منتديات أنوار المدينة
أهلاً وسهلااً بك زائرنا الكريم إذا كانت هذه زيارتك الأولى نرجو من حضرتك التسجيل
حتى تتمكن من استعمال العناوين الخارجية

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتديات أنوار المدينة
أهلاً وسهلااً بك زائرنا الكريم إذا كانت هذه زيارتك الأولى نرجو من حضرتك التسجيل
حتى تتمكن من استعمال العناوين الخارجية
منتديات أنوار المدينة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

بين الأقحوانة وذات المنديل

2 مشترك

اذهب الى الأسفل

بين الأقحوانة وذات المنديل Empty بين الأقحوانة وذات المنديل

مُساهمة من طرف شريف ابراهيم الإثنين 30 أبريل 2012 - 19:47






بين الأقحوانة وذات المنديل
كانت النقلة إلى بغداد في مطلع العام الدراسي (1943 - 1944) والى دار المعلمين منها تحولا إلى عالم جديد يكفل للسياب مزيدا من الثقافة وقسطا من الشهرة الأدبية، وانفتاح العينين على صخب الحياة ومختلطات أحداثها في إبان الحرب العالمية الثانية، ويوسع الكوة التي يطل منها على العالم الخارجي، ويقرب إلى انفه الفاغر على روائح الأنوثة نماذج متنوعة من نساء يعشن في الواقع عيش الآدميين الذين يخطئون اكثر مما يصيبون، ويخضعون للنزوات العابرة، وتتحول بهم العلاقات حينا إلى اليمين وحينا إلى اليسار، ويفلسفون الهجرة المتأرجحة بهم بين الواقع والمثال.
ومن عجب أن " الراعي " الذي كان يهم بمفارقة المروج الحبيبة لم يبك لان القطعان ستغيب عن ناظريه، وإنما تغنى بالسلوان واشتق معنى شعريا من الفراق يحيله إلى حقيقة ضرورية. ها هو قد انفرد عن من يحب، وهل يمكن للنور ان ينفذ من بين دفتي النافذة إلا إذا انفردت إحداهما عن الأخرى، وهل يمكن للطائر ان يطير إلا إذا تباعد جناحاه من منشورين (1) ؟
__________وكنا لوحتي نافذة في هيكل الحب ... فلو لم تفترق لم ينفذ النور إلى القلب ... وكنا كجناحي طائر في الأفق الرحب ... فلولا النشر والتفريق لآرتد إلى الترب ... ولكنه في ختام هذه القصيدة يشعرك بأنه يسخر من نفسه ومن قدره حين يقول:
وكنا شفتي هذا القضاء مفرق الصحب ... فلو لم تنفرج لم تضحك الأقدار من كربي ... وكان الشاب الضاويبذكرى الرصافي، وغدا احتفال بمرور أربعين يوما على وفاة عبد المسيح وزير، وبعد غد مقام تهنئة بفوز الشاعر خضر الطائي بجائزة أدبية (1) . دنيا مناسبات تفرض على الشاعر الذي لم يعرف سوى تصوير خلجاته الذاتية أن يصبح " خطيبا " أو " عبد قافية "، ولكن لا بأس: أن للشهرة سحرها، ولو كان ذلك على حساب الإخلاص الفني، وستتيح له هذه الندوة الصغيرة أن يلقي شعرا غير معلق بمناسبة. هيئا له أحد أصدقائه الجدد؟ الأستاذ محمود العبطة - إحدى هذه الفرص، وجمع له عددا من الأدباء ألقى عليهم من شعره الذاتي ما يملك إعجابهم فقام إليه الشاعر هادي الدفتر وقبله، ودنا منه خضر الطائي مهنئا، وتحول عبد الرحمن البناء فجلس إلى جانبه (2) ؛ ذلك شيء لم يتح له في جيكور أو في البصرة، وها هي زاوية من بغداد تعترف به شاعرا ينتظره مستقبل عظيم.
ولو رددنا الأمور إلى أسبابها الحقيقية لوجدنا ان شعر بدر حينئذ لم يكن هو الذي يملك الإعجاب، وإنما هو ذلك التلاحم بين الإنسان والكلمات، تلاحما تضيع فيه الحدود بين الصوت والمعنى والملقي نفسه، ويغدو كل ذلك نبضات أو جيشانا من الدروع، أو حشرجات مختنقة في قبضة الكآبة والموت، وظلت طريقة بدر في الالتقاء على هذا اللون سواء أكان شعره هادرا أم خافتا، متحمسا أم باكيا، ولهذا عبر عنها من سمعوا إلقاءه، في فترات متفاوتة، تعبيرات متقاربة، فقال الأستاذ العبطة وهو يتحدث عن دور مبكر في وقفات بدر أمام مستمعيه " وأخذ يقرأ شعرا من أنماط شتى بأسلوب مؤثر وحركات غريبة، إذ كان يندمج في جو شعره اندماجا عجيبا ويؤشر إشارات تفصح عما في قلبه " (3) .
__________
(1) العبطة: 7.
(2) العبطة: 8.
(3) العبطة: 7 - 8. يحمل في حقيبته بين مطوى الثياب مجموعة من الشعر الذي كان قد نظمه قبل تلك الرحلة، ويعلل الظمأ اللاغب إلى الشهرة بري وشيك؛ انه " الفتح " الذي تركع له بغداد راضية عن استسلامها، لأن الغازي الجديد لا يحمل لها دمار الغزاة السابقين. ولكن هذا " الفاتح " الرقيق الكئيب كان يحمل فوق عينيه وحول شغاف قلبه غشاوة من الرومنطقية الأولى، تحول بينه وبين رؤية المدينة على حقيقتها، وتشهد إلى الماضي وذكرياته، وتجعله وحيدا في زحمة الناس.
وحين هبط المدينة تلقاه صديقه القديم خالد، وأخذ بيده في تعريفه إلى زواياها ومنعطفاتها، ولم يطل به الوقت حتى تعرف إلى عدد غير قليل من الأدباء والمتصلين بالحركة الأدبية، وكان أول اثر لهذه المعرفة أن وجد نفسه واحدا بين كثيرين يخضعون حومة الادب، وانه ان شاء الظهور في خضم المنافسة فلا بد له من أن يتفرد، إذ لم يعد شعره قاصرا على التغني المنفرد في سكون الريف أو على المراسلات الدورية بينه وبين بعض الأصدقاء؛ فانه طالب في دار المعلمين العالية، والعيون تنفرس فيه بحثا عن الشاعر المستكن في مح عظامه؛ وهو قد اصبح عضوا في ناد أدبي صغير، يسمع فيه صوته: فاليوم هو الاحتفال
وقال الشاعر بلند الحيدري وهو يممىء إلى الانفصام القائم بين حقيقة الشعر والحركات التمثيلية: " ولم نكن لنمل من سماعه رغم ما في إلقائه من دراماتيكية لا تبدو مريحة في أحيان كثيرة " (1) . وتقول الأديبة السيدة خالدة سعيد متحدثة عن إلقاء بدر في فترة متأخرة: " كان يقف على منبر الندوة اللبنانية بهيكله الواهي وعينيه الصغيرتين يصرخ بصوت غريب تموجه قشعريرة مرعبة، يتفجر من أبعاد قصية " (2) ؟ وتلك أقوال متقاربة في الدلالة، وان تفاوتت فيها الصياغة التعبيرية.
ومن رأى بدرا في تلك الفترة وهو يرتاد تلك الندوات الأدبية ويذهب في صحبة خالد إلى جمعية الشبان المسلمين ويزور جريدة " الاتحاد " في محلة الصابونجية ليلتقي بلفيف من الأدباء، ويعمد إلى مقهى " الزهاوي " لأنه يعرف أنه سيلقى فيه المشتعلين بالصحافة والأدب ويتمشى في شارع الرشيد مع فئة من الأصدقاء، ويضحك بقهقهة عالية في ساحة دار المعلمين، ويداعب هذا ويدبر (المقالب) المضحكة لذاك من رفاقه، وقدر انه سابح ماهر في تيار المجتمع، وأن بغداد استطاعت أن تكون أما رءوما تضمه إلى صدرها. ولكن الحقيقة كانت على خلاف ذلك، فقد كان بدر حينئذ ما يزال وحيدا تائها عن نفسه، لا يجد له منتمى، ولا يحاول الانتماء: فهو يطلب الوحدة لنفسه في مقهى " إبراهيم عرب " أو مقهى " مبارك " ومعه عدد من الكتب اغلبها من الدواوين الشعرية، فإذا سئم القراءة حومت به الذكريات حول الريف وحياته الوادعة لبريئة، وهالة أن يجد هوة قد أخذت تنفرج تحت قدميه بين هذه الحياة الجديدة وتلك الحياة التي عاش يتغنى بها، وأخذت مخيلته تقارن بين ما كان وما جد من سئون. وفي قصيدة " الذكرى " (3) نجده
__________
(1) أضواء: 40.
(2) أضواء: 37.
(3) تاريخ هذه القصيدة ليلة 18/8/1943.يستعيد اللوحة القديمة، ويعود على غصنين من الذكرى إلى ماضيه إلا انهما يذوبان لدى حلول الخريف ويعجزان عن الطيران به إلى مرج الرعاة:
ودوحة الذكرى تسلقتها ... مجتذبا أغصانها المزهرات
مستقصيا ما بينها فجوة ... تمر منها النسيم الهائمات
أبصرت منها ذكريات الصبا ... على نجيل المرج مستلقيات
والبحر يسعى دونها زافرا ... فالموج آهات حطمن الصفاة
يا مرج هل تذكرني راعيا ... اعبد فيك الله والراعيات
والبحر ما كان سوى جدول ... ينير في الليل سبيل الرعاة * * *
قالت لي الدوحة لا تيئس ... ستهبط المرج ففيم الشكاة
هاك جناحين فطر وائته ... واستوح فيه المتع الطارئات
وقدمت بين دموع الندى ... فرعين من أغصانها المورقات * * *
غنى الخريف الغاب ألحانه ... فانتثرت أوراقه راقصات
وقبل أن أدرك ما أبتغي ... ذوى جناحاي مع الذاويات كان الحنين إلى الرعاة يؤرقه، وكانت صورة " هالة " ما تزال تعيش في قلبه، رمزا لكل ما يجب في الريف، ولهذا لم يكد يجد الفرصة سانحة في عطلة الشتاء (1943) حتى خف إلى القرية، ولكن قصيدة " تنهدات " (1) تنبئ انه لم يستطع أن يراها؟.. " انها لن تأتي " ذلك ما قاله في التوطئة للقصيدة: أكان ذلك لان فصل الشتاء حال دون قدومها
__________
(1) تاريخها 6/12/1943.أم لأن العهد قد انتهى؟ انه يخبرنا في القصيدة أنها أصبحت نائية، حين يقول مخاطبا سعف النخيل:
من كنت أحذر أن تحجب طيفها ... عن ناظري نزلت بأبعد منزل
سيان عندي اليوم قفر موحش ... وظلال روض مستطاب المنهل وعلينا ان نقدر أن هذا النأي كان مكانيا، وكان طارئا، ولعل من أسبابه أن الراعية لم تعد راعية، بعد أن مات القطيع، وسأل عنها فقيل له أن المروج لن تحظى بعد بطلعتها الجميلة:
أحزنا على ما أصاب القطيع ... أليف الروابي اعتراك الألم؟
سأبكي وقد كنت تستضحكين ... إذا الدمع من ناظري انسجم (1) ومثل هذا التقدير ينسجم تماما مع قصائد نظمها من بعد يحن فيها إلى راعيته، حين عاد يستأنف العام الدراسي. وفي هذه الإجازة الشتوية لم ينس أن يقدم إلى القرية تحية إلا بن البار ويتحدث عن مواطن الجمال في جوانبها (2) :
صور تسجد النفوس لديها ... وتضج القلوب بالصلوات
أينما دار ناظري طالعتني ... فتنة تستعيدها نظراتي ولما عاد يجدد العهد بدار المعلمين، اخذ يحاول أن يخلق شيئا من المواءمة بين نفسه وبيئته الجديدة؛ وكانت الأسابيع القليلة التي قضاها في دار المعلمين قبل عطلة الشتاء قد عرفته إلى بعض الفتيات فيها، وكان قدر قليل من اللطف في المعالمة في لغة الخطاب والابتسامة عند التحية كافيا ليحمله على أجنحة الخيال، ويهيم به في مسارب الإلهام، وفجأة وجد نفسه أسير حب جديد: هنالك اثنتان تعاملانه بلطف
__________
(1) ديوان إقبال: 93.
(2) المصدر نفسه: 72 (22/12/1943) .وتستمعان إلى شعره وتبديان إعجابهما بذلك الشعر؟ وهذه كناية إذا ترجمت فهم منها انهما معجبتان به، أليس تقدير العبقرية تقديراً للعبقري نفسه؟ أما إحدى الفتاتين فتمتاز برقة وعذوبة وعينين وادعتين ونغمة حلوة وغمازتين لطيفتين، وهو يسميها " الأقحوانة "؟ مترجما اسمها الإنكليزي - وأما الثانية فإنها؟ في نظره - جميلة، أو بارعة الحسن، وإذا أراد أن يميزها بسمة فارقة سماها " ذات المنديل الأحمر "، وقد عرف من الأحاديث المتبادلة في رحاب الكلية أنها تكبره بسبع سنوات؛ وتلك حقيقة لا أثر لها في الحب، بل لها كل الأثر إذا كان السياب هو المفتون، فهو ما فتئ يبحث عن " أم "، وهذه أم وحبيبة معا، فهي أذن مطمح النظر، ومهوى الفؤاد، وكل المنى، ومن غير المستغرب أن يصف لها بدر في أول قصيدة ينظمها فيها غربته التي باعدت بينه وبين أبيه، وحاجته " لى ما يعوض عطف الأم (1) :
خيالك من أهلي الاقربين ... ابر، وان كان لا يعقل
أبي منه قد جردتني النساء ... وأمي طواها الردى المعجل
ومالي من الدهر إلا رضاك ... فرحماك فالدهر لا يعدل وحين ألحت على ذهنه حقيقة السنوات التي تفصل بينهما تألم لذلك (2) :
مشى العمر ما بيننا فاصلا ... فمن لي بأن اسبق الموعدا
ومن لي بطي السنين الطوال ... ستمضي دموعي وحبي سدى ثم تذكر أن الحب " حاسب ماهر "، يستطيع أن " يطرح " السنين الزائدة جانبا فإذا العمر أخو العمر:
__________
(1) ديوان إقبال 82 - 83 وتاريخها 31/1/1944.
(2) قصيدة " أراها غدا " 21/4/1944.أراها فأذكر أني القريب ... وأنسى الفتى الشارد المبعدا
أراها فأنفض عنها السنين ... كما تنفض الريح برد الندى
فتغدو وعمري أخو عمرها ... ويستوقف المولد المولدا ومن هذه القصيدة نفسها نعلم أن الشاعر كان يتعذب بحبه في صمت وأن " ذات المنديل الأحمر " لم تكن تعلم شيئا عن هذا الحب:
أغض إذا ما بدت ناظري ... فهيهات تعلم كم سهدا
ولو أنها نبئت بالغرام ... - غرامي - لقربت المنشدا
وقالت أأعصي نداء المحب ... حرمت الهوى ان عصيت الندا وأما " الاقحوانة " فان إعجابه بها لم يرتق إلى مستوى الحب، ولكن رقتها حركت مشاعره بوجد المحروم، وإعجابها بشعره قد استثار رضاه؛ وحين استعارت منه ديوان شعره، ذهبت به الأخيلة مذاهب، وأخذ يترنم بالسعادة التي نالها ديوانه فهو حينا فوق النهدين، وهو حينا تحت وسادة إحدى الغيد، ان " الاقحوانة " لم تستعره لتنفرد بقراءته، ولكنه سيسافر في " رحلة معطرة " بين الايدي الجميلة الناعمة (1) :
ديوان شعر ملؤه غزل ... بين العذارى بات ينتقل
أنفاسي الحرى تهيم على ... صفحاته، والحب والأمل
وستلتقي أنفاسهن بها ... وترف في جنباته القبل
وإذا رأين النوح والشكوى ... كل تقول: من التي يهوى وسترتمي نظراتهن على الصفحات بين سطوره نشوى ...
ولسوف ترتج النهود أسى ... ويثيرها ما فيه من نجوى
ولربما قرأته فاتتني ... فمضت تقول: من التي يهوى
__________
(1) أزهار وأساطير (148 - 150) وتاريخها 26/3/1944.ومما يجري مع طبيعة هذا الحلم أن يتمنى السياب لو أنه كان هو مكان ديوانه:
يا ليتني لصبحت ديواني ... لأفر من صدر إلى ثان
قد بت من حسد أقول له ... يا ليت من تهواك تهواني
ألك الكؤوس ولي ثمالتها ... ولك الخلود وانني فأني؟! وكما ودع الشاعر ديوانه وهو يفر إلى أحضان العيد حياه لدى عودته بقصيدة وطأ لها بقوله: " إلى ديواني العائد من تجواله بين العذارى؟. إلى ذلك الزورق المتنقل بين موج النهود أرفع زفرتي " فكرر الحديث عن حسده له لتنقله بين مفاتن الحسان، وتمنيه لو كان هو مكانه، وشبهه بالزورق الذي كان ينتقل بين أمواج النهود ثم عاد إلى صدر صاحبه، إلى مرفأ موحش؟ وقد مزق منه الشراع. وتسئل في لهفة قائلا (1) :
أنلت من عطفهن يا ورق ... ما لم ينله المسهد الأرق
فكنت منديل كل باكية ... منهم ينتاب روحها القلق
سددن أنظارهن نحوك يا ... ديوان شعري، ولست تحترق!!
أما تراني أكاد أن نظرت ... لي ذات حسن تذيبني الحرق والبيت الأخير هو سر المشكلة السيابية وهو يومئ إلى مدى ما يعانيه صاحبه من لهفة إلى نظرة حنو، ولهذا كان عطف " الاقحوانة " شيئا كبيرا كالحب نفسه، وبين ذهاب الديوان وعودته؟ حسبما يشير تاريخا القصيدتين - مدى أسبوعين، في أثنائهما كانت " الاقحوانة " تسير في ساحة الكلية وبيدها وردة، وأخذت على مرأى من بدر تنزع
__________
(1) ديوان إقبال (95 - 96) وتاريخها خطأ في الديوان إذ لا بد أن يكون 12/4/1944.أوراقها وتنثرها، فجن جنون الشعر في نفسه، وذهب ينظم قصيدة بعنوان " الوردة المنثورة " ويبدأها بمطلع يذكر بقصيدة للشاعر الروماني كاتولس حين أخذ يبكي موت طائر كانت حبيبته تدلله (1) ، يقول بدر: " أعولي يا قياثر الشعراء " ثم يقارن بين التي تحطم القلب وتنثر الوردة فلا يرى بينهما فرقا:
غير ان التي تحطم قلبا ... تنثر الزهر مثله في الفضاء وبعد أن يعدد ما لتلك الوردة من قيمة عند الروض والطير والنهر والراعي يعود فيندم على هذا الإغراق وينكر على نفسه ما بدأه، وينقض كل ما قرره:
فانثري الزهر كل يوم ليحيا ... في فؤادي ويرتوي بدمائي
أنثريه لتلتهمي قلبي الغض ... فيشدو لحون أهل السماء (2) وامتد به الوهم الملهم، فوقف ذات مرة أو تخيل انه وقف - أمام زهرة أقحوان، فأخذ يخاطبها بقوله (3) :
جاء الدجى يا زهرة الأقحوان ... فانسل نحو الموعد العاشقان وجمع بين الزهرتين في نطاق حين تمثل " الاقحوانة " وهي لا تعلم شيئا عن حبه الذي يؤرقه ولذا فهي لا تسمع ولا تمنح العطف المشتهى:
ماذا ينال القلب يا ويحه ... إذ يعطف الروض ولا تعطفان
__________
(1) الإشارة إلى القطعة الثالثة من قصائده، والعلاقة هي التهويل في الاستدعاء، يقول كاتولس ما ترجمته:
أيها آلهة الحب ... ويا آلهة الحسن
ويا أطيب أخلاقا ... وأعراقا من المزن
تعالوا فأشركوا عيني ... بدمعي واشهدوا حزني (2) ديوان إقبال (105 - 106) وتاريخها 2/4/1944.
(3) غير مؤرخة، ولكن سياق الأحداث يضعها في هذه الفترة من الزمن.وأي جدوى في أغاني الهوى ... إذ تسنع الدنيا ولا تسمعان
وأي خير في الهوى كله ... ان كنتما بالحب لا تعلمان
يا زهرتي قد مت يا زهرتي ... آه على من يعشق للأقحوان
لولا التي أعطيت سحر اسمها ... ما بت استوحيك سحر البيان ووقف سحر " الأقحوانة " عند هذا الحد إذ كانت " ذات المنديل الأحمر " تدفع صورتها من مخيلته وتحل محلها، وقد مرت به الأشهر الثلاثة الأخيرة من هذه السنة الدراسية (نيسان وآبار وحزيران) وتباريح هذا الحب تعذبه، ولسنا ندري مبلغ ما أدركته ذات المنديل الأحمر من لواعج في نفسه، ومدى قدرته على أن يبوح بهذا الحب في غير الشعر، ولكن الذي ندريه انه اصبح يعاني حالة نفسية قلقة، فانكفأ على نفسه يتحدث لها عن " قبض الريح " (1) :
غنى ليصطاد حبيباته ... فاصطاد أسماء حبيباته انه محب لا يملك من كتاب الحب إلا الفهرست، ولا يرى في الكتب الواقعية التي تفرض عليه قراءتها في الكلية إلا قضبان سجن (2) :
سجين ولكن سجني الكتاب ... وأغلالي الآسرات السطور
فما بين جنبيه ضاع الشباب ... وفوق الصحائف مات السرور ولهذا فهنو برم النفس بمعايشة الموتى، وحق له الانطلاق، فان الشاعر يجب ألا يفني عمره في ظلمة الكتب وسواد حبرها:
عيوني بآفاقه ساهرات ... وحولي يبيت الورى رقدا
بأرجائه ألقي بالممات ... كأني على موعد والردى
وما بين ألفاظه القائمات ... أشعة عيني ضاعت سدى
وما بين أوراقه الصامتات ... تلاشى غنائي ومات الصدى
__________
(1) ديوان إقبال: 101 وتاريخها 21/4/1944.
(2) المصدر نفسه: 107 وتاريخها 25/4/1944.وما كاد يؤدي الامتحان النهائي حتى هرب من بغداد خفية دون أن يعلم بسفره أحد من اصدقائه، وهو يسمي هذه العودة المفاجئة " تلك المغادرة الشاذة " ويضيف مخاطبا صديقه خالدا: " ولكن الشاعر يقدر ظروف الشاعر فيعذره، ومع هذا فقد اصبح من الصعب علي أن انفي عن نفسي تهمة الشذوذ؟ لا سيما في الحب " (1) .
وحسب بدر انه هرب من بغداد أفلت من تلك الأغلال التي قيدته بها: أغلال الكتب وأغلال العواطف، ولكنه كان حليف كتاب، وما كانت ثورته لتنصب إلا على الكتب المقررة، وأما أغلال العواطف فانه هو الذي كان يلفها حول وجوده مختارا راضيا، ولذلك تبعته بغداد إلى الريف، وخالطت " الوحدة والنخيل والجداول والمد والجزر وليالي القمر والشط الجميل الساجي " (2) : فكان إذا تنسم عبير الأزهار البرية؟ بل إذا قرأ قصيدة زهرية - تذكر " عرف الاقحوانة " (3) ، وذات يوم كان يقلب جريدة " الزمان " فإذا به يقرأ: " تنعى بمزيد الأسف الآنسة (؟.) كريمة الدكتور (؟.) " انه اسم " الاقحوانة " واسم أبيها؛ هل من المعقول؟ " انا الآن في هم وقلق شديدين.. انا حائر.. لو عرف عنوان ابيها لسألت عن هذه العذراء التي أوحت إلي قصيدة " ديوان شعر " وقصيدتي " الاقحوانة " و " الوردة المنثورة؟ " (4) ولا ريب في انه عرف من بعد أن ذلك كان محض توافق بين اسمين، ولكنه لم يعرف انها؟ مد الله في عمرها - عاشت لتقول في رثائه كلمة وفاء نبيلة.
ولا ريب في أن " ذات المنديل الأحمر " قد كانت تعيش في خياله،
__________
(1) من رسالة إلى خالد صادرة من " أبو الخصيب " بتاريخ 11/7/1944.
(2) الرسالة السابقة.
(3) الرسالة السابقة.
(4) من رسالة إلى خالد 26/7/1944.ولكنا يجب ألا نسرف في التصور، فان القصائد التي نظمها فيها تدل على أن الحب كان يتجه إلى الانحسار، ومثل هذا الحكم يبدو غريبا لأول وهلة، ولكنا نجده يذكرها في قصيدتين أرسلهما إلى صديقه خالد إحداهما " في المساء " (أو في الغروب) والأخرى " الشعر والحب والطبيعة " وكلتا القصيدتين تمثل ارتدادا إلى اللوحات المسطحة التي كان شغوفا بها من قبل، وليس فيها أية حركة انفعالية لا بالطبيعة ولا بالحب، أضف إلى ذلك ان ذكر الحبيبة فيهما يجيء عرضا، ويجيء موشحا بلون من التصور؟ أو الواقع - الصبياني؛ ففي قصيدة " في المساء " يتحدث عن صورة الشمس في الغياب، ثم يحاول أن يقرن ذلك بغياب شمس العمر فيعجز عن الإفصاح بالمعنى الذي يريده (1) ، ثم يتحدث عن سحابة اعترضت غياب الشمس، ثم يعود ليذكر وداعه لصاحبته (2) :
قسما بمن اذكرتني بوداعها ... لقد ابتعثت صبابتي وتحسري
هي ذي (؟) والقلوب تحفا ... من كل منكسر الجناح مسعر
جلست وما جلس الفؤاد من الجوى ... وتبسمت فبكى ولم يتصبر
وهبت تحيتها لآخر غيره ... فبكى وقال لعلها لم تبصر
وقد اكتفى لو أنصفته بنظرة ... لكنها حرمته طيب المنظر
فتحجبت بسحابة من صحبها ... وتسترت فصرخت: لا تتستري
لو كان يسعفني لصغتها ... مرثية لفؤادي المتفطر
__________
(1) حين أرسل قصيدته هذه إلى خالد انتقد أحد رفاقه المقطع الذي يتحدث فيه عن شمس العمر فكان جوابه " لقد كنت ناويا - منذ أرسلت لك القصيدة - أن احذف مقطع (يا شمس عمري) بأجمعه انه اقرب إلى الرمزية منه إلى الكلام المفهوم، وانني فاعل أن شاء الله " (من رسالة لخالد 26/7/44) .
(2) تاريخها 26/6/1944 (ضمن رسالة إلى خالد) .فانتظر إلى الافتعال في ذكر السحابة ليصح له من بعد أن يقول على سبيل المقارنة " فتحججت بسحابة من صحبها "، ولعلك ترى ان هذه الأبيات تشكو من ثلاث نقائض: ضعف التركيب، وافتعال المطابقات، وتفاهة الواقع الذي يريد الشاعر تصويره؛ ولا ترتفع القصيدة الثانية " الشعر والحب والطبيعة " عن هذا المستوى من الافتعال، وكل ما يهمه من حب " ذات المنديل الأحمر " هو: كيف يمكن أن يهتز للطبيعة دون أن تطأ هي السهول ولا تمشي فوق التلال:
أيهز قلبي جدول وبحيرة ... وأرى على قمم الربي ما يلهم
و (؟) لم تطأ السهول ولا مشت ... فوق التلول حبيبة تتبسم أما هي، أما ضرام النار المتسعر بين الجوانح، أما العذاب الذي كان يتحدث عنه من قبل فكذلك قد اختفى فجأة، كأن الريف قد ألقى على اللهب السابق حفنات من تراب. ولهذا قدرنا أن الهوى كان في انحسار وهو منحسر ولا بد، لأنه خفقة مكتتمة لم تثر أية استجابة، ولهذا ماتت وحدها، كما اتقدت؟ يوم اتقدت - وحدها. وحين غابت ذكريات تلك الخفقة وراء حجاب كثيف من الزمن (يناهز العشرين عاما) تناولها بدر بصراحة الإنسان الذي لم يعد يهمه ان يخدع نفسه فقال (1) :
وما من عادتي نكران ماضي الذي كانا ... ولكن؟ كل من أحببت قبلك ما أحبوني ... ولا عطفوا علي، عشقت سبعا كن أحيانا ... ترف شعورهن علي، تحملني إلى الصين ...
__________
(1) الشناشيل: 59 وما بعدها.سفائن من عطور نهودهن أغوص في بحر من الأوهام ... والوجد ... فألتقط المحار أظن فيه الدر ثم تظلني وحدي ... جدائل نخلة فرعاء ... فابحث بين أكوام المحار لعل لؤلؤة ستبزغ منه كالنجمة ... وإذ تدمى يداي وتنزع الأظفار عنها لا ينز هناك غير الماء ... وغير الطين من صدف المحار فتقطر البسمة ... على ثغري دموعا من قرار القلب تنبثق ... لأن جميع من أحببت قبلك ما أحبوني. ... وليس هناك ما هو اشد مرارة من تصوير ذلك التشبث بالوهم كما تنقله هذه القطعة، حتى إذا جاء دور " ذات المنديل الأحمر " في قائمة المحبوبات السبع قال فيها:
وتلك؟ لانها في العمر اكبر ام لأن الحسن أغراها ... بأني غير كفء، خلفتني كلما شرب الندى ورق ... وفتح برعم مثلتها وشممت رياها ... وأمس رأيتهما في موقف للباص تنتظر ... فباعدت الخطى ونأيت عنها، لا اريد القرب منها ... هذه الشمطاء ... لها الويلات؛ ثم عرفتها: أحسبت أن الحسن ينتصر ... على زمن تحطم سور بابل منه، والعنقاء ... رماد منه لا يذكيه بعث فهو يستعر؟ (1) . ... كل حظه منها أنها كانت جميلة، أما قلبها فلم يخفق بحبه، بل لم تتلق نظراته برقة كرقة " الاقحوانة "، ولكنها استطاعت ان تشغله عن " هالة " وان تحجب صورتها؛ والحقيقة ان هالة قد ضاعت من عالمه
__________
(1) شناشيل 59 - 60 وتاريخها 19/3/1963.على نحو عفوي؟ كما سيضيع المنديل الأحمر وصاحبته -؛ ضاعت أو توارت في ثنايا الوعي الباطن سيان؛ إذ معنى ذلك أنها؟ بكل ما غرست من وجد في سريرته الخصبة - لم تعد هي نفسها مثار شعر أو منبع الهام. وهنا يعترضنا رأي لصديق من أصدقاء السياب، لعله كان من المطلعين على بعض ما كان يكنه من هوى، أعني بعض ما باح في ساعة من ساعات التناجي بالذكريات، إذ يقول في حديثه عن ذلك الحب الريفي: " وتمتد أواصر المحبة وتقوى، وتتعمق وشائج اللقيا وتتعدد أسبابها، وإذا بالمواعيد تضمنها معا عند شاطئ بويب حينا وفي منحنى طريق ريفي حينا آخر، وفي جوسق لبيادر التمور مرة ثالثة؛ ويأتيان إلا أن يعيشا الاماسي وأوقات الصباح معا يرسمان خطوط لوة الغد، وهما غارقتان في النشوة (بين) كوخ قصبي صغير يحميهما من أعين الرقباء؛ ويضيء الحب أمام السياب كل معالم الريف وشواهده فيجد من النخلة وأعشاش العصافير وقواقع النهر معاني جديدة لم يعرفها من قبل ان يتحابا؟.. وكانت سنوات دراسته في كلية التربية مليئة بحنينه إلى قرويته الحسناء، حيث ينتظر العطلة بفارغ الصبر.. وذات يوم بينما هو عائد من بغداد يلتقي بحبيبته لقاء شاحبا فتخبره بأنها لم تعد له وان قلبها لم يزل عامرا بحبه وهواه؛ ان أهلها عقدوا قرانها على شخص سواه؛ فتؤلمه المفاجأة إيلاما شديدا، ويجن جنونه ويشعر بالمرارة والقسوة، ويمنعه ذهوله وشرود عقله من تصديق الخبر؛ ويستمر بعد هذا اللقاء يندب الحظ العاثر ويتطلع إلى السراب والوهم لاعنا العادات الشعبية وكافرا بالتقاليد وباحثا عن ضوء لروحه في القرية المظلمة، وتلك هي أولى تجاربه المريرة " (1) .
وبعض هذه الصورة عامر بالصدق مؤيد بالوقائع، فأن هذا الحب
__________
(1) البصري: 8 - 9.هو الذي جعل كثيرا من مظاهر الريف حافلا بالمعاني، بل هو الذي خلق ذلك الاتجاه " الرعوي " الذي وصفناه من قبل، ولكنه ليس هو وحده الذي أسلم السياب إلى معانقة الوهم والسراب، وتحول بشعره إلى " مرثية " مديدة النفس، وجعله صورة للبحث عن شيء ضائع إلى الابد؛ انما الذي فعل ذلك هو استقطاب التجارب مجتمعة بعد إخفاق إثر إخفاق، ولن تتجسم فكرة البحث عن " الزمن الضائع " لدى السياب، ولن ينضج تصوره العميق لأبعاد ذلك الضياع إلا حين يصطدم بحب من يسميها " المنتظرة "، وتلك حقيقة لا تجعل انتهاء العهد بحبيبته الريفية نقطة تحول هامة، إذ مرت على السياب سنوات بعد فقدانه لريفيته السمراء وهو ما يزال يتشبث بالبحث عن فتاته المنتظرة، وحين وجدها وفقدها؟ حينئذ فقط - ارتسمت المسافة المديدة بينه وبين الدنيا التي تستطيع أن تتقبله عاشقا أو معشوقا أو طفلا في حاجة إلى حنان، فأخذ يمشي؟ وهو مسمر القدمين - ليعبر ذلك الجسر الذي يفصل؟ أو يصل - بينه وبين تلك الدنيا.
ومن الحق أن صورة تلك الفتاة الريفية لم تعد تخايله إلا حين فقد ذات المنديل الاحمر، هنالك وقف يتأمل الماضي ويؤرخ ذكرياته، فوجد نفسه أمام تجربتين هما في الحقيقة تجربة واحدة مكررة، فقد أدرك في لحظة من التأمل انه لم يحب فتاة الكلية إلا لأنها كانت صورة أخرى من فتاة الريف، وتمثل لنفسه انه هتف حين رأى ذات المنديل الأحمر (1) :
أما كنت ودعت العيون ... الظليلات والخصلة النافرة
كأني ترشفت قبل الغداة ... سنا هذه النظرة الآسرة
أما كان في الريف كهذا ... أما تشبه الربة الغابرة؟
__________
(1) من قصيدة " أهواء " في أزهار وأساطير: 26 (وتاريخها 1/2/1947) .ذلك هو أثر الحب الأول: انه استحال قوة داخلية، تيارا كهربائيا خفيا، طاقة غير منظورة، تشكل كل حب جديد، وتصبغه بسماتها، لا أن كل حبيبة ستصبح " هالة " جديدة، ولكن الحب دائما لا يفهم إلا في الإطار الريفي، لا أبعاد له إلا النخلة والنهر والمحار، والكوخ على مطلة على صفحة الجدول، أنها الاستحالة كاملة، أنها الطفولة دائما في أحضان الام وعالمها وعالمه الأثير، أنها اليقظة المستمرة للصلة بين الطفل والقبر المحفور في عقله الباطن. ولذلك كانت عميقة الدلالة تلك الصورة التي مثل فيها إخفاقه مع كل واحدة من حبيباته السبع:
؟.. أغوص في بحر من الأوهام والوجد ... فألتقط المحار أظن فيه الدر، ثم تظلني وحدي ... جدائل نخلة فرعاء ... فأبحث بين أكوام المحار، لعل لؤلؤة ستبزغ منه كالنجمة، ... وإذا تدمى يداي وتنزع الأظفار عنها، لا ينز هناك غير الماء ... وغير الطين من صدف المحار، فتقطر البسمة ... على ثغري دموعا من قرار القلب تنبثق، ... لأن جميع من أحببت قبلك ما أحبوني. ... عميقة هي لأنها تصور ذلك الإطار الريفي الذي كان يفرض على كل حب جديد ان يعيش فيه، فإذا لم يستطع أن يعيش فيه، فقد نبا به موضعه؛ هي صورة تجمع بين الحلم والحقيقة فتجمع بين طرفي العمر؟ النشأة والموت. ذلك لأنها ليست محض مجاز شعري، يستخدمه الشاعر كما تستخدم الصور في التوضيح والتبيان على نحو تمثيلي، وحسبنا دليلا ما نزعمه لها من أهمية أن نقرنها بفقرة من رسالة كتبها الشاعر إلى صديقه خالد؟ وهو يقضي الإجازة الصيفية (عام 1944) - يقول فيها: " اكتب إليك رسالتي هذه بعد عودتي من سفرة - مضنية ولكنها جميلة - إلى الجانب الآخر من شط العرب؛ لو تراني وقد القاني الزورق على ارض رسوبية نبت عليها القصب والعشب المائي؟ إذ أن ماء الجزر لا يوصل الزورق إلى الشاطئ - لقد خلعت نعلي وسرت في الطين، وانا اشق طريقي بين القصب، ثم وصولي إلى الشاطئ؟ إلى ارض لا اعرف منها غير أسماء بعض ساكنيها. وقفت وقدماي داميتان، ويداي مزينتان بالجراح على الشاطئ المقفر، أتلفت فلا أرى صدى، وأنصت فلا اسمع غير انين الريح، لقد نسج الخيال رواية عنوانها " موت الشاعر "؟. ولو تحدثت لطال الحديث " (1) .
هذه التجربة الصغيرة التي خرج منها الشاعر " دامي القدمين مزين اليدين بالجراح "، على مسافة غير بعيدة عن النخلة الفرعاء والقبر الذي يقع على الجهة الأخرى من النهر لم توح له إلا بفكرة " الموت "؛ وهي نفس الصورة التي استوحاها من قصص الهوى المخفق، كلاهما؟ اعني الحب وهذه الرحلة - سفرة قصيرة المدى، لكنها متشابهتان في نوع الألم والجراح، وما تنزه الأصابع عند تشبث الشوك والحصى بها، لأنهما متشابهتان في البعد عن النخلة الفرعاء والقبر الذي يقع على مقربة منها، وحين تحيا هذه الصورة نفسها في نفس الشاعر رغم السنوان الطويلة وعوامل النسيان الكثيرة على ظهر هذه الأرض فمعنى ذلك أن رحلة الحب ورحلة العمر - كانتا تنكمشان دائما إلى نقطة البداية، فإذا هما دائما عودة إلى الطفولة، إلى تلك النخلة الفرعاء نفسها التي ظلت تؤويه إليها وهو يبحث عن درة بين المحار فلا يجدها، وكل ما تجاوز هذه النخلة وظلها الوارف فهو ليس حبا، إنما هو إخفاق، أو موت على نحو ما؛ ولهذا كان كل حب مخفقا منذ البداية لأنه يمثل تجربة نمو، وكان الشاعر يقاوم هذا النمو دائما، لأنه يعني الانفصام
__________
(1) من رسالة إلى خالد (البصرة، أبو الخصيب) 26/7/1947 (اقتبست دون حذف) .عن جذع النخلة، وحسبنا ان نورد قوله؟ وهو يشبه الفلتات النفسية ذات الدلالة العميقة - دون ان يهمنا كثيرا أية حبيبة يعني:
أنا أيها النائي الغريب ... لك أنت وحدك؛ غير أني لن أكون ... لك أنت؟ اسمعها؛ وأسمعهم ورائي يلعنون ... هذا الغرام، أكاد اسمع ايها الحلم الحبيب ... لعنات أمي وهي تبكي (1) . ... لقد سجل الشاعر تجربتيه الأوليين في الحب في قصيدة عنوانها " أهواء "؟ فتخلى عن قصيدة له كان قد نظمها قبل حوالي ثلاث سنوات بعنوان " أراها غدا " واستعار منها بعض أبياتها، وضمنها القصيدة الجديدة، وهي تلك الأبيات التي يتحدث فيها عن فاصل العمر بينه وبين ذات المنديل الأحمر ولكنه أضاف إليها أبياتاً أخرى وسعت من معنى هذا الفاصل الزمني، إذ ليست المسألة سبقا في السنين فحسب، وإنما تلك السنين نفسها كانت قد منحت الفتاة؟ دونه - تجربة حب تسامع الناس به، وكانت تجربتها هذه قد جعلت مروره في دنياها عاديا لأنه لم يكن سوى واحد في قافلة طويلة من العاشقين:
وهل تسمع الشعر أن قلته ... وفي مسمعيها ضجيج السنين أطلت على السبع من قبل عشرين عاما وما كنت إلا جنين ...
وأمسى؟ ولم تدر أنت الغرام ... هواها حديث الورى أجمعين
لقد نبأوها بهذا الهوى ... فقالت: وما اكثر العاشقين وبين هذه الاتهامات التجريحية ووصفه لها بالعجوز الشمطاء يوم لقيها عند موقف " الباص "، كان الشاعر قاسيا في النظر إليها والحكم عليها، مفتونا حانقا، يسميها " الذئبة الضارية " ولكنه لا ينفك يقول:
__________
(1) من قصيدته في السوق القديم " أزهار وأساطير ": 38.وفي ثغرها افتر كل الزمان ... وما عمر آذار إلا شهر
وبالروح فديت تلك الشفاه ... وان اذكرتني بكأس القدر وفي قصيدة " أهواء " نفسها عرض لتاريخه مع فتاة الريف، في تدرج كالذي صوره الأستاذ عبد الجبار البصري: افترار الشفاه بما يشبه البسمة الحانية ثم اللقاء، وفي فصل الشتاء التالي اضطر ان يلجأ هو وإياها إلى ظل الشجر وهو يحتضنها لئلا يصبها بلل، ثم كان خصام أعقبه صلح ولقاء، وهي قد حجبت خديها بكفيها، ثم أرختهما، ومضى عام آخر من الهناءة وهما يلتقيان بالتحايا والبسمات، وهو قد حفر اسمها على جذع نخلة هنالك، ثم تزوجت الفتاة، وناداها وهي تعنى بالرضيع والزوج، غير ساه عن انه لم يعد له وجود في عالمها:
أناديك لو تسمعين النداء ... وأدعوك؟ أدعوك؟ يا للجنون
إذا رن في مسمعيك الغداة ... من المهد صوت الرضيع الحنون
ونادى بك الزوج ان ترضعيه ... ونادى صدى أخفته السنون
فما نفعها صرخة من لهيب ... ادوي بها؟ من عساني أكون وعبارة " من عساني اكون؟ " تحمل الاعتراف باللاجدوى، وبأنه انما يراجع ذكرياته مراجعة التاجر المفلس للدفاتر القديمة.
ولكن لم هذه المراجعة؟ انه يقدم حسابه للمنتظرة، ليقف أمامها نقي الضمير، يستقبل حبها طرد جميع خيالات الماضي:
سأروي على مسمعيك الغداة ... أحاديث سميتهن الهوى وحين يمعن فب اللفتات الملتاعة يحس انه لم ينصف هذه المنتظرة " التي صورتها مناة "؟ فتاة الهوى والخيال - ولذلك يعاتب نفسه على ان المنتظرة ترفعه إلى السماء ما يزال يتحدث إلى " تراب القرى ":
نسيت التي صورتها مناي ... وناديت أنثى ككل الورى!
وأعرضت عن مسمع في السماء ... إلى مسمع في تراب القرى؟أتصغي فتاة الهوى والخيال ... وأدعو فتاة الهوى والثرى؟ وهكذا يتضاءل ذلك الحب في نفسه حين يتشوف إلى حب جديد، دون ان يكون في الأمر صدمة عنيفة. وليست عودته إلى هذه الذكريات محاولة فحسب لاستقبال الحب الجديد بضمير نقي، وإنما هي وسيلة ينبئ فيها كل محبوبة انه لم يكن امرءوا دون تاريخ في الحب، ذلك شأنه كلما لاحت في الأفق فتاة جديدة، انه ينثر على مسمعيها قصص حبيباته السابقات، وهذا هو عندما تحدث إلى الباريسية عن السبع اللواتي احبهن (1) ، وهذا هو الذي كان سببا من أسباب القلق في حياته الزوجية، ومثارا للغيرة والنكد، وإلى هذا يشير؟ بصراحة - في قوله يخاطب زوجته من بعد (2) :
ربما أبصرت بعض الحقد، بعض السأم ... خصلة من شعر أخرى آو بقايا نغم ... زرعتها في حياتي شاعرة ... لست أهواها كما أهواك يا أغلى دم ساقى دمي ... أنها ذكرى ولكنك غيرى ثائره ... من حياة عشتها قبل لقانا ... وهوى قبل هوانا. ... ولا ريب في ان هذه الاعترافات ترمز إلى نقطة الضعف فيه لا إلى الثقة بالنفس، فقد كانت لذته الكبرى في ان يستعيد الماضي لا ليتخلص منه بل ليظل في صحبته، ومن الطريف الغريب في آن معا ان يقف امرؤ يقول لفتاة لم يرها بعد: " سأروي على مسمعيك أحاديث سميتهن الهوى " وان يؤكد لها نظرية تهدم معنى الانتظار وهو يقول:
__________
(1) انظر الشناشيل: 59 وما بعدها.
(2) الشناشيل: 72.وهيهات أن الهوى لن يموت ... ولكن بعض الهوى يأفل
كما تأفل الأنجم الساهرات ... كما يغرب الناظر المسبل
كنوم اللظى كانطواء الجناح ... كما يصمت الناي والشمأل وأية منتظرة هذه التي ترضى ان يقال لها: انك تقفين فوق بحر قد يثور بعد قليل، وفوق نار مكتومة قد تتوهج في لحظة، وعلى جناح مطوي، إذا امتد عنك صاحبه إلى الماضي؛ ان قصيدته " أهواء " هامة في تاريخ شعر السياب لأنها ترجمة جميلة لضعفه ولفترة من حياته.
ومما يلفت النظر ان القصائد الموجهة إلى ذات المنديل الأحمر ثلاث كلهن ينبعن وحدة يمثلها بحر المتقارب وهي " اغرودة " و " أراها غدا " و " خيالك " ومطالعها على التوالي:
كفى طرفك اليوم أن غررا ... بقلب جفا الحب واستكبرا * * *
أراها غدا هل أراها غدا ... وأنسى النوى أم يحول الردى * * *
لظلك لو يعلم الجدول ... على العذب من مائه منزل فلما اراد ان يودع هذا الحب وكل ما كان قبله بقصيدة تاريخية جامعة (قصيدة أهواء) عادت نفسه تجيش بتلك النغمة القديمة. ولست ادري سمة خاصة تميز نغمة المتقارب ولكن استغراق نفسه فيها يدل على أن كان كالعملاق في الردغة كلما حاول الخروج منها ازداد فيها غوصا. وهذه القصيدة بعد ذلك كله تشير إلى أن الفتى الذي درس الأدب الإنكليزي قد استطاع ان يستغل بعض ما درسه في سياقها، فهو في هذه القطعة:
وبالحب والغادة المستبد ... صباها به يلعبان الورق
وكيف استكان الإله الصغير ... فألقى سهام الهوى والحنق
رهان رمى فيه غمازتيه ... وورد الخدود ونور الحدق
إنما يترجم بعض القصيدة الإنكليزية:
Cupid and my campaspe playwd ... At cards for Kisses: Cupid paid: ... She stakes his quiver bow and arrows: ... His mothers doves and team of sparrows: ... Loses them too: then down he throws ... The coral of his lips the rose ... Growing ons cheek but none knows how ... With these the crystal of his brow ... And then the dimple on his chin. (1) ... ولكنا قد أمعنا في البعد عن السياب ابن السنة الجامعية الاولى، فلنعد إلى السياق التاريخي.
__________
(1) المقطوعة للشاعر j.Lylye انظر:
The Golden Treasury 1950 p.
(1) أغنية السلوان (إقبال: 102 - 104) 7/8/1943.
شريف ابراهيم
شريف ابراهيم
نائب المدير العام
نائب المدير العام

عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

بين الأقحوانة وذات المنديل Empty رد: بين الأقحوانة وذات المنديل

مُساهمة من طرف شريف ابراهيم الإثنين 30 أبريل 2012 - 19:54

ودوحة الذكرى تسلقتها ... مجتذبا أغصانها المزهرات
مستقصيا ما بينها فجوة ... تمر منها النسيم الهائمات
أبصرت منها ذكريات الصبا ... على نجيل المرج مستلقيات
والبحر يسعى دونها زافرا ... فالموج آهات حطمن الصفاة
يا مرج هل تذكرني راعيا ... اعبد فيك الله والراعيات
والبحر ما كان سوى جدول ... ينير في الليل سبيل الرعاة * * *
قالت لي الدوحة لا تيئس ... ستهبط المرج ففيم الشكاة
هاك جناحين فطر وائته ... واستوح فيه المتع الطارئات
وقدمت بين دموع الندى ... فرعين من أغصانها المورقات * * *
غنى الخريف الغاب ألحانه ... فانتثرت أوراقه راقصات
شريف ابراهيم
شريف ابراهيم
نائب المدير العام
نائب المدير العام

عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

بين الأقحوانة وذات المنديل Empty رد: بين الأقحوانة وذات المنديل

مُساهمة من طرف عبدالحق شريف الرباطابي الأربعاء 2 مايو 2012 - 10:34

وكيف استكان الإله الصغير ... فألقى سهام الهوى والحنق
رهان رمى فيه غمازتيه ... وورد الخدود ونور الحدق
عبدالحق شريف الرباطابي
عبدالحق شريف الرباطابي
المدير العام
المدير العام

الميزان
عدد المساهمات : 556
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
العمر : 35
الموقع : السودان

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى