بين الرشاد والتيه (1393)
صفحة 1 من اصل 1
بين الرشاد والتيه (1393)
مالك بن نبي
مشكلات الحضارة
***************
بين الرشاد والتيه
دار الفكر المعاصر- بيروت لبنان
دار الفكر-دمشق سورية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
بين الرشاد والتيه
مالك بن نبي
مشكلات الحضارة
بين الرشاد والتيه
بإشراف ندوة مالك بن نبي
دار الفكر
دمشق-سورية
جميع الحقوق محفوظة
1426هـ - 2002م
ط1: 1978م.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
في عام 1971م ترك أستاذنا مالك بن نبي- رحمه الله- في المحكمة الشرعية في طرابلس لبنان، وصية سجلت تحت رقم 275/ 67 في 16 ربيع الثاني 1391هـ الموافق 10 حزيران (يونيو) 1971م، وقد حملني فيها مسؤولية كتبه المعنوية والمادية.
وتحملا مني لهذه الرسالة، ووفاء لندوات سقتنا على ظمأ صافي الرؤية، رأيت تسمية ما يصدر تنفيذا لوصية المؤلف (ندوة مالك بن نبي).
والتسمية هذه، دعوة إلى أصدقاء مالك بن نبي وقارئيه، ليواصلوا نهجا في دراسة المشكلات، كان قد بدأه.
وهي مشروع نطرحه بوصفه نواة لعلاقات فكرية، كان رحمه الله يرغب في توثيقها.
وإنني لأرجو من أصدقاء مالك وقارئيه، مساعدتنا على حفظ حقوق المؤلف في كل ما ينشر بالعربية أو الفرنسية مترجما من قبل المترجمين أو غير مترجم. فقد حمّلني- رحمه الله- مسؤولية حفظ هذه الحقوق، والإذن بنشر كتبه. فإن وجدت طبعات لم تذكر فيه إشارة إلى إذن صادر من قبلنا، فهذه طبعات غير مشروعة، ونرجو إبلاغنا عنها.
طرابلس لبنان 18 ربيع الأول 1399هـ
15 شباط (فبراير) 1979م
عمر مسقاوي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
بين الرشاد والتيه
كتاب ضم مقالات كتبها الأستاذ مالك بن نبي بالفرنسية، ونشر معظمها في جريدة ((الثورة الإفريقية La revolution Africain)) إثر عودته إلى الجزائر بعد الاستقلال في الستينات.
وقد جمعها رحمه الله في صيف عام 1972م، وترجمها إلى العربية، ثم بوبها وحدد فصولها، واختتمها بكلمة عن الصراع الفكري.
وقد سلمني أصول هذا الكتاب إثر الفراغ منه، فلما قرأته وجدت من المناسب مراجعة النص بما يحافظ على أسلوب الأستاذ مالك، ويزيل إبهام بعض العبارات، وهكذا أصبح الكتاب جاهزا للتداول بين أيدي القراء، في مرحلة من مسيرة الأمة العربية تداعت عليها الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.
فالمقالات هذه تعكس أحداث الستينات في الجزائر كما في العالم العربي والإسلامي. وهي أيضا تطرح مشاكل العالم الثالث بعد الاستقلال السياسي، فتسلط عليها أضواء كاشفة تبرز أبعادها وتنير طريق الكفاح، من أجل القضاء على هذه المشاكل.
ففي الستينات، كانت في الجزائر مهمات البناء الجديد للدولة، في الإطار السياسي والإداري والاقتصادي، وكان الأستاذ مالك يواجه بفكره هذه المهمات،
يرصد الأحداث اليومية والمبادرات المستقبلية. ثم يخرج على الناس بمقالات، تحدد مفاهيم العمل ومقاييسه الثابتة، حتى لا تضل في المفاهيم الغربية المستوردة، أو تتيه في زحمة التضليل المتداول في سوق الصراع الفكري.
وفي هذا الإطار كان الأستاذ مالك يتخذ من مواقف الأمس والحاضر أدلة للتوضيح والمناقشة.
فإذا تحدث عن الثورة في العصر الحديث، اتخذ من الثورات المعاصرة نماذج وأمثالا: الصين وكوبا وما أكثر ما ضجت بأحداثهما الستينات، وما أكثر ما خرج حولهما من تعليق. وما أكثر ما ربط الناس بين التطور والماركسية في تلك المرحلة، وما أكثر ما تحدث زعماء العالم الثالث عن الاشتراكية والتقدمية بوصفهما خطة في معركة البناء والتحرر:
كان حتما على رجل المنهج أن يستخرج الضوابط لهذه التطورات؛ فيطرح ما علق فيها من أوهام ترتبط بالبنية الفكرية للإنسان المتخلف في العالم الإسلامي والعالم الثالث على العموم، ويأخذ الذي يثري مبادرات التغيير والتطور بتجربة فتية راهنة.
لذا استشهد الأستاذ مالك بكثير من المبادرات التي حفل بها العالم الحديث؛ فكانت اليابان مثلا لنهضة استقامت على سنة التاريخ، فأعطت وأثمرت منذ العصر الميجي في منتصف القرن الماضي، وكان الحديث عنها شاهدا على عقم ما اتبعت النهضة الإسلامية الحديثة من سبل فتفرقت بها عن سبيل الأصالة والسنن التي أودعها الله الحياة.
وكانت الصين، ومن قبلها الإتحاد السوفيتي، ومن بعدها كوبا، أمما أمثالنا؛ وقد واجهت أفكار هذه الأمم وقياداتها مشاكلها بتجربة واعية مدركة، فسارعت إلى مكانها في الإسهام في مصير العصر الحديث، في الإطار السياسي
والاقتصادي، فكان لابد إذن من مثل يؤخذ من هذه التجربة، ومثل يؤخذ من تلك التجربة، على الرغم من التباين المذهبي والسياسي بين التجربتين كلتيهما.
فحين يتحدث الأستاذ مالك عن اليابان حينا، وعن الصين أحيانا، على الرغم من أن الأولى ذات نظام رأسمالي والثانية ذات نظام شيوعي؛ فلكي يزيل عن أذهان العالم الثالث، ما قد فرضته معطيات الحياة المعاصرة، من حتمية الاختيار بين أي من النظامين في مواجهة ضرورات المستقبل.
فالأستاذ مالك يهتم بتوضيح الضوابط الفنية للحركة الاجتماعية، التي تتكون في بنائها ثقافة كل مجتمع، ويتكون في إطار هذه الثقافة حضارة توفر الشروط والضمانات الضرورية لأفراد ذلك المجتمع.
وهو في كل ما حدد من ضوابط في هذه المقالات في الإطار الثوري أو السياسي أو الاقتصادي، إنما يثري الفكر الإسلامي برؤية جديدة، يتعامل من خلالها مع القيم التاريخية والأصالة التي أودعها الإسلام ضمير العالم الإسلامي عبر العصور.
فالأستاذ مالك، يدعو إلى بعث هذه القيم في إطار ثورية حقيقية، ترتكز في أساسها على ما ارتكزت عليه الثورة الإسلامية في عهد النبوة، لذا يربط الأستاذ مالك بين معطيات السنن الإلهية في تطوير المجتمعات وتغييرها، وبين نجاحها الفعلي في كل أمة اتخذت طريق هذه السنن في مواجهة مستقبلها، مهما كان اتجاهها الفكري والمذهبي.
هذا الربط، إنما هو تأكيد للقاعدة التي هي سنة الله لا تبديل لها. فالله {لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11/ 13]. وتغيير ما بالنفس إنما هو تغيير ما بالفكر من رؤية للأمور، وما بالروح من رتابة وجمود.
لذا بدا صوت الأستاذ مالك في هذه المقالات، عاليا وأحيانا منفعلا، وهو
يرى غفلة الأبصار عن حقيقة الهزيمة في حرب 1967م في فلسطين. وهكذا ضاع ما كان لهذه الصدمة من أمل في بعث الرؤية الجديدة لمستقبل الأمة العربية، وضاع في إثرها كل عمل جاد في تجميع الثروة الاقتصادية والبترولية للعالم العربي، وتحويلها إلى قيمة اقتصادية عالمية ذات بعد سياسي واقتصادي معا.
لذا أهتم مالك بن نبي في الفصل الأخير، باقتصاد العالم الإسلامي والعالم الثالث على العموم، فوضع لهذا الاقتصاد قواعد التنمية الحقيقية التي ترتبط بالجهد الاجتماعي في أساسها.
هذه المقالات تضعنا أمام حقيقة واضحة، حقيقة ترقب حركات التاريخ المعاصر بنظرة موضوعية لا عقدة فيها ولا كراهية؛ نظرة لا تخاف الماركسية ولا الرأسمالية إنما هي تفصل بين واقعها التاريخي وتجربتها الاجتماعية. وهي تأخذ من هذه التجربة بمقدار ما يوضح القاعدة الأساسية التي هي من سنن الله، أما النماذج التي انتهت إليها تلك التجارب، فهي تحظى من الأستاذ مالك باحترام الجهد الإنساني المتعاون، لكنها أبعد ما تكون علاجا لحالة اجتماعية نحاول الخروج من مأزقها.
فالأستاذ مالك يدعو العالم الإسلامي والدول الإسلامية، إلى تجربة تستمد معطياتها من واقع المشكلة، بعد تحليل عناصرها، دون التأثر بالمفاهيم التي زرعتها الحضارة المعاصرة في أفكارنا، وأسدلت ستارها على أبصارنا.
وهو لذلك يدعو في هذه المقالات، إلى علم اجتماع مستقل يختص بمشكلات العالم الثالث بعد الاستقلال السياسي، ويختط لمستقبله الاجتماعي والاقتصادي، خطة تنمية لا يثقلها اطراد نمو العصر الصناعي في الحضارة المعاصرة، وما أفرز هذا الاطراد من مفاهيم ماركسية ومشكلات رأسمالية.
طرابلس- لبنان- 30 شعبان 1398هـ
4 آب (أغسطس) 1978م
عمر مسقاوي
مشكلات الحضارة
***************
بين الرشاد والتيه
دار الفكر المعاصر- بيروت لبنان
دار الفكر-دمشق سورية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
بين الرشاد والتيه
مالك بن نبي
مشكلات الحضارة
بين الرشاد والتيه
بإشراف ندوة مالك بن نبي
دار الفكر
دمشق-سورية
جميع الحقوق محفوظة
1426هـ - 2002م
ط1: 1978م.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
في عام 1971م ترك أستاذنا مالك بن نبي- رحمه الله- في المحكمة الشرعية في طرابلس لبنان، وصية سجلت تحت رقم 275/ 67 في 16 ربيع الثاني 1391هـ الموافق 10 حزيران (يونيو) 1971م، وقد حملني فيها مسؤولية كتبه المعنوية والمادية.
وتحملا مني لهذه الرسالة، ووفاء لندوات سقتنا على ظمأ صافي الرؤية، رأيت تسمية ما يصدر تنفيذا لوصية المؤلف (ندوة مالك بن نبي).
والتسمية هذه، دعوة إلى أصدقاء مالك بن نبي وقارئيه، ليواصلوا نهجا في دراسة المشكلات، كان قد بدأه.
وهي مشروع نطرحه بوصفه نواة لعلاقات فكرية، كان رحمه الله يرغب في توثيقها.
وإنني لأرجو من أصدقاء مالك وقارئيه، مساعدتنا على حفظ حقوق المؤلف في كل ما ينشر بالعربية أو الفرنسية مترجما من قبل المترجمين أو غير مترجم. فقد حمّلني- رحمه الله- مسؤولية حفظ هذه الحقوق، والإذن بنشر كتبه. فإن وجدت طبعات لم تذكر فيه إشارة إلى إذن صادر من قبلنا، فهذه طبعات غير مشروعة، ونرجو إبلاغنا عنها.
طرابلس لبنان 18 ربيع الأول 1399هـ
15 شباط (فبراير) 1979م
عمر مسقاوي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
بين الرشاد والتيه
كتاب ضم مقالات كتبها الأستاذ مالك بن نبي بالفرنسية، ونشر معظمها في جريدة ((الثورة الإفريقية La revolution Africain)) إثر عودته إلى الجزائر بعد الاستقلال في الستينات.
وقد جمعها رحمه الله في صيف عام 1972م، وترجمها إلى العربية، ثم بوبها وحدد فصولها، واختتمها بكلمة عن الصراع الفكري.
وقد سلمني أصول هذا الكتاب إثر الفراغ منه، فلما قرأته وجدت من المناسب مراجعة النص بما يحافظ على أسلوب الأستاذ مالك، ويزيل إبهام بعض العبارات، وهكذا أصبح الكتاب جاهزا للتداول بين أيدي القراء، في مرحلة من مسيرة الأمة العربية تداعت عليها الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.
فالمقالات هذه تعكس أحداث الستينات في الجزائر كما في العالم العربي والإسلامي. وهي أيضا تطرح مشاكل العالم الثالث بعد الاستقلال السياسي، فتسلط عليها أضواء كاشفة تبرز أبعادها وتنير طريق الكفاح، من أجل القضاء على هذه المشاكل.
ففي الستينات، كانت في الجزائر مهمات البناء الجديد للدولة، في الإطار السياسي والإداري والاقتصادي، وكان الأستاذ مالك يواجه بفكره هذه المهمات،
يرصد الأحداث اليومية والمبادرات المستقبلية. ثم يخرج على الناس بمقالات، تحدد مفاهيم العمل ومقاييسه الثابتة، حتى لا تضل في المفاهيم الغربية المستوردة، أو تتيه في زحمة التضليل المتداول في سوق الصراع الفكري.
وفي هذا الإطار كان الأستاذ مالك يتخذ من مواقف الأمس والحاضر أدلة للتوضيح والمناقشة.
فإذا تحدث عن الثورة في العصر الحديث، اتخذ من الثورات المعاصرة نماذج وأمثالا: الصين وكوبا وما أكثر ما ضجت بأحداثهما الستينات، وما أكثر ما خرج حولهما من تعليق. وما أكثر ما ربط الناس بين التطور والماركسية في تلك المرحلة، وما أكثر ما تحدث زعماء العالم الثالث عن الاشتراكية والتقدمية بوصفهما خطة في معركة البناء والتحرر:
كان حتما على رجل المنهج أن يستخرج الضوابط لهذه التطورات؛ فيطرح ما علق فيها من أوهام ترتبط بالبنية الفكرية للإنسان المتخلف في العالم الإسلامي والعالم الثالث على العموم، ويأخذ الذي يثري مبادرات التغيير والتطور بتجربة فتية راهنة.
لذا استشهد الأستاذ مالك بكثير من المبادرات التي حفل بها العالم الحديث؛ فكانت اليابان مثلا لنهضة استقامت على سنة التاريخ، فأعطت وأثمرت منذ العصر الميجي في منتصف القرن الماضي، وكان الحديث عنها شاهدا على عقم ما اتبعت النهضة الإسلامية الحديثة من سبل فتفرقت بها عن سبيل الأصالة والسنن التي أودعها الله الحياة.
وكانت الصين، ومن قبلها الإتحاد السوفيتي، ومن بعدها كوبا، أمما أمثالنا؛ وقد واجهت أفكار هذه الأمم وقياداتها مشاكلها بتجربة واعية مدركة، فسارعت إلى مكانها في الإسهام في مصير العصر الحديث، في الإطار السياسي
والاقتصادي، فكان لابد إذن من مثل يؤخذ من هذه التجربة، ومثل يؤخذ من تلك التجربة، على الرغم من التباين المذهبي والسياسي بين التجربتين كلتيهما.
فحين يتحدث الأستاذ مالك عن اليابان حينا، وعن الصين أحيانا، على الرغم من أن الأولى ذات نظام رأسمالي والثانية ذات نظام شيوعي؛ فلكي يزيل عن أذهان العالم الثالث، ما قد فرضته معطيات الحياة المعاصرة، من حتمية الاختيار بين أي من النظامين في مواجهة ضرورات المستقبل.
فالأستاذ مالك يهتم بتوضيح الضوابط الفنية للحركة الاجتماعية، التي تتكون في بنائها ثقافة كل مجتمع، ويتكون في إطار هذه الثقافة حضارة توفر الشروط والضمانات الضرورية لأفراد ذلك المجتمع.
وهو في كل ما حدد من ضوابط في هذه المقالات في الإطار الثوري أو السياسي أو الاقتصادي، إنما يثري الفكر الإسلامي برؤية جديدة، يتعامل من خلالها مع القيم التاريخية والأصالة التي أودعها الإسلام ضمير العالم الإسلامي عبر العصور.
فالأستاذ مالك، يدعو إلى بعث هذه القيم في إطار ثورية حقيقية، ترتكز في أساسها على ما ارتكزت عليه الثورة الإسلامية في عهد النبوة، لذا يربط الأستاذ مالك بين معطيات السنن الإلهية في تطوير المجتمعات وتغييرها، وبين نجاحها الفعلي في كل أمة اتخذت طريق هذه السنن في مواجهة مستقبلها، مهما كان اتجاهها الفكري والمذهبي.
هذا الربط، إنما هو تأكيد للقاعدة التي هي سنة الله لا تبديل لها. فالله {لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11/ 13]. وتغيير ما بالنفس إنما هو تغيير ما بالفكر من رؤية للأمور، وما بالروح من رتابة وجمود.
لذا بدا صوت الأستاذ مالك في هذه المقالات، عاليا وأحيانا منفعلا، وهو
يرى غفلة الأبصار عن حقيقة الهزيمة في حرب 1967م في فلسطين. وهكذا ضاع ما كان لهذه الصدمة من أمل في بعث الرؤية الجديدة لمستقبل الأمة العربية، وضاع في إثرها كل عمل جاد في تجميع الثروة الاقتصادية والبترولية للعالم العربي، وتحويلها إلى قيمة اقتصادية عالمية ذات بعد سياسي واقتصادي معا.
لذا أهتم مالك بن نبي في الفصل الأخير، باقتصاد العالم الإسلامي والعالم الثالث على العموم، فوضع لهذا الاقتصاد قواعد التنمية الحقيقية التي ترتبط بالجهد الاجتماعي في أساسها.
هذه المقالات تضعنا أمام حقيقة واضحة، حقيقة ترقب حركات التاريخ المعاصر بنظرة موضوعية لا عقدة فيها ولا كراهية؛ نظرة لا تخاف الماركسية ولا الرأسمالية إنما هي تفصل بين واقعها التاريخي وتجربتها الاجتماعية. وهي تأخذ من هذه التجربة بمقدار ما يوضح القاعدة الأساسية التي هي من سنن الله، أما النماذج التي انتهت إليها تلك التجارب، فهي تحظى من الأستاذ مالك باحترام الجهد الإنساني المتعاون، لكنها أبعد ما تكون علاجا لحالة اجتماعية نحاول الخروج من مأزقها.
فالأستاذ مالك يدعو العالم الإسلامي والدول الإسلامية، إلى تجربة تستمد معطياتها من واقع المشكلة، بعد تحليل عناصرها، دون التأثر بالمفاهيم التي زرعتها الحضارة المعاصرة في أفكارنا، وأسدلت ستارها على أبصارنا.
وهو لذلك يدعو في هذه المقالات، إلى علم اجتماع مستقل يختص بمشكلات العالم الثالث بعد الاستقلال السياسي، ويختط لمستقبله الاجتماعي والاقتصادي، خطة تنمية لا يثقلها اطراد نمو العصر الصناعي في الحضارة المعاصرة، وما أفرز هذا الاطراد من مفاهيم ماركسية ومشكلات رأسمالية.
طرابلس- لبنان- 30 شعبان 1398هـ
4 آب (أغسطس) 1978م
عمر مسقاوي
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
الفصل الأول طريق الثورة
الفصل الأول طريق الثورة
. الاطراد الثوري
. الأخلاق والثورة
. تقلبات عبر استقلال جديد
الاطراد الثوري
عن (الثورة الإفريقية) عدد 232 - أسبوع 24 - 30 تموز (يوليو) 1967م.
إن العدوان الإسرائيلي وضعنا في أجواء ثورتنا كأننا نعيشها مرة أخرى، والأحداث التي تتابعت منذ ذلك العدوان جعلتنا نتأملها مرة أخرى بعقولنا أيضا.
وها هي ذي نقاط كثيرة حرمنا لهيب المعركة أو قلة خبرتنا من الالتفات إليها في حينها أثناء الثورة الجزائرية، تصبح اليوم تجتذب اهتمامنا، كأنها جديدة علينا.
ولعل كلامنا يكون من قبيل تقرير الواقع، إذا قلنا إن أحدنا يشعر أكثر ما يشعر بالضربة حين تصيبه في مفصل من مفاصله. ويكفينا أن نتصور أو نتذكر الضربة التي تصيبنا في مفصل الذراع أو الركبة، لنقتنع بصحة ما نقول.
وللأطفال في هذا تجربة يومية، ونضيف إلى ذلك أن الجهاز الميكانيكي كثيرا ما يصيبه العطب في مفاصله.
وإذا قدرنا الثورة بوصفها اطرادا، فإن لها روابط تربط بين أطرافها أي مفاصلها، وتكون نقاط الضعف غالبا، عندما ننتقل من مرحلة في الاطراد إلى التي تليها.
ولم يكن ماركس، عندما كتب (تاريخ كومون باريس) رجل أدب، بل عالم حياة بالنسبة إلى الثورة التي فشلت بباريس عام 1871.
إن نجاح ثورة ما أو فشلها، هو بقدر ما تحتفظ بمحتواها أو تضيعه في الطريق وهذا كله يخضع لقانون.
فالثورة لا ترتجل، إنها اطراد طويل، يحتوي ما قبل الثورة، والثورة نفسها، وما بعدها. والمراحل الثلاث هذه لا تجتمع فيه بمجرد إضافة زمنية، بل تمثل فيه نموا عضويا وتطورا تاريخيا مستمرا، وإذا حدث أي خلل في هذا النمو وفي هذا التطور، فقد تكون النتيجة زهيدة تخيب الآمال.
إن الثورة الفرنسية تضمنت عهد ما قبل الثورة، في صورة مقدمات وجدتها في أفكار (جان جاك روسو) والعلماء الموسوعيين. فكان لهذه الحركة ما يدعمها حتى تحقق لها النجاح يوم 14 تموز (يوليو) عام 1789. لكن عبورها إلى مرحلة ما بعد الثورة كان فيه خلل، جعل أشباه الثوريين مثل (دانتون وميرابو) يسيطرون عليها، ويحاولون بناء مجدهم على حسابها، حتى في التعامل مع العدو، ليمنحهم انتصارات وهمية يعززون بها موقعهم مثل واقعة (قلمى).
ولقد انتهى بها المطاف بين أيدي نابليون الذي صنع منها- والتاريخ يعترف له بالفضل- قضية شخصية تحت لواء الإمبراطورية.
ولكننا مع ماركس ولينين، اكتسبنا في هذا الميدان، معلومات دقيقة، وتقنية ثورية تلم بجوانب الثورة، من مرحلتها التحضيرية إلى مرحلة الإنجاز، ومنها إلى مرحلة الحفاظ على الخط الثوري.
والواقع أن هذه ليست تقنية جديدة في التاريخ، فلو رجعنا إلى الوراء لوجدنا لها أثرا ليس في صيغة حرفية، ولكن في مواقف ثورية محددة.
إننا لو اعتبرنا الإسلام من جهة التاريخ المجردة، لرأيناه ثورة كبيرة غيرت كل البناءات السياسية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية في المجتمع الجاهلي. إننا نراها في أصعب الظروف قد غيرت كل شيء، حتى أسماء معتنقيها، فكانت النمو الثوري في أدق ما في هذه الكلمة من معنى.
وإذا كان يسيرا على المعاصرين للرسول الكريم، أن يشعروا بذلك في أنفسهم، فإن محكمة أميركية استطاعت هذه الأيام أن تقدر هذا الأثر في شخص الملاكم محمد علي الذي طلّق حتى اسمه القديم (كسيوس كلاي).
إنها دروس حية نلم بمصيرها حين نوازنها مع أحسن الدروس الثورية في الحاضر، أو مع بعض الأخطاء في ثورات معاصرة.
إن الثورة الإسلامية تقدم لنا أولا درسا عاليا، ربما زهدنا فيه أو تناسيناه، في ضبط السلوك. ففي غزوة أحد حيث يتعرض جيش المسلمين لضربة قاسية من جيش المشركين تحت قيادة قريش، نرى النبي عليه الصلاة والسلام يرفض على الرغم من قلة عدد من معه من المهاجرين والأنصار وعدتهم، يرفض سند عبد الله بن أبي وهو على رأس المنافقين واليهود ويقول: ((لا يقاتل معنا إلا من هو على ملتنا)).
ولم يكن هذا الموقف مجرد اندفاع خاص في لحظة معينة، فالقرآن سيعطي له كل معناه في الآية الكريمة: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:147/ 9]، مجددا فيها السبب لتجنب القتال مع متطوعين غرباء عن الثورة، أي مجرد مرتزقة كما نقول اليوم.
فالثورة ليست كإحدى الحروب تدور رحاها مع العدد والعتاد، بل إنها تعتمد على الروح والعقيدة.
ولا شك أن هذا المبدأ هو الذي حدد سلوك القيادة السوفيتية أثناء الحرب
العالمية الثانية؛ إذ في أحلك الأيام من معركة القفقاز ترفض مدد الحلفاء يأتيها عن طريق إيران.
إن لكل ثورة منهجا يتضمن المبادئ التي تسير عليها، كما يتضمن فحوى القرارات التي ستمليها عليها ظروف الطريق.
فموقف أبي بكر بعد وفاة الرسول الكريم، عندما ارتدت بعض القبائل من العرب، وزعمت أنها لا تدفع الزكاة وتبقي على غير ذلك مما أتى به الإسلام، قد يبدو فيه لمعاصريه بعض التشدد والغلو، كما يكون موقف المرتدين غير بعيد عن الأمر المعقول، إذا قدرناه من الجانب المادي فحسب دون الرجوع إلى مبدأ يقره المنهج أي تقره فلسفة الثورة القائمة، وكاد عمر بن الخطاب يكون على هذا الرأي، لولا إصرار أبي بكر رضي الله عنهما وفصله الموقف بقوله ((والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه)).
ولقد قاتل المرتدين فعلا، حتى نصره الله عليهم النصر المبين.
ولنا نحن، في موقف أبي بكر أسوة حسنة. والعبرة التي نأخذها منه هي:
أننا إذا لم نحفظ في عقولنا وقلوبنا مقدمات ومسلمات الثورة، فلن نفقد (عقالا) فقط بل نفقد الروح الثوري ذاته.
فالثورة قد تتغير إلى (لا ثورة) بل قد تصبح (ضد الثورة) بطريقة واضحة خفية. والأمر الذي لا يجوز أن يغيب عن أذهاننا في هذا الصدد هو أن مجتمعا ما بمقتضى طبيعته البشرية ينطوي على خمائر من روح (ما ضد الثورة) طبقا لمبدأ التناقض تناقضا مستمرا. حتى في فترة ثورية، نستطيع تتبع آثاره في تاريخ كل الثورات، تتبعا لا يغني معه أن ندفع عجلة الثورة في وطن ما، بل يجب أن نتتبع حركتها ورقابتها بعد ذلك.
وفي الملاحة يعرف ربان السفينة هذه الحقيقة بطريقته، إذ يعرف أنه لا يكفيه أن يقلع بسفينته في اتجاه معين، بل يجب عليه أن يراقب السير على طول الطريق من أجل تعديل الاتجاه من حين إلى آخر.
وهذه الضرورة لا تخفى على الأوطان التي قامت فيها الثورات المعاصرة، حيث نرى الشغل الشاغل بقياداتها أن تحافظ على (الخط الثوري)، وبالتالي فهذه الرقابة، بقدر ما لا تعني هذه الكلمة مجرد لفظة، وإن كانت ضرورية في كل ثورة، فهي أكثر إلحاحا في الأوطان التي لا تكون فيها فحسب خمائر (ما ضد الثورة) نتيجة إفراز المجتمع نفسه بطبيعته، بل تكون بالإضافة إلى ذلك محفوفة بالخطر في الاطراد الثوري من الخارج، على أيدي خبراء يعرفون كيف تجهض الثورات.
والخلاصة أن المجتمع الذي يقوم بثورة على الاستعمار فهو بطبيعة وضعه من ذلك الصنف، أي ذلك الصنف الذي تبدو المسلمة الأولى التي تقوم عليها رقابته، هي تقديره لخمائر (ما ضد الثورة) المحقونة في ثورته على أيدي خبراء الاستعمار.
فإذا عددنا هذا التقدير مجرد وسواس (1)، فذلك يقودنا إلى أن نرى الاستعمار طفلا بريئا تعتدي على براءته ألسنة شريرة، وإن ما حدث في سيناء ما هو إلا أضغاث أحلام خامرت نومنا هذه الأيام.
أما إذا كانت مأساة سيناء واقعا عشناه، فالأولى بنا أن نستخلص منه الدرس الذي تقدمه لنا.
__________
(1) غالبا ما تستولي الذهنية الصبيانية على قياداتنا، فتفضل إلغاء المشكلات حتى لا تتصدى لها ولا تبذل الجهد الذي يقتضيه التصدي، وبالتالي نراها تحقد على من يذكرها بواجبها وتتهمه إما بالوسواس أو بالطموح.
فمن الناحية العسكرية ليست القضية في تفوق العتاد وفي عبقرية موشي ديان، كما لا يمل القوم من تكراره لنا منذ شهر، حتى إنهم ضربوا في ألمانيا الغربية صورته على مدالية تذكارية، لتخدير الرأي العام الدولي، ولتنويمنا نحن.
يجب أن ننظر إلى القضية بدقة أكثر: فالعرب لم يكونوا في سيناء، أمام هنيبعل الإسرائيلي الصغير؛ ولكنهم واجهوا بعقلية الصبيان أجهزة في أعلى مستواها التقني وضعها الاستعمار تحت لواء إسرائيلي، ثم أمر اليهود بقصف سفينة التجسس (ليبرتي) كي يزيد في التعمية والتضليل.
لكن الناحية الأخرى تهمنا أكثر بكثير من الناحية العسكرية، إذ يجب أن نقول إن الانتصار الذي حققه اليهود في سيناء، لم تتهيأ شروطه في إسرائيل فحسب ولكن في البلدان العربية، إذ استطاع الاستعمار حتى تنويم الرادار في صبيحة 5 حزيران (يونيو) الأخير، ولا نذكر هذا التفصيل إلا لمجرد التوضيح.
أما الحقيقة فهي تخص فلسفتنا الثورية بأجمعها. فالثورة حين تخشى أخطاءها ليست بثورة، وإذا هي اكتشفت خطأ من أخطائها ثم التفتت عنه فالأمر أدهى وأمر. وفي هذا الصدد نذكر قول ماركس ((يجب دائما أن نكشف الفضيحة عندما نكتشفها حتى لا تلتهمنا)).
إن الشعب الجزائري قام، بدون شك بثورة مجيدة، ولكن هذا لا يعني أنها خالية من الأخطاء في اطرادها الثوري.
ولست أشير هنا إلى الخطأ البريء الخفيف الذي يتولى الوقت نفسه تصحيحه في الاطراد الثوري، بل أشير إلى الخطأ العضوي سواء أفرزه المجتمع، أو حقن به من الخارج حتى صار جزءا من كيانه.
فالنوع الأول من الخطأ قد يهم من يهتم بالتاريخ أكثر من سواه، بينما قد يكون له أيضا أثر سيئ في وطن ثوري، يتعرض لمثل الأخطاء فيرتكس إلى عهد الأثرة والمحسوبية والأنانية، عندما نرى مثلا في هذه القرية الجميلة من الجنوب الجزائري، هذا الرجل الذي كان من أركان جمعية العلماء يستولي على قصر، كان يسكنه أحد ولاة العهد البائد ويؤجر مسكنه. فنحن لا نرى في مثل هذا التصرف ما يدل على قلة تعفف فحسب، بل يدل أيضا على هبوط في الروح الثوري، إذن هذا العالم لم يتاجر فقط بملكه بل تاجر بالقيم الثورية.
وإذا كان أحد قادة الحركة النقابية يقترض بعض الملايين من الفرنكات القديمة من شركة بترول، ويبني بها فيلا فخمة لا ليسكنها ولكن ليؤجرها لسفارة أجنبية، فإنني لا أرى في هذا التصرف ما يمت إلى (الخط الثوري) ولا إلى (المطالب النقابية) بصلة.
ولكن يا آلهة نيتشه المتألمة الخجلة!! صفحا عن هذه الأخطاء الطفيفة. إذ هنالك الأخطاء العضوية التي لا يصلحها الزمن بل ينبغي أن تمحوها الثورة.
والثورة التي تريد الوصول إلى هدفها يجب أن تدفع هذا الثمن، وبهذا الثمن وحده تستطيع ذلك.
***
الأخلاق والثورة
عن (الثورة الإفريقية) عدد 264 - أسبوع 7 إلى 13 آذار (مارس) 1968م.
لعل عنوانا كـ (السياسة والأخلاق)، يكون في نظر بعض الناس أكثر انطباقا على محتوى هذا المقال، ولكن حتى على هذا الفرض فقد استعملته في مقال آخر (1).
ومهما يكن من أمر، فكثيرا ما يتهم (كاسترو) بسبب تشدده في الحفاظ على المبدأ الأخلاقي، بأنه يرتجل: يتهمه بذلك طرف من الصحافة اليمينية وأحيانا جناح من الصحافة اليسارية.
فتراه أحيانا في سياسته يقلب رأسا على عقب ما تعارف عليه الناس من مقاييس وتقاليد ثورية، وأحيانا أخرى نراه يلقي في سلة المهملات ما توارثه الناس من أفكار هؤلاء وأولئك، إلقاء قد يلتبس معه سلوكه فعلا على الذين يرونه يرتجل، أو ينفر من هذا السلوك رجال الاقتصاد والتخطيط في الغرب أو في الكتلة الشرقية على حد سواء.
وكأنه هو الآخر ينفر من هؤلاء وخاصة التشيكيين والسوفييت الذين نراه يعزو إليهم فشل بعض المشاريع التي لم تعط نتائج فعلية في كوبا.
__________
(1) انظر [ص:73] من هذا الكتاب.
إن (كاسترو) لا يجد بعد في تصرفه، ذلك الجهاز الثقيل من إحصائيات وآلات إلكترونية وأصحاب اختصاص، ذلك الجهاز الذي يجعل الإنتاج المتسلسل عملية لا ثغرة فيها ولا خلل كما هو الأمر في البلاد المصنعة.
ولكن وطنا لم يزل في طور التكوين، لا يمكنه أن يمتع نفسه بهذا الحشد من الأرقام، وبهذا الترف من الآلات الإلكترونية، ليبلغ منذ اللحظة الأولى الذروة في ضبط عملية الإنتاج، والدقة التي لا تترك ذريعة فيها.
إن الإتحاد السوفييتي نفسه مر بهذه المرحلة، فقد كانت، أثناء مخططه الأول بين عامي 1928 - 1932م نسبة (40% إن لم نقل 50%) من إنتاجه من الحديد أو من الخزف، تلقى في أكداس المهملات أو تعود إلى أفران التذويب.
ولم يكن الإتحاد السوفييتي يخشى أن يتعلم الصناعة بهذا الثمن، كما كانت روسيا في عهد بطرس الأكبر تتعلم فن البحرية والحرب العصرية. حتى كان النبلاء فيها من طبقة (البويا) يقصرون لحاهم على الطريقة الأوربية.
إذن فليس على (كوبا) أن تخجل من تدريبها، وإذا اتهم (كاسترو) بأنه يرتجل فليكن؛ غير أننا نعترف بأنه يرتجل بطريقة موفقة عندما نرى، منذ زمن قريب، كيف تخرج من يده قرية مجهزة بمدرسة ومصحة في مكان (مدينة صفائح) توافرا لها منذ شهر ونصف الشهر فقط.
فإذا كانت الحالة هذه بكوبا تثير التعجب والاستغراب من طرف بعض الملاحظين، فإنما يعود ذلك إلى أن القرن العشرين تعود أن يستقطب الأفكار حول قطبين هما: الرأسمالية والماركسية، ولا يحتمل احتمالا ثالثا لهما يبدو معه أن لا مناص من أن تستوحى الأفكار من هذا القطب أو من ذاك القطب، في الميدان الاقتصادي أو التربوي أو السياسي دون تفكير خارجهما.
لكن (كاسترو) تحرر في تفكيره من كل تبعية لموسكو أو بكين، على الرغم من أنه ينتمي إلى مدرسة (ماركس) فبدأ يبتكر أو يرتجل كما يقولون.
وليس خروج (كاسترو) عن الماركسية المألوفة تنكرا للفكرة نفسها أو حبا للظهور بالأصالة، إنما هو تمسك رجل دولة بما يراه ضروريا من حرية في الفكر وفي التصرف، للقيام بوظيفته طبقا لما تقتضيه تجربة بلاده.
ونحن ما نزال على مقربة من بداية هذه التجربة، قربا لا نستطيع معه الحكم منذ الآن، فهل ستؤدي إلى انشقاق نظري أم لا؟! وماذا ستكون آثار هذا الانشقاق- إذا حدث- في المجال السياسي بوجه خاص؟!
ولكننا نستطيع منذ الآن ملاحظة فوارق جذرية، إذا ما تذكرنا ما قاله (لينين) وهو يواجه أقسى الصعوبات بعد هدنة (بريست ليتوفسك): ((إذا وجب علينا أن نسير إلى النصر زحفا على البطون ..... فليكن)).
بينما كاسترو يصرخ طاقة جهده بأن (سياسة الثورة) لا تقوم على الحسابات، فالمصلحة الوطنية وما يمليه أمر الدولة، إنما تقوم على المبدأ الأخلاقي.
فهذا كلام لا نتصوره على لسان رجل مثل (الكردينال دوريشيليو)، ولا على لسان (تاليران)، وإنما نجده في صرخة (دوبان دونمور)، الذي صرخ ذات يوم في مناقشات تدور بمجلس الثورة الفرنسية حول قضية المستعمرات، صرخ قائلا: ((فلتمت المستعمرات ولكن لا نسلم في مبدأ من مبادئنا)).
إن (كاسترو) ليس عالم أخلاق وإنما رجل دولة يعرف قيمة الأخلاق في السياسة.
لكن التاريخ لن يصدر عليه حكمه طبقا لمبادئ مجردة بل طبقا لنتائجها في الواقع الملموس.
إنما من ناحية أخرى، يجوز لعالم الاجتماع بل يستحسن منه، أن يعلم ما إذا كان للأخلاق وظيفة في السياسة؟.
إن الأشياء ما تزال بالنسبة إلينا في ضباب الثورة، تجدد نفسها الثوري في كل خطوة وأمام كل صعوبة جديدة تواجهها.
لكن الأشياء بدأت خلال هذا الضباب تتخذ أكثر فأكثر شكلها، وتظهر كصدمات تجربة من شأنها أن تعم العالم الثالث كله، على الرغم من حدودها الضيقة في وطن صغير مثل كوبا.
لاشك أن إدانة الحافز المادي في الإنتاج، لم تعط بعد أثرها الواضح في منحنى التنمية على الأقل، حسب أقوال الصحافة التي نقرؤها في هذه الناحية من العالم.
كما أن إلغاء العلاقات السوقية بين المنتجين والدولة، مع ما يوحي به من إلغاء العملة ذاتها في أمد قد لا يبعد، لا يزال أيضا في غموض.
ولكن الشيء الذي نستطيع تقريره منذ الآن، هو أن هذه القرارات تثيرنا من ناحيتين:
إنها في الميدان الاقتصادي تمثل النموذج المثالي لا نسميه الاستثمار الاجتماعي، وهو أمر لا نجده في وطن آخر في الموضوع نفسه.
ومن هذه الناحية فإنها تقدم درسا لا يستغني عنه العالم الثالث، الذي بين يديه الكثير من الذهب ومن العملة الصعبة.
ولكن هذا الدرس يتضمن جانبا يهم العالم كله، ألا وهو الثقة في القيم الأخلاقية ومنحها الأولوية في الإنتاج وفي درجة الالتزام في الحياة السياسية.
ولنتأمل على سبيل المثال، هذا الدرس في إحدى قضايا العمل الإنتاجي:
إن العامل قد يتغيب من دون عذر عن عمله فما هي عقوبته؟.
إنه لا يجازى بحسم من تموينه ومن أجرته، ولكن يفرض عليه عدد من أيام تغيب أخرى.
فالجزاء يقوم هنا على قاعدة أن اللولب النفسي ذو فعالية أكبر من اللولب الاقتصادي في حياة الفرد.
ولكن هل هذه القاعدة تصح من دون قيد أو شرط؟.
إننا لا نتصور أثرها إلا في مناخ أخلاقي حقيقي، تكونه الثورة وتحافظ عليه بوصفه صيدا أساسيا لها، كذلك المناخ الذي نشعر به في قصة المخلفين في القرآن الكريم.
ونحن إذا عدنا إلى تجربة كوبا، نرى (كاسترو) لا يخلق هذا المناخ فحسب، بالقرارات العامة التي يتخذها وبتفسيرها للجماهير، بل يمثلها أيضا في سلوكه الشخصي ليكون القدوة في هذا كله.
فعندما قرر سياسة التقشف في استهلاك البترول، كان لها مسوغاتها الاقتصادية، بسبب الحصار الاقتصادي الذي ضربته أمريكا على كوبا، حصارا أصبحت معه واردات البترول حتى من (البلاد الصديقة) لا تغطي غير 2% من الزيادة في الاستهلاك التي تقدر بـ 8% بالنسبة إلى السنوات السابقة. وقد أشار إلى ذلك في خطابه بمناسبة رأس السنة (1).
لكن الأمر الذي يرفع هذا القرار إلى أعلى درجة في الفعالية، هو تفسير (كاسترو) له في غير الإطار الاقتصادي، إذ قال في الخطاب نفسه ((إنه لا يليق بكرامة هذا الشعب أن يبقى دائما يطلب العون من الآخرين)).
فهذا درس ينبغي ألا يهمله العالم الثالث المنغمس في سياسة الاستنجاد
__________
(1) 2 كانون الثاني (يناير) 1968.
والاستجداء. فقد أعطى (كاسترو) من نفسه القدوة، إذ استبدل بالسيارة التي ورثها عن خصمه السابق (باتيستا) سيارة عسكرية تقتصد استهلاك البترول.
هذا كله قد يسميه الآخرون (الأخلاق الماركسية) نسبة إلى انتماء (كاسترو)، ولكننا في إطار النظرة الموضوعية نراه فقط (الأخلاق) في المناخ الثوري.
إن ثورة ما، لن تستطيع تغيير الإنسان إن لم تكن لها قاعدة أخلاقية قوية.
إن (روبسبيير) و (سان جوست) وهما من هما في الثورة الفرنسية، يمثلان قبل كل شيء أنضج صورة لأخلاق ثورية لا تنازل فيها.
فلا يجوز لنا إذن أن نستغرب الأمر إذا ما كان (كاسترو) لا يفسر قرارا اتخذه بالأرقام أي بمسوغات مادية، بل يفسره بمسوغات أخلاقية عندما يشير إلى كرامة الشعب الكوبي.
إن ثورة تقوم، لا تكون ثورة حقيقية لمجرد ما تجتهد في نشر العدالة الاجتماعية بين طبقات الشعب، إذا هي لم تعلمه كيف يستعيد شخصيته، وتلقنه معنى كرامته.
ولقد يكون التعبير عن هذه الكرامة في نص الدستور نفسه، كالتصريح بحقوق الإنسان والمواطن في الثورة الفرنسية، أو يكون بمجرد قرار عن ضرورة التقشف في استهلاك البترول كما أشرنا إليه في كوبا.
وهذه الاعتبارات عن وظيفة الأخلاق، ليست بنت الأمس: فقضية تكريم الإنسان لم تهمل ولم تنس في الثورة الإسلامية منذ أربعة عشر قرنا: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء70/ 17]. هكذا وضع القرآن الكريم في آية لكرامة الإنسان قاعدة سامية بالنسبة لدنياه ولآخرته.
والإنسان لا يجوز له أن يخالف في سلوكه هذا التكريم، الذي لا يضمن له حقوقا فقط، بل يفرض عليه واجبات أيضا.
هذه الازدواجية تتمثل أحسن تمثيل، في حديث عن حكيم بن حزام إذ يقول:
((سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني، ثم سألته فأعطاني ثم قال لي:
يا حكيم إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاء نفس بورك له فيه، ومن أخذه باستشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى. قال حكيم: فقلت يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر يدعو حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا، ثم إن عمر دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل.
فقال يا معشر المسلمين، إني أعرض عليه حقه الذي قسم الله له من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه.
فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى توفي رحمه الله)).
فهذا الحديث يلخص ويوضح لنا كل ما نسميه (أخلاقية الثورة)، إعطاء الإنسان حقه ولكن مع الحفاظ على كرامته.
إن بعث الإنسان ليس ثمنه ضمان حقوقه فقط.
بل إننا نرى في موقف حكيم، بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الثمن الحقيقي حين يرفض حقه من الفيء.
إن الثورة الجزائرية تستطيع أن تستوحي من الثورات العصرية، لبعث الإنسان الجزائري وتغييره بعد ما أصابه في فطرته طيلة عهد الاستعمار، ولكن إذا كان خطاب الرئيس (بومدين) الأخير أثناء رحلته في جبال أوراس، قد
لفت النظر بصورة عامة، فالمقطع الذي نال منه هتافا أكبر من الحاضرين، هو الذي أشار فيه إلى جذور الثورة الإسلامية.
لقد هتف الشعب لهذا المقطع، لأنه يعيد الثورة إلى إطارها التاريخي الحقيقي. فالشعب أحس عند هذا المقطع بشخصيته تتحرك في أحشائه، ولقد أثارتنا على شاشة التلفزة تلك الصور التي التقطت أثناء الرحلة، حيث نرى رجالا شدادا كالجبال التي حولهم، يجيبون عن الأسئلة المطروحة عليهم وهم يمسحون الدموع. فالقوى الأخلاقية التي قامت بالثورة ثم بدأت تتقهقر في عهد الديماغوجية بدأت تنطلق من جديد. فلعل الإنسان الذي تركته الظروف إلى العزلة والإنفراد يعود إلى عشيرته ومصيره الوطني في المناخ الجديد.
فالحوار الذي دار بين المسؤولين والجماهير، تحت قمم أوراس الشاهقة، قد أعاد في كلمات قالت الحقيقة، الجسر الذي يصل الشعب بالدولة.
وليس غريبا في هذا المناخ من الثقة المتبادلة أن تتحقق المعجزات، ولو كان ثمنها مزيدا من التقشف، لأن الصعوبات لا تزول بين عشية وضحاها بعصا سحرية.
هذا هو السر الذي أدركه (كاسترو) عندما ركز سياسة الإنتاج في بلاده على الحافز الأخلاقي أكثر من الحافز المادي. وقد أنهى بذلك عملية تخريب تقوم بها تحت الأرض شرذمة تسعى لتبريد المناخ الثوري بالمزايدة الديماغوجية أو حتى بالخيانة الصرفة.
إن كل ثورة ملزمة بأن تحمي نفسها من سائر المحاولات التخريبية، التي يكون فيها أصحابها سلطة جانبية في وطن ثوري، يؤثرون فيه حتى لحساب الخارج بما في أيديهم من وسائل السلطة.
وبعبارة أخرى، فإذا كانت الثورة في حاجة إلى (أخلاقية) لا تتنازل عن شيء، فمن واجبها أيضا أن تتمتع بحاسة نقدية لا يفوتها شيء، حتى لا تؤخذ على غرة في أي لحظة وفي أي قطاع من أجهزة الدولة.
فعندما تحدث الرئيس (بومدين)، أثناء رحلته بجبال الأوراس، عن بقايا (الحركيين)، فكأنه أراد أن يشير في هذه المناسبة إلى ضرورة طرح مثل هذه القضية.
وإن طرحها لواجب فعلا، ولنا أكثر من مسوغ في هذا الصدد. وبالإضافة إلى ذلك، فالثورة التي تقف في منتصف الطريق خلال إنجاز مهماتها أو تخشى إصلاح أخطائها فإنها تنتحر.
فالسياسة تستطيع المراوغة والمداهنة، لكن الثورة تفرض عليها أخلاقيتها أن تمضي إلى آخر المطاف.
***
تقلبات عبر استقلال جديد
عن (الثورة الإفريقية) عدد 249 أسبوع 23: 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1967.
ها إن الأمر قد تقرر، فالحكومة الإنجليزية صرحت رسميا عن جلاء جنودها، في آخر هذا الشهر من عدن وما حولها مما يسمى (الجنوب العربي).
وهكذا ينشأ استقلال جديد في التيار الذي بدأ بعد الحرب العالمية الثانية تحت اسم (تصفية الاستعمار).
إن الأيام الكبرى في التاريخ فترات يسودها الإكبار والإجلال، وتسكت فيها النزعات الخاصة، وتهمد المنازعات، حتى تلك التي تحركها الفوارق الإيديولوجية، وهكذا تسكن العقول والقلوب إلى بعضها كما حدث في فرنسا عام 1945 عندما ائتلف أتباع (ديجول) وأتباع (توزير) وشكلوا حكومة التحرير.
إنها لحظات فرح وتأمل معا، تضع سماتها على وجوه جماهير مبتهجة، فها هن أولاء النسوة يلوحن بمناديلهن البيضاء، ويطلقن زغاريدهن تحية لجيش منتصر، وها هم أولاء الأطفال يملؤون الجو ضحكا ومرحا. وها هو ذا الشيخ العجوز يمسح بيد ترتعش، دمعة تجري على خد كتب العصر فيه سطور أيامه.
إنهم جميعا يعبرون بطريقتهم الخاصة عن عظمة أيام لها معنى في تاريخ الوطن.
حركاتهم التقليدية المألوفة، تبدو وكأنها تمحو لحظات أخرى عاشوها في
المحنة. كما يمحو الشعب من ذاكرته أيام حرب خاضها بدمه، أو أيام احتلال أجنبي عاناها أو أيام ... الاستعمار.
ولكن يحدث أحيانا في جو البهجة أن تنفجر المأساة!
فالجزائر التي كانت تعيش عيد استرجاع الوطن المفقود، كادت تعيش ذلك اليوم في 5 تموز (يوليو) عام 1962 يوم حزن وطني، لولا حكمة الشعب وتدخله بين طرفين يتنازعان السلطة.
الوطن يتذكر كيف كاد ذلك اليوم أن يكون أحلك أيام الثورة، لأن بعض الفئات دنست اللحظة الجليلة بنزعات فردية، لم تذب في حرارة التعارف والإخاء اللذين كانا يسودان ذلك اليوم.
هكذا جمدت على الشفاه ذلك اليوم زغاريد النساء، وبدت على وجوه الشيوخ طيات من الأسى جديدة، وتوارى ضحك الأطفال من شوارع العاصمة الجزائرية، حين تواجه الطامعون في السلطة من الفريقين برصاص رشاشاتهما.
نذكر هذا كله في الجزائر ونذكر كيف كانت حكمة الشعب وحدها، الحائل دون تفاقم الصراع والأخذ بعيد الاستقلال إلى جو البهجة والحبور.
وشعب فيتنام وهو لا زال يعيش المأساة يتذكر هو الآخر كيف دنست النوازع يوم استقلاله.
شعب الكونجو وما حل به بعد انسحاب السلطة البلجيكية، ثم شعب نيجيريا يعيش المأساة وكأنها تنتظر كل شعب من شعوب العالم الثالث وهو على عتبة استقلاله.
إنها لظاهرة تتسم بها البلدان المستعمرة، فأي وطن منها ارتفع فيه علم الاستقلال، لم يجد في ذلك اليوم أزمة تنفجر على مستوى قياداته!؟
لقد كان (التقسيم) وليد هذه الظاهرة في الهند. فكانت باكستان بغثّها وسمينها وما منيت به من خسائر في النفس والنفيس، فضلا عن هجرة الملايين أو تهجيرهم مطاردين في طرفي حدود مصطنعة. وكانت أخيرا رصاصة مني بها رجل (اللاعنف) غاندي نفسه وقضت عليه إبان الزوبعة التي أثارها استقلال الهند.
قد لا نخطئ إذ نعزو ذلك إلى دهاء الإنجليز، فإذا اعتمدنا هذا السبب- وهو ليس السبب الوحيد- فدور رجل مثل (باطيل) (1) ونظيره الباكستاني لا يقل أهمية في الموضوع.
وبعبارة أدق فزعماء المؤتمر الهندي من ناحية، والرابطة الإسلامية من ناحية أخرى، هم الذين تحقق على أيديهم تمزيق الوطن وزهق ملايين النفوس.
ينبغي أن نسقط أحداث الجنوب العربي على هذه الخلفية، إذا أردنا أن نفهم طبيعة الخلاف الناشب اليوم بين الحركتين وهما على عتبة إستقلال الوطن.
هنا أيضا لا نغفل دور (إنجلترا) التي تريد أن تغادر الديار، ولكن بعد إضرام النار في أركانها.
وإذا كان الأمر كذلك، فإنها تقاليد الاستعمار يباشر (تصفية الاستعمار) كما يقولون بهذه الطريقة، حدث ذلك في فلسطين عام 1948 عندما غادرها الجيش البريطاني على رؤوس الأصابع، ليترك الشعب الفلسطيني تحت رحمة رشاشات المنظمات الإرهابية الصهيونية كـ (شتيرن والهجانا).
بل لعل الطريقة التي اتبعها الإنجليز في فلسطين، أكثر وضوحا من الطرق التي يسلكها الاستعمار عادة في مثل هذه الحالات، فقد جاء انسحاب الجيش
__________
(1) وزير الداخلية في الحكومة الهندية الأولى وكان رجلا معروفا بالتعصب الديني والحقد على الإسلام.
البريطاني بترك الميدان للصهيونيين الذين هيأتهم قياداتهم ووحدتهم من أجل القيام بدورهم، بينما القيادات العربية غمرت شعوبها بالخطب الرنانة فتمزقت وحدتها، وبدلا من أن تنصرف إلى خلاص الأمة عمدت كل واحدة منها إلى الاستيلاء على جزء من أجزائها.
والفارق هنا في منتهى الوضوح، لأننا إذا كنا لا نعرف بالضبط ما تريده القيادة العربية ولا ندري إذا كانت هي الأخرى تعرفه، فإننا على العكس من ذلك، نعرف تماما ما كانت تريده القيادة الصهيونية، وهي كانت تعرفه بوضوح أكبر.
وينبغي أن نضيف للتاريخ ولتعميق إدراكنا، أن العرب لم يكونوا يفكرون في استخلاص النتيجة الضرورية من تلك المجابهة المؤلمة مع واقعهم، إذ لو تأملوا لوجدوا واقعهم يطرح القضية بلغة الحضارة.
فلم يكن من محض الصدفة، أن القيادات الصهيونية تقتصد في الكلام وتلتزم الفعالية في العمل، كما كانت أكثر وفاء لالتزاماتها السياسية والعقائدية من القيادة العربية.
ذلك أن التحليل يقودنا إلى القول إن القيادة الصهيونية كانت تتحرك، وتحرك حولها الأشياء والأشخاص طبقا لما تمليه ثقافة حضارة؛ بينما لم تكن القيادة العربية ترى من الأشياء والأشخاص إلا وسائل لإشباع حبها وهواها في السلطة؛ أي إنها كانت تخضع لما تمليه ثقافة (القوة) التي ربما تنعكس حسب الظروف إلى عقدة (ضعف).
واليوم! نرى الجنوب العربي تسوده الفوضى، وتجابه مرة أخرى قيادة عربية بمشكلة حضارة.
ولو طرحت هذه القيادة قضيتها تحت عنوان (مشكلة حضارة) بل لو تعمدت طرحها بهذه الطريقة لحققت بدفعة واحدة هدفين:
الأول في المجال النفسي؛ حين تحرر كل زعيم من هؤلاء الزعماء من عقدة السلطة، فينظر إلى الاستقلال من زاوية الواجبات توضع على كاهل كل فرد، بدلا من نظرته إليه من زاوية الحقوق يمنحها له، إذن هذا الزعيم سيعدل تلقائيا أطماعه في السلطة.
والهدف الثاني نتيجة للهدف الأول على الصعيد السياسي؛ إذ بقدر ما تتعدل نظرة الزعيم نحو السلطة، ويتحول تقديره لها من مجموعة (حقوق) إلى مجموعة (واجبات)، يضيق مجال مناورات الاستعمار، لأنها تصبح غير ممكنة في نفوس محصنة بعيدة عن الهوى والغرور.
فكل عمل يسهم في تضييق هذا المجال النفسي (الطمع في السلطة) يستحق التقدير، خصوصا في وطن يعيش مرحلة من (تصفية الاستعمار).
هكذا نرى أنفسنا أمام ضرورة ملحة كثيرا ما ألمحنا إليها في مقالات سابقة، ألا وهي تصفية الاستعمار في العقول قبل كل شيء.
فتصفية الاستعمار من العقول تتطلب أشياء كثيرة يتضمنها مفهوم الثقافة ومفهوم الحضارة، فهي لا تتحقق إذن بمجرد انسحاب جيوش الاستعمار، ومجرد إعلان الاستقلال وتحرير دستور كما هو الأمر بالنسبة للتراب الوطني.
ولا نستطيع في هذه السطور إلا الإشارة الرمزية إلى هذا المضمون، ثم يبقى إدراجه في منهج تربوي يهدي إلى تقويم جديد في ضمير كل مواطن، وخاصة كل زعيم، لمفهوم الواجب المطهر، الذي من شأنه أن يطهر أولا الجو السياسي في الأوطان التي تعيش مرحلة تصفية الاستعمار.
أما (الحق) ... فما أغراها من كلمة! إنها كالعسل يجذب الذباب ويجتذب الانتفاعيين، بينما كلمة (الواجب) لا تجتذب غير النافعين.
وكلمة الواجب على الصعيد السياسي توحد وتؤلف، بينما كلمة (الحق) تفرق وتمزق.
إن زعماء الجنوب يعطون اليوم، بفرقتهم وتناحرهم وتطاحنهم أجلى صورة عن هذه الظاهرة (1).
وما كان اجتماعهم الأخير في القاهرة حيث اجتمع- كما نذكر- ممثلو الحركتين المتنازعتين حول مائدة خضراء، ما كان هذا الاجتماع إلا محاولة من كل من الطرفين للحصول على أكبر نصيب ممكن من النفوذ والسلطة، وهو لم يكن بالتالي إلا حوارا بين صم لم يتعلموا حتى الكلام بالأصابع. واجتماع كهذا ما كان له أن ينتج غير الإفلاس الذي شاهدناه.
إنما ينبغي ألا ننسى مكيدة عجلت بذلك الإفلاس، فالقارئ يتذكر بدون شك أنه في نهاية الإجتماعات، وحتى أثناءها، وزعت شركة أنباء غير موفقة، أوْ لها على العكس توفيق خاص، نبأ يزعم بأن الطرفين قد وصلا إلى اتفاق على تأليف حكومة على رأسها زعيم من حركة ...
لقد كان هذا النبأ بمثابة (برقية أيمس) تلك البرقية المزيفة التي سبقت حرب 1870 بين فرنسا وألمانيا، فألهبت برميل البارود وبلغت الأزمة أشدها. وإذا بالرصاص الذي أعد لصد الإمبرياليين يحصد في صفوف المقاومين والمجاهدين من أجل الاستقلال.
__________
(1) كتبت هذه المقالة أيام كانت فكرتنا عن الجنوب العربي غير واضحة. أما اليوم فإننا نعرف ماذا يريد جورج حبش وحواريوه في المنطقة.
وربما سيكون يوم إعلان الاستقلال (أي في خلال أسبوع) اليوم الذي ستسمع فيه شوارع عدن رصاص الرشاشات عوض زغاريد النساء وضحك الأطفال.
إن على هؤلاء الزعماء أن يعودوا إلى رشدهم- احتراما للشعب- فلا يدنسوا لحظة عظيمة من تاريخ وطنهم بل من تاريخ العرب والعالم الثالث، بكلمات أو أعمال مؤسفة. وأن يحكموا فيما بينهم إرادة الشعب التي هي كما يقول المثل الروماني ((صوت الشعب هو صوت الله)).
إن هذه المعجزة ممكنة، وقد رأيناها تحققت في الجزائر في شهر تموز (يوليو) عام 1962.
***
. الاطراد الثوري
. الأخلاق والثورة
. تقلبات عبر استقلال جديد
الاطراد الثوري
عن (الثورة الإفريقية) عدد 232 - أسبوع 24 - 30 تموز (يوليو) 1967م.
إن العدوان الإسرائيلي وضعنا في أجواء ثورتنا كأننا نعيشها مرة أخرى، والأحداث التي تتابعت منذ ذلك العدوان جعلتنا نتأملها مرة أخرى بعقولنا أيضا.
وها هي ذي نقاط كثيرة حرمنا لهيب المعركة أو قلة خبرتنا من الالتفات إليها في حينها أثناء الثورة الجزائرية، تصبح اليوم تجتذب اهتمامنا، كأنها جديدة علينا.
ولعل كلامنا يكون من قبيل تقرير الواقع، إذا قلنا إن أحدنا يشعر أكثر ما يشعر بالضربة حين تصيبه في مفصل من مفاصله. ويكفينا أن نتصور أو نتذكر الضربة التي تصيبنا في مفصل الذراع أو الركبة، لنقتنع بصحة ما نقول.
وللأطفال في هذا تجربة يومية، ونضيف إلى ذلك أن الجهاز الميكانيكي كثيرا ما يصيبه العطب في مفاصله.
وإذا قدرنا الثورة بوصفها اطرادا، فإن لها روابط تربط بين أطرافها أي مفاصلها، وتكون نقاط الضعف غالبا، عندما ننتقل من مرحلة في الاطراد إلى التي تليها.
ولم يكن ماركس، عندما كتب (تاريخ كومون باريس) رجل أدب، بل عالم حياة بالنسبة إلى الثورة التي فشلت بباريس عام 1871.
إن نجاح ثورة ما أو فشلها، هو بقدر ما تحتفظ بمحتواها أو تضيعه في الطريق وهذا كله يخضع لقانون.
فالثورة لا ترتجل، إنها اطراد طويل، يحتوي ما قبل الثورة، والثورة نفسها، وما بعدها. والمراحل الثلاث هذه لا تجتمع فيه بمجرد إضافة زمنية، بل تمثل فيه نموا عضويا وتطورا تاريخيا مستمرا، وإذا حدث أي خلل في هذا النمو وفي هذا التطور، فقد تكون النتيجة زهيدة تخيب الآمال.
إن الثورة الفرنسية تضمنت عهد ما قبل الثورة، في صورة مقدمات وجدتها في أفكار (جان جاك روسو) والعلماء الموسوعيين. فكان لهذه الحركة ما يدعمها حتى تحقق لها النجاح يوم 14 تموز (يوليو) عام 1789. لكن عبورها إلى مرحلة ما بعد الثورة كان فيه خلل، جعل أشباه الثوريين مثل (دانتون وميرابو) يسيطرون عليها، ويحاولون بناء مجدهم على حسابها، حتى في التعامل مع العدو، ليمنحهم انتصارات وهمية يعززون بها موقعهم مثل واقعة (قلمى).
ولقد انتهى بها المطاف بين أيدي نابليون الذي صنع منها- والتاريخ يعترف له بالفضل- قضية شخصية تحت لواء الإمبراطورية.
ولكننا مع ماركس ولينين، اكتسبنا في هذا الميدان، معلومات دقيقة، وتقنية ثورية تلم بجوانب الثورة، من مرحلتها التحضيرية إلى مرحلة الإنجاز، ومنها إلى مرحلة الحفاظ على الخط الثوري.
والواقع أن هذه ليست تقنية جديدة في التاريخ، فلو رجعنا إلى الوراء لوجدنا لها أثرا ليس في صيغة حرفية، ولكن في مواقف ثورية محددة.
إننا لو اعتبرنا الإسلام من جهة التاريخ المجردة، لرأيناه ثورة كبيرة غيرت كل البناءات السياسية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية في المجتمع الجاهلي. إننا نراها في أصعب الظروف قد غيرت كل شيء، حتى أسماء معتنقيها، فكانت النمو الثوري في أدق ما في هذه الكلمة من معنى.
وإذا كان يسيرا على المعاصرين للرسول الكريم، أن يشعروا بذلك في أنفسهم، فإن محكمة أميركية استطاعت هذه الأيام أن تقدر هذا الأثر في شخص الملاكم محمد علي الذي طلّق حتى اسمه القديم (كسيوس كلاي).
إنها دروس حية نلم بمصيرها حين نوازنها مع أحسن الدروس الثورية في الحاضر، أو مع بعض الأخطاء في ثورات معاصرة.
إن الثورة الإسلامية تقدم لنا أولا درسا عاليا، ربما زهدنا فيه أو تناسيناه، في ضبط السلوك. ففي غزوة أحد حيث يتعرض جيش المسلمين لضربة قاسية من جيش المشركين تحت قيادة قريش، نرى النبي عليه الصلاة والسلام يرفض على الرغم من قلة عدد من معه من المهاجرين والأنصار وعدتهم، يرفض سند عبد الله بن أبي وهو على رأس المنافقين واليهود ويقول: ((لا يقاتل معنا إلا من هو على ملتنا)).
ولم يكن هذا الموقف مجرد اندفاع خاص في لحظة معينة، فالقرآن سيعطي له كل معناه في الآية الكريمة: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:147/ 9]، مجددا فيها السبب لتجنب القتال مع متطوعين غرباء عن الثورة، أي مجرد مرتزقة كما نقول اليوم.
فالثورة ليست كإحدى الحروب تدور رحاها مع العدد والعتاد، بل إنها تعتمد على الروح والعقيدة.
ولا شك أن هذا المبدأ هو الذي حدد سلوك القيادة السوفيتية أثناء الحرب
العالمية الثانية؛ إذ في أحلك الأيام من معركة القفقاز ترفض مدد الحلفاء يأتيها عن طريق إيران.
إن لكل ثورة منهجا يتضمن المبادئ التي تسير عليها، كما يتضمن فحوى القرارات التي ستمليها عليها ظروف الطريق.
فموقف أبي بكر بعد وفاة الرسول الكريم، عندما ارتدت بعض القبائل من العرب، وزعمت أنها لا تدفع الزكاة وتبقي على غير ذلك مما أتى به الإسلام، قد يبدو فيه لمعاصريه بعض التشدد والغلو، كما يكون موقف المرتدين غير بعيد عن الأمر المعقول، إذا قدرناه من الجانب المادي فحسب دون الرجوع إلى مبدأ يقره المنهج أي تقره فلسفة الثورة القائمة، وكاد عمر بن الخطاب يكون على هذا الرأي، لولا إصرار أبي بكر رضي الله عنهما وفصله الموقف بقوله ((والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه)).
ولقد قاتل المرتدين فعلا، حتى نصره الله عليهم النصر المبين.
ولنا نحن، في موقف أبي بكر أسوة حسنة. والعبرة التي نأخذها منه هي:
أننا إذا لم نحفظ في عقولنا وقلوبنا مقدمات ومسلمات الثورة، فلن نفقد (عقالا) فقط بل نفقد الروح الثوري ذاته.
فالثورة قد تتغير إلى (لا ثورة) بل قد تصبح (ضد الثورة) بطريقة واضحة خفية. والأمر الذي لا يجوز أن يغيب عن أذهاننا في هذا الصدد هو أن مجتمعا ما بمقتضى طبيعته البشرية ينطوي على خمائر من روح (ما ضد الثورة) طبقا لمبدأ التناقض تناقضا مستمرا. حتى في فترة ثورية، نستطيع تتبع آثاره في تاريخ كل الثورات، تتبعا لا يغني معه أن ندفع عجلة الثورة في وطن ما، بل يجب أن نتتبع حركتها ورقابتها بعد ذلك.
وفي الملاحة يعرف ربان السفينة هذه الحقيقة بطريقته، إذ يعرف أنه لا يكفيه أن يقلع بسفينته في اتجاه معين، بل يجب عليه أن يراقب السير على طول الطريق من أجل تعديل الاتجاه من حين إلى آخر.
وهذه الضرورة لا تخفى على الأوطان التي قامت فيها الثورات المعاصرة، حيث نرى الشغل الشاغل بقياداتها أن تحافظ على (الخط الثوري)، وبالتالي فهذه الرقابة، بقدر ما لا تعني هذه الكلمة مجرد لفظة، وإن كانت ضرورية في كل ثورة، فهي أكثر إلحاحا في الأوطان التي لا تكون فيها فحسب خمائر (ما ضد الثورة) نتيجة إفراز المجتمع نفسه بطبيعته، بل تكون بالإضافة إلى ذلك محفوفة بالخطر في الاطراد الثوري من الخارج، على أيدي خبراء يعرفون كيف تجهض الثورات.
والخلاصة أن المجتمع الذي يقوم بثورة على الاستعمار فهو بطبيعة وضعه من ذلك الصنف، أي ذلك الصنف الذي تبدو المسلمة الأولى التي تقوم عليها رقابته، هي تقديره لخمائر (ما ضد الثورة) المحقونة في ثورته على أيدي خبراء الاستعمار.
فإذا عددنا هذا التقدير مجرد وسواس (1)، فذلك يقودنا إلى أن نرى الاستعمار طفلا بريئا تعتدي على براءته ألسنة شريرة، وإن ما حدث في سيناء ما هو إلا أضغاث أحلام خامرت نومنا هذه الأيام.
أما إذا كانت مأساة سيناء واقعا عشناه، فالأولى بنا أن نستخلص منه الدرس الذي تقدمه لنا.
__________
(1) غالبا ما تستولي الذهنية الصبيانية على قياداتنا، فتفضل إلغاء المشكلات حتى لا تتصدى لها ولا تبذل الجهد الذي يقتضيه التصدي، وبالتالي نراها تحقد على من يذكرها بواجبها وتتهمه إما بالوسواس أو بالطموح.
فمن الناحية العسكرية ليست القضية في تفوق العتاد وفي عبقرية موشي ديان، كما لا يمل القوم من تكراره لنا منذ شهر، حتى إنهم ضربوا في ألمانيا الغربية صورته على مدالية تذكارية، لتخدير الرأي العام الدولي، ولتنويمنا نحن.
يجب أن ننظر إلى القضية بدقة أكثر: فالعرب لم يكونوا في سيناء، أمام هنيبعل الإسرائيلي الصغير؛ ولكنهم واجهوا بعقلية الصبيان أجهزة في أعلى مستواها التقني وضعها الاستعمار تحت لواء إسرائيلي، ثم أمر اليهود بقصف سفينة التجسس (ليبرتي) كي يزيد في التعمية والتضليل.
لكن الناحية الأخرى تهمنا أكثر بكثير من الناحية العسكرية، إذ يجب أن نقول إن الانتصار الذي حققه اليهود في سيناء، لم تتهيأ شروطه في إسرائيل فحسب ولكن في البلدان العربية، إذ استطاع الاستعمار حتى تنويم الرادار في صبيحة 5 حزيران (يونيو) الأخير، ولا نذكر هذا التفصيل إلا لمجرد التوضيح.
أما الحقيقة فهي تخص فلسفتنا الثورية بأجمعها. فالثورة حين تخشى أخطاءها ليست بثورة، وإذا هي اكتشفت خطأ من أخطائها ثم التفتت عنه فالأمر أدهى وأمر. وفي هذا الصدد نذكر قول ماركس ((يجب دائما أن نكشف الفضيحة عندما نكتشفها حتى لا تلتهمنا)).
إن الشعب الجزائري قام، بدون شك بثورة مجيدة، ولكن هذا لا يعني أنها خالية من الأخطاء في اطرادها الثوري.
ولست أشير هنا إلى الخطأ البريء الخفيف الذي يتولى الوقت نفسه تصحيحه في الاطراد الثوري، بل أشير إلى الخطأ العضوي سواء أفرزه المجتمع، أو حقن به من الخارج حتى صار جزءا من كيانه.
فالنوع الأول من الخطأ قد يهم من يهتم بالتاريخ أكثر من سواه، بينما قد يكون له أيضا أثر سيئ في وطن ثوري، يتعرض لمثل الأخطاء فيرتكس إلى عهد الأثرة والمحسوبية والأنانية، عندما نرى مثلا في هذه القرية الجميلة من الجنوب الجزائري، هذا الرجل الذي كان من أركان جمعية العلماء يستولي على قصر، كان يسكنه أحد ولاة العهد البائد ويؤجر مسكنه. فنحن لا نرى في مثل هذا التصرف ما يدل على قلة تعفف فحسب، بل يدل أيضا على هبوط في الروح الثوري، إذن هذا العالم لم يتاجر فقط بملكه بل تاجر بالقيم الثورية.
وإذا كان أحد قادة الحركة النقابية يقترض بعض الملايين من الفرنكات القديمة من شركة بترول، ويبني بها فيلا فخمة لا ليسكنها ولكن ليؤجرها لسفارة أجنبية، فإنني لا أرى في هذا التصرف ما يمت إلى (الخط الثوري) ولا إلى (المطالب النقابية) بصلة.
ولكن يا آلهة نيتشه المتألمة الخجلة!! صفحا عن هذه الأخطاء الطفيفة. إذ هنالك الأخطاء العضوية التي لا يصلحها الزمن بل ينبغي أن تمحوها الثورة.
والثورة التي تريد الوصول إلى هدفها يجب أن تدفع هذا الثمن، وبهذا الثمن وحده تستطيع ذلك.
***
الأخلاق والثورة
عن (الثورة الإفريقية) عدد 264 - أسبوع 7 إلى 13 آذار (مارس) 1968م.
لعل عنوانا كـ (السياسة والأخلاق)، يكون في نظر بعض الناس أكثر انطباقا على محتوى هذا المقال، ولكن حتى على هذا الفرض فقد استعملته في مقال آخر (1).
ومهما يكن من أمر، فكثيرا ما يتهم (كاسترو) بسبب تشدده في الحفاظ على المبدأ الأخلاقي، بأنه يرتجل: يتهمه بذلك طرف من الصحافة اليمينية وأحيانا جناح من الصحافة اليسارية.
فتراه أحيانا في سياسته يقلب رأسا على عقب ما تعارف عليه الناس من مقاييس وتقاليد ثورية، وأحيانا أخرى نراه يلقي في سلة المهملات ما توارثه الناس من أفكار هؤلاء وأولئك، إلقاء قد يلتبس معه سلوكه فعلا على الذين يرونه يرتجل، أو ينفر من هذا السلوك رجال الاقتصاد والتخطيط في الغرب أو في الكتلة الشرقية على حد سواء.
وكأنه هو الآخر ينفر من هؤلاء وخاصة التشيكيين والسوفييت الذين نراه يعزو إليهم فشل بعض المشاريع التي لم تعط نتائج فعلية في كوبا.
__________
(1) انظر [ص:73] من هذا الكتاب.
إن (كاسترو) لا يجد بعد في تصرفه، ذلك الجهاز الثقيل من إحصائيات وآلات إلكترونية وأصحاب اختصاص، ذلك الجهاز الذي يجعل الإنتاج المتسلسل عملية لا ثغرة فيها ولا خلل كما هو الأمر في البلاد المصنعة.
ولكن وطنا لم يزل في طور التكوين، لا يمكنه أن يمتع نفسه بهذا الحشد من الأرقام، وبهذا الترف من الآلات الإلكترونية، ليبلغ منذ اللحظة الأولى الذروة في ضبط عملية الإنتاج، والدقة التي لا تترك ذريعة فيها.
إن الإتحاد السوفييتي نفسه مر بهذه المرحلة، فقد كانت، أثناء مخططه الأول بين عامي 1928 - 1932م نسبة (40% إن لم نقل 50%) من إنتاجه من الحديد أو من الخزف، تلقى في أكداس المهملات أو تعود إلى أفران التذويب.
ولم يكن الإتحاد السوفييتي يخشى أن يتعلم الصناعة بهذا الثمن، كما كانت روسيا في عهد بطرس الأكبر تتعلم فن البحرية والحرب العصرية. حتى كان النبلاء فيها من طبقة (البويا) يقصرون لحاهم على الطريقة الأوربية.
إذن فليس على (كوبا) أن تخجل من تدريبها، وإذا اتهم (كاسترو) بأنه يرتجل فليكن؛ غير أننا نعترف بأنه يرتجل بطريقة موفقة عندما نرى، منذ زمن قريب، كيف تخرج من يده قرية مجهزة بمدرسة ومصحة في مكان (مدينة صفائح) توافرا لها منذ شهر ونصف الشهر فقط.
فإذا كانت الحالة هذه بكوبا تثير التعجب والاستغراب من طرف بعض الملاحظين، فإنما يعود ذلك إلى أن القرن العشرين تعود أن يستقطب الأفكار حول قطبين هما: الرأسمالية والماركسية، ولا يحتمل احتمالا ثالثا لهما يبدو معه أن لا مناص من أن تستوحى الأفكار من هذا القطب أو من ذاك القطب، في الميدان الاقتصادي أو التربوي أو السياسي دون تفكير خارجهما.
لكن (كاسترو) تحرر في تفكيره من كل تبعية لموسكو أو بكين، على الرغم من أنه ينتمي إلى مدرسة (ماركس) فبدأ يبتكر أو يرتجل كما يقولون.
وليس خروج (كاسترو) عن الماركسية المألوفة تنكرا للفكرة نفسها أو حبا للظهور بالأصالة، إنما هو تمسك رجل دولة بما يراه ضروريا من حرية في الفكر وفي التصرف، للقيام بوظيفته طبقا لما تقتضيه تجربة بلاده.
ونحن ما نزال على مقربة من بداية هذه التجربة، قربا لا نستطيع معه الحكم منذ الآن، فهل ستؤدي إلى انشقاق نظري أم لا؟! وماذا ستكون آثار هذا الانشقاق- إذا حدث- في المجال السياسي بوجه خاص؟!
ولكننا نستطيع منذ الآن ملاحظة فوارق جذرية، إذا ما تذكرنا ما قاله (لينين) وهو يواجه أقسى الصعوبات بعد هدنة (بريست ليتوفسك): ((إذا وجب علينا أن نسير إلى النصر زحفا على البطون ..... فليكن)).
بينما كاسترو يصرخ طاقة جهده بأن (سياسة الثورة) لا تقوم على الحسابات، فالمصلحة الوطنية وما يمليه أمر الدولة، إنما تقوم على المبدأ الأخلاقي.
فهذا كلام لا نتصوره على لسان رجل مثل (الكردينال دوريشيليو)، ولا على لسان (تاليران)، وإنما نجده في صرخة (دوبان دونمور)، الذي صرخ ذات يوم في مناقشات تدور بمجلس الثورة الفرنسية حول قضية المستعمرات، صرخ قائلا: ((فلتمت المستعمرات ولكن لا نسلم في مبدأ من مبادئنا)).
إن (كاسترو) ليس عالم أخلاق وإنما رجل دولة يعرف قيمة الأخلاق في السياسة.
لكن التاريخ لن يصدر عليه حكمه طبقا لمبادئ مجردة بل طبقا لنتائجها في الواقع الملموس.
إنما من ناحية أخرى، يجوز لعالم الاجتماع بل يستحسن منه، أن يعلم ما إذا كان للأخلاق وظيفة في السياسة؟.
إن الأشياء ما تزال بالنسبة إلينا في ضباب الثورة، تجدد نفسها الثوري في كل خطوة وأمام كل صعوبة جديدة تواجهها.
لكن الأشياء بدأت خلال هذا الضباب تتخذ أكثر فأكثر شكلها، وتظهر كصدمات تجربة من شأنها أن تعم العالم الثالث كله، على الرغم من حدودها الضيقة في وطن صغير مثل كوبا.
لاشك أن إدانة الحافز المادي في الإنتاج، لم تعط بعد أثرها الواضح في منحنى التنمية على الأقل، حسب أقوال الصحافة التي نقرؤها في هذه الناحية من العالم.
كما أن إلغاء العلاقات السوقية بين المنتجين والدولة، مع ما يوحي به من إلغاء العملة ذاتها في أمد قد لا يبعد، لا يزال أيضا في غموض.
ولكن الشيء الذي نستطيع تقريره منذ الآن، هو أن هذه القرارات تثيرنا من ناحيتين:
إنها في الميدان الاقتصادي تمثل النموذج المثالي لا نسميه الاستثمار الاجتماعي، وهو أمر لا نجده في وطن آخر في الموضوع نفسه.
ومن هذه الناحية فإنها تقدم درسا لا يستغني عنه العالم الثالث، الذي بين يديه الكثير من الذهب ومن العملة الصعبة.
ولكن هذا الدرس يتضمن جانبا يهم العالم كله، ألا وهو الثقة في القيم الأخلاقية ومنحها الأولوية في الإنتاج وفي درجة الالتزام في الحياة السياسية.
ولنتأمل على سبيل المثال، هذا الدرس في إحدى قضايا العمل الإنتاجي:
إن العامل قد يتغيب من دون عذر عن عمله فما هي عقوبته؟.
إنه لا يجازى بحسم من تموينه ومن أجرته، ولكن يفرض عليه عدد من أيام تغيب أخرى.
فالجزاء يقوم هنا على قاعدة أن اللولب النفسي ذو فعالية أكبر من اللولب الاقتصادي في حياة الفرد.
ولكن هل هذه القاعدة تصح من دون قيد أو شرط؟.
إننا لا نتصور أثرها إلا في مناخ أخلاقي حقيقي، تكونه الثورة وتحافظ عليه بوصفه صيدا أساسيا لها، كذلك المناخ الذي نشعر به في قصة المخلفين في القرآن الكريم.
ونحن إذا عدنا إلى تجربة كوبا، نرى (كاسترو) لا يخلق هذا المناخ فحسب، بالقرارات العامة التي يتخذها وبتفسيرها للجماهير، بل يمثلها أيضا في سلوكه الشخصي ليكون القدوة في هذا كله.
فعندما قرر سياسة التقشف في استهلاك البترول، كان لها مسوغاتها الاقتصادية، بسبب الحصار الاقتصادي الذي ضربته أمريكا على كوبا، حصارا أصبحت معه واردات البترول حتى من (البلاد الصديقة) لا تغطي غير 2% من الزيادة في الاستهلاك التي تقدر بـ 8% بالنسبة إلى السنوات السابقة. وقد أشار إلى ذلك في خطابه بمناسبة رأس السنة (1).
لكن الأمر الذي يرفع هذا القرار إلى أعلى درجة في الفعالية، هو تفسير (كاسترو) له في غير الإطار الاقتصادي، إذ قال في الخطاب نفسه ((إنه لا يليق بكرامة هذا الشعب أن يبقى دائما يطلب العون من الآخرين)).
فهذا درس ينبغي ألا يهمله العالم الثالث المنغمس في سياسة الاستنجاد
__________
(1) 2 كانون الثاني (يناير) 1968.
والاستجداء. فقد أعطى (كاسترو) من نفسه القدوة، إذ استبدل بالسيارة التي ورثها عن خصمه السابق (باتيستا) سيارة عسكرية تقتصد استهلاك البترول.
هذا كله قد يسميه الآخرون (الأخلاق الماركسية) نسبة إلى انتماء (كاسترو)، ولكننا في إطار النظرة الموضوعية نراه فقط (الأخلاق) في المناخ الثوري.
إن ثورة ما، لن تستطيع تغيير الإنسان إن لم تكن لها قاعدة أخلاقية قوية.
إن (روبسبيير) و (سان جوست) وهما من هما في الثورة الفرنسية، يمثلان قبل كل شيء أنضج صورة لأخلاق ثورية لا تنازل فيها.
فلا يجوز لنا إذن أن نستغرب الأمر إذا ما كان (كاسترو) لا يفسر قرارا اتخذه بالأرقام أي بمسوغات مادية، بل يفسره بمسوغات أخلاقية عندما يشير إلى كرامة الشعب الكوبي.
إن ثورة تقوم، لا تكون ثورة حقيقية لمجرد ما تجتهد في نشر العدالة الاجتماعية بين طبقات الشعب، إذا هي لم تعلمه كيف يستعيد شخصيته، وتلقنه معنى كرامته.
ولقد يكون التعبير عن هذه الكرامة في نص الدستور نفسه، كالتصريح بحقوق الإنسان والمواطن في الثورة الفرنسية، أو يكون بمجرد قرار عن ضرورة التقشف في استهلاك البترول كما أشرنا إليه في كوبا.
وهذه الاعتبارات عن وظيفة الأخلاق، ليست بنت الأمس: فقضية تكريم الإنسان لم تهمل ولم تنس في الثورة الإسلامية منذ أربعة عشر قرنا: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء70/ 17]. هكذا وضع القرآن الكريم في آية لكرامة الإنسان قاعدة سامية بالنسبة لدنياه ولآخرته.
والإنسان لا يجوز له أن يخالف في سلوكه هذا التكريم، الذي لا يضمن له حقوقا فقط، بل يفرض عليه واجبات أيضا.
هذه الازدواجية تتمثل أحسن تمثيل، في حديث عن حكيم بن حزام إذ يقول:
((سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني، ثم سألته فأعطاني ثم قال لي:
يا حكيم إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاء نفس بورك له فيه، ومن أخذه باستشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى. قال حكيم: فقلت يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر يدعو حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا، ثم إن عمر دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل.
فقال يا معشر المسلمين، إني أعرض عليه حقه الذي قسم الله له من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه.
فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى توفي رحمه الله)).
فهذا الحديث يلخص ويوضح لنا كل ما نسميه (أخلاقية الثورة)، إعطاء الإنسان حقه ولكن مع الحفاظ على كرامته.
إن بعث الإنسان ليس ثمنه ضمان حقوقه فقط.
بل إننا نرى في موقف حكيم، بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الثمن الحقيقي حين يرفض حقه من الفيء.
إن الثورة الجزائرية تستطيع أن تستوحي من الثورات العصرية، لبعث الإنسان الجزائري وتغييره بعد ما أصابه في فطرته طيلة عهد الاستعمار، ولكن إذا كان خطاب الرئيس (بومدين) الأخير أثناء رحلته في جبال أوراس، قد
لفت النظر بصورة عامة، فالمقطع الذي نال منه هتافا أكبر من الحاضرين، هو الذي أشار فيه إلى جذور الثورة الإسلامية.
لقد هتف الشعب لهذا المقطع، لأنه يعيد الثورة إلى إطارها التاريخي الحقيقي. فالشعب أحس عند هذا المقطع بشخصيته تتحرك في أحشائه، ولقد أثارتنا على شاشة التلفزة تلك الصور التي التقطت أثناء الرحلة، حيث نرى رجالا شدادا كالجبال التي حولهم، يجيبون عن الأسئلة المطروحة عليهم وهم يمسحون الدموع. فالقوى الأخلاقية التي قامت بالثورة ثم بدأت تتقهقر في عهد الديماغوجية بدأت تنطلق من جديد. فلعل الإنسان الذي تركته الظروف إلى العزلة والإنفراد يعود إلى عشيرته ومصيره الوطني في المناخ الجديد.
فالحوار الذي دار بين المسؤولين والجماهير، تحت قمم أوراس الشاهقة، قد أعاد في كلمات قالت الحقيقة، الجسر الذي يصل الشعب بالدولة.
وليس غريبا في هذا المناخ من الثقة المتبادلة أن تتحقق المعجزات، ولو كان ثمنها مزيدا من التقشف، لأن الصعوبات لا تزول بين عشية وضحاها بعصا سحرية.
هذا هو السر الذي أدركه (كاسترو) عندما ركز سياسة الإنتاج في بلاده على الحافز الأخلاقي أكثر من الحافز المادي. وقد أنهى بذلك عملية تخريب تقوم بها تحت الأرض شرذمة تسعى لتبريد المناخ الثوري بالمزايدة الديماغوجية أو حتى بالخيانة الصرفة.
إن كل ثورة ملزمة بأن تحمي نفسها من سائر المحاولات التخريبية، التي يكون فيها أصحابها سلطة جانبية في وطن ثوري، يؤثرون فيه حتى لحساب الخارج بما في أيديهم من وسائل السلطة.
وبعبارة أخرى، فإذا كانت الثورة في حاجة إلى (أخلاقية) لا تتنازل عن شيء، فمن واجبها أيضا أن تتمتع بحاسة نقدية لا يفوتها شيء، حتى لا تؤخذ على غرة في أي لحظة وفي أي قطاع من أجهزة الدولة.
فعندما تحدث الرئيس (بومدين)، أثناء رحلته بجبال الأوراس، عن بقايا (الحركيين)، فكأنه أراد أن يشير في هذه المناسبة إلى ضرورة طرح مثل هذه القضية.
وإن طرحها لواجب فعلا، ولنا أكثر من مسوغ في هذا الصدد. وبالإضافة إلى ذلك، فالثورة التي تقف في منتصف الطريق خلال إنجاز مهماتها أو تخشى إصلاح أخطائها فإنها تنتحر.
فالسياسة تستطيع المراوغة والمداهنة، لكن الثورة تفرض عليها أخلاقيتها أن تمضي إلى آخر المطاف.
***
تقلبات عبر استقلال جديد
عن (الثورة الإفريقية) عدد 249 أسبوع 23: 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1967.
ها إن الأمر قد تقرر، فالحكومة الإنجليزية صرحت رسميا عن جلاء جنودها، في آخر هذا الشهر من عدن وما حولها مما يسمى (الجنوب العربي).
وهكذا ينشأ استقلال جديد في التيار الذي بدأ بعد الحرب العالمية الثانية تحت اسم (تصفية الاستعمار).
إن الأيام الكبرى في التاريخ فترات يسودها الإكبار والإجلال، وتسكت فيها النزعات الخاصة، وتهمد المنازعات، حتى تلك التي تحركها الفوارق الإيديولوجية، وهكذا تسكن العقول والقلوب إلى بعضها كما حدث في فرنسا عام 1945 عندما ائتلف أتباع (ديجول) وأتباع (توزير) وشكلوا حكومة التحرير.
إنها لحظات فرح وتأمل معا، تضع سماتها على وجوه جماهير مبتهجة، فها هن أولاء النسوة يلوحن بمناديلهن البيضاء، ويطلقن زغاريدهن تحية لجيش منتصر، وها هم أولاء الأطفال يملؤون الجو ضحكا ومرحا. وها هو ذا الشيخ العجوز يمسح بيد ترتعش، دمعة تجري على خد كتب العصر فيه سطور أيامه.
إنهم جميعا يعبرون بطريقتهم الخاصة عن عظمة أيام لها معنى في تاريخ الوطن.
حركاتهم التقليدية المألوفة، تبدو وكأنها تمحو لحظات أخرى عاشوها في
المحنة. كما يمحو الشعب من ذاكرته أيام حرب خاضها بدمه، أو أيام احتلال أجنبي عاناها أو أيام ... الاستعمار.
ولكن يحدث أحيانا في جو البهجة أن تنفجر المأساة!
فالجزائر التي كانت تعيش عيد استرجاع الوطن المفقود، كادت تعيش ذلك اليوم في 5 تموز (يوليو) عام 1962 يوم حزن وطني، لولا حكمة الشعب وتدخله بين طرفين يتنازعان السلطة.
الوطن يتذكر كيف كاد ذلك اليوم أن يكون أحلك أيام الثورة، لأن بعض الفئات دنست اللحظة الجليلة بنزعات فردية، لم تذب في حرارة التعارف والإخاء اللذين كانا يسودان ذلك اليوم.
هكذا جمدت على الشفاه ذلك اليوم زغاريد النساء، وبدت على وجوه الشيوخ طيات من الأسى جديدة، وتوارى ضحك الأطفال من شوارع العاصمة الجزائرية، حين تواجه الطامعون في السلطة من الفريقين برصاص رشاشاتهما.
نذكر هذا كله في الجزائر ونذكر كيف كانت حكمة الشعب وحدها، الحائل دون تفاقم الصراع والأخذ بعيد الاستقلال إلى جو البهجة والحبور.
وشعب فيتنام وهو لا زال يعيش المأساة يتذكر هو الآخر كيف دنست النوازع يوم استقلاله.
شعب الكونجو وما حل به بعد انسحاب السلطة البلجيكية، ثم شعب نيجيريا يعيش المأساة وكأنها تنتظر كل شعب من شعوب العالم الثالث وهو على عتبة استقلاله.
إنها لظاهرة تتسم بها البلدان المستعمرة، فأي وطن منها ارتفع فيه علم الاستقلال، لم يجد في ذلك اليوم أزمة تنفجر على مستوى قياداته!؟
لقد كان (التقسيم) وليد هذه الظاهرة في الهند. فكانت باكستان بغثّها وسمينها وما منيت به من خسائر في النفس والنفيس، فضلا عن هجرة الملايين أو تهجيرهم مطاردين في طرفي حدود مصطنعة. وكانت أخيرا رصاصة مني بها رجل (اللاعنف) غاندي نفسه وقضت عليه إبان الزوبعة التي أثارها استقلال الهند.
قد لا نخطئ إذ نعزو ذلك إلى دهاء الإنجليز، فإذا اعتمدنا هذا السبب- وهو ليس السبب الوحيد- فدور رجل مثل (باطيل) (1) ونظيره الباكستاني لا يقل أهمية في الموضوع.
وبعبارة أدق فزعماء المؤتمر الهندي من ناحية، والرابطة الإسلامية من ناحية أخرى، هم الذين تحقق على أيديهم تمزيق الوطن وزهق ملايين النفوس.
ينبغي أن نسقط أحداث الجنوب العربي على هذه الخلفية، إذا أردنا أن نفهم طبيعة الخلاف الناشب اليوم بين الحركتين وهما على عتبة إستقلال الوطن.
هنا أيضا لا نغفل دور (إنجلترا) التي تريد أن تغادر الديار، ولكن بعد إضرام النار في أركانها.
وإذا كان الأمر كذلك، فإنها تقاليد الاستعمار يباشر (تصفية الاستعمار) كما يقولون بهذه الطريقة، حدث ذلك في فلسطين عام 1948 عندما غادرها الجيش البريطاني على رؤوس الأصابع، ليترك الشعب الفلسطيني تحت رحمة رشاشات المنظمات الإرهابية الصهيونية كـ (شتيرن والهجانا).
بل لعل الطريقة التي اتبعها الإنجليز في فلسطين، أكثر وضوحا من الطرق التي يسلكها الاستعمار عادة في مثل هذه الحالات، فقد جاء انسحاب الجيش
__________
(1) وزير الداخلية في الحكومة الهندية الأولى وكان رجلا معروفا بالتعصب الديني والحقد على الإسلام.
البريطاني بترك الميدان للصهيونيين الذين هيأتهم قياداتهم ووحدتهم من أجل القيام بدورهم، بينما القيادات العربية غمرت شعوبها بالخطب الرنانة فتمزقت وحدتها، وبدلا من أن تنصرف إلى خلاص الأمة عمدت كل واحدة منها إلى الاستيلاء على جزء من أجزائها.
والفارق هنا في منتهى الوضوح، لأننا إذا كنا لا نعرف بالضبط ما تريده القيادة العربية ولا ندري إذا كانت هي الأخرى تعرفه، فإننا على العكس من ذلك، نعرف تماما ما كانت تريده القيادة الصهيونية، وهي كانت تعرفه بوضوح أكبر.
وينبغي أن نضيف للتاريخ ولتعميق إدراكنا، أن العرب لم يكونوا يفكرون في استخلاص النتيجة الضرورية من تلك المجابهة المؤلمة مع واقعهم، إذ لو تأملوا لوجدوا واقعهم يطرح القضية بلغة الحضارة.
فلم يكن من محض الصدفة، أن القيادات الصهيونية تقتصد في الكلام وتلتزم الفعالية في العمل، كما كانت أكثر وفاء لالتزاماتها السياسية والعقائدية من القيادة العربية.
ذلك أن التحليل يقودنا إلى القول إن القيادة الصهيونية كانت تتحرك، وتحرك حولها الأشياء والأشخاص طبقا لما تمليه ثقافة حضارة؛ بينما لم تكن القيادة العربية ترى من الأشياء والأشخاص إلا وسائل لإشباع حبها وهواها في السلطة؛ أي إنها كانت تخضع لما تمليه ثقافة (القوة) التي ربما تنعكس حسب الظروف إلى عقدة (ضعف).
واليوم! نرى الجنوب العربي تسوده الفوضى، وتجابه مرة أخرى قيادة عربية بمشكلة حضارة.
ولو طرحت هذه القيادة قضيتها تحت عنوان (مشكلة حضارة) بل لو تعمدت طرحها بهذه الطريقة لحققت بدفعة واحدة هدفين:
الأول في المجال النفسي؛ حين تحرر كل زعيم من هؤلاء الزعماء من عقدة السلطة، فينظر إلى الاستقلال من زاوية الواجبات توضع على كاهل كل فرد، بدلا من نظرته إليه من زاوية الحقوق يمنحها له، إذن هذا الزعيم سيعدل تلقائيا أطماعه في السلطة.
والهدف الثاني نتيجة للهدف الأول على الصعيد السياسي؛ إذ بقدر ما تتعدل نظرة الزعيم نحو السلطة، ويتحول تقديره لها من مجموعة (حقوق) إلى مجموعة (واجبات)، يضيق مجال مناورات الاستعمار، لأنها تصبح غير ممكنة في نفوس محصنة بعيدة عن الهوى والغرور.
فكل عمل يسهم في تضييق هذا المجال النفسي (الطمع في السلطة) يستحق التقدير، خصوصا في وطن يعيش مرحلة من (تصفية الاستعمار).
هكذا نرى أنفسنا أمام ضرورة ملحة كثيرا ما ألمحنا إليها في مقالات سابقة، ألا وهي تصفية الاستعمار في العقول قبل كل شيء.
فتصفية الاستعمار من العقول تتطلب أشياء كثيرة يتضمنها مفهوم الثقافة ومفهوم الحضارة، فهي لا تتحقق إذن بمجرد انسحاب جيوش الاستعمار، ومجرد إعلان الاستقلال وتحرير دستور كما هو الأمر بالنسبة للتراب الوطني.
ولا نستطيع في هذه السطور إلا الإشارة الرمزية إلى هذا المضمون، ثم يبقى إدراجه في منهج تربوي يهدي إلى تقويم جديد في ضمير كل مواطن، وخاصة كل زعيم، لمفهوم الواجب المطهر، الذي من شأنه أن يطهر أولا الجو السياسي في الأوطان التي تعيش مرحلة تصفية الاستعمار.
أما (الحق) ... فما أغراها من كلمة! إنها كالعسل يجذب الذباب ويجتذب الانتفاعيين، بينما كلمة (الواجب) لا تجتذب غير النافعين.
وكلمة الواجب على الصعيد السياسي توحد وتؤلف، بينما كلمة (الحق) تفرق وتمزق.
إن زعماء الجنوب يعطون اليوم، بفرقتهم وتناحرهم وتطاحنهم أجلى صورة عن هذه الظاهرة (1).
وما كان اجتماعهم الأخير في القاهرة حيث اجتمع- كما نذكر- ممثلو الحركتين المتنازعتين حول مائدة خضراء، ما كان هذا الاجتماع إلا محاولة من كل من الطرفين للحصول على أكبر نصيب ممكن من النفوذ والسلطة، وهو لم يكن بالتالي إلا حوارا بين صم لم يتعلموا حتى الكلام بالأصابع. واجتماع كهذا ما كان له أن ينتج غير الإفلاس الذي شاهدناه.
إنما ينبغي ألا ننسى مكيدة عجلت بذلك الإفلاس، فالقارئ يتذكر بدون شك أنه في نهاية الإجتماعات، وحتى أثناءها، وزعت شركة أنباء غير موفقة، أوْ لها على العكس توفيق خاص، نبأ يزعم بأن الطرفين قد وصلا إلى اتفاق على تأليف حكومة على رأسها زعيم من حركة ...
لقد كان هذا النبأ بمثابة (برقية أيمس) تلك البرقية المزيفة التي سبقت حرب 1870 بين فرنسا وألمانيا، فألهبت برميل البارود وبلغت الأزمة أشدها. وإذا بالرصاص الذي أعد لصد الإمبرياليين يحصد في صفوف المقاومين والمجاهدين من أجل الاستقلال.
__________
(1) كتبت هذه المقالة أيام كانت فكرتنا عن الجنوب العربي غير واضحة. أما اليوم فإننا نعرف ماذا يريد جورج حبش وحواريوه في المنطقة.
وربما سيكون يوم إعلان الاستقلال (أي في خلال أسبوع) اليوم الذي ستسمع فيه شوارع عدن رصاص الرشاشات عوض زغاريد النساء وضحك الأطفال.
إن على هؤلاء الزعماء أن يعودوا إلى رشدهم- احتراما للشعب- فلا يدنسوا لحظة عظيمة من تاريخ وطنهم بل من تاريخ العرب والعالم الثالث، بكلمات أو أعمال مؤسفة. وأن يحكموا فيما بينهم إرادة الشعب التي هي كما يقول المثل الروماني ((صوت الشعب هو صوت الله)).
إن هذه المعجزة ممكنة، وقد رأيناها تحققت في الجزائر في شهر تموز (يوليو) عام 1962.
***
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
الفصل الثاني في قضايا الاستقلال
الفصل الثاني في قضايا الاستقلال
. نظرة علم الاجتماع في الاستقلال
. تغيير الإنسان
. العامل الجزائري في فرنسا
. معالم على طريق الحركة النسائية الجزائرية
. وزن الوقت
نظرة علم الاجتماع في الاستقلال
ترجمت هذه المقالة المنشورة بالفرنسية في مجلة (الثورة الإفريقية) شهر أيار (مايو) عام 1965.
إن تطورات العالم الإسلامي، منذ الحرب العالمية الثانية تضع نخبته في مختبر التاريخ، تفحص فيه إمكانياتهم في مواجهة الحشد من المشكلات، وهي تتطلب قدرة في التصور ومهارة في التطبيق من أجل حلها.
من هنا يفتح لعالم الاجتماع المهتم بشؤون العالم الإسلامي، في مرحلة الاستقلال، مجال لا يخص الباحث فحسب، وهو يدرس الجانب النظري؛ بل يخص الذي يمارس العمل السياسي أيضا. فالعلم الذي لا يترجمه عمل، يظل ترفا لا مكان له، في وطن ما يزال فقيرا في الوسائل والأطر.
ففي هذه المرحلة بالذات، لا بد للاهتمامات أن تتركز في البلاد الإسلامية حول مفهوم الفعالية، وعلى الخصوص في مجال التسيير ووسائله: الأداة والدولة.
ولكي نفهم هذه الضرورات، لا بد من العودة خطوات إلى الوراء.
إن حرب الاستقلال في بلد مستعمر تصب حتما على السيادة الوطنية من الناحية السياسية، بينما تتجمع فيه من الناحية الاجتماعية، مشكلات العهد الجديد، والمشكلات الموروثة من عهد الاستعمار.
فالعهد الجديد، حين يتأسس تحت إشراف دولة ينبغي ألا يكون مجرد إعلان للسيادة الوطنية، إعلانا مسجلا في السطور الأولى من الدستور، بل ينبغي أن يكون أداة ضرورية لتنمية هذه السيادة، في كل أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية.
فإعلان السيادة حاصل منذ اللحظة الأولى. قد كتبته الدماء الزكية التي أراقها الشهداء على مذبح الوطن.
أما أداة التنمية، فإنها تتطلب أكثر من ذلك ... إنها تتطلب عرق الأحياء في عملهم المشترك، إذ هو يتكفل بها لمواصلة الكفاح من مقتضيات التحرير إلى متطلبات البناء.
إن الانضباط النفسي، الذي يتحلى به أولئك الذين سيتناولون، بعد الكفاح المسلح، المحراث أو المطرقة، القلم أو المبضع، الميزان أو أي أداة أخرى للعمل؛ إن هذه الأجيال المستمرة في اتجاه مرسوم والمثابرة عليه، هي التي تصنع الدولة على الصورة المتلائمة عضويا مع طبيعة هذا الدأب المستمر وأهدافه.
إن الدولة تصنع نفسها بما تنجز من أعمال، فهي السبب الذي تؤثر فيه نتائجه. ومن هنا، ومن هذه الزاوية بالذات، قد ندرك- إذا ما وازنا بين مفهوم الدولة ومفهوم الأمة- ما يعنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الشريف: ((إنما هي أعمالكم ترد إليكم كما تكونوا يول عليكم)).
إن الحديث الشريف يعبر عن نظرة ذات أغوار سياسية اجتماعية بعيدة، نستطيع تلخيصها على الصعيد التربوي في هذه المقدمة: إذا أردت أن تصلح أمر الدولة فأصلح نفسك.
والمنهج التربوي هذا يهم أول ما يهم دولة ناشئة، لها فضائل الشباب ولها أيضا عيوبه.
فالشعراء قد يستهويهم هذا الشباب المشرق، كالشاعر (أراجون) الذي كان ينشد (الغادات الغناء).
أما المفكر المتسم بأقل تفاؤلية، أو بأكثر موضوعية، كلينين مثلا، فإنه سوف تعتريه حيرة أمام ما يسميه (الأمراض الطفولية). فينتهي في آخر المطاف إلى سؤال ((ما العمل؟))، الذي عبر به من خلال عنوان لأحد كتبه عن قلق هذه المرحلة بعد ثورة تشرين الأول (أكتوبر) عام 1917.
فعالم الاجتماع ملزم في البلاد التي دخلت في عهد ما بعد الثورة، أن يطرح السؤال أمام كل ما يشتم منه رائحة الأمر الغريب الشاذ.
ينبغي أن ينشأ علم اجتماع خاص بمرحلة الاستقلال، ليكون بين أيدي من يشرف على أجهزة الدولة أداة رقابة لا ينفصل عن جهاز التخطيط.
ففي بعض البلدان، نرى هذه الرقابة قد نشأت تحت اسم (النقد الذاتي).
وإنا لنعلم ما كان لها في الصين، على سبيل المثال، من تأثير تعديل في السير وتنظيم الحياة الاقتصادية.
وكم نود هنا في بلادنا، أن نتخلص من عقدة الرفض، التي طالما سدت الطريق، أثناء الثورة، على كل محاولة إصلاح، بدعوى أن كل نقد سيكون في صالح الاستعمار ... بينما أرى بكل وضوح اليوم أن الاستعمار هو وحده الذي استفاد من هذا الرفض.
فالقضية تدخل في نطاق الصراع الفكري، وتتطلب في هذه الحالة شروحا لا نريد الولوج فيها في هذه السطور. غير أننا نقول إن الاستعمار أو خليفته الاستعمار الجديد، لا زال يقيم السدود أمام كل محاولة نقد، أي مراجعة للأخطاء. ولا زال يغذي أدب تعمية يحرف حتى المصطلحات ذاتها، التي
يستعملها النقد النزيه. فيعزو مثلا مفهوم (القابلية للاستعمار) إلى مستشرقين غربيين ... بينما والحق يقال، نرى الاستعمار الجديد يشمئز من استعمال هذا المصطلح كأنما يخشى على سر من أسراره.
وباختصار، فـ (الرفض) صار، بين أيدي موجهي الصراع الفكري، أنجع وسيلة لتجميد العقل النقدي.
إلا أننا في الحقيقة، لا نفاجأ في عقدة الرفض بأمر جديد، فعقدة الرفض لها ماض في سياستنا بعيد. وأذكر على سبيل المثال، تلك المناسبة التي جمعتني يوما، في ضاحية من ضواحي باريس، في شهر حزيران (يونيو) أو تموز (يوليو) 1946، ببعض ممثلي الحركة الوطنية ومن بينهم أحد ركائز الحزب جاء خصيصا من الجزائر.
لقد كنا نراجع الموقف بعد الحرب العالمية الثانية، وكنت كلما وجهت ملاحظة، يَشْتَمّ منها نقد لمسيرة الحركة أثناء الحرب، يردها ركيزة الحزب هذا ولم يكن يردها بالحجة وإنما بـ (الرفض).
ويجب أن أضيف بأنها لم تكن المرة الأولى؛ التي يعترضني في الطريق هذا العائق المشل، والذي يبدو لي الآن، بعدما مر بعض الزمن، أنه لم يعق في شيء مصالح الاستعمار، وإنما أعاق القضية الوطنية.
هذا الرفض، ينبغي رفعه من مرحلتنا الراهنة، لينطلق النقد الذاتي في الجزائر، إلى أبعد مما وصل إليه في البلاد التي صاغته ومارسته بوصفه ملحقا لتنظيمها السياسي.
وربما كان على جامعتنا أن تتولى الأمر هذا، وتشرف على دراسات اجتماعية
متخصصة، تتناول الحالات المنحرفة أو الشاذة لتصفية ما أمتنع منها عن العلاج الثوري (1).
ولا شك في أن دراسات لهذه الحالات المرضية، ستكون أنفع للوطن من أدب الإطناب والتمجيد، بل ينبغي القول أن هذه الدراسات قد أفادت الجزائر فعلا عندما كانت تطبق فيها ولو بطريقة عفوية في العشرينات.
فالجزائريون الذين من جيلي، يعلمون أنها السنوات التي زحزحت الثقل، الذي وضعته قرون ما بعد الموحدين على كاهل الوطن.
لقد كانت بالنسبة للشعب الجزائري فترة صحو، إستعاد فيها رشده وأدرك فضائله، كما أدرك نقائصه التي كان الاستعمار دائبا على تنميتها.
وإذا كانت بعض الانتكاسات قد حدثت بعد ذلك، فذلك يعني أن العمل العفوي لا يعطي نتيجة ثابتة، فالقضية لا تعدو أن تكون مشروطة بالمنهج.
ومهما كان الأمر، فضرورة مراجعة الأشياء أصبحت ملحة اليوم.
إن أعمال التخطيط والتشييد، اللذين يجريان اليوم في مختلف البلاد الإفريقية، تجعل المعرفة الدقيقة لجهاز الإنجاز والتنفيذ أمرا ضروريا، خصوصا تلك الدولة الإفريقية التي ظهرت للوجود في العقد الأخير.
وإذا كان يهمنا أن نعرف إلى أي درجة ينبغي أن يكون الأمر حسنا، فإنه يهمنا أكثر أن نعرف إلى أي درجة يتطلب تحسين الأمور.
فهذه الملابسة، هي التي تفرض تأسيس علم إجماع خاص بالحالات المرضية، للكشف عن العراقيل والمعوقات التي ربما عرقلت الإنجاز والتنفيذ.
__________
(1) هذا هو المعنى الذي يجب أن تفهم به الثورة الثقافية في الصين، حتى لا نتورط في استعمال هذا المفهوم بمحتوى آخر كما يحدث بكل أسف في بعض البلاد العربية.
وينبغي أن يكون هذا النهج شاملا، أي أن يتناول الإحصاء والتفسير، أو بعبارة أخرى ينبغي أن يعنى بالكشف عن الحالة الشاذة من ناحية، وأن يدرس مصدرها أو تاريخها من ناحية أخرى.
إننا قصرنا نظرتنا عن قصد وبنية الإيجاز، على نطاق الجزائر. إنما على من يهمه الأمر أن يتصرف في الحالة التي تعنيه فيدرجها في مكانها بين النتائج النظرية التي نصل إليها، أو يصدر النتائج إلى مكانها في أي وطن إسلامي آخر.
فأي وطن يتخلص من الاستعمار ويعلن سيادته، لا تختلف فيه المشكلات عن وطن آخر يمر بالمرحلة نفسها.
على أننا، إذا حاولنا ترتيب المشكلات وفق أولويتها، فمن المعقول أن تمنح الأولوية إلى مشكلات الاستقلال، أي إلى الحالات التي ستزيد من درجة الصعوبة في مهام الدولة.
ونحن هنا لا نقدم إحصائية لهذه الصعوبات حتى لا نتورط في الاعتبارات السياسية أو المذهبية. ولكننا نشير إلى إحدى هذه الصعوبات لأنها تتمثل في عقدة قد يكون لها أسوأ تأثير على مستقبل الوطن بوصفه دولة، إن لم تُصَفّ في قريب عاجل.
فهذه العقدة تعرض منذ الآن ديمقراطية المؤسسة من وجهة نظر المحكوم، عندها يرى أجهزتها المختلفة لا تنسجم في أداء وظيفة الدولة، بل تسير وكأنها أجهزة دول مختلفة.
فالمواطن المحكوم يشاهد أثر هذه العقدة حتى في العمليات البسيطة التي تقوم بها أجهزة إدارة واحدة، فما بالك إذا تعقدت العملية وتدخلت في إنجازها إدارات مختلفة، تقول الواحدة نعم بينما تقول الأخرى لا؟.
فمن الناحية المعنوية ينبغي أن نتصور وضع المحكوم في مثل هذه الحالة.
أما من الناحية الفنية فإننا نتصور الدولة في حالة كهذه، محركا تدفع بعض أجهزتها إلى الأمام بينما تدفع الأخرى إلى الخلف.
فمن الناحية الميكانيكية، ندرك بسهولة تلف الطاقة، التي يتعرض لها محرك كهذا، بل نتصور أن المحرك نفسه يتعرض للتلف، ونعلم بالتالي كيف يمكن لصاحب المحرك أن يتفادى خطرا كهذا بكل عناية واهتمام.
فبين الحالات الاجتماعية المرضية، ليست الحالة التي أشرنا إليها أخطرها، إنما أشرنا إليها لأنها قابلة للتشبيه بوضع المحرك تشبيها يقربها للفهم.
فعاهة عدم الانسجام والتنسيق، التي نشير إليها هنا، تظهر بكل بساطة، عندما يكون ملف تجهزه إدارة ينتظر وثيقة تبطئ بها جهة في الإدارة نفسها.
كما تظهر العاهة بصورة أخرى، عندما تنتظر إدارة من أخرى، الإسهام في إنجاز عملية أكثر تعقدا، فتتعطل العملية بسبب تخلف الإدارة الثانية وتقاعسها في الإسهام.
ففي الصورتين كلتيهما ينبغي دراسة الحالة للكشف عن أسبابها المرضية، وأبعادها المختلفة ويكفينا هنا على سبيل التوضيح أن نتناول بعدها النفسي.
ونحن نسوغ موقفنا من هذه الزاوية، فنقول إن العلاقات القائمة بين الأجهزة المكلفة بإنجاز العمليات الإدارية المشتركة، ليست مجرد علاقات ميكانيكية كما تكون بين أجهزة محرك، بل هي علاقات بين أفراد، أي في جوهرها نفسية.
فإذا كانت بلدية ما، تتخلف عن إرسال ورقة ما، تنتظرها إدارة تعليم مثلا، فتبقى العملية المشتركة معطلة على حساب مواطن، فهذا لا يعني بالطبع
أن العلاقات بين الإدارتين سيئة في طبيعتها التنظيمية، وإن كانت تصبح سيئة فعلا عندما يشخصها أفراد لا يحسنون تشخيصها.
فالمشكلة لا تطرح من الجانب التنظيمي بل من الجانب النفسي، لأنها مشكلة البنية الذهنية.
إن عدم التناغم المشار إليه ليس إلا العرض المرضي للعلاقات المنحرفة بين الأفراد القائمين بوظيفة الدولة على اختلاف مراتبهم.
فالاضطلاع بهذه الوظيفة، يتطلب من القائمين بها الخضوع لشروطها، سواء بالنسبة للرؤساء أو المرؤوسين، خضوعا يقضى بالحد من (الحرية) ومن (الاستقلال) الفردي.
فالوطن لا يحقق (استقلاله) في مرحلة البناء، إلا بقدر ما يضع من حدود (لاستقلال) أفراده.
غير أن الحدود هذه لا تحتمل، إذا لم يكن لها أسمى المسوّغات: إن (الخضوع) أو التسليم في نصيب من حريته لا يتسنى في نظر الفرد، إلا إذا كان الخضوع يتضمن معنى الواجب المقدس، كالواجب الذي خضع له خالد بن الوليد يوم اليرموك.
فمشكلة العلاقات الناتجة عن ممارسة السلطة، عموديا أو أفقيا، مع الرؤساء والمرؤوسين ومع الزملاء، تتصل مباشرة بقضية تسويغ (الخضوع) بصفته التزاما يعبر على صعيد العمل المشترك عما يتطلبه الضمير المهني.
وهذه العلاقات- التي تشرط فعالية العمليات الإدارية كلها، وبالتالي وظيفة الدولة كلها- تعكس ظلها على تفاصيل الحياة، في أقصى أبعادها، عكسا يصبح معه الضمير المهني مجرد الضمير، وتصير العلاقة الناتجة عن ممارسة السلطة مجرد العلاقة الاجتماعية في أبسط صورها.
إن المجتمع الذي عانى عندما خضع مثلا لسلطان الاستعمار، اضطرابات في شبكة علاقاته الاجتماعية، سيعاني قطعا مشكلة في علاقاته السلطانية، حين يصبح هيئة سياسية، أي عندما يصبح دولة.
وكل مجتمع أصابت فيه محن الزمن شبكة علاقاته الاجتماعية، سيواجه قطعا سيئات الروح الانفرادية، وستكون فيه العلاقات السلطانية ملوثة لأن (الخضوع) الذي تفرضه العلاقات هذه - أفقيا وعموديا- لا يجد مسوغه بصفته التزاما وواجبا.
ومن هنا ينبغي على هذا المجتمع، عندما يشرع في النهوض، أن يرمم ويصلح شبكة علاقاته الاجتماعية، ليتغلب على الصعوبات الناشئة في نطاق علاقاته السلطانية.
ففي الجزائر على سبيل المثال، نجد أنفسنا أمام هذه المشكلة، بعد أن مرت عليها قرون ما بعد الموحدين وقرون الاستعمار، فنراها تشرط ممارسة السيادة، بمعنى تشرط ثمار الاستقلال كلها.
وفي مرحلة كهذه، يمكن لنا القول إن كل نزعة تمليها الانفرادية، هي بالتالي على حساب السيادة الوطنية.
وربما جاز لنا القول، على قدر خبرتنا وما شاهدناه في الحياة الإدارية، إن المرأة الجزائرية تنسجم منذ الخطوة الأولى مع وظيفة الدولة، لأنها لا تعاني في ذاتها عقدة (الاستقلال) الفردي، التي تجعل (الخضوع) لمقتضيات الوظيفة أمرا صعبا. ونضيف هنا أننا من الناحية الفنية، لا نرى كفاءتها تنقص في شيء.
فإذا ما عددنا بصورة عامة مشكلة العلاقات في عمقها، فإننا نراها تتصل من حيث طريقة حلها بالشروط النفسية الزمنية التي تقوم عليها حضارة، أي بشروط لا تحققها مجرد ثقافة مهنية، بل ثقافة جذرية تغير فنيا معالم الذات.
ثم إن المشكلة، وإن كانت هنا لا تخرج عن النطاق الإداري، الذي حصرناها فيه عن قصد بغية الاختصار والتوضيح، فإنها تتطلب منا درجة من الوعي تجعلنا ندرك المناقضة التي نلمسها أحيانا في جهازنا، مناقضة بين إستقلال الوطن (واستقلالات) الأفراد. مناقضة بين حريته و (حريات) موظفيه.
من هنا كم يجب علينا أن نعالج ونصفي هذه المناقضة، لنعطي وظيفة الدولة فعاليتها ومعناها الديمقراطي.
على أنه، وإن اقتصرت الاعتبارات هذه على البعد الإداري كما فعلنا في هذه السطور، فإنها لا تلم بالموضوع من سائر جوانبه، إذ ينبغي أن تتأسس دراسات متخصصة في قضايا الاستقلال.
إن المسؤوليات في النطاق الإداري وفعاليتها فيه، لا تعدو أن تكون انعكاسا لأوضاعنا النفسية في العمل والإنتاج. فمن أجل أن يكون الجهاز الإداري عاملا منتجا، يجب أن يكون روح الإدارة روح عمال ومنتجين لا روح (باشاوات) مستبدين.
. نظرة علم الاجتماع في الاستقلال
. تغيير الإنسان
. العامل الجزائري في فرنسا
. معالم على طريق الحركة النسائية الجزائرية
. وزن الوقت
نظرة علم الاجتماع في الاستقلال
ترجمت هذه المقالة المنشورة بالفرنسية في مجلة (الثورة الإفريقية) شهر أيار (مايو) عام 1965.
إن تطورات العالم الإسلامي، منذ الحرب العالمية الثانية تضع نخبته في مختبر التاريخ، تفحص فيه إمكانياتهم في مواجهة الحشد من المشكلات، وهي تتطلب قدرة في التصور ومهارة في التطبيق من أجل حلها.
من هنا يفتح لعالم الاجتماع المهتم بشؤون العالم الإسلامي، في مرحلة الاستقلال، مجال لا يخص الباحث فحسب، وهو يدرس الجانب النظري؛ بل يخص الذي يمارس العمل السياسي أيضا. فالعلم الذي لا يترجمه عمل، يظل ترفا لا مكان له، في وطن ما يزال فقيرا في الوسائل والأطر.
ففي هذه المرحلة بالذات، لا بد للاهتمامات أن تتركز في البلاد الإسلامية حول مفهوم الفعالية، وعلى الخصوص في مجال التسيير ووسائله: الأداة والدولة.
ولكي نفهم هذه الضرورات، لا بد من العودة خطوات إلى الوراء.
إن حرب الاستقلال في بلد مستعمر تصب حتما على السيادة الوطنية من الناحية السياسية، بينما تتجمع فيه من الناحية الاجتماعية، مشكلات العهد الجديد، والمشكلات الموروثة من عهد الاستعمار.
فالعهد الجديد، حين يتأسس تحت إشراف دولة ينبغي ألا يكون مجرد إعلان للسيادة الوطنية، إعلانا مسجلا في السطور الأولى من الدستور، بل ينبغي أن يكون أداة ضرورية لتنمية هذه السيادة، في كل أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية.
فإعلان السيادة حاصل منذ اللحظة الأولى. قد كتبته الدماء الزكية التي أراقها الشهداء على مذبح الوطن.
أما أداة التنمية، فإنها تتطلب أكثر من ذلك ... إنها تتطلب عرق الأحياء في عملهم المشترك، إذ هو يتكفل بها لمواصلة الكفاح من مقتضيات التحرير إلى متطلبات البناء.
إن الانضباط النفسي، الذي يتحلى به أولئك الذين سيتناولون، بعد الكفاح المسلح، المحراث أو المطرقة، القلم أو المبضع، الميزان أو أي أداة أخرى للعمل؛ إن هذه الأجيال المستمرة في اتجاه مرسوم والمثابرة عليه، هي التي تصنع الدولة على الصورة المتلائمة عضويا مع طبيعة هذا الدأب المستمر وأهدافه.
إن الدولة تصنع نفسها بما تنجز من أعمال، فهي السبب الذي تؤثر فيه نتائجه. ومن هنا، ومن هذه الزاوية بالذات، قد ندرك- إذا ما وازنا بين مفهوم الدولة ومفهوم الأمة- ما يعنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الشريف: ((إنما هي أعمالكم ترد إليكم كما تكونوا يول عليكم)).
إن الحديث الشريف يعبر عن نظرة ذات أغوار سياسية اجتماعية بعيدة، نستطيع تلخيصها على الصعيد التربوي في هذه المقدمة: إذا أردت أن تصلح أمر الدولة فأصلح نفسك.
والمنهج التربوي هذا يهم أول ما يهم دولة ناشئة، لها فضائل الشباب ولها أيضا عيوبه.
فالشعراء قد يستهويهم هذا الشباب المشرق، كالشاعر (أراجون) الذي كان ينشد (الغادات الغناء).
أما المفكر المتسم بأقل تفاؤلية، أو بأكثر موضوعية، كلينين مثلا، فإنه سوف تعتريه حيرة أمام ما يسميه (الأمراض الطفولية). فينتهي في آخر المطاف إلى سؤال ((ما العمل؟))، الذي عبر به من خلال عنوان لأحد كتبه عن قلق هذه المرحلة بعد ثورة تشرين الأول (أكتوبر) عام 1917.
فعالم الاجتماع ملزم في البلاد التي دخلت في عهد ما بعد الثورة، أن يطرح السؤال أمام كل ما يشتم منه رائحة الأمر الغريب الشاذ.
ينبغي أن ينشأ علم اجتماع خاص بمرحلة الاستقلال، ليكون بين أيدي من يشرف على أجهزة الدولة أداة رقابة لا ينفصل عن جهاز التخطيط.
ففي بعض البلدان، نرى هذه الرقابة قد نشأت تحت اسم (النقد الذاتي).
وإنا لنعلم ما كان لها في الصين، على سبيل المثال، من تأثير تعديل في السير وتنظيم الحياة الاقتصادية.
وكم نود هنا في بلادنا، أن نتخلص من عقدة الرفض، التي طالما سدت الطريق، أثناء الثورة، على كل محاولة إصلاح، بدعوى أن كل نقد سيكون في صالح الاستعمار ... بينما أرى بكل وضوح اليوم أن الاستعمار هو وحده الذي استفاد من هذا الرفض.
فالقضية تدخل في نطاق الصراع الفكري، وتتطلب في هذه الحالة شروحا لا نريد الولوج فيها في هذه السطور. غير أننا نقول إن الاستعمار أو خليفته الاستعمار الجديد، لا زال يقيم السدود أمام كل محاولة نقد، أي مراجعة للأخطاء. ولا زال يغذي أدب تعمية يحرف حتى المصطلحات ذاتها، التي
يستعملها النقد النزيه. فيعزو مثلا مفهوم (القابلية للاستعمار) إلى مستشرقين غربيين ... بينما والحق يقال، نرى الاستعمار الجديد يشمئز من استعمال هذا المصطلح كأنما يخشى على سر من أسراره.
وباختصار، فـ (الرفض) صار، بين أيدي موجهي الصراع الفكري، أنجع وسيلة لتجميد العقل النقدي.
إلا أننا في الحقيقة، لا نفاجأ في عقدة الرفض بأمر جديد، فعقدة الرفض لها ماض في سياستنا بعيد. وأذكر على سبيل المثال، تلك المناسبة التي جمعتني يوما، في ضاحية من ضواحي باريس، في شهر حزيران (يونيو) أو تموز (يوليو) 1946، ببعض ممثلي الحركة الوطنية ومن بينهم أحد ركائز الحزب جاء خصيصا من الجزائر.
لقد كنا نراجع الموقف بعد الحرب العالمية الثانية، وكنت كلما وجهت ملاحظة، يَشْتَمّ منها نقد لمسيرة الحركة أثناء الحرب، يردها ركيزة الحزب هذا ولم يكن يردها بالحجة وإنما بـ (الرفض).
ويجب أن أضيف بأنها لم تكن المرة الأولى؛ التي يعترضني في الطريق هذا العائق المشل، والذي يبدو لي الآن، بعدما مر بعض الزمن، أنه لم يعق في شيء مصالح الاستعمار، وإنما أعاق القضية الوطنية.
هذا الرفض، ينبغي رفعه من مرحلتنا الراهنة، لينطلق النقد الذاتي في الجزائر، إلى أبعد مما وصل إليه في البلاد التي صاغته ومارسته بوصفه ملحقا لتنظيمها السياسي.
وربما كان على جامعتنا أن تتولى الأمر هذا، وتشرف على دراسات اجتماعية
متخصصة، تتناول الحالات المنحرفة أو الشاذة لتصفية ما أمتنع منها عن العلاج الثوري (1).
ولا شك في أن دراسات لهذه الحالات المرضية، ستكون أنفع للوطن من أدب الإطناب والتمجيد، بل ينبغي القول أن هذه الدراسات قد أفادت الجزائر فعلا عندما كانت تطبق فيها ولو بطريقة عفوية في العشرينات.
فالجزائريون الذين من جيلي، يعلمون أنها السنوات التي زحزحت الثقل، الذي وضعته قرون ما بعد الموحدين على كاهل الوطن.
لقد كانت بالنسبة للشعب الجزائري فترة صحو، إستعاد فيها رشده وأدرك فضائله، كما أدرك نقائصه التي كان الاستعمار دائبا على تنميتها.
وإذا كانت بعض الانتكاسات قد حدثت بعد ذلك، فذلك يعني أن العمل العفوي لا يعطي نتيجة ثابتة، فالقضية لا تعدو أن تكون مشروطة بالمنهج.
ومهما كان الأمر، فضرورة مراجعة الأشياء أصبحت ملحة اليوم.
إن أعمال التخطيط والتشييد، اللذين يجريان اليوم في مختلف البلاد الإفريقية، تجعل المعرفة الدقيقة لجهاز الإنجاز والتنفيذ أمرا ضروريا، خصوصا تلك الدولة الإفريقية التي ظهرت للوجود في العقد الأخير.
وإذا كان يهمنا أن نعرف إلى أي درجة ينبغي أن يكون الأمر حسنا، فإنه يهمنا أكثر أن نعرف إلى أي درجة يتطلب تحسين الأمور.
فهذه الملابسة، هي التي تفرض تأسيس علم إجماع خاص بالحالات المرضية، للكشف عن العراقيل والمعوقات التي ربما عرقلت الإنجاز والتنفيذ.
__________
(1) هذا هو المعنى الذي يجب أن تفهم به الثورة الثقافية في الصين، حتى لا نتورط في استعمال هذا المفهوم بمحتوى آخر كما يحدث بكل أسف في بعض البلاد العربية.
وينبغي أن يكون هذا النهج شاملا، أي أن يتناول الإحصاء والتفسير، أو بعبارة أخرى ينبغي أن يعنى بالكشف عن الحالة الشاذة من ناحية، وأن يدرس مصدرها أو تاريخها من ناحية أخرى.
إننا قصرنا نظرتنا عن قصد وبنية الإيجاز، على نطاق الجزائر. إنما على من يهمه الأمر أن يتصرف في الحالة التي تعنيه فيدرجها في مكانها بين النتائج النظرية التي نصل إليها، أو يصدر النتائج إلى مكانها في أي وطن إسلامي آخر.
فأي وطن يتخلص من الاستعمار ويعلن سيادته، لا تختلف فيه المشكلات عن وطن آخر يمر بالمرحلة نفسها.
على أننا، إذا حاولنا ترتيب المشكلات وفق أولويتها، فمن المعقول أن تمنح الأولوية إلى مشكلات الاستقلال، أي إلى الحالات التي ستزيد من درجة الصعوبة في مهام الدولة.
ونحن هنا لا نقدم إحصائية لهذه الصعوبات حتى لا نتورط في الاعتبارات السياسية أو المذهبية. ولكننا نشير إلى إحدى هذه الصعوبات لأنها تتمثل في عقدة قد يكون لها أسوأ تأثير على مستقبل الوطن بوصفه دولة، إن لم تُصَفّ في قريب عاجل.
فهذه العقدة تعرض منذ الآن ديمقراطية المؤسسة من وجهة نظر المحكوم، عندها يرى أجهزتها المختلفة لا تنسجم في أداء وظيفة الدولة، بل تسير وكأنها أجهزة دول مختلفة.
فالمواطن المحكوم يشاهد أثر هذه العقدة حتى في العمليات البسيطة التي تقوم بها أجهزة إدارة واحدة، فما بالك إذا تعقدت العملية وتدخلت في إنجازها إدارات مختلفة، تقول الواحدة نعم بينما تقول الأخرى لا؟.
فمن الناحية المعنوية ينبغي أن نتصور وضع المحكوم في مثل هذه الحالة.
أما من الناحية الفنية فإننا نتصور الدولة في حالة كهذه، محركا تدفع بعض أجهزتها إلى الأمام بينما تدفع الأخرى إلى الخلف.
فمن الناحية الميكانيكية، ندرك بسهولة تلف الطاقة، التي يتعرض لها محرك كهذا، بل نتصور أن المحرك نفسه يتعرض للتلف، ونعلم بالتالي كيف يمكن لصاحب المحرك أن يتفادى خطرا كهذا بكل عناية واهتمام.
فبين الحالات الاجتماعية المرضية، ليست الحالة التي أشرنا إليها أخطرها، إنما أشرنا إليها لأنها قابلة للتشبيه بوضع المحرك تشبيها يقربها للفهم.
فعاهة عدم الانسجام والتنسيق، التي نشير إليها هنا، تظهر بكل بساطة، عندما يكون ملف تجهزه إدارة ينتظر وثيقة تبطئ بها جهة في الإدارة نفسها.
كما تظهر العاهة بصورة أخرى، عندما تنتظر إدارة من أخرى، الإسهام في إنجاز عملية أكثر تعقدا، فتتعطل العملية بسبب تخلف الإدارة الثانية وتقاعسها في الإسهام.
ففي الصورتين كلتيهما ينبغي دراسة الحالة للكشف عن أسبابها المرضية، وأبعادها المختلفة ويكفينا هنا على سبيل التوضيح أن نتناول بعدها النفسي.
ونحن نسوغ موقفنا من هذه الزاوية، فنقول إن العلاقات القائمة بين الأجهزة المكلفة بإنجاز العمليات الإدارية المشتركة، ليست مجرد علاقات ميكانيكية كما تكون بين أجهزة محرك، بل هي علاقات بين أفراد، أي في جوهرها نفسية.
فإذا كانت بلدية ما، تتخلف عن إرسال ورقة ما، تنتظرها إدارة تعليم مثلا، فتبقى العملية المشتركة معطلة على حساب مواطن، فهذا لا يعني بالطبع
أن العلاقات بين الإدارتين سيئة في طبيعتها التنظيمية، وإن كانت تصبح سيئة فعلا عندما يشخصها أفراد لا يحسنون تشخيصها.
فالمشكلة لا تطرح من الجانب التنظيمي بل من الجانب النفسي، لأنها مشكلة البنية الذهنية.
إن عدم التناغم المشار إليه ليس إلا العرض المرضي للعلاقات المنحرفة بين الأفراد القائمين بوظيفة الدولة على اختلاف مراتبهم.
فالاضطلاع بهذه الوظيفة، يتطلب من القائمين بها الخضوع لشروطها، سواء بالنسبة للرؤساء أو المرؤوسين، خضوعا يقضى بالحد من (الحرية) ومن (الاستقلال) الفردي.
فالوطن لا يحقق (استقلاله) في مرحلة البناء، إلا بقدر ما يضع من حدود (لاستقلال) أفراده.
غير أن الحدود هذه لا تحتمل، إذا لم يكن لها أسمى المسوّغات: إن (الخضوع) أو التسليم في نصيب من حريته لا يتسنى في نظر الفرد، إلا إذا كان الخضوع يتضمن معنى الواجب المقدس، كالواجب الذي خضع له خالد بن الوليد يوم اليرموك.
فمشكلة العلاقات الناتجة عن ممارسة السلطة، عموديا أو أفقيا، مع الرؤساء والمرؤوسين ومع الزملاء، تتصل مباشرة بقضية تسويغ (الخضوع) بصفته التزاما يعبر على صعيد العمل المشترك عما يتطلبه الضمير المهني.
وهذه العلاقات- التي تشرط فعالية العمليات الإدارية كلها، وبالتالي وظيفة الدولة كلها- تعكس ظلها على تفاصيل الحياة، في أقصى أبعادها، عكسا يصبح معه الضمير المهني مجرد الضمير، وتصير العلاقة الناتجة عن ممارسة السلطة مجرد العلاقة الاجتماعية في أبسط صورها.
إن المجتمع الذي عانى عندما خضع مثلا لسلطان الاستعمار، اضطرابات في شبكة علاقاته الاجتماعية، سيعاني قطعا مشكلة في علاقاته السلطانية، حين يصبح هيئة سياسية، أي عندما يصبح دولة.
وكل مجتمع أصابت فيه محن الزمن شبكة علاقاته الاجتماعية، سيواجه قطعا سيئات الروح الانفرادية، وستكون فيه العلاقات السلطانية ملوثة لأن (الخضوع) الذي تفرضه العلاقات هذه - أفقيا وعموديا- لا يجد مسوغه بصفته التزاما وواجبا.
ومن هنا ينبغي على هذا المجتمع، عندما يشرع في النهوض، أن يرمم ويصلح شبكة علاقاته الاجتماعية، ليتغلب على الصعوبات الناشئة في نطاق علاقاته السلطانية.
ففي الجزائر على سبيل المثال، نجد أنفسنا أمام هذه المشكلة، بعد أن مرت عليها قرون ما بعد الموحدين وقرون الاستعمار، فنراها تشرط ممارسة السيادة، بمعنى تشرط ثمار الاستقلال كلها.
وفي مرحلة كهذه، يمكن لنا القول إن كل نزعة تمليها الانفرادية، هي بالتالي على حساب السيادة الوطنية.
وربما جاز لنا القول، على قدر خبرتنا وما شاهدناه في الحياة الإدارية، إن المرأة الجزائرية تنسجم منذ الخطوة الأولى مع وظيفة الدولة، لأنها لا تعاني في ذاتها عقدة (الاستقلال) الفردي، التي تجعل (الخضوع) لمقتضيات الوظيفة أمرا صعبا. ونضيف هنا أننا من الناحية الفنية، لا نرى كفاءتها تنقص في شيء.
فإذا ما عددنا بصورة عامة مشكلة العلاقات في عمقها، فإننا نراها تتصل من حيث طريقة حلها بالشروط النفسية الزمنية التي تقوم عليها حضارة، أي بشروط لا تحققها مجرد ثقافة مهنية، بل ثقافة جذرية تغير فنيا معالم الذات.
ثم إن المشكلة، وإن كانت هنا لا تخرج عن النطاق الإداري، الذي حصرناها فيه عن قصد بغية الاختصار والتوضيح، فإنها تتطلب منا درجة من الوعي تجعلنا ندرك المناقضة التي نلمسها أحيانا في جهازنا، مناقضة بين إستقلال الوطن (واستقلالات) الأفراد. مناقضة بين حريته و (حريات) موظفيه.
من هنا كم يجب علينا أن نعالج ونصفي هذه المناقضة، لنعطي وظيفة الدولة فعاليتها ومعناها الديمقراطي.
على أنه، وإن اقتصرت الاعتبارات هذه على البعد الإداري كما فعلنا في هذه السطور، فإنها لا تلم بالموضوع من سائر جوانبه، إذ ينبغي أن تتأسس دراسات متخصصة في قضايا الاستقلال.
إن المسؤوليات في النطاق الإداري وفعاليتها فيه، لا تعدو أن تكون انعكاسا لأوضاعنا النفسية في العمل والإنتاج. فمن أجل أن يكون الجهاز الإداري عاملا منتجا، يجب أن يكون روح الإدارة روح عمال ومنتجين لا روح (باشاوات) مستبدين.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
تغيير الإنسان
تغيير الإنسان
عن مجلة (الثورة الإفريقية) عدد 221 شهر أيار (مايو) 1967.
ينقل العدد الأخير من مجلة (نوفيل أوبسرفاتور) مقالا من مجلة (بروق)، يصف صاحبه، (فرانسوا فوريه) ما يسميه: ((تيه المثقفين الفرنسيين بعد الحرب العالمية الثانية)).
إنني بكل أسف لم أطلع على هذا المقال، وربما لم تكن لتفيدني مطالعته إلا من الناحية الفكرية، إذا ما عقدت موازنة بين الحالة التي يصفها وبين ((تيه المثقفين الجزائريين بعد الثورة)).
غير أن الموضوع يأخذ فجأة أهمية كبرى، حين نقرأ ملاحظة لـ (جان دانييل)، تطرح بصورة غير مباشرة، مشكلة لم تفقد أهميتها في كل محاولة تقويم جديد للثورة الجزائرية.
إن ثورة ما، هي في جوهرها عملية تغيير.
غير أن لهذا التغيير أسلوبه وطبيعته: فأما الأسلوب فيتسم بالسرعة ليبقى منسجما مع التنسيق الثوري، وأما طبيعة التغيير فإنها تتحدد في نطاق الجواب على السؤال التالي:
ما هو الموضوع الذي يجب تغييره، ليبقى التغيير متمشيا مع معناه الثوري؟
المشكلة تبدأ من نقطة الاستفهام هذه، فمن هذه النقطة بالذات تنشأ في الأذهان الالتباسات والشبهات.
وينبغي على الثورة لتفادي الإبهام، أن ترسم خطا واضحا حول موضوع التغيير حتى لا يبقى مجال للخلط.
أما إذا أسلمت الأمور إلى الغموض والضباب، فإن أي انحراف سيكون متوقعا، وسوف تظل الثورة معرضة لأن تترك مكانها- دون أن تعلم- لشبه ثورة، تستبدل بالكيف الكم، وبالتغيير الجذري الضروري شبه التغيير.
إن مجموعة من المظالم الاجتماعية تستطيع تخزين طاقة ثورية هائلة، ولكن إذا انفجرت هذه الطاقة، وهي تنفجر في ظرف استثنائي، فليس من المؤكد أن تمسك الثورة اتجاهها، وألا يطرأ فيها انحراف.
الإستمرار في الاتجاه إذن يقتضي شروطا.
وفي هذا المجال نرى في تعليق (نوفيل أوبسرفاتور) توضيحا لا مزيد عليه في الموضوع، إذ أن صاحبه (جان دانييل) احتج على (فرانسوا فو ييه) برأي، أدلى به (جيفارا) في حديث عن الثورة يقول فيه: ((إذا لم يعن بتغيير الإنسان فالثورة لا تعني إذن شيئا بالنسبة لي)).
فهذه كلمات في منتهى الوضوح، في منتهى الصفاء، وفي منتهى الدقة، إنها تضعنا في صلب القضية.
لقد علق (جان دانييل) على هذه الكلمة بأنه كان يشعر أثناء الحديث مع (جيفارا) وهو يقول هذه الكلمات ((بنفس تتخلله حدة دينية)).
ولقد كان (جان دانييل) محقا في تعليقه هذا.
وبالفعل فالثورة التي لا تحركها هزة تكاد تكون شطحة صوفية فليست بثورة.
والتغييرات الثورية تصبح حلما من الأحلام إذا لم تقم على هذا الشرط، فتحويل سلطة سياسية من أيد إلى أخرى، وإعادة تنظيم الإدارة وأجهزة العدالة، وتغيير العملة، وتعديل النظام الاقتصادي، هذه كلها أمور تدخل بطبيعة الحال في نطاق الظاهرة الثورية.
وقد تتغير خريطة توزيع الملكية في الوطن، وقد يسند إلى أبناء الوطن وظائف كان المستعمرون يشغلونها، وقد تستبدل بالحروف اللاتينية حروف عربية على واجهات ولافتات الحوانيت، إلا أن التغييرات هذه جميعها تصبح مجرد سحر للأبصار ولا يستقر أمرها إذا لم يتغير الإنسان نفسه.
وقد يرتفع متوسط الدخل الفردي أيضا، دون أن يكون ذلك القياس الصحيح الذي به تقاس الثورة.
إذ لو كان الأمر يقتضي مجرد زيادة في الأجور وفي وجبات الطعام، لكان على حد تعبير (جيفارا) مع تصرف قليل في كلماته ... لكان استعمار جديد له نصيب من الذكاء أقرب إلى النجاح بالمعنى الثوري المنحرف.
ولقد كان الشعب الجزائري الثائر، على إدراك تام لقضيته، عندما قال: ((لا))، في استفتائه على مشروع قسنطينة، الذي كان يمنيه ويعده الاستجابة لكل ما قد يكون له من رغبات مادية.
فثورة ما لا تستطيع بناء وضع جديد والحفاظ على مكتسباتها إلا إذا كان أثره في تصفية الاستعمار، فعالا في تصفية الإنسان من القابلية للاستعمار، فتصفية الاستعمار في الإنسان تشرط تصفيته في الأرض ويجب أن تتقدمها.
ولا يمكن لنا أن نفهم معنى فاتح تشرين الثاني (نوفمبر) 1954 بصفته بعثا وتحريرا للإنسان إذا غابت عن أذهاننا عملية التلويث، التي عاناها الإنسان الجزائري طيلة قرن ونصف.
ففي هذه الحقبة الطويلة من الزمن كان على الإنسان أن يحتقر نفسه وأن يتحلى بألقاب (أنديجين) .. كي يتناغم مع وضع استعماري لا شفقة فيه.
والمثقف في الجيل السابق كان يطالع جريدة (صوت الانديجين) وجريدة (صوت المحتقرين)، وإذا تعين عليه أن يكتب شيئا فموضوعه يتحدد في ذهنه بقابلية للاستعمار، وكذلك المثقف الجزائري الذي نشر حوالي عام 1925 كتابا عنوانه (يا ألله)، وأردف هذا العنوان بعنوان آخر يفسره ((أو كيف يأمر الأوربي (الانديجين) حتى يطيعه)). لعل هذه العبارة تكفي دليلا على سمو العواطف عند صاحبها، أليس كذلك؟.
ولم تكن هذه البضاعة السخيفة ليحتكرها مثقفون، بل نجد هذا النوع من أدب العبودية منتشرا في أرجاء العالم الثالث، وفي إندونيسيا منه عينات نقل بعضها (ريدشارد قرقايط) في كتابه عن باندونج.
فأينما حل الاستعمار كان يلوث الإنسان، حتى أصبحت تصفيته من رواسب الاستعمار، أهم عمل ثوري في الثورة.
فلا غرابة إذن في أن الذين كانوا في فرنسا يعرفون عن العامل الجزائري صورة هزيلة، يكتشفون له بصورة مفاجئة صورة تفرض التقدير والاحترام عندما اندلعت الثورة.
لقد لعبت الكلمات نفسها دورا في هذا التعبير، فبمجرد أن كان الجزائري يلقب (بالمجاهد)، كان وكأنما ألغى من ذهن الآخرين صورة (الانديجين) الحقير، حتى قبل أن يطلق أول رصاصة في الجبل.
فبمجرد ما يلقب (بالمجاهد)، كان في طفرة واحدة، يصبح البطل الواعي المدرك لعظمة تحديه للقوى الهائلة التي أمامه.
وإذا تغيرت الكلمات بطريقة عكسية أو غيرت في اتجاه آخر، فإن أثرها في بعث الإنسان سيتأثر قطعا بسبب ذلك.
لقد حدد الدكتور خالدي، بطريقة موفقة، أهمية الكلمات من حيث مدلولها الثوري، ويجب أن نقدر أهميتها من الناحية النفسية؛ إن الكلمات تعين مواقف أيديولوجية محددة.
فإذا غيرناها فالتغيير لا يعتري فحسب (لغة) الثورة بل إنه سيصيب (روحها) وربما يغير الموقف الثوري نفسه.
فإذا تنازل الثوار عن لقب (المجاهد) فسرعان ما سوف يظهر في سلوكهم الانحراف، الذي كان يعتريهم عندما كانوا في الخدمة العسكرية في جيش الاستعمار.
يجب على الثورة أن تحافظ على صفاء (لغتها) حتى تحافظ على قدرتها على تغيير الإنسان.
إن بعض الإباحيات في اللغة- وقد يعدها أصحابها من الإقدام الثوري- ليست إلا خيانات للثورة في موضوعها الأساسي وهو تغيير الإنسان.
فإذا ما تحدث بعض المخنثين عن (التحرير الجنسي) مثلا فكلماتهم لا تعبر عن شيء سوى هبوط في الطاقة الثورية.
وليس من العبث أن يعزو (سفر التكوين) في العهد القديم سائر العوامل التي مزقت وحدتهم وفرقتهم، إلى البلبلة التي حدثت في لسان القوم. وقد أوضح بذلك أثر الكلمات على مصير البشر.
عن مجلة (الثورة الإفريقية) عدد 221 شهر أيار (مايو) 1967.
ينقل العدد الأخير من مجلة (نوفيل أوبسرفاتور) مقالا من مجلة (بروق)، يصف صاحبه، (فرانسوا فوريه) ما يسميه: ((تيه المثقفين الفرنسيين بعد الحرب العالمية الثانية)).
إنني بكل أسف لم أطلع على هذا المقال، وربما لم تكن لتفيدني مطالعته إلا من الناحية الفكرية، إذا ما عقدت موازنة بين الحالة التي يصفها وبين ((تيه المثقفين الجزائريين بعد الثورة)).
غير أن الموضوع يأخذ فجأة أهمية كبرى، حين نقرأ ملاحظة لـ (جان دانييل)، تطرح بصورة غير مباشرة، مشكلة لم تفقد أهميتها في كل محاولة تقويم جديد للثورة الجزائرية.
إن ثورة ما، هي في جوهرها عملية تغيير.
غير أن لهذا التغيير أسلوبه وطبيعته: فأما الأسلوب فيتسم بالسرعة ليبقى منسجما مع التنسيق الثوري، وأما طبيعة التغيير فإنها تتحدد في نطاق الجواب على السؤال التالي:
ما هو الموضوع الذي يجب تغييره، ليبقى التغيير متمشيا مع معناه الثوري؟
المشكلة تبدأ من نقطة الاستفهام هذه، فمن هذه النقطة بالذات تنشأ في الأذهان الالتباسات والشبهات.
وينبغي على الثورة لتفادي الإبهام، أن ترسم خطا واضحا حول موضوع التغيير حتى لا يبقى مجال للخلط.
أما إذا أسلمت الأمور إلى الغموض والضباب، فإن أي انحراف سيكون متوقعا، وسوف تظل الثورة معرضة لأن تترك مكانها- دون أن تعلم- لشبه ثورة، تستبدل بالكيف الكم، وبالتغيير الجذري الضروري شبه التغيير.
إن مجموعة من المظالم الاجتماعية تستطيع تخزين طاقة ثورية هائلة، ولكن إذا انفجرت هذه الطاقة، وهي تنفجر في ظرف استثنائي، فليس من المؤكد أن تمسك الثورة اتجاهها، وألا يطرأ فيها انحراف.
الإستمرار في الاتجاه إذن يقتضي شروطا.
وفي هذا المجال نرى في تعليق (نوفيل أوبسرفاتور) توضيحا لا مزيد عليه في الموضوع، إذ أن صاحبه (جان دانييل) احتج على (فرانسوا فو ييه) برأي، أدلى به (جيفارا) في حديث عن الثورة يقول فيه: ((إذا لم يعن بتغيير الإنسان فالثورة لا تعني إذن شيئا بالنسبة لي)).
فهذه كلمات في منتهى الوضوح، في منتهى الصفاء، وفي منتهى الدقة، إنها تضعنا في صلب القضية.
لقد علق (جان دانييل) على هذه الكلمة بأنه كان يشعر أثناء الحديث مع (جيفارا) وهو يقول هذه الكلمات ((بنفس تتخلله حدة دينية)).
ولقد كان (جان دانييل) محقا في تعليقه هذا.
وبالفعل فالثورة التي لا تحركها هزة تكاد تكون شطحة صوفية فليست بثورة.
والتغييرات الثورية تصبح حلما من الأحلام إذا لم تقم على هذا الشرط، فتحويل سلطة سياسية من أيد إلى أخرى، وإعادة تنظيم الإدارة وأجهزة العدالة، وتغيير العملة، وتعديل النظام الاقتصادي، هذه كلها أمور تدخل بطبيعة الحال في نطاق الظاهرة الثورية.
وقد تتغير خريطة توزيع الملكية في الوطن، وقد يسند إلى أبناء الوطن وظائف كان المستعمرون يشغلونها، وقد تستبدل بالحروف اللاتينية حروف عربية على واجهات ولافتات الحوانيت، إلا أن التغييرات هذه جميعها تصبح مجرد سحر للأبصار ولا يستقر أمرها إذا لم يتغير الإنسان نفسه.
وقد يرتفع متوسط الدخل الفردي أيضا، دون أن يكون ذلك القياس الصحيح الذي به تقاس الثورة.
إذ لو كان الأمر يقتضي مجرد زيادة في الأجور وفي وجبات الطعام، لكان على حد تعبير (جيفارا) مع تصرف قليل في كلماته ... لكان استعمار جديد له نصيب من الذكاء أقرب إلى النجاح بالمعنى الثوري المنحرف.
ولقد كان الشعب الجزائري الثائر، على إدراك تام لقضيته، عندما قال: ((لا))، في استفتائه على مشروع قسنطينة، الذي كان يمنيه ويعده الاستجابة لكل ما قد يكون له من رغبات مادية.
فثورة ما لا تستطيع بناء وضع جديد والحفاظ على مكتسباتها إلا إذا كان أثره في تصفية الاستعمار، فعالا في تصفية الإنسان من القابلية للاستعمار، فتصفية الاستعمار في الإنسان تشرط تصفيته في الأرض ويجب أن تتقدمها.
ولا يمكن لنا أن نفهم معنى فاتح تشرين الثاني (نوفمبر) 1954 بصفته بعثا وتحريرا للإنسان إذا غابت عن أذهاننا عملية التلويث، التي عاناها الإنسان الجزائري طيلة قرن ونصف.
ففي هذه الحقبة الطويلة من الزمن كان على الإنسان أن يحتقر نفسه وأن يتحلى بألقاب (أنديجين) .. كي يتناغم مع وضع استعماري لا شفقة فيه.
والمثقف في الجيل السابق كان يطالع جريدة (صوت الانديجين) وجريدة (صوت المحتقرين)، وإذا تعين عليه أن يكتب شيئا فموضوعه يتحدد في ذهنه بقابلية للاستعمار، وكذلك المثقف الجزائري الذي نشر حوالي عام 1925 كتابا عنوانه (يا ألله)، وأردف هذا العنوان بعنوان آخر يفسره ((أو كيف يأمر الأوربي (الانديجين) حتى يطيعه)). لعل هذه العبارة تكفي دليلا على سمو العواطف عند صاحبها، أليس كذلك؟.
ولم تكن هذه البضاعة السخيفة ليحتكرها مثقفون، بل نجد هذا النوع من أدب العبودية منتشرا في أرجاء العالم الثالث، وفي إندونيسيا منه عينات نقل بعضها (ريدشارد قرقايط) في كتابه عن باندونج.
فأينما حل الاستعمار كان يلوث الإنسان، حتى أصبحت تصفيته من رواسب الاستعمار، أهم عمل ثوري في الثورة.
فلا غرابة إذن في أن الذين كانوا في فرنسا يعرفون عن العامل الجزائري صورة هزيلة، يكتشفون له بصورة مفاجئة صورة تفرض التقدير والاحترام عندما اندلعت الثورة.
لقد لعبت الكلمات نفسها دورا في هذا التعبير، فبمجرد أن كان الجزائري يلقب (بالمجاهد)، كان وكأنما ألغى من ذهن الآخرين صورة (الانديجين) الحقير، حتى قبل أن يطلق أول رصاصة في الجبل.
فبمجرد ما يلقب (بالمجاهد)، كان في طفرة واحدة، يصبح البطل الواعي المدرك لعظمة تحديه للقوى الهائلة التي أمامه.
وإذا تغيرت الكلمات بطريقة عكسية أو غيرت في اتجاه آخر، فإن أثرها في بعث الإنسان سيتأثر قطعا بسبب ذلك.
لقد حدد الدكتور خالدي، بطريقة موفقة، أهمية الكلمات من حيث مدلولها الثوري، ويجب أن نقدر أهميتها من الناحية النفسية؛ إن الكلمات تعين مواقف أيديولوجية محددة.
فإذا غيرناها فالتغيير لا يعتري فحسب (لغة) الثورة بل إنه سيصيب (روحها) وربما يغير الموقف الثوري نفسه.
فإذا تنازل الثوار عن لقب (المجاهد) فسرعان ما سوف يظهر في سلوكهم الانحراف، الذي كان يعتريهم عندما كانوا في الخدمة العسكرية في جيش الاستعمار.
يجب على الثورة أن تحافظ على صفاء (لغتها) حتى تحافظ على قدرتها على تغيير الإنسان.
إن بعض الإباحيات في اللغة- وقد يعدها أصحابها من الإقدام الثوري- ليست إلا خيانات للثورة في موضوعها الأساسي وهو تغيير الإنسان.
فإذا ما تحدث بعض المخنثين عن (التحرير الجنسي) مثلا فكلماتهم لا تعبر عن شيء سوى هبوط في الطاقة الثورية.
وليس من العبث أن يعزو (سفر التكوين) في العهد القديم سائر العوامل التي مزقت وحدتهم وفرقتهم، إلى البلبلة التي حدثت في لسان القوم. وقد أوضح بذلك أثر الكلمات على مصير البشر.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
تغيير الإنسان
تغيير الإنسان
عن مجلة (الثورة الإفريقية) عدد 221 شهر أيار (مايو) 1967.
ينقل العدد الأخير من مجلة (نوفيل أوبسرفاتور) مقالا من مجلة (بروق)، يصف صاحبه، (فرانسوا فوريه) ما يسميه: ((تيه المثقفين الفرنسيين بعد الحرب العالمية الثانية)).
إنني بكل أسف لم أطلع على هذا المقال، وربما لم تكن لتفيدني مطالعته إلا من الناحية الفكرية، إذا ما عقدت موازنة بين الحالة التي يصفها وبين ((تيه المثقفين الجزائريين بعد الثورة)).
غير أن الموضوع يأخذ فجأة أهمية كبرى، حين نقرأ ملاحظة لـ (جان دانييل)، تطرح بصورة غير مباشرة، مشكلة لم تفقد أهميتها في كل محاولة تقويم جديد للثورة الجزائرية.
إن ثورة ما، هي في جوهرها عملية تغيير.
غير أن لهذا التغيير أسلوبه وطبيعته: فأما الأسلوب فيتسم بالسرعة ليبقى منسجما مع التنسيق الثوري، وأما طبيعة التغيير فإنها تتحدد في نطاق الجواب على السؤال التالي:
ما هو الموضوع الذي يجب تغييره، ليبقى التغيير متمشيا مع معناه الثوري؟
المشكلة تبدأ من نقطة الاستفهام هذه، فمن هذه النقطة بالذات تنشأ في الأذهان الالتباسات والشبهات.
وينبغي على الثورة لتفادي الإبهام، أن ترسم خطا واضحا حول موضوع التغيير حتى لا يبقى مجال للخلط.
أما إذا أسلمت الأمور إلى الغموض والضباب، فإن أي انحراف سيكون متوقعا، وسوف تظل الثورة معرضة لأن تترك مكانها- دون أن تعلم- لشبه ثورة، تستبدل بالكيف الكم، وبالتغيير الجذري الضروري شبه التغيير.
إن مجموعة من المظالم الاجتماعية تستطيع تخزين طاقة ثورية هائلة، ولكن إذا انفجرت هذه الطاقة، وهي تنفجر في ظرف استثنائي، فليس من المؤكد أن تمسك الثورة اتجاهها، وألا يطرأ فيها انحراف.
الإستمرار في الاتجاه إذن يقتضي شروطا.
وفي هذا المجال نرى في تعليق (نوفيل أوبسرفاتور) توضيحا لا مزيد عليه في الموضوع، إذ أن صاحبه (جان دانييل) احتج على (فرانسوا فو ييه) برأي، أدلى به (جيفارا) في حديث عن الثورة يقول فيه: ((إذا لم يعن بتغيير الإنسان فالثورة لا تعني إذن شيئا بالنسبة لي)).
فهذه كلمات في منتهى الوضوح، في منتهى الصفاء، وفي منتهى الدقة، إنها تضعنا في صلب القضية.
لقد علق (جان دانييل) على هذه الكلمة بأنه كان يشعر أثناء الحديث مع (جيفارا) وهو يقول هذه الكلمات ((بنفس تتخلله حدة دينية)).
ولقد كان (جان دانييل) محقا في تعليقه هذا.
وبالفعل فالثورة التي لا تحركها هزة تكاد تكون شطحة صوفية فليست بثورة.
والتغييرات الثورية تصبح حلما من الأحلام إذا لم تقم على هذا الشرط، فتحويل سلطة سياسية من أيد إلى أخرى، وإعادة تنظيم الإدارة وأجهزة العدالة، وتغيير العملة، وتعديل النظام الاقتصادي، هذه كلها أمور تدخل بطبيعة الحال في نطاق الظاهرة الثورية.
وقد تتغير خريطة توزيع الملكية في الوطن، وقد يسند إلى أبناء الوطن وظائف كان المستعمرون يشغلونها، وقد تستبدل بالحروف اللاتينية حروف عربية على واجهات ولافتات الحوانيت، إلا أن التغييرات هذه جميعها تصبح مجرد سحر للأبصار ولا يستقر أمرها إذا لم يتغير الإنسان نفسه.
وقد يرتفع متوسط الدخل الفردي أيضا، دون أن يكون ذلك القياس الصحيح الذي به تقاس الثورة.
إذ لو كان الأمر يقتضي مجرد زيادة في الأجور وفي وجبات الطعام، لكان على حد تعبير (جيفارا) مع تصرف قليل في كلماته ... لكان استعمار جديد له نصيب من الذكاء أقرب إلى النجاح بالمعنى الثوري المنحرف.
ولقد كان الشعب الجزائري الثائر، على إدراك تام لقضيته، عندما قال: ((لا))، في استفتائه على مشروع قسنطينة، الذي كان يمنيه ويعده الاستجابة لكل ما قد يكون له من رغبات مادية.
فثورة ما لا تستطيع بناء وضع جديد والحفاظ على مكتسباتها إلا إذا كان أثره في تصفية الاستعمار، فعالا في تصفية الإنسان من القابلية للاستعمار، فتصفية الاستعمار في الإنسان تشرط تصفيته في الأرض ويجب أن تتقدمها.
ولا يمكن لنا أن نفهم معنى فاتح تشرين الثاني (نوفمبر) 1954 بصفته بعثا وتحريرا للإنسان إذا غابت عن أذهاننا عملية التلويث، التي عاناها الإنسان الجزائري طيلة قرن ونصف.
ففي هذه الحقبة الطويلة من الزمن كان على الإنسان أن يحتقر نفسه وأن يتحلى بألقاب (أنديجين) .. كي يتناغم مع وضع استعماري لا شفقة فيه.
والمثقف في الجيل السابق كان يطالع جريدة (صوت الانديجين) وجريدة (صوت المحتقرين)، وإذا تعين عليه أن يكتب شيئا فموضوعه يتحدد في ذهنه بقابلية للاستعمار، وكذلك المثقف الجزائري الذي نشر حوالي عام 1925 كتابا عنوانه (يا ألله)، وأردف هذا العنوان بعنوان آخر يفسره ((أو كيف يأمر الأوربي (الانديجين) حتى يطيعه)). لعل هذه العبارة تكفي دليلا على سمو العواطف عند صاحبها، أليس كذلك؟.
ولم تكن هذه البضاعة السخيفة ليحتكرها مثقفون، بل نجد هذا النوع من أدب العبودية منتشرا في أرجاء العالم الثالث، وفي إندونيسيا منه عينات نقل بعضها (ريدشارد قرقايط) في كتابه عن باندونج.
فأينما حل الاستعمار كان يلوث الإنسان، حتى أصبحت تصفيته من رواسب الاستعمار، أهم عمل ثوري في الثورة.
فلا غرابة إذن في أن الذين كانوا في فرنسا يعرفون عن العامل الجزائري صورة هزيلة، يكتشفون له بصورة مفاجئة صورة تفرض التقدير والاحترام عندما اندلعت الثورة.
لقد لعبت الكلمات نفسها دورا في هذا التعبير، فبمجرد أن كان الجزائري يلقب (بالمجاهد)، كان وكأنما ألغى من ذهن الآخرين صورة (الانديجين) الحقير، حتى قبل أن يطلق أول رصاصة في الجبل.
فبمجرد ما يلقب (بالمجاهد)، كان في طفرة واحدة، يصبح البطل الواعي المدرك لعظمة تحديه للقوى الهائلة التي أمامه.
وإذا تغيرت الكلمات بطريقة عكسية أو غيرت في اتجاه آخر، فإن أثرها في بعث الإنسان سيتأثر قطعا بسبب ذلك.
لقد حدد الدكتور خالدي، بطريقة موفقة، أهمية الكلمات من حيث مدلولها الثوري، ويجب أن نقدر أهميتها من الناحية النفسية؛ إن الكلمات تعين مواقف أيديولوجية محددة.
فإذا غيرناها فالتغيير لا يعتري فحسب (لغة) الثورة بل إنه سيصيب (روحها) وربما يغير الموقف الثوري نفسه.
فإذا تنازل الثوار عن لقب (المجاهد) فسرعان ما سوف يظهر في سلوكهم الانحراف، الذي كان يعتريهم عندما كانوا في الخدمة العسكرية في جيش الاستعمار.
يجب على الثورة أن تحافظ على صفاء (لغتها) حتى تحافظ على قدرتها على تغيير الإنسان.
إن بعض الإباحيات في اللغة- وقد يعدها أصحابها من الإقدام الثوري- ليست إلا خيانات للثورة في موضوعها الأساسي وهو تغيير الإنسان.
فإذا ما تحدث بعض المخنثين عن (التحرير الجنسي) مثلا فكلماتهم لا تعبر عن شيء سوى هبوط في الطاقة الثورية.
وليس من العبث أن يعزو (سفر التكوين) في العهد القديم سائر العوامل التي مزقت وحدتهم وفرقتهم، إلى البلبلة التي حدثت في لسان القوم. وقد أوضح بذلك أثر الكلمات على مصير البشر.
على أية حال، فالثورة لا تستطيع الوصول إلى أهدافها، إذا هي لم تغير الإنسان بطريقة لا رجعة فيها من حيث سلوكه وأفكاره وكلماته.
وإذا ما نظرنا إلى الأمور في عمقها، فإن ثورة ما، لابد لها أن تسير طبقا للقانون الاجتماعي الذي تشير إليه الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 12/ 13]
***
عن مجلة (الثورة الإفريقية) عدد 221 شهر أيار (مايو) 1967.
ينقل العدد الأخير من مجلة (نوفيل أوبسرفاتور) مقالا من مجلة (بروق)، يصف صاحبه، (فرانسوا فوريه) ما يسميه: ((تيه المثقفين الفرنسيين بعد الحرب العالمية الثانية)).
إنني بكل أسف لم أطلع على هذا المقال، وربما لم تكن لتفيدني مطالعته إلا من الناحية الفكرية، إذا ما عقدت موازنة بين الحالة التي يصفها وبين ((تيه المثقفين الجزائريين بعد الثورة)).
غير أن الموضوع يأخذ فجأة أهمية كبرى، حين نقرأ ملاحظة لـ (جان دانييل)، تطرح بصورة غير مباشرة، مشكلة لم تفقد أهميتها في كل محاولة تقويم جديد للثورة الجزائرية.
إن ثورة ما، هي في جوهرها عملية تغيير.
غير أن لهذا التغيير أسلوبه وطبيعته: فأما الأسلوب فيتسم بالسرعة ليبقى منسجما مع التنسيق الثوري، وأما طبيعة التغيير فإنها تتحدد في نطاق الجواب على السؤال التالي:
ما هو الموضوع الذي يجب تغييره، ليبقى التغيير متمشيا مع معناه الثوري؟
المشكلة تبدأ من نقطة الاستفهام هذه، فمن هذه النقطة بالذات تنشأ في الأذهان الالتباسات والشبهات.
وينبغي على الثورة لتفادي الإبهام، أن ترسم خطا واضحا حول موضوع التغيير حتى لا يبقى مجال للخلط.
أما إذا أسلمت الأمور إلى الغموض والضباب، فإن أي انحراف سيكون متوقعا، وسوف تظل الثورة معرضة لأن تترك مكانها- دون أن تعلم- لشبه ثورة، تستبدل بالكيف الكم، وبالتغيير الجذري الضروري شبه التغيير.
إن مجموعة من المظالم الاجتماعية تستطيع تخزين طاقة ثورية هائلة، ولكن إذا انفجرت هذه الطاقة، وهي تنفجر في ظرف استثنائي، فليس من المؤكد أن تمسك الثورة اتجاهها، وألا يطرأ فيها انحراف.
الإستمرار في الاتجاه إذن يقتضي شروطا.
وفي هذا المجال نرى في تعليق (نوفيل أوبسرفاتور) توضيحا لا مزيد عليه في الموضوع، إذ أن صاحبه (جان دانييل) احتج على (فرانسوا فو ييه) برأي، أدلى به (جيفارا) في حديث عن الثورة يقول فيه: ((إذا لم يعن بتغيير الإنسان فالثورة لا تعني إذن شيئا بالنسبة لي)).
فهذه كلمات في منتهى الوضوح، في منتهى الصفاء، وفي منتهى الدقة، إنها تضعنا في صلب القضية.
لقد علق (جان دانييل) على هذه الكلمة بأنه كان يشعر أثناء الحديث مع (جيفارا) وهو يقول هذه الكلمات ((بنفس تتخلله حدة دينية)).
ولقد كان (جان دانييل) محقا في تعليقه هذا.
وبالفعل فالثورة التي لا تحركها هزة تكاد تكون شطحة صوفية فليست بثورة.
والتغييرات الثورية تصبح حلما من الأحلام إذا لم تقم على هذا الشرط، فتحويل سلطة سياسية من أيد إلى أخرى، وإعادة تنظيم الإدارة وأجهزة العدالة، وتغيير العملة، وتعديل النظام الاقتصادي، هذه كلها أمور تدخل بطبيعة الحال في نطاق الظاهرة الثورية.
وقد تتغير خريطة توزيع الملكية في الوطن، وقد يسند إلى أبناء الوطن وظائف كان المستعمرون يشغلونها، وقد تستبدل بالحروف اللاتينية حروف عربية على واجهات ولافتات الحوانيت، إلا أن التغييرات هذه جميعها تصبح مجرد سحر للأبصار ولا يستقر أمرها إذا لم يتغير الإنسان نفسه.
وقد يرتفع متوسط الدخل الفردي أيضا، دون أن يكون ذلك القياس الصحيح الذي به تقاس الثورة.
إذ لو كان الأمر يقتضي مجرد زيادة في الأجور وفي وجبات الطعام، لكان على حد تعبير (جيفارا) مع تصرف قليل في كلماته ... لكان استعمار جديد له نصيب من الذكاء أقرب إلى النجاح بالمعنى الثوري المنحرف.
ولقد كان الشعب الجزائري الثائر، على إدراك تام لقضيته، عندما قال: ((لا))، في استفتائه على مشروع قسنطينة، الذي كان يمنيه ويعده الاستجابة لكل ما قد يكون له من رغبات مادية.
فثورة ما لا تستطيع بناء وضع جديد والحفاظ على مكتسباتها إلا إذا كان أثره في تصفية الاستعمار، فعالا في تصفية الإنسان من القابلية للاستعمار، فتصفية الاستعمار في الإنسان تشرط تصفيته في الأرض ويجب أن تتقدمها.
ولا يمكن لنا أن نفهم معنى فاتح تشرين الثاني (نوفمبر) 1954 بصفته بعثا وتحريرا للإنسان إذا غابت عن أذهاننا عملية التلويث، التي عاناها الإنسان الجزائري طيلة قرن ونصف.
ففي هذه الحقبة الطويلة من الزمن كان على الإنسان أن يحتقر نفسه وأن يتحلى بألقاب (أنديجين) .. كي يتناغم مع وضع استعماري لا شفقة فيه.
والمثقف في الجيل السابق كان يطالع جريدة (صوت الانديجين) وجريدة (صوت المحتقرين)، وإذا تعين عليه أن يكتب شيئا فموضوعه يتحدد في ذهنه بقابلية للاستعمار، وكذلك المثقف الجزائري الذي نشر حوالي عام 1925 كتابا عنوانه (يا ألله)، وأردف هذا العنوان بعنوان آخر يفسره ((أو كيف يأمر الأوربي (الانديجين) حتى يطيعه)). لعل هذه العبارة تكفي دليلا على سمو العواطف عند صاحبها، أليس كذلك؟.
ولم تكن هذه البضاعة السخيفة ليحتكرها مثقفون، بل نجد هذا النوع من أدب العبودية منتشرا في أرجاء العالم الثالث، وفي إندونيسيا منه عينات نقل بعضها (ريدشارد قرقايط) في كتابه عن باندونج.
فأينما حل الاستعمار كان يلوث الإنسان، حتى أصبحت تصفيته من رواسب الاستعمار، أهم عمل ثوري في الثورة.
فلا غرابة إذن في أن الذين كانوا في فرنسا يعرفون عن العامل الجزائري صورة هزيلة، يكتشفون له بصورة مفاجئة صورة تفرض التقدير والاحترام عندما اندلعت الثورة.
لقد لعبت الكلمات نفسها دورا في هذا التعبير، فبمجرد أن كان الجزائري يلقب (بالمجاهد)، كان وكأنما ألغى من ذهن الآخرين صورة (الانديجين) الحقير، حتى قبل أن يطلق أول رصاصة في الجبل.
فبمجرد ما يلقب (بالمجاهد)، كان في طفرة واحدة، يصبح البطل الواعي المدرك لعظمة تحديه للقوى الهائلة التي أمامه.
وإذا تغيرت الكلمات بطريقة عكسية أو غيرت في اتجاه آخر، فإن أثرها في بعث الإنسان سيتأثر قطعا بسبب ذلك.
لقد حدد الدكتور خالدي، بطريقة موفقة، أهمية الكلمات من حيث مدلولها الثوري، ويجب أن نقدر أهميتها من الناحية النفسية؛ إن الكلمات تعين مواقف أيديولوجية محددة.
فإذا غيرناها فالتغيير لا يعتري فحسب (لغة) الثورة بل إنه سيصيب (روحها) وربما يغير الموقف الثوري نفسه.
فإذا تنازل الثوار عن لقب (المجاهد) فسرعان ما سوف يظهر في سلوكهم الانحراف، الذي كان يعتريهم عندما كانوا في الخدمة العسكرية في جيش الاستعمار.
يجب على الثورة أن تحافظ على صفاء (لغتها) حتى تحافظ على قدرتها على تغيير الإنسان.
إن بعض الإباحيات في اللغة- وقد يعدها أصحابها من الإقدام الثوري- ليست إلا خيانات للثورة في موضوعها الأساسي وهو تغيير الإنسان.
فإذا ما تحدث بعض المخنثين عن (التحرير الجنسي) مثلا فكلماتهم لا تعبر عن شيء سوى هبوط في الطاقة الثورية.
وليس من العبث أن يعزو (سفر التكوين) في العهد القديم سائر العوامل التي مزقت وحدتهم وفرقتهم، إلى البلبلة التي حدثت في لسان القوم. وقد أوضح بذلك أثر الكلمات على مصير البشر.
على أية حال، فالثورة لا تستطيع الوصول إلى أهدافها، إذا هي لم تغير الإنسان بطريقة لا رجعة فيها من حيث سلوكه وأفكاره وكلماته.
وإذا ما نظرنا إلى الأمور في عمقها، فإن ثورة ما، لابد لها أن تسير طبقا للقانون الاجتماعي الذي تشير إليه الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 12/ 13]
***
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
معالم على طريق الحركة النسائية الجزائرية
معالم على طريق الحركة النسائية الجزائرية
عن (الثورة الإفريقية) عدد 267 في28 من شهر آدار (مارس) 1968.
هكذا كان القوم، في الجاهلية كما كان بين أهل الكتاب قبل الإسلام لا قيمة للمرأة، حتى إن العهد القديم لا يعترف بأن لها روحا.
لم يكن أحد ليعبأ بفضيلة المرأة ولا برذيلتها، فزياد بن أبيه والي العراق في زمن معاوية، يفخر بأبيه أبي سفيان ثم لا يخجل من أمه وقد ولدته على فراش السفاح بالطائف.
ولقد جاء الإسلام فغير الأوضاع لم النفسية البدائية هذه.
ونحن نلمس هذا التغيير، في حوار يدور حول ذلك المنعطف المؤسف للتاريخ الإسلامي في السنوات الأخيرة من خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه.
لم يكن لهذا الخليفة- كما نعلم- شكيمة عمر ولا حكمة أبي بكر، رضي الله عنهما، فكان لذلك يتأثر برأي أهله كمروان بن الحكم، الذي كان مستشاره الأول، وقد ورط سياسته في الأثرة والمحسوبية، ولم يجد بعض الصحابة الأجلاء بدا من انتقاد هذه السياسة.
وهكذا أصبح عثمان- ذلك الوجه الكريم من وجوه صدر الإسلام- يواجه موجة الانتقادات هذه وقد بلغت أوجها على لسان أبي ذر الغفاري.
وهذا حوار آخر نشير إليه ولم يكن غريبا في تلك الظروف، كان يدور بين الخليفة عثمان رضي الله تعالى عنه وبين عمار بن ياسر الذي أصبح يوجه أيضا نقدا حارا لسياسة الخليفة، واحتدم النقاش بينهما احتداما جعل الخليفة يرمي عمارا بقوله:
يابن سمية! ...
هذه الكلمة كانت في الجاهلية كفيلة بأن يَسلّ من رُمي بها سيفَه ليقتل أو ليموت اقتصاصا لشرفه، لكن عمار بن ياسر على العكس من ذلك قد رد بكل هدوء:
- أجل يا أمير المؤمنين! إنني ابن سمية!.
لم تكن الكلمة لتعبر عن التغيير العميق في النفس الجاهلية فحسب، فلقد كان لعمار بن ياسر الحق بأن يفخر بأمه سمية رضوان الله تعالى عليها.
فمن هذه المرأة؟
لنترك للسيرة النبوية الجواب على هذا السؤال:
كانت الدعوة في بدايتها تدوي في أرجاء مكة، فتذود قريش عن أصنامها ومصالحها الدنيوية، وأضحى الذي يعتنق الإسلام يذوق من قريش أنواع الأذى وأصناف التعذيب.
ودقت ساعة الشهداء حينئذٍ كما دقت من بعد الهجرة ساعة الأبطال.
كانت بمكة ساحة المعذبين والشهداء، وهي تشبه ساحة (دو جريف Degréve) بباريس أثناء الثورة الفرنسية، مع فارق هام هو أن الوضع معكوس هنا.
ففي ساحة مكة كان الجلادون ضد الثورة، والمعذبون كانوا شهداء الثورة التي سميت الإسلام.
وفي يوم حين كانت شمس الضحى ترسل على الأرض أشعة ملتهبة تجعل الرمل كرماد الفرن، وكل حصاة في الأرض كحجرة متقدة، ها هو ذا النبي صلوات الله عليه وأزكى التسليم، يمر بساحة التعذيب فيرى ما يستوقفه: لقد كانوا يعذبون آل ياسر.
إن ياسرا لم يكن من بطن من بطون مكة، ولكنه أتى إليها مع أخوين له، يبحثون عن أخ لهم رابع لم يجدوه، فقرر الإخوة الرجوع.
إلا أن ياسرا آثر البقاء بالمدينة القرشية، وكما جرت عادة القوم فقد والى أحد بطونها من بني مخزوم فزوجوه من أمة لهم إسمها (سمية).
كان عمار أول من أنجبته سمية لياسر، وأصبح، وهو شاب اخضر شاربه،
من المسلمين الأوائل، ثم جعله الله سببا لهداية والديه للإسلام، فاهتدت سمية واهتدى ياسر.
لكن الإبتلاء الذي كتبه الله على أولئك المسلمين الأوائل كان قد ابتدأ، وهكذا سيق ذات يوم ياسر وآله إلى ساحة التعذيب.
واتفق للنبي، - صلى الله عليه وسلم -، أن يمر بالساحة فاستوقفه المنظر المؤلم، وهو يرى ما انصب من عذاب على أصحابه فقال صلوات الله عليه:
- طوبى لكم آل ياسر، إن موعدكم الجنة!
وسكت لحظة .. كأنما عليه الصلاة والسلام يتحسس ثقل الرسالة التي شرفه الله بها، ويستشف معناها الحضاري. ثم قال:
((والله ليتمن هذا الأمر حتى تسير الظعينة من مكة إلى صنعاء، وعلى رأسها طبق من ذهب لا تخشى إلا غائلة الذئاب)).
وزهقت أرواح سمية وياسر، الطاهرة ذلك اليوم، ورحلت من الدنيا لتلتقي في الجنة، كما وعدهم الرسول الكريم.
فسمية هي هذه المرأة!.
من هنا ندرك كم كان ابنها عمار فخورا يوم نودي باسمها فقال للخليفة:
- أجل أنا ابن سمية، يا أمير المؤمنين.
إن كل قضية جليلة تضع بصماتها في مصير الإنسانية وتترك صداها في التاريخ، ترسم على مركب الزمن وجوها كريمة تمثلها.
ووجه المرأة ليس أقلها بروزا ووضوحا، بل قد تجد في أنوثته الخاصة لونا مثيرا ومؤثرا لا تجده في غيره.
وليس من العبث أن الشعوب تحفظ بحنو، ذكرى امرأة تقمصت في لحظة ما، قضية وطنية مثل (جان دارك)، أو خلصتهم من طاغية مستبد مثل (شرلوت كورديه).
ولربما عفّى الزمن على بعض الوجوه، حين يطوي التاريخ أحد صفحاته ويبدأ في كتابة أخرى. فنحن لا نعرف الكثير عن تلك الفارسة، الكاهنة بطلة مرتفعات الجزائر، قبل الإسلام، التي قامت فيما يبدو بدور مزدوج: فقد كانت البطلة التي قادت حركة المقاومة في وجه عقبة بن نافع، وكانت من ناحية أخرى الأم التي فتحت ضمير أولادها للإسلام.
والأمر المؤكد أن اسمها لم يمح من ذاكرة الناس، وعلى الرغم من تآكل الحجر في دائرة البئر من فرط ما جرت الحبال عليه تسحب الماء للأجيال الغابرة، فما
زال الجيل الحاضر، الذي يرد ماء البئر ويورده قطعان الغنم، يسميه (بئر الكاهنة) على بعد 80 كيلومتر جنوب مدينة تبسة.
وبعد جيل الكاهنة بكثير ها هي ذي امرأة جزائرية أخرى، (لاله فاطمة تسومر) (1)، تنزل من جبال الجرجرة على رأس كتيبة من المجاهدين لقبوا (المسبلين) لأنهم باعوا أرواحهم في سبيل الله تقف في وجه الإستعمار أيام الإحتلال.
إنها وجه آخر كريم نقش على لوحة تاريخ الجزائر، وكم يكون مجديا أن نعرف أكثر من هذا الموجز عن حياة البطلة الكبيرة.
ولعله ينهض من المثقفين الجزائريين من يعيد هذه الصورة إلينا حتى لا يطمسها الدهر. ولعل عملا كهذا سيجد أمامه مادة غزيرة، لا سيما أن الثورة نقشت على لوحة التاريخ وجوه نساء كثيرات من اللائي عشن ومتن في سبيل الواجب والشرف، كـ (فضيلة سعدان) التي حصدتها، ذات يوم، في أحد شوارع قسنطينة رشاشة، ولكن بعد أن أذاقت قوم الجنرال (ماسو) الخزي والمرارة فترة طويلة من الثورة.
هكذا نجد الثورة قد دفعت الحركة النسائية إلى الأمام، لكنها ما تزال حركة فتية، لها من الشباب حيويته وإقدامه، لكن شبابها قد يعوقها إذا أهملنا شأنها ولم نراقب نباتها كما ينبغي.
لابد إذن أن نطرح منذ الآن مشكلة (إنباتها) حتى لا نغرس جذورها أينما كان وكيفما كان.
فهناك أسمدة تعين على إنبات النبات الطيب. وهناك مزابل لا ينبت فيها إلا النبات العفن.
__________
(1) (لاله) كلمة تستعمل في المغرب الغربي لقب تعظيم للمرأة ذات الشأن.
وإني أتذكر هنا وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - للشاب الأنصاري الذي كان يريد الزواج فأوصاه صلوات الله وسلامه عليه بحسن الاختيار ثم قال له: ((إياك وخضراء الدمن)).
على حركتنا النسائية أن تختار إذن لغرس جذورها، تلك التربة النقية الطاهرة التي أنبتت (سمية ولاله فاطمة تسومر وفضيلة سعدان).
وعندما أقول هذا، لا أرى في اختياري قضية ذوق وإنما ضرورة إجماعية ملحة. لأن الخطأ يتسرب غالبا إلى الحركات النسائية حينها تُنَشَّأ كيفما كان منشؤها على أنها حركات مطالبة، أو بالأحرى مرافعة ضد المجتمع ثم يأتي من يأتي ليؤيدها في ذلك.
وكثيرا ما يكون التأييد مغرضا، كما يبدو في جناح الصحافة الفرنسية الذي أصبح مروجا، عندنا لنظرية (حركة نسائية) أطلق عليها صديق يعرف المزح والتهكم لقب (نظرية الفضيلو مرابطسم) (1).
ينبغي أن تطبع حركتنا النسائية بطابعنا لا بطابع ما يصنع في الخارج؛ وعلى أية حال فالمرأة ليست كائنا يعيش وحده ويطرح مشكلاته على هامش المجتمع، إنها أحد قطبيه وقطبه الآخر الرجل.
ولا ينبغي لنا أن نتصور قطبا ينفصل عن الآخر، ولو حدث هذا، بفرض لا يتصوره العقل، فالمجتمع نفسه يتبخر.
...
__________
(1) كتب أخي الدكتور خالدي رحمه الله أكثر من مرة بطريقته الساخرة ردا على ما كتبته فضيلة مرابط في الموضوع وعلى تأييد بعض الصحافة الفرنسية لها.
وزن الوقت
عن (الثورة الإفريقية) عدد 248 شهر تشرين الثاني (نوفبر) 1967.
شاهدنا على شاشة التلفزيون مقطعين من شريط عن الإتحاد السوفيتي:
كان المقطع الأول يعرض الصعوبات التي واجهها لينين والثورة تدور رحاها، فتضطره للخضوع إلى الشروط المخجلة التي فرضتها هدنة (بريست ليتوفسك) (1) عليه، فقد قبل هذه الشروط، على الرغم من رياح المعارضة في صفوفه وعواصفها، إذ كان يمنح الأولوية لتنظيم وإنقاذ ثورة لم ترس بعد جذورها في أرض روسيا وفي روح الفترة تلك.
أما المقطع الثاني فكان في غزو الفضاء والمكاسب الأخيرة التي حققها الرواد السوفييت.
وفيما نحن نتابع بعض ما تضمنه هذا المقطع من طفرة عجيبة حققها مجتمع انتقل من عهد (الموجيك)، إلى عهد الإنسان الذي يغزو الفضاء بنجاح، إذا بصرخة تطلقها طالبة طب من أهلي كانت بجنبي:
- مع أن خمسين عاما من الزمن شيء قليل!
هكذا قالت طالبة الطب.
وتذكرت حينئذ مقطعا من كتابي (شروط النهضة) أكتبه كما أذكره:
__________
(1) هي الهدنة التي أوقفت حالة الحرب بين روسيا وألمانيا سنة 1917.
((إن الزمن نهر قديم يعبر العالم، ويروي في أربع وعشرين ساعة الرقعة التي يعيش فيها كل شعب، والحقل الذي يعمل به، ولكن هذه الساعات التي تصبح تاريخا هنا وهناك، قد تصير عدما إذا مرت فوق رؤوس لا تسمع خريرها)).
إننا إذا قسنا الزمن بمقياس الساعات التائهة، فالقرن لا يساوي شيئا، بل حتى ألف السنة لا تساوي شيئا.
ولعل الطالبة التي صرخت بجنبي تشعر بذلك ولو شعورا غامضا.
أما إذا قدرنا الزمن بمقياس (تايلور) فإن كل دقيقة لها وزنها، الذي يكون معه للسنوات الخمسين التي مرت على الثورة السوفييتية ثقل هذه الدقائق المنتجة، والتي أتاحت لمجتمع معاصر لنا أن ينتقل من عهد (الموجيك) إلى عهد (رواد الفضاء) في برهة من الزمن جد قصيرة.
وحين ترى الشعوب النامية، بصورة من الصور، تجربة تيلورية حية فسوف تدرك أن حتمية التاريخ لا وجود لها، وبعبارة أدق فإن حتمية التاريخ تصبح في قيد الإنسان وتحت رقابته.
فالتاريخ ليس ما تصنعه الصدف ولا مكائد الإستعمار، ولكن ما تصنعه الشعوب ذاتها في أوطانها.
كنت في مقال سابق قد ذكرت حديثا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحذر المسلم فيه من كل استسلام للأمر الواقع، وأنا أكرره هنا دفعا للشك والريبة اللذين ربما ساورا ضمير المسلم.
يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما هي أعمالكم ترد إليكم، كما تكونوا يولّ عليكم» فإذا أصبح ابن (الموجيك) عالم فيزياء يكشف عن آخر أسرار الذرة، أو رائد
فضاء يغزو مجاهله، فإنما هو العمل الدائب لمجتمع جند طاقاته كلها طيلة خمسين عاما.
وإذا كان للشعوب النامية درس يستفاد منه في العيد الخمسين الذي أقيم هذا الشهر في موسكو، فإنما دلالته في الكشف عن قيمة الوقت بصفته عامل نهوض وتقدم.
ولو سمح لي أن ألخص وجهة نظر عبرت عنها منذ ربع قرن لقلت: إنه ليس من الضروري ولا من الممكن، أن يكون لمجتمع فقير، المليارات من الذهب كي ينهض، وإنما ينهض بالرصيد الذي لا يستطيع الدهر أن ينقص من قيمته شيئا، الرصيد الذي وضعته العناية الإلهية بين يديه: الإنسان، والتراب، والوقت.
***
عن (الثورة الإفريقية) عدد 267 في28 من شهر آدار (مارس) 1968.
هكذا كان القوم، في الجاهلية كما كان بين أهل الكتاب قبل الإسلام لا قيمة للمرأة، حتى إن العهد القديم لا يعترف بأن لها روحا.
لم يكن أحد ليعبأ بفضيلة المرأة ولا برذيلتها، فزياد بن أبيه والي العراق في زمن معاوية، يفخر بأبيه أبي سفيان ثم لا يخجل من أمه وقد ولدته على فراش السفاح بالطائف.
ولقد جاء الإسلام فغير الأوضاع لم النفسية البدائية هذه.
ونحن نلمس هذا التغيير، في حوار يدور حول ذلك المنعطف المؤسف للتاريخ الإسلامي في السنوات الأخيرة من خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه.
لم يكن لهذا الخليفة- كما نعلم- شكيمة عمر ولا حكمة أبي بكر، رضي الله عنهما، فكان لذلك يتأثر برأي أهله كمروان بن الحكم، الذي كان مستشاره الأول، وقد ورط سياسته في الأثرة والمحسوبية، ولم يجد بعض الصحابة الأجلاء بدا من انتقاد هذه السياسة.
وهكذا أصبح عثمان- ذلك الوجه الكريم من وجوه صدر الإسلام- يواجه موجة الانتقادات هذه وقد بلغت أوجها على لسان أبي ذر الغفاري.
وهذا حوار آخر نشير إليه ولم يكن غريبا في تلك الظروف، كان يدور بين الخليفة عثمان رضي الله تعالى عنه وبين عمار بن ياسر الذي أصبح يوجه أيضا نقدا حارا لسياسة الخليفة، واحتدم النقاش بينهما احتداما جعل الخليفة يرمي عمارا بقوله:
يابن سمية! ...
هذه الكلمة كانت في الجاهلية كفيلة بأن يَسلّ من رُمي بها سيفَه ليقتل أو ليموت اقتصاصا لشرفه، لكن عمار بن ياسر على العكس من ذلك قد رد بكل هدوء:
- أجل يا أمير المؤمنين! إنني ابن سمية!.
لم تكن الكلمة لتعبر عن التغيير العميق في النفس الجاهلية فحسب، فلقد كان لعمار بن ياسر الحق بأن يفخر بأمه سمية رضوان الله تعالى عليها.
فمن هذه المرأة؟
لنترك للسيرة النبوية الجواب على هذا السؤال:
كانت الدعوة في بدايتها تدوي في أرجاء مكة، فتذود قريش عن أصنامها ومصالحها الدنيوية، وأضحى الذي يعتنق الإسلام يذوق من قريش أنواع الأذى وأصناف التعذيب.
ودقت ساعة الشهداء حينئذٍ كما دقت من بعد الهجرة ساعة الأبطال.
كانت بمكة ساحة المعذبين والشهداء، وهي تشبه ساحة (دو جريف Degréve) بباريس أثناء الثورة الفرنسية، مع فارق هام هو أن الوضع معكوس هنا.
ففي ساحة مكة كان الجلادون ضد الثورة، والمعذبون كانوا شهداء الثورة التي سميت الإسلام.
وفي يوم حين كانت شمس الضحى ترسل على الأرض أشعة ملتهبة تجعل الرمل كرماد الفرن، وكل حصاة في الأرض كحجرة متقدة، ها هو ذا النبي صلوات الله عليه وأزكى التسليم، يمر بساحة التعذيب فيرى ما يستوقفه: لقد كانوا يعذبون آل ياسر.
إن ياسرا لم يكن من بطن من بطون مكة، ولكنه أتى إليها مع أخوين له، يبحثون عن أخ لهم رابع لم يجدوه، فقرر الإخوة الرجوع.
إلا أن ياسرا آثر البقاء بالمدينة القرشية، وكما جرت عادة القوم فقد والى أحد بطونها من بني مخزوم فزوجوه من أمة لهم إسمها (سمية).
كان عمار أول من أنجبته سمية لياسر، وأصبح، وهو شاب اخضر شاربه،
من المسلمين الأوائل، ثم جعله الله سببا لهداية والديه للإسلام، فاهتدت سمية واهتدى ياسر.
لكن الإبتلاء الذي كتبه الله على أولئك المسلمين الأوائل كان قد ابتدأ، وهكذا سيق ذات يوم ياسر وآله إلى ساحة التعذيب.
واتفق للنبي، - صلى الله عليه وسلم -، أن يمر بالساحة فاستوقفه المنظر المؤلم، وهو يرى ما انصب من عذاب على أصحابه فقال صلوات الله عليه:
- طوبى لكم آل ياسر، إن موعدكم الجنة!
وسكت لحظة .. كأنما عليه الصلاة والسلام يتحسس ثقل الرسالة التي شرفه الله بها، ويستشف معناها الحضاري. ثم قال:
((والله ليتمن هذا الأمر حتى تسير الظعينة من مكة إلى صنعاء، وعلى رأسها طبق من ذهب لا تخشى إلا غائلة الذئاب)).
وزهقت أرواح سمية وياسر، الطاهرة ذلك اليوم، ورحلت من الدنيا لتلتقي في الجنة، كما وعدهم الرسول الكريم.
فسمية هي هذه المرأة!.
من هنا ندرك كم كان ابنها عمار فخورا يوم نودي باسمها فقال للخليفة:
- أجل أنا ابن سمية، يا أمير المؤمنين.
إن كل قضية جليلة تضع بصماتها في مصير الإنسانية وتترك صداها في التاريخ، ترسم على مركب الزمن وجوها كريمة تمثلها.
ووجه المرأة ليس أقلها بروزا ووضوحا، بل قد تجد في أنوثته الخاصة لونا مثيرا ومؤثرا لا تجده في غيره.
وليس من العبث أن الشعوب تحفظ بحنو، ذكرى امرأة تقمصت في لحظة ما، قضية وطنية مثل (جان دارك)، أو خلصتهم من طاغية مستبد مثل (شرلوت كورديه).
ولربما عفّى الزمن على بعض الوجوه، حين يطوي التاريخ أحد صفحاته ويبدأ في كتابة أخرى. فنحن لا نعرف الكثير عن تلك الفارسة، الكاهنة بطلة مرتفعات الجزائر، قبل الإسلام، التي قامت فيما يبدو بدور مزدوج: فقد كانت البطلة التي قادت حركة المقاومة في وجه عقبة بن نافع، وكانت من ناحية أخرى الأم التي فتحت ضمير أولادها للإسلام.
والأمر المؤكد أن اسمها لم يمح من ذاكرة الناس، وعلى الرغم من تآكل الحجر في دائرة البئر من فرط ما جرت الحبال عليه تسحب الماء للأجيال الغابرة، فما
زال الجيل الحاضر، الذي يرد ماء البئر ويورده قطعان الغنم، يسميه (بئر الكاهنة) على بعد 80 كيلومتر جنوب مدينة تبسة.
وبعد جيل الكاهنة بكثير ها هي ذي امرأة جزائرية أخرى، (لاله فاطمة تسومر) (1)، تنزل من جبال الجرجرة على رأس كتيبة من المجاهدين لقبوا (المسبلين) لأنهم باعوا أرواحهم في سبيل الله تقف في وجه الإستعمار أيام الإحتلال.
إنها وجه آخر كريم نقش على لوحة تاريخ الجزائر، وكم يكون مجديا أن نعرف أكثر من هذا الموجز عن حياة البطلة الكبيرة.
ولعله ينهض من المثقفين الجزائريين من يعيد هذه الصورة إلينا حتى لا يطمسها الدهر. ولعل عملا كهذا سيجد أمامه مادة غزيرة، لا سيما أن الثورة نقشت على لوحة التاريخ وجوه نساء كثيرات من اللائي عشن ومتن في سبيل الواجب والشرف، كـ (فضيلة سعدان) التي حصدتها، ذات يوم، في أحد شوارع قسنطينة رشاشة، ولكن بعد أن أذاقت قوم الجنرال (ماسو) الخزي والمرارة فترة طويلة من الثورة.
هكذا نجد الثورة قد دفعت الحركة النسائية إلى الأمام، لكنها ما تزال حركة فتية، لها من الشباب حيويته وإقدامه، لكن شبابها قد يعوقها إذا أهملنا شأنها ولم نراقب نباتها كما ينبغي.
لابد إذن أن نطرح منذ الآن مشكلة (إنباتها) حتى لا نغرس جذورها أينما كان وكيفما كان.
فهناك أسمدة تعين على إنبات النبات الطيب. وهناك مزابل لا ينبت فيها إلا النبات العفن.
__________
(1) (لاله) كلمة تستعمل في المغرب الغربي لقب تعظيم للمرأة ذات الشأن.
وإني أتذكر هنا وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - للشاب الأنصاري الذي كان يريد الزواج فأوصاه صلوات الله وسلامه عليه بحسن الاختيار ثم قال له: ((إياك وخضراء الدمن)).
على حركتنا النسائية أن تختار إذن لغرس جذورها، تلك التربة النقية الطاهرة التي أنبتت (سمية ولاله فاطمة تسومر وفضيلة سعدان).
وعندما أقول هذا، لا أرى في اختياري قضية ذوق وإنما ضرورة إجماعية ملحة. لأن الخطأ يتسرب غالبا إلى الحركات النسائية حينها تُنَشَّأ كيفما كان منشؤها على أنها حركات مطالبة، أو بالأحرى مرافعة ضد المجتمع ثم يأتي من يأتي ليؤيدها في ذلك.
وكثيرا ما يكون التأييد مغرضا، كما يبدو في جناح الصحافة الفرنسية الذي أصبح مروجا، عندنا لنظرية (حركة نسائية) أطلق عليها صديق يعرف المزح والتهكم لقب (نظرية الفضيلو مرابطسم) (1).
ينبغي أن تطبع حركتنا النسائية بطابعنا لا بطابع ما يصنع في الخارج؛ وعلى أية حال فالمرأة ليست كائنا يعيش وحده ويطرح مشكلاته على هامش المجتمع، إنها أحد قطبيه وقطبه الآخر الرجل.
ولا ينبغي لنا أن نتصور قطبا ينفصل عن الآخر، ولو حدث هذا، بفرض لا يتصوره العقل، فالمجتمع نفسه يتبخر.
...
__________
(1) كتب أخي الدكتور خالدي رحمه الله أكثر من مرة بطريقته الساخرة ردا على ما كتبته فضيلة مرابط في الموضوع وعلى تأييد بعض الصحافة الفرنسية لها.
وزن الوقت
عن (الثورة الإفريقية) عدد 248 شهر تشرين الثاني (نوفبر) 1967.
شاهدنا على شاشة التلفزيون مقطعين من شريط عن الإتحاد السوفيتي:
كان المقطع الأول يعرض الصعوبات التي واجهها لينين والثورة تدور رحاها، فتضطره للخضوع إلى الشروط المخجلة التي فرضتها هدنة (بريست ليتوفسك) (1) عليه، فقد قبل هذه الشروط، على الرغم من رياح المعارضة في صفوفه وعواصفها، إذ كان يمنح الأولوية لتنظيم وإنقاذ ثورة لم ترس بعد جذورها في أرض روسيا وفي روح الفترة تلك.
أما المقطع الثاني فكان في غزو الفضاء والمكاسب الأخيرة التي حققها الرواد السوفييت.
وفيما نحن نتابع بعض ما تضمنه هذا المقطع من طفرة عجيبة حققها مجتمع انتقل من عهد (الموجيك)، إلى عهد الإنسان الذي يغزو الفضاء بنجاح، إذا بصرخة تطلقها طالبة طب من أهلي كانت بجنبي:
- مع أن خمسين عاما من الزمن شيء قليل!
هكذا قالت طالبة الطب.
وتذكرت حينئذ مقطعا من كتابي (شروط النهضة) أكتبه كما أذكره:
__________
(1) هي الهدنة التي أوقفت حالة الحرب بين روسيا وألمانيا سنة 1917.
((إن الزمن نهر قديم يعبر العالم، ويروي في أربع وعشرين ساعة الرقعة التي يعيش فيها كل شعب، والحقل الذي يعمل به، ولكن هذه الساعات التي تصبح تاريخا هنا وهناك، قد تصير عدما إذا مرت فوق رؤوس لا تسمع خريرها)).
إننا إذا قسنا الزمن بمقياس الساعات التائهة، فالقرن لا يساوي شيئا، بل حتى ألف السنة لا تساوي شيئا.
ولعل الطالبة التي صرخت بجنبي تشعر بذلك ولو شعورا غامضا.
أما إذا قدرنا الزمن بمقياس (تايلور) فإن كل دقيقة لها وزنها، الذي يكون معه للسنوات الخمسين التي مرت على الثورة السوفييتية ثقل هذه الدقائق المنتجة، والتي أتاحت لمجتمع معاصر لنا أن ينتقل من عهد (الموجيك) إلى عهد (رواد الفضاء) في برهة من الزمن جد قصيرة.
وحين ترى الشعوب النامية، بصورة من الصور، تجربة تيلورية حية فسوف تدرك أن حتمية التاريخ لا وجود لها، وبعبارة أدق فإن حتمية التاريخ تصبح في قيد الإنسان وتحت رقابته.
فالتاريخ ليس ما تصنعه الصدف ولا مكائد الإستعمار، ولكن ما تصنعه الشعوب ذاتها في أوطانها.
كنت في مقال سابق قد ذكرت حديثا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحذر المسلم فيه من كل استسلام للأمر الواقع، وأنا أكرره هنا دفعا للشك والريبة اللذين ربما ساورا ضمير المسلم.
يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما هي أعمالكم ترد إليكم، كما تكونوا يولّ عليكم» فإذا أصبح ابن (الموجيك) عالم فيزياء يكشف عن آخر أسرار الذرة، أو رائد
فضاء يغزو مجاهله، فإنما هو العمل الدائب لمجتمع جند طاقاته كلها طيلة خمسين عاما.
وإذا كان للشعوب النامية درس يستفاد منه في العيد الخمسين الذي أقيم هذا الشهر في موسكو، فإنما دلالته في الكشف عن قيمة الوقت بصفته عامل نهوض وتقدم.
ولو سمح لي أن ألخص وجهة نظر عبرت عنها منذ ربع قرن لقلت: إنه ليس من الضروري ولا من الممكن، أن يكون لمجتمع فقير، المليارات من الذهب كي ينهض، وإنما ينهض بالرصيد الذي لا يستطيع الدهر أن ينقص من قيمته شيئا، الرصيد الذي وضعته العناية الإلهية بين يديه: الإنسان، والتراب، والوقت.
***
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
الفصل الثالث في السياسة
الفصل الثالث في السياسة
. السياسة والأخلاق
. السياسة والأيديولوجية
. السياسة والثقافة
. السياسة وحكمة الجماهير
. السياسة والبلوتيك
السياسة والأخلاق
عن (الثورة الإفريقية) عدد 137 أيلول (سبتمبر) 1965.
((والعلم بغير ضمير ليس إلا خراب الروح)).
هكذا كان (رابليز) يقول في غرة القرن السادس عشر ولم يكن يدري - وهو يدلي بهذه الكلمات إلى ثقافة الإنسانيات، وهي حينذاك في المهد- أي تقلبات ستتعرض لها هذه الحكمة وتلك الثقافة.
لكنه منذ تفجر الفكر (الكرتزائي) في القرن الذي بعده، أصبح من اليسير التكهن بالاضطرابات الداخلية، التي ستعترض ثقافة حولت عن مجراها وفصلت عن أصولها، وأصبحت تسيل في المجرى العلماني الذي سيقودها إلى موضوعية (أوغست كونت)، وبالتالي إلى المادية الجدلية التي تمخض عنها (ماركس).
ويبلغ الانفصال غايته في نهاية القرن الماضي، عندما زعم العلم بعد اكتشافاته المبهرة في ميدان البخار ثم في ميدان الكهرباء، أنه يستطيع وحده الاضطلاع بسائر المسؤوليات في العالم، وعندما اعتقدت، بكل بساطة، البلاد المتحضرة بأنها تستطيع أن تؤمنه على مصيرها، فورطت، بفضل تفوقها الفكري، الإنسانية كلها في هذا الاعتقاد الساذج.
منذ تلك اللحظة أصبح العلم يسير على طريق، والأخلاق على طريق آخر. فالأول: زادت كل خطوة في كبريائه وشموخه، والثاني: زادت كل
خطوة من انحناء رأسه، وأحيانا بفعل الكلمة الجارحة التي يطلقها الطرف الأول. فعندما يكتب (برودون) كتابه (فلسفة الفقر) ليبين فيه مأساة الإنسانية الجائعة، يقذفه ماركس بكتابه (فقر الفلسفة) ليرد المأساة إلى بعد واحد يدمج فيه الاقتصاد والعلم.
لقد كانت هذه (القذيفة) علاقة الزمن، علاقة تشير إلى الزمن الذي نعيشه الآن، حتى إن أحد معاصرينا من العالم الثالث، ولعله كان يخشى ألا يظهر بالمظهر العلماني البعيد عن الأخلاق، يكتب في الموضوع هذه الكلمات: ((فعندما نشيد بالأخلاق فكأنما نشيد بالأخلاقية وبالفقرانية))!! فصياغة هذه الكلمات نفسها، تدل على أن الانفصال أو الطلاق بين العلم والمضير قد أصبح شائعا في المجال الذي تغطيه ثقافة القرن التاسع عشر العلمانية، كما تدل على الاتجاه الذي يتسع فيه هذا الانفصال.
ولو شئنا تلخيصا يوضح الموضوع لقلنا: إن العلم يزعم أنه يستطيع أن يحتل الجامعات، والمختبرات، والمصانع، ويترك للأخلاق مجال الرواسب التي صنعها هو، والتي تكدست حول المدن الصناعية أو في تلك المدن من صفائح القصدير، يسودها الفقر المدقع وهي تحيط بالمدن الكبيرة في العالم الثالث.
ويريد العلم، أن يمثله الرجل الذي يستيقظ في الثامنة صباحا ويذهب إلى عمله في سيارته، وفي يده أو تحت إبطه محفظته الفخمة، ويترك للأخلاق أن يمثلها الرجل الذي يستيقظ في السادسة صباحا ويذهب إلى عمله سيرا على الأقدام أو على دراجة وغذاؤه في كيس من الورق.
ولا مرد لهذا!! .. فكلما تحطمت وحدة الإنسان إلى جزأين: واحد يسمى الكائن المعنوي، والآخر الكائن الموضوعي .. فإن الأمر سيؤول إلى تجزئة الأمة، وبالتالي وبإطراد سريع، إلى تجزئة الإنسانية.
ويتفشى الوضع هذا حتى في العلاقات الإقتصادية بين الدول المصنعة والدول النامية. فالعلم إذا تجرد من الأخلاق فإنه يجر حتما إلى وضع اقتصادي مناقض للأخلاق، سواء كان ذلك في الإطار الوطني أو الإطار الدولي.
ومما تجب ملاحظته هنا، أن الاقتصاد ليس سوى إسقاط البعد السياسي على نشاط إنساني معين.
فبقدر ما تبقى السياسة مرتبطة بمبادئ أخلاقية معينة، يبقى الاقتصاد وفيا للمبادئ ذاتها.
فهذه المشكلات يرتبط بعضها ببعض، وليس من الصدفة أو من مجرد وحي استوحاه من الحياة في أثينة، إذ كتب أرسطو كتابه (في السياسة) من أجل اسكندر الأكبر، وكتابه (في الأخلاق) من أجل (ينكوماك) بل إنه إنقاذ لدافع داخلي وجده في روحه بوصفه إنسانا.
وإذا نحن بعد ألفي عام، نرى ماركس يرد على (برودون) بشيء من التعالي والسخرية. وتلك لحظة من لحظات حياة الفكر الإنساني الكبرى، تعبر عن الانفصال الذي مزق تلك الروح.
أجل إن العلم والمضير تطالقا في عالم تسوده حرب طاحنة بين أخوين: الرأسمالية والماركسية، على الرغم من أنهما من نقطة واحدة. بعد أن كانت تسود هذا العالم منذ بداية تاريخه علاقات يطبعها الإخاء والسخاء حسب كلمة ماركس نفسه.
و (خراب الروح) الذي أشار إليه (رابليز) بدأ يعلن أثره في الحياة الأخلاقية، في الإطار الوطني والدولي على السواء.
ولكن الروح يحتفظ- بفضل ما أودع فيه من نزعة التمسك بجوهره- بوحدته، كما تحتفظ الحياة البيولوجية بكيانها بفضل النزعة إلى البقاء.
وإذا كانت لحظات (إينشتين) الأخيرة- وهو كما يقال عنه قمة الفكر الإنساني في القرن العشرين- إذا كانت تلك اللحظات، قد تركزت في محاولة مستميتة للإلمام بالكون في معادلة واحدة، فإن هذه المحاولة إذا فقدت جدواها في المجال العلمي الصرف، فإنها عبرت عن انطلاقة الروح نحو الوحدانية تشعر بها في وحدتها. وبالتالي، وبنتيجة لعلها غير مقصودة، كانت المحاولة من أجل رتق الخرق الذي أحدثته العلمانية بين العلم والضمير.
على أية حال، فإننا نستطيع بعد تجربة قرن كامل، أن ندرك أن العلم لا يستطيع وحده بوسائله الخاصة إصلاح ما أفسده هو.
ولعلنا نستطيع على الأقل، تقويم هذا الفساد وتقدير ثقله في التاريخ من خلال حربين عالميتين.
فحينما حدث في أوربا مع أفكار ديكارت، التمزق الأول في الثقافة، بدأ الانحراف الأخلاقي يؤدي إلى حتمية الصراع الطبقي، وإذا كان من واجب المرء - خصوصا في بلدان العالم الثالث- أن يكون إلى جانب المستغلين المستضعفين، فإن ذلك لا يمنعه بكل حال أن يرى خطورة المحتوى الأخلاقي لصراع يؤدي إلى انفصام وحدة الأمة والمجتمع، وفقا لما تمليه مصلحة المتنعم (البرجوازي) من ناحية، ومن ناحية أخرى مصلحة المحروم (البروليتاري).
فهذا الصراع لم يوقظ، في نهاية الحساب، الضمير عند الفريقين أو عند أحدهما. وإنما أيقظ فيهما كليهما (الضمير الطبقي) وهو يضفي على صراعهما طابع فقدان الأخلاق أو مناقضة الأخلاق، فالأول يريد مزيدا من الذهب في خزينته، والثاني يريد مزيدا من اللحم في بطنه. وكلاهما بمقتضى تعاليم ايديولوجيته يتطلع إلى الاستيلاء على السلطة.
ففي صراع بين مصالح مادية صرفة، (والصراع الطبقي ليس سوى ذلك)
لا يبدو المستضغف نفسه إلا في مظهر الحاقد الضعيف، ينتظر دوره لينتقم من خصمه بمثل ما انتقم منه.
هذا في نطاق الأمة.
أما إذا نظرنا إلى نتيجة الانحراف الأخلاقي في أقصى مداه، فسوف نجد البرجوازي والبروليتاري الأوربي، حليفين تجاه الإنسان المستعمر، وهكذا تتمزق وحدة الإنسانية.
لكن خمائر التجزئة والتفرقة لا تؤدي مفعولها على الصعيد الاجتماعي والمعنوي فحسب، بل إن الطلاق بين العلم والضمير يؤدي إلى نتائج أخرى على الصعيد الفكري بالنسبة للفرد الواحد.
وإذا كان من نتائج هذا الطلاق الفلسفي، ظهور موضوعية (أوغست كونت) ومادية (ماركس)، فإن رمزه الحي، ذلك المثقف الذي يلقب نفسه أو يلقب بـ (الفكر الموضوعي).
ومن أغرب الموافقات أن سائر المظاهرات المطالبة بالحقوق في العالم ذات وجه واحد ولغة واحدة.
خطبهما متشابهة، تتناول دائما موضوع (الشروط الموضوعية)، وبهذه العبارة بالضبط يعرف (الفكر الموضوعي) كأنما لغته في أي وطن مصدرها واحد، إنها اللغة التي تسم القرن العشرين، بصفتها مقياسا يصلح في كل مكان، وإذا لم تستعمل هذه اللغة فيما تقول أو تكتب، فأنت غير (تقدمي)، بل أنت (رجعي) طبقا لمقاييس هذه اللغة. حتى إنك ستضطر لترد التهمة إلى طرح السؤال ما هو محتوى (فكر موضوعي)؟.
لنقل أولا في أي صورة تراه عينانا: إن لنا في الجزائر عينات تمثل هذا الصنف، نراها في ركن من ذاكرتنا أو شاخصة أمام أعيننا بلحمها ودمها.
لا نستطيع بالطبع ذكر الأسماء، فلنقتنع إذن بذكر النوع الذي نسميه (الفكر الموضوعي).
فقد يكون شابا أو مسنا. وقد يكون (طالبا) لا يطلب علما أو (عاملا) لا يقوم بعمل، فهذا غير مهم.
ففي أي صورة تصورناه، فهو قناع لا نشعر وراءه بشيء يتحرك، يفرح أو يتألم، تحركا نستطيع معه تعريف (الفكر الموضوعي) بأنه شبح له ظاهر إنما ليس له باطن.
وإني أتذكر منذ ثلاثين عاما إذ كنت ذات يوم بالحي اللاتيني بباريس، أتحدث على سطح مقهى مع طالب جزائري، وكان يقول: إنني سأومن بوجود الله عندها أراه.
هذه العبارة تعرفنا بـ (الفكر الموضوعي) من الناحية الفكرية، وهو مازال فجا، لأن الصنف هذا (تقدم)، فلو تكلم أخوه الصغير اليوم لقال: حتى لو رأيت الله فلن أومن به.
إذن (الفكر الموضوعي) تقدم خلال الثلاثين سنة الأخيرة في الجزائر، وبطبيعة الحال فالأمور تجري وفقا لمقدماتها.
فعلى الصعيد السياسي، على سبيل المثال، سيكون (الفكر الموضوعي) محافظا بالمعنى الفزيولوجي والإجتماعي: إنه سيئ فظ على حياته وعلى مصالحه بكل (موضوعية)، لقد حافظ على حياته أثناء الثورة، فبقي بعد الذين خاضوها بوازع ديني صرف.
لقد فضل أن يحتفظ بدمه لاوقات سانحة، ليتحدث فيها عن (الشروط الموضوعية) في الوطن حتى يزج به بعد الثورة في (التقدمية).
والجنائريون الذين عاشوا السنوات الثلاث الأخيرة، وشاهدوا بأعينهم مظاهراتنا، وتذوقوا ذلك الشر الذي كان يرد- من مسارب لا تراها العين لأنها تحت الأرض- إلى قاعات تحرير صحافتنا، وإلى بعض منظمات (التوجيه) هؤلاء الجزائريون يعرفون معنى هذا.
إن ميزانية السنوات الثلاث تحت أعيننا.
ففي المجال الإقتصادي أولا كما بين ذلك الرئيس بومدين في خطابه الأخير في المعرض السنوي بالجزائر.
وفي المناخ الإيديولوجي الذي سجل هبوطا في الحرارة يصعب تداركه.
وفي مجالنا الأخلاقي وقد جعل الآباء يطلقون الزفرات تحسرا على أولادهم وخشية. بكلمة واحدة: إن ميزانية (الفكر الموضوعي) في حياتنا الوطنية، منذ ثلاثة سنوات ذات ثقل لا يحتمل.
فهل هذا يكفي لتقويم محتواه؟ كلا فالعدم لايقوم. ولكنا نستطيع تصوير (الفكر الموضوعي) بمثل نقتبسه من التاريخ الإسلامي.
إننا نقتبسه من تلك الأيام الحالكة حين قام النزاع بين علي كرم الله وجهه ومعاوية رضي الله عنه.
فمعاوية قد شعر بأن السيف لا يحقق نصره، فلجأ إلى الحيلة، إذ أمر قومه بأن يحملوا المصاحف على رؤوس رماحهم وينادوا: هذا حكم بيننا.
ومن المؤسف أن (الفكر الموضوعي) كان منبثا في الفريقين ليخدع في صف معاوية ولينخدع في صف علي حيث يقول: أجل إن الكتاب حكم بيننا.
لقد كان هذا الصف موضوعيا (بطريقته) لأن القران يمثل فعلا في نظر المسلم، المرجع الذي يرجع إليه في كل نزاع، خصوصا في نزاع سياسي.
لكنهم نسوا الأمر الرئيسي في الموضوع. وهو أن السياسة حين تكون مناقضة في جوهرها للمبدأ الأخلاقي، فإنها لا تطرح قضية تحل بالقضاء ولكن بالسيف ..
ولم يكن علي رضي الله عنه (الفكر الموضوعي) الذي يخدع أو الذي ينخدع فقال كلمته المتواترة: إنها كلمة حق يراد بها باطل.
وبعبارة أخرى، فإذا أردنا استعمال مصطلح آخر نقول إنه في مثل هذه القضايا يجب تحكيم منطق (بسكال) لا منطق (ديكارت).
وبأقصى التلخيص نقول إذا كان ((العلم دون ضمير ما هو إلا خراب الروح))، فالسياسة من دون أخلاق ما هي إلا خراب الأمة.
***
. السياسة والأخلاق
. السياسة والأيديولوجية
. السياسة والثقافة
. السياسة وحكمة الجماهير
. السياسة والبلوتيك
السياسة والأخلاق
عن (الثورة الإفريقية) عدد 137 أيلول (سبتمبر) 1965.
((والعلم بغير ضمير ليس إلا خراب الروح)).
هكذا كان (رابليز) يقول في غرة القرن السادس عشر ولم يكن يدري - وهو يدلي بهذه الكلمات إلى ثقافة الإنسانيات، وهي حينذاك في المهد- أي تقلبات ستتعرض لها هذه الحكمة وتلك الثقافة.
لكنه منذ تفجر الفكر (الكرتزائي) في القرن الذي بعده، أصبح من اليسير التكهن بالاضطرابات الداخلية، التي ستعترض ثقافة حولت عن مجراها وفصلت عن أصولها، وأصبحت تسيل في المجرى العلماني الذي سيقودها إلى موضوعية (أوغست كونت)، وبالتالي إلى المادية الجدلية التي تمخض عنها (ماركس).
ويبلغ الانفصال غايته في نهاية القرن الماضي، عندما زعم العلم بعد اكتشافاته المبهرة في ميدان البخار ثم في ميدان الكهرباء، أنه يستطيع وحده الاضطلاع بسائر المسؤوليات في العالم، وعندما اعتقدت، بكل بساطة، البلاد المتحضرة بأنها تستطيع أن تؤمنه على مصيرها، فورطت، بفضل تفوقها الفكري، الإنسانية كلها في هذا الاعتقاد الساذج.
منذ تلك اللحظة أصبح العلم يسير على طريق، والأخلاق على طريق آخر. فالأول: زادت كل خطوة في كبريائه وشموخه، والثاني: زادت كل
خطوة من انحناء رأسه، وأحيانا بفعل الكلمة الجارحة التي يطلقها الطرف الأول. فعندما يكتب (برودون) كتابه (فلسفة الفقر) ليبين فيه مأساة الإنسانية الجائعة، يقذفه ماركس بكتابه (فقر الفلسفة) ليرد المأساة إلى بعد واحد يدمج فيه الاقتصاد والعلم.
لقد كانت هذه (القذيفة) علاقة الزمن، علاقة تشير إلى الزمن الذي نعيشه الآن، حتى إن أحد معاصرينا من العالم الثالث، ولعله كان يخشى ألا يظهر بالمظهر العلماني البعيد عن الأخلاق، يكتب في الموضوع هذه الكلمات: ((فعندما نشيد بالأخلاق فكأنما نشيد بالأخلاقية وبالفقرانية))!! فصياغة هذه الكلمات نفسها، تدل على أن الانفصال أو الطلاق بين العلم والمضير قد أصبح شائعا في المجال الذي تغطيه ثقافة القرن التاسع عشر العلمانية، كما تدل على الاتجاه الذي يتسع فيه هذا الانفصال.
ولو شئنا تلخيصا يوضح الموضوع لقلنا: إن العلم يزعم أنه يستطيع أن يحتل الجامعات، والمختبرات، والمصانع، ويترك للأخلاق مجال الرواسب التي صنعها هو، والتي تكدست حول المدن الصناعية أو في تلك المدن من صفائح القصدير، يسودها الفقر المدقع وهي تحيط بالمدن الكبيرة في العالم الثالث.
ويريد العلم، أن يمثله الرجل الذي يستيقظ في الثامنة صباحا ويذهب إلى عمله في سيارته، وفي يده أو تحت إبطه محفظته الفخمة، ويترك للأخلاق أن يمثلها الرجل الذي يستيقظ في السادسة صباحا ويذهب إلى عمله سيرا على الأقدام أو على دراجة وغذاؤه في كيس من الورق.
ولا مرد لهذا!! .. فكلما تحطمت وحدة الإنسان إلى جزأين: واحد يسمى الكائن المعنوي، والآخر الكائن الموضوعي .. فإن الأمر سيؤول إلى تجزئة الأمة، وبالتالي وبإطراد سريع، إلى تجزئة الإنسانية.
ويتفشى الوضع هذا حتى في العلاقات الإقتصادية بين الدول المصنعة والدول النامية. فالعلم إذا تجرد من الأخلاق فإنه يجر حتما إلى وضع اقتصادي مناقض للأخلاق، سواء كان ذلك في الإطار الوطني أو الإطار الدولي.
ومما تجب ملاحظته هنا، أن الاقتصاد ليس سوى إسقاط البعد السياسي على نشاط إنساني معين.
فبقدر ما تبقى السياسة مرتبطة بمبادئ أخلاقية معينة، يبقى الاقتصاد وفيا للمبادئ ذاتها.
فهذه المشكلات يرتبط بعضها ببعض، وليس من الصدفة أو من مجرد وحي استوحاه من الحياة في أثينة، إذ كتب أرسطو كتابه (في السياسة) من أجل اسكندر الأكبر، وكتابه (في الأخلاق) من أجل (ينكوماك) بل إنه إنقاذ لدافع داخلي وجده في روحه بوصفه إنسانا.
وإذا نحن بعد ألفي عام، نرى ماركس يرد على (برودون) بشيء من التعالي والسخرية. وتلك لحظة من لحظات حياة الفكر الإنساني الكبرى، تعبر عن الانفصال الذي مزق تلك الروح.
أجل إن العلم والمضير تطالقا في عالم تسوده حرب طاحنة بين أخوين: الرأسمالية والماركسية، على الرغم من أنهما من نقطة واحدة. بعد أن كانت تسود هذا العالم منذ بداية تاريخه علاقات يطبعها الإخاء والسخاء حسب كلمة ماركس نفسه.
و (خراب الروح) الذي أشار إليه (رابليز) بدأ يعلن أثره في الحياة الأخلاقية، في الإطار الوطني والدولي على السواء.
ولكن الروح يحتفظ- بفضل ما أودع فيه من نزعة التمسك بجوهره- بوحدته، كما تحتفظ الحياة البيولوجية بكيانها بفضل النزعة إلى البقاء.
وإذا كانت لحظات (إينشتين) الأخيرة- وهو كما يقال عنه قمة الفكر الإنساني في القرن العشرين- إذا كانت تلك اللحظات، قد تركزت في محاولة مستميتة للإلمام بالكون في معادلة واحدة، فإن هذه المحاولة إذا فقدت جدواها في المجال العلمي الصرف، فإنها عبرت عن انطلاقة الروح نحو الوحدانية تشعر بها في وحدتها. وبالتالي، وبنتيجة لعلها غير مقصودة، كانت المحاولة من أجل رتق الخرق الذي أحدثته العلمانية بين العلم والضمير.
على أية حال، فإننا نستطيع بعد تجربة قرن كامل، أن ندرك أن العلم لا يستطيع وحده بوسائله الخاصة إصلاح ما أفسده هو.
ولعلنا نستطيع على الأقل، تقويم هذا الفساد وتقدير ثقله في التاريخ من خلال حربين عالميتين.
فحينما حدث في أوربا مع أفكار ديكارت، التمزق الأول في الثقافة، بدأ الانحراف الأخلاقي يؤدي إلى حتمية الصراع الطبقي، وإذا كان من واجب المرء - خصوصا في بلدان العالم الثالث- أن يكون إلى جانب المستغلين المستضعفين، فإن ذلك لا يمنعه بكل حال أن يرى خطورة المحتوى الأخلاقي لصراع يؤدي إلى انفصام وحدة الأمة والمجتمع، وفقا لما تمليه مصلحة المتنعم (البرجوازي) من ناحية، ومن ناحية أخرى مصلحة المحروم (البروليتاري).
فهذا الصراع لم يوقظ، في نهاية الحساب، الضمير عند الفريقين أو عند أحدهما. وإنما أيقظ فيهما كليهما (الضمير الطبقي) وهو يضفي على صراعهما طابع فقدان الأخلاق أو مناقضة الأخلاق، فالأول يريد مزيدا من الذهب في خزينته، والثاني يريد مزيدا من اللحم في بطنه. وكلاهما بمقتضى تعاليم ايديولوجيته يتطلع إلى الاستيلاء على السلطة.
ففي صراع بين مصالح مادية صرفة، (والصراع الطبقي ليس سوى ذلك)
لا يبدو المستضغف نفسه إلا في مظهر الحاقد الضعيف، ينتظر دوره لينتقم من خصمه بمثل ما انتقم منه.
هذا في نطاق الأمة.
أما إذا نظرنا إلى نتيجة الانحراف الأخلاقي في أقصى مداه، فسوف نجد البرجوازي والبروليتاري الأوربي، حليفين تجاه الإنسان المستعمر، وهكذا تتمزق وحدة الإنسانية.
لكن خمائر التجزئة والتفرقة لا تؤدي مفعولها على الصعيد الاجتماعي والمعنوي فحسب، بل إن الطلاق بين العلم والضمير يؤدي إلى نتائج أخرى على الصعيد الفكري بالنسبة للفرد الواحد.
وإذا كان من نتائج هذا الطلاق الفلسفي، ظهور موضوعية (أوغست كونت) ومادية (ماركس)، فإن رمزه الحي، ذلك المثقف الذي يلقب نفسه أو يلقب بـ (الفكر الموضوعي).
ومن أغرب الموافقات أن سائر المظاهرات المطالبة بالحقوق في العالم ذات وجه واحد ولغة واحدة.
خطبهما متشابهة، تتناول دائما موضوع (الشروط الموضوعية)، وبهذه العبارة بالضبط يعرف (الفكر الموضوعي) كأنما لغته في أي وطن مصدرها واحد، إنها اللغة التي تسم القرن العشرين، بصفتها مقياسا يصلح في كل مكان، وإذا لم تستعمل هذه اللغة فيما تقول أو تكتب، فأنت غير (تقدمي)، بل أنت (رجعي) طبقا لمقاييس هذه اللغة. حتى إنك ستضطر لترد التهمة إلى طرح السؤال ما هو محتوى (فكر موضوعي)؟.
لنقل أولا في أي صورة تراه عينانا: إن لنا في الجزائر عينات تمثل هذا الصنف، نراها في ركن من ذاكرتنا أو شاخصة أمام أعيننا بلحمها ودمها.
لا نستطيع بالطبع ذكر الأسماء، فلنقتنع إذن بذكر النوع الذي نسميه (الفكر الموضوعي).
فقد يكون شابا أو مسنا. وقد يكون (طالبا) لا يطلب علما أو (عاملا) لا يقوم بعمل، فهذا غير مهم.
ففي أي صورة تصورناه، فهو قناع لا نشعر وراءه بشيء يتحرك، يفرح أو يتألم، تحركا نستطيع معه تعريف (الفكر الموضوعي) بأنه شبح له ظاهر إنما ليس له باطن.
وإني أتذكر منذ ثلاثين عاما إذ كنت ذات يوم بالحي اللاتيني بباريس، أتحدث على سطح مقهى مع طالب جزائري، وكان يقول: إنني سأومن بوجود الله عندها أراه.
هذه العبارة تعرفنا بـ (الفكر الموضوعي) من الناحية الفكرية، وهو مازال فجا، لأن الصنف هذا (تقدم)، فلو تكلم أخوه الصغير اليوم لقال: حتى لو رأيت الله فلن أومن به.
إذن (الفكر الموضوعي) تقدم خلال الثلاثين سنة الأخيرة في الجزائر، وبطبيعة الحال فالأمور تجري وفقا لمقدماتها.
فعلى الصعيد السياسي، على سبيل المثال، سيكون (الفكر الموضوعي) محافظا بالمعنى الفزيولوجي والإجتماعي: إنه سيئ فظ على حياته وعلى مصالحه بكل (موضوعية)، لقد حافظ على حياته أثناء الثورة، فبقي بعد الذين خاضوها بوازع ديني صرف.
لقد فضل أن يحتفظ بدمه لاوقات سانحة، ليتحدث فيها عن (الشروط الموضوعية) في الوطن حتى يزج به بعد الثورة في (التقدمية).
والجنائريون الذين عاشوا السنوات الثلاث الأخيرة، وشاهدوا بأعينهم مظاهراتنا، وتذوقوا ذلك الشر الذي كان يرد- من مسارب لا تراها العين لأنها تحت الأرض- إلى قاعات تحرير صحافتنا، وإلى بعض منظمات (التوجيه) هؤلاء الجزائريون يعرفون معنى هذا.
إن ميزانية السنوات الثلاث تحت أعيننا.
ففي المجال الإقتصادي أولا كما بين ذلك الرئيس بومدين في خطابه الأخير في المعرض السنوي بالجزائر.
وفي المناخ الإيديولوجي الذي سجل هبوطا في الحرارة يصعب تداركه.
وفي مجالنا الأخلاقي وقد جعل الآباء يطلقون الزفرات تحسرا على أولادهم وخشية. بكلمة واحدة: إن ميزانية (الفكر الموضوعي) في حياتنا الوطنية، منذ ثلاثة سنوات ذات ثقل لا يحتمل.
فهل هذا يكفي لتقويم محتواه؟ كلا فالعدم لايقوم. ولكنا نستطيع تصوير (الفكر الموضوعي) بمثل نقتبسه من التاريخ الإسلامي.
إننا نقتبسه من تلك الأيام الحالكة حين قام النزاع بين علي كرم الله وجهه ومعاوية رضي الله عنه.
فمعاوية قد شعر بأن السيف لا يحقق نصره، فلجأ إلى الحيلة، إذ أمر قومه بأن يحملوا المصاحف على رؤوس رماحهم وينادوا: هذا حكم بيننا.
ومن المؤسف أن (الفكر الموضوعي) كان منبثا في الفريقين ليخدع في صف معاوية ولينخدع في صف علي حيث يقول: أجل إن الكتاب حكم بيننا.
لقد كان هذا الصف موضوعيا (بطريقته) لأن القران يمثل فعلا في نظر المسلم، المرجع الذي يرجع إليه في كل نزاع، خصوصا في نزاع سياسي.
لكنهم نسوا الأمر الرئيسي في الموضوع. وهو أن السياسة حين تكون مناقضة في جوهرها للمبدأ الأخلاقي، فإنها لا تطرح قضية تحل بالقضاء ولكن بالسيف ..
ولم يكن علي رضي الله عنه (الفكر الموضوعي) الذي يخدع أو الذي ينخدع فقال كلمته المتواترة: إنها كلمة حق يراد بها باطل.
وبعبارة أخرى، فإذا أردنا استعمال مصطلح آخر نقول إنه في مثل هذه القضايا يجب تحكيم منطق (بسكال) لا منطق (ديكارت).
وبأقصى التلخيص نقول إذا كان ((العلم دون ضمير ما هو إلا خراب الروح))، فالسياسة من دون أخلاق ما هي إلا خراب الأمة.
***
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
السياسة والأيديولوجية
السياسة والأيديولوجية
عن (الثورة الإفريقية) عدد 141 تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1965.
في مقال سابق، عرفنا السياسة بشروط ثلاثة هي أدنى ما يحددها من شروط، ولم يكن تعريفنا لها في الحقيقة إلا مقياسا مجردا يميزها عن (سياسة) مزعومة ترتكز على تقديرات سافلة، وتطبيق مشبوه.
هل يكفي هذا التعريف؟
هل يكفي أن تعرف دولة عملها في ميثاق وطني مثلا، ثم تحدد طريقة لوقايته من أعمال التخريب أو ما يسمى في بعض البلاد (الانحراف المذهي)؟.
إنني لا أرى ذلك كافيا.
فالشروط السابقة التي أشرنا إليها ضرورية كلها، غير أنها ليست بكافية، وهذا ما تدل عليه بوضوح تجربة فرنسا، بعد ثورتها، التي تطبق اليوم دستورها السادس بعد إفلاس الخمسة الأولى من دساتيرها بوصفها جمهورية.
ينبغي أن نعود إلى تحديد (السياسة) على أبسط صورة باعتبارها عملا تقوم به الدولة. فمن الواضح أنه بالإضافة إلى الشروط الدستورية التي أشرنا إليها ينبغي على السياسة أن تطابق شرطا آخر، غالبا ما يكون غير منصوص عليه إلا أنه أكثر إلحاحا من سواه. فالسياسة لا تستطيع أن تكون العمل الذي تقوم به الأمة كلها إلا بقدر ما تكون مطبوعة في عمل كل فرد منها. هذا هو الشرط الذي نضيفه هنا.
إن (الإجماع) هو بالتالي القياس الجوهري الذي يميز سياسة ناجعة. ومن هنا تبدأ قضية الايديولوجية تطرح نفسها، لا على أنها مجرد اقتراح يستحسن، كثيرا أو قليلا، في مجال الافكار، بل بوصفها مشروعا حيويا به يكون للسياسة تأثير حقيقي على الواقع المحسوس في الوطن.
فلنتفحص عوامل هذا التأثير على الواقع، الذي لا يتسنى- ونحن نكرر هذا- إلا إذا تجانس عمل الدولة مع عمل الفرد.
ولا يمكن لتجانس كهذا أن يتحقق في غير ضمير الفرد، باعتباره مصالح حيوية مشتركة، ومسلمات متفق عليها بين جمهور من الناس يكون جسم الأمة وإجماعها.
فإذا تضاربت المصالح هذه أو اختلفت هذه المسلمات، فلن تكون السياسة سوى دكتاتورية كما تعرفها بكل أسف كثير من بلدان العالم الثالث، وهي بالتالي لن تستطيع أن تنسجم في الحقيقة مع مصائر الأمة ولا أن تحقق أهدافها.
وهذه الاستحالة تنتج أولا عن رفض الأمة تجاه هذه السياسة، رفضا يفصل الدولة معنويا عن الوطن، وثانيا عن عجز هذه السياسة في التأثير على نشاط كل فرد، وبالتالي عجزها في تحريك الطاقات الاجماعية الموجودة في اتجاه معين، نحو هدف محدد تدركه أغلبية المواطنين.
إن التعاون بين الدولة والفرد، على الصعيد الإجتماعي والإقتصادي والثقافي، هو العامل الرئيسي في تكوين سياسة تؤثر حقيقة في واقع الوطن. وإذا ما تعذر هذا العامل، فإن القطيعة المعنوية سوف تعزل الدولة عن الوطن وتشل الطاقات الإجتماعية، أو (والأمر هنا أدهى وأمر) تشتتها تشتيتا تكون نتائجه: عدم الانسجام وعدم التناغم، ومعارضات طاغية في فوضى شاملة، يسودها شعار (عليك خاصة نفسك)، ذلك الشعار الذي تدين به
فترات الانحطاط والقهقرى، كتلك الفترة التي أطلقنا عليها (عصر ما بعد الموحدين).
ولا يفوتنا أن نضيف هنا، أن التجانس بين عمل الدولة وعمل الفرد، في نطاق التعاون الذي أشرنا إليه، يتحقق في ضمير الفرد، ويجعل هذا الضمير موضوعا من ناحية وحكما من ناحية أخرى.
فالسياسة التي تريد تلقين مسوغاتها وأهدافها لهذا الضمير، عليها أن تجعله حكما، يصدر بكل حرية حكمه في مسوغاتها وأهدافها.
وربما استطاعت السياسة أن تأخذ هذا الحكم على حين غرة، في وقت ما، خصوصا حين ترفع شعارات خلابة وتصرح بوعود مغرية.
ولكن- كما يقول رئيس الولايات المتحدة (إبراهام لنكولن) -: إن التغرير بفرد ممكن دائما، والتغرير بشعب ممكن بضعة أيام، إلا أنه غير ممكن كل يوم.
والشعب الجزائري الذي ألقى في مهملات التاريخ كثيرا من الأساطير التي استولت منذ سنة 1930، على منصة سياسته، يقدم أصدق دليل على صحة رأي رجل الدولة الأمريكي.
يبقى إذن على السياسة- كي تتشكل على صورة الحياة الحقيقية- أن نتصور أولا محتواها من خلال العمل الفردي وفي مستواه.
ولا شك أن هذه الواقعية، هي التي أملت على (لينين)، الشعارات التي اتخذها من أجل تجنيد طاقات الجماهير في خدمة الثورة.
حينئذ بدأ عمل كل فرد روسي- جندي أو فلاح أو عامل- يتجانس مع عمل الدولة السوفيتية على أساس مسوغات فردية، هي على درجة من البساطة
ولكنها منظمة، مرتبة ضمن مسوّغ شامل، ربما لا يكون فهمه متيسرا للجماهير.
فلينين، لم يقدم للجماهير نظرية ماركس؛ كتابه في (رأس المال) على سبيل المثال، ولكن قدم لها فحواه وترجمته على صورة هي في متناول الإدراك الشعبي، وقابلة بسبب ذلك، للتأثير السياسي مباشرة، فأطلق لينين شعاراته المشهورة: ((السلم للجندي، والخبز للعامل، والأرض للفلاح)).
وقد بدأت الجماهير منذ تلك اللحظة تصبح طاقات ثورية واعية وهي لم تكن قبل ذلك داخل النظام.
ولكن، هل كان يكفي لتستمر الهزة الثورية، دفعة من الشعارات التي أطلقت، وحققت انضمام الجماهير إليها آملة احتمال تغيرها في الطريق، كشعار ((الأرض للفلاح)) عندما تدق ساعة الكلخوز؟!.
إن الايديولوجية التي لا تتضمن- بصفتها أفكارا موجهة قوية- إلا مصالح عاجلة، فإنها وإن كانت محترمة) لن تفتح الطريق لغير سياسة قصيرة محدودة المدى على قدر الشعارات التي دفعتها.
وسياسة كهذه لا تستطيع، في المثل اللينيني، الذي ذكرناه للتوضيح، أن تكون في مستوى عهد المشاريع العظيمة والمحن الكبرى، التي تطلبت من الثقة والتضحية ما كان ضروريا للتشييد الاشتراكي ولمواجهة الهجوم الهتلري.
فالايديولوجية تتطلب إذن خمائر أخرى، تضمن الوحدة الضرورية بين عمل الدولة وعمل الفرد لإنجاز مهمات بعيدة ترتكز على الثقة والبطولة.
والخمائر هذه هي التي تعطي، حسب جوهرها، القيمة- الجليلة والحقيرة- للسياسة أمام التاريخ.
وإذا ما تفحصنا هذا الجوهر وجدنا أنه من عنصر أخلاقي وهو متصل بما وراء الطبيعة أي من العنصر النفسي.
فالفكرة الموجهة لسياسة تستطيع مواجهة أهوال التاريخ، لابد لها أن تتكون من هذا الصنف، إذ الجهد المدعوم بمصلحة عاجلة قد يتولى، ليس فحسب حين تحصل في بعض الظروف خيبة أمل تدفع إلى التراجع والقهقرى، بل حتى إذا دخل المجتمع بفضل ما حققه، حالة إشباع يسودها الفتور واللامبالاة.
ففي الحالين كليهما يتعرض المجتمع للانفرادية، أي لأصناف التمزيق. وهكذا لا يستطيع مجابهة أهوال الزمن إلا جهد تدعمه عقيدة لا يعتريها الشك أبدا.
والتاريخ منذ عهد (الفيران) في روما، إلى شهداء بدر، إلى أبطال ستالينجراد، ليس إلا شرحا لهذه الحقيقة.
فالتعاون بين الدولة والفرد، لابد له من جذور في عقيدة تستطيع وحدها أن تجعل ثمن الجهد محتملا مهما كانت قيمته لدى صاحبه، فيضحي هكذا بمصلحته حتى بحياته في سبيل قضية مقدسة في نظره.
إن السلوك الذي سمي (الستخانوفية) لا يفسر بوصفه عامل إنتاج إلا بهذه الطريقة. فهو المظهر الإقتصادي في حياة مجتمع تحركه فكرة توجيه تفوق كثيرا الإمكانيات العادية في ذلك المجتمع.
وإفلاس الإستعمار في المستعمرات كان محتوما، طبقا لقانون التعاون الضروري الذي كان مستحيلا بين الإستعمار والإنسان المستعمر.
ولا يعني هذا أن الإستعمار لم يحاول مواجهة المشكلة هذه، بفصل المسلم عن الإسلام، إلا أنه باء بالفشل، سواء بمحاولاته ذات الطابع اللاديني أو ذات الطابع الديني الهادف إلى (التمسيح).
قد كان الإسلام الحصن الذي فشلت تحت أسواره جميع المحاولات، التي استهدفت سلب الشعب الجزائري شخصيته على مدى قرن من الزمان، كما كان الحافز الأيديولوجي الرئيسي الذي دعم جهده البطولي خلال الثورة.
ولكي نلخص هذه الكلمات لابد لنا أن نقول: إن علينا العودة إلى الأصول والمنابع التي منها نبع تاريخنا.
***
عن (الثورة الإفريقية) عدد 141 تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1965.
في مقال سابق، عرفنا السياسة بشروط ثلاثة هي أدنى ما يحددها من شروط، ولم يكن تعريفنا لها في الحقيقة إلا مقياسا مجردا يميزها عن (سياسة) مزعومة ترتكز على تقديرات سافلة، وتطبيق مشبوه.
هل يكفي هذا التعريف؟
هل يكفي أن تعرف دولة عملها في ميثاق وطني مثلا، ثم تحدد طريقة لوقايته من أعمال التخريب أو ما يسمى في بعض البلاد (الانحراف المذهي)؟.
إنني لا أرى ذلك كافيا.
فالشروط السابقة التي أشرنا إليها ضرورية كلها، غير أنها ليست بكافية، وهذا ما تدل عليه بوضوح تجربة فرنسا، بعد ثورتها، التي تطبق اليوم دستورها السادس بعد إفلاس الخمسة الأولى من دساتيرها بوصفها جمهورية.
ينبغي أن نعود إلى تحديد (السياسة) على أبسط صورة باعتبارها عملا تقوم به الدولة. فمن الواضح أنه بالإضافة إلى الشروط الدستورية التي أشرنا إليها ينبغي على السياسة أن تطابق شرطا آخر، غالبا ما يكون غير منصوص عليه إلا أنه أكثر إلحاحا من سواه. فالسياسة لا تستطيع أن تكون العمل الذي تقوم به الأمة كلها إلا بقدر ما تكون مطبوعة في عمل كل فرد منها. هذا هو الشرط الذي نضيفه هنا.
إن (الإجماع) هو بالتالي القياس الجوهري الذي يميز سياسة ناجعة. ومن هنا تبدأ قضية الايديولوجية تطرح نفسها، لا على أنها مجرد اقتراح يستحسن، كثيرا أو قليلا، في مجال الافكار، بل بوصفها مشروعا حيويا به يكون للسياسة تأثير حقيقي على الواقع المحسوس في الوطن.
فلنتفحص عوامل هذا التأثير على الواقع، الذي لا يتسنى- ونحن نكرر هذا- إلا إذا تجانس عمل الدولة مع عمل الفرد.
ولا يمكن لتجانس كهذا أن يتحقق في غير ضمير الفرد، باعتباره مصالح حيوية مشتركة، ومسلمات متفق عليها بين جمهور من الناس يكون جسم الأمة وإجماعها.
فإذا تضاربت المصالح هذه أو اختلفت هذه المسلمات، فلن تكون السياسة سوى دكتاتورية كما تعرفها بكل أسف كثير من بلدان العالم الثالث، وهي بالتالي لن تستطيع أن تنسجم في الحقيقة مع مصائر الأمة ولا أن تحقق أهدافها.
وهذه الاستحالة تنتج أولا عن رفض الأمة تجاه هذه السياسة، رفضا يفصل الدولة معنويا عن الوطن، وثانيا عن عجز هذه السياسة في التأثير على نشاط كل فرد، وبالتالي عجزها في تحريك الطاقات الاجماعية الموجودة في اتجاه معين، نحو هدف محدد تدركه أغلبية المواطنين.
إن التعاون بين الدولة والفرد، على الصعيد الإجتماعي والإقتصادي والثقافي، هو العامل الرئيسي في تكوين سياسة تؤثر حقيقة في واقع الوطن. وإذا ما تعذر هذا العامل، فإن القطيعة المعنوية سوف تعزل الدولة عن الوطن وتشل الطاقات الإجتماعية، أو (والأمر هنا أدهى وأمر) تشتتها تشتيتا تكون نتائجه: عدم الانسجام وعدم التناغم، ومعارضات طاغية في فوضى شاملة، يسودها شعار (عليك خاصة نفسك)، ذلك الشعار الذي تدين به
فترات الانحطاط والقهقرى، كتلك الفترة التي أطلقنا عليها (عصر ما بعد الموحدين).
ولا يفوتنا أن نضيف هنا، أن التجانس بين عمل الدولة وعمل الفرد، في نطاق التعاون الذي أشرنا إليه، يتحقق في ضمير الفرد، ويجعل هذا الضمير موضوعا من ناحية وحكما من ناحية أخرى.
فالسياسة التي تريد تلقين مسوغاتها وأهدافها لهذا الضمير، عليها أن تجعله حكما، يصدر بكل حرية حكمه في مسوغاتها وأهدافها.
وربما استطاعت السياسة أن تأخذ هذا الحكم على حين غرة، في وقت ما، خصوصا حين ترفع شعارات خلابة وتصرح بوعود مغرية.
ولكن- كما يقول رئيس الولايات المتحدة (إبراهام لنكولن) -: إن التغرير بفرد ممكن دائما، والتغرير بشعب ممكن بضعة أيام، إلا أنه غير ممكن كل يوم.
والشعب الجزائري الذي ألقى في مهملات التاريخ كثيرا من الأساطير التي استولت منذ سنة 1930، على منصة سياسته، يقدم أصدق دليل على صحة رأي رجل الدولة الأمريكي.
يبقى إذن على السياسة- كي تتشكل على صورة الحياة الحقيقية- أن نتصور أولا محتواها من خلال العمل الفردي وفي مستواه.
ولا شك أن هذه الواقعية، هي التي أملت على (لينين)، الشعارات التي اتخذها من أجل تجنيد طاقات الجماهير في خدمة الثورة.
حينئذ بدأ عمل كل فرد روسي- جندي أو فلاح أو عامل- يتجانس مع عمل الدولة السوفيتية على أساس مسوغات فردية، هي على درجة من البساطة
ولكنها منظمة، مرتبة ضمن مسوّغ شامل، ربما لا يكون فهمه متيسرا للجماهير.
فلينين، لم يقدم للجماهير نظرية ماركس؛ كتابه في (رأس المال) على سبيل المثال، ولكن قدم لها فحواه وترجمته على صورة هي في متناول الإدراك الشعبي، وقابلة بسبب ذلك، للتأثير السياسي مباشرة، فأطلق لينين شعاراته المشهورة: ((السلم للجندي، والخبز للعامل، والأرض للفلاح)).
وقد بدأت الجماهير منذ تلك اللحظة تصبح طاقات ثورية واعية وهي لم تكن قبل ذلك داخل النظام.
ولكن، هل كان يكفي لتستمر الهزة الثورية، دفعة من الشعارات التي أطلقت، وحققت انضمام الجماهير إليها آملة احتمال تغيرها في الطريق، كشعار ((الأرض للفلاح)) عندما تدق ساعة الكلخوز؟!.
إن الايديولوجية التي لا تتضمن- بصفتها أفكارا موجهة قوية- إلا مصالح عاجلة، فإنها وإن كانت محترمة) لن تفتح الطريق لغير سياسة قصيرة محدودة المدى على قدر الشعارات التي دفعتها.
وسياسة كهذه لا تستطيع، في المثل اللينيني، الذي ذكرناه للتوضيح، أن تكون في مستوى عهد المشاريع العظيمة والمحن الكبرى، التي تطلبت من الثقة والتضحية ما كان ضروريا للتشييد الاشتراكي ولمواجهة الهجوم الهتلري.
فالايديولوجية تتطلب إذن خمائر أخرى، تضمن الوحدة الضرورية بين عمل الدولة وعمل الفرد لإنجاز مهمات بعيدة ترتكز على الثقة والبطولة.
والخمائر هذه هي التي تعطي، حسب جوهرها، القيمة- الجليلة والحقيرة- للسياسة أمام التاريخ.
وإذا ما تفحصنا هذا الجوهر وجدنا أنه من عنصر أخلاقي وهو متصل بما وراء الطبيعة أي من العنصر النفسي.
فالفكرة الموجهة لسياسة تستطيع مواجهة أهوال التاريخ، لابد لها أن تتكون من هذا الصنف، إذ الجهد المدعوم بمصلحة عاجلة قد يتولى، ليس فحسب حين تحصل في بعض الظروف خيبة أمل تدفع إلى التراجع والقهقرى، بل حتى إذا دخل المجتمع بفضل ما حققه، حالة إشباع يسودها الفتور واللامبالاة.
ففي الحالين كليهما يتعرض المجتمع للانفرادية، أي لأصناف التمزيق. وهكذا لا يستطيع مجابهة أهوال الزمن إلا جهد تدعمه عقيدة لا يعتريها الشك أبدا.
والتاريخ منذ عهد (الفيران) في روما، إلى شهداء بدر، إلى أبطال ستالينجراد، ليس إلا شرحا لهذه الحقيقة.
فالتعاون بين الدولة والفرد، لابد له من جذور في عقيدة تستطيع وحدها أن تجعل ثمن الجهد محتملا مهما كانت قيمته لدى صاحبه، فيضحي هكذا بمصلحته حتى بحياته في سبيل قضية مقدسة في نظره.
إن السلوك الذي سمي (الستخانوفية) لا يفسر بوصفه عامل إنتاج إلا بهذه الطريقة. فهو المظهر الإقتصادي في حياة مجتمع تحركه فكرة توجيه تفوق كثيرا الإمكانيات العادية في ذلك المجتمع.
وإفلاس الإستعمار في المستعمرات كان محتوما، طبقا لقانون التعاون الضروري الذي كان مستحيلا بين الإستعمار والإنسان المستعمر.
ولا يعني هذا أن الإستعمار لم يحاول مواجهة المشكلة هذه، بفصل المسلم عن الإسلام، إلا أنه باء بالفشل، سواء بمحاولاته ذات الطابع اللاديني أو ذات الطابع الديني الهادف إلى (التمسيح).
قد كان الإسلام الحصن الذي فشلت تحت أسواره جميع المحاولات، التي استهدفت سلب الشعب الجزائري شخصيته على مدى قرن من الزمان، كما كان الحافز الأيديولوجي الرئيسي الذي دعم جهده البطولي خلال الثورة.
ولكي نلخص هذه الكلمات لابد لنا أن نقول: إن علينا العودة إلى الأصول والمنابع التي منها نبع تاريخنا.
***
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
السياسة والثقافة
السياسة والثقافة
عن (الثورة الإفريقية) عدد 142 في 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1965.
في مقال سابق تحت عنوان ((السياسة والايديولوجية)) قمنا بخطوة مفيدة، إذ أوضحنا الشروط الضرورية لتجانس عمل الفرد وعمل الدولة، في وحدة عضوية لا تنفصم أمام أهوال التاريخ.
وحين نتابع التحليل إلى أبعد من ذلك تبدو هذه الشروط بدورها غير كافية. وإذا تجنبنا إفراط المستشرق (جيب) في الحكم، فإننا نلاحظ معه المجتمع الإسلامي وهو يعاني منذ القرون الأخيرة، فتورا قد نسميه أزمة حياة فقدت أسباب التوتر والطموح.
والعلاج لحالة كهذه، كما حاولنا توضيحه فيما سبق، يقتضي أيديولوجية تعطي التوتر الضروري لمجتمع يقوم بإنجاز مهمات كبرى، لأنها تخلق الفرد التواق، وهو عكس الفرد المائع الذي يركب مجتعا ارتخت أوتاره.
وهنا نقول أيضاً، إن هذا العلاج سيبقى دون ما تقتضيه الحالة، إذ الايديولوجية ليست سوى سهم يشير إلى هدف، ويحدد بعض الإتجاه. وهي بذلك تستطيع توجيه عمل الفرد وعمل الدولة وربما تتيح لهما الوصول إلى الهدف.
ومهما كان الهدف تحطيميا، أو كان التوجيه توجيها نحو انتحار أمة، فإن باستطاعة الايديولوجية أن تمنح المجتمع شروط انطلاقه وطموحه.
فالايديولوجية الهتلرية استطاعت أن تعطي الشعب الألماني توترا وصل
درجة فاقت طاقة البشر، لكننا نعلم من ناحية أخرى أية هاوية سحيقة ألقت به، هذا إذا لم نأخذ بالإعتبار الإحتمال الآخر.
فلو انتصرت الايديولوجية الهتلرية في العالم ماذا كانت تصنع؟
فقد كنا نعلم من خلال التصريحات، أن هتلر يريد أن يفرض على العالم ألف عام من السلم الجرماني، أي ألف عام يرجع فيها الضمير العالمي إلى الوراء.
فالسياسة إذن تقتضي أكثر من ذلك، إذ لا يكفي أن تحدد عمل الدولة في اتجاه معين، وأن يكون ثمة جهاز رقابة ضروري لمتابعة عمليات التنفيذ، وجهاز حماية للمواطن من اعتداء عمل الدولة نفسه عليه. كما لا يكفي أن تمنح هذه السياسة التوتر الضروري للطاقات الإجتماعية لتبلغ الهدف المعين.
فبالإضافة إلى كل ما سبق، لا بد أن يكون الهدف نفسه متطابقا مع التطور الطبيعي للأمة، ومع الظروف العامة التي تحيط بهذا التطور. وأن يكون فوق ذلك متطابقا مع مصير الإنسانية كلها.
فإذا كانت السياسة تفقد فعاليتها إذا انفصلت عن ضمير الأمة، فإنها إذا انفصلت عن الضمير العالمي تضيف إلى العالم خطرا فوق الأخطار التي تهدده، فإذا نظرنا إلى القضية من الوجهة الأولى، أعني وجهة انسجام السياسة مع تطور الأمة ومع الظروف المحيطة بتطورها، فإن القضية تطرح علينا منذ الخطوة الأولى مشكلة الثقافة.
أما إذا وسعنا هذا الانسجام إلى ما يقتضيه وضع عالمي، فإن التوسيع هذا لا يزيدنا إلا تركيزا على النتيجة المستخلصة من نظرتنا الأولى.
فنابليون، لم يكن أثناء إقامته في موسكو، أي في أحلك أيامه، منكبا على خرائط تحركاته العسكرية فحسب، بل إنه انكب أيضا على إتمام القانون المدني الذي وضعه في بداية عهده وشغلته قضية أخرى كتنوير شوارع باريس.
فهل كنا نتصور اهماما كهذا لو فصلنا السياسة عن الثقافة؟
إن صناعة (1) السياسة تعني، إلى حد كبير، تغيير الإطار الثقافي في اتجاه ينمي تنمية متناغمة، عبقرية أمة؛ ومن هنا فصناعة السياسة تعني في آخر المطاف، صناعة الثقافة.
فإذا شيدنا حديقة في مدينة كالجزائر أو القاهرة، أي إذا غيرنا الإطار الثقافي في أي بلد من بلدان العالم الثالث نقوم بعمل سياسي لا مزيد عليه.
وفي الوقت ذاته، فهذه الملاحظات- وفي إمكان أي منا أن يلاحظها في الشارع يوميا- تبين لنا كيف تطرح المشكلة في بلد من العالم الثالث، حيث تكشف لنا تجربتنا التأثير المشترك لعوامل من أصناف ثلاثة:
الصنف الأول وهو يتصل بالثقافة التي نريد صنعها.
الصنف الثاني وهو يتصل بـ (لا ثقافة) موروثة نريد تصفيتها.
الصنف الثالث وهو يتصل بشيء نسميه (ما ضد الثقافة) وهو يفرض علينا أن نكون في انتباه مستمر تجاهه.
وعلاقة السياسة بالثقافة تمر حتما بهذا الثالوث، علاقة تتطلب منا إذا فكرنا في (الثقافة) في بلد من العالم الثالث، أن نفكر في اللحظة نفسها بالقوى غير الواعية التي تمثل (اللاثقافة)، والقوى الواعية التي تمثل (ما ضد الثقافة)، والقوتان كلتاهما تبدوان قوة مشتركة تعمل في المحيط الإجتماعي.
ومن ناحية أخرى، يجب توسيع المصطلحات ذاتها في مدلولها، إذ كل منا يعلم أن تشييد مدرسة عمل يهم نشر (الثقافة) كما يهم رفع (اللاثقافة).
إنما إذا نظرنا من زاوية السياسة إلى مشكلة الثقافة، فالأمر أكثر تعقيدا.
__________
(1) (صناعة) استعملناها هنا طبقا لمصطلح ابن خلدون.
فحتى لو كانت المدرسة هي الوسيلة الرئيسية- والقضية فيها نظر- لصنع الثقافة، وبالتالي لإعطاء السياسة بعدها الوطني والعالمي، فهذه الوسيلة تبدو غيركافية.
وحسبنا لنقتنع بذلك، أن نتذكر أسماء الذين عمروا سوق الانتخابات في الجزائر منذ ثلاثين سنة، إنهم على العموم لم يكونوا أميين بل تخرجوا من المدرسة سواء أطلقنا عليهم المثقفين أو (المتثقفين).
ينبغي إذن أن نعيد النظر في المدرسة، وألا ننظر إليها من زاوية التجهيز، كما ينظر إليها عادة: فالمدرسة ليست المكان المجهز بمقاعد، وبما يكتب عليه، والسبورة نكتب عليها الحروف الأبجدية، أو المعادلات الرياضية فحسب، بل هي قبل ذلك المعبد الذي يستشعر فيه الضمير بالقيم التي تكون تراث الإنسانية.
فقد كانت قسمات (سقراط) مع مريديه، هيأت فيها أثينة بلاغها إلى الإنسانية. ومجالس غاندي وهو صامت الساعات الطويلة، وحوله الآلاف المؤلفة من البشر مدرسة هي الأخرى وجهت إلى ضمير القرن العشرين بلاغ (الساتياجراها).
وما كان هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه إلا مدرسة بلغت العالم رسالة حضارة جديدة.
فبقدر ما تستعيد المدرسة معناها الأصيل، تستطيع القيام بدورها الثقافي وبالتالي دورها السياسي، إذ السياسة حينئذ تكتسب بعدا وطنيا وعالميا بفضل ما تهب لها الثقافة من تفتح على القيم، التي اكتسبها الفكر الإنساني عبر الآلاف من السنين.
هنالك يتجانس عمل الدولة مع عمل الإنسانية بعد ما يكون قد تجانس مع عمل الفرد.
عن (الثورة الإفريقية) عدد 142 في 16 تشرين الأول (أكتوبر) 1965.
في مقال سابق تحت عنوان ((السياسة والايديولوجية)) قمنا بخطوة مفيدة، إذ أوضحنا الشروط الضرورية لتجانس عمل الفرد وعمل الدولة، في وحدة عضوية لا تنفصم أمام أهوال التاريخ.
وحين نتابع التحليل إلى أبعد من ذلك تبدو هذه الشروط بدورها غير كافية. وإذا تجنبنا إفراط المستشرق (جيب) في الحكم، فإننا نلاحظ معه المجتمع الإسلامي وهو يعاني منذ القرون الأخيرة، فتورا قد نسميه أزمة حياة فقدت أسباب التوتر والطموح.
والعلاج لحالة كهذه، كما حاولنا توضيحه فيما سبق، يقتضي أيديولوجية تعطي التوتر الضروري لمجتمع يقوم بإنجاز مهمات كبرى، لأنها تخلق الفرد التواق، وهو عكس الفرد المائع الذي يركب مجتعا ارتخت أوتاره.
وهنا نقول أيضاً، إن هذا العلاج سيبقى دون ما تقتضيه الحالة، إذ الايديولوجية ليست سوى سهم يشير إلى هدف، ويحدد بعض الإتجاه. وهي بذلك تستطيع توجيه عمل الفرد وعمل الدولة وربما تتيح لهما الوصول إلى الهدف.
ومهما كان الهدف تحطيميا، أو كان التوجيه توجيها نحو انتحار أمة، فإن باستطاعة الايديولوجية أن تمنح المجتمع شروط انطلاقه وطموحه.
فالايديولوجية الهتلرية استطاعت أن تعطي الشعب الألماني توترا وصل
درجة فاقت طاقة البشر، لكننا نعلم من ناحية أخرى أية هاوية سحيقة ألقت به، هذا إذا لم نأخذ بالإعتبار الإحتمال الآخر.
فلو انتصرت الايديولوجية الهتلرية في العالم ماذا كانت تصنع؟
فقد كنا نعلم من خلال التصريحات، أن هتلر يريد أن يفرض على العالم ألف عام من السلم الجرماني، أي ألف عام يرجع فيها الضمير العالمي إلى الوراء.
فالسياسة إذن تقتضي أكثر من ذلك، إذ لا يكفي أن تحدد عمل الدولة في اتجاه معين، وأن يكون ثمة جهاز رقابة ضروري لمتابعة عمليات التنفيذ، وجهاز حماية للمواطن من اعتداء عمل الدولة نفسه عليه. كما لا يكفي أن تمنح هذه السياسة التوتر الضروري للطاقات الإجتماعية لتبلغ الهدف المعين.
فبالإضافة إلى كل ما سبق، لا بد أن يكون الهدف نفسه متطابقا مع التطور الطبيعي للأمة، ومع الظروف العامة التي تحيط بهذا التطور. وأن يكون فوق ذلك متطابقا مع مصير الإنسانية كلها.
فإذا كانت السياسة تفقد فعاليتها إذا انفصلت عن ضمير الأمة، فإنها إذا انفصلت عن الضمير العالمي تضيف إلى العالم خطرا فوق الأخطار التي تهدده، فإذا نظرنا إلى القضية من الوجهة الأولى، أعني وجهة انسجام السياسة مع تطور الأمة ومع الظروف المحيطة بتطورها، فإن القضية تطرح علينا منذ الخطوة الأولى مشكلة الثقافة.
أما إذا وسعنا هذا الانسجام إلى ما يقتضيه وضع عالمي، فإن التوسيع هذا لا يزيدنا إلا تركيزا على النتيجة المستخلصة من نظرتنا الأولى.
فنابليون، لم يكن أثناء إقامته في موسكو، أي في أحلك أيامه، منكبا على خرائط تحركاته العسكرية فحسب، بل إنه انكب أيضا على إتمام القانون المدني الذي وضعه في بداية عهده وشغلته قضية أخرى كتنوير شوارع باريس.
فهل كنا نتصور اهماما كهذا لو فصلنا السياسة عن الثقافة؟
إن صناعة (1) السياسة تعني، إلى حد كبير، تغيير الإطار الثقافي في اتجاه ينمي تنمية متناغمة، عبقرية أمة؛ ومن هنا فصناعة السياسة تعني في آخر المطاف، صناعة الثقافة.
فإذا شيدنا حديقة في مدينة كالجزائر أو القاهرة، أي إذا غيرنا الإطار الثقافي في أي بلد من بلدان العالم الثالث نقوم بعمل سياسي لا مزيد عليه.
وفي الوقت ذاته، فهذه الملاحظات- وفي إمكان أي منا أن يلاحظها في الشارع يوميا- تبين لنا كيف تطرح المشكلة في بلد من العالم الثالث، حيث تكشف لنا تجربتنا التأثير المشترك لعوامل من أصناف ثلاثة:
الصنف الأول وهو يتصل بالثقافة التي نريد صنعها.
الصنف الثاني وهو يتصل بـ (لا ثقافة) موروثة نريد تصفيتها.
الصنف الثالث وهو يتصل بشيء نسميه (ما ضد الثقافة) وهو يفرض علينا أن نكون في انتباه مستمر تجاهه.
وعلاقة السياسة بالثقافة تمر حتما بهذا الثالوث، علاقة تتطلب منا إذا فكرنا في (الثقافة) في بلد من العالم الثالث، أن نفكر في اللحظة نفسها بالقوى غير الواعية التي تمثل (اللاثقافة)، والقوى الواعية التي تمثل (ما ضد الثقافة)، والقوتان كلتاهما تبدوان قوة مشتركة تعمل في المحيط الإجتماعي.
ومن ناحية أخرى، يجب توسيع المصطلحات ذاتها في مدلولها، إذ كل منا يعلم أن تشييد مدرسة عمل يهم نشر (الثقافة) كما يهم رفع (اللاثقافة).
إنما إذا نظرنا من زاوية السياسة إلى مشكلة الثقافة، فالأمر أكثر تعقيدا.
__________
(1) (صناعة) استعملناها هنا طبقا لمصطلح ابن خلدون.
فحتى لو كانت المدرسة هي الوسيلة الرئيسية- والقضية فيها نظر- لصنع الثقافة، وبالتالي لإعطاء السياسة بعدها الوطني والعالمي، فهذه الوسيلة تبدو غيركافية.
وحسبنا لنقتنع بذلك، أن نتذكر أسماء الذين عمروا سوق الانتخابات في الجزائر منذ ثلاثين سنة، إنهم على العموم لم يكونوا أميين بل تخرجوا من المدرسة سواء أطلقنا عليهم المثقفين أو (المتثقفين).
ينبغي إذن أن نعيد النظر في المدرسة، وألا ننظر إليها من زاوية التجهيز، كما ينظر إليها عادة: فالمدرسة ليست المكان المجهز بمقاعد، وبما يكتب عليه، والسبورة نكتب عليها الحروف الأبجدية، أو المعادلات الرياضية فحسب، بل هي قبل ذلك المعبد الذي يستشعر فيه الضمير بالقيم التي تكون تراث الإنسانية.
فقد كانت قسمات (سقراط) مع مريديه، هيأت فيها أثينة بلاغها إلى الإنسانية. ومجالس غاندي وهو صامت الساعات الطويلة، وحوله الآلاف المؤلفة من البشر مدرسة هي الأخرى وجهت إلى ضمير القرن العشرين بلاغ (الساتياجراها).
وما كان هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه إلا مدرسة بلغت العالم رسالة حضارة جديدة.
فبقدر ما تستعيد المدرسة معناها الأصيل، تستطيع القيام بدورها الثقافي وبالتالي دورها السياسي، إذ السياسة حينئذ تكتسب بعدا وطنيا وعالميا بفضل ما تهب لها الثقافة من تفتح على القيم، التي اكتسبها الفكر الإنساني عبر الآلاف من السنين.
هنالك يتجانس عمل الدولة مع عمل الإنسانية بعد ما يكون قد تجانس مع عمل الفرد.
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
السياسة والأخلاق
السياسة والأخلاق
عن (الثورة الإفريقية) عدد 137 أيلول (سبتمبر) 1965.
((والعلم بغير ضمير ليس إلا خراب الروح)).
هكذا كان (رابليز) يقول في غرة القرن السادس عشر ولم يكن يدري - وهو يدلي بهذه الكلمات إلى ثقافة الإنسانيات، وهي حينذاك في المهد- أي تقلبات ستتعرض لها هذه الحكمة وتلك الثقافة.
لكنه منذ تفجر الفكر (الكرتزائي) في القرن الذي بعده، أصبح من اليسير التكهن بالاضطرابات الداخلية، التي ستعترض ثقافة حولت عن مجراها وفصلت عن أصولها، وأصبحت تسيل في المجرى العلماني الذي سيقودها إلى موضوعية (أوغست كونت)، وبالتالي إلى المادية الجدلية التي تمخض عنها (ماركس).
ويبلغ الانفصال غايته في نهاية القرن الماضي، عندما زعم العلم بعد اكتشافاته المبهرة في ميدان البخار ثم في ميدان الكهرباء، أنه يستطيع وحده الاضطلاع بسائر المسؤوليات في العالم، وعندما اعتقدت، بكل بساطة، البلاد المتحضرة بأنها تستطيع أن تؤمنه على مصيرها، فورطت، بفضل تفوقها الفكري، الإنسانية كلها في هذا الاعتقاد الساذج.
منذ تلك اللحظة أصبح العلم يسير على طريق، والأخلاق على طريق آخر. فالأول: زادت كل خطوة في كبريائه وشموخه، والثاني: زادت كل
خطوة من انحناء رأسه، وأحيانا بفعل الكلمة الجارحة التي يطلقها الطرف الأول. فعندما يكتب (برودون) كتابه (فلسفة الفقر) ليبين فيه مأساة الإنسانية الجائعة، يقذفه ماركس بكتابه (فقر الفلسفة) ليرد المأساة إلى بعد واحد يدمج فيه الاقتصاد والعلم.
لقد كانت هذه (القذيفة) علاقة الزمن، علاقة تشير إلى الزمن الذي نعيشه الآن، حتى إن أحد معاصرينا من العالم الثالث، ولعله كان يخشى ألا يظهر بالمظهر العلماني البعيد عن الأخلاق، يكتب في الموضوع هذه الكلمات: ((فعندما نشيد بالأخلاق فكأنما نشيد بالأخلاقية وبالفقرانية))!! فصياغة هذه الكلمات نفسها، تدل على أن الانفصال أو الطلاق بين العلم والمضير قد أصبح شائعا في المجال الذي تغطيه ثقافة القرن التاسع عشر العلمانية، كما تدل على الاتجاه الذي يتسع فيه هذا الانفصال.
ولو شئنا تلخيصا يوضح الموضوع لقلنا: إن العلم يزعم أنه يستطيع أن يحتل الجامعات، والمختبرات، والمصانع، ويترك للأخلاق مجال الرواسب التي صنعها هو، والتي تكدست حول المدن الصناعية أو في تلك المدن من صفائح القصدير، يسودها الفقر المدقع وهي تحيط بالمدن الكبيرة في العالم الثالث.
ويريد العلم، أن يمثله الرجل الذي يستيقظ في الثامنة صباحا ويذهب إلى عمله في سيارته، وفي يده أو تحت إبطه محفظته الفخمة، ويترك للأخلاق أن يمثلها الرجل الذي يستيقظ في السادسة صباحا ويذهب إلى عمله سيرا على الأقدام أو على دراجة وغذاؤه في كيس من الورق.
ولا مرد لهذا!! .. فكلما تحطمت وحدة الإنسان إلى جزأين: واحد يسمى الكائن المعنوي، والآخر الكائن الموضوعي .. فإن الأمر سيؤول إلى تجزئة الأمة، وبالتالي وبإطراد سريع، إلى تجزئة الإنسانية.
ويتفشى الوضع هذا حتى في العلاقات الإقتصادية بين الدول المصنعة والدول النامية. فالعلم إذا تجرد من الأخلاق فإنه يجر حتما إلى وضع اقتصادي مناقض للأخلاق، سواء كان ذلك في الإطار الوطني أو الإطار الدولي.
ومما تجب ملاحظته هنا، أن الاقتصاد ليس سوى إسقاط البعد السياسي على نشاط إنساني معين.
فبقدر ما تبقى السياسة مرتبطة بمبادئ أخلاقية معينة، يبقى الاقتصاد وفيا للمبادئ ذاتها.
فهذه المشكلات يرتبط بعضها ببعض، وليس من الصدفة أو من مجرد وحي استوحاه من الحياة في أثينة، إذ كتب أرسطو كتابه (في السياسة) من أجل اسكندر الأكبر، وكتابه (في الأخلاق) من أجل (ينكوماك) بل إنه إنقاذ لدافع داخلي وجده في روحه بوصفه إنسانا.
وإذا نحن بعد ألفي عام، نرى ماركس يرد على (برودون) بشيء من التعالي والسخرية. وتلك لحظة من لحظات حياة الفكر الإنساني الكبرى، تعبر عن الانفصال الذي مزق تلك الروح.
أجل إن العلم والمضير تطالقا في عالم تسوده حرب طاحنة بين أخوين: الرأسمالية والماركسية، على الرغم من أنهما من نقطة واحدة. بعد أن كانت تسود هذا العالم منذ بداية تاريخه علاقات يطبعها الإخاء والسخاء حسب كلمة ماركس نفسه.
و (خراب الروح) الذي أشار إليه (رابليز) بدأ يعلن أثره في الحياة الأخلاقية، في الإطار الوطني والدولي على السواء.
ولكن الروح يحتفظ- بفضل ما أودع فيه من نزعة التمسك بجوهره- بوحدته، كما تحتفظ الحياة البيولوجية بكيانها بفضل النزعة إلى البقاء.
وإذا كانت لحظات (إينشتين) الأخيرة- وهو كما يقال عنه قمة الفكر الإنساني في القرن العشرين- إذا كانت تلك اللحظات، قد تركزت في محاولة مستميتة للإلمام بالكون في معادلة واحدة، فإن هذه المحاولة إذا فقدت جدواها في المجال العلمي الصرف، فإنها عبرت عن انطلاقة الروح نحو الوحدانية تشعر بها في وحدتها. وبالتالي، وبنتيجة لعلها غير مقصودة، كانت المحاولة من أجل رتق الخرق الذي أحدثته العلمانية بين العلم والضمير.
على أية حال، فإننا نستطيع بعد تجربة قرن كامل، أن ندرك أن العلم لا يستطيع وحده بوسائله الخاصة إصلاح ما أفسده هو.
ولعلنا نستطيع على الأقل، تقويم هذا الفساد وتقدير ثقله في التاريخ من خلال حربين عالميتين.
فحينما حدث في أوربا مع أفكار ديكارت، التمزق الأول في الثقافة، بدأ الانحراف الأخلاقي يؤدي إلى حتمية الصراع الطبقي، وإذا كان من واجب المرء - خصوصا في بلدان العالم الثالث- أن يكون إلى جانب المستغلين المستضعفين، فإن ذلك لا يمنعه بكل حال أن يرى خطورة المحتوى الأخلاقي لصراع يؤدي إلى انفصام وحدة الأمة والمجتمع، وفقا لما تمليه مصلحة المتنعم (البرجوازي) من ناحية، ومن ناحية أخرى مصلحة المحروم (البروليتاري).
فهذا الصراع لم يوقظ، في نهاية الحساب، الضمير عند الفريقين أو عند أحدهما. وإنما أيقظ فيهما كليهما (الضمير الطبقي) وهو يضفي على صراعهما طابع فقدان الأخلاق أو مناقضة الأخلاق، فالأول يريد مزيدا من الذهب في خزينته، والثاني يريد مزيدا من اللحم في بطنه. وكلاهما بمقتضى تعاليم ايديولوجيته يتطلع إلى الاستيلاء على السلطة.
ففي صراع بين مصالح مادية صرفة، (والصراع الطبقي ليس سوى ذلك)
لا يبدو المستضغف نفسه إلا في مظهر الحاقد الضعيف، ينتظر دوره لينتقم من خصمه بمثل ما انتقم منه.
هذا في نطاق الأمة.
أما إذا نظرنا إلى نتيجة الانحراف الأخلاقي في أقصى مداه، فسوف نجد البرجوازي والبروليتاري الأوربي، حليفين تجاه الإنسان المستعمر، وهكذا تتمزق وحدة الإنسانية.
لكن خمائر التجزئة والتفرقة لا تؤدي مفعولها على الصعيد الاجتماعي والمعنوي فحسب، بل إن الطلاق بين العلم والضمير يؤدي إلى نتائج أخرى على الصعيد الفكري بالنسبة للفرد الواحد.
وإذا كان من نتائج هذا الطلاق الفلسفي، ظهور موضوعية (أوغست كونت) ومادية (ماركس)، فإن رمزه الحي، ذلك المثقف الذي يلقب نفسه أو يلقب بـ (الفكر الموضوعي).
ومن أغرب الموافقات أن سائر المظاهرات المطالبة بالحقوق في العالم ذات وجه واحد ولغة واحدة.
خطبهما متشابهة، تتناول دائما موضوع (الشروط الموضوعية)، وبهذه العبارة بالضبط يعرف (الفكر الموضوعي) كأنما لغته في أي وطن مصدرها واحد، إنها اللغة التي تسم القرن العشرين، بصفتها مقياسا يصلح في كل مكان، وإذا لم تستعمل هذه اللغة فيما تقول أو تكتب، فأنت غير (تقدمي)، بل أنت (رجعي) طبقا لمقاييس هذه اللغة. حتى إنك ستضطر لترد التهمة إلى طرح السؤال ما هو محتوى (فكر موضوعي)؟.
لنقل أولا في أي صورة تراه عينانا: إن لنا في الجزائر عينات تمثل هذا الصنف، نراها في ركن من ذاكرتنا أو شاخصة أمام أعيننا بلحمها ودمها.
لا نستطيع بالطبع ذكر الأسماء، فلنقتنع إذن بذكر النوع الذي نسميه (الفكر الموضوعي).
فقد يكون شابا أو مسنا. وقد يكون (طالبا) لا يطلب علما أو (عاملا) لا يقوم بعمل، فهذا غير مهم.
ففي أي صورة تصورناه، فهو قناع لا نشعر وراءه بشيء يتحرك، يفرح أو يتألم، تحركا نستطيع معه تعريف (الفكر الموضوعي) بأنه شبح له ظاهر إنما ليس له باطن.
وإني أتذكر منذ ثلاثين عاما إذ كنت ذات يوم بالحي اللاتيني بباريس، أتحدث على سطح مقهى مع طالب جزائري، وكان يقول: إنني سأومن بوجود الله عندها أراه.
هذه العبارة تعرفنا بـ (الفكر الموضوعي) من الناحية الفكرية، وهو مازال فجا، لأن الصنف هذا (تقدم)، فلو تكلم أخوه الصغير اليوم لقال: حتى لو رأيت الله فلن أومن به.
إذن (الفكر الموضوعي) تقدم خلال الثلاثين سنة الأخيرة في الجزائر، وبطبيعة الحال فالأمور تجري وفقا لمقدماتها.
فعلى الصعيد السياسي، على سبيل المثال، سيكون (الفكر الموضوعي) محافظا بالمعنى الفزيولوجي والإجتماعي: إنه سيئ فظ على حياته وعلى مصالحه بكل (موضوعية)، لقد حافظ على حياته أثناء الثورة، فبقي بعد الذين خاضوها بوازع ديني صرف.
لقد فضل أن يحتفظ بدمه لاوقات سانحة، ليتحدث فيها عن (الشروط الموضوعية) في الوطن حتى يزج به بعد الثورة في (التقدمية).
والجنائريون الذين عاشوا السنوات الثلاث الأخيرة، وشاهدوا بأعينهم مظاهراتنا، وتذوقوا ذلك الشر الذي كان يرد- من مسارب لا تراها العين لأنها تحت الأرض- إلى قاعات تحرير صحافتنا، وإلى بعض منظمات (التوجيه) هؤلاء الجزائريون يعرفون معنى هذا.
إن ميزانية السنوات الثلاث تحت أعيننا.
ففي المجال الإقتصادي أولا كما بين ذلك الرئيس بومدين في خطابه الأخير في المعرض السنوي بالجزائر.
وفي المناخ الإيديولوجي الذي سجل هبوطا في الحرارة يصعب تداركه.
وفي مجالنا الأخلاقي وقد جعل الآباء يطلقون الزفرات تحسرا على أولادهم وخشية. بكلمة واحدة: إن ميزانية (الفكر الموضوعي) في حياتنا الوطنية، منذ ثلاثة سنوات ذات ثقل لا يحتمل.
فهل هذا يكفي لتقويم محتواه؟ كلا فالعدم لايقوم. ولكنا نستطيع تصوير (الفكر الموضوعي) بمثل نقتبسه من التاريخ الإسلامي.
إننا نقتبسه من تلك الأيام الحالكة حين قام النزاع بين علي كرم الله وجهه ومعاوية رضي الله عنه.
فمعاوية قد شعر بأن السيف لا يحقق نصره، فلجأ إلى الحيلة، إذ أمر قومه بأن يحملوا المصاحف على رؤوس رماحهم وينادوا: هذا حكم بيننا.
ومن المؤسف أن (الفكر الموضوعي) كان منبثا في الفريقين ليخدع في صف معاوية ولينخدع في صف علي حيث يقول: أجل إن الكتاب حكم بيننا.
لقد كان هذا الصف موضوعيا (بطريقته) لأن القران يمثل فعلا في نظر المسلم، المرجع الذي يرجع إليه في كل نزاع، خصوصا في نزاع سياسي.
لكنهم نسوا الأمر الرئيسي في الموضوع. وهو أن السياسة حين تكون مناقضة في جوهرها للمبدأ الأخلاقي، فإنها لا تطرح قضية تحل بالقضاء ولكن بالسيف ..
ولم يكن علي رضي الله عنه (الفكر الموضوعي) الذي يخدع أو الذي ينخدع فقال كلمته المتواترة: إنها كلمة حق يراد بها باطل.
وبعبارة أخرى، فإذا أردنا استعمال مصطلح آخر نقول إنه في مثل هذه القضايا يجب تحكيم منطق (بسكال) لا منطق (ديكارت).
وبأقصى التلخيص نقول إذا كان ((العلم دون ضمير ما هو إلا خراب الروح))، فالسياسة من دون أخلاق ما هي إلا خراب الأمة.
***
عن (الثورة الإفريقية) عدد 137 أيلول (سبتمبر) 1965.
((والعلم بغير ضمير ليس إلا خراب الروح)).
هكذا كان (رابليز) يقول في غرة القرن السادس عشر ولم يكن يدري - وهو يدلي بهذه الكلمات إلى ثقافة الإنسانيات، وهي حينذاك في المهد- أي تقلبات ستتعرض لها هذه الحكمة وتلك الثقافة.
لكنه منذ تفجر الفكر (الكرتزائي) في القرن الذي بعده، أصبح من اليسير التكهن بالاضطرابات الداخلية، التي ستعترض ثقافة حولت عن مجراها وفصلت عن أصولها، وأصبحت تسيل في المجرى العلماني الذي سيقودها إلى موضوعية (أوغست كونت)، وبالتالي إلى المادية الجدلية التي تمخض عنها (ماركس).
ويبلغ الانفصال غايته في نهاية القرن الماضي، عندما زعم العلم بعد اكتشافاته المبهرة في ميدان البخار ثم في ميدان الكهرباء، أنه يستطيع وحده الاضطلاع بسائر المسؤوليات في العالم، وعندما اعتقدت، بكل بساطة، البلاد المتحضرة بأنها تستطيع أن تؤمنه على مصيرها، فورطت، بفضل تفوقها الفكري، الإنسانية كلها في هذا الاعتقاد الساذج.
منذ تلك اللحظة أصبح العلم يسير على طريق، والأخلاق على طريق آخر. فالأول: زادت كل خطوة في كبريائه وشموخه، والثاني: زادت كل
خطوة من انحناء رأسه، وأحيانا بفعل الكلمة الجارحة التي يطلقها الطرف الأول. فعندما يكتب (برودون) كتابه (فلسفة الفقر) ليبين فيه مأساة الإنسانية الجائعة، يقذفه ماركس بكتابه (فقر الفلسفة) ليرد المأساة إلى بعد واحد يدمج فيه الاقتصاد والعلم.
لقد كانت هذه (القذيفة) علاقة الزمن، علاقة تشير إلى الزمن الذي نعيشه الآن، حتى إن أحد معاصرينا من العالم الثالث، ولعله كان يخشى ألا يظهر بالمظهر العلماني البعيد عن الأخلاق، يكتب في الموضوع هذه الكلمات: ((فعندما نشيد بالأخلاق فكأنما نشيد بالأخلاقية وبالفقرانية))!! فصياغة هذه الكلمات نفسها، تدل على أن الانفصال أو الطلاق بين العلم والمضير قد أصبح شائعا في المجال الذي تغطيه ثقافة القرن التاسع عشر العلمانية، كما تدل على الاتجاه الذي يتسع فيه هذا الانفصال.
ولو شئنا تلخيصا يوضح الموضوع لقلنا: إن العلم يزعم أنه يستطيع أن يحتل الجامعات، والمختبرات، والمصانع، ويترك للأخلاق مجال الرواسب التي صنعها هو، والتي تكدست حول المدن الصناعية أو في تلك المدن من صفائح القصدير، يسودها الفقر المدقع وهي تحيط بالمدن الكبيرة في العالم الثالث.
ويريد العلم، أن يمثله الرجل الذي يستيقظ في الثامنة صباحا ويذهب إلى عمله في سيارته، وفي يده أو تحت إبطه محفظته الفخمة، ويترك للأخلاق أن يمثلها الرجل الذي يستيقظ في السادسة صباحا ويذهب إلى عمله سيرا على الأقدام أو على دراجة وغذاؤه في كيس من الورق.
ولا مرد لهذا!! .. فكلما تحطمت وحدة الإنسان إلى جزأين: واحد يسمى الكائن المعنوي، والآخر الكائن الموضوعي .. فإن الأمر سيؤول إلى تجزئة الأمة، وبالتالي وبإطراد سريع، إلى تجزئة الإنسانية.
ويتفشى الوضع هذا حتى في العلاقات الإقتصادية بين الدول المصنعة والدول النامية. فالعلم إذا تجرد من الأخلاق فإنه يجر حتما إلى وضع اقتصادي مناقض للأخلاق، سواء كان ذلك في الإطار الوطني أو الإطار الدولي.
ومما تجب ملاحظته هنا، أن الاقتصاد ليس سوى إسقاط البعد السياسي على نشاط إنساني معين.
فبقدر ما تبقى السياسة مرتبطة بمبادئ أخلاقية معينة، يبقى الاقتصاد وفيا للمبادئ ذاتها.
فهذه المشكلات يرتبط بعضها ببعض، وليس من الصدفة أو من مجرد وحي استوحاه من الحياة في أثينة، إذ كتب أرسطو كتابه (في السياسة) من أجل اسكندر الأكبر، وكتابه (في الأخلاق) من أجل (ينكوماك) بل إنه إنقاذ لدافع داخلي وجده في روحه بوصفه إنسانا.
وإذا نحن بعد ألفي عام، نرى ماركس يرد على (برودون) بشيء من التعالي والسخرية. وتلك لحظة من لحظات حياة الفكر الإنساني الكبرى، تعبر عن الانفصال الذي مزق تلك الروح.
أجل إن العلم والمضير تطالقا في عالم تسوده حرب طاحنة بين أخوين: الرأسمالية والماركسية، على الرغم من أنهما من نقطة واحدة. بعد أن كانت تسود هذا العالم منذ بداية تاريخه علاقات يطبعها الإخاء والسخاء حسب كلمة ماركس نفسه.
و (خراب الروح) الذي أشار إليه (رابليز) بدأ يعلن أثره في الحياة الأخلاقية، في الإطار الوطني والدولي على السواء.
ولكن الروح يحتفظ- بفضل ما أودع فيه من نزعة التمسك بجوهره- بوحدته، كما تحتفظ الحياة البيولوجية بكيانها بفضل النزعة إلى البقاء.
وإذا كانت لحظات (إينشتين) الأخيرة- وهو كما يقال عنه قمة الفكر الإنساني في القرن العشرين- إذا كانت تلك اللحظات، قد تركزت في محاولة مستميتة للإلمام بالكون في معادلة واحدة، فإن هذه المحاولة إذا فقدت جدواها في المجال العلمي الصرف، فإنها عبرت عن انطلاقة الروح نحو الوحدانية تشعر بها في وحدتها. وبالتالي، وبنتيجة لعلها غير مقصودة، كانت المحاولة من أجل رتق الخرق الذي أحدثته العلمانية بين العلم والضمير.
على أية حال، فإننا نستطيع بعد تجربة قرن كامل، أن ندرك أن العلم لا يستطيع وحده بوسائله الخاصة إصلاح ما أفسده هو.
ولعلنا نستطيع على الأقل، تقويم هذا الفساد وتقدير ثقله في التاريخ من خلال حربين عالميتين.
فحينما حدث في أوربا مع أفكار ديكارت، التمزق الأول في الثقافة، بدأ الانحراف الأخلاقي يؤدي إلى حتمية الصراع الطبقي، وإذا كان من واجب المرء - خصوصا في بلدان العالم الثالث- أن يكون إلى جانب المستغلين المستضعفين، فإن ذلك لا يمنعه بكل حال أن يرى خطورة المحتوى الأخلاقي لصراع يؤدي إلى انفصام وحدة الأمة والمجتمع، وفقا لما تمليه مصلحة المتنعم (البرجوازي) من ناحية، ومن ناحية أخرى مصلحة المحروم (البروليتاري).
فهذا الصراع لم يوقظ، في نهاية الحساب، الضمير عند الفريقين أو عند أحدهما. وإنما أيقظ فيهما كليهما (الضمير الطبقي) وهو يضفي على صراعهما طابع فقدان الأخلاق أو مناقضة الأخلاق، فالأول يريد مزيدا من الذهب في خزينته، والثاني يريد مزيدا من اللحم في بطنه. وكلاهما بمقتضى تعاليم ايديولوجيته يتطلع إلى الاستيلاء على السلطة.
ففي صراع بين مصالح مادية صرفة، (والصراع الطبقي ليس سوى ذلك)
لا يبدو المستضغف نفسه إلا في مظهر الحاقد الضعيف، ينتظر دوره لينتقم من خصمه بمثل ما انتقم منه.
هذا في نطاق الأمة.
أما إذا نظرنا إلى نتيجة الانحراف الأخلاقي في أقصى مداه، فسوف نجد البرجوازي والبروليتاري الأوربي، حليفين تجاه الإنسان المستعمر، وهكذا تتمزق وحدة الإنسانية.
لكن خمائر التجزئة والتفرقة لا تؤدي مفعولها على الصعيد الاجتماعي والمعنوي فحسب، بل إن الطلاق بين العلم والضمير يؤدي إلى نتائج أخرى على الصعيد الفكري بالنسبة للفرد الواحد.
وإذا كان من نتائج هذا الطلاق الفلسفي، ظهور موضوعية (أوغست كونت) ومادية (ماركس)، فإن رمزه الحي، ذلك المثقف الذي يلقب نفسه أو يلقب بـ (الفكر الموضوعي).
ومن أغرب الموافقات أن سائر المظاهرات المطالبة بالحقوق في العالم ذات وجه واحد ولغة واحدة.
خطبهما متشابهة، تتناول دائما موضوع (الشروط الموضوعية)، وبهذه العبارة بالضبط يعرف (الفكر الموضوعي) كأنما لغته في أي وطن مصدرها واحد، إنها اللغة التي تسم القرن العشرين، بصفتها مقياسا يصلح في كل مكان، وإذا لم تستعمل هذه اللغة فيما تقول أو تكتب، فأنت غير (تقدمي)، بل أنت (رجعي) طبقا لمقاييس هذه اللغة. حتى إنك ستضطر لترد التهمة إلى طرح السؤال ما هو محتوى (فكر موضوعي)؟.
لنقل أولا في أي صورة تراه عينانا: إن لنا في الجزائر عينات تمثل هذا الصنف، نراها في ركن من ذاكرتنا أو شاخصة أمام أعيننا بلحمها ودمها.
لا نستطيع بالطبع ذكر الأسماء، فلنقتنع إذن بذكر النوع الذي نسميه (الفكر الموضوعي).
فقد يكون شابا أو مسنا. وقد يكون (طالبا) لا يطلب علما أو (عاملا) لا يقوم بعمل، فهذا غير مهم.
ففي أي صورة تصورناه، فهو قناع لا نشعر وراءه بشيء يتحرك، يفرح أو يتألم، تحركا نستطيع معه تعريف (الفكر الموضوعي) بأنه شبح له ظاهر إنما ليس له باطن.
وإني أتذكر منذ ثلاثين عاما إذ كنت ذات يوم بالحي اللاتيني بباريس، أتحدث على سطح مقهى مع طالب جزائري، وكان يقول: إنني سأومن بوجود الله عندها أراه.
هذه العبارة تعرفنا بـ (الفكر الموضوعي) من الناحية الفكرية، وهو مازال فجا، لأن الصنف هذا (تقدم)، فلو تكلم أخوه الصغير اليوم لقال: حتى لو رأيت الله فلن أومن به.
إذن (الفكر الموضوعي) تقدم خلال الثلاثين سنة الأخيرة في الجزائر، وبطبيعة الحال فالأمور تجري وفقا لمقدماتها.
فعلى الصعيد السياسي، على سبيل المثال، سيكون (الفكر الموضوعي) محافظا بالمعنى الفزيولوجي والإجتماعي: إنه سيئ فظ على حياته وعلى مصالحه بكل (موضوعية)، لقد حافظ على حياته أثناء الثورة، فبقي بعد الذين خاضوها بوازع ديني صرف.
لقد فضل أن يحتفظ بدمه لاوقات سانحة، ليتحدث فيها عن (الشروط الموضوعية) في الوطن حتى يزج به بعد الثورة في (التقدمية).
والجنائريون الذين عاشوا السنوات الثلاث الأخيرة، وشاهدوا بأعينهم مظاهراتنا، وتذوقوا ذلك الشر الذي كان يرد- من مسارب لا تراها العين لأنها تحت الأرض- إلى قاعات تحرير صحافتنا، وإلى بعض منظمات (التوجيه) هؤلاء الجزائريون يعرفون معنى هذا.
إن ميزانية السنوات الثلاث تحت أعيننا.
ففي المجال الإقتصادي أولا كما بين ذلك الرئيس بومدين في خطابه الأخير في المعرض السنوي بالجزائر.
وفي المناخ الإيديولوجي الذي سجل هبوطا في الحرارة يصعب تداركه.
وفي مجالنا الأخلاقي وقد جعل الآباء يطلقون الزفرات تحسرا على أولادهم وخشية. بكلمة واحدة: إن ميزانية (الفكر الموضوعي) في حياتنا الوطنية، منذ ثلاثة سنوات ذات ثقل لا يحتمل.
فهل هذا يكفي لتقويم محتواه؟ كلا فالعدم لايقوم. ولكنا نستطيع تصوير (الفكر الموضوعي) بمثل نقتبسه من التاريخ الإسلامي.
إننا نقتبسه من تلك الأيام الحالكة حين قام النزاع بين علي كرم الله وجهه ومعاوية رضي الله عنه.
فمعاوية قد شعر بأن السيف لا يحقق نصره، فلجأ إلى الحيلة، إذ أمر قومه بأن يحملوا المصاحف على رؤوس رماحهم وينادوا: هذا حكم بيننا.
ومن المؤسف أن (الفكر الموضوعي) كان منبثا في الفريقين ليخدع في صف معاوية ولينخدع في صف علي حيث يقول: أجل إن الكتاب حكم بيننا.
لقد كان هذا الصف موضوعيا (بطريقته) لأن القران يمثل فعلا في نظر المسلم، المرجع الذي يرجع إليه في كل نزاع، خصوصا في نزاع سياسي.
لكنهم نسوا الأمر الرئيسي في الموضوع. وهو أن السياسة حين تكون مناقضة في جوهرها للمبدأ الأخلاقي، فإنها لا تطرح قضية تحل بالقضاء ولكن بالسيف ..
ولم يكن علي رضي الله عنه (الفكر الموضوعي) الذي يخدع أو الذي ينخدع فقال كلمته المتواترة: إنها كلمة حق يراد بها باطل.
وبعبارة أخرى، فإذا أردنا استعمال مصطلح آخر نقول إنه في مثل هذه القضايا يجب تحكيم منطق (بسكال) لا منطق (ديكارت).
وبأقصى التلخيص نقول إذا كان ((العلم دون ضمير ما هو إلا خراب الروح))، فالسياسة من دون أخلاق ما هي إلا خراب الأمة.
***
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
السياسة وحكمة الجماهير
السياسة وحكمة الجماهير
عن (الثورة الإفريقية) عدد 138 في 18 أيلول (سبتمبر) سنة 1965.
كي يتحدث الدين إلى الضمير الإنساني، غالبا ما يستعمل الرموز يعبر بها عن مفاهيم تغيب عن العقول لأنها متصلة بعالم الغيب.
وحتى علم الرياضة، يستعمل الرموز في صورة معادلات.
وقد عرفت الشعوب، من خلال تجاربها الروحية أو العملية قوة هذا التعبير، فأصبح الرمز وسيلة تعبير ضرورية، كلما كان التعبير العادي لا يستطيع تبليغ معنى من المعاني بالضبط الكافي، أو كان التعبير مما لا يستسيغه العرف والذوق.
وثقافات الجماهير كلها، كونت تراثها من أمثال استعارات وحكم، لا تعبر فحسب عن حكمة شعوب ضاربة في القدم، بل إنها تطابق مواقف واقعية معينة تطرأ فعلا في حياتهم اليومية.
وهكذا يجد كل شعب، تحت يده أداة متطابقة لنطق جماهيره، وقد يغتبط الشعب الجزائري من هذه الناحية، لأن أمثاله وحكمه وقصصه تكون أداة جدلية على مستوى رفيع.
واذا أصغيت إلى حديث عجائزنا، تدرك مدى الأهمية العملية لهذه الأداة .. فعندما يدخل حديث في الضباب ويكاد فحواه يتبخر، تأتيك المرأة
العجوز بمثل أو حكمة أو قصة تعيد بها الحديث إلى مجراه وتمسك معناه في اللحظة التي كاد يفلت فيها.
ليسمح لي القارئ بهذا التمهيد، فقد بدا لي ضروريا لأن العنوان نفسه يسوقني إلى التدليل بحكايات شعبية واختيار اثنتين منها على الأقل.
كانت جدتي تقص لي العديد من قصص جحا، وإني لأذكر إحداها لما أرى فيها من دلالة بإشارة واحدة، على المعنى النفسي والمنهجي الذي أريد إبرازه في هذه السطور.
فقد كان جحا ذات يوم من أيام الشتاء الباردة، يدفئ يديه مع بعض رفاقه، وبينما هو حول نار موقدة في كوخ من تلك الاكواخ المنتشرة في المرتفعات الجزائرية إذا بالنار بدأت تخمد لنفاد الحطب.
قال الجماعة:
- هلم، نذهب فنحتطب في الغابة.
وهرع كل واحد إلى عدته وتوجه إلى الغابة وكذلك فعل جحا، ثم رجع كل واحد بحزمة حطب إلا جحا فقد استبطأه رفاقه حين لم يعد وقالوا:
- هلموا نر ماصنع الله بجحا.
واقتفى الرفاق أثر جحا في الغابة حتى وجدوه في ناحية وهو يلف حبله حول المئات أو الآلاف من الشجر.
سألوه: ماذا تصنع يا جحا؟
أجاب بطلنا:
ألا ترونني أريد أن أحمل كل شجر الغابة مرة واحدة، حتى لا نعود نحتطب كل يوم؟
ذهل الرفاق إعجابا بجحا وإكبارا له، بل خجلوا أمام محاولة ضخمة كهذه، خجلوا إذ لم يأت كل واحد منهم إلا بحزمة، ثم تضرعوا إلى جحا كي يترك محاولته هذه إلى يوم آخر، لأن لديهم ما يكفيهم ذلك اليوم بما احتطبوا هم.
هكذا تفضل عليهم جحا بتلبية رغبتهم فرجع معهم، شامخ الأنف يتدفأ على نارهم دون أن يأتي بعود واحد.
إلى هنا تنتهي القصة تترك لمستمعها استنتاج العبرة.
لكن جدتي قصت علي قصة أخرى، لا تقل عبرة:
فقد كانت عشيرة من العشائر على أهبة الرحيل، تطوي البيوت وتضع المتاع على جمالها، وأناخ جمل من الجمال فأثقلوه بمتاعهم حتى لم يستطع الحراك.
ثم انتبه القوم إلى دفتي رحا مما هو موجود في أريافنا حتى اليوم، فقام رجل منهم يضع الرحا على ظهر الجمل والتفتت عجوز من العشيرة فقالت عطفا على الجمل:
- لا تضعوا الرحا عليه بل ضعوها على ظهر جمل غيره.
لكن الجمل التفت إليها وقال:
- بل ضعوها على ظهري، لا ضرر في ذلك إنني لن أستطيع القيام على كل حال.
واليوم وبعد أكثر من نصف قرن حين تعود إلى ذاكرتي هاتان القصتان مع ذكريات عذبة أو مثيرة، أو حين أسمعها في سمر الأطفال، أجد أن جحا والجمل يعبران عن حكمة واحدة لكنهما من حيث التعبير عنها يختلفان: حيث حسن النبية في الجمل وسوء النبية في جحا.
إن رمز القصتين واحد، إنهما تدلان على العمل المستحيل.
فموقف جحا موقف من يحاول عملا مستحيلا فيستغل بذلك عمل الآخرين، إنه المحتال يستغل سذاجة الآخرين، بينما يبدو لناظرهم في مظهر البطل، إن ضحاياه أولئك الذين يلقبونه بطلا.
أما الجمل فهو ليس بالمحتال، لكنه يسخر بنكتة تكشف لنا أيضاً سذاجة الآخرين، ونكتة تضحكنا من أولئك الذين يضعون العمل في الشروط التي تجعله مستحيلا.
وبعبارة أخرى. فإن جحا يستطيع أن يقدم لنا درسا في (البلوتيك) أو على الأقل يدلنا على أحد أعراضها النفسية. وسيكون درسه مفيدا لمن يريد درسا عن الكسب غير المشروع، عن الديماغوجية في سوق (البلوتيك).
إن (رجل الأقدار) كما يقولون، أي الزعيم الذي لا ضمير له يعرف المزايدة الديماغوجية لإغواء البُلْه في السوق.
واعتقد أن جحا قد قدم الدرس هذا للجزائر، دون أن تستفيد منه خلال الثلاتين سنة الأخيرة، ولم تستفد منه إلى 19 حزيران (يونيو) سنة 1965.
أما درس (الجمل) فهو درس في المنهج، كان لنا أن نستفيد منه خصوصا منذ الإستقلال، يفيدنا في العمل كيف ينبغي أن تتحقق شروطه ليكون ممكنا.
وكأن جحا يقول في الحقيقة القول نفسه، وإنما بطريقة المحتال الذي يقوم بعمل مستحيل علما بأنه لا يعمل شيئا.
أما الجمل فيقوله بصراحة، ومن حسن النية، غير أنه يستعمل النكتة.
فمؤدى كلامه أن من يضع عمله في ظروف تجعله فوق طاقته، يعلم أنه محكوم عليه بألا يعمل شيئا. وإن حاول على الرغم من ذلك القيام بشيء فلن يحسن صنعا.
حبذا لو كان الجمل أستاذنا خصوصا منذ الإستقلال. لأننا كنا في حاجة إلى دروس في منهجية العمل في سائر مستويات عملنا.
فلنقدر المنهجية أولا، في مستوى الحديث المجرد، لأن كل عمل إجتماعي يقتضي تبادل أفكار بين عدد من الأشخاص.
إن الحوار هو أبسط صورة لتبادل الأفكار، وهو بذلك الرحلة التمهيدية البسيطة لكل عمل مشترك.
فقواعد الحديث إذن لا تخص حسن الآداب فقط، بل هي جزء رئيسي من تقنية العمل. ونحن نجد هذه الصلة، بصورة رمزية، في العهد القديم عندما يقص علينا كيف أصبح عمل القوم مستحيلا في تشييد برج بابل، عندما اختلفت ألسنتهم، ففي هذه القصة نرى كيف تعطل العمل حالما تعطل تبليغ الافكار بالكلام.
فالقضية إذن لا تخص قواعد الحديث وحسن السلوك في الصالونات فحسب، بل تخص مباشرة تقنية العمل من زاوية الفعالية.
فحيثما يبتعد الحديث عن التسلية المحضة، يجب أن يخضع لقواعد العمل، الذي ليس في بداية مرحلة تحضيره، سوى مشروع في محتوى بعض الكلمات وبعض الافكار.
وفي هذا المستوى، يتداخل الجانب الأخلاقي والجانب المنطقي ليكونا معا العمل الفعال أو العمل التافه.
ولو رفعنا القضية إلى مستوى الأمة لوجدنا أنفسنا نتساءل: هل كان لوطننا أن يسلك الطريق الذي سلكه إلى 19 حزيران (يونيو) 1965، لو أصغى إلى صوت الجمل أو تذكر قصة جحا؟
وفي هذا المستوى، نتساءل أيضاً إذا رجعنا ثلاثين عاما إلى الوراء: هل كان يمكن لأجيال من جحا أن يستولوا على المنصة السياسية الجزائرية، ويلعبوا عليها أدوارهم المشؤومة لو تذوق الشعب الجزائري نكتة الجمل؟.
حسبنا أن نقول لكم إن جداتنا أعطيننا دروسا عالية في السياسة بقصصهن البريئة، وهن يمسحن بأصابعهن الضعيفة رؤوسنا المتوسدة على ركبهن. ولكنني أرى اليوم وأنا على أبواب الشيخوخة أن هذه الدروس لم تفدنا كثيرا.
***
عن (الثورة الإفريقية) عدد 138 في 18 أيلول (سبتمبر) سنة 1965.
كي يتحدث الدين إلى الضمير الإنساني، غالبا ما يستعمل الرموز يعبر بها عن مفاهيم تغيب عن العقول لأنها متصلة بعالم الغيب.
وحتى علم الرياضة، يستعمل الرموز في صورة معادلات.
وقد عرفت الشعوب، من خلال تجاربها الروحية أو العملية قوة هذا التعبير، فأصبح الرمز وسيلة تعبير ضرورية، كلما كان التعبير العادي لا يستطيع تبليغ معنى من المعاني بالضبط الكافي، أو كان التعبير مما لا يستسيغه العرف والذوق.
وثقافات الجماهير كلها، كونت تراثها من أمثال استعارات وحكم، لا تعبر فحسب عن حكمة شعوب ضاربة في القدم، بل إنها تطابق مواقف واقعية معينة تطرأ فعلا في حياتهم اليومية.
وهكذا يجد كل شعب، تحت يده أداة متطابقة لنطق جماهيره، وقد يغتبط الشعب الجزائري من هذه الناحية، لأن أمثاله وحكمه وقصصه تكون أداة جدلية على مستوى رفيع.
واذا أصغيت إلى حديث عجائزنا، تدرك مدى الأهمية العملية لهذه الأداة .. فعندما يدخل حديث في الضباب ويكاد فحواه يتبخر، تأتيك المرأة
العجوز بمثل أو حكمة أو قصة تعيد بها الحديث إلى مجراه وتمسك معناه في اللحظة التي كاد يفلت فيها.
ليسمح لي القارئ بهذا التمهيد، فقد بدا لي ضروريا لأن العنوان نفسه يسوقني إلى التدليل بحكايات شعبية واختيار اثنتين منها على الأقل.
كانت جدتي تقص لي العديد من قصص جحا، وإني لأذكر إحداها لما أرى فيها من دلالة بإشارة واحدة، على المعنى النفسي والمنهجي الذي أريد إبرازه في هذه السطور.
فقد كان جحا ذات يوم من أيام الشتاء الباردة، يدفئ يديه مع بعض رفاقه، وبينما هو حول نار موقدة في كوخ من تلك الاكواخ المنتشرة في المرتفعات الجزائرية إذا بالنار بدأت تخمد لنفاد الحطب.
قال الجماعة:
- هلم، نذهب فنحتطب في الغابة.
وهرع كل واحد إلى عدته وتوجه إلى الغابة وكذلك فعل جحا، ثم رجع كل واحد بحزمة حطب إلا جحا فقد استبطأه رفاقه حين لم يعد وقالوا:
- هلموا نر ماصنع الله بجحا.
واقتفى الرفاق أثر جحا في الغابة حتى وجدوه في ناحية وهو يلف حبله حول المئات أو الآلاف من الشجر.
سألوه: ماذا تصنع يا جحا؟
أجاب بطلنا:
ألا ترونني أريد أن أحمل كل شجر الغابة مرة واحدة، حتى لا نعود نحتطب كل يوم؟
ذهل الرفاق إعجابا بجحا وإكبارا له، بل خجلوا أمام محاولة ضخمة كهذه، خجلوا إذ لم يأت كل واحد منهم إلا بحزمة، ثم تضرعوا إلى جحا كي يترك محاولته هذه إلى يوم آخر، لأن لديهم ما يكفيهم ذلك اليوم بما احتطبوا هم.
هكذا تفضل عليهم جحا بتلبية رغبتهم فرجع معهم، شامخ الأنف يتدفأ على نارهم دون أن يأتي بعود واحد.
إلى هنا تنتهي القصة تترك لمستمعها استنتاج العبرة.
لكن جدتي قصت علي قصة أخرى، لا تقل عبرة:
فقد كانت عشيرة من العشائر على أهبة الرحيل، تطوي البيوت وتضع المتاع على جمالها، وأناخ جمل من الجمال فأثقلوه بمتاعهم حتى لم يستطع الحراك.
ثم انتبه القوم إلى دفتي رحا مما هو موجود في أريافنا حتى اليوم، فقام رجل منهم يضع الرحا على ظهر الجمل والتفتت عجوز من العشيرة فقالت عطفا على الجمل:
- لا تضعوا الرحا عليه بل ضعوها على ظهر جمل غيره.
لكن الجمل التفت إليها وقال:
- بل ضعوها على ظهري، لا ضرر في ذلك إنني لن أستطيع القيام على كل حال.
واليوم وبعد أكثر من نصف قرن حين تعود إلى ذاكرتي هاتان القصتان مع ذكريات عذبة أو مثيرة، أو حين أسمعها في سمر الأطفال، أجد أن جحا والجمل يعبران عن حكمة واحدة لكنهما من حيث التعبير عنها يختلفان: حيث حسن النبية في الجمل وسوء النبية في جحا.
إن رمز القصتين واحد، إنهما تدلان على العمل المستحيل.
فموقف جحا موقف من يحاول عملا مستحيلا فيستغل بذلك عمل الآخرين، إنه المحتال يستغل سذاجة الآخرين، بينما يبدو لناظرهم في مظهر البطل، إن ضحاياه أولئك الذين يلقبونه بطلا.
أما الجمل فهو ليس بالمحتال، لكنه يسخر بنكتة تكشف لنا أيضاً سذاجة الآخرين، ونكتة تضحكنا من أولئك الذين يضعون العمل في الشروط التي تجعله مستحيلا.
وبعبارة أخرى. فإن جحا يستطيع أن يقدم لنا درسا في (البلوتيك) أو على الأقل يدلنا على أحد أعراضها النفسية. وسيكون درسه مفيدا لمن يريد درسا عن الكسب غير المشروع، عن الديماغوجية في سوق (البلوتيك).
إن (رجل الأقدار) كما يقولون، أي الزعيم الذي لا ضمير له يعرف المزايدة الديماغوجية لإغواء البُلْه في السوق.
واعتقد أن جحا قد قدم الدرس هذا للجزائر، دون أن تستفيد منه خلال الثلاتين سنة الأخيرة، ولم تستفد منه إلى 19 حزيران (يونيو) سنة 1965.
أما درس (الجمل) فهو درس في المنهج، كان لنا أن نستفيد منه خصوصا منذ الإستقلال، يفيدنا في العمل كيف ينبغي أن تتحقق شروطه ليكون ممكنا.
وكأن جحا يقول في الحقيقة القول نفسه، وإنما بطريقة المحتال الذي يقوم بعمل مستحيل علما بأنه لا يعمل شيئا.
أما الجمل فيقوله بصراحة، ومن حسن النية، غير أنه يستعمل النكتة.
فمؤدى كلامه أن من يضع عمله في ظروف تجعله فوق طاقته، يعلم أنه محكوم عليه بألا يعمل شيئا. وإن حاول على الرغم من ذلك القيام بشيء فلن يحسن صنعا.
حبذا لو كان الجمل أستاذنا خصوصا منذ الإستقلال. لأننا كنا في حاجة إلى دروس في منهجية العمل في سائر مستويات عملنا.
فلنقدر المنهجية أولا، في مستوى الحديث المجرد، لأن كل عمل إجتماعي يقتضي تبادل أفكار بين عدد من الأشخاص.
إن الحوار هو أبسط صورة لتبادل الأفكار، وهو بذلك الرحلة التمهيدية البسيطة لكل عمل مشترك.
فقواعد الحديث إذن لا تخص حسن الآداب فقط، بل هي جزء رئيسي من تقنية العمل. ونحن نجد هذه الصلة، بصورة رمزية، في العهد القديم عندما يقص علينا كيف أصبح عمل القوم مستحيلا في تشييد برج بابل، عندما اختلفت ألسنتهم، ففي هذه القصة نرى كيف تعطل العمل حالما تعطل تبليغ الافكار بالكلام.
فالقضية إذن لا تخص قواعد الحديث وحسن السلوك في الصالونات فحسب، بل تخص مباشرة تقنية العمل من زاوية الفعالية.
فحيثما يبتعد الحديث عن التسلية المحضة، يجب أن يخضع لقواعد العمل، الذي ليس في بداية مرحلة تحضيره، سوى مشروع في محتوى بعض الكلمات وبعض الافكار.
وفي هذا المستوى، يتداخل الجانب الأخلاقي والجانب المنطقي ليكونا معا العمل الفعال أو العمل التافه.
ولو رفعنا القضية إلى مستوى الأمة لوجدنا أنفسنا نتساءل: هل كان لوطننا أن يسلك الطريق الذي سلكه إلى 19 حزيران (يونيو) 1965، لو أصغى إلى صوت الجمل أو تذكر قصة جحا؟
وفي هذا المستوى، نتساءل أيضاً إذا رجعنا ثلاثين عاما إلى الوراء: هل كان يمكن لأجيال من جحا أن يستولوا على المنصة السياسية الجزائرية، ويلعبوا عليها أدوارهم المشؤومة لو تذوق الشعب الجزائري نكتة الجمل؟.
حسبنا أن نقول لكم إن جداتنا أعطيننا دروسا عالية في السياسة بقصصهن البريئة، وهن يمسحن بأصابعهن الضعيفة رؤوسنا المتوسدة على ركبهن. ولكنني أرى اليوم وأنا على أبواب الشيخوخة أن هذه الدروس لم تفدنا كثيرا.
***
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
السياسة والبلوتيك
السياسة والبلوتيك
إن العقلية الشعبية التي أوحت بالعرض السابق من مقالنا، لم تنصهر فحسب في الامثال والحكم والاستعارات، التي أشرنا إليها بوصفها أداة جدلية يستعملها الشعب للإقناع، بل قد انصهرت أيضاً في كلمات تنطلق انطلاق الرصاص ولها دويه في مواقف الغضب والاستنكار.
فحين تبدو أشياء خلال الحديث تدعو إلى الاستنكار، فإن هذه الكلمات تحمل السخط والازدراء لبعض الاكاذيب التي يريد من يريد بثها في حياتنا العامة، كما يبث المزيفون زيف عملتهم في المعاملات النقدية.
لقد انتبه الشعب منذ أمد بعيد إلى التزييف الذي بثه في حياتنا السياسية بعض الدجالين، أولئك الذين غالطوا الشعب حين بدأ يتخلص فيه من خرافات المرابطين المؤيدين من قبل الإستعمار، فعوضوا التمائم بأوراق الانتخابات، ووضعوا الزعيم ملتحيا أو أمرد مكان (الشيخ).
إلا أنه لا بأس من أن نذكر مرة أخرى حكمة (إبراهام لنكولن): قد يخدع رجل كل يوم، ويخدع شعب بعض الأيام، إلا أنه لا يخدع شعب كل يوم.
لم يمر في الجزائر زمن طويل حتى انتبه الشعب بعد بعض الاختلاسات الانتخابية، ذات النوع الجديد من التزييف، الذي أدخل تحت اسم السياسة، عددا لا يقدر من جراثيم ذلك التعفن، بعد أن أدت مفعولها المشؤوم في حقبات مضت، سيبقى لها إلى يومنا هذا بعض التأثير لأنها لم تصف بعد.
لكن الشعب الجزائري، على الرغم من المغالطة الماهرة التي خيبت أمله أكثر من مرة لم يفقد صحوته، فلم تمر عليه مدة طويلة حتى اكتشف الخدعة فميز بين السياسة والصورة التي زيفت عليها فسمى هذه الصورة المزيفة (البوليتيكا).
إن هذه الكلمة طلقة رصاص تجاه المخادعة والنفاق، إنها مكنسة كنس بها الشعب المزابل التي تكومت في سوق (البوليتيكا).
إنها كلمة انتقام وثأر! لأنها تثأر لمن تبقى لديه صفاء بصر على الرغم من الاختلاسات التي مرت.
إنها تثأر للذين نادوا بالواجبات، ورفعوا أصواتهم فوق من ينادي بالحقوق فقط، كأنما الحق شيء يعطى مجانا.
فالفرق بين السياسة و (البلوتيك) هو ذلك: أولا.
فعندما يرتفع الصخب في السوق، وتكثر حركات اليد واللسان، وعندما لا يسمع الشعب غير الحديث عن (الحقوق) دون أن يذكر بواجباته، وعندما يشرع بالطرق السهلة الناعمة، فتلك هي (البلوتيك).
لقد واجه ماركس في عهده صخبا كهذا في خصومة مع من سماهم (صانعي الكيميا المطالبة)، ومن هنا يتضح لنا أن الصراع بين السياسة و (البلوتيك) قديم جدا، وإذا أردنا أن نحددهما من الوجهة النفسية قلنا إن الأولى استبطان القيم بينما الثانية قذف مجرد للكلمات.
والأولى محاولة تأمل في الصورة المثلى لخدمة الشعب، والثانية مجرد صرخات وحركات لمغالطة الشعب واستخدامه.
ومن الناحية الفنية فـ (البلوتيك) ليست مفهوما محددا، ولو لم يضع الشعب الجزائري هذه الكلمة، ما وجدنا كلمة لنعبر بها عنها. ودراسة ملفها
ليست من اختصاص العلم، بل من اختصاص القضاء بوصفها جريمة اختلاس. وليس دونما سبب أن تكون صحيفة قد كشفت عن ارتياعها، وحاولت تغطيته بابتسامة، عندما اقترحت في إحدى مقالاتي أن يقدم المختلسون إلى المحاكمة أمام الشعب.
فبكل تأكيد، إن اقتراحي قد صب الرعب على أولئك الذين لهم أسهم في سوق (البلوتيك). ومع ذلك فقد كنت، وأنا أكتب المقالة المذكورة، أتوقع هذا النثر الذي يظهر بغير توقيع، ويأتي عن طريق قنوات مخفية تحت الأرض.
إن هؤلاء الذين يزعمون محبة الشعب، ولا يحبون مع ذلك الشخوص أمام عينيه في محكمته، وكتابهم في يمينهم، قد قالوا في الحقيقة- وهم لا يشعرون- ما تخفي صدورهم.
ولكن فلنمر في طريقنا مر الكرام.
فالبلوتيك إذن لا تحدد بصفتها شيئا له مدلول في عالم المفاهيم، ولكنها ذات تاريخ طويل في بلادنا، وفصلها الأخير له دلالة (1).
على أن الظروف قد تغيرت، ومن بين المشكلات الحادة التي يعرضها على عقولنا هذا التغيير، أن نراجع أفكارنا في السياسة.
وأول سؤال يعرض علينا هو: ماذا نعني بكلمة السياسة؟
لنأخذ الكلمة أولا في معناها المتداول والذي نجده في أي قاموس: هي العمل الذي تقوم به كل جماعة منظمة في صورة دولة. وإنه لتحديد كاف في كل وطن فيه معنى (الدولة) في منتهى الوضوح، إذ تكون وظيفتها محددة بدستور أو بتقاليد عريقة تضبطها، كما هو الأمر في إنجلترا.
__________
(1) ذكر هذا الفصل في الأصل المخطوط، ولكن حذف في النص المطبوع الذي نترجمه ولم نجده في ذاكرتنا.
أما في العالم الثالث حيث لا تزال النظم في ورشة الاختبار، وفي حالة التمرين فالمعنى الذي تتكفله تقاليد التاريخ، مفقود أو غير كاف، لأن التقاليد نفسها ما تزال في حيز التكوين.
يجب علينا أن نثري مفهوم (السياسة) بما نستطيع من ملاحظات هي في صلب الحياة. ويبقى على أية حال أن السياسة هي العمل المنظم لـ (جماعة) بكل ما تقتضيه وتفترضه كلمتا تنظيم وجماعة.
فالجماعة التي تدخل في مضمون السياسة، هي مجموعة الافراد الذين تجمع بينهم روابط تاريخية وجغرافية، تتلخص في وحدة مسوغات ووحدة مصير، وقد تكون الجماعة بهذا المفهوم (الأمة).
فبالنسبة لهذا المصطلح فالقضية واضحة إلى حد ما. أما بالنسبة لـ (التنظيم) فالأمر يختلف. فنحن نعيش في وطن هو دون التكوين والتمرين في كل مجال، أي في الدور الذي يفرض عليه أولا التفكير في قضية (العمل المنظم) (1).
ولا ينبغي أن نتصور (العمل) فحسب، بل أن نلم بالنظرة نفسها بسائر الشروط التي يفترضها العمل، حتى لا يبقى دون الهدف، ولا أن يتعدى حدود الهدف، أي- بعبارة مألوفة- حتى لا نتورط في طرفي تفريط أو إفراط.
ففي الحالة الأولى تكون السياسة مشوبة بـ (اللافعالية)، وفي الأخرى تكون مشوهة بالإجحاف. والعمل السياسي إذن يقتضي مستوى الدولة شروطا ثلاثة على الأقل:
أولا: تصور (العمل) أي تحديد السياسة بأكثر ما يمكن من الوضوح.
__________
(1) إننا حين نطرح هذه القضية بالنسبة للجزائر، نعلم أنها قضية تواجه كل بلد إسلامي.
ثانيا: تصور وسائل تحصين هذا العمل من الإحباط، حتى لا يبقى حبرا على ورق في نص الدستور أو ميثاقا أو مجرد لائحة.
ثالثا: تصور جهاز يحفظ المواطن من إجحاف العمل، إذا تعدى- عن جهل أو سوء نية- من يقوم بتنفيذه.
ولنوضح الشرط الأول قد يكفينا أن نذكر (شو إن لاي) عندما صرح بهذه الكلمات ((إن سياستنا لا تخطئ لأنها علم)).
إننا لنعلم أن العلم نفسه. قد يخطئ، ولكن تحديد السياسة بصفتها (علما) له قيمته النظرية والعملية، إذ يضمن لها على الأقل ألا تصير (بلوتيك).
أما بالنسبة للشرط الثاني فإن على الدولة أن تدافع عن عملها، أي عن سياستها، إذ الرواسب التي خلفها الإستعمار، وخلفتها (البلوتيك) في الوطن قد تجعل من الصعب تنفيذ قانون، هذا إذا لم تعرضه للازدراء وهو ما يحدث أحيانا بكل أسف (1).
ولقد نرى أحيانا القانون في يد من ينفذه، يتخذه أداة يقضي بها مصالحه، والويل إذن للمواطن الذي يكون تحت رحمته، تحت رحمة طاغية صغير يخضع باسم الدولة لهواه أو لإدارة خفية، المسكين الذي يرفض الخضوع لـ (البلوتيك).
ينبغي إذن حماية المواطن من هذا الاختلاس وذلك التحطيم، اللذين من شأنهما أن يضعا المواطن ضد الدولة وضد النظام.
فمن مصلحة الدولة العليا إذن أن تضع من أجل المواطن جهاز دفاع يحميه من عملها، حين يصبح هذا العمل إجحافا.
__________
(1) لم يقل لي أحد عندما نشرت هذه السطور: تعال وأعطنا بينات عن هذا الاتهام الخطير.
والجهاز هذا موجود بصورة دستورية في البلاد المتطورة، وعلينا في الجزائر أن نفكر جديا في الموضوع.
هذه الشروط الثلاثة هي أقل ما تتطلبه السياسة لتتميز عن (البلوتيك).
ولكن ليس هذا كل ما في الأمر، بل هنالك ما هو أبعد بكثير.
ويكفينا كي نقوم بعملنا على ما يرام، أن نسير طبقا لمبادئ لا غنى عنها، ولو أتى نصها الحرفي على لسان غيرنا، أي على لسان من هو على غير سفينتنا.
ولعل ما كنا قد اقترحناه في صدر هذا المقال من مراجعة أفكارنا السياسية قد يستفيد مما قاله لينين:
((إن كل الاحزاب الثورية التي أخفقت حتى الآن، قد أخفقت لأن الغرور قد استولى عليها، ولم تكن تقدر ما يكون قوتها، كما كانت تخشى الحديث عن جوانب الضعف فيها.
أما نحن فإننا لن نخفق، لأننا لانخشى الحديث عن ضعفنا ونتعلم كيف نتغلب عليه)).
***
إن العقلية الشعبية التي أوحت بالعرض السابق من مقالنا، لم تنصهر فحسب في الامثال والحكم والاستعارات، التي أشرنا إليها بوصفها أداة جدلية يستعملها الشعب للإقناع، بل قد انصهرت أيضاً في كلمات تنطلق انطلاق الرصاص ولها دويه في مواقف الغضب والاستنكار.
فحين تبدو أشياء خلال الحديث تدعو إلى الاستنكار، فإن هذه الكلمات تحمل السخط والازدراء لبعض الاكاذيب التي يريد من يريد بثها في حياتنا العامة، كما يبث المزيفون زيف عملتهم في المعاملات النقدية.
لقد انتبه الشعب منذ أمد بعيد إلى التزييف الذي بثه في حياتنا السياسية بعض الدجالين، أولئك الذين غالطوا الشعب حين بدأ يتخلص فيه من خرافات المرابطين المؤيدين من قبل الإستعمار، فعوضوا التمائم بأوراق الانتخابات، ووضعوا الزعيم ملتحيا أو أمرد مكان (الشيخ).
إلا أنه لا بأس من أن نذكر مرة أخرى حكمة (إبراهام لنكولن): قد يخدع رجل كل يوم، ويخدع شعب بعض الأيام، إلا أنه لا يخدع شعب كل يوم.
لم يمر في الجزائر زمن طويل حتى انتبه الشعب بعد بعض الاختلاسات الانتخابية، ذات النوع الجديد من التزييف، الذي أدخل تحت اسم السياسة، عددا لا يقدر من جراثيم ذلك التعفن، بعد أن أدت مفعولها المشؤوم في حقبات مضت، سيبقى لها إلى يومنا هذا بعض التأثير لأنها لم تصف بعد.
لكن الشعب الجزائري، على الرغم من المغالطة الماهرة التي خيبت أمله أكثر من مرة لم يفقد صحوته، فلم تمر عليه مدة طويلة حتى اكتشف الخدعة فميز بين السياسة والصورة التي زيفت عليها فسمى هذه الصورة المزيفة (البوليتيكا).
إن هذه الكلمة طلقة رصاص تجاه المخادعة والنفاق، إنها مكنسة كنس بها الشعب المزابل التي تكومت في سوق (البوليتيكا).
إنها كلمة انتقام وثأر! لأنها تثأر لمن تبقى لديه صفاء بصر على الرغم من الاختلاسات التي مرت.
إنها تثأر للذين نادوا بالواجبات، ورفعوا أصواتهم فوق من ينادي بالحقوق فقط، كأنما الحق شيء يعطى مجانا.
فالفرق بين السياسة و (البلوتيك) هو ذلك: أولا.
فعندما يرتفع الصخب في السوق، وتكثر حركات اليد واللسان، وعندما لا يسمع الشعب غير الحديث عن (الحقوق) دون أن يذكر بواجباته، وعندما يشرع بالطرق السهلة الناعمة، فتلك هي (البلوتيك).
لقد واجه ماركس في عهده صخبا كهذا في خصومة مع من سماهم (صانعي الكيميا المطالبة)، ومن هنا يتضح لنا أن الصراع بين السياسة و (البلوتيك) قديم جدا، وإذا أردنا أن نحددهما من الوجهة النفسية قلنا إن الأولى استبطان القيم بينما الثانية قذف مجرد للكلمات.
والأولى محاولة تأمل في الصورة المثلى لخدمة الشعب، والثانية مجرد صرخات وحركات لمغالطة الشعب واستخدامه.
ومن الناحية الفنية فـ (البلوتيك) ليست مفهوما محددا، ولو لم يضع الشعب الجزائري هذه الكلمة، ما وجدنا كلمة لنعبر بها عنها. ودراسة ملفها
ليست من اختصاص العلم، بل من اختصاص القضاء بوصفها جريمة اختلاس. وليس دونما سبب أن تكون صحيفة قد كشفت عن ارتياعها، وحاولت تغطيته بابتسامة، عندما اقترحت في إحدى مقالاتي أن يقدم المختلسون إلى المحاكمة أمام الشعب.
فبكل تأكيد، إن اقتراحي قد صب الرعب على أولئك الذين لهم أسهم في سوق (البلوتيك). ومع ذلك فقد كنت، وأنا أكتب المقالة المذكورة، أتوقع هذا النثر الذي يظهر بغير توقيع، ويأتي عن طريق قنوات مخفية تحت الأرض.
إن هؤلاء الذين يزعمون محبة الشعب، ولا يحبون مع ذلك الشخوص أمام عينيه في محكمته، وكتابهم في يمينهم، قد قالوا في الحقيقة- وهم لا يشعرون- ما تخفي صدورهم.
ولكن فلنمر في طريقنا مر الكرام.
فالبلوتيك إذن لا تحدد بصفتها شيئا له مدلول في عالم المفاهيم، ولكنها ذات تاريخ طويل في بلادنا، وفصلها الأخير له دلالة (1).
على أن الظروف قد تغيرت، ومن بين المشكلات الحادة التي يعرضها على عقولنا هذا التغيير، أن نراجع أفكارنا في السياسة.
وأول سؤال يعرض علينا هو: ماذا نعني بكلمة السياسة؟
لنأخذ الكلمة أولا في معناها المتداول والذي نجده في أي قاموس: هي العمل الذي تقوم به كل جماعة منظمة في صورة دولة. وإنه لتحديد كاف في كل وطن فيه معنى (الدولة) في منتهى الوضوح، إذ تكون وظيفتها محددة بدستور أو بتقاليد عريقة تضبطها، كما هو الأمر في إنجلترا.
__________
(1) ذكر هذا الفصل في الأصل المخطوط، ولكن حذف في النص المطبوع الذي نترجمه ولم نجده في ذاكرتنا.
أما في العالم الثالث حيث لا تزال النظم في ورشة الاختبار، وفي حالة التمرين فالمعنى الذي تتكفله تقاليد التاريخ، مفقود أو غير كاف، لأن التقاليد نفسها ما تزال في حيز التكوين.
يجب علينا أن نثري مفهوم (السياسة) بما نستطيع من ملاحظات هي في صلب الحياة. ويبقى على أية حال أن السياسة هي العمل المنظم لـ (جماعة) بكل ما تقتضيه وتفترضه كلمتا تنظيم وجماعة.
فالجماعة التي تدخل في مضمون السياسة، هي مجموعة الافراد الذين تجمع بينهم روابط تاريخية وجغرافية، تتلخص في وحدة مسوغات ووحدة مصير، وقد تكون الجماعة بهذا المفهوم (الأمة).
فبالنسبة لهذا المصطلح فالقضية واضحة إلى حد ما. أما بالنسبة لـ (التنظيم) فالأمر يختلف. فنحن نعيش في وطن هو دون التكوين والتمرين في كل مجال، أي في الدور الذي يفرض عليه أولا التفكير في قضية (العمل المنظم) (1).
ولا ينبغي أن نتصور (العمل) فحسب، بل أن نلم بالنظرة نفسها بسائر الشروط التي يفترضها العمل، حتى لا يبقى دون الهدف، ولا أن يتعدى حدود الهدف، أي- بعبارة مألوفة- حتى لا نتورط في طرفي تفريط أو إفراط.
ففي الحالة الأولى تكون السياسة مشوبة بـ (اللافعالية)، وفي الأخرى تكون مشوهة بالإجحاف. والعمل السياسي إذن يقتضي مستوى الدولة شروطا ثلاثة على الأقل:
أولا: تصور (العمل) أي تحديد السياسة بأكثر ما يمكن من الوضوح.
__________
(1) إننا حين نطرح هذه القضية بالنسبة للجزائر، نعلم أنها قضية تواجه كل بلد إسلامي.
ثانيا: تصور وسائل تحصين هذا العمل من الإحباط، حتى لا يبقى حبرا على ورق في نص الدستور أو ميثاقا أو مجرد لائحة.
ثالثا: تصور جهاز يحفظ المواطن من إجحاف العمل، إذا تعدى- عن جهل أو سوء نية- من يقوم بتنفيذه.
ولنوضح الشرط الأول قد يكفينا أن نذكر (شو إن لاي) عندما صرح بهذه الكلمات ((إن سياستنا لا تخطئ لأنها علم)).
إننا لنعلم أن العلم نفسه. قد يخطئ، ولكن تحديد السياسة بصفتها (علما) له قيمته النظرية والعملية، إذ يضمن لها على الأقل ألا تصير (بلوتيك).
أما بالنسبة للشرط الثاني فإن على الدولة أن تدافع عن عملها، أي عن سياستها، إذ الرواسب التي خلفها الإستعمار، وخلفتها (البلوتيك) في الوطن قد تجعل من الصعب تنفيذ قانون، هذا إذا لم تعرضه للازدراء وهو ما يحدث أحيانا بكل أسف (1).
ولقد نرى أحيانا القانون في يد من ينفذه، يتخذه أداة يقضي بها مصالحه، والويل إذن للمواطن الذي يكون تحت رحمته، تحت رحمة طاغية صغير يخضع باسم الدولة لهواه أو لإدارة خفية، المسكين الذي يرفض الخضوع لـ (البلوتيك).
ينبغي إذن حماية المواطن من هذا الاختلاس وذلك التحطيم، اللذين من شأنهما أن يضعا المواطن ضد الدولة وضد النظام.
فمن مصلحة الدولة العليا إذن أن تضع من أجل المواطن جهاز دفاع يحميه من عملها، حين يصبح هذا العمل إجحافا.
__________
(1) لم يقل لي أحد عندما نشرت هذه السطور: تعال وأعطنا بينات عن هذا الاتهام الخطير.
والجهاز هذا موجود بصورة دستورية في البلاد المتطورة، وعلينا في الجزائر أن نفكر جديا في الموضوع.
هذه الشروط الثلاثة هي أقل ما تتطلبه السياسة لتتميز عن (البلوتيك).
ولكن ليس هذا كل ما في الأمر، بل هنالك ما هو أبعد بكثير.
ويكفينا كي نقوم بعملنا على ما يرام، أن نسير طبقا لمبادئ لا غنى عنها، ولو أتى نصها الحرفي على لسان غيرنا، أي على لسان من هو على غير سفينتنا.
ولعل ما كنا قد اقترحناه في صدر هذا المقال من مراجعة أفكارنا السياسية قد يستفيد مما قاله لينين:
((إن كل الاحزاب الثورية التي أخفقت حتى الآن، قد أخفقت لأن الغرور قد استولى عليها، ولم تكن تقدر ما يكون قوتها، كما كانت تخشى الحديث عن جوانب الضعف فيها.
أما نحن فإننا لن نخفق، لأننا لانخشى الحديث عن ضعفنا ونتعلم كيف نتغلب عليه)).
***
شريف ابراهيم- نائب المدير العام
- عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى