كتاب العلم صحيح البخارى
صفحة 1 من اصل 1
كتاب العلم صحيح البخارى
- (كتاب الْعلم)
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع:
الأول: أَن لفظ: كتاب، مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف مُضَاف إِلَى الْعلم، وَالتَّقْدِير: هَذَا كتاب الْعلم. أَي: فِي بَيَان مَا يتَعَلَّق بِهِ، وَلَيْسَ هُوَ فِي بَيَان مَاهِيَّة الْعلم، لِأَن النّظر فِي الماهيات وحقائق الْأَشْيَاء لَيْسَ من فن الْكتاب.
الثَّانِي: أَنه قدم هَذَا الْكتاب على سَائِر الْكتب الَّتِي بعده لِأَن مدَار تِلْكَ الْكتب كلهَا على الْعلم، وَإِنَّمَا لم يقدم على كتاب الْإِيمَان لِأَن الْإِيمَان أول وَاجِب على الْمُكَلف، أَو لِأَنَّهُ أفضل الْأُمُور على الْإِطْلَاق وَأَشْرَفهَا. وَكَيف لَا وَهُوَ مبدأ كل خير علما وَعَملا؟ ومنشأ كل كَمَال دقاً وجلاً؟ . فَإِن قلت: فَلِمَ قدم كتاب الْوَحْي عَلَيْهِ؟ قلت: لتوقف معرفَة الْإِيمَان وَجَمِيع مَا يتَعَلَّق بِالدّينِ عَلَيْهِ، أَو لِأَنَّهُ أول خير نزل من السَّمَاء إِلَى هَذِه الْأمة. وَقد أشبعنا الْكَلَام فِي كتاب الْإِيمَان. فليعاود هُنَاكَ.
الثَّالِث: أَن الْعلم فِي اللُّغَة مصدر: علمت وَأعلم علما. قَالَ الْجَوْهَرِي: علمت الشَّيْء أعلمهُ علما: عَرفته، بِالْكَسْرِ، فَهَذَا كَمَا ترى لم يفرق بَين الْعلم والمعرفة، وَالْفرق بَينهمَا ظَاهر، لِأَن الْمعرفَة إِدْرَاك الجزئيات، وَالْعلم إِدْرَاك الكليات، وَلِهَذَا لَا يجوز أَن يُقَال: الله عَارِف كَمَا يُقَال: عَالم. وَقَالَ ابْن سَيّده: الْعلم نقيض الْجَهْل، علم علما، وَعلم هُوَ نَفسه، وَرجل عَالم وَعَلِيم من قوم عُلَمَاء، وعلاَّم وعلامة من قوم علامين، والعلام والعلامة: النسابة. وَيُقَال، إِذا بولغ فِي وصف الشَّخْص بِالْعلمِ، يُقَال لَهُ: عَلامَة، وَعلمه الْعلم وأعلمه إِيَّاه فتعلمه، وَفرق سِيبَوَيْهٍ بَينهمَا، فَقَالَ: علمت كأدبت، وأعلمت كأديت. وَقَالَ أَبُو عبيد عبد الرحمان: عالمني فلَان فعلمته أعلمهُ، بِالضَّمِّ، وَكَذَلِكَ كل مَا كَانَ من هَذَا الْبَاب بِالْكَسْرِ فِي: يفعل، فَإِنَّهُ فِي بَاب المغالبة يرفع إِلَى الضَّم: كضاربته فضربته أضربه. وَعلم بالشَّيْء: شعر، وَقَالَ يَعْقُوب: إِذا قيل لَك: اعْلَم كَذَا. قلت: قد علمت. وَإِذا قيل: تعلم. لم تقل: قد تعلمت. وَفِي الْمُخَصّص: عَلمته الْأَمر، وأعلمته إِيَّاه فَعلمه وتعلمه. وَقَالَ أَبُو عَليّ: سمي الْعلم علما لِأَنَّهُ من الْعَلامَة، وَهِي الدّلَالَة وَالْإِشَارَة، وَمِمَّا هُوَ ضرب من الْعلم. قَوْلهم: الْيَقِين، وَلَا ينعكس فَنَقُول: كل يَقِين علم، وَلَيْسَ كل علم يَقِينا، وَذَلِكَ أَن الْيَقِين علم يحصل بعد استكمال اسْتِدْلَال وَنظر لغموض فِيهِ، وَالْعلم: النّظر والتصفح، وَمن الْعلم الدِّرَايَة، وَهِي ضرب مِنْهُ مَخْصُوص. ثمَّ الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي حد الْعلم، فَقَالَ بَعضهم: لَا يحد، وَهَؤُلَاء اخْتلفُوا فِي سَبَب عدم تحديده، فَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ: لعسر تحديده، وَإِنَّمَا تَعْرِيفه بِالْقِسْمَةِ والمثال. وَقَالَ بَعضهم، وَمِنْهُم الإِمَام فَخر الدّين: لِأَنَّهُ ضَرُورِيّ، إِذْ لَو لم يكن ضَرُورِيًّا لزم الدّور، وَاللَّازِم بَاطِل، فالملزوم مثله. بَيَان الْمُلَازمَة: أَنه لَو لم يكن ضَرُورِيًّا لَكَانَ نظرياً، إِذْ لَا وَاسِطَة، وَلَو كَانَ نظرياً لزم الدّور، ينْتج أَنه لَو لم يكن ضَرُورِيًّا لزم الدّور، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّه لَو كَانَ نظرياً لزم الدّور، لِأَنَّهُ لَو كَانَ نظرياً لعلم بِغَيْر الْعلم لِامْتِنَاع اكتسابه من نَفسه، وَغير الْعلم لَا يعلم إِلَّا بِالْعلمِ، فليزم معرفَة الْعلم بِغَيْر الْعلم الَّذِي لَا يعلم إِلَّا بِالْعلمِ، فَيلْزم الدّور، وَهُوَ محَال لاستلزامه تقدم الشَّيْء على نَفسه، واستلزامه امْتنَاع تصور الْعلم المتصور. وَقَالَ الْآخرُونَ: إِنَّه يحد، وَلَهُم فِيهِ أَقْوَال، وَأَصَح الْحُدُود أَنه صفة من صِفَات النَّفس، توجب تمييزاً لَا يحْتَمل النقيض فِي الْأُمُور المعنوية، فَقَوله: صفة، جنس لتنَاوله لجَمِيع صِفَات النَّفس. وَقَوله: توجب تمييزاً، احْتِرَاز عَمَّا لم يُوجب تمييزاً كالحياة. وَقَوله: لَا يحْتَمل النقيض، احْتِرَاز عَن مِثَال الظَّن، وَقَوله: فِي الْأُمُور المعنوية، يخرج إِدْرَاك الْحَواس، لِأَن إِدْرَاكهَا فِي الْأُمُور الظَّاهِرَة المحسوسة.
- (بابُ فَضْلِ العِلْمِ)
كَذَا وَقع فِي بعض النّسخ، مصدرا بالبسملة بعْدهَا[size=25]: بَاب فضل الْعلم، وَفِي بَعْضهَا، لَا يُوجد ذَلِك كُله، بل الْمَوْجُود هَكَذَا: كتاب الْعلم، وَقَول الله تَعَالَى ... الخ. وَفِي بَعْضهَا الْبَسْمَلَة مُقَدّمَة على لفظ كتاب الْعلم، هَكَذَا: بِسم الله الرحمان الرَّحِيم كتاب الْعلم. وَهِي رِوَايَة أبي ذَر، وَالْأول رِوَايَة الْأصيلِيّ وكريمة وَغَيرهمَا، اعني أَن روايتهما، أَن الْبَسْمَلَة بَين الْكتاب وَالْبَاب.
وقَوْلُ الله تَعالى: {يَرْفَع الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبيْرٌ} (المجادلة: 11) وقَوْلِهِ: {عَزَّ وَجَلَّ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه: 114) .
اكْتفى البُخَارِيّ فِي بَيَان فضل الْعلم بِذكر الْآيَتَيْنِ الكريمتين، لِأَن الْقُرْآن من أقوى الْحجَج القاطعة، وَالِاسْتِدْلَال بِهِ فِي بَاب الْإِثْبَات وَالنَّفْي أقوى من الِاسْتِدْلَال بِغَيْرِهِ. وَنقل الْكرْمَانِي عَن بعض الشاميين أَن البُخَارِيّ بوب الْأَبْوَاب وَذكر التراجم، وَكَانَ يلْحق بالتدريج إِلَيْهَا الْأَحَادِيث الْمُنَاسبَة لَهَا، فَلم يتَّفق لَهُ أَن يلْحق إِلَى هَذَا الْبَاب وَنَحْوه شَيْئا مِنْهَا، إِمَّا لِأَنَّهُ لم يثبت عِنْده حَدِيث يُنَاسِبه بِشَرْطِهِ، وَإِمَّا لأمر آخر. وَنقل أَيْضا عَن بعض أهل الْعرَاق أَنه ترْجم لَهُ، وَلم يذكر شَيْئا فِيهِ قصدا مِنْهُ، ليعلم أَنه لم يثبت فِي ذَلِك الْبَاب شَيْء عِنْده. قلت: هَذَا كُله كَلَام غير سديد لَا طائل تَحْتَهُ، وَالْأَحَادِيث والْآثَار الصَّحِيحَة كَثِيرَة فِي هَذَا الْبَاب، وَلم يكن البُخَارِيّ عَاجِزا عَن إِيرَاد حَدِيث صَحِيح على شَرطه، أَو أثر صَحِيح من الصَّحَابَة أَو التَّابِعين، مَعَ كَثْرَة نَقله واتساع رِوَايَته، وَلَئِن سلمنَا أَنه لم يثبت عِنْده مَا يُنَاسب هَذَا الْبَاب، فَكَانَ يَنْبَغِي أَن لَا يذكر هَذَا الْبَاب. فَإِن قلت: ذكره للإعلام بِأَنَّهُ لم يثبت فِيهِ شَيْء عِنْده، كَمَا قَالَه بعض أهل الْعرَاق. قلت: ترك الْبَاب فِي مثل هَذَا يدل على الْإِعْلَام بذلك، فَلَا فَائِدَة فِي ذكره حينئذٍ. ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: فَمَا تَقول فِيمَا يترجم بعد هَذَا بِبَاب فضل الْعلم وينقل فِيهِ حَدِيثا يدل على فضل الْعلم؟ قلتُ: الْمَقْصُود بذلك الْفضل غير هَذَا، الْفضل إِذْ ذَاك بِمَعْنى: الْفَضِيلَة، أَي الزِّيَادَة فِي الْعلم، وَهَذَا بِمَعْنى كَثْرَة الثَّوَاب عَلَيْهِ. قلت: هَذَا فرق عَجِيب، لِأَن الزِّيَادَة فِي الْعلم تَسْتَلْزِم كَثْرَة الثَّوَاب عَلَيْهِ. فَلَا فرق بَينهمَا فِي الْحَقِيقَة، وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْموضع أَن لفظ: بَاب الْعلم، لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون مَذْكُورا هَهُنَا، وَبعد بَاب رفع الْعلم وَظُهُور الْجَهْل، على مَا عَلَيْهِ بعض النّسخ، أَو يكون مَذْكُورا هُنَاكَ فَقَط. فَإِن كَانَ الأول فَهُوَ تكْرَار فِي التَّرْجَمَة بِحَسب الظَّاهِر، وَإِن كَانَ الثَّانِي فَلَا يحْتَاج إِلَى الاعتذارات الْمَذْكُورَة، مَعَ أَن الْأَصَح من النّسخ هُوَ الثَّانِي، وَإِنَّمَا الْمَذْكُور هَهُنَا: كتاب الْعلم، وَقَول الله تَعَالَى: {يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَالَّذين أُوتُوا الْعلم دَرَجَات} الْآيَة (المجادلة: 11) . وَلَئِن صَحَّ وجود: بَاب فضل الْعلم، فِي الْمَوْضِعَيْنِ فَنَقُول: لَيْسَ بتكرار، لِأَن المُرَاد من بَاب فضل الْعلم، هُنَا التَّنْبِيه على فَضِيلَة الْعلمَاء بِدَلِيل الْآيَتَيْنِ المذكورتين: فَإِنَّهُمَا فِي فَضِيلَة الْعلمَاء، وَالْمرَاد من: بَاب فضل الْعلم، هُنَاكَ التَّنْبِيه على فَضِيلَة الْعلم، فَلَا تكْرَار حينئذٍ. فَإِن قلت: كَانَ يَنْبَغِي أَن يَقُول: بَاب فضل الْعلمَاء، قلت: بَيَان فضل الْعلم يسْتَلْزم بَيَان فضل الْعلمَاء، لِأَن الْعلم صفة قَائِمَة بالعالم. فَذكر بَيَان فضل الصّفة يسْتَلْزم بَيَان فضل من هِيَ قَائِمَة بِهِ، على أَنا نقُول: إِن لم يكن المُرَاد من هَذَا الْبَاب بَيَان فضل الْعلمَاء، لَا يُطَابق ذكر الْآيَتَيْنِ المذكورتين التَّرْجَمَة، وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخ قطب الدّين رَحمَه الله فِي (شَرحه) بعد الْآيَتَيْنِ، ش: جَاءَ فِي الْآثَار أَن دَرَجَات الْعلمَاء تتلو دَرَجَات الْأَنْبِيَاء، وَالْعُلَمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء، ورثوا الْعلم وبينوه للْأمة، وحموه من تَحْرِيف الْجَاهِلين. وروى ابْن وهب، عَن مَالك، قَالَ: سَمِعت زيد بن أسلم، يَقُول فِي قَوْله تَعَالَى: {نرفع دَرَجَات من نشَاء} (الْأَنْعَام: 83) قَالَ: بِالْعلمِ. وَقَالَ ابْن مَسْعُود فِي قَوْله تَعَالَى: {يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم} (المجادلة: 11) . مدح الله الْعلمَاء فِي هَذِه الْآيَة، وَالْمعْنَى: يرفع الله الَّذين آمنُوا وأوتوا الْعلم على الَّذين آمنُوا فَقَط وَلم يؤتوا الْعلم دَرَجَات فِي دينهم إِذا فعلوا مَا أمروا بِهِ. وَقيل: يرفعهم فِي الثَّوَاب والكرامة، وَقيل: يرفعهم فِي الْفضل فِي الدُّنْيَا والمنزلة. وَقيل: يرفع الله دَرَجَات الْعلمَاء فِي الْآخِرَة على الْمُؤمنِينَ الَّذين لم يؤتوا الْعلم. وَقيل: فِي قَوْله تَعَالَى: {وَقل رب زِدْنِي علما} (طه: 114) أَي: بِالْقُرْآنِ، وَكَانَ كلما نزل شَيْء من الْقُرْآن ازْدَادَ بِهِ النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، علما. وَقيل: مَا أَمر الله رَسُوله بِزِيَادَة الطّلب فِي شَيْء إِلَّا فِي الْعلم، وَقد طلب مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، الزِّيَادَة فَقَالَ: {هَل أتبعك على أَن تعلمني مِمَّا علمت رشدا} (الْكَهْف: 66) وَكَانَ ذَلِك لما سُئِلَ: أَي النَّاس أعلم؟ فَقَالَ: أَنا أعلم. فعتب الله عَلَيْهِ إِذْ لم يرد الْعلم إِلَيْهِ. وَقَوله: دَرَجَات، مَنْصُوب بقوله يرفع. فَإِن قلت: قَوْله: وَقَول الله تَعَالَى: {يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم} (المجادلة: 11) مَا حَظه من الْإِعْرَاب؟ قلت: الَّذِي يَقْتَضِيهِ أَحْوَال
التَّرْكِيب أَن يكون مجروراً، عطفا على الْمُضَاف إِلَيْهِ فِي قَوْله: بَاب فضل الْعلم، على تَقْدِير: وجود الْبَاب، أَو على الْعلم فِي قَوْله: كتاب الْعلم، على تَقْدِير عدم وجوده. وَقَالَ بَعضهم: ضبطناه فِي الْأُصُول بِالرَّفْع على الِاسْتِئْنَاف. قلت: إِن أَرَادَ بالاستئناف الْجَواب على السُّؤَال فَذا لَا يَصح، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَام مَا يَقْتَضِي هَذَا، وَإِن أَرَادَ الِابْتِدَاء الْكَلَام، فَذا أَيْضا لَا يَصح، لِأَنَّهُ على تَقْدِير الرّفْع لَا يَتَأَتَّى الْكَلَام، لِأَن قَوْله: وَقَول الله، لَيْسَ بِكَلَام، فَإِذا رفع لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون رَفعه بالفاعلية، أَو بِالِابْتِدَاءِ، وكل مِنْهُمَا لَا يَصح، أما الأول فَظَاهر، وَأما الثَّانِي فلعدم الْخَبَر. فَإِن قلت: الْخَبَر مَحْذُوف. قلت: حذف الْخَبَر لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون جَوَازًا أَو وجوبا. فَالْأول: فِيمَا إِذا قَامَت قرينَة، وَهِي وُقُوعه فِي جَوَاب الِاسْتِفْهَام عَن الْمخبر بِهِ، أَو بعد إِذا المفاجأة، أَو يكون الْخَبَر قبل قَول وَلَيْسَ شَيْء من ذَلِك هَهُنَا. وَالثَّانِي: إِذا الْتزم فِي مَوْضِعه غَيره، وَلَيْسَ هَذَا أَيْضا كَذَلِك، فَتعين بطلَان دَعْوَى الرّفْع.
[size=25]2 - (بَاب مَنْ سُئِلَ عِلْماً وَهوَ مُشْتَغِلٌ فِي حَدِيثِهِ فَأتَمَّ الحَدِيثَ ثُمَّ أجابَ السَّائِلَ.)
الْكَلَام فِيهِ على وَجْهَيْن: الأول: أَن بَاب، مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف مُضَاف إِلَى قَوْله: من سُئِلَ، وَمن، مَوْصُولَة. قَوْله: سُئِلَ، على صِيغَة الْمَجْهُول، جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول النَّائِب عَن الْفَاعِل وَقعت صلَة لَهَا. وَقَوله: علما، نصب لِأَنَّهُ مفعول ثَان، وَقَوله: وَهُوَ مشتغل فِي حَدِيثه، جملَة وَقعت حَالا عَن الضَّمِير الَّذِي فِي: سُئِلَ، وَذكر قَوْله: فَأَتمَّ، بِالْفَاءِ وَقَوله: ثمَّ أجَاب، بِكَلِمَة: ثمَّ، لِأَن إتْمَام الحَدِيث حصل عقيب الِاشْتِغَال بِهِ. وَالْجَوَاب بعد الْفَرَاغ مِنْهُ. الثَّانِي: وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ على تَقْدِير وجود الْبَاب السَّابِق فِي بعض النّسخ، من حَيْثُ إِن الْبَاب الأول، وَإِن كَانَ الْمَذْكُور فِيهِ فضل الْعلم، وَلَكِن المُرَاد التَّنْبِيه على فضل الْعلمَاء، كَمَا حققنا الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَهَذَا الْبَاب فِيهِ حَال الْعَالم المسؤول مِنْهُ عَن مَسْأَلَة معضلة، وَلَا يسْأَل عَن الْمسَائِل المعضلات إِلَّا الْعلمَاء الْفُضَلَاء الْعَامِلُونَ الداخلون فِي قَوْله تَعَالَى: {يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَالَّذين أُوتُوا الْعلم دَرَجَات} (المجادلة: 11) . وَأما على تَقْدِير عدم الْبَاب السَّابِق فِي النّسخ، فالابتداء بِهَذَا الْبَاب الْإِشَارَة إِلَى مَا قيل من أَن الْعلم سُؤال وَجَوَاب، وَالسُّؤَال نصف الْعلم، فتميز هَذَا الْبَاب عَن بَقِيَّة الْأَبْوَاب الَّتِي تضمنها كتاب الْعلم، فَاسْتحقَّ بذلك التصدير على بَقِيَّة الْأَبْوَاب. فَافْهَم.
59 - حدّثنا مُحمَّدُ بْنُ سِنَان قَالَ: حدّثنا فُلَيْحُ (ح) وحدَّثني إبْراهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ: حدّثنا مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْح قَالَ: حدّثني أبي قَالَ: حدّثني هِلاَلُ بْنُ عَليٍّ عَنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ: بَيْنَمَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَجْلِس يُحَدِّثُ القَوْمَ جاءَهُ أعْرَابِيُّ فقالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُحَدِّثُ فَقَالَ بَعضُ القَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قالَ: وقالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ. حَتَّى إِذا قَضى حَدِيثَهُ قَالَ أيْنَ ارَاهُ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟ قالَ: هَا أَنا يَا رَسولَ! الله قَالَ: (فإذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فانْتَظِرِ السَّاعَةَ) قالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قالَ: (إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ) .
(الحَدِيث 59 طرفه فِي: 6496) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله: وهم ثَمَانِيَة: الأول: مُحَمَّد بن سِنَان، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة وبالنونين، أَبُو بكر الْبَاهِلِيّ العوقي الْبَصْرِيّ، روى عَنهُ البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَأَبُو حَاتِم الرَّازِيّ. قَالَ يحيى بن معِين: ثِقَة مَأْمُون، وروى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن ماجة عَن رجل عَنهُ، توفّي سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: فليح، بِضَم الْفَاء وَفتح اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة، ابْن سُلَيْمَان بن أبي الْمُغيرَة، وَهُوَ حنين ابْن أخي عبيد بن حنين، وَكَانَ اسْمه عبد الْملك، ولقبه فليح واشتهر بلقبه، الْخُزَاعِيّ الْمدنِي، وكنيته أَبُو يحيى، روى عَن نَافِع وعدة، وروى عَنهُ عبد اللَّه بن وهب وَيحيى الوحاظي وَابْن أعين وَشُرَيْح بن النُّعْمَان وَآخَرُونَ، قَالَ يحيى بن معِين: هُوَ ضَعِيف مَا أقربه من ابْن أبي أويس، وَفِي رِوَايَة عَنهُ: لَيْسَ بِقَوي وَلَا يحْتَج بِهِ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَقَالَ النَّسَائِيّ أَيْضا: لَيْسَ بِالْقَوِيّ: وَقَالَ ابْن عدي: هُوَ عِنْدِي لَا بَأْس بِهِ، وَقد اعْتَمدهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه، وَقد روى عَنهُ زيد بن أبي أنيسَة، روى لَهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ، وَقَالَ الْحَاكِم: واجتماع البُخَارِيّ وَمُسلم عَلَيْهِ فِي إخراجهما عَنهُ فِي الْأُصُول يُؤَكد أمره ويسكن الْقلب فِيهِ إِلَى تَعْدِيل، توفّي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَمِائَة. الثَّالِث: إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر بن عبد اللَّه ابْن الْمُنْذر بن الْمُغيرَة بن عبد اللَّه بن خَالِد بن حزَام بن خويلدالْقرشِي الْحزَامِي الْمدنِي أَبُو إِسْحَاق، روى عَنهُ أَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة وَابْن مَاجَه وَغَيرهم، وروى البُخَارِيّ عَنهُ، وروى أَيْضا عَن مُحَمَّد بن غَالب عَنهُ، وروى النَّسَائِيّ عَن رجل عَنهُ، وروى لَهُ التِّرْمِذِيّ. قَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْس. مَاتَ سنة سِتّ، وَقيل: خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ بِالْمَدِينَةِ. الرَّابِع: مُحَمَّد بن فليح الْمَذْكُور، روى عَن هِشَام بن عُرْوَة وَغَيره، روى عَنهُ هَارُون بن مُوسَى الْفَروِي وَغَيره، لينه ابْن معِين: وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مَا بِهِ بَأْس لَيْسَ بذلك الْقوي، مَاتَ سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة. روى لَهُ البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه. الْخَامِس: أَبُو فليح الْمَذْكُور. السَّادِس: هِلَال بن عَليّ، وَيُقَال لَهُ: هِلَال بن أبي مَيْمُونَة، وَيُقَال لَهُ: هِلَال ابْن أبي هِلَال، وَيُقَال لَهُ: هِلَال بن أُسَامَة، نسبته إِلَى جده، وَقد يظنّ أَرْبَعَة وَالْكل وَاحِد. قَالَ مَالك هِلَال بن أبي أُسَامَة: تَابعه على ذَلِك أُسَامَة بن زيد اللَّيْثِيّ، وَقَالَ: هُوَ الفِهري الْقرشِي الْمدنِي، وَهُوَ من صغَار التَّابِعين، وَشَيْخه فِي هَذَا الحَدِيث من أوساطهم، سمع أنسا وَغَيره، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يكْتب حَدِيثه وَهُوَ شيخ. قَالَ الْوَاقِدِيّ: مَاتَ فِي آخر خلَافَة هِشَام، وروى لَهُ الْجَمَاعَة. السَّابِع: عَطاء بن يسَار، مولى مَيْمُونَة بنت الْحَارِث، وَقد تقدم ذكره. الثَّامِن: أَبُو هُرَيْرَة، وَقد تقدم ذكره أَيْضا.
بَيَان الْأَنْسَاب: الْبَاهِلِيّ، بِالْبَاء الْمُوَحدَة نِسْبَة إِلَى باهلة بنت صَعب بن سعد الْعَشِيرَة ابْن مَالك بن كَذَا، وَمَالك هُوَ جماع مذْحج. العوقي، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَالْوَاو وبالقاف: نِسْبَة إِلَى العوقة، وهم حَيّ من عبد الْقَيْس، وَلم يكن مُحَمَّد بن سِنَان من العوقة، وَإِنَّمَا نزل فيهم، كَانَ لَهُم محلّة بِالْبَصْرَةِ فَنزل عِنْدهم فنسب إِلَى العوقة. الْخُزَاعِيّ، بِضَم الْخَاء وبالزاي المعجمتين: نِسْبَة إِلَى خُزَاعَة، وَهُوَ عَمْرو بن ربيعَة. وَقَالَ الرشاطي: الْخُزَاعِيّ فِي الأزد وَفِي قضاعة. فَالَّذِي فِي الأزد ينْسب إِلَى خُزَاعَة وَهُوَ عَمْرو بن ربيعَة. وَفِي قضاعة بطن وَهُوَ خُزَاعَة بن مَالك بن عدي. الْحزَامِي، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي الْمُعْجَمَة: نِسْبَة إِلَى حزَام أحد الأجداد. وَقَالَ الرشاطي: الْحزَامِي فِي أَسد قُرَيْش وَفِي فَزَارَة. فَالَّذِي فِي قُرَيْش: حزَام بن خويلد بن أَسد، وَالَّذِي فِي فَزَارَة: حزَام بن سعد بن عدي بن فَزَارَة. الفِهري، بِكَسْر الْفَاء نِسْبَة إِلَى فهر بن مَالك بن النَّضر بن كنَانَة.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: إِن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والتحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد، وَهُوَ قَوْله: حَدثنِي إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر، وَفِي بعض النّسخ: حَدثنَا. وَالْفرق بَينهمَا ظَاهر، وَهُوَ أَن الشَّيْخ إِذا حدث لَهُ وَهُوَ السَّامع وَحده يَقُول: حَدثنِي، وَإِذا حدث وَمَعَهُ غَيره، يَقُول: حَدثنَا. وَفِيه العنعنة أَيْضا. وَمِنْهَا: أَن هَذَا إسنادان. أَحدهمَا: عَن مُحَمَّد بن سِنَان عَن فليح عَن هِلَال عَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة. وَالْآخر: عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن مُحَمَّد بن فليح عَن أَبِيه عَن هِلَال [size=25]... إِلَى آخِره، وَهَذَا أنزل من الأول بِوَاحِد. وَمِنْهَا: أَن رجال الْإِسْنَاد الآخير كلهم مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِي غَالب النّسخ قبل قَوْله: وحَدثني إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر صُورَة (ح) وَهِي حاء مُهْملَة مُفْردَة. قيل: إِنَّهَا مَأْخُوذَة من التَّحَوُّل لتحوله من إِسْنَاد إِلَى آخر، وَيَقُول القارىء إِذا انْتهى إِلَيْهَا: حا، وَيسْتَمر فِي قِرَاءَة مَا بعْدهَا. وَقيل: إِنَّهَا من حَال بَين الشَّيْئَيْنِ إِذا حجز لكَونهَا حَالَة بَين الإسنادين، وَأَنه لَا يلفظ عِنْد الإنتهاء إِلَيْهَا بِشَيْء. وَقيل: إِنَّهَا رمز إِلَى قَوْله: الحَدِيث وَأهل الْمغرب إِذا وصلوا إِلَيْهَا يَقُولُونَ الحَدِيث. وَقد كتب جمَاعَة عَن حفاظ عراق الْعَجم موضعهَا صَحَّ، فيشعر بِأَنَّهَا رمز صَحِيح، وَحسن هُنَا كِتَابَة صَحَّ لِئَلَّا يتَوَهَّم أَنه سقط متن الْإِسْنَاد الأول، وَهِي كَثِيرَة فِي (صَحِيح مُسلم) : قَليلَة فِي البُخَارِيّ.
(بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ هَهُنَا كَمَا ترى، وَأخرجه أَيْضا فِي الرقَاق مُخْتَصرا عَن مُحَمَّد بن سِنَان عَن فليح بن سلمَان عَن هِلَال بن عَليّ بِهِ، وَلم يُخرجهُ من أَصْحَاب السِّتَّة غَيره.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (أَعْرَابِي) ، هُوَ الَّذِي يسكن الْبَادِيَة، وَهُوَ مَنْسُوب إِلَى الْأَعْرَاب سَاكِني الْبَادِيَة، من الْعَرَب الَّذِي لَا يُقِيمُونَ فِي الْأَمْصَار وَلَا يدْخلُونَهَا إِلَّا لحَاجَة، وَالْعرب اسْم لهَذَا الجيل الْمَعْرُوف من النَّاس، وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، سَوَاء أَقَامَ بالبادية أَو المدن، وَالنِّسْبَة إِلَيْهِ عَرَبِيّ، وَلَيْسَ الْأَعْرَاب جمعا لعرب، وَلم يعرف اسْم هَذَا الْأَعرَابِي. قَوْله: (السَّاعَة) قَالَ الْأَزْهَرِي: السَّاعَة: الْوَقْت الَّذِي تقوم فِيهِ الْقِيَامَة، وَسميت بذلك لِأَنَّهَا تفجأ النَّاس فِي سَاعَة، فَيَمُوت الْخلق كلهم بصيحة وَاحِدَة. وَفِي (الْعباب) : السَّاعَة الْقِيَامَة. قلت: أَصله: سوعة، قلبت الْوَاو الْفَا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا. قَوْله: (وسد) ، من وسدته الشَّيْء فتوسده إِذا جعله تَحت رَأسه، وَالْمعْنَى: إِذا فوض الْأَمر وَأسْندَ، وَفِي (الْمطَالع) : إِذا وسد الْأَمر إِلَى غير أَهله، كَذَا لكافة الروَاة، أَي: أسْند وَجعل إِلَيْهِم وقلدوه، وَعند الْقَابِسِيّ: أَسد، وَقَالَ: الَّذِي احفظ: وسد، وَقَالَ: هما بِمَعْنى. قَالَ القَاضِي: هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد قَالُوا: وساد، وأساد، واشتقاقها وَاحِد، وَالْوَاو هُنَا بعد الْألف، ولعلها صُورَة الْهمزَة. والوساد: مَا يتوسد إِلَيْهِ للنوم. يُقَال: اساد وإسادة ووسادة. وَفِي (الْعباب) : الوساد والوسادة
والوسدة: المخدة وَالْجمع: وسد ووسائد. وسدته كَذَا أَي: جعلته لَهُ وسَادَة، وتوسد الشَّيْء جعله تَحت رَأسه. وَقَالَ بَعضهم: قَوْله وسد أَي: جعل لَهُ غير أَهله وساداً. قلت: لَيْسَ مَعْنَاهُ. كَذَا، بل الْمَعْنى: إِذا وضعت وسَادَة الْأَمر لغير أَهلهَا، وَالْمرَاد من الْأَمر جنس الْأَمر الَّذِي يتَعَلَّق بِالدّينِ، فَإِذا وضعت وسادته لغير أَهلهَا تهان وتحقر، على مَا نبينه عَن قريب. قَوْله: (فانتظر) أَمر من الإنتظار.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (بَيْنَمَا) : أَصله: بَين، فزيدت عَلَيْهِ: مَا، وَهُوَ ظرف زمَان بِمَعْنى المفاجأة. قَوْله: (النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) مُبْتَدأ، وَقَوله: (يحدث الْقَوْم) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول خَبره، وَيحدث يَقْتَضِي مفعولين، وَأحد المفعولين هَهُنَا مَحْذُوف لدلَالَة السِّيَاق عَلَيْهِ، وَالْقَوْم: هم الرِّجَال دون النِّسَاء، وَقد تدخل النِّسَاء فِيهِ على سَبِيل التبع، لِأَن قوم كل نَبِي رجال وَنسَاء، جمعه أَقوام، وَجمع الْجمع أقاوم. وَقَوله: (فِي مجْلِس) حَال. قَوْله: (جَاءَهُ أَعْرَابِي) : جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَهُوَ: أَعْرَابِي، وَالْمَفْعُول وَهُوَ الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي جَاءَهُ، الْعَائِد إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ جَوَاب: بَيْنَمَا، وَهُوَ الْعَامِل فِي: بَيْنَمَا. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الْأَفْصَح فِي جَوَابه أَن لَا يكون بإذ وَإِذا. وَقَالَ غَيره: بِالْعَكْسِ، وَالصَّوَاب مَعَه لوُرُود الحَدِيث هَكَذَا. وَقيل: بَيْنَمَا ظرف يتَضَمَّن معنى الشَّرْط، فَلذَلِك اقْتضى جَوَابا، وَفِيه نظر. قَوْله: (مَتى السَّاعَة؟) مُبْتَدأ وَخبر، وَكلمَة: مَتى، هَهُنَا للاستفهام. قَوْله: (يحدث) أَي: يحدث الْقَوْم، وَفِي بعض الرِّوَايَات بحَديثه، بِحرف الْجَرّ وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: يحدثه، بِزِيَادَة الْهَاء، وَلَيْسَت فِي رِوَايَة البَاقِينَ. وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ لَا يعود على الْأَعرَابِي، وَإِنَّمَا التَّقْدِير: يحدث الْقَوْم الحَدِيث الَّذِي كَانَ فِيهِ. فَإِن قلت: مَا مَحل: يحدث، من الْإِعْرَاب؟ قلت: محلهَا النصب على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي مضى. قَوْله: (فَقَالَ بعض الْقَوْم) من هَهُنَا إِلَى قَوْله: (لم يسمع) جملَة مُعْتَرضَة. فَإِن قلت: هَل يجوز الِاعْتِرَاض بِالْفَاءِ؟ قلت: نعم جَائِز. قَوْله: (سمع) أَي بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (مَا قَالَ) أَي الْأَعرَابِي، وَمَا، مَوْصُولَة. وَقَالَ: جملَة صلته، والعائد مَحْذُوف أَي: مَا قَالَه. وَالْجُمْلَة مفعول: سمع. وَيجوز أَن تكون مَا مَصْدَرِيَّة أَي: سمع قَوْله، وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي قَوْله: (فكره مَا قَالَ) . قَوْله: (بل لم يسمع) قَالَ الْكرْمَانِي: علام عطف: بل لم يسمع؟ إِذْ لَا يَصح أَن يعْطف على مَا تقدم، إِذْ الإضراب إِنَّمَا يكون عَن كَلَام نَفسه، بل لَا يَصح عطف أصلا على كَلَام غير العاطف: قلت: لَا نسلم امْتنَاع صِحَة الْعَطف، والإضراب بَين كَلَام متكلمين، وَمَا الدَّلِيل عَلَيْهِ سلمنَا، لَكِن يكون الْكل من كَلَام الْبَعْض الأول كَأَنَّهُ قَالَ الْبَعْض الآخر للْبَعْض الأول: قل بل لم يسمع، أَو كَلَام الْبَعْض الآخر بِأَن يقدر لفظ: سمع، قبله كَأَنَّهُ قَالَ: سمع بل لم يسمع. قلت: هَذَا كُله تعسف نَشأ من عدم الْوُقُوف على أسرار الْعَرَبيَّة، فَنَقُول: التَّحْقِيق هَاهُنَا أَن كلمة: بل، حرف إضراب، فَإِن تَلَاهَا جملَة كَانَ معنى الإضراب إِمَّا الْإِبْطَال وَإِمَّا الِانْتِقَال عَن غَرَض إِلَى غَرَض، وَإِن تَلَاهَا مُفْرد فَهِيَ عاطفة، وَهَهُنَا تَلَاهَا جملَة، أَعنِي، قَوْله: لم يسمع، فَكَانَ الإضراب بِمَعْنى الْإِبْطَال. قَوْله: (حَتَّى إِذا قضى) يتَعَلَّق بقوله: فَمضى يحدث، لَا بقوله: لم يسمع. قَوْله: (قَالَ: أَيْن أرَاهُ السَّائِل؟) أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَوله: (أرَاهُ) ، بِضَم الْهمزَة، مَعْنَاهُ: أَظن، وَهُوَ شكّ من مُحَمَّد بن فليح، وَرَوَاهُ الْحسن بن سُفْيَان وَغَيره عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن يُونُس عَن مُحَمَّد بن فليح من غير شكّ. وَلَفظه: (قَالَ أَيْن السَّائِل؟) فَإِن قلت: السَّائِل، مَرْفُوع بِمَاذَا؟ قلت: مَرْفُوع على ابْتِدَاء، وَخَبره قَوْله: (أَيْن) مقدما، وَأَيْنَ، سُؤال عَن الْمَكَان بنيت لتضمنها حرف الِاسْتِفْهَام. وَقَول بَعضهم: السَّائِل، بِالرَّفْع على الْحِكَايَة خطأ، بل هُوَ رفع على الِابْتِدَاء كَمَا قُلْنَا. وَقَوله: (أرَاهُ) جملَة مُعْتَرضَة بَين الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر، وَالْمعْنَى: أَظن أَنه قَالَ: أَيْن السَّائِل. قَوْله: (قَالَ) . أَي: الْأَعرَابِي: هَا، حرف التنبية، وَفِي (الْعباب) : هَاء، بِالْمدِّ تكون تَنْبِيها بِمَعْنى جَوَابا. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: هَا، قد تكون جَوَاب النداء تمد وتقصر، وَأَيْضًا: هَا، مَقْصُورَة للتقريب إِذا قيل لَك: أَيْن أَنْت؟ تَقول: هَا أناذا. قَوْله: (أَنا) مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف، أَي: أَنا سَائل، وَإِنَّمَا ترك العاطف عِنْد: قَالَ، فِي الْمَوْضِعَيْنِ السُّؤَال وَالْجَوَاب، لِأَن الْمقَام كَانَ مقَام المقاولة، والراوي يَحْكِي ذَلِك كَأَنَّهُ، لما قَالَ الْأَعرَابِي ذَلِك، سَأَلَ سَائل: مَاذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَوَابه؟ وَبِالْعَكْسِ. قَوْله: (فَإِذا ضيعت الْأَمَانَة) كلمة إِذا، تضمن معنى الشَّرْط، وَلِهَذَا جَاءَ جوابها بِالْفَاءِ. وَهُوَ قَوْله: (فانتظر السَّاعَة) . قَوْله: (قَالَ: كَيفَ إضاعتها؟) أَي: قَالَ الْأَعرَابِي: كَيفَ إِضَاعَة الْأَمَانَة؟ وَفِي بعض النّسخ: (فَقَالَ) ، بِالْفَاءِ، وَمَا بعده من قَالَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِلَا فَاء، وَوَجهه أَن السُّؤَال عَن كَيْفيَّة الإضاعة متفرع على مَا قبله، فَلهَذَا عقبه بِالْفَاءِ، بِخِلَاف اختيه. قَوْله: (قَالَ: إِذا وسد الْأَمر إِلَى غير أَهله) جَوَاب لقَوْله: (كَيفَ إضاعتها؟) . فَإِن قلت: السُّؤَال إِنَّمَا هُوَ عَن كَيْفيَّة الإضاعة لقَوْله: كَيفَ، وَالْجَوَاب هُوَ بِالزَّمَانِ لَا بَيَان الْكَيْفِيَّة، فَمَا وَجهه؟ قلت: مُتَضَمّن للجواب إِذْ يلْزم مِنْهُ بَيَان
أَن كيفيتها هِيَ بالتوسد الْمَذْكُور. قَوْله: (فانتظر السَّاعَة) الْفَاء فِيهِ للتفريع، أَو جَوَاب شَرط مَحْذُوف يَعْنِي: إِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فانتظر السَّاعَة. وَلَيْسَت هِيَ جَوَاب إِذا الَّتِي فِي قَوْله: (إِذا وسد الْأَمر إِلَى غير أَهله) لِأَنَّهَا لَا تَتَضَمَّن هَهُنَا معنى الشَّرْط. فَإِن قلت: كَانَ يَنْبَغِي أَن يُقَال: لغير أَهله. قلت: إِنَّمَا قَالَ: إِلَى غير أَهله، ليدل على معنى تضمين الْإِسْنَاد.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (مَتى السَّاعَة؟) أَي: مَتى يكون قيام السَّاعَة. قَوْله: (فكره مَا قَالَ) : أَي فكره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا قَالَه الْأَعرَابِي، وَلِهَذَا لم يلْتَفت إِلَى الْجَواب. فَلذَلِك حصل للصحابة، رَضِي الله عَنْهُم، التَّرَدُّد، مِنْهُم من قَالَ: سمع فكره، وَمِنْهُم من قَالَ: لم يسمع، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يكره السُّؤَال عَن هَذِه الْمَسْأَلَة بخصوصها. قَوْله: (أَيْن السَّائِل عَن السَّاعَة؟) أَي عَن زمَان السَّاعَة. قَوْله: (إِذا وسد الْأَمر) المُرَاد بِهِ جنس الْأُمُور الَّتِي تتَعَلَّق بِالدّينِ: كالخلافة وَالْقَضَاء والإفتاء، وَنَحْو ذَلِك. وَيُقَال: أَي بِولَايَة غير أهل الَّذين والأمانات. وَمن يعينهم على الظُّلم والفجور، وَعند ذَلِك تكون الْأَئِمَّة قد ضيعوا الْأَمَانَة الَّتِي فرض الله عَلَيْهِم حَتَّى يؤتمن الخائن ويخون الْأمين، وَهَذَا إِنَّمَا يكون إِذا غلب الْجَهْل وَضعف أهل الْحق عَن الْقيام بِهِ. فَإِن قلت: تَأَخّر الْجَواب عَن السُّؤَال هَهُنَا، وَهل يجوز تَأْخِيره فِيمَا يتَعَلَّق بِالدّينِ؟ قلت: الْجَواب من وَجْهَيْن: الأول: بطرِيق الْمَنْع، فَنَقُول: لَا نسلم اسْتِحْقَاق الْجَواب هَهُنَا، لِأَن الْمَسْأَلَة لَيست مِمَّا يجب تعلمهَا، بل هِيَ مِمَّا لَا يكون الْعلم بهَا إِلَّا لله تَعَالَى. وَالثَّانِي: بطرِيق التَّسْلِيم فنقوله: سلمنَا ذَلِك، وَلكنه يحْتَمل أَن يكون، عَلَيْهِ السَّلَام، مشتغلاً فِي ذَلِك الْوَقْت بِمَا كَانَ أهم من جَوَاب هَذَا السَّائِل، وَيحْتَمل أَنه أَخّرهُ انتظاراً للوحي، أَو أَرَادَ أَن يتم حَدِيثه لِئَلَّا يخْتَلط على السامعين، وَيحْتَمل أَن يكون فِي ذَلِك الْوَقْت فِي جَوَاب سُؤال سَائل آخر مُتَقَدم، فَكَانَ أَحَق بِتمَام الْجَواب.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه. الأول: فِيهِ وجوب تَعْلِيم السَّائِل لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَيْن السَّائِل) ثمَّ إخْبَاره عَن الَّذِي سَأَلَ عَنهُ. الثَّانِي: فِيهِ أَن من آدَاب المتعلم أَن لَا يسْأَل الْعَالم مَا دَامَ مشتغلاً بِحَدِيث أَو غَيره، لِأَن من حق الْقَوْم الَّذين بَدَأَ بِحَدِيثِهِمْ أَن لَا يقطعهُ عَنْهُم حَتَّى يتمه. الثَّالِث: فِيهِ الرِّفْق بالمتعلم وَإِن جَفا فِي سُؤَاله أَو جهل، لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لم يوبخه على سُؤَاله قبل إِكْمَال حَدِيثه. الرَّابِع: فِيهِ مُرَاجعَة الْعَالم عِنْد عدم فهم السَّائِل، لقَوْله: كَيفَ إضاعتها؟ الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز اتساع الْعَالم فِي الْجَواب أَنه يَنْبَغِي مِنْهُ، إِذا كَانَ ذَلِك لِمَعْنى أَو لمصْلحَة. السَّادِس: فِيهِ التَّنْبِيه على تَقْدِيم الأسبق فِي السُّؤَال لأَنا قُلْنَا: إِنَّه يحْتَمل أَن يكون تَأْخِير الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجَواب لكَونه مَشْغُولًا بِجَوَاب سُؤال سَائل آخر، فنبه بذلك أَنه يجب على القَاضِي والمفتي والمدرس تَقْدِيم الأسبق لاستحقاقه بِالسَّبقِ.
[size=25][/size][/size][/size][/size]
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
مواضيع مماثلة
» موسوعة الأخلاق والزهد والرقائق
» صحيح البخاري باب الإيمان
» كتاب اللباب في الفقه الشافعي / كتاب الطهارة
» اللباب في الفقه الشافعي
» قيمة العلم
» صحيح البخاري باب الإيمان
» كتاب اللباب في الفقه الشافعي / كتاب الطهارة
» اللباب في الفقه الشافعي
» قيمة العلم
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى