي بَيَان مَا يمْنَع الرَّد وَيسْقط الْخِيَار وَفِي بَيَان مَا يمْنَع الرُّجُوع بِنُقْصَان الْعَيْب وَمَا لَا يمْنَع وَفِي بَيَان الْإِبْرَاء عَن الْعُيُوب
أما الأول فَلِأَن سَلامَة الْبَدَلَيْنِ فِي عقد الْمُبَادلَة مَطْلُوبَة عَادَة فَتكون بِمَنْزِلَة الْمَشْرُوط صَرِيحًا وَلَو اشْترى جَارِيَة على أَنَّهَا بكر أَو خبازة وَلم تُوجد ثَبت الْخِيَار لفَوَات غَرَضه كَذَا هَذَا
وَأما بَيَان الْعُيُوب الْمُوجبَة للخيار فِي الْجُمْلَة فَنَقُول كل مَا أوجب نُقْصَان الْقيمَة وَالثمن فِي عَادَة التُّجَّار فَهُوَ عيب يُوجب الْخِيَار
وَمَا لَا يُوجب نُقْصَان الْقيمَة وَالثمن فَلَيْسَ بِعَيْب
وَأما تَفْصِيل الْعُيُوب فَهِيَ على نَوْعَيْنِ
أَحدهمَا مَا يُوجب فَوَات جُزْء من الْمَبِيع أَو تَغْيِيره من حَيْثُ الظَّاهِر دون الْبَاطِن
وَالثَّانِي مَا يُوجب النُّقْصَان من حَيْثُ الْمَعْنى دون الصُّورَة
أما الأول فكثير نَحْو الْعَمى والعور والشلل والزمانة والإصبع النَّاقِصَة وَالسّن السَّوْدَاء وَالسّن الساقطة وَالسّن الشاغية وَالظفر الْأسود والصمم والخرس والبكم والقروح والشجاج وَأثر الْجراح والأمراض كلهَا الَّتِي تكون فِي سَائِر الْبدن والحميات وَهَذَا كُله ظَاهر
وَأما الثَّانِي فنحو السعال الْقَدِيم وارتفاع الْحيض فِي زمَان طَوِيل أدناه شَهْرَان فَصَاعِدا فِي الْجَوَارِي
وَمِنْهَا صهوبة الشّعْر والشمط والشيب فِي العبيد والجواري والبخر عيب فِي الْجَوَارِي دون العبيد إِلَّا أَن يكون فَاحِشا أَو يكون عَن دَاء وَكَذَلِكَ الزفر
وَمِنْهَا الزِّنَا عيب فِي الْجَوَارِي دون الغلمان إِلَّا إِذا كثر ذَلِك مِنْهُم وَصَارَ عَادَة لَهُم فَيكون عَيْبا
وَكَذَا كَونه ولد الزِّنَا يكون عَيْبا فِي الْجَوَارِي دون العبيد
وَالْحَبل عيب فِي الْجَارِيَة لَا فِي الْبَهَائِم
وَالنِّكَاح فِي الْغُلَام وَالْجَارِيَة عيب
وَالْكفْر عيب فِي الْجَارِيَة والغلام
وَمن هَذِه الْجُمْلَة الْإِبَاق وَالسَّرِقَة وَالْبَوْل فِي الْفراش وَالْجُنُون
وَحَاصِل الْجَواب فِيهَا أَنَّهَا فِي الصَّغِير الَّذِي لَا يعقل وَلَا يَأْكُل وَحده لَا تكون عَيْبا لِأَنَّهُ لَا يعرف الِامْتِنَاع من هَذِه الْأَشْيَاء فَلَا يثبت بِهِ وجود الْعَيْب بِالِاحْتِمَالِ فَأَما إِذا كَانَ صَبيا عَاقِلا فَإِنَّهُ يكون عَيْبا وَلَكِن عِنْد اتِّحَاد الْحَالة يثبت حق الرَّد لَا عِنْد الِاخْتِلَاف بِأَن ثَبت أَنه أبق عِنْد البَائِع ثمَّ يأبق عِنْد المُشْتَرِي كِلَاهُمَا فِي حَالَة الصغر أَو كِلَاهُمَا فِي حَالَة الْكبر لِأَن سَبَب وجود هَذِه الْأَشْيَاء فِي حَالَة الصغر عيب وَهُوَ قلَّة المبالاة وقصور الْعقل وَضعف المثانة وَفِي حَال الْكبر يكون السَّبَب سوء اخْتِيَاره وداء فِي الْبَاطِن فَإِذا اتّفق الحالان علم أَن السَّبَب وَاحِد فَيكون هَذَا الْعَيْب ثَابتا عِنْد البَائِع فَأَما إِذا اخْتلف فَلَا يعرف لِأَنَّهُ يجوز أَن يَزُول الَّذِي كَانَ عِنْد البَائِع ثمَّ يحدث النَّوْع الآخر عِنْد المُشْتَرِي فَلَا يكون لَهُ حق الرَّد كَالْعَبْدِ إِذا حم عِنْد البَائِع ثمَّ حم عِنْد المُشْتَرِي فَإِن كَانَ هَذَا الثَّانِي غير ذَلِك النَّوْع لَا يثبت حق الرَّد وَإِن كَانَ من نَوعه ثَبت حق الرَّد كَذَا هَذَا
فَأَما الْجُنُون إِذا ثَبت وجوده عِنْد البَائِع فَهَل يشْتَرط وجوده ثَانِيًا عِنْد المُشْتَرِي لَيْسَ فِيهِ رِوَايَة نصا وَاخْتلف الْمَشَايِخ فبعضهم قَالُوا لَا يشْتَرط لِأَن مُحَمَّدًا قَالَ الْجُنُون عيب لَازم أبدا فَلَا يشْتَرط وجوده ثَانِيًا عِنْد المُشْتَرِي بِخِلَاف السّرقَة والإباق
وَالْبَوْل فِي الْفراش فَإِنَّهُ مَا لم يُوجد عِنْد المُشْتَرِي لَا يثبت حق الرَّد
وَقَالَ بَعضهم لَا يكون لَهُ حق الرَّد مَا لم يُوجد ثَانِيًا عِنْد المُشْتَرِي كَمَا فِي الْإِبَاق ونظائره إِلَّا أَن الْفرق أَن فِي الْجُنُون لَا يشْتَرط اتِّحَاد الْحَالة فَإِن جن عِنْد البَائِع وَهُوَ صَغِير ثمَّ جن عِنْد المُشْتَرِي بعد الْبلُوغ فَإِنَّهُ يثبت حق الرَّد وَفِي الْإِبَاق وَنَظِيره لَا يثبت حق الرَّد إِلَّا عِنْد اتِّحَاد الْحَالة على مَا ذكرنَا
وَأما كَيْفيَّة الرَّد فَنَقُول إِن المُشْتَرِي إِذا ادّعى عَيْبا بِالْمَبِيعِ فَلَا يَخْلُو من ثَلَاثَة أوجه إِمَّا أَن يكون عَيْبا ظَاهرا مشاهدا كالإصبع الزَّائِدَة وَالسّن الشاغية الزَّائِدَة والعمى وَنَحْوهَا
أَو كَانَ عَيْبا بَاطِنا فِي نفس الْحَيَوَان لَا يعرفهُ إِلَّا الْأَطِبَّاء
أَو يكون فِي مَوضِع لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال ويطلع عَلَيْهِ النِّسَاء
أَو يكون عَيْبا لَا يعرف بِالْمُشَاهَدَةِ وَلَا بالتجربة والامتحان عِنْد الْخُصُومَة وَذَلِكَ كالإباق وَالسَّرِقَة وَالْبَوْل على الْفراش وَالْجُنُون
أما إِذا كَانَ عَيْبا مشاهدا فَإِن القَاضِي لَا يُكَلف المُشْتَرِي بِإِقَامَة الْبَيِّنَة على إِثْبَات الْعَيْب عِنْده لكَون الْعَيْب ثَابتا عِنْده بالعيان والمشاهدة وَيكون للْمُشْتَرِي حق الْخُصُومَة مَعَ البَائِع بِسَبَب هَذَا الْعَيْب فَبعد هَذَا القَاضِي ينظر فِي الْعَيْب الَّذِي يَدعِي فَإِن كَانَ عَيْبا لَا يحدث مثله فِي يَدي المُشْتَرِي كالإصبع الزَّائِدَة وَنَحْوهَا فَإِنَّهُ يرد على البَائِع وَلَا يُكَلف المُشْتَرِي بِإِقَامَة الْبَيِّنَة على ثُبُوت الْعَيْب عِنْد البَائِع لِأَنَّهُ تَيَقّن ثُبُوته عِنْده إِلَّا أَن يَدعِي البَائِع الرِّضَا وَالْإِبْرَاء فيطلب مِنْهُ الْبَيِّنَة فَإِن أَقَامَ الْبَيِّنَة عَلَيْهِ وَإِلَّا فَحِينَئِذٍ يسْتَحْلف المُشْتَرِي على دَعْوَاهُ
فَإِن نكل لم يرد عَلَيْهِ وَإِن حلف رد على البَائِع فَإِن كَانَ عَيْبا يجوز أَن يحدث مثله فِي يَد المُشْتَرِي فَإِن القَاضِي يَقُول للْبَائِع هَل حدث هَذَا عنْدك فَإِن قَالَ نعم قضى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ إِلَّا أَن يَدعِي الرِّضَا وَالْإِبْرَاء وَإِن أنكر الْحُدُوث عِنْده فَإِنَّهُ يَقُول للْمُشْتَرِي أَلَك بَيِّنَة فَإِن أَقَامَهَا قضى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ إِلَّا أَن يَدعِي الرِّضَا وَالْإِبْرَاء وَإِن لم يكن لَهُ بَيِّنَة ذكر فِي الأَصْل وَقَالَ يسْتَحْلف البَائِع على الْبَتَات بِاللَّه لقد بِعته وسلمته وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْب لِأَن هَذَا أَمر لَو أقرّ بِهِ لزمَه فَإِذا أنكر يحلف لصدق قَوْله وَإِنَّمَا يحلف على هَذَا الْوَجْه لِأَن الْعَيْب قد يحدث بعد البيع قبل الْقَبْض فَيثبت لَهُ حق الرَّد فَلَا بُد من ذكر البيع وَالتَّسْلِيم
ثمَّ من الْمَشَايِخ من قَالَ لَا يجب أَن يسْتَحْلف هَكَذَا لِأَنَّهُ يبطل حق المُشْتَرِي فِي الرَّد فِي بعض الْأَحْوَال لِأَنَّهُ يكون للْمُشْتَرِي حق الرَّد بِعَيْب حَادث بعد البيع قبل الْقَبْض فَمَتَى حلف على هَذَا الْوَجْه لم يَحْنَث إِذا حدث الْعَيْب قبل الْقَبْض لِأَن شَرط الْحِنْث وجود الْعَيْب عِنْد البيع وَالْقَبْض جَمِيعًا وَلَكِن الِاحْتِيَاط للْمُشْتَرِي أَن يحلف البَائِع بِاللَّه وَمَا للْمُشْتَرِي رد السّلْعَة بِهَذَا الْعَيْب الَّذِي يَدعِي وَقيل يحلف بِاللَّه لقد سلمته وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْب الَّذِي يَدعِي
وَمِنْهُم من قَالَ بِأَن مَا ذكر مُحَمَّد صَحِيح مَعَ إِضْمَار زِيَادَة فِي كَلَامه فَيحلف البَائِع بِاللَّه لقد بِعته وسلمته وَمَا بِهِ هَذَا الْعَيْب لَا عِنْد البيع وَلَا عِنْد التَّسْلِيم إِلَّا أَن مُحَمَّدًا اختصر كَلَامه والاختصار ثَابت فِي اللُّغَة فَيحمل كَلَامه عَلَيْهِ
وَأما إِذا كَانَ الْعَيْب بَاطِنا لَا يعرفهُ إِلَّا الْخَواص من النَّاس كالأطباء والنخاسين فَإِنَّهُ يعرف ذَلِك مِمَّن لَهُ بصارة فِي ذَلِك الْبَاب فَإِن اجْتمع
على ذَلِك الْعَيْب رجلَانِ مسلمان أَو قَالَ ذَلِك رجل مُسلم عدل فَإِنَّهُ يقبل قَوْله وَيثبت الْعَيْب فِي حق إِثْبَات الْخُصُومَة ثمَّ بعد هَذَا يَقُول القَاضِي للْبَائِع هَل حدث عنْدك الْعَيْب الَّذِي يَدعِي فَإِن قَالَ نعم قضى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ وَإِن أنكر يُقيم المُشْتَرِي الْبَيِّنَة فَإِن لم يكن لَهُ بَيِّنَة اسْتحْلف البَائِع على الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا فَإِن حلف لم يرد عَلَيْهِ وَإِن نكل قضى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ إِلَّا أَن يَدعِي الرِّضَا أَو الْإِبْرَاء
وَإِن كَانَ الْعَيْب مِمَّا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال ويطلع عَلَيْهِ النِّسَاء فَإِنَّهُ يرجع إِلَى قَول النِّسَاء فترى امْرَأَة مسلمة عدلة والثنتان أحوط
فَإِذا شهِدت على الْعَيْب فَفِي هَذِه الْمَسْأَلَة عَن أبي يُوسُف رِوَايَتَانِ وَكَذَا عَن مُحَمَّد رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة فرق أَبُو يُوسُف بَين مَا إِذا كَانَ الْمَبِيع فِي يَد البَائِع أَو فِي يَد المُشْتَرِي فَقَالَ إِن كَانَ فِي يَد البَائِع رد الْمَبِيع بشهادتها لِأَن مَا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال فَقَوْل الْمَرْأَة الْوَاحِدَة بِمَنْزِلَة الْبَيِّنَة فَيثبت الْعَيْب بقولِهَا وَالْعَيْب الْمَوْجُود عِنْد البَائِع يفْسخ بِهِ البيع
وَإِن كَانَ بعد الْقَبْض أقبل قَوْلهَا فِي حق إِثْبَات الْخُصُومَة وَلَا أقبل فِي حق الرَّد على البَائِع لِأَن الْمَبِيع وجد معيبا فِي ضَمَان المُشْتَرِي فَلَا أنقل الضَّمَان إِلَى البَائِع بقول النِّسَاء وَلَكِن أثبت حق الْخُصُومَة ليثبت الِاسْتِحْقَاق
وَفِي رِوَايَة قَالَ إِن كَانَ الْعَيْب مِمَّا لَا يحدث مثله يفْسخ بقولهن لِأَن الْعَيْب قد ثَبت بشهادتهن وَقد علمنَا كَون الْعَيْب عِنْد البَائِع بِيَقِين فَيثبت حق الْفَسْخ وَإِن كَانَ عَيْبا يحدث مثله لم يثبت حق الْفَسْخ بقولهن لِأَن هَذَا مِمَّا يعلم من جِهَة غَيْرهنَّ
وَأما عَن مُحَمَّد فَفِي رِوَايَة قَالَ لَا يفْسخ بقولهن بِحَال وَفِي رِوَايَة يفْسخ قبل الْقَبْض وَبعده بقولهن لِأَن قَوْلهَا فِيمَا لَا يطلع عَلَيْهِ
على ذَلِك الْعَيْب رجلَانِ مسلمان أَو قَالَ ذَلِك رجل مُسلم عدل فَإِنَّهُ يقبل قَوْله وَيثبت الْعَيْب فِي حق إِثْبَات الْخُصُومَة ثمَّ بعد هَذَا يَقُول القَاضِي للْبَائِع هَل حدث عنْدك الْعَيْب الَّذِي يَدعِي فَإِن قَالَ نعم قضى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ وَإِن أنكر يُقيم المُشْتَرِي الْبَيِّنَة فَإِن لم يكن لَهُ بَيِّنَة اسْتحْلف البَائِع على الْوَجْه الَّذِي ذكرنَا فَإِن حلف لم يرد عَلَيْهِ وَإِن نكل قضى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ إِلَّا أَن يَدعِي الرِّضَا أَو الْإِبْرَاء
وَإِن كَانَ الْعَيْب مِمَّا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال ويطلع عَلَيْهِ النِّسَاء فَإِنَّهُ يرجع إِلَى قَول النِّسَاء فترى امْرَأَة مسلمة عدلة والثنتان أحوط
فَإِذا شهِدت على الْعَيْب فَفِي هَذِه الْمَسْأَلَة عَن أبي يُوسُف رِوَايَتَانِ وَكَذَا عَن مُحَمَّد رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة فرق أَبُو يُوسُف بَين مَا إِذا كَانَ الْمَبِيع فِي يَد البَائِع أَو فِي يَد المُشْتَرِي فَقَالَ إِن كَانَ فِي يَد البَائِع رد الْمَبِيع بشهادتها لِأَن مَا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال فَقَوْل الْمَرْأَة الْوَاحِدَة بِمَنْزِلَة الْبَيِّنَة فَيثبت الْعَيْب بقولِهَا وَالْعَيْب الْمَوْجُود عِنْد البَائِع يفْسخ بِهِ البيع
وَإِن كَانَ بعد الْقَبْض أقبل قَوْلهَا فِي حق إِثْبَات الْخُصُومَة وَلَا أقبل فِي حق الرَّد على البَائِع لِأَن الْمَبِيع وجد معيبا فِي ضَمَان المُشْتَرِي فَلَا أنقل الضَّمَان إِلَى البَائِع بقول النِّسَاء وَلَكِن أثبت حق الْخُصُومَة ليثبت الِاسْتِحْقَاق
وَفِي رِوَايَة قَالَ إِن كَانَ الْعَيْب مِمَّا لَا يحدث مثله يفْسخ بقولهن لِأَن الْعَيْب قد ثَبت بشهادتهن وَقد علمنَا كَون الْعَيْب عِنْد البَائِع بِيَقِين فَيثبت حق الْفَسْخ وَإِن كَانَ عَيْبا يحدث مثله لم يثبت حق الْفَسْخ بقولهن لِأَن هَذَا مِمَّا يعلم من جِهَة غَيْرهنَّ
وَأما عَن مُحَمَّد فَفِي رِوَايَة قَالَ لَا يفْسخ بقولهن بِحَال وَفِي رِوَايَة يفْسخ قبل الْقَبْض وَبعده بقولهن لِأَن قَوْلهَا فِيمَا لَا يطلع عَلَيْهِ
الرِّجَال كالبينة كَمَا فِي النّسَب
وَأما الْعَيْب الَّذِي لَيْسَ بمشاهد عِنْد الْخُصُومَة وَلَا يعرف بقول النَّاس كالإباق وَالْجُنُون وَالسَّرِقَة وَالْبَوْل على الْفراش فقد ذكرنَا أَنه لَا بُد من ثُبُوت الْعَيْب عِنْد المُشْتَرِي وَعند البَائِع عِنْد اتِّحَاد الْحَالة إِلَّا فِي الْجُنُون إِن اتِّحَاد الْحَال لَيْسَ بِشَرْط فِي الْجُنُون
فَإِن أَقَامَ المُشْتَرِي الْبَيِّنَة على حُدُوث الْعَيْب عِنْده فَإِنَّهُ يَقُول القَاضِي للْبَائِع هَل أبق عنْدك فَإِن قَالَ نعم قضى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ إِلَّا أَن يَدعِي الرِّضَا أَو الْإِبْرَاء وَإِن أنكر الْإِبَاق أصلا وَادّعى اخْتِلَاف الْحَالة يَقُول القَاضِي للْمُشْتَرِي أَلَك بَيِّنَة فَإِن قَالَ نعم وَأقَام الْبَيِّنَة على مَا يدعى قضى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ وَإِن قَالَ لَا يسْتَحْلف البَائِع بِاللَّه مَا أبق عنْدك قطّ مُنْذُ بلغ وَلَا جن عنْدك قطّ فَإِن حلف انْقَطَعت الْخُصُومَة بَينهمَا وَإِن نكل عَن الْيَمين قضى عَلَيْهِ بِالرَّدِّ
وَإِن لم يجد المُشْتَرِي بَيِّنَة على إِثْبَات أصل الْعَيْب عِنْد نَفسه هَل يسْتَحْلف القَاضِي البَائِع على ذَلِك أم لَا لم يذكر فِي بُيُوع الأَصْل وَذكر فِي الْجَامِع وَقَالَ يستحلفه على قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد وَلم يذكر قَول أبي حنيفَة فَمن الْمَشَايِخ من قَالَ يسْتَحْلف بِلَا خلاف وَمِنْهُم من قَالَ هَذِه الْمَسْأَلَة على الِاخْتِلَاف فَقَوْل أبي حنيفَة لَا يسْتَحْلف نَص عَلَيْهِ فِي كتاب التَّزْكِيَة على مَا يعرف فِي الْجَامِع وَالله أعلم
ثمَّ كَيفَ يسْتَحْلف قَالُوا يسْتَحْلف على الْعلم لِأَنَّهَا يَمِين على غير فعله بِاللَّه مَا يعلم أَن هَذَا الْعَيْب مَوْجُود فِي هَذَا العَبْد الْآن فَإِن نكل عَن الْيَمين ثَبت الْعَيْب عِنْد المُشْتَرِي فَيثبت لَهُ حق الْخُصُومَة وَإِن حلف بَرِيء
وَأما مَا يبطل حق الرَّد وَيمْنَع وجوب الْأَرْش وَمَا لَا يمْنَع فَنَقُول أصل الْبَاب أَن الرَّد بِالْعَيْبِ يمْتَنع بِأَسْبَاب مِنْهَا حُدُوث الْعَيْب عِنْد المُشْتَرِي عندنَا خلافًا لمَالِك وَالشَّافِعِيّ فِي أحد قوليه
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن الْمَبِيع خرج عَن ملكه معيبا بِعَيْب وَاحِد فَلَو رد يرد بعيبين وَشرط الرَّد أَن يرد على الْوَجْه الَّذِي أَخذ وَلم يُوجد
وَمِنْهَا الزَّوَائِد الْمُنْفَصِلَة المتولدة من الْعين بعد الْقَبْض كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَة أَو المستفادة بِسَبَب الْعين كالأرض والعقر تمنع الرَّد بِالْعَيْبِ وَسَائِر أَسبَاب الْفَسْخ كالإقالة وَالرَّدّ بِخِيَار الرُّؤْيَة وَالشّرط فِي قَول عُلَمَائِنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا تمنع
وَأَجْمعُوا أَن الْكسْب أَو الْغلَّة الَّتِي تحدث بعد الْقَبْض لَا تمنع فسخ العقد
وَأَجْمعُوا أَن الزَّوَائِد الْمُنْفَصِلَة قبل الْقَبْض لَا تمنع الْفَسْخ بل يفْسخ على الأَصْل والزوائد جَمِيعًا
فَأَما فِي الزَّوَائِد الْمُتَّصِلَة كالسمن وَالْجمال وَنَحْوهَا وَقد حدثت بعد الْقَبْض فَإِنَّهُ لَا يمْنَع الرَّد بِالْعَيْبِ إِذا رَضِي المُشْتَرِي لكَونهَا تَابِعَة للْأَصْل حَقِيقَة وَقت الْفَسْخ فَإِذا انْفَسَخ العقد على الأَصْل يفْسخ فِيهَا تبعا
فَأَما إِذا أَبى المُشْتَرِي أَن يرد وَأَرَادَ الرُّجُوع بِنُقْصَان الْعَيْب وَقَالَ البَائِع لَا أُعْطِيك نُقْصَان الْعَيْب وَلَكِن رد عَليّ الْمَبِيع حَتَّى أرد عَلَيْك الثّمن هَل للْبَائِع ذَلِك
على قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف لَيْسَ لَهُ ذَلِك
وعَلى قَول مُحَمَّد لَهُ ذَلِك
وَهَذَا لِأَن الزِّيَادَة الْمُتَّصِلَة بعد الْقَبْض تمنع فسخ العقد على الأَصْل إِذا لم يُوجد الرضى مِمَّن لَهُ الْحق فِي الزِّيَادَة عِنْدهمَا وَعند مُحَمَّد لَا تمنع كَمَا فِي مَسْأَلَة الْمهْر إِذا ازْدَادَ زِيَادَة مُتَّصِلَة بعد الْقَبْض ثمَّ طَلقهَا الزَّوْج قبل الدُّخُول بهَا على مَا نذْكر فِي كتاب النِّكَاح
وَمِنْهَا تعذر الْفَسْخ بِأَسْبَاب مَانِعَة من الْفَسْخ على مَا عرف
وَمِنْهَا الرضى بِالْعَيْبِ صَرِيحًا أَو دلَالَة على مَا ذكرنَا فِي خِيَار الشَّرْط أَو وُصُول عوض الْفَائِت إِلَيْهِ حَقِيقَة أَو اعْتِبَارا وَكَانَ للْمُشْتَرِي حق الرُّجُوع بِنُقْصَان الْعَيْب فِي الْمَوَاضِع الَّتِي امْتنع الرَّد إِلَّا إِذا وجد الرِّضَا صَرِيحًا أَو دلَالَة أَو وصل إِلَيْهِ الْعِوَض حَقِيقَة أَو اعْتِبَارا لِأَن ضَمَان النُّقْصَان بدل الْجُزْء الْفَائِت فَإِذا رَضِي بِالْعَيْبِ فقد رَضِي بِالْمَبِيعِ الْقَائِم بِجَمِيعِ الثّمن بِدُونِ الْجُزْء الْفَائِت فَلَا يجب شَيْء وَإِذا حصل الْعِوَض فَكَأَن الْجُزْء الْفَائِت صَار قَائِما معنى بِقِيَام خَلفه
هَذَا الَّذِي ذكرنَا إِذا كَانَ المُشْتَرِي عاقدا لنَفسِهِ فَأَما إِذا كَانَ عاقدا لغيره فَإِن كَانَ مِمَّن يجوز أَن يلْزمه الْخُصُومَة كَالْوَكِيلِ وَالشَّرِيك وَالْمُضَارب والمأذون وَالْمكَاتب فالخصومة تلْزمهُ وَيرد عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ بِالْحجَّةِ لِأَنَّهَا من حُقُوق العقد وَحُقُوق العقد ترجع إِلَى الْعَاقِد إِذا كَانَ مِمَّن يلْزمه الْخُصُومَة كالعاقد لنَفسِهِ فَمَا قضى بِهِ على الْعَاقِد رَجَعَ بِهِ على من وَقع لَهُ العقد لكَونه قَائِما مقَامه إِلَّا الْمكَاتب والمأذون فَإِنَّهُمَا لَا يرجعان على الْمولى وَلَكِن الدّين يلْزم الْمكَاتب وَيُبَاع فِيهِ الْمَأْذُون لِأَنَّهُمَا يتصرفان لأنفسهما فَلَا يرجعان على غَيرهمَا
فَأَما القَاضِي وَالْإِمَام إِذا عقدا بِحكم الْولَايَة أَو أمينهما بأمرهما لم يلْزمهُم الْخُصُومَة وَلم يصيروا خصما فِي الْبَاب إِلَّا أَنه ينصب خصما يُخَاصم فِي ذَلِك فَمَا قضى بِهِ عَلَيْهِ رَجَعَ فِي مَال من وَقع التَّصَرُّف لَهُ وَإِن كَانَ التَّصَرُّف للْمُسلمين رَجَعَ فِي بَيت مَالهم
فَأَما الْعَاقِد إِن كَانَ صَبيا مَحْجُورا أَو عبدا مَحْجُورا بِإِذن إِنْسَان فِي بيع أَو شِرَاء فَلَا خُصُومَة عَلَيْهِمَا وَلَا ضَمَان وَإِنَّمَا الْخُصُومَة على من وكلهما فِي ذَلِك التَّصَرُّف لِأَن حكم العقد وَقع للْمُوكل والعاقد لَيْسَ من أهل لُزُوم الْعهْدَة فَيقوم مقَامه فِي مُبَاشرَة التَّصَرُّف لَا غير بِمَنْزِلَة الرَّسُول وَالْوَكِيل فِي النِّكَاح
وَأما الْبَرَاءَة عَن الْعُيُوب فَنَقُول جملَة هَذَا أَنه إِذا بَاعَ شَيْئا على أَن البَائِع برىء عَن كل عيب فَعم وَلم يخص شَيْئا من الْعُيُوب فَإِن البيع جَائِز وَالشّرط جَائِز فِي قَول عُلَمَائِنَا حَتَّى لَو وجد المُشْتَرِي بِهِ عَيْبا فَأَرَادَ أَن يردهُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِك
وَقَالَ الشَّافِعِي الْبَرَاءَة عَن كل عيب لَا يَصح مَا لم يسم الْعَيْب فَيَقُول عَن عيب كَذَا
وَكَذَلِكَ على هَذَا الْخلاف والبراءة وَالصُّلْح عَن الدُّيُون المجهولة
وَإِذا لم يَصح الْبَرَاءَة عَن كل عيب عِنْده هَل يفْسد العقد بِهِ أم لَا فَلهُ فِيهِ قَولَانِ فِي قَول يبطل العقد أَيْضا
وَفِي قَول يَصح العقد وَيبْطل الشَّرْط
وَقَالَ ابْن أبي ليلى مَا لم يعين الْعَيْب وَيَضَع يَده على الْعَيْب وَيَقُول أَبْرَأتك عَن هَذَا الْعَيْب فَإِنَّهُ لَا يَصح الْإِبْرَاء
ثمَّ إِذا صَحَّ هَذَا الشَّرْط عندنَا يبرأ عَن كل عيب من الْعُيُوب الظَّاهِرَة والباطنة لِأَن اسْم الْعَيْب يَقع على الْكل
فَأَما إِذا قَالَ أَبْرَأتك عَن كل دَاء رُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه يَقع على كل عيب ظَاهر دون الْبَاطِن
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة على عَكسه أَنه يَقع على كل عيب بَاطِن وَالْعَيْب الظَّاهِر يُسمى مَرضا
وَلَو أَبْرَأ البَائِع عَن كل غائلة رُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه يَقع على السّرقَة والإباق والفجور وَمَا كَانَ من فعل الْإِنْسَان مِمَّا يعد عَيْبا عِنْد التُّجَّار
ثمَّ اتّفق عُلَمَاؤُنَا على أَنه يدْخل تَحت الْبَرَاءَة الْمُطلقَة الْعَيْب الْمَوْجُود وَقت البيع
وَاخْتلفُوا فِي الْعَيْب الْحَادِث بعد البيع قبل الْقَبْض قَالَ أَبُو يُوسُف يدْخل تَحت الْبَرَاءَة حَتَّى لَا يملك المُشْتَرِي الرَّد بِالْعَيْبِ الْحَادِث
وَقَالَ مُحَمَّد لَا يدْخل حَتَّى يملك الرَّد بذلك الْعَيْب
وَهَذَا فرع مَسْأَلَة أُخْرَى وَهِي أَنه إِذا بَاعَ بِشَرْط الْبَرَاءَة عَن كل عيب يحدث بعد البيع قبل الْقَبْض هَل يَصح هَذَا الشَّرْط أم لَا عِنْد أبي يُوسُف يَصح
وَعند مُحَمَّد لَا يَصح
فَلَمَّا صحت الْبَرَاءَة عَن الْعَيْب الْحَادِث حَالَة التَّنْصِيص فَكَذَا فِي حَالَة الْإِطْلَاق عَن كل عيب فَيدْخل تَحْتَهُ الْحَادِث بعد البيع قبل الْقَبْض فَلَمَّا كَانَت الْبَرَاءَة عَن الْعَيْب الْحَادِث بعد البيع قبل الْقَبْض لَا تصح عِنْد مُحَمَّد حَالَة التَّنْصِيص فحالة الْإِطْلَاق أولى
ثمَّ مَا ذكرنَا من الْجَواب فِيمَا إِذا قَالَ أَبْرَأتك عَن كل عيب مُطلقًا
فَأَما إِذا قَالَ أبيعك على أَنِّي بَرِيء من كل عيب بِهِ لم يدْخل فِي ذَلِك الْعَيْب الْحَادِث فِي قَوْلهم جَمِيعًا لِأَنَّهُ لم يعم الْبَرَاءَة وَإِنَّمَا خصها بالموجود الْقَائِم عِنْد العقد دون غَيره
وَلَو قَالَ على أَنِّي بَرِيء من كل عيب كَذَا وسمى ضربا من الْعُيُوب أَو ضَرْبَيْنِ لم يبرأ من غير ذَلِك النَّوْع مثل أَن يبرأ من القروح أَو الكي وَنَحْو ذَلِك لِأَنَّهُ أسقط الْحق من نوع خَاص
وَلَو كَانَت الْبَرَاءَة عَامَّة فاختلفا فِي عيب فَقَالَ البَائِع كَانَ بِهِ يَوْم العقد وَقَالَ المُشْتَرِي بل حدث قبل الْقَبْض فَالْقَوْل قَول البَائِع عِنْد أبي يُوسُف وَعند مُحَمَّد لِأَن الْبَرَاءَة عَامَّة فَإِذا ادّعى المُشْتَرِي حُدُوث عيب فيريد إبِْطَال الْعُمُوم فَلَا يبطل قَوْله إِلَّا بِبَيِّنَة
وَقَالَ زفر وَالْحسن القَوْل قَول المُشْتَرِي لِأَن الأَصْل هُوَ ثُبُوت الْحق وَالْمُشْتَرِي هُوَ المبرىء فَيكون القَوْل قَوْله فِي مِقْدَار الْبَرَاءَة
وَلَو كَانَت الْبَرَاءَة من عيب خَاص سَمَّاهُ المُشْتَرِي ثمَّ اخْتلفَا فَقَالَ البَائِع كَانَ بهَا وَقَالَ المُشْتَرِي حدث قبل الْقَبْض فَالْقَوْل قَول المُشْتَرِي عِنْد مُحَمَّد وَلم يثبت عَن أبي يُوسُف قَول لِأَن هَذِه الْبَرَاءَة خَاصَّة فَالْقَوْل فِيهَا قَول المُشْتَرِي كَمَا فِي الْبَرَاءَة عَن دين خَاص
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
بَاب الْإِقَالَة والمرابحة
بَاب الْإِقَالَة والمرابحة
وَغير ذَلِك فِي الْبَاب فُصُول بَيَان الْمُرَابَحَة وَبَيَان الْإِقَالَة وَبَيَان حكم الِاسْتِبْرَاء وَبَيَان جَوَاز التَّفْرِيق بَين ذَوي الرَّحِم الْمحرم وتحريمه فِي البيع
أما الأول فَنَقُول البيع فِي حق الْبَدَل يَنْقَسِم خَمْسَة أَقسَام بيع المساومة وَهُوَ البيع بِأَيّ ثمن اتّفق وَهُوَ الْمُعْتَاد
وَالثَّانِي بيع الْمُرَابَحَة وَهُوَ تمْلِيك الْمَبِيع بِمثل الثّمن الأول وَزِيَادَة ربح
وَالثَّالِث بيع التَّوْلِيَة وَهُوَ تمْلِيك الْمَبِيع بِمثل الثّمن الأول من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان
وَالرَّابِع الْإِشْرَاك وَهُوَ بيع التَّوْلِيَة فِي بعض الْمَبِيع من النّصْف وَالثلث وَغير ذَلِك
وَالْخَامِس بيع الوضيعة وَهُوَ تمْلِيك الْمَبِيع بِمثل الثّمن الأول مَعَ نُقْصَان شَيْء مِنْهُ
ثمَّ الأَصْل فِي بيع الْمُرَابَحَة أَنه مَبْنِيّ على الْأَمَانَة فَإِنَّهُ بيع بِالثّمن الأول بقول البَائِع من غير بَيِّنَة وَلَا استحلاف فَيجب صيانته عَن حَقِيقَة الْخِيَانَة وَشبههَا فَإِذا ظَهرت الْخِيَانَة يجب رده كالشاهد يجب قبُول قَوْله فَإِذا ظَهرت الْخِيَانَة يرد قَوْله كَذَا هَذَا
إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول إِذا بَاعَ شَيْئا مُرَابحَة على الثّمن الأول فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون الثّمن من ذَوَات الْأَمْثَال كالدراهم وَالدَّنَانِير والمكيل وَالْمَوْزُون والمعدود المتقارب أَو يكون من الْأَعْدَاد المتفاوتة مثل العبيد والدور وَالثيَاب وَالرُّمَّان والبطاطيخ وَنَحْوهَا
أما إِذا كَانَ الثّمن الأول مثلِيا فَبَاعَهُ مُرَابحَة على الثّمن الأول وَزِيَادَة ربح فَيجوز سَوَاء كَانَ الرِّبْح من جنس الثّمن الأول أَو لم يكن بعد أَن يكون شَيْئا مُقَدرا مَعْلُوما نَحْو الدِّرْهَم والخمسة وثوب مشار إِلَيْهِ أَو دِينَار لِأَن الثّمن الأول مَعْلُوم وَالرِّبْح مَعْلُوم
فَأَما إِذا كَانَ الثّمن الأول لَا مثل لَهُ فَإِن أَرَادَ أَن يَبِيعهُ مُرَابحَة عَلَيْهِ فَهَذَا على وَجْهَيْن إِمَّا أَن يَبِيعهُ مُرَابحَة مِمَّن كَانَ الْعرض فِي يَده وَملكه أَو من غَيره
فَإِن بَاعه مِمَّن لَيْسَ فِي ملكه وَيَده لَا يجوز لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يَبِيعهُ مُرَابحَة بذلك الْعرض أَو بِقِيمَتِه وَلَا وَجه للْأولِ لِأَن الْعرض لَيْسَ فِي ملك من يَبِيعهُ مِنْهُ وَلَا وَجه أَن يَبِيعهُ مُرَابحَة بِقِيمَتِه لِأَن الْقيمَة تعرف بالحزر وَالظَّن فيتمكن فِيهِ شُبْهَة الْخِيَانَة
وَأما إِذا أَرَادَ أَن يَبِيعهُ مُرَابحَة مِمَّن كَانَ الْعرض فِي يَده وَملكه فَهَذَا على وَجْهَيْن إِن قَالَ أبيعك مُرَابحَة بِالثَّوْبِ الَّذِي فِي يدك وبربح عشرَة
دَرَاهِم جَازَ لِأَنَّهُ جعل الرِّبْح على الثَّوْب عشرَة دَرَاهِم وَهِي مَعْلُومَة
وَإِن قَالَ أبيعك بذلك الثَّوْب بِرِبْح ده يازده فَإِنَّهُ لَا يجوز لِأَن تَسْمِيَة ربح ده يازده أَو أحد عشر يَقْتَضِي أَن يكون الرِّبْح من جنس رَأس المَال لِأَنَّهُ لَا يكون أحد عشر إِلَّا وَأَن يكون الْحَادِي عشر من جنس الْعشْرَة فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَ بِالثّمن الأول وَهُوَ الثَّوْب وبجزء من جنس الأول وَالثَّوْب لَا مثل لَهُ من جنسه
ثمَّ فِي بيع الْمُرَابَحَة يعْتَبر رَأس المَال وَهُوَ الثّمن الأول أَي مَا ملك الْمَبِيع بِهِ وَوَجَب بِالْعقدِ دون مَا نَقده بَدَلا عَن الأول بَيَانه إِذا اشْترى ثوبا بِعشْرَة دَرَاهِم ثمَّ أعْطى عَنْهَا دِينَارا أَو ثوبا قِيمَته عشرَة دَرَاهِم أَو أقل أَو أَكثر فَإِن رَأس المَال هُوَ الْعشْرَة الْمُسَمَّاة فِي العقد دون الدِّينَار وَالثَّوْب لِأَن هَذَا يجب بِعقد آخر وَهُوَ الِاسْتِبْدَال
وَكَذَلِكَ من اشْترى ثوبا بِعشْرَة وَهِي خلاف نقد الْبَلَد ثمَّ قَالَ لآخر أبيعك هَذَا الثَّوْب بِرِبْح دِرْهَم لزمَه عشرَة مثل الَّتِي وَجَبت بِالْعقدِ
وَإِن كَانَ يُخَالف نقد الْبَلَد وَالرِّبْح يكون من نقد الْبَلَد لِأَنَّهُ أطلق الرِّبْح فَيَقَع على نقد الْبَلَد
وَلَو نسب الرِّبْح إِلَى رَأس المَال فَقَالَ أبيعك بِرِبْح الْعشْرَة أَو ده يَا زده أَو بِرِبْح أحد عشر فَالرِّبْح من جنس الثّمن الأول لِأَنَّهُ جعله جُزْءا مِنْهُ فَكَانَ على صفته
وَلَو اشْترى ثوبا بِعشْرَة دَرَاهِم جِيَاد ثمَّ إِنَّه دفع إِلَى البَائِع عشرَة دَرَاهِم بَعْضهَا جِيَاد وَبَعضهَا زيوف وَتجوز بذلك البَائِع ثمَّ أَرَادَ أَن
يَبِيعهُ مُرَابحَة جَازَ لَهُ أَن يَبِيعهُ مُرَابحَة على الْعشْرَة الْجِيَاد من غير بَيَان لِأَن الْمُسَمّى الْمَضْمُون بِالْعقدِ هُوَ الْجِيَاد لَكِن جعل الرَّديئَة بَدَلا عَن الأول بِعقد آخر
وَلَو اشْترى ثوبا بِعشْرَة نَسِيئَة فَبَاعَهُ مُرَابحَة على الْعشْرَة وَبَين أَنه اشْتَرَاهُ بهَا نَسِيئَة لَا يكره لِأَنَّهُ لم يُوجد الْخِيَانَة حَيْثُ أعلم المُشْتَرِي بذلك وَرَضي بِهِ فَأَما إِذا بَاعَ مُرَابحَة على الْعشْرَة من غير بَيَان النَّسِيئَة فَإِنَّهُ يكره وَالْبيع جَائِز وَللْمُشْتَرِي الْخِيَار إِذا علم لِأَنَّهُ وجد الْغرُور والخيانة لِأَن المُشْتَرِي إِنَّمَا اشْتَرَاهُ مُرَابحَة على الْعشْرَة على تَقْدِير أَن الثّمن فِي البيع الأول عشرَة بطرِيق النَّقْد وَيخْتَلف ثمن الْمَبِيع بَين النَّسِيئَة والنقد فَيثبت لَهُ الْخِيَار كَمَا لَو اشْترى برقمه ثمَّ علم فِي الْمجْلس يثبت لَهُ الْخِيَار كَذَا هَذَا بِخِلَاف مَا إِذا بَاعه مساومة بِأَكْثَرَ من قِيمَته ثمَّ علم المُشْتَرِي بِأَنَّهُ اشْترى بِأَقَلّ من ذَلِك لَا يكون لَهُ الْخِيَار لِأَن المُشْتَرِي لم يصر مغرورا من جِهَته
وَلَو قَالَ إِن قِيمَته كَذَا وَهُوَ أَكثر من قِيمَته وَالْمُشْتَرِي لَا يعرف قيمَة الْأَشْيَاء وَاشْتَرَاهُ بِنَاء على قَول البَائِع فَإِنَّهُ يكون لَهُ الْخِيَار لِأَنَّهُ يصير غارا أما إِذا كَانَ عَالما بِالْقيمَةِ وَاشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ من ذَلِك لغَرَض لَهُ فِي ذَلِك فَلَا بَأْس بِهِ وأصحابنا يفتون فِي المغبون أَنه لَا يرد وَلَكِن هَذَا فِي مغبون لم يغر أما فِي مغبون غر فَيكون لَهُ حق الرَّد اسْتِدْلَالا بِمَسْأَلَة الْمُرَابَحَة فِي النَّسِيئَة
وَلَو اشْترى بدين لَهُ على رجل فَلهُ أَن يَبِيعهُ مُرَابحَة من غير بَيَان لِأَنَّهُ اشْترى بِثمن فِي ذمَّته لِأَن الدّين لَا يتَعَيَّن ثمنا
وَإِن أَخذ ثوبا صَالحا من دين لَهُ على رجل لَيْسَ لَهُ أَن يَبِيعهُ مُرَابحَة على ذَلِك الدّين لِأَن مبْنى الصُّلْح على الْحَط
وَلَو اشْترى ثوبا بِعشْرَة ثمَّ رقمه بِأَكْثَرَ من الثّمن وَهُوَ قِيمَته فَإِن كَانَ قِيمَته أَكثر من ذَلِك ثمَّ بَاعه مُرَابحَة على الرقم جَازَ وَلَا يكون خِيَانَة لِأَنَّهُ بَاعَ الْمَبِيع من غير خِيَانَة حَيْثُ ذكر الرقم وَلَكِن هَذَا إِذا كَانَ عِنْد البَائِع أَن المُشْتَرِي يعلم أَن الرقم غير وَالثمن غير وَأما إِذا كَانَ عِنْده أَن المُشْتَرِي يعلم أَن الرقم وَالثمن سَوَاء فَإِنَّهُ يكون خِيَانَة وَله الْخِيَار
وَكَذَا لَو ملك شَيْئا بِالْمِيرَاثِ أَو الْهِبَة فقومه رجل عدل بِقِيمَة عدل ثمَّ بَاعه مُرَابحَة على قِيمَته وَهِي كَذَا لَا بَأْس بِهِ لِأَنَّهُ صَادِق فِي مقَالَته
وَلَو اشْترى شَيْئا بِعشْرَة دَرَاهِم فَقَالَ لرجل آخر اشْتريت هَذَا بِاثْنَيْ عشر وأبيعك مُرَابحَة بِرِبْح دِرْهَم ثمَّ ظهر أَن الثّمن الأول كَانَ عشرَة إِمَّا بِإِقْرَار البَائِع أَو بِالْبَيِّنَةِ قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رَحْمَة الله عَلَيْهِمَا لَا يحط قدر الْخِيَانَة من الثّمن وَلَكِن يتَخَيَّر المُشْتَرِي إِن شَاءَ فسخ البيع وَإِن شَاءَ رَضِي ربه بِجَمِيعِ الثّمن
وَقَالَ أَبُو يُوسُف بِأَنَّهُ يحط قدر الْخِيَانَة وحصته من الرِّبْح وَيكون العقد لَازِما بِالْبَاقِي من الثّمن فيحط عَنهُ دِرْهَمَانِ وحصتهما من الرِّبْح وَذَلِكَ سدس دِرْهَم
هَذَا فِي بيع الْمُرَابَحَة
فَأَما إِذا خَان فِي بيع التَّوْلِيَة فقد قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف يحط قدر الْخِيَانَة وَيلْزم البيع بِالثّمن الْبَاقِي بِلَا خِيَار
وَقَالَ مُحَمَّد بِأَنَّهُ لَا يحط قدر الْخِيَانَة لَكِن يتَخَيَّر المُشْتَرِي مَا دَامَ الْمَبِيع قَائِما فَإِذا هلك سقط خِيَاره
فَأَبُو يُوسُف سوى بَين التَّوْلِيَة والمرابحة وَقَالَ يحط قدر الْخِيَانَة فيهمَا وَيلْزم العقد بِالْبَاقِي فيهمَا
وَمُحَمّد سوى بَينهمَا وَقَالَ لَا يحط قدر الْخِيَانَة فيهمَا وَيثبت لَهُ الْخِيَار
وَأَبُو حنيفَة فرق فَقَالَ يحط قدر الْخِيَانَة فِي التَّوْلِيَة وَلَا يحط فِي الْمُرَابَحَة
ثمَّ الأَصْل أَن كل نَفَقَة ومؤونة حصلت فِي السّلْعَة وأوجبت زِيَادَة فِي الْمَعْقُود عَلَيْهِ إِمَّا من حَيْثُ الْعين أَو من حَيْثُ الْقيمَة وَكَانَ ذَلِك مُعْتَادا إِلْحَاقًا بِرَأْس المَال عِنْد التِّجَارَة فَإِنَّهُ يلْحق بِرَأْس المَال كَأُجْرَة القصارة والخياطة والكراء وَطَعَام الرَّقِيق وكسوتهم وعلف الدَّوَابّ وثيابهم وَنَحْو ذَلِك فبيعه مُرَابحَة عَلَيْهِ وَلَا يَقُول عِنْد البيع إِن ثمنه كَذَا وَلَكِن يَقُول يقوم عَليّ بِكَذَا فأبيعك على هَذَا مَعَ ربح كَذَا حَتَّى لَا يكون كَاذِبًا فِي كَلَامه
أما أُجْرَة تَعْلِيم الْقُرْآن وَالْأَدب وَالشعر والحرف فَإِنَّهَا لَا تلْحق بِرَأْس المَال وَإِن أوجبت زِيَادَة فِي الْقيمَة لِأَنَّهَا لَيست بمتعارفة عِنْد التُّجَّار
وَكَذَا أُجْرَة الطَّبِيب وَثمن الدَّوَاء وَأُجْرَة الفصاد والحجام وَأُجْرَة الْخِتَان والبزاغ وَأُجْرَة الرائض والراعي وَجعل الْآبِق لِأَن عَادَة التُّجَّار هَكَذَا
وَأما أُجْرَة السمسار فَفِي ظَاهر الرِّوَايَة يلْحق بِرَأْس المَال وَفِي البرامكة قَالَ لَا يلْحق
وَأما الْإِقَالَة فمشروعة لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من أقَال نَادِما بيعَته أقَال الله عثرته يَوْم الْقِيَامَة
ثمَّ اخْتلفُوا فِيهَا قَالَ أَبُو حنيفَة هِيَ فسخ فِي حق الْمُتَعَاقدين بيع جَدِيد فِي حق
الثَّالِث حَتَّى إِن من اشْترى دَارا وَلها شَفِيع فَسلم الشُّفْعَة ثمَّ أقالا البيع فِيهَا فَإِنَّهُ يثبت للشَّفِيع الشُّفْعَة ثَانِيًا لِأَنَّهَا عقد جَدِيد فِي حق الشَّفِيع
وَقَالَ مُحَمَّد الْإِقَالَة فسخ إِلَّا إِذا كَانَ لَا يُمكن أَن تجْعَل فسخا فتجعل بيعا جَدِيدا
وَقَالَ أَبُو يُوسُف هِيَ بيع جَدِيد مَا أمكن فَإِن لم يُمكن تجْعَل فسخا بِأَن كَانَت الْإِقَالَة قبل قبض الْمَبِيع وَهُوَ مَنْقُول فَإِنَّهَا تجْعَل فسخا لِأَن بيع الْمَنْقُول قبل الْقَبْض لَا يجوز حَتَّى إِذا كَانَ الْمَبِيع دَارا وأقالا قبل الْقَبْض يكون بيعا لِأَن بيع الْعقار الْمَبِيع قبل الْقَبْض جَائِز عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف رحمهمَا الله
وَقَالَ زفر هِيَ فسخ فِي حق الْمُتَعَاقدين وَغَيرهمَا حَتَّى لَا يَقُول بِثُبُوت الشُّفْعَة كَمَا قَالَ أَبُو حنيفَة
ويبنى على هَذَا أَنَّهُمَا إِذا تقابلا بِأَكْثَرَ من الثّمن الأول أَو بِأَقَلّ أَو بِجِنْس آخر أَو أجل الثّمن فِي الْإِقَالَة فعلى قَول أبي حنيفَة تصح الْإِقَالَة بِالثّمن الأول وَيبْطل مَا شرطاه لِأَنَّهَا فسخ فِي حق الْمُتَعَاقدين وَالْفَسْخ يكون بِالثّمن الأول وَيبْطل الشَّرْط الْفَاسِد
وَهُوَ قَول زفر لِأَنَّهَا فسخ مَحْض فِي حق النَّاس كَافَّة
وعَلى قَول الشَّافِعِي الْإِقَالَة بَاطِلَة هَهُنَا لِأَنَّهُمَا أدخلا فِيهَا شرطا فَاسِدا فَهِيَ كَالْبيع
وَقَالَ مُحَمَّد إِن كَانَت الْإِقَالَة بِغَيْر الثّمن الأول أَو بِأَكْثَرَ مِنْهُ فَهِيَ بيع
وَإِن كَانَت بِمثل الثّمن الأول أَو أقل فَهِيَ فسخ بِالثّمن وَيبْطل شَرط النُّقْصَان وَكَذَلِكَ إِن أجل يبطل الْأَجَل
وعَلى قَول أبي يُوسُف يَصح بِمَا ذكرا من الثّمن وشرطا بِهِ من الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان وَالْأَجَل لِأَنَّهَا بيع جَدِيد مَا أمكن وَهُوَ مُمكن
وَأما بَيَان حكم الِاسْتِبْرَاء فَنَقُول الِاسْتِبْرَاء مَشْرُوع
وَهُوَ نَوْعَانِ مَنْدُوب وواجب
فالاستبراء الْمَنْدُوب إِلَيْهِ هُوَ أَن الرجل إِذا وطىء جَارِيَته ثمَّ أَرَادَ بيعهَا يسْتَحبّ لَهُ أَن يَسْتَبْرِئهَا بِحَيْضَة ثمَّ يَبِيعهَا عِنْد عَامَّة الْعلمَاء
وَقَالَ مَالك وَاجِب لِأَن احْتِمَال الْعلُوق مِنْهُ قَائِم فَيجب عَلَيْهِ صِيَانة مَائه عَن الضّيَاع
وَلَكِن عندنَا لَا يجب لِأَن سَبَب الْوُجُوب لم يُوجد على مَا نذْكر
وَأما الِاسْتِبْرَاء الْوَاجِب فَهُوَ الِاسْتِبْرَاء على من يحدث لَهُ ملك الِاسْتِمْتَاع بِملك الْيَمين بِأَيّ سَبَب كَانَ من السَّبي وَالشِّرَاء وَالْهِبَة وَالْوَصِيَّة وَالْمِيرَاث وَنَحْوهَا
وَأَصله مَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاس أَلا لَا تُوطأ الحبالى حَتَّى يَضعن حَملهنَّ وَلَا الحيالى حَتَّى يستبرئن بِحَيْضَة أوجب الِاسْتِبْرَاء على السابي والسبي سَبَب حُدُوث ملك الِاسْتِمْتَاع بِملك الْيَمين فَيكون نصا فِي كل مَا هُوَ سَبَب حل الِاسْتِمْتَاع بِملك الْيَمين دلَالَة
ثمَّ مِقْدَار مُدَّة الِاسْتِبْرَاء هِيَ فِي الْحَيْضَة حق ذَوَات الْأَقْرَاء وَفِي حق ذَوَات الْأَشْهر شهر وَاحِد
لِأَن الِاسْتِبْرَاء إِنَّمَا يجب صِيَانة للْمَاء كي لَا يخْتَلط مَاؤُهُ بِمَاء غَيره فَلَا بُد لَهُ من الْمدَّة وَأَقل الْمدَّة هَذَا
وَإِن كَانَت الْجَارِيَة ممتدة الطُّهْر بِأَن كَانَت شَابة لَا تحيض فَإِن استبراءها لَا يكون بِشَهْر وَاحِد كَمَا فِي الآيسة وَاخْتلف الْعلمَاء فِي مُدَّة استبرائها حَتَّى يُبَاح للْمُشْتَرِي وَطْؤُهَا عِنْد مضيها قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف لَا يَطَأهَا حَتَّى يمْضِي عَلَيْهَا مُدَّة لَو كَانَت حَامِلا لظهر آثَار الْحمل من انتفاخ الْبَطن وَغَيره وَذَلِكَ ثَلَاثَة أشهر وَمَا زَاد عَلَيْهِ
وَقَالَ مُحَمَّد أَولا بِأَنَّهُ لَا يَطَأهَا حَتَّى يمْضِي عَلَيْهَا أَرْبَعَة أشهر وَعشرَة أَيَّام ثمَّ رَجَعَ وَقَالَ شَهْرَان وَخَمْسَة أَيَّام
وَقَالَ زفر لَا يَطَأهَا حَتَّى تمْضِي سنتَانِ
ثمَّ مَا لم تمض مُدَّة الِاسْتِبْرَاء لَا يحل للْمَالِك أَن يَطَأهَا وَأَن يقبلهَا ويمسها لشَهْوَة وَأَن ينظر إِلَى عورتها بِالنَّصِّ الَّذِي روينَا
وبالمعنى الَّذِي ذكرنَا من صِيَانة المَاء وَسَوَاء وَطئهَا أَو لَا أَو كَانَ بَائِعهَا مِمَّن لَا يَطَؤُهَا كَالْمَرْأَةِ وَالصَّبِيّ لِأَن احْتِمَال الْوَطْء من غَيره قَائِم
ثمَّ إِنَّمَا يعْتَبر الِاسْتِبْرَاء بعد الْقَبْض حَتَّى لَو مَضَت مُدَّة الِاسْتِبْرَاء بعد البيع قبل الْقَبْض ثمَّ قبضهَا يجب الِاسْتِبْرَاء
هَذَا هُوَ الْمَشْهُور من مَذْهَب أَصْحَابنَا جَمِيعًا
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه يجْزِيه الِاسْتِبْرَاء قبل الْقَبْض
وَلَو اشْترى جَارِيَة حَامِلا فَوضعت الْحمل بعد الْقَبْض يُبَاح الْوَطْء لِأَن وضع الْحمل كَونه دَلِيلا على بَرَاءَة الرَّحِم فَوق الْقُرْء
وَإِن كَانَ الْوَضع قبل الْقَبْض فَلَا عِبْرَة لما ذكرنَا أَنه إِنَّمَا يجب سَبَب حُدُوث حل الِاسْتِمْتَاع بِملك الْيَمين وَإِنَّمَا يحل الْوَطْء بعد الْقَبْض فَلَا يجب قبل وجود سَبَب الْوُجُوب
وعَلى هَذَا إِذا اشْترى جَارِيَة لَهَا زوج وَقَبضهَا وَطَلقهَا زَوجهَا قبل الدُّخُول بهَا فَلَا اسْتِبْرَاء عَلَيْهِ لِأَن السَّبَب غير مُوجب الِاسْتِبْرَاء عِنْد الْقَبْض بِسَبَب كَونهَا حَلَالا لزوج فَلَا يجب بعد ذَلِك
وعَلى هَذَا إِذا اشْتَرَاهَا وَهِي مُعْتَدَّة من زوج فانقضت عدتهَا بعد الْقَبْض لِأَنَّهَا لَا تجب حَال وجود السَّبَب لمَانع فَلَا يجب بعد ذَلِك
وَلَو انْقَضتْ الْعدة قبل الْقَبْض يجب الِاسْتِبْرَاء بعد الْقَبْض لما قُلْنَا
وَلَو حرم فرج الْأمة على مَوْلَاهَا على وَجه لَا يخرج عَن ملكه لمَانع بَعْدَمَا كَانَ حَلَالا واستبرأها بعد الْقَبْض ثمَّ زَالَ ذَلِك الْمَانِع بعد الشِّرَاء حل الْوَطْء وَلَا اسْتِبْرَاء عَلَيْهِ كَمَا إِذا كاتبها فتعجز أَو زَوجهَا فيطلقها الزَّوْج قبل الدُّخُول أَو ترتد عَن الْإِسْلَام ثمَّ تسلم أَو أَحرمت بِالْحَجِّ بِإِذن سَيِّدهَا ثمَّ حلت لِأَن هَذَا تَحْرِيم عَارض مَعَ بَقَاء الْملك الْمُبِيح فَلَا يمْنَع صِحَة الِاسْتِبْرَاء فَصَارَ كَمَا لَو حَاضَت ثمَّ طهرت
وَلَو اشْترى أمة مَجُوسِيَّة أَو مسلمة فكاتبها قبل أَن يَسْتَبْرِئهَا أَو اشْترى جَارِيَة مُحرمَة فَحَاضَت فِي حَال كتَابَتهَا ومجوسيتها وَحَال إحرامها بعد الْقَبْض ثمَّ عجزت الْمُكَاتبَة وَأسْلمت الْمَجُوسِيَّة وحلت الْمُحرمَة عَن الْإِحْرَام فَإِنَّهُ يجتزىء تِلْكَ الْحَيْضَة من الِاسْتِبْرَاء لِأَنَّهَا وجدت بعد وجود سَبَب الِاسْتِبْرَاء وَهُوَ حُدُوث ملك الْيَمين الْمُوجب لملك الِاسْتِمْتَاع إِلَّا أَنه لَا يحل الِاسْتِيفَاء لمَانع وَهَذَا لَا يمْنَع من الِاعْتِدَاد كالحيض بِخِلَاف مَا إِذا اشْترى جَارِيَة بيعا فَاسِدا وَقَبضهَا ثمَّ حَاضَت حَيْضَة ثمَّ اشْتَرَاهَا بعد ذَلِك شِرَاء صَحِيحا حَيْثُ لَا يعْتد
بِتِلْكَ الْحَيْضَة عَن الِاسْتِبْرَاء لِأَن الشِّرَاء الْفَاسِد لَا يُوجب ملك الِاسْتِمْتَاع وَإِن اتَّصل بِهِ الْقَبْض
وَأما التَّفْرِيق بَين الصَّغِير وَبَين ذَوي الْأَرْحَام المجتمعة فِي الْملك فَنَقُول لَا خلاف أَن التَّفْرِيق فِي الولاد مَكْرُوه كالتفريق بَين الْأَب وَابْنه وَنَحْو ذَلِك
وَأما فِيمَن سواهُم من ذَوي الرَّحِم الْمحرم كالإخوة وَالْأَخَوَات والأعمام والعمات والأخوال والخالات فَإِنَّهُ يكره التَّفْرِيق أَيْضا عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ
وَأَصله مَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ من فرق بَين وَالِدَة وَوَلدهَا فرق الله بَينه وَبَين الْجنَّة وذوو الْأَرْحَام مُلْحقَة بالولاد فِي بَاب الْمُحرمَات احْتِيَاطًا لحُرْمَة النِّكَاح
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يلْحق ذُو الْأَرْحَام بالولاد كَمَا فِي الْعتْق وَالنَّفقَة
وَإِنَّمَا يُبَاح التَّفْرِيق بعد الْبلُوغ
وَقَالَ الشَّافِعِي إِذا بلغ سبع سِنِين جَازَ التَّفْرِيق
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لما روى الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لَا يجمع عَلَيْهِم السَّبي والتفريق حَتَّى يبلغ الْغُلَام وتحيض الْجَارِيَة
ثمَّ مَتى فرق بَينهمَا بِالْبيعِ جَازَ مَعَ الْكَرَاهَة عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي البيع بَاطِل
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه قَالَ فِي الولاد البيع بَاطِل وَفِي غَيرهم جَائِز مَعَ الْكَرَاهَة
وَهَذَا بِنَاء على أَن النَّهْي عَن الْمَشْرُوع يَقْتَضِي بطلَان التَّصَرُّف عِنْد الشَّافِعِي وَعِنْدنَا بِخِلَافِهِ لَكِن هَذَا نهي لِمَعْنى فِي غَيره بِمَنْزِلَة البيع وَقت النداء
وَإِذا اجْتمع مَعَ الصَّغِير عدد من أقربائه من الرَّحِم الْمحرم فِي ملك وَاحِد فَعَن أبي يُوسُف رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة بشر أَنه لَا يفرق بَينه وَبَين وَاحِد مِنْهُم اخْتلفت جِهَات قرابتهم كالعمة وَالْخَالَة أَو اتّفقت كالعمين والخالين والأخوين وَكَذَا لَا يفرق بَينه وَبَين الْأَبْعَد وَإِن وجد الْأَقْرَب حَتَّى إِذا اجْتمع مَعَ الصَّغِير أَبَوَاهُ وجداه لم يفرق بَينه وَبَين الجدين لِأَن لكل شخص شَفَقَة على حِدة
وَفِي رِوَايَة ابْن سَمَّاعَة عَنهُ أَنه يجوز التَّفْرِيق بَين الصَّغِير وَبَين الْأَبْعَد إِذا وجد من هُوَ أقرب مِنْهُ
وَذكر مُحَمَّد فِي الزِّيَادَات إِذا اجْتمع مَعَ الصَّغِير أَبَوَاهُ لم يفرق بَينه وَبَين وَاحِد مِنْهُمَا وَجَاز أَن يفرق بَينه وَبَين من سواهُمَا مَعَهُمَا
وَإِذا اجْتمعت الْقرَابَات غير الْأَب وَالأُم فَإِن كَانَت من جِهَات مُخْتَلفَة كَأُمّ الْأَب وَأم الْأُم وَالْخَالَة والعمة لم يفرق بَينه وَبَين وَاحِد مِنْهُم
وَإِن كَانُوا من جِهَة وَاحِدَة كالإخوة أَو العمات أَو الخالات جَازَ بيعهم من غير كَرَاهَة إِلَّا بيع وَاحِد مِنْهُم
وَيجوز بيع الْبعيد إِذا وجد من هُوَ أقرب مِنْهُ لِأَن فِي الْجِنْس الْوَاحِد الشَّفَقَة من جنس وَاحِد فيكتفي بِوَاحِد
وَعند اخْتِلَاف الْجِهَات يخْتَلف الشَّفَقَة فَلِكُل نوع شَفَقَة تخَالف النَّوْع الآخر فَلَا بُد من اجْتِمَاع الْكل
وَغير ذَلِك فِي الْبَاب فُصُول بَيَان الْمُرَابَحَة وَبَيَان الْإِقَالَة وَبَيَان حكم الِاسْتِبْرَاء وَبَيَان جَوَاز التَّفْرِيق بَين ذَوي الرَّحِم الْمحرم وتحريمه فِي البيع
أما الأول فَنَقُول البيع فِي حق الْبَدَل يَنْقَسِم خَمْسَة أَقسَام بيع المساومة وَهُوَ البيع بِأَيّ ثمن اتّفق وَهُوَ الْمُعْتَاد
وَالثَّانِي بيع الْمُرَابَحَة وَهُوَ تمْلِيك الْمَبِيع بِمثل الثّمن الأول وَزِيَادَة ربح
وَالثَّالِث بيع التَّوْلِيَة وَهُوَ تمْلِيك الْمَبِيع بِمثل الثّمن الأول من غير زِيَادَة وَلَا نُقْصَان
وَالرَّابِع الْإِشْرَاك وَهُوَ بيع التَّوْلِيَة فِي بعض الْمَبِيع من النّصْف وَالثلث وَغير ذَلِك
وَالْخَامِس بيع الوضيعة وَهُوَ تمْلِيك الْمَبِيع بِمثل الثّمن الأول مَعَ نُقْصَان شَيْء مِنْهُ
ثمَّ الأَصْل فِي بيع الْمُرَابَحَة أَنه مَبْنِيّ على الْأَمَانَة فَإِنَّهُ بيع بِالثّمن الأول بقول البَائِع من غير بَيِّنَة وَلَا استحلاف فَيجب صيانته عَن حَقِيقَة الْخِيَانَة وَشبههَا فَإِذا ظَهرت الْخِيَانَة يجب رده كالشاهد يجب قبُول قَوْله فَإِذا ظَهرت الْخِيَانَة يرد قَوْله كَذَا هَذَا
إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول إِذا بَاعَ شَيْئا مُرَابحَة على الثّمن الأول فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون الثّمن من ذَوَات الْأَمْثَال كالدراهم وَالدَّنَانِير والمكيل وَالْمَوْزُون والمعدود المتقارب أَو يكون من الْأَعْدَاد المتفاوتة مثل العبيد والدور وَالثيَاب وَالرُّمَّان والبطاطيخ وَنَحْوهَا
أما إِذا كَانَ الثّمن الأول مثلِيا فَبَاعَهُ مُرَابحَة على الثّمن الأول وَزِيَادَة ربح فَيجوز سَوَاء كَانَ الرِّبْح من جنس الثّمن الأول أَو لم يكن بعد أَن يكون شَيْئا مُقَدرا مَعْلُوما نَحْو الدِّرْهَم والخمسة وثوب مشار إِلَيْهِ أَو دِينَار لِأَن الثّمن الأول مَعْلُوم وَالرِّبْح مَعْلُوم
فَأَما إِذا كَانَ الثّمن الأول لَا مثل لَهُ فَإِن أَرَادَ أَن يَبِيعهُ مُرَابحَة عَلَيْهِ فَهَذَا على وَجْهَيْن إِمَّا أَن يَبِيعهُ مُرَابحَة مِمَّن كَانَ الْعرض فِي يَده وَملكه أَو من غَيره
فَإِن بَاعه مِمَّن لَيْسَ فِي ملكه وَيَده لَا يجوز لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يَبِيعهُ مُرَابحَة بذلك الْعرض أَو بِقِيمَتِه وَلَا وَجه للْأولِ لِأَن الْعرض لَيْسَ فِي ملك من يَبِيعهُ مِنْهُ وَلَا وَجه أَن يَبِيعهُ مُرَابحَة بِقِيمَتِه لِأَن الْقيمَة تعرف بالحزر وَالظَّن فيتمكن فِيهِ شُبْهَة الْخِيَانَة
وَأما إِذا أَرَادَ أَن يَبِيعهُ مُرَابحَة مِمَّن كَانَ الْعرض فِي يَده وَملكه فَهَذَا على وَجْهَيْن إِن قَالَ أبيعك مُرَابحَة بِالثَّوْبِ الَّذِي فِي يدك وبربح عشرَة
دَرَاهِم جَازَ لِأَنَّهُ جعل الرِّبْح على الثَّوْب عشرَة دَرَاهِم وَهِي مَعْلُومَة
وَإِن قَالَ أبيعك بذلك الثَّوْب بِرِبْح ده يازده فَإِنَّهُ لَا يجوز لِأَن تَسْمِيَة ربح ده يازده أَو أحد عشر يَقْتَضِي أَن يكون الرِّبْح من جنس رَأس المَال لِأَنَّهُ لَا يكون أحد عشر إِلَّا وَأَن يكون الْحَادِي عشر من جنس الْعشْرَة فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَ بِالثّمن الأول وَهُوَ الثَّوْب وبجزء من جنس الأول وَالثَّوْب لَا مثل لَهُ من جنسه
ثمَّ فِي بيع الْمُرَابَحَة يعْتَبر رَأس المَال وَهُوَ الثّمن الأول أَي مَا ملك الْمَبِيع بِهِ وَوَجَب بِالْعقدِ دون مَا نَقده بَدَلا عَن الأول بَيَانه إِذا اشْترى ثوبا بِعشْرَة دَرَاهِم ثمَّ أعْطى عَنْهَا دِينَارا أَو ثوبا قِيمَته عشرَة دَرَاهِم أَو أقل أَو أَكثر فَإِن رَأس المَال هُوَ الْعشْرَة الْمُسَمَّاة فِي العقد دون الدِّينَار وَالثَّوْب لِأَن هَذَا يجب بِعقد آخر وَهُوَ الِاسْتِبْدَال
وَكَذَلِكَ من اشْترى ثوبا بِعشْرَة وَهِي خلاف نقد الْبَلَد ثمَّ قَالَ لآخر أبيعك هَذَا الثَّوْب بِرِبْح دِرْهَم لزمَه عشرَة مثل الَّتِي وَجَبت بِالْعقدِ
وَإِن كَانَ يُخَالف نقد الْبَلَد وَالرِّبْح يكون من نقد الْبَلَد لِأَنَّهُ أطلق الرِّبْح فَيَقَع على نقد الْبَلَد
وَلَو نسب الرِّبْح إِلَى رَأس المَال فَقَالَ أبيعك بِرِبْح الْعشْرَة أَو ده يَا زده أَو بِرِبْح أحد عشر فَالرِّبْح من جنس الثّمن الأول لِأَنَّهُ جعله جُزْءا مِنْهُ فَكَانَ على صفته
وَلَو اشْترى ثوبا بِعشْرَة دَرَاهِم جِيَاد ثمَّ إِنَّه دفع إِلَى البَائِع عشرَة دَرَاهِم بَعْضهَا جِيَاد وَبَعضهَا زيوف وَتجوز بذلك البَائِع ثمَّ أَرَادَ أَن
يَبِيعهُ مُرَابحَة جَازَ لَهُ أَن يَبِيعهُ مُرَابحَة على الْعشْرَة الْجِيَاد من غير بَيَان لِأَن الْمُسَمّى الْمَضْمُون بِالْعقدِ هُوَ الْجِيَاد لَكِن جعل الرَّديئَة بَدَلا عَن الأول بِعقد آخر
وَلَو اشْترى ثوبا بِعشْرَة نَسِيئَة فَبَاعَهُ مُرَابحَة على الْعشْرَة وَبَين أَنه اشْتَرَاهُ بهَا نَسِيئَة لَا يكره لِأَنَّهُ لم يُوجد الْخِيَانَة حَيْثُ أعلم المُشْتَرِي بذلك وَرَضي بِهِ فَأَما إِذا بَاعَ مُرَابحَة على الْعشْرَة من غير بَيَان النَّسِيئَة فَإِنَّهُ يكره وَالْبيع جَائِز وَللْمُشْتَرِي الْخِيَار إِذا علم لِأَنَّهُ وجد الْغرُور والخيانة لِأَن المُشْتَرِي إِنَّمَا اشْتَرَاهُ مُرَابحَة على الْعشْرَة على تَقْدِير أَن الثّمن فِي البيع الأول عشرَة بطرِيق النَّقْد وَيخْتَلف ثمن الْمَبِيع بَين النَّسِيئَة والنقد فَيثبت لَهُ الْخِيَار كَمَا لَو اشْترى برقمه ثمَّ علم فِي الْمجْلس يثبت لَهُ الْخِيَار كَذَا هَذَا بِخِلَاف مَا إِذا بَاعه مساومة بِأَكْثَرَ من قِيمَته ثمَّ علم المُشْتَرِي بِأَنَّهُ اشْترى بِأَقَلّ من ذَلِك لَا يكون لَهُ الْخِيَار لِأَن المُشْتَرِي لم يصر مغرورا من جِهَته
وَلَو قَالَ إِن قِيمَته كَذَا وَهُوَ أَكثر من قِيمَته وَالْمُشْتَرِي لَا يعرف قيمَة الْأَشْيَاء وَاشْتَرَاهُ بِنَاء على قَول البَائِع فَإِنَّهُ يكون لَهُ الْخِيَار لِأَنَّهُ يصير غارا أما إِذا كَانَ عَالما بِالْقيمَةِ وَاشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ من ذَلِك لغَرَض لَهُ فِي ذَلِك فَلَا بَأْس بِهِ وأصحابنا يفتون فِي المغبون أَنه لَا يرد وَلَكِن هَذَا فِي مغبون لم يغر أما فِي مغبون غر فَيكون لَهُ حق الرَّد اسْتِدْلَالا بِمَسْأَلَة الْمُرَابَحَة فِي النَّسِيئَة
وَلَو اشْترى بدين لَهُ على رجل فَلهُ أَن يَبِيعهُ مُرَابحَة من غير بَيَان لِأَنَّهُ اشْترى بِثمن فِي ذمَّته لِأَن الدّين لَا يتَعَيَّن ثمنا
وَإِن أَخذ ثوبا صَالحا من دين لَهُ على رجل لَيْسَ لَهُ أَن يَبِيعهُ مُرَابحَة على ذَلِك الدّين لِأَن مبْنى الصُّلْح على الْحَط
وَلَو اشْترى ثوبا بِعشْرَة ثمَّ رقمه بِأَكْثَرَ من الثّمن وَهُوَ قِيمَته فَإِن كَانَ قِيمَته أَكثر من ذَلِك ثمَّ بَاعه مُرَابحَة على الرقم جَازَ وَلَا يكون خِيَانَة لِأَنَّهُ بَاعَ الْمَبِيع من غير خِيَانَة حَيْثُ ذكر الرقم وَلَكِن هَذَا إِذا كَانَ عِنْد البَائِع أَن المُشْتَرِي يعلم أَن الرقم غير وَالثمن غير وَأما إِذا كَانَ عِنْده أَن المُشْتَرِي يعلم أَن الرقم وَالثمن سَوَاء فَإِنَّهُ يكون خِيَانَة وَله الْخِيَار
وَكَذَا لَو ملك شَيْئا بِالْمِيرَاثِ أَو الْهِبَة فقومه رجل عدل بِقِيمَة عدل ثمَّ بَاعه مُرَابحَة على قِيمَته وَهِي كَذَا لَا بَأْس بِهِ لِأَنَّهُ صَادِق فِي مقَالَته
وَلَو اشْترى شَيْئا بِعشْرَة دَرَاهِم فَقَالَ لرجل آخر اشْتريت هَذَا بِاثْنَيْ عشر وأبيعك مُرَابحَة بِرِبْح دِرْهَم ثمَّ ظهر أَن الثّمن الأول كَانَ عشرَة إِمَّا بِإِقْرَار البَائِع أَو بِالْبَيِّنَةِ قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رَحْمَة الله عَلَيْهِمَا لَا يحط قدر الْخِيَانَة من الثّمن وَلَكِن يتَخَيَّر المُشْتَرِي إِن شَاءَ فسخ البيع وَإِن شَاءَ رَضِي ربه بِجَمِيعِ الثّمن
وَقَالَ أَبُو يُوسُف بِأَنَّهُ يحط قدر الْخِيَانَة وحصته من الرِّبْح وَيكون العقد لَازِما بِالْبَاقِي من الثّمن فيحط عَنهُ دِرْهَمَانِ وحصتهما من الرِّبْح وَذَلِكَ سدس دِرْهَم
هَذَا فِي بيع الْمُرَابَحَة
فَأَما إِذا خَان فِي بيع التَّوْلِيَة فقد قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف يحط قدر الْخِيَانَة وَيلْزم البيع بِالثّمن الْبَاقِي بِلَا خِيَار
وَقَالَ مُحَمَّد بِأَنَّهُ لَا يحط قدر الْخِيَانَة لَكِن يتَخَيَّر المُشْتَرِي مَا دَامَ الْمَبِيع قَائِما فَإِذا هلك سقط خِيَاره
فَأَبُو يُوسُف سوى بَين التَّوْلِيَة والمرابحة وَقَالَ يحط قدر الْخِيَانَة فيهمَا وَيلْزم العقد بِالْبَاقِي فيهمَا
وَمُحَمّد سوى بَينهمَا وَقَالَ لَا يحط قدر الْخِيَانَة فيهمَا وَيثبت لَهُ الْخِيَار
وَأَبُو حنيفَة فرق فَقَالَ يحط قدر الْخِيَانَة فِي التَّوْلِيَة وَلَا يحط فِي الْمُرَابَحَة
ثمَّ الأَصْل أَن كل نَفَقَة ومؤونة حصلت فِي السّلْعَة وأوجبت زِيَادَة فِي الْمَعْقُود عَلَيْهِ إِمَّا من حَيْثُ الْعين أَو من حَيْثُ الْقيمَة وَكَانَ ذَلِك مُعْتَادا إِلْحَاقًا بِرَأْس المَال عِنْد التِّجَارَة فَإِنَّهُ يلْحق بِرَأْس المَال كَأُجْرَة القصارة والخياطة والكراء وَطَعَام الرَّقِيق وكسوتهم وعلف الدَّوَابّ وثيابهم وَنَحْو ذَلِك فبيعه مُرَابحَة عَلَيْهِ وَلَا يَقُول عِنْد البيع إِن ثمنه كَذَا وَلَكِن يَقُول يقوم عَليّ بِكَذَا فأبيعك على هَذَا مَعَ ربح كَذَا حَتَّى لَا يكون كَاذِبًا فِي كَلَامه
أما أُجْرَة تَعْلِيم الْقُرْآن وَالْأَدب وَالشعر والحرف فَإِنَّهَا لَا تلْحق بِرَأْس المَال وَإِن أوجبت زِيَادَة فِي الْقيمَة لِأَنَّهَا لَيست بمتعارفة عِنْد التُّجَّار
وَكَذَا أُجْرَة الطَّبِيب وَثمن الدَّوَاء وَأُجْرَة الفصاد والحجام وَأُجْرَة الْخِتَان والبزاغ وَأُجْرَة الرائض والراعي وَجعل الْآبِق لِأَن عَادَة التُّجَّار هَكَذَا
وَأما أُجْرَة السمسار فَفِي ظَاهر الرِّوَايَة يلْحق بِرَأْس المَال وَفِي البرامكة قَالَ لَا يلْحق
وَأما الْإِقَالَة فمشروعة لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من أقَال نَادِما بيعَته أقَال الله عثرته يَوْم الْقِيَامَة
ثمَّ اخْتلفُوا فِيهَا قَالَ أَبُو حنيفَة هِيَ فسخ فِي حق الْمُتَعَاقدين بيع جَدِيد فِي حق
الثَّالِث حَتَّى إِن من اشْترى دَارا وَلها شَفِيع فَسلم الشُّفْعَة ثمَّ أقالا البيع فِيهَا فَإِنَّهُ يثبت للشَّفِيع الشُّفْعَة ثَانِيًا لِأَنَّهَا عقد جَدِيد فِي حق الشَّفِيع
وَقَالَ مُحَمَّد الْإِقَالَة فسخ إِلَّا إِذا كَانَ لَا يُمكن أَن تجْعَل فسخا فتجعل بيعا جَدِيدا
وَقَالَ أَبُو يُوسُف هِيَ بيع جَدِيد مَا أمكن فَإِن لم يُمكن تجْعَل فسخا بِأَن كَانَت الْإِقَالَة قبل قبض الْمَبِيع وَهُوَ مَنْقُول فَإِنَّهَا تجْعَل فسخا لِأَن بيع الْمَنْقُول قبل الْقَبْض لَا يجوز حَتَّى إِذا كَانَ الْمَبِيع دَارا وأقالا قبل الْقَبْض يكون بيعا لِأَن بيع الْعقار الْمَبِيع قبل الْقَبْض جَائِز عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف رحمهمَا الله
وَقَالَ زفر هِيَ فسخ فِي حق الْمُتَعَاقدين وَغَيرهمَا حَتَّى لَا يَقُول بِثُبُوت الشُّفْعَة كَمَا قَالَ أَبُو حنيفَة
ويبنى على هَذَا أَنَّهُمَا إِذا تقابلا بِأَكْثَرَ من الثّمن الأول أَو بِأَقَلّ أَو بِجِنْس آخر أَو أجل الثّمن فِي الْإِقَالَة فعلى قَول أبي حنيفَة تصح الْإِقَالَة بِالثّمن الأول وَيبْطل مَا شرطاه لِأَنَّهَا فسخ فِي حق الْمُتَعَاقدين وَالْفَسْخ يكون بِالثّمن الأول وَيبْطل الشَّرْط الْفَاسِد
وَهُوَ قَول زفر لِأَنَّهَا فسخ مَحْض فِي حق النَّاس كَافَّة
وعَلى قَول الشَّافِعِي الْإِقَالَة بَاطِلَة هَهُنَا لِأَنَّهُمَا أدخلا فِيهَا شرطا فَاسِدا فَهِيَ كَالْبيع
وَقَالَ مُحَمَّد إِن كَانَت الْإِقَالَة بِغَيْر الثّمن الأول أَو بِأَكْثَرَ مِنْهُ فَهِيَ بيع
وَإِن كَانَت بِمثل الثّمن الأول أَو أقل فَهِيَ فسخ بِالثّمن وَيبْطل شَرط النُّقْصَان وَكَذَلِكَ إِن أجل يبطل الْأَجَل
وعَلى قَول أبي يُوسُف يَصح بِمَا ذكرا من الثّمن وشرطا بِهِ من الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان وَالْأَجَل لِأَنَّهَا بيع جَدِيد مَا أمكن وَهُوَ مُمكن
وَأما بَيَان حكم الِاسْتِبْرَاء فَنَقُول الِاسْتِبْرَاء مَشْرُوع
وَهُوَ نَوْعَانِ مَنْدُوب وواجب
فالاستبراء الْمَنْدُوب إِلَيْهِ هُوَ أَن الرجل إِذا وطىء جَارِيَته ثمَّ أَرَادَ بيعهَا يسْتَحبّ لَهُ أَن يَسْتَبْرِئهَا بِحَيْضَة ثمَّ يَبِيعهَا عِنْد عَامَّة الْعلمَاء
وَقَالَ مَالك وَاجِب لِأَن احْتِمَال الْعلُوق مِنْهُ قَائِم فَيجب عَلَيْهِ صِيَانة مَائه عَن الضّيَاع
وَلَكِن عندنَا لَا يجب لِأَن سَبَب الْوُجُوب لم يُوجد على مَا نذْكر
وَأما الِاسْتِبْرَاء الْوَاجِب فَهُوَ الِاسْتِبْرَاء على من يحدث لَهُ ملك الِاسْتِمْتَاع بِملك الْيَمين بِأَيّ سَبَب كَانَ من السَّبي وَالشِّرَاء وَالْهِبَة وَالْوَصِيَّة وَالْمِيرَاث وَنَحْوهَا
وَأَصله مَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ فِي سَبَايَا أَوْطَاس أَلا لَا تُوطأ الحبالى حَتَّى يَضعن حَملهنَّ وَلَا الحيالى حَتَّى يستبرئن بِحَيْضَة أوجب الِاسْتِبْرَاء على السابي والسبي سَبَب حُدُوث ملك الِاسْتِمْتَاع بِملك الْيَمين فَيكون نصا فِي كل مَا هُوَ سَبَب حل الِاسْتِمْتَاع بِملك الْيَمين دلَالَة
ثمَّ مِقْدَار مُدَّة الِاسْتِبْرَاء هِيَ فِي الْحَيْضَة حق ذَوَات الْأَقْرَاء وَفِي حق ذَوَات الْأَشْهر شهر وَاحِد
لِأَن الِاسْتِبْرَاء إِنَّمَا يجب صِيَانة للْمَاء كي لَا يخْتَلط مَاؤُهُ بِمَاء غَيره فَلَا بُد لَهُ من الْمدَّة وَأَقل الْمدَّة هَذَا
وَإِن كَانَت الْجَارِيَة ممتدة الطُّهْر بِأَن كَانَت شَابة لَا تحيض فَإِن استبراءها لَا يكون بِشَهْر وَاحِد كَمَا فِي الآيسة وَاخْتلف الْعلمَاء فِي مُدَّة استبرائها حَتَّى يُبَاح للْمُشْتَرِي وَطْؤُهَا عِنْد مضيها قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف لَا يَطَأهَا حَتَّى يمْضِي عَلَيْهَا مُدَّة لَو كَانَت حَامِلا لظهر آثَار الْحمل من انتفاخ الْبَطن وَغَيره وَذَلِكَ ثَلَاثَة أشهر وَمَا زَاد عَلَيْهِ
وَقَالَ مُحَمَّد أَولا بِأَنَّهُ لَا يَطَأهَا حَتَّى يمْضِي عَلَيْهَا أَرْبَعَة أشهر وَعشرَة أَيَّام ثمَّ رَجَعَ وَقَالَ شَهْرَان وَخَمْسَة أَيَّام
وَقَالَ زفر لَا يَطَأهَا حَتَّى تمْضِي سنتَانِ
ثمَّ مَا لم تمض مُدَّة الِاسْتِبْرَاء لَا يحل للْمَالِك أَن يَطَأهَا وَأَن يقبلهَا ويمسها لشَهْوَة وَأَن ينظر إِلَى عورتها بِالنَّصِّ الَّذِي روينَا
وبالمعنى الَّذِي ذكرنَا من صِيَانة المَاء وَسَوَاء وَطئهَا أَو لَا أَو كَانَ بَائِعهَا مِمَّن لَا يَطَؤُهَا كَالْمَرْأَةِ وَالصَّبِيّ لِأَن احْتِمَال الْوَطْء من غَيره قَائِم
ثمَّ إِنَّمَا يعْتَبر الِاسْتِبْرَاء بعد الْقَبْض حَتَّى لَو مَضَت مُدَّة الِاسْتِبْرَاء بعد البيع قبل الْقَبْض ثمَّ قبضهَا يجب الِاسْتِبْرَاء
هَذَا هُوَ الْمَشْهُور من مَذْهَب أَصْحَابنَا جَمِيعًا
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه يجْزِيه الِاسْتِبْرَاء قبل الْقَبْض
وَلَو اشْترى جَارِيَة حَامِلا فَوضعت الْحمل بعد الْقَبْض يُبَاح الْوَطْء لِأَن وضع الْحمل كَونه دَلِيلا على بَرَاءَة الرَّحِم فَوق الْقُرْء
وَإِن كَانَ الْوَضع قبل الْقَبْض فَلَا عِبْرَة لما ذكرنَا أَنه إِنَّمَا يجب سَبَب حُدُوث حل الِاسْتِمْتَاع بِملك الْيَمين وَإِنَّمَا يحل الْوَطْء بعد الْقَبْض فَلَا يجب قبل وجود سَبَب الْوُجُوب
وعَلى هَذَا إِذا اشْترى جَارِيَة لَهَا زوج وَقَبضهَا وَطَلقهَا زَوجهَا قبل الدُّخُول بهَا فَلَا اسْتِبْرَاء عَلَيْهِ لِأَن السَّبَب غير مُوجب الِاسْتِبْرَاء عِنْد الْقَبْض بِسَبَب كَونهَا حَلَالا لزوج فَلَا يجب بعد ذَلِك
وعَلى هَذَا إِذا اشْتَرَاهَا وَهِي مُعْتَدَّة من زوج فانقضت عدتهَا بعد الْقَبْض لِأَنَّهَا لَا تجب حَال وجود السَّبَب لمَانع فَلَا يجب بعد ذَلِك
وَلَو انْقَضتْ الْعدة قبل الْقَبْض يجب الِاسْتِبْرَاء بعد الْقَبْض لما قُلْنَا
وَلَو حرم فرج الْأمة على مَوْلَاهَا على وَجه لَا يخرج عَن ملكه لمَانع بَعْدَمَا كَانَ حَلَالا واستبرأها بعد الْقَبْض ثمَّ زَالَ ذَلِك الْمَانِع بعد الشِّرَاء حل الْوَطْء وَلَا اسْتِبْرَاء عَلَيْهِ كَمَا إِذا كاتبها فتعجز أَو زَوجهَا فيطلقها الزَّوْج قبل الدُّخُول أَو ترتد عَن الْإِسْلَام ثمَّ تسلم أَو أَحرمت بِالْحَجِّ بِإِذن سَيِّدهَا ثمَّ حلت لِأَن هَذَا تَحْرِيم عَارض مَعَ بَقَاء الْملك الْمُبِيح فَلَا يمْنَع صِحَة الِاسْتِبْرَاء فَصَارَ كَمَا لَو حَاضَت ثمَّ طهرت
وَلَو اشْترى أمة مَجُوسِيَّة أَو مسلمة فكاتبها قبل أَن يَسْتَبْرِئهَا أَو اشْترى جَارِيَة مُحرمَة فَحَاضَت فِي حَال كتَابَتهَا ومجوسيتها وَحَال إحرامها بعد الْقَبْض ثمَّ عجزت الْمُكَاتبَة وَأسْلمت الْمَجُوسِيَّة وحلت الْمُحرمَة عَن الْإِحْرَام فَإِنَّهُ يجتزىء تِلْكَ الْحَيْضَة من الِاسْتِبْرَاء لِأَنَّهَا وجدت بعد وجود سَبَب الِاسْتِبْرَاء وَهُوَ حُدُوث ملك الْيَمين الْمُوجب لملك الِاسْتِمْتَاع إِلَّا أَنه لَا يحل الِاسْتِيفَاء لمَانع وَهَذَا لَا يمْنَع من الِاعْتِدَاد كالحيض بِخِلَاف مَا إِذا اشْترى جَارِيَة بيعا فَاسِدا وَقَبضهَا ثمَّ حَاضَت حَيْضَة ثمَّ اشْتَرَاهَا بعد ذَلِك شِرَاء صَحِيحا حَيْثُ لَا يعْتد
بِتِلْكَ الْحَيْضَة عَن الِاسْتِبْرَاء لِأَن الشِّرَاء الْفَاسِد لَا يُوجب ملك الِاسْتِمْتَاع وَإِن اتَّصل بِهِ الْقَبْض
وَأما التَّفْرِيق بَين الصَّغِير وَبَين ذَوي الْأَرْحَام المجتمعة فِي الْملك فَنَقُول لَا خلاف أَن التَّفْرِيق فِي الولاد مَكْرُوه كالتفريق بَين الْأَب وَابْنه وَنَحْو ذَلِك
وَأما فِيمَن سواهُم من ذَوي الرَّحِم الْمحرم كالإخوة وَالْأَخَوَات والأعمام والعمات والأخوال والخالات فَإِنَّهُ يكره التَّفْرِيق أَيْضا عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ
وَأَصله مَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ من فرق بَين وَالِدَة وَوَلدهَا فرق الله بَينه وَبَين الْجنَّة وذوو الْأَرْحَام مُلْحقَة بالولاد فِي بَاب الْمُحرمَات احْتِيَاطًا لحُرْمَة النِّكَاح
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يلْحق ذُو الْأَرْحَام بالولاد كَمَا فِي الْعتْق وَالنَّفقَة
وَإِنَّمَا يُبَاح التَّفْرِيق بعد الْبلُوغ
وَقَالَ الشَّافِعِي إِذا بلغ سبع سِنِين جَازَ التَّفْرِيق
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لما روى الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لَا يجمع عَلَيْهِم السَّبي والتفريق حَتَّى يبلغ الْغُلَام وتحيض الْجَارِيَة
ثمَّ مَتى فرق بَينهمَا بِالْبيعِ جَازَ مَعَ الْكَرَاهَة عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي البيع بَاطِل
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه قَالَ فِي الولاد البيع بَاطِل وَفِي غَيرهم جَائِز مَعَ الْكَرَاهَة
وَهَذَا بِنَاء على أَن النَّهْي عَن الْمَشْرُوع يَقْتَضِي بطلَان التَّصَرُّف عِنْد الشَّافِعِي وَعِنْدنَا بِخِلَافِهِ لَكِن هَذَا نهي لِمَعْنى فِي غَيره بِمَنْزِلَة البيع وَقت النداء
وَإِذا اجْتمع مَعَ الصَّغِير عدد من أقربائه من الرَّحِم الْمحرم فِي ملك وَاحِد فَعَن أبي يُوسُف رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة بشر أَنه لَا يفرق بَينه وَبَين وَاحِد مِنْهُم اخْتلفت جِهَات قرابتهم كالعمة وَالْخَالَة أَو اتّفقت كالعمين والخالين والأخوين وَكَذَا لَا يفرق بَينه وَبَين الْأَبْعَد وَإِن وجد الْأَقْرَب حَتَّى إِذا اجْتمع مَعَ الصَّغِير أَبَوَاهُ وجداه لم يفرق بَينه وَبَين الجدين لِأَن لكل شخص شَفَقَة على حِدة
وَفِي رِوَايَة ابْن سَمَّاعَة عَنهُ أَنه يجوز التَّفْرِيق بَين الصَّغِير وَبَين الْأَبْعَد إِذا وجد من هُوَ أقرب مِنْهُ
وَذكر مُحَمَّد فِي الزِّيَادَات إِذا اجْتمع مَعَ الصَّغِير أَبَوَاهُ لم يفرق بَينه وَبَين وَاحِد مِنْهُمَا وَجَاز أَن يفرق بَينه وَبَين من سواهُمَا مَعَهُمَا
وَإِذا اجْتمعت الْقرَابَات غير الْأَب وَالأُم فَإِن كَانَت من جِهَات مُخْتَلفَة كَأُمّ الْأَب وَأم الْأُم وَالْخَالَة والعمة لم يفرق بَينه وَبَين وَاحِد مِنْهُم
وَإِن كَانُوا من جِهَة وَاحِدَة كالإخوة أَو العمات أَو الخالات جَازَ بيعهم من غير كَرَاهَة إِلَّا بيع وَاحِد مِنْهُم
وَيجوز بيع الْبعيد إِذا وجد من هُوَ أقرب مِنْهُ لِأَن فِي الْجِنْس الْوَاحِد الشَّفَقَة من جنس وَاحِد فيكتفي بِوَاحِد
وَعند اخْتِلَاف الْجِهَات يخْتَلف الشَّفَقَة فَلِكُل نوع شَفَقَة تخَالف النَّوْع الآخر فَلَا بُد من اجْتِمَاع الْكل
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
صفحة 2 من اصل 2 • 1, 2
مواضيع مماثلة
» قَالَ الْفَقِيه الزَّاهِد ابو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مَسْعُود الألبيري رَحْمَة الله عَلَيْهِ
» تحفة الاطفال الجمزوري
» تحفة الاطفال مكتوبة
» تحفة الاطفال مكتوبة ومشكلة
» تحفة الاطفال الجمزوري
» تحفة الاطفال مكتوبة
» تحفة الاطفال مكتوبة ومشكلة
صفحة 2 من اصل 2
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى