منتديات أنوار المدينة
أهلاً وسهلااً بك زائرنا الكريم إذا كانت هذه زيارتك الأولى نرجو من حضرتك التسجيل
حتى تتمكن من استعمال العناوين الخارجية

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتديات أنوار المدينة
أهلاً وسهلااً بك زائرنا الكريم إذا كانت هذه زيارتك الأولى نرجو من حضرتك التسجيل
حتى تتمكن من استعمال العناوين الخارجية
منتديات أنوار المدينة
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تأويل مختلف الحديث الْمُقدمَات مُقَدّمَة الطبعة الثَّانِيَة

اذهب الى الأسفل

تأويل مختلف الحديث الْمُقدمَات مُقَدّمَة الطبعة الثَّانِيَة Empty تأويل مختلف الحديث الْمُقدمَات مُقَدّمَة الطبعة الثَّانِيَة

مُساهمة من طرف شريف ابراهيم الخميس 27 يوليو 2017 - 13:53

الْمُقدمَات
مُقَدّمَة الطبعة الثَّانِيَة

الْحَمد لله رب الْعَالمين الَّذِي بنعمته تتمّ الصَّالِحَات وتعظم الْخيرَات وتعم البركات، وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على من أرْسلهُ الله تَعَالَى رَحْمَة للْعَالمين وَأنزل عَلَيْهِ الْحِكْمَة وَفصل الْخطاب، وَبعد،
فَإِنَّهُ من تواصل النعم من الْمولى جلّ جَلَاله على عَبده الضَّعِيف مُحَقّق هَذَا السّفر النفيس أَن وَفقه لخدمة السّنة الشَّرِيفَة فِي تجلية مَنَاقِب هَذَا الْكتاب، وَالتَّعْلِيق على مَا ورد فِيهِ من أفكار ومعلومات، وَعرضه بالصورة اللائقة بِهِ، وفْق مَا ورد فِي الْمُقدمَة الطَّوِيلَة للطبعة الأولى، فلقي الْكتاب بذلك -وَللَّه الْحَمد- الْقبُول وَالِاسْتِحْسَان، حَتَّى جعله بعض مدرسي مَادَّة الحَدِيث الشريف فِي الجامعات بَين المراجع الْمُعْتَبرَة لطلابهم فِي كليات الشَّرِيعَة، وَطلبت مِنْهُ إِحْدَى الجامعات كميات مِنْهُ لتوزيعه على الطّلبَة.
وَذَلِكَ لما يتضمنه الْكتاب من حوار علمي موضوعي لتجلية الصَّوَاب، وَلما يلقيه من أضواء على رؤى الْمدَارِس الفكرية الإسلامية فِي وَقت مبكر واجتهاداتها فِي تقييم الْأَحَادِيث الشَّرِيفَة من نَاحيَة الْمَوْضُوع؛ لَا من نَاحيَة السَّنَد فَقَط؛ كَمَا اعتاده عُلَمَاء الحَدِيث، وفْق الْقَوَاعِد الَّتِي وضعوها فِي علم مصطلح الحَدِيث.
وَلَقَد رَأَيْت أَن أشرك معي فِي إِعَادَة النّظر مرّة أُخْرَى بالتحقيق والتقييم تمهيدًا لإعادة طباعة الْكتاب طبعة ثَانِيَة الْأَخ الشَّيْخ مُحَمَّد بدير الَّذِي جمعتني بِهِ زمالة الْعَمَل والاهتمام بِخِدْمَة الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة فِي مكتب الدراسات الشَّرْعِيَّة بصندوق الزَّكَاة فِي قطر، وَذَلِكَ لما خبرته فِيهِ من غيرَة
علمية، وحرص على بَيَان الْحَقِيقَة بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيّ، والمنافحة عَن دين الله تَعَالَى والالتزام بالمنهج العلمي فِي التأصيل والتدوين.
وَقد رحب بذلك مشكورًا، فَقَرَأَ الْكتاب من أَلفه إِلَى يائه، وَكَانَت لَهُ ملاحظات مُخْتَلفَة، بَعْضهَا فِي تقييم بعض الْأَحَادِيث وَبَيَان دَرَجَة صِحَّتهَا، وَبَعضهَا فِي تَعْلِيق وَشرح ابْن قُتَيْبَة رَحمَه الله تَعَالَى وَقد أدرجت هَذِه الملاحظات، وميزتها عَن عَمَلي بِذكر اسْمه فِي نهايتها؛ عقب سردها فِي الْحَاشِيَة، فجزاه الله خيرا على ذَلِك.
وَهَكَذَا فقد تميزت هَذِه الطبعة بمزيد من التَّنْقِيح والتصحيح، وتعدد النّظر والرؤى، وأسأل الله تَعَالَى أَن ينفع بِهَذَا الْكتاب طلبة الْعلم والباحثين والدراسين؛ وَأَن يغْفر الله تَعَالَى لنا الزلات والأخطاء إِذا وجدت، وَأَن يَجْعَل هَذَا الْعَمَل مبرورًا، ويتقبله برحمة مِنْهُ وَفضل، وَأَن يعمنا بثوابه ومغفرته مَعَ الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى، وَكَذَا من قَرَأَهُ ودرسه واستفاد مِنْهُ.
وَللَّه الْحَمد فِي الأولى وَالْآخِرَة.
الدوحة فِي 15/ ذُو الْقعدَة 1418هـ
14/ 3/ 1998م
مُحَمَّد محيي الدَّين الْأَصْفَر
شريف ابراهيم
شريف ابراهيم
نائب المدير العام
نائب المدير العام

عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تأويل مختلف الحديث الْمُقدمَات مُقَدّمَة الطبعة الثَّانِيَة Empty بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مُقَدِّمَةُ الْمُحَقق للطبعة الأولى:

مُساهمة من طرف شريف ابراهيم الخميس 27 يوليو 2017 - 13:58

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مُقَدِّمَةُ الْمُحَقق للطبعة الأولى:
إِن الْحَمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه وَنَسْتَغْفِرهُ، ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا وسيئات أَعمالنَا، من يهده الله فَلَا مضل لَهُ، وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ، وَأشْهد أَلا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ بلغ الرسَالَة وَأدّى الْأَمَانَة ونصح الْأمة وجاهد فِي الله حق جهاده صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا، وَبعد،
فَإِن الْوَحْي الَّذِي تنزل على الرَّسُول الْخَاتم لم يقْتَصر على النَّص المعجز المتعبد بتلاوته "الْقُرْآن الْكَرِيم" بل شَمل كَذَلِك مَا رُوِيَ عَن الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السّنة من قَول أَو عمل أَو تَقْرِير أَو صفة.
وَقد شهد الْقُرْآن الْكَرِيم بشمول الْوَحْي لمصدري التشريع كليهمَا -الْقُرْآن الْكَرِيم وَالسّنة الشَّرِيفَة- بقوله تَعَالَى:
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 1.
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 2.
{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 3.
كَمَا أكد الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْمَعْنى بقوله: "إِنِّي أُوتيت الْكتاب وَمثله مَعَه" 4.
__________
1 سُورَة النَّجْم: الْآيَة 3: 4.
2 سُورَة آل عمرَان: الْآيَة 31.
3 سُورَة النِّسَاء: الْآيَة: 80.
4 أخرجه أَبُو دَاوُد: كتاب السّنة6، وَأحمد4/ 4/ 131.
إِن الْحَمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه وَنَسْتَغْفِرهُ، ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا وسيئات أَعمالنَا، من يهده الله فَلَا مضل لَهُ، وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ، وَأشْهد أَلا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ بلغ الرسَالَة وَأدّى الْأَمَانَة ونصح الْأمة وجاهد فِي الله حق جهاده صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا، وَبعد،
فَإِن الْوَحْي الَّذِي تنزل على الرَّسُول الْخَاتم لم يقْتَصر على النَّص المعجز المتعبد بتلاوته "الْقُرْآن الْكَرِيم" بل شَمل كَذَلِك مَا رُوِيَ عَن الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السّنة من قَول أَو عمل أَو تَقْرِير أَو صفة.
وَقد شهد الْقُرْآن الْكَرِيم بشمول الْوَحْي لمصدري التشريع كليهمَا -الْقُرْآن الْكَرِيم وَالسّنة الشَّرِيفَة- بقوله تَعَالَى:
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 1.
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 2.
{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 3.
كَمَا أكد الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْمَعْنى بقوله: "إِنِّي أُوتيت الْكتاب وَمثله مَعَه" 4.
__________
1 سُورَة النَّجْم: الْآيَة 3: 4.
2 سُورَة آل عمرَان: الْآيَة 31.
3 سُورَة النِّسَاء: الْآيَة: 80.
4 أخرجه أَبُو دَاوُد: كتاب السّنة6، وَأحمد4/ 4/ 131.
فبالإضافة إِلَى أَن السّنة صنو الْقُرْآن الْكَرِيم من حَيْثُ الدّلَالَة، فَهِيَ كَذَلِك شارحة لقواعده الْعَامَّة ومفصلة لمجمله، ومبينة لمعانيه، قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . فَهِيَ جُزْء لَا يتَجَزَّأ من كَمَال الرسَالَة وتمامها.
وَلم تكن هَذِه الْحَقِيقَة مَوضِع خلاف بَين الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم، بل كَانَت من البدهيات الْمُسلم بهَا وَالْمجْمَع عَلَيْهَا نصا وَعَملا.
تدوين السّنة فِي عهد النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَلَكِن السّنة لم تدون فِي حَيَاة النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خشيَة اختلاطها بِالْقُرْآنِ الْكَرِيم كَمَا هُوَ مَعْرُوف من نهي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ بَقِي الْأَمر على هَذَا الْحَال فِي عهد الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم إِلَّا من استثناءت خَاصَّة لبَعض الصَّحَابَة المعروفين بعلمهم وضبطهم، فَكَانَت لبَعْضهِم مدوناته فِي السّنة، بِالْإِضَافَة إِلَى أَن مَنْهَج الاستيثاق وضعت معالمه فِي وَقت مبكر حِين جمع كتاب الله تَعَالَى فِي عهد الْخَلِيفَة أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ ثمَّ فِي عهد عُثْمَان رَضِي عَنهُ، وَكَانَ لَا بُد من شَهَادَة اثْنَيْنِ من الصَّحَابَة على الْأَقَل حَتَّى يتم تدوين الْآيَة فِي موضعهَا من الْقُرْآن الْكَرِيم، وَقد انسحب هَذَا الشَّرْط على قبُول الحَدِيث أَيْضا، فَلم يُقبل حديثٌ من راوٍ مَا لم يتوفر لَهُ شَاهد أَو أَكثر، وَقد تورع كثير من الصَّحَابَة عَن رِوَايَة الحَدِيث مَا لم يَكُونُوا على يَقِين تَامّ مِمَّا ينقلون، حَيْثُ أَن أَمر حفظ السّنة وتناقل رِوَايَات الحَدِيث لم يكن مُشكلا طالما أَن جيل الصَّحَابَة كَانَ مَوْجُودا.
تدوين السّنة بعد جيل الصَّحَابَة:
وَلما بَدَأَ جيل الصَّحَابَة يتناقص وامتد الْإِسْلَام إِلَى شعوب وأمم أُخْرَى، وَكَانَت الْأَحَادِيث تتناقل شفاهة بشروطها التوثيقية، شعر الْمُسلمُونَ بضرورة تدوين السّنة كَامِلَة، وبذل عُلَمَاء السّنة جزاهم الله خيرا جهودًا محمودة فِي تدوينها، وَوضعت عُلُوم مُتعَدِّدَة لتنقية السّنة من الشوائب الَّتِي ابتدعها أَصْحَاب الْأَهْوَاء والنحل الْبَاطِلَة، وَكَانَ الأساس فِي تدوين السّنة
مَنْهَج الاستيثاق الَّذِي اعْتَمدهُ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي وَقت مبكر بعد أَن طوروه إِلَى الصُّورَة الَّتِي جعلت مِنْهُ خير مَنْهَج علمي موضوعي يُمكن أَن يتوافر عَلَيْهِ بشر، حَتَّى أننا لَا نعهد فِي التَّارِيخ العالمي نبيًّا أَو عَظِيما بُذِلَ فِي سَبِيل تَحْقِيق مَنْطُوق كَلَامه وَمَا رُوِيَ عَن أَحْوَاله وَسيرَته بشكل عَام مَا توفر للرسول الْخَاتم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَلَا غرابة فِي ذَلِك فَإِن من لَوَازِم الرسَالَة الخاتمة وصولها نصًّا سليما وبيانًا صَحِيحا كثمرة للْحِفْظ الرباني لهَذَا الدَّين: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . فقيض الله لَهُ من يدْفع عَنهُ الشّبَه ويجلي الْحَقِيقَة، وينقله بِسَنَد مُتَّصِل على هَذَا النَّحْو من السَّلامَة والدقة.
وَلَا شكّ أَن من نعم الله تَعَالَى على هَذِه الْأمة أَن كَانَ ظُهُور الْفِتْنَة فِيهَا مترافقًا مَعَ وجود جيل الْأَصْحَاب -حفظَة الحَدِيث- الْمَشْهُود لَهُم من رَسُول الله، الْأَمر الَّذِي أدّى إِلَى تدوين وتوثيق السّنة بِحَيْثُ تحققت دَرَجَة صِحَة الحَدِيث وحجيته بِمَا لَا يدع مجالًا لشُبْهَة.
وَهَكَذَا لم يخْتَلف جُمْهُور عُلَمَاء الْأمة على وجوب الْأَخْذ بِالسنةِ وَالِاسْتِدْلَال بهَا عملا بقوله تَعَالَى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . وَلَا يعْتد بِرَأْي بَعضهم مِمَّن جنحت بِهِ الْأَهْوَاء وأضلته الْفِتَن.
اتجاه عُلَمَاء السّنة فِي عملية التدوين وَدفع الشّبَه:
وَقد اتجه عُلَمَاء السّنة فِي بنائهم لصرحها اتجاهين واضحين لَا يُغني أَحدهمَا عَن الآخر: الأول فِي تدوين السّنة الصَّحِيحَة بإسنادها، وَالثَّانِي دفع الشّبَه والأهواء الْبَاطِلَة وَبَيَان وَجه الْحَقِيقَة فِي ذَلِك.
وَيُمكن أَن يصنف هَذَا الْكتاب "تَأَول مُخْتَلف الحَدِيث" ضمن الْمَجْمُوعَة الثَّانِيَة فِي الدفاع عَن السّنة، ويتميز بِأَنَّهُ عرض الشّبَه الَّتِي أثيرت حول تنَاقض بعض الْأَحَادِيث فِيمَا بَينهَا، أَو معارضتها لآيَات فِي كتاب الله تَعَالَى، أَو خُرُوجهَا عَن منطق الْعقل ومبادئ الْفِكر الْمُتَعَارف عَلَيْهَا، أَو مخالفتها لمألوف النَّاس ومعروفهم، أَو لسنن الطبيعة وقوانينها العلمية. تِلْكَ
الشّبَه الَّتِي أثارها المخالفون، الْأَمر الَّذِي حملهمْ على إِسْقَاط بعض الْأَحَادِيث وتعطيلها.
وَلَقَد كَانَ عمل الْمُؤلف رَحمَه الله بَيَان الْحَقِيقَة بالأدلة العلمية، وتفنيد المزاعم وكشف قُصُور الْفَهم بالملابسات المرافقة لوُرُود النَّص..
وَيعْتَبر هَذَا الْكتاب -إِضَافَة إِلَى كتب أُخْرَى فِي الْمَوْضُوع نَفسه- نَافِذَة نطل مِنْهَا على التيارات الفكرية والمذهبية الَّتِي كَانَت مَوْجُودَة فِي الْقرن الثَّالِث، مِمَّا يعْتَبر سجلًا حيًّا وَشَاهدا وَاضحا على مَا دَار فِي عصر الْمُؤلف من مناظرات ومنازعات وحوار رسخت فِيهَا أَقْدَام، وزلت بهَا عَن الْحق أفهام. وَهِي على كل حَال سجل تاريخي يُغني ويثري الْفِكر الإسلامي، ويعين على التَّمَسُّك بالنافع الصَّالح، كَمَا يبصر بالمزالق والأهواء.
وسنفصل فِيمَا يَلِي أَسبَاب الِاخْتِلَاف فِي اعْتِبَار السّنة الْمصدر التشريعي الثَّانِي؛ ليَكُون ذَلِك مدخلًا نفهم من خلاله بوضوح موقع هَذَا الْكتاب، ثمَّ نعطي فكرة منهجية عَنهُ وعملنا فِيهِ، وننهي الْمُقدمَة بِالْحَدِيثِ عَن الْمُؤلف ومكانته العلمية ومساهماته فِي الاهتمامات العلمية والثقافية والمذهبية السائدة فِي عصره.
ونسأل الله تَعَالَى أَن يَجْزِي الْمُؤلف خير مَا يَجْزِي الْعلمَاء العاملين، وَأَن يَجْعَل عَملنَا خَالِصا لوجهه الْكَرِيم يثيبنا عَلَيْهِ بفضله وَرَحمته إِنَّه البَرُّ الرَّحِيم.
شريف ابراهيم
شريف ابراهيم
نائب المدير العام
نائب المدير العام

عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تأويل مختلف الحديث الْمُقدمَات مُقَدّمَة الطبعة الثَّانِيَة Empty أَسبَاب الِاخْتِلَاف فِي اعْتِبَار السّنة الْمصدر التشريعي الثَّانِي:

مُساهمة من طرف شريف ابراهيم الخميس 27 يوليو 2017 - 14:04

أَسبَاب الِاخْتِلَاف فِي اعْتِبَار السّنة الْمصدر التشريعي الثَّانِي:
لَعَلَّ معرفَة أَسبَاب الِاخْتِلَاف فِي اعْتِبَار السّنة الْمصدر التشريعي الثَّانِي عِنْد عُلَمَاء الْمُسلمين وَالْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين يلقِي ظلالًا موضوعية على قَضِيَّة هَذَا الْكتاب الَّذِي بَين أَيْدِينَا.
فَلَا خلاف فِي إِجْمَاع الْعلمَاء على اعْتِبَار السّنة الْمصدر التشريعي الثَّانِي بعد كتاب الله تَعَالَى "الْقُرْآن الْكَرِيم" لَكِن السّنة لم تدون كلهَا فِي الْقرن الأول الهجري كَمَا أسلفنا، فقد فكر الْخَلِيفَة الثَّانِي عمر بن الْخطاب فِي تدوينها، وَلكنه بعد التروي والتشاور لم يقدم على ذَلِك لسببين فِيمَا نعتقد: لِأَنَّهُ كَانَ حَرِيصًا على اتِّبَاع مَنْهَج صَاحِبيهِ السالفين، فَأَبُو بكر لم يَفْعَله وَلَا أذن بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم؛ وَلِأَن الْحَاجة لم تكن قَائِمَة فِي ذَلِك الْوَقْت إِلَى التدوين؛ فالجيل الَّذِي كَانَ يحفظ السّنة شفاهة ويجسدها بسلوكه عملا لَا يزَال مَوْجُودا.
وَهَكَذَا لم ينفذ عمر رَضِي الله عَنهُ مَا فكر فِيهِ، وانقضى الْقرن الأول الهجري من غير أَن تدون السّنة عدا مَا رُوِيَ من أَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ كَانَت لَهُ صحيفَة اسْمهَا "الصادقة" دون فِيهَا الْأَحَادِيث الَّتِي سَمعهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم بِنَفسِهِ، وَلَعَلَّ ذَلِك كَانَ بِإِذن خَاص مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم، فقد رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: "كنت أَكثر الصَّحَابَة حفظا لحَدِيث رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فقد كَانَ يكْتب وَلَا أكتب"1.
__________
1 الحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ رقم113/ كتاب الْعلم.
تَوْثِيق الحَدِيث:
وعَلى الرغم من عدم التدوين إِلَّا أَن الصَّحَابَة مَعَ ذَلِك اتَّخذُوا بعض الاحتياطات الَّتِي لَا بُد مِنْهَا للوثوق بِرِوَايَة الحَدِيث، وتحروا الدقة فِي نَقله، فقد كَانَ أَبُو بكر الصّديق لَا يقبل الحَدِيث إِلَّا من راوٍ يُؤَيّدهُ شَاهد، وَعمر بن الْخطاب كَانَ يطْلب من الرَّاوِي أَن يَأْتِي بِالْبَيِّنَةِ على رِوَايَته، وَعلي بن أبي طَالب كَانَ يسْتَحْلف الرَّاوِي. وَلَكِن هَذِه الاحتياطات -وَإِن حققت الْغَرَض مِنْهَا فِي عهد الصَّحَابَة- إِلَّا أَن الْحَاجة أَصبَحت ماسة فِيمَا بعد إِلَى التدوين؛ نظرا لتفرق الصَّحَابَة وانقراضهم تدريجيًا، وَدخُول الْإِسْلَام إِلَى بِلَاد جَدِيدَة وانسياح الْمُسلمين فِي الأَرْض، وتناقل حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم عَن الْأَصْحَاب شفاهة بالروايات ذَات السَّنَد الصَّحِيح أَو غَيره.
وَقد كَانَ لعدم تدوين السّنة أثران:
"أَحدهمَا": أَنه دفع عُلَمَاء الْمُسلمين إِلَى بذل جهود خَاصَّة فِي دراسة حَال رُوَاة الحَدِيث ودرجة الثِّقَة بهم، وانقسمت الأحادث بِاعْتِبَار رواتها إِلَى قَطْعِيَّة الثُّبُوت وظنية الثُّبُوت، كَمَا انقسمت دَرَجَات الحَدِيث من حَيْثُ الْقبُول وَالرَّدّ إِلَى صَحِيح وَحسن وَضَعِيف، وَأسسَ فن الرِّوَايَة وَوضعت فِيهِ مؤلفات.
"وَثَانِيهمَا" أَن عدم التدوين ترك فرْصَة للتحريف وَالزِّيَادَة وَالنَّقْص خطأ أَو عمدا، لذَلِك لم يجمع الْمُسلمُونَ على السّنة كلهَا كَمَا أَجمعُوا على الْقُرْآن كُله، مِمَّا أدّى إِلَى اخْتلَافهمْ فِي الِاحْتِجَاج بهَا حسب دَرَجَة اعْتِبَار الصِّحَّة لديهم.
التحزب السياسي والانقسام المذهبي:
إِن الانحياز والتحزب السياسي الَّذِي نَشأ بِسَبَب مَفْهُوم الْخلَافَة وَاخْتِيَار شخصية الْخَلِيفَة أَخذ شكلًا دينيًّا ذَا أثر خطير فِي اعْتِمَاد بعض الْأَحَادِيث ورفض بَعْضهَا الآخر، وَذَلِكَ أَنه بعد مقتل عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ بُويِعَ بالخلافة عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ الله عَنهُ، ونازعه الْخلَافَة مُعَاوِيَة بن

أبي سُفْيَان رَضِي الله عَنْهُمَا لأسباب ومسوغات لَا مجَال لذكرها هُنَا، واشتدت الْفِتْنَة بَين الْفَرِيقَيْنِ وانتهت إِلَى التَّحْكِيم، ونتج عَن ذَلِك انقسام الْمُسلمين إِلَى طوائف ثَلَاثَة: الْخَوَارِج، والشيعة، وَأهل السّنة وَالْجَمَاعَة، وهم جُمْهُور الْأمة.
1- أما الْخَوَارِج فهم جمَاعَة من الْمُسلمين نقموا من عُثْمَان سياسته فِي خِلَافَته، ونقموا من عَليّ قبُول التَّحْكِيم، ونقموا من مُعَاوِيَة توليه الْخلَافَة بِالْقُوَّةِ والسياسة، فَخَرجُوا على جَمِيع الْأَطْرَاف، وَكَانَ مبدؤهم أَن خَليفَة الْمُسلمين يَنْبَغِي أَن ينتخب انتخابًا من الْمُسلمين مِمَّن توفرت فِيهِ الْكَفَاءَة لَهَا، سَوَاء أَكَانَ قرشيًّا أم غير قرشي حَتَّى وَلَو كَانَ عبدا حبشيًّا، وَأَنه لَا تجب طَاعَته إِلَّا إِذا كَانَ مُلْتَزما الْقُرْآن وَالسّنة، فَإِن تجاوزهما وَجب الْخُرُوج عَلَيْهِ وسلكوا فِي تأييد مبدئهم ومجاهدة خصومهم وَسَائِل العنف والشدة فِي حروبهم.
2- وَأما الشِّيعَة فهم جمَاعَة من الْمُسلمين رَأَوْا تَفْضِيل عَليّ بن أبي طَالب وَذريته وأحقيتهم بالخلافة وأفرطوا فِي ذَلِك؛ لأَنهم يرَوْنَ أَنه الَّذِي أوصى لَهُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالخلافة من بعده، ثمَّ انقسموا فِيمَا بَينهم بشأن توارث هَذِه الْخلَافَة إِلَى كيسانية وزيدية وإسماعيلية وجعفرية، وكل فرقة تجْعَل الْخلَافَة فِي فرع خَاص من ذُرِّيَّة عليّ.
3- وَأما جمهرة الْمُسلمين فَلم يذهبوا مَذْهَب الْخَوَارِج وَلَا الشِّيعَة وَلم يرَوا أَن الْخلَافَة وَصِيَّة لأحد، وَرَأَوا أَن الْخَلِيفَة ينتخب من أكفاء قُرَيْش إِن وجد، ويؤولون مَا كَانَ بَينهم من خصومات بِأَنَّهَا كَانَت اجتهادية.
هَذَا الانقسام السياسي كَانَ لَهُ أثر فِي أَن الْخَوَارِج رفضوا الْأَحَادِيث الَّتِي رَوَاهَا عُثْمَان أَو عَليّ أَو مُعَاوِيَة أَو رَوَاهَا صَحَابِيّ مِمَّن ناصروا وَاحِدًا مِنْهُم، وردوا كل أَحَادِيثهم وآرائهم وفتاويهم، واقتصروا على مَا رُوِيَ عَمَّن يرضونهم وَرِوَايَات عُلَمَائهمْ وفتاويهم.
وَكَذَلِكَ الشِّيعَة اشترطوا فِي قبُول الحَدِيث أَن يكون من رِوَايَة آل
الْبَيْت والفتاوى الَّتِي صدرت عَنْهُم، وَبِهَذَا كَانَ لَهُم أَيْضا فقه خَاص.
وَأما جُمْهُور الْمُسلمين فَكَانُوا يحتجون بِكُل حَدِيث توافرت لراويه الشُّرُوط الْمَطْلُوبَة بِلَا تَفْرِيق بَين صَحَابِيّ وَآخر، وَيَأْخُذُونَ بفتاوى الصَّحَابَة وآرائهم جَمِيعًا، وعَلى الرغم من اتِّفَاق جُمْهُور عُلَمَاء الْمُسلمين على هَذِه الخطة الموضوعية فِي قبُول الحَدِيث -بِاعْتِبَار الصَّحَابَة جَمِيعًا عُدُولًا موثوقين- دون النّظر إِلَى مواقفهم السياسية من قَضِيَّة الْفِتْنَة الْكُبْرَى.
لكِنهمْ بِالْإِضَافَة إِلَى ذَلِك اخْتلفُوا فِي الخطة التشريعية الَّتِي تبناها كل مِنْهُم، وَقد نَشأ ذَلِك بِنَاء على اخْتلَافهمْ فِي تَقْدِير بعض مصَادر التشريع، وَقد تجلى ذَلِك على وَجه الْإِجْمَال فِيمَا يَأْتِي:
أَسبَاب الِاخْتِلَاف بَين الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين:
1- أولًَا: من حَيْثُ دَرَجَة ثُبُوت الحَدِيث وَالْمِيزَان الَّذِي ترجح بِهِ رِوَايَة على أُخْرَى، وَذَلِكَ أَن قبُول السّنة كمصدر للْأَحْكَام مَبْنِيّ على الوثوق برواتها، وطرق رِوَايَتهَا، كَمَا اخْتلف الْأَئِمَّة فِي مقاييس الْقبُول: فمجتهدو الْعرَاق: أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه يحتجون بِالْحَدِيثِ الْمُتَوَاتر وَالْمَشْهُور، وَمَا يُقَاس عَلَيْهِمَا من رَأْي اجتهادي يقدمونه على حَدِيث خبر الْآحَاد حَال مُخَالفَته، قَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله: "وَعَلَيْك بِمَا عَلَيْهِ الْجَمَاعَة من الحَدِيث، وَمَا يعرفهُ الْفُقَهَاء".
ومجتهدو الْمَدِينَة: مَالك وَأَصْحَابه يرجحون إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة ويقدمونه فِي الِاسْتِدْلَال على خبر الْآحَاد.
وَأما بَاقِي الْأَئِمَّة: فيحتجون بِمَا رَوَاهُ الْعُدُول الثِّقَات سَوَاء وَافق عمل أهل الْمَدِينَة أَو خَالفه. وترتب على هَذَا أَن مجتهدي أهل الْعرَاق جعلُوا الْمَشْهُور فِي حكم الْمُتَوَاتر، وخصصوا بِهِ الْعَام فِي الْقُرْآن الْكَرِيم، وقيدوا بِهِ الْمُطلق، وترتب أَيْضا أَن مَرَاسِيل الصَّحَابَة من الحَدِيث وَهِي الَّتِي رَوَاهَا صَحَابِيّ بقوله: أَمر رَسُول الله بِكَذَا أَو نهى عَن كَذَا أَو قضى بِكَذَا -من غير أَن يُصَرح بِأَنَّهُ سمع ذَلِك بِنَفسِهِ أَو شافهه أَو شَاهده- يحْتَج بهَا بعض
الْمُجْتَهدين وَلَا يحْتَج بهَا بَعضهم الآخر، وَهَذَا الِاخْتِلَاف فِي طَرِيق قبُول بعض الْأَحَادِيث أدّى إِلَى قبُول بعض الْأَحَادِيث من قبل جمَاعَة من الْفُقَهَاء وردهَا من قبل آخَرين، وَرُبمَا رجح بَعضهم حكما بِحَدِيث هُوَ مَرْجُوح عِنْد الآخر، وَنَشَأ عَن هَذَا اخْتِلَاف الْأَحْكَام1.
2- وَثَانِيا: اخْتلَافهمْ فِي فَتَاوَى الصَّحَابَة وتقديرها، فَإِن الْأَئِمَّة اخْتلفُوا فِي الْفَتَاوَى الاجتهادية الَّتِي صدرت عَن أَفْرَاد الصَّحَابَة، فَأَبُو حنيفَة وَمن تَابعه لم يتقيدوا بفتوى مُعينَة لصحابي شريطة أَن لَا يخرجُوا عَن فتاويهم جَمِيعًا.
بَيْنَمَا كَانَ يرى الشَّافِعِي وَمن تَابعه أَن فَتَاوَى الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَتَاوَى اجتهادية من أَفْرَاد غير معصومين، فَلهم إِذن أَن يَأْخُذُوا بأية فَتْوَى مِنْهَا، كَمَا أَن لَهُم أَن يفتوا بِخِلَافِهَا كلهَا. وَعَن هَذَا نَشأ اخْتِلَاف فِي الْأَحْكَام.
3- ثَالِثا: فِي الْقيَاس؛ فَإِن بعض الْمُجْتَهدين من الشِّيعَة والظاهرية أَنْكَرُوا الِاحْتِجَاج بِالْقِيَاسِ وَنَفَوْا أَن يكون مصدرا للتشريع وَلِهَذَا سموا: نفاة الْقيَاس، وَجُمْهُور الْأَئِمَّة احْتَجُّوا بِالْقِيَاسِ وعدوه الْمصدر التشريعي الرَّابِع بعد الْقُرْآن الْكَرِيم وَالسّنة الشَّرِيفَة وَالْإِجْمَاع، وَلَكنهُمْ مَعَ اتِّفَاقهم على أَنه حجَّة اخْتلفُوا فِيمَا يصلح أَن يكون عِلّة للْحكم ويبنى عَلَيْهِ الْقيَاس، حَيْثُ يشْتَرط بَعضهم أَن يكون مَنْصُوصا على عِلّة الحكم، وَنَشَأ عَن هَذَا أَيْضا اخْتِلَاف فِي الْأَحْكَام.
4- رَابِعا: وَأما اخْتلَافهمْ فِي النزعة التشريعية، فقد ظهر فِي انقسامهم إِلَى فريق أهل الحَدِيث وَمِنْهُم أَكثر مجتهدي أهل الْحجاز، وفريق أهل الرَّأْي وَمِنْهُم أَكثر مجتهدي أهل الْعرَاق.
وَلَيْسَ معنى هَذَا الانقسام أَن فُقَهَاء الْعرَاق يصدرون فِي تشريعهم عَن
__________
1 قَالَ الزَّرْكَشِيّ: "يجوز تَخْصِيص عُمُوم الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد عِنْد الْجُمْهُور، وَهُوَ الْمَنْقُول عِنْد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة "الْبَحْر الْمُحِيط فِي أصُول الْفِقْه 3/ 364" -مُحَمَّد بدير-.
الِاجْتِهَاد بِالرَّأْيِ فَقَط، لأَنهم جَمِيعًا متفقون على أَن الحَدِيث حجَّة شَرْعِيَّة ملزمة، وَأَن الِاجْتِهَاد بِالرَّأْيِ أَي بِالْقِيَاسِ حجَّة شَرْعِيَّة فِيمَا لَا نَص فِيهِ.
بَين أهل الرَّأْي وَأهل الحَدِيث:
وَمعنى هَذَا الانقسام وَسبب هَذِه التَّسْمِيَة أَن فُقَهَاء الْعرَاق أَمْعَنُوا النّظر فِي مَقَاصِد الشَّرْع وَفِي الأسس الَّتِي بني عَلَيْهَا التشريع، فاقتنعوا بِأَن الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مَعْقُول مَعْنَاهَا ومقصود بهَا تَحْقِيق مصَالح النَّاس، وبأنها تعتمد على مبادئ وَاحِدَة ترمي إِلَى غَايَة وَاحِدَة، وَهِي لهَذَا لَا بُد أَن تكون متسقة، لَا تعَارض وَلَا تبَاين بَين نصوصها وأحكامها، وعَلى هَذَا الأساس يفهمون النُّصُوص، ويرجحون نصًّا على نَص، ويستنبطون فِيمَا لَا نَص فِيهِ، وَلَو أدّى استنباطهم على هَذَا الأساس إِلَى صرف نَص عَن ظَاهره أَو ترك نَص إِلَى آخر؛ وهم من أجل هَذَا لَا يتحرجون من التَّوَسُّع فِي الِاجْتِهَاد بِالرَّأْيِ، ويجعلون لَهُ مجالًا فِي أَكثر بحوثهم التشريعية.
وَهُنَاكَ فُقَهَاء عنوا بِحِفْظ الحَدِيث وفتاوى الصَّحَابَة، واجتمعوا فِي تشريعهم إِلَى فهم هَذِه الْآثَار حَسْبَمَا تدل عَلَيْهِ عبارتها، وَكَانُوا من أجل هَذَا يتحرجون من الِاجْتِهَاد بِالرَّأْيِ، وَلَا يلجئون إِلَيْهِ إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة القصوى، وأغلب هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاء كَانُوا من أهل الْحجاز. وَرُبمَا كَانَ سَبَب ذَلِك أَن أهل الْحجاز لم يشعروا بضرورة الاستزادة من فقه الرَّأْي، لِأَن مشكلات مجتمعهم الَّتِي يواجهونها لم تتبدل بِالْقدرِ نَفسه الَّذِي واجهه أهل الْعرَاق مِمَّا دفعهم إِلَى الاستزادة من الِاجْتِهَاد بِالرَّأْيِ.
وَلَقَد اتهمهم مخالفوهم بِأَنَّهُم لَا ينظرُونَ فِي علل الْأَحْكَام، فَإِذا وجدوا مَا فَهموا من النَّص لَا يتَّفق مَعَ مَا يَقْتَضِيهِ الْعقل لم يبالوا بِهَذَا، وَقَالُوا: هُوَ النَّص، واتهموهم بالجمود والسطحية وَعدم فهم روح الشَّرِيعَة ومقاصدها الْعَامَّة، حَتَّى غلبوا أَحَادِيث ضَعِيفَة أَو مرجوحة على النُّصُوص القرآنية الْعَامَّة الَّتِي أكدت على مصَالح الْعباد، وَكَانَت أهدافها تسْعَى للمحافظة على الكليات الْخمس: الدَّين وَالنَّفس وَالْعقل والنسل وَالْمَال، بل
رُبمَا تَعَارَضَت بعض أَحَادِيث الْآحَاد وَالْأَحَادِيث الضعيفة مَعَ بدهيات الْعقل ومسلمات الْمنطق وحقائق الْعلم مِمَّا يُؤَكد بُطْلَانهَا، وَمَعَ ذَلِك فقد استمسكوا بهَا وجمدوا عَلَيْهَا، فعطلوا الْمصَالح وخالفوا الْمَقَاصِد لروايات ظهر بُطْلَانهَا بِالْحجَّةِ وَالْعقل ومقاصد الشَّرْع ... إِلَخ.
ودافع أهل الحَدِيث عَن موقفهم، واتهموا مخالفيهم بتغليب الرَّأْي على النَّص، ومتابعة الْهوى، وَأَن طعنهم بالأحاديث المروية الَّتِي تخَالف آراءهم لَيْسَ مبنيًّا على الْأُصُول الَّتِي وَضعهَا المحدثون فِي تحري سَلامَة الرِّوَايَة بالتأكد من سَلامَة السَّنَد، بل نصبوا أنفسهم محكمين فَمَا وَافق عُقُولهمْ الكليلة المحدودة قبلوه وَإِلَّا طعنوا فِيهِ، وَلَيْسَ هَذَا من شَأْن مُسلم يفترض أَن يحمل نَفسه على اتِّبَاع النَّص والإذعان لَهُ. واحتدم الْأَمر أَكثر بِظُهُور فِئَة "الْمُعْتَزلَة" الَّتِي أَعْطَتْ لِلْعَقْلِ مكانة خَاصَّة، إِذْ لَا يعقل فِي نظرهم أَن يتعارض نَص مَعَ الْعقل الَّذِي احتكمت إِلَيْهِ النُّصُوص أَحْيَانًا فِي النّظر وَالِاسْتِدْلَال؛ وَلذَلِك ردوا كل رِوَايَة يتناقض نَصهَا مَعَ منطق الْعقل.
وتفاقم الصراع بَين هَذِه الْمدَارِس، وَكَانَ لكل مِنْهَا عُلَمَاء وحجج ونظرات، وألفت فِي ذَلِك كتب دَافع بهَا كل أَصْحَاب مَذْهَب عَن مَذْهَبهم.
وَالْكتاب الَّذِي بَين أَيْدِينَا "تَأْوِيل مُخْتَلف الحَدِيث" ينتصر فِيهِ ابْن قُتَيْبَة -وَهُوَ من أَعْلَام مدرسة الحَدِيث- لمدرسة أهل الحَدِيث، وَيدْفَع حجج الْمدَارِس الْمُخَالفَة إِلَى دَرَجَة قد يُبَالغ فِيهَا بِنَقْد وتجريح أعلامها، لَا سِيمَا فِي تنَاوله لأئمة أهل الرَّأْي حَتَّى اتهمَ أَبَا حنيفَة -بِمَا سَوف يرد فِي الْكتاب- من اتِّبَاع للأهواء وسفه فِي الْأَحْكَام، وَهَذَا بِلَا شكّ تطرف غير مَقْبُول، بل هُوَ التعصب الَّذِي يحمل الْإِنْسَان على الغلو فِي نقد الْخُصُوم.
وَيبقى الْكتاب بعد ذَلِك من خيرة مَا ألف فِي بَابه؛ دفاعًا عَن الحَدِيث وبيانًا لوجه الْحق فِيهِ، وتوضيحًا لما توهمه الزارين من اضْطِرَاب وَشك.
شريف ابراهيم
شريف ابراهيم
نائب المدير العام
نائب المدير العام

عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تأويل مختلف الحديث الْمُقدمَات مُقَدّمَة الطبعة الثَّانِيَة Empty هَذَا الْكتاب:

مُساهمة من طرف شريف ابراهيم الخميس 27 يوليو 2017 - 14:07

هَذَا الْكتاب:
وجدت هَذَا الْكتاب مطبوعًا بتصحيح وَضبط الشَّيْخ مُحَمَّد زهدي النجار من عُلَمَاء الْأَزْهَر الشريف الَّذِي أَشَارَ إِلَى عمله فِي بِالْكتاب؛ فَقَالَ: إِنَّه عمد إِلَى تَقْسِيم الْكتاب على نظام الفقرات، ثمَّ ضبط الْآيَات القرآنية والأبيات الشعرية، وَأَنه حَافظ على تعليقات الْمُصَحح الأول الشَّيْخ إِسْمَاعِيل الأسعردي رَحمَه الله؛ الَّذِي بذل جهده من قبل فِي إِخْرَاج الْكتاب فِي أواسط شهر جُمَادَى الأولى سنة 1326هـ، ثمَّ ذكر الشَّيْخ النجار أَنه فرغ من طباعته للمرة الثَّانِيَة سنة 1386 هـ. وَإِذا كَانَ لِلشَّيْخَيْنِ فضل السَّبق فِي إِخْرَاج الْكتاب إِلَى حيّز النُّور، وبذلا وسعهما فِي مُقَابلَته على الأَصْل المخطوط وَشرح بعض الْكَلِمَات فِيهِ جزاهما الله خيرا، لَا سِيمَا الشَّيْخ الأسعردي رَحمَه الله الَّذِي عقب على مَا رَآهُ ضروريًّا، مِمَّا أبقيت بعضه. فقد رَأَيْت أَن الْكتاب يفْتَقر إِلَى مزِيد من الضَّبْط والإتقان؛ فَلَا تزَال فِيهِ أخطاء فِي الطباعة وَبَعض التصحيفات.
كَمَا أَن الْكتاب يحْتَاج إِلَى مُقَدّمَة مختصرة تضع الْقَارئ فِي الظروف الَّتِي ألف فِيهَا هَذَا الْكتاب؛ ليمكن فهم الآراء الَّتِي يقف عَلَيْهَا، ويستفيد من سَعَة اطلَاع الْمُؤلف رَحمَه الله على السّنة، وَحسن تَأْوِيله لما يَبْدُو من تعَارض وتناقض فِي النُّصُوص، دون أَن يتأثر بوجهة نظر الْمُؤلف غفر الله لَهُ فِي حَملته الشَّدِيدَة على أَصْحَاب الرَّأْي، ومساواته إيَّاهُم فِي التهجم مَعَ أَرْبَاب الضلال والزيغ من الْمُخَالفين فِي الْأُصُول، وَبَين الْمُجْتَهدين فِي تَقْدِيم بعض مصَادر التشريع من أهل السّنة.
وَكَذَلِكَ فَإِن نُصُوص الْأَحَادِيث -الَّتِي هِيَ مَادَّة الْكتاب الأساسية-

لَيست مخرجة وَلَا منقحة مِمَّا قد يُوقع كثيرا من الْقُرَّاء بوهم كَون هَذِه النُّصُوص من السّنة بِدَرَجَة وَاحِدَة من الصِّحَّة وَقُوَّة الْحجَّة، كَمَا أَن الْآيَات القرآنية لم تخرج.
لهَذَا كُله عَمَدت إِلَى بذل جهدي الكليل وفهمي الضَّعِيف لاستكمال بعض مَا رَأَيْت من نقص آملًا أَن يتاح لي، أَو لغيري من الباحثين أَن يضيفوا أَو يزِيدُوا فِي تَنْقِيح مَا يجدونه من خطأ أَو تَقْصِير، سَائِلًا الله تَعَالَى أَن يتَقَبَّل أَعمالنَا ويجعلها خَالِصَة لوجهه الْكَرِيم، وراجيًا مِمَّن يجد فِيهِ خطأ أَن ينصحني باستدراكه، أَو يتكرم مشكورًا بِتَصْحِيحِهِ أَو ينبهني إِلَيْهِ.
عَمَلي بِالْكتاب:
وَقد وجدت مصورًا عَن النُّسْخَة المخطوطة لهَذَا الْكتاب فِي دَار الْكتب القطرية برقم "ميك: 31". أما المخطوطة الْأَصْلِيَّة فَهِيَ مَحْفُوظَة بمكتبة رَئِيس الْكتاب مصطفى أَفَنْدِي الملحقة بالمكتبة السليمانية بإستانبول تَحت رقم 107 باسم: "اخْتِلَاف الحَدِيث وَالسّنَن" تأليف ابْن قُتَيْبَة الدينَوَرِي: عبد الله بن مُسلم الْمُتَوفَّى سنة 276هـ.
والمخطوطة كَامِلَة تقع فِي 164 ورقة تبدأ بقوله: "قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وعَلى آله أَجْمَعِينَ. أَمَّا بَعْدُ أَسْعَدَكَ اللَّهُ تَعَالَى بِطَاعَتِهِ ... إِلَخ ... ".
وَقد وضعت صورًا من صفحات الْكتاب بجانبه ليطلع الْقَارئ عَلَيْهَا، انْظُر الصفحات 38-43.
1- عَمَدت إِلَى مُقَابلَة المطبوع على المخطوط كُله، وصححت الأخطاء الَّتِي وَجدتهَا سَوَاء مَا كَانَ مِنْهَا بِسَبَب الطباعة أَو التَّصْحِيف أَو اللُّغَة، وأشرت إِلَى النَّوْعَيْنِ الْأَخيرينِ بالهامش، وصححت الأخطاء المطبعية دون الْإِشَارَة إِلَيْهَا.
2- خرجت الْأَحَادِيث الشَّرِيفَة كلهَا سَوَاء مَا وَقع الِاخْتِلَاف فِي
تَأْوِيله، أَو مَا أوردهُ الْمُؤلف على سَبِيل الِاحْتِجَاج أَو الِاسْتِدْلَال فِي تدعيم وجهة نظره لإِزَالَة وهم التَّعَارُض أَو التَّنَاقُض، وعقبت على بَعْضهَا بِمَا رَأَيْته مناسبًا للتوضيح أَو للتصحيح.
3- خرجت الْآيَات القرآنية وضبطتها، وأشرت بالهامش إِلَى رقم الْآيَة من السُّور.
4- شرحت بعض الْكَلِمَات الغامضة، تسهيلًا للقارئ فِي اسْتِيعَاب الْمَعْنى، ورجحت الْمَقْصُود مِمَّا أوردهُ الْقَامُوس من مَعَاني ليُوَافق سِيَاق الْكَلَام.
5- عرفت بِبَعْض الْأَعْلَام -مِمَّن شَعرت بضرورة التَّعْرِيف بِهِ وتوفرت لدي المصادر عَنهُ- بنبذة مختصرة جدًّا فِي الْهَامِش؛ اقتصرت فِيهَا على ذكر الِاسْم كَامِلا والمولد إِن عرف، وأبرز الصِّفَات، ثمَّ تَارِيخ الْوَفَاة.
6- وضعت عناوين جانبية لتوضيح انْتِقَال الْمُؤلف من فكرة إِلَى أُخْرَى، بِحَيْثُ يسهل على الْقَارئ مُتَابَعَته فِي استطراداته، والاستفادة مِنْهَا، والربط بَين أبرز مضامينها.
7- وضعت فهرسًا للأحاديث الشَّرِيفَة، ورتبتها حسب الْحَرْف الأول فِي الحَدِيث وفقًا للأحرف الهجائية وَذكرت رقم الصفحة الَّتِي ورد فِيهَا.
8- وضعت فهرسًا للأعلام الَّذين ورد ذكرهم فِي الْكتاب، وأشرت إِلَى الْمَوَاضِع الَّتِي جرى التَّعْرِيف بهم فِيهَا بِإِشَارَة " ".
9- أعدت النّظر فِي عَلَامَات الترقيم، ووزعتها -كَمَا أَحسب- توزيعًا أَكثر مُنَاسبَة فِي توضيح الْمَعْنى، وتسهيل الْفَهم على الْقَارئ، فأضفت بَعْضهَا فِي الْمَوَاضِع الَّتِي يستدعيها الْمَعْنى، وحذفت مَا لَا دَاعِي لَهُ.
10- عقبت فِي قَلِيل من الْمَوَاضِع على مَا رَأَيْت ضَرُورَة للتعقيب عَلَيْهِ، مِمَّا تَقْتَضِيه الْأَمَانَة العلمية، وتجنبت الْإِكْثَار من ذَلِك خشيَة التدخل فِي مسار الْكتاب، وَالْخُرُوج بِهِ عَن أهدافه من كَثْرَة النَّقْد أَو التزيد.
مزايا الْكتاب:
وسيجد الْقَارئ فِي هَذَا الْكتاب إِلَى جَانب دفاع ابْن قُتَيْبَة البارع عَن
السّنة، ونصرته لَهَا من الاستطرادات العلمية واللغوية والشعرية والفقهية والفلسفية، والاستشهاد بِالْآيَاتِ القرآنية وَتَفْسِير بَعْضهَا، وَالِاسْتِدْلَال بِبَعْض مَا ورد فِي الْكتب السماوية الْأُخْرَى والأحداث التاريخية والطرف والنوادر والحكايات؛ مِمَّا يمتع وينفع، وَيدل على سَعَة معرفَة الْمُؤلف رَحمَه الله وإحاطته بعلوم ومعارف عصره. يَسُوق ذَلِك كُله ليزيل الالتباس الْحَاصِل فِي فهم الحَدِيث، أَو إِزَالَة شُبْهَة التَّعَارُض والتناقض.
وَإِذا كَانَ لأحد أَن يسْتَدرك على الْمُؤلف شَيْئا فَهُوَ دفاعه عَن بعض الْأَحَادِيث الضعيفة أَو الْمَوْضُوعَة وَالَّتِي كَانَ يُغْنِيه فِيهَا أَن يذكر ضعفها وَعدم ضَرُورَة الِاحْتِجَاج بهَا.
بِالْإِضَافَة إِلَى أَنه كَانَ يعتمده فِي موطن الِاسْتِدْلَال على صِحَة مَا ورد فِي الحَدِيث من معنى بِمَا ورد فِي الْكتب السماوية الْأُخْرَى، وَلَا يخفى أَن هَذِه الْكتب لَا يحْتَج بهَا لما نعتقده فِيهَا من تَحْرِيف، فَكيف يُمكن أَن تقبل دَلِيلا على الصَّوَاب؟!..
ثمَّ انتقاصه لبَعض الْأَعْلَام بِسَبَب مخالفتهم بِالِاجْتِهَادِ، ومبالغته فِي ذَلِك إِلَى حد التشكيك بصدقهم وتقواهم وَدينهمْ، وَذَلِكَ مِمَّن تَوَاتر الثَّنَاء عَلَيْهِم غفر الله لَهُ.
لَكِن الْكتاب بمجمله يعْتَبر من أفضل مَا كتب فِي بَابه، وَيدل على علو كَعْب الْمُؤلف -رَحمَه الله وأجزل ثَوَابه- بَين عُلَمَاء عصره فِي عدد من الْعُلُوم والمعارف، وَلَإِنْ وجدت فِيهِ هَنَات مَعْدُودَة -رُبمَا دَفعه إِلَيْهَا حماسه لما يرَاهُ حقًّا، وغيرته على حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم- فَإِن الْكَمَال لله وَحده، وكل إِنْسَان يُؤْخَذ مِنْهُ وَيرد إِلَّا صَاحب هَذَا الْقَبْر؛ كَمَا قَالَ الإِمَام مَالك رَحمَه الله، فَلَا يجوزك انتقاصه حَقه وَقد قدم الْكثير الْجيد الَّذِي يعْتَبر بِحَق زِيَادَة فِي بَابه وَعَملا أصيلًا غزيرًا تقبل الله مِنْهُ وَمنا وَغفر لَهُ وَلنَا وَأَعْلَى مقَامه وَجَعَلنَا وإياه فِي زمرة أحبابه وأوليائه وخاصته من خلقه. اللَّهُمَّ آمين.
الدوحة فِي 8/ 8/ 1408 هـ
26/ 3/ 1988م
مُحَمَّد محيي الدَّين الْأَصْفَر
شريف ابراهيم
شريف ابراهيم
نائب المدير العام
نائب المدير العام

عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تأويل مختلف الحديث الْمُقدمَات مُقَدّمَة الطبعة الثَّانِيَة Empty ابْن قُتَيْبَة:

مُساهمة من طرف شريف ابراهيم الخميس 27 يوليو 2017 - 14:23

ابْن قُتَيْبَة:
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسلم بن قُتَيْبَة الْكُوفِي، وتسميه دَائِرَة المعارف الإسلامية: أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن مُسلم بن قُتَيْبَة الْمروزِي مُخَالفَة بذلك مُعظم المراجع.
أما أَبوهُ "مُسلم" فقد كَانَ من أهل الْعلم والْحَدِيث إِلَّا أَنه لم يبلغ مستوى ابْنه عبد الله، وَيَقُول الْبَغْدَادِيّ: إِن أَبَاهُ كَانَ مروزيًّا أَي من أهل مرو.
وَأما جده "قُتَيْبَة" فقد اخْتلف فِي اشتقاق اسْمه؛ فَقيل: هُوَ تَصْغِير "قتبة" وَاحِدَة الأقتاب أَي الأمعاء، وَقيل: قُتَيْبَة مَأْخُوذ من القتب وَهُوَ الرحل الصَّغِير على قدر سَنَام الْبَعِير.
مولده ووفاته:
ولد سنة 213هـ دون خلاف بَين من ترْجم لَهُ، وَإِن كَانَ بَعضهم سكت عَن ذَلِك كالبغدادي، وَلم يذكرُوا مَعهَا شهرا كَمَا فعلوا حِين التأريخ لوفاته، وَذَلِكَ لأَنهم عرفوه حِين ذاع صيته وَعلا شَأْنه، وَلم يكن قبل ذَلِك مَعْرُوفا.
وَقد اخْتلفُوا فِي ذكر الْبَلَد الَّتِي ولد فِيهَا؛ فَقَالَ بَعضهم: ولد فِي الْكُوفَة كَابْن النديم وَابْن الْأَثِير وَابْن الْأَنْبَارِي، وَهُنَاكَ غَيرهم من المؤرخين قبل الْبَغْدَادِيّ والسمعاني، وَمن بعدهمَا القفطي يذكرُونَ: أَن مولده كَانَ بِبَغْدَاد، وَلَا يناقشون رِوَايَة غَيرهم، وَقد يكون مرد ذَلِك إِلَى أَنه أَقَامَ فِي بَغْدَاد فظنوا أَنه ولد فِيهَا، مَعَ أَن وَالِده لَيْسَ بغداديًّا وأسرته كَانَت غَرِيبَة عَن بَغْدَاد، وَذَلِكَ قد يرجح أَن يكون من مواليد الْكُوفَة وَالله أعلم.

وكما اخْتلف على مَكَان وِلَادَته اخْتلف على سنة وَفَاته، فقد ذكر ابْن الْأَنْبَارِي أَنه أكل هريسة، فاحتر جِسْمه، ثمَّ أُغمي عَلَيْهِ ثمَّ أَفَاق فَمَا زَالَ يذكر الله ويتشهد حَتَّى مَاتَ فِي أول لَيْلَة من رَجَب سنة 276هـ، وَيَقُول بذلك نفر من المؤرخين.
أما ابْن خلكان فَيَقُول: توفّي فِي ذِي الْقعدَة سنة 270هـ، وَقيل سنة 271هـ، وَالرِّوَايَة الأولى أصح كَمَا رجح بعض المؤرخين، وَالله أعلم.
نسبته إِلَى الدينور:
ولي قَضَاء دينور وَهِي مَدِينَة قرب قرميسين، تبعد عشْرين فرسخًا عَن همذان، وَقد أَقَامَ بهَا مُدَّة فنسب إِلَيْهَا.
وَكَانَ شَدِيد الصِّلَة بالخاقاني أبي الْحسن عبيد الله بن يحيى الَّذِي كَانَ وزيرًا للمتوكل إِلَى سنة "247هـ"، فولاه الْقَضَاء فِي دينور، وَبَقِي فِيهَا من "232هـ" إِلَى "247هـ" زمن خلَافَة المتَوَكل، ثمَّ عَاد ابْن قُتَيْبَة بعْدهَا إِلَى بَغْدَاد فنسب ابْن قُتَيْبَة إِلَى دينور، ودعي: بالدينوري.
نشأته وشيوخه:
نَشأ ابْن قُتَيْبَة فِي بَغْدَاد وَبهَا تلقى علومه وَأخذ عَن شيوخها، وَلم يذكر لَهُ شُيُوخ أَخذ الحَدِيث عَنْهُم بِغَيْر بَغْدَاد، وأهم شُيُوخه:
1- وَالِده: مُسلم بن قُتَيْبَة، وَقد حدث عَنهُ فِي كِتَابيه: عُيُون الْأَخْبَار والمعارف.
2- أَحْمد بن سعيد اللحياني، وَقَرَأَ عَلَيْهِ: كتاب الْأَمْوَال، وَكتاب غَرِيب الحَدِيث لأبي عبيد.
3- أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سَلام الجُمَحِي صَاحب طَبَقَات الشُّعَرَاء "ت231هـ".
4- يحيى بن أَكْثَم القَاضِي؛ أَخذ عَنهُ بِمَكَّة وَرُبمَا كَانَ ذَلِك أثْنَاء حجَّة لَهُ "ت242هـ".
- ابْن رَاهْوَيْةِ أَبُو يَعْقُوب، إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَهُوَ من عُلَمَاء الْفِقْه والْحَدِيث، وروى عَنهُ أَئِمَّة الحَدِيث مثل: البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ. "ت238هـ".
6- حَرْمَلَة بن يحيى التجِيبِي "ت243هـ".
7- الزيَادي أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن سُفْيَان تلميذ سِيبَوَيْهٍ والأصمعي "ت249هـ".
8- دعبل بن عَليّ الْخُزَاعِيّ الشَّاعِر "ت246هـ".
9- أَبُو عبد الله الْحسن بن الْحُسَيْن بن حَرْب السّلمِيّ "ت246هـ".
10- أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مَرْزُوق بن بكير بن البهلول الْبَاهِلِيّ الْمصْرِيّ "ت248هـ".
11- شَبابَة بن سوار "ت254هـ".
12- زِيَاد بن يحيى بن زِيَاد المساني الْبَصْرِيّ "ت254هـ".
13- مُحَمَّد بن يحيى بن أبي حزم الْقطعِي الْبَصْرِيّ "ت253هـ".
14- إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الصَّواف "ت253هـ".
15- مُحَمَّد بن زِيَاد بن عبيد الله بن زِيَاد بن الرّبيع الزيَادي الْبَصْرِيّ "ت252هـ".
16- الجاحظ أَبُو عُثْمَان "ت254هـ".
17- عبد الرَّحْمَن بن بشر بن الحكم بن حبيب "ت260هـ".
18- عَبده بن عبد الله الْخُزَاعِيّ "ت258هـ".
19- الْعَبَّاس بن الْفرج الرياشي "ت257هـ".
20- زيد بن أخزم الطَّائِي "ت257هـ".
21- إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بن الشَّهِيد الْبَصْرِيّ "ت257هـ".
22- مُحَمَّد بن خَالِد بن خرَاش بن عجلَان المهلبي.
23- أَحْمد بن خَالِد الضَّرِير.
24- عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن قريب.
25- مُحَمَّد بن عبيد بن عبد الْملك الْأَسدي.
تلاميذه:
1- ابْنه أَحْمد بن عبد الله بن مُسلم الدينَوَرِي كَانَ يحفظ كتب أَبِيه حفظا كَامِلا. "ت322هـ" ولي الْقَضَاء سنة 321هـ.
2- أَحْمد بن مَرْوَان الْمَالِكِي "ت298هـ" وَقد روى عَن ابْن قُتَيْبَة هَذَا الْكتاب "تَأْوِيل مُخْتَلف الحَدِيث". وَقد انْتهى إِلَيْنَا بروايته.
3- مُحَمَّد بن خلف بن الْمَرْزُبَان "ت309هـ".
4- إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن أَيُّوب بن بشير الصَّائِغ "ت313هـ" روى مصنفات ابْن قُتَيْبَة كلهَا.
5- عبيد الله بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عِيسَى السكرِي "ت323هـ".
6- عبيد الله بن أَحْمد بن عبد الله بن بكير التَّمِيمِي "ت334هـ".
7- الْهَيْثَم بن كُلَيْب الشَّاشِي "ت335هـ" وَقد أَخذ عَنهُ الْأَدَب خَاصَّة.
8- قَاسم بن أصبغ الأندلسي "ت340"هـ قَرَأَ عَلَيْهِ "المعارف" و"شرح غَرِيب الحَدِيث".
9- إِبْرَاهِيم بن أَحْمد الشَّيْبَانِيّ الْبَغْدَادِيّ "ت298هـ".
10- أَحْمد بن الْحُسَيْن بن إِبْرَاهِيم الدينَوَرِي، وَقَرَأَ عَلَيْهِ "تَأْوِيل مُخْتَلف الحَدِيث".
11- عبد الله بن جَعْفَر بن درسْتوَيْه الْفَسَوِي "ت335هـ".
12- أَبُو عبد الله بن أبي الْأسود "343هـ".
مؤلفاته:
1- مُشكل الْقُرْآن: وَقد جمع بَين هَذَا الْكتاب وغريب الْقُرْآن أَحْمد بن مطرف الْكِنَانِي "ت354" فِي كتاب أسماه: "القرطين" ينقص مِنْهُمَا وَيزِيد "مطبوع، نشر بِالْقَاهِرَةِ 1935".
2- مَعَاني الْقُرْآن: ذكره السُّيُوطِيّ والداودي وعياض.
3- الْقرَاءَات: ذكره ابْن النديم فِي "الفهرست".
4- إِعْرَاب الْقرَاءَات: هَكَذَا سَمَّاهُ ابْن خلكان والقفطي.
- الرَّد على الْقَائِل بِخلق الْقُرْآن: ذكره السُّيُوطِيّ فِي "البغية". والداودي فِي: "طَبَقَات الْمُفَسّرين".
6- آدَاب الْقِرَاءَة: ذكره صَاحب كشف الظنون.
7- غَرِيب الحَدِيث: ذكره ابْن النديم وَابْن خلكان والخطيب والداودي وَغَيرهم، وَقد أحسن فِيهِ "مطبوع نشره عبد الله الجبوري فِي 3 أَجزَاء بِبَغْدَاد -وزارة الْأَوْقَاف 1977-1978م".
8- إصْلَاح غلط أبي عبيد: وَقد استدرك فِيهِ ابْن قُتَيْبَة على أبي عُبَيْدَة فِي نَيف وَخمسين موضعا فِي غَرِيب الحَدِيث "مخطوط أيا صوفيا 457".
9- الْمسَائِل والأجوبة: ذكره الدَّاودِيّ والسيوطي بِهَذَا الِاسْم، وَذكره غَيرهم باسم: الْمسَائِل والجوابات "مخطوط، عَاشر أَفَنْدِي 1979" وَقد طبع بِمصْر.
10- دَلَائِل النُّبُوَّة: ذكره ابْن النديم والداودي والسيوطي وحاجي خَليفَة بِهَذَا الِاسْم، وَذكره ابْن الْأَنْبَارِي باسم: دَلَائِل النُّبُوَّة من الْكتب الْمنزلَة على الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام.
11- جَامع الْفِقْه: ذكره ابْن النديم فِي "الفهرست" وَذكره القفطي باسم: كتاب الْفِقْه.
12- كتاب الْأَشْرِبَة: ذكره ابْن النديم وَابْن خلكان والقفطي "وطبع الْكتاب بتحقيق مُحَمَّد كرد عَليّ بِدِمَشْق 1366هـ-1947م".
13- الرَّد على المشبهة: ذكره ابْن النديم والداودي والسيوطي والقفطي "مطبوع، نشر بِالْقَاهِرَةِ 1349هـ-1930م".
14- أدب الْكَاتِب: ذكره ابْن النديم وَابْن خلكان والسمعاني وَالطّيب فِي: "قلادة النَّحْر" وَابْن كثير والقفطي وَابْن الْعِمَاد، وَقد طبع الْكتاب مَرَّات "نشره جرونرت grunert ليدن 1900 وَنشر فِي الْقَاهِرَة 1300، 1310، 1328، 1355هـ -1936م".
15- عُيُون الشّعْر: ذكره ابْن النديم ثمَّ ذكر كتابا آخر لِابْنِ قُتَيْبَة
أسماه: الْمَرَاتِب والمناقب من عُيُون الشّعْر ويحتوي على عشرَة كتب هِيَ: "الْجَوَاهِر، الشواهد، القلائد، المحاسن، المدائح، الْمَرَاتِب، المراكب، الْمشَاهد، الْمعَانِي، المناقب".
16- كتاب الْمعَانِي الْكَبِير: ذكره ابْن النديم باسم: مَعَاني الشّعْر الْكَبِير، وَقد أَشَارَ إِلَيْهِ ابْن قُتَيْبَة فِي كِتَابه "عُيُون الْأَخْبَار" حَيْثُ يَقُول: وَقد فسرت هَذَا الشّعْر فِي كتابي الْمُؤلف فِي أَبْيَات الْمعَانِي فِي خلق الْفرس "مخطوط، يُوجد الْقسم الأول مِنْهُ وَهُوَ أَبْيَات الْمعَانِي فِي الْخَيل، ومخطوط فِي أيا صوفيا 4050، وتوجد تتمته "الْقسم الثَّانِي" فِي الْمكتب الْهِنْدِيّ أول 1137".
ويحتوي هَذَا الْكتاب على اثْنَي عشر كتابا هِيَ: "الْإِبِل: 16 بَابا، الْإِيمَان والدواهي: 7 أَبْوَاب، تَصْحِيف الْعلمَاء: بَاب وَاحِد، الْحر: 10 أَبْوَاب، الديار: 10 أَبْوَاب، الرِّيَاح: 31 بَابا، السبَاع والوحوش: 17 بَابا، الشيب وَالْكبر 8 أَبْوَاب، الضَّرُورَة: 20 بَابا، الْفرس: 46 بَابا، النِّسَاء والغزل: بَاب وَاحِد، الْهَوَام: 24 بَابا".
17- ديوَان الكتّاب: ذكره ابْن النديم، والسيوطي، وحاجي خَليفَة.
18- تَقْوِيم اللِّسَان: ذكره حاجي خَليفَة.
19- خلق الْإِنْسَان: ذكره ابْن النديم والداودي، والسيوطي، وحاجي خَليفَة.
20- كتاب الْخَيل: ذكره ابْن النديم وَابْن خلكان، والداودي، والسيوطي والقفطي.
21- كتاب الْأَنْوَار: ذكره ابْن النديم وَابْن خلكان، والداودي، والسيوطي والقفطي والسمعاني، "وَهُوَ مطبوع نشره بِلَال وَمُحَمّد حميد الله. حيدر آباد، مطبوعات دَائِرَة المعارف العثمانية 1956م".
22- جَامع النَّحْو الْكَبِير: ذكره ابْن النديم والداودي والسيوطي والقفطي وحاجي حليفة.
- جَامع النَّحْو الصَّغِير: ذكره ابْن النديم والداودي والسيوطي والقفطي وحاجي خَليفَة.
24- الميسر والقداح: ذكره ابْن النديم وَابْن خلكان والقفطي وَصَاحب طَبَقَات فُقَهَاء السَّادة الْحَنَفِيَّة "مطبوع نشره محب الدَّين الْخَطِيب، الْقَاهِرَة 1343هـ - 1924م".
25- فضل الْعَرَب على الْعَجم: ذكره ابْن قُتَيْبَة فِي كِتَابه: "عُيُون الْأَخْبَار" وَلَا يبعد أَن يكون كتاب: "التَّسْوِيَة بَين الْعَرَب والعجم" الَّذِي ذكره ابْن النديم والقفطي على أَنه كتاب آخر، هُوَ هَذَا الْكتاب باسم جَدِيد.
26- عُيُون الْأَخْبَار: ذكره ابْن النديم، وَابْن خلكان، والخطيب الْبَغْدَادِيّ، والسمعاني، وَابْن كثير، وَابْن الْأَنْبَارِي والقفطي "مطبوع، دَار الْكتاب، الْقَاهِرَة 4 أَجزَاء 1925-1930م".
27- طَبَقَات الشُّعَرَاء: ذكره ابْن خلكان، والداودي، والسيوطي، والقفطي، وَابْن الْعِمَاد. "مطبوع، نشره ritter shausen "ليدن 1875م، ونشره أَيْضا دي خويه degeje ونشره جود فرواري موبيس باريس 1947 وطبع ببيروت، دَار الثقافة 1964م".
28- الْحِكَايَة والمحكي: ذكره ابْن النديم.
29- فرائد الدُّرَر: ذكره ابْن النديم.
30- حكم الْأَمْثَال: ذكره ابْن النديم.
31- آدَاب الْعشْرَة: ذكره ابْن النديم.
32- كتاب الْعلم: ذكره ابْن النديم والقفطي بِهَذَا الِاسْم، ثمَّ ذكره الدَّاودِيّ والسيوطي باسم كتاب الْقَلَم.
33- تَعْبِير الرُّؤْيَا: ذكره ابْن النديم وَأَبُو الطّيب اللّغَوِيّ بِهَذَا الِاسْم، وَذكر ابْن قُتَيْبَة باسم "تَأْوِيل الرُّؤْيَا".
34- الجراثيم: يشك فِي نسبته لِابْنِ قُتَيْبَة.
- الجوابات الْحَاضِرَة: ذكره الدَّاودِيّ والسيوطي، وحاجي خَليفَة.
26- مُشكل الحَدِيث: ذكره ابْن خلكان، والخطيب، والسمعاني، وَابْن الْأَنْبَارِي، والقفطي، وَصَاحب طَبَقَات فُقَهَاء السَّادة الْحَنَفِيَّة وَابْن الْعِمَاد.
37- كتاب المعارف: "مطبوع، نشره فستنفلد فِي جوتنجن: 185 وَنشر أَيْضا بِالْقَاهِرَةِ 1300هـ، 1352هـ -1939م".
38- اخْتِلَاف تَأْوِيل الحَدِيث: "مطبوع بِمصْر عَام 1326هـ - 1908م" وَهُوَ الْكتاب الَّذِي نَحن بصدده.
كتاب "مُخْتَلف تَأْوِيل الحَدِيث":
ذكره ابْن خلكان، والخطيب والسمعاني وَابْن الْأَنْبَارِي والقفطي وَصَاحب طَبَقَات فُقَهَاء السَّادة الْحَنَفِيَّة وَابْن الْعِمَاد.
وَيذكر ابْن النديم كتابا لِابْنِ قُتَيْبَة باسم "الْمُشكل" وَلَا نَدْرِي أهوَ: مُشكل الحَدِيث هَذَا، أم هُوَ مُشكل الْقُرْآن؟ وأغلب الظَّن أَن ابْن قُتَيْبَة إِذا ذكر "الْمُشكل" وَلم يضف إِلَيْهِ أَرَادَ: مُشكل الْقُرْآن.
ثمَّ يستطرد ابْن النديم، وَيذكر كتابين آخَرين فِي هَذَا الْغَرَض وهما:
1- مُخْتَلف الحَدِيث.
2- اخْتِلَاف تَأْوِيل الحَدِيث.
ويذكره الدَّاودِيّ والسيوطي باسم: مُخْتَلف الحَدِيث، ويورده حاجي خَليفَة باسم: اخْتِلَاف الحَدِيث، وباسم: كتاب المناقضة، وبدار الْكتب المصرية نُسْخَة مِنْهُ باسم: الرَّد على من قَالَ بتناقض الحَدِيث، ويسميها مفهرس دَار الْكتب باسم: "المشتبه من الحَدِيث وَالْقُرْآن وَذكر الْأَحَادِيث الَّتِي قيل بتناقضها". ويذكره جورجي زَيْدَانَ فِي تَارِيخ الْآدَاب الْعَرَبيَّة باسم: المشتبه من الحَدِيث وَالْقُرْآن، وَقد ظهر هَذَا الْكتاب مطبوعًا بِالْقَاهِرَةِ "1326هـ" باسم: تَأْوِيل مُخْتَلف الحَدِيث.
مردُّ الالتباس فِي أَسمَاء كتبه:
يَقُول الدكتور ثروت عكاشة فِي الْكتاب الَّذِي حَقَّقَهُ لِابْنِ قُتَيْبَة: "المعارف" فِي تَوْضِيحه للِاخْتِلَاف فِي عدد الْكتب وأسمائها مِمَّا نسب لِابْنِ قُتَيْبَة مَا يَلِي:
وَإِنَّهُم ليعدون لِابْنِ قُتَيْبَة أَسمَاء لكتب أُخْرَى، وَأكْثر الظَّن أَنَّهَا لَيست كتبا مُسْتَقلَّة بل إِنَّهَا أَبْوَاب من نَحْو هَذَا الَّذِي يذكرُونَ لَهُ من أَنه لَهُ كتاب اسْمه: "اسْتِمَاع الْغناء بالألحان" معتمدين على مَا ذكره حاجي خَليفَة فِي حرف السِّين حَيْثُ يَقُول: "وَالْعُلَمَاء اخْتلفُوا فِي اسْتِمَاع الْغناء بالألحان، وَهِي مَسْأَلَة طَوِيلَة الذيل، خصها كثير من الْمُتَقَدِّمين بالتصنيف كَالْقَاضِي أبي الطّيب، والعلامة أبي مُحَمَّد ابْن قُتَيْبَة".
فَمَا نشك فِي أَن ابْن قُتَيْبَة كتب فِي هَذَا الْمَوْضُوع، وَلَكِن الَّذِي نشك فِيهِ أَن يكون لَهُ كتاب بِهَذَا الِاسْم. وَلَعَلَّ الدَّافِع الَّذِي دفع هَؤُلَاءِ إِلَى التَّوَسُّع فِي الْجمع شَيْء من الْجَهْل بمحتويات كتب ابْن قُتَيْبَة، وَذَلِكَ لأَنهم عرفُوا أَكْثَرهَا بِالسَّمَاعِ.
وَشَيْء آخر هُوَ مَا قرءوه وسمعوه من بعض المؤرخين، مثل صَاحب "التحديث بمناقب أهل الحَدِيث" حَيْثُ يذكر أَن كتب ابْن قُتَيْبَة زهاء ثَلَاثمِائَة كتاب، فيدفعهم هَذَا إِلَى التصيد والتحايل. وَمَا أَشك فِي أَن الَّذِي قصد إِلَيْهِ صَاحب "التحديث" هُوَ هَذِه الْأَبْوَاب الَّتِي احتوت عَلَيْهَا كتب ابْن قُتَيْبَة، بِعَدِّ كل بَاب كتابا، وَإِلَّا اتهمناه بِمَا نبرئ مِنْهُ كل مُتَّصِل بِالْعلمِ والتأليف. وَمَا أملينا إِلَى أَن نَأْخُذ بِمَا سبق فِيهَا "المدارك" حَيْثُ تحدث عَن أبي جَعْفَر أَحْمد، وَأَنه كَانَ يحفظ مصنفات أَبِيه، وعدتها وَاحِد وَعِشْرُونَ مصنفًا، وَمَا هَذَا الْعدَد بِقَلِيل على عَالم من الْعلمَاء، عمر مثل مَا عمر ابْن قُتَيْبَة، لَا سِيمَا والمؤلفات من المؤلفات ذَات الْأَجْزَاء.
غير أَن الَّذِي يعنينا هُوَ أَن ندلل على أَن البيئة الَّتِي عَاشَ فِيهَا ابْن قُتَيْبَة شغلت ابْن قُتَيْبَة بهَا وَلم يكد يفلته ركن لم يُشَارك فِيهِ.
آراء الْعلمَاء فِي ابْن قُتَيْبَة:
تباينت آراء الْعلمَاء فِي ابْن قُتَيْبَة فوثقه بَعضهم وجرحه آخَرُونَ، وَقد جعله ابْن تَيْمِية لأهل السّنة مثل الجاحظ للمعتزلة، وَكَذَلِكَ وَثَّقَهُ عُلَمَاء آخَرُونَ مِنْهُم:
- الْحَافِظ السلَفِي "ت576هـ" حَيْثُ قَالَ: "كَانَ ابْن قُتَيْبَة من الثِّقَات وَأهل السّنة".
- والخطيب الْبَغْدَادِيّ "ت463هـ" الْقَائِل: "كَانَ ثِقَة دينا فَاضلا".
- وَابْن حزم، وَأَبُو مُحَمَّد عَليّ بن أَحْمد بن سعيد "ت456": "كَانَ ابْن قُتَيْبَة ثِقَة فِي دينه وَعلمه".
- والحافظ الذَّهَبِيّ حَيْثُ يَقُول فِي -ميزَان الِاعْتِدَال: "أَبُو مُحَمَّد صَاحب التصانيف، صَدُوق قَلِيل الرِّوَايَة".
وَيَقُول فِي -تذكرة الْحفاظ: "ابْن قُتَيْبَة من أوعية الْعلم، قَلِيل الْعَمَل فِي الحَدِيث".
- وَابْن الْجَوْزِيّ "ت597هـ" يَقُول: "كَانَ عَالما فَاضلا".
- وَابْن خلكان "ت681هـ": "كاك فَاضلا ثِقَة".
- وَمُسلم بن قَاسم: "كَانَ ابْن قُتَيْبَة صَدُوقًا من أهل السّنة".
وَغير هَؤُلَاءِ من الْعلمَاء يَتَّهِمُونَهُ وَيَقُولُونَ فِيهِ غير ذَلِك:
- فالدارقطني أَبُو الْحسن عَليّ بن عمر بن أَحْمد بن مهْدي "ت385هـ" يَقُول: "كَانَ ابْن قُتَيْبَة يمِيل إِلَى التَّشْبِيه، منحرفًا عَن العترة، وَكَلَامه يدل عَلَيْهِ".
- وَالْبَيْهَقِيّ أَبُو بكر أَحْمد بن الْحُسَيْن "ت458هـ" يَقُول: "كَانَ ابْن قُتَيْبَة يرى رَأْي الكرامية وَلَيْسَ بَين المشبهة والكرامية كَبِير فرق، فالكرامية هم أَتبَاع مُحَمَّد بن كرام، وَكَانَ يذهب إِلَى التجسيم والتشبيه، وينعى على "عَليّ" صبره على مَا جرى لعُثْمَان رَضِي الله عَنهُ.
وَيَقُول الدكتور ثروت عكاشة فِي تَحْقِيقه لكتاب "المعارف" لِابْنِ قُتَيْبَة فِي بَيَان سَبَب هَذِه الاتهامات: "وَلَقَد نسي هَؤُلَاءِ أَن هَذَا الْمُتَّهم بالتشبيه لَهُ
كتاب فِي الرَّد على المشبهة، وَأَن لَهُ فِي هَذَا الْكتاب عِبَارَات تدل على ميله إِلَى "عَليّ"، ونسوا أَيْضا أَن لَهُ كتابا فِي تَفْضِيل الْعَرَب، وَلَكِن كَيفَ لهَؤُلَاء المتهمين أَن يتهموا دون دَلِيل؟
فِي الْحق إِن لِابْنِ قُتَيْبَة من الْكَلَام فِي كتبه مَا يثير شَيْئا من الرِّيبَة، اقْرَأ لَهُ قَوْله فِي كِتَابه: "مُشكل الْقُرْآن" "وَكَانَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم وَرَضي عَنْهُم، وهم مصابيح الأَرْض وقادة الْأَنَام ومنتهى الْعلم، إِنَّمَا يقْرَأ الرجل فيهم السورتين وَالثَّلَاث والأربع، وَالْبَعْض والشطر من الْقُرْآن، إِلَّا نَفرا مِنْهُم وفقهم الله لجمعه، وَسَهل عَلَيْهِم حفظه، وَقَالَ الشّعبِيّ: توفّي أَبُو بكر وَعمر وَعلي رَضِي الله عَنْهُم وَلم يجمعوا الْقُرْآن، وَقَالَ: لم يختمه أحد من الْخُلَفَاء غير عُثْمَان. وَرُوِيَ عَن شريك عَن إِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد أَنه قَالَ: سَمِعت الشّعبِيّ يحلف بِاللَّه عز وَجل: لقد دخل عَليّ حفرته وَمَا حفظ الْقُرْآن"1.
تظن أَن هَذَا من كَلَام ابْن قُتَيْبَة هُوَ الَّذِي أثار تِلْكَ الثائرة حوله، فانبرى لَهُ من انبرى يَتَّهِمُونَهُ. اسْمَع لأبي الْحُسَيْن أَحْمد بن فَارس "ت395هـ" يَقُول فِي كِتَابه -الصَّحَابِيّ- تعقيبًا على هَذَا الَّذِي ذكره ابْن قُتَيْبَة:
"وَابْن قُتَيْبَة يُطلق إطلاقات مُنكرَة، ويروي أَشْيَاء مشنعة، كَالَّذي رَوَاهُ عَن الشّعبِيّ أَن أَبَا بكر وَعمر وعليًّا توفوا وَلم يجمعوا الْقُرْآن، وَأَن عليًّا دخل حفرته وَمَا حفظ الْقُرْآن، وَهَذَا كَلَام شنيع جدًّا"2.
وَابْن قُتَيْبَة الَّذِي ينْقل هَذَا رَاوِيا، يذكر غَيره مدافعًا عَن أهل الْبَيْت، مِمَّا يعبر عَن رَأْيه ومعتقده، وَفرق بَين أَن يزل الْعَالم وَهُوَ يروي لينصف التَّارِيخ، وَبَين أَن يزل وَهُوَ يفصح عَمَّا يعْتَقد، فَابْن قُتَيْبَة إِن زل فَلم يزل مُعْتَقدًا.
اسْمَع إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُول فِي كِتَابه: "الرَّد على الْجَهْمِية": "وَجعلُوا ابْنه الْحُسَيْن عَلَيْهِ السَّلَام خارجيًا شاقًا لعصا الْمُسلمين حَلَال الدَّم. وسووا بَينه فِي الْفضل وَبَين أهل الشورى ... فَإِن قَالَ قَائِل: أَخُو رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم عَليّ،
__________
1، 2 من كِتَابه الرَّد على الْجَهْمِية والمشبهة "ص47".
وَأَبُو سبطيه الْحسن وَالْحُسَيْن وَأَصْحَاب الكساء: عَليّ وَفَاطِمَة وَالْحسن وَالْحُسَيْن تمعرت الْوُجُوه وتنكرت الْعُيُون".
فَهَذَا القَوْل مِمَّا ينصف ابْن قُتَيْبَة لَا شكّ، وَلَيْسَ فِي الأولى عَلَيْهِ حرج.
علمه:
وَأما عَن علمه، فَلم يعْدم "ابْن قُتَيْبَة" الْمنصف والطاعن: أما عَن الَّذين أنصفوه هُنَا، فيكادون يكونُونَ هم الَّذين أنصفوه هُنَاكَ -عِنْد الحَدِيث عَن آرائه- وتكاد تكون كلماتهم هُنَاكَ هِيَ كلماتهم هُنَا.
وَأما عَن الَّذِي اتَّهَمُوهُ فِي علمه، فَإنَّا نجدهم نَفرا آخَرين، وَلَعَلَّ أقدم من أنكر على ابْن قُتَيْبَة علمه، هُوَ ابْن الْأَنْبَارِي "ت238هـ"، نجد ذَلِك على لِسَان ابْن تَيْمِية حِين يَقُول: "وَابْن الْأَنْبَارِي من أَكثر النَّاس كلَاما فِي مَعَاني الْآي المتشابهات، يذكر فِيهَا من الْأَقْوَال مَا لم ينْقل عَن أحد من السّلف ويحتج لما يَقُول فِي الْقُرْآن بالشاذ من اللُّغَة. وَقصد ابْن تَيْمِية بذلك رد إِنْكَار ابْن الْأَنْبَارِي على ابْن قُتَيْبَة.
وَمن بعد الْأَنْبَارِي: أَبُو الطّيب "ت351هـ" إِذْ يَقُول فِي كِتَابه مَرَاتِب النَّحْوِيين: "وَكَانَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسلم بن قُتَيْبَة الدينَوَرِي أَخذ عَن أبي حَاتِم والرياشي وَعبد الرَّحْمَن بن أخي الْأَصْمَعِي. وَقد أَخذ ابْن دُرَيْد عَن هَؤُلَاءِ كلهم وَعَن الأشنانداني إِلَّا أَن ابْن قُتَيْبَة خلط عَلَيْهِ بحكايات عَن الْكُوفِيّين لم يكن أَخذهَا عَن ثِقَات. وَكَانَ يشرع فِي أَشْيَاء لَا يقوم بهَا، نَحْو تعرضه لتأليف كِتَابه فِي النَّحْو، وَكتابه فِي تَعْبِير الرُّؤْيَا، وَكتابه فِي معجزات النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعيون الْأَخْبَار والمعارف وَالشعرَاء وَنَحْو ذَلِك مِمَّا أزرى بِهِ عِنْد الْعلمَاء وَإِن كَانَ نفق بهَا عِنْد الْعَامَّة وَمن لَا بَصِيرَة لَهُ".
وَغير ابْن الْأَنْبَارِي وَأبي الطّيب نجد: الْحَاكِم أَبَا عبد الله مُحَمَّد النيسابوي "ت405هـ" الَّذِي يَقُول: "أَجمعت الْأمة على أَن القتيبي كَذَّاب".
كَمَا نجد "ابْن تغريبردي" يروي "ت874هـ" "وَكَانَ ابْن قُتَيْبَة خَبِيث اللِّسَان يَقع فِي حق كبار الْعلمَاء".
وَكَلَام الَّذين ينتقصون ابْن قُتَيْبَة كُله لَا يخرج عَن هذَيْن الشقين، شقّ فِيهِ المآخذ العلمية وشق مَعَه السب والتشهير.
وَلَعَلَّ الرَّغْبَة الطامحة من ابْن قُتَيْبَة، هِيَ الَّتِي دَفعته إِلَى أَن ينزل فِي ميادين مُخْتَلفَة حَملته تبعات لم يسْتَطع أَن ينْهض بهَا كلهَا على سَوَاء، وَرُبمَا اضطرته إِلَى شَيْء من الْجمع الَّذِي يفتقد الْإِنْسَان مَعَه التَّحَرِّي والتثبت، وَهَذَا مِمَّا مكن خصومه أَن يتهموه بِالْكَذِبِ وَنَحْوه.
عصر ابْن قُتَيْبَة والحياة العلمية:
كَانَ الْمَنْصُور هُوَ أول من أسس لحياة علمية أدبية فِي بَغْدَاد وَكَانَ أَو من أنشأ بهَا مدارس للطب والعلوم الدِّينِيَّة أنْفق فِي سَبِيلهَا أَمْوَالًا طائلة.
وعَلى هَذِه الْحَال الَّتِي بَدَأَ بهَا أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور سَارَتْ الْحَيَاة فِي "بَغْدَاد" لم يتَخَلَّف عَنْهَا ابْنه "الْمهْدي" فقد كَانَ هُوَ الآخر نقادة للشعر.
ثمَّ تعاقب الْخُلَفَاء العباسيون فِي فَتْرَة ازدهر فِيهَا الْعلم وَالْأَدب والفن والفلسفة، فالرشيد "171هـ -193هـ" كَانَ محبًا للْعُلَمَاء ولوعًا بالأدب فأفسح للْعُلَمَاء والحكماء والأدباء، وبذل الْكثير من المَال لنشر الْعُلُوم والفنون، وَبَلغت "بَغْدَاد" فِي أَيَّامه مكانة لم تظفر بهَا مَدِينَة فِي تِلْكَ الفترة من التَّارِيخ. وأصبحت مهد الحضارة، ومركزًا للفنون والآداب، وزخرت بالأدباء وَالشعرَاء وَالْعُلَمَاء، وأنشئت فِيهَا المراصد والمكتبات والبيمارستانات والمدارس، وَإِلَيْهِ يعزى تأسيس بَيت الْحِكْمَة، الَّذِي جمع لَهُ من الْكتب شَيْئا كثيرا، وَكَانَ مُجْتَمع الباحثين والمفكرين وَالْعُلَمَاء والدارسين. وَفِي عهد الْمَأْمُون تتجه الْعِنَايَة إِلَى بَيت الْحِكْمَة فيفرد لكل عَالم ركن وتزدحم جنباتها بالعلماء والفلاسفة والمترجمين والمؤلفين وأئمة الْأَدَب واللغة وَالْعلم.
وينتقل المعتصم إِلَى مدينته الجديدة "سر من رأى" فتخبوا الْحَيَاة العلمية والأدبية فِي بَغْدَاد إِلَى أَوَاخِر أَيَّام الْخَلِيفَة "الْمُعْتَمد على الله" حَتَّى إِذا مَا عَاد إِلَيْهَا سنة "279هـ" دبت الْحَيَاة فِيهَا مرّة ثَانِيَة وَعَاد إِلَيْهَا نشاطها العلمي من جَدِيد.
وعَلى وَجه الْإِجْمَال فَإِن من ولي خلَافَة بَغْدَاد فِي تِلْكَ الفترة كَانُوا من الْخُلَفَاء الْعلمَاء، فرغبوا فِي الْعلم، وأحسنوا إِلَى الْعلمَاء وأكرموهم؛ فازدهرت بَغْدَاد بالعلماء وبالقادمين مِنْهُم إِلَيْهَا وأصبحت ميدانًا للحركة العلمية لَا نَظِير لَهُ فِي الْعَالم.
ويبدو أَن الْمَأْمُون كَانَ درة تِلْكَ الفترة من التَّارِيخ بِعِلْمِهِ وشغفه بِالْعلمِ وَأَهله، يحاور الْعلمَاء وَيجْلس إِلَيْهِم. فيسود عصره لون من التسامح الفكري يشجع الْعلمَاء والمفكرين على الإبداع وحرية الرَّأْي، فَكَانَ لذَلِك أَثَره الْكَبِير فِي ظُهُور الْفرق الكلامية واحتدام الجدل بَينهَا، وَظهر فِي هَذَا الْعَصْر نفر من جلة الْعلمَاء ورءوس الْمُتَكَلِّمين أوغلوا فِي الْبَحْث معتمدين على الْعقل مخالفين بِمَا يَقُولُونَ مَا عَلَيْهِ أَكثر عُلَمَاء الْمُسلمين.
وَنَشَأ هَذَا الْخلاف أول مَا نَشأ فِي الْبَصْرَة ثمَّ تعداها إِلَى بَغْدَاد، حمل لِوَاءُهُ وَاصل بن عَطاء ثمَّ عَمْرو بن عبيد -الَّذِي قربه الْمَنْصُور إِلَيْهِ- ثمَّ أَبُو الْهُذيْل العلاف، والنظام وَغَيرهم من شُيُوخ الاعتزال.
وَمضى الْخلاف بَين الْمُعْتَزلَة وَأهل السّنة يَتَّسِع، حَتَّى توج أخيرًا بِتِلْكَ المشكلة الَّتِي مَال فِيهَا الْمَأْمُون إِلَى رَأْي الْمُعْتَزلَة -وَهِي مشكلة خلق الْقُرْآن- تِلْكَ المشكلة الَّتِي شغلت الْمَأْمُون أَكثر من غَيره، وَأخذ يناصب العداء كل من خَالفه مناقضًا بذلك منهجه الأساسي فِي احترامه لحرية الرَّأْي وَتَقْدِيره لاجتهادات الْعلمَاء، لكنه التعصب الَّذِي قد ينَال بعض الْعلمَاء فيتحمسون لما يرونه إِلَى دَرَجَة لَا يَسْتَطِيعُونَ سَماع رَأْي مُخَالف.
وَمن بعد الْمَأْمُون يَجِيء "المعتصم" فيتورط فِيهَا كَمَا تورط أَخُوهُ الْمَأْمُون، وتستمر هَذِه المحنة حَتَّى عهد "الواثق" فيحاول أَن يجد لهَذِهِ المشكلة مخرجا، وتنتهي فِي عهد "المتَوَكل" 247هـ حَيْثُ خلى بَين النَّاس وَبَين مَا يرَوْنَ.
وَإِلَى جَانب الْمدَارِس الكلامية تقوم مدارس نحوية وألوان من الْفِكر والثقافة نتيجة لهَذِهِ الْحَرَكَة العلمية الَّتِي ساهم فِيهَا خليط من الشعوب مثل
الْفرس والرومان وَالتّرْك والصينيون والهنود والبرابرة والزنج والنبط، وَأهل النَّحْل والأديان والمذاهب من الْمُسلمين وَالنَّصَارَى وَالْيَهُود والصابئة والسامرة وَالْمَجُوس وَغَيرهم ...
هَذَا هُوَ الْعَصْر الَّذِي أقبل عَلَيْهِ ابْن قُتَيْبَة وَالَّذِي شَارك فِيهِ: عصر نزاع ديني وعصر نزاع نحوي، وعصر عُلُوم مُخْتَلفَة وثقافات مُتعَدِّدَة، وَكَانَ من الطبيعي أَن يَخُوض ابْن قُتَيْبَة فِي غمار هَذِه النزاعات وَأَن يُسهم فِي الإدلاء بدلوه بَين أَرْبَاب الْفِكر والمذاهب، وَأَن يكْتب منتصرًا لما يعْتَقد أَنه حق مذهبا ومعتقدًا، فَلم يكد يفلته ركن لم يُشَارك فِيهِ.
وَإِن إِلْقَاء نظرة على عناوين كتبه توضح لنا أَن هَذِه الْكتب كَانَت ثَمَرَة للحركة العلمية فِي عصره، حَيْثُ ساهم فِي الاهتمامات العلمية الثقافية السائدة فِي عصره وشارك فِيهَا جَمِيعهَا:
- شَارك فِي محنة خلق الْقُرْآن وَكَانَ لَهُ فِيهَا رَأْي، وصنف فِي هَذِه الْقَضِيَّة كِتَابه: "الرَّد على الْقَائِل بِخلق الْقُرْآن".
- وشارك فِي فتن المشبهة والمجسمة، ورد عَلَيْهِم بكتابه: "الرَّد على الْجَهْمِية والمشبهة".
- وشارك فِي الْخلاف النَّحْوِيّ بَين مدرسة الْبَصْرَة ومدرسة الْكُوفَة، وَجعل بَينهمَا مدرسة ثَالِثَة فِي بَغْدَاد، وصنف كتابين فِي النَّحْو هما: "جَامع النَّحْو الْكَبِير" و"جَامع النَّحْو الصَّغِير" وَكَانَ هُوَ فِي بَغْدَاد زعيمًا لتِلْك الْمدرسَة النحوية.
- وشارك فِي قَضِيَّة الشعوبية الَّتِي كَانَ خطرها يزْدَاد وينتشر، وانتصر للْعَرَب على الْعَجم لَا تعصبًا وانحيازًا بل اتبَاعا وانقيادًا للنصوص وحبًّا بِالْإِسْلَامِ الَّذِي نزل كِتَابه باللغة الْعَرَبيَّة على نَبِي عَرَبِيّ، فَوضع فِي ذَلِك كِتَابه: "فضل الْعَرَب على الْعَجم".
- وشارك فِي الِانْتِصَار لمَذْهَب أهل السّنة واقتفاء أثر السّلف الصَّالح بالاعتصام بِكِتَاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوضع عدَّة كتب مدافعًا عَن
هذَيْن المصدرين ومبينًا وشارحًا لَهما، خدمَة للدّين وجلاء للطريق الْمُسْتَقيم الَّذِي رَآهُ. فَوضع فِي ذَلِك عدَّة كتب: "مُشكل الْقُرْآن" و"الْقرَاءَات" و"إِعْرَاب الْقُرْآن" و"آدَاب الْقِرَاءَة" و"غَرِيب الحَدِيث" و"مُشكل الحَدِيث" و"اخْتِلَاف تَأْوِيل الحَدِيث".
- كَمَا شَارك فِي الْحَرَكَة الأدبية، وتقويم اللِّسَان وفْق أصُول اللُّغَة الْعَرَبيَّة، لما فِي ذَلِك من خدمَة لكتاب الله تَعَالَى وَسنة رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولربط الْأمة بأصولها، ومحافظة على اللُّغَة الَّتِي تنزلت بهَا النُّصُوص. فَوضع فِي ذَلِك عدَّة كتب: تَقْوِيم اللِّسَان" و"فرائد الدُّرَر" و"أدب الْكَاتِب" و"عُيُون الشّعْر" و"طَبَقَات الشُّعَرَاء" و"كتاب الْمعَانِي الْكَبِير". وَهَكَذَا كَانَ ابْن قُتَيْبَة إِمَامًا من هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة المشاركين فِي قضايا عصرهم، المهتمين بِخِدْمَة دينهم، العاملين فِي خدمَة الْحق الَّذِي يرَوْنَ بجد وثبات.
كلمة شكر
وَلَا يفوتني قبل أَن أنهِي مقدمتي من أَن أسجل شكري للْأَخ الْفَاضِل الدكتور منورنينار الَّذِي أحضر لي صُورَة عَن مخطوطة هَذَا الْكتاب من دَار الْكتب القطرية.
وَكَذَلِكَ للْأَخ الْأُسْتَاذ عمر عبيد حسنه، الَّذِي أفدت من ملاحظاته الْقيمَة فِي هَذِه الْمُقدمَة، فأجزل الله مثوبتهما وشكر لَهما. وَالله من وَرَاء الْقَصْد وَهُوَ يهدي السَّبِيل.
شريف ابراهيم
شريف ابراهيم
نائب المدير العام
نائب المدير العام

عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تأويل مختلف الحديث الْمُقدمَات مُقَدّمَة الطبعة الثَّانِيَة Empty بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مُقَدِّمَةُ ابْنِ قُتَيْبَةَ:

مُساهمة من طرف شريف ابراهيم الخميس 27 يوليو 2017 - 14:32

قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَآلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ.
مَطَاعِنُ الْمُنَاهِضِينَ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ:
"أَمَّا بَعْدُ" أَسْعَدَكَ اللَّهُ تَعَالَى بِطَاعَتِهِ، وَحَاطَكَ بِكِلَاءَتِهِ، وَوَفَّقَكَ لِلْحَقِّ بِرَحْمَتِهِ وَجَعَلَكَ مِنْ أَهْلِهِ فَإِنَّكَ كَتَبْتَ إِلَيَّ تُعْلِمُنِي مَا وَقَفْتَ عَلَيْهِ مِنْ ثَلْبِ1 أَهْلِ الْكَلَامِ أَهْلَ الْحَدِيثِ وَامْتِهَانِهِمْ، وَإِسْهَابِهِمْ2 فِي الْكُتُبِ بِذَمِّهِمْ وَرَمْيِهِمْ بِحَمْلِ الْكَذِبِ وَرِوَايَةِ الْمُتَنَاقِضِ حَتَّى وَقَعَ الْاخْتِلَافُ وَكَثُرَتِ النِّحَلُ وَتَقَطَّعَتِ الْعِصَمُ وَتَعَادَى الْمُسْلِمُونَ وَأَكْفَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَتَعَلَّقَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ لِمَذْهَبِهِ بِجِنْسٍ مِنَ الْحَدِيثِ3:
1- فَالْخَوَارِجُ4 تَحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِمْ "ضَعُوا سُيُوفكُمْ على عواتقكم ثمَّ
__________
1 ثلبه يثلبه: لامه وعابه. الْقَامُوس.
2 أسهب: أَكثر الْكَلَام. الْقَامُوس.
3 ذكر الْمُؤلف -رَحمَه الله- هُنَا سَبَب تصنيفه هَذَا الْكتاب حَيْثُ كتب لَهُ أحد أنصار مدرسة الحَدِيث فِي عصره يستنجده للنهوض لمطاعن أهل الْكَلَام وَغَيرهم من الْمذَاهب الَّتِي آثرت الْعُدُول عَن بعض الْأَحَادِيث -لما نقل فِيهَا من رِوَايَات كَاذِبَة أَو متناقضة، ويدعوه لإِزَالَة الغموض فِيمَا ذَكرُوهُ من تنَاقض، حَتَّى التمست كل فرقة ضَالَّة دَلِيلا من السّنة تمسكت بِهِ، وظنته مخرجا.
4 يَقُول الْخَوَارِج بِوُجُوب الْخُرُوج على الإِمَام الجائر، كَمَا يجمعُونَ على إكفار الْحكمَيْنِ وَمن رَضِي بحكمهما فِي فتْنَة "عَليّ وَمُعَاوِيَة رَضِي الله عَنْهُمَا"، وَأما التَّكْفِير بارتكاب الْمعاصِي فَلم يجمعوا عَلَيْهِ، وهم يَرُدُّون السّنة إِذا لم يرد مَا يؤيدها صَرَاحَة من الْقُرْآن الْكَرِيم، وهم يجوزون الْإِمَامَة فِي غير قُرَيْش "رَاجع الْملَل والنحل للشهرستاني: جا ص105-107".
أبيدوا خضراءهم" 1.
"وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ خِلَافُ مَنْ خَالَفَهُمْ"2.
وَ "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ" 3.
2- وَالْقَاعِدُ يَحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِمْ: "عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهَا" 4.
وَ "مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قَيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ" 5.
وَ "اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مجدّع الْأَطْرَاف" 6.
__________
1 أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي الرَّوْض الداني رقم 201 بِلَفْظ: " اسْتَقِيمُوا لقريش مَا استقاموا لكم، فَإِذا لم يَفْعَلُوا فضعوا سُيُوفكُمْ على عواتقكم فأبيدوا خضراءهم، فَإِذا لم تَفعلُوا فكونوا زارعين أشقياء تَأْكُلُونَ من كد أَيْدِيكُم". رَوَاهُ ثَوْبَان. وَلم يروه عَن شُعْبَة إِلَّا أَبُو دَاوُد، وَعباد بن عباد المهلبي. الْإِسْنَاد رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط، وَقَالَ الهيثمي: رِجَاله ثِقَات.
2 أخرجه البُخَارِيّ: اعتصام 10، وَمُسلم: إِيمَان 247 وإمارة 170، 173، 174، وَأَبُو دَاوُد: فتن 1، وَالتِّرْمِذِيّ: فتن 27، 51.
3 أخرجه أَصْحَاب الْكتب السِّتَّة من أوجه مُخْتَلفَة، بِلَفْظِهِ أَو بِمَعْنَاهُ. فَروِيَ فِي فتح الْبَارِي 5/ 93، وَمُسلم 1/ 125، وَأَبُو دَاوُد 5/ 128، وَعون المعبود 4/ 391، وَالتِّرْمِذِيّ 4/ 29، وَالنَّسَائِيّ 2/ 166، وَابْن مَاجَه 2/ 861، وَأحمد 2/ 163.
وَقَالَ الذَّهَبِيّ فِي الْمِيزَان 4/ 283 قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَقَالَ الْحَاكِم: فِي إِسْنَاد الحَدِيث هَارُون بن حبَان الرقي كَانَ يضع الحَدِيث، وَقَالَ البُخَارِيّ: فِي حَدِيثه نظر، وَقَالَ فِي اللِّسَان 6/ 178، وَذكره الْعقيلِيّ فِي الضُّعَفَاء، وَذكره السَّاجِي كَذَلِك فِي الضُّعَفَاء، وَانْظُر لِسَان الْمِيزَان 4/ 209 والمجروحون 3/ 51.
4 أخرجه التِّرْمِذِيّ: فتن 7، وَالنَّسَائِيّ: تَحْرِيم 6.
5 أخرجه البُخَارِيّ: أَحْكَام 4، والدارمي: سير 76، وَأحمد 1/ 297.
6 أخرجه مُسلم: حج 311، وَالتِّرْمِذِيّ: جِهَاد 38، وَابْن مَاجَه: جِهَاد 39، وَأحمد: 4/ 70، 5/ 381، 6/ 402-403، ومجدّع الْأَطْرَاف: أَي مقطع الْأَعْضَاء.
و"صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ برٍّ وَفَاجِرٍ"1.
وَلَا بُدَّ مِنْ إِمَامٍ بَرٍّ أَو فَاجر.
و"كُنْ حِلْسَ بَيْتِكَ فَإِنْ دُخِلَ عَلَيْكَ فَادْخُلْ مَخْدَعَكَ، فَإِنْ دُخِلَ عَلَيْكَ، فَقُلْ بُؤْ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ" 2.
وكُنْ عبدَ اللَّهِ المقتولَ، وَلَا تكنْ عبدَ اللَّهِ القاتلَ.
3- وَالْمُرْجِئُ يَحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِمْ: "مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، قِيلَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ" 3.
وَ "مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ -مُخْلِصًا- دَخَلَ الْجَنَّةَ وَلَمْ تَمَسُّهُ النَّارُ" 4.
وَ "أَعْدَدْتُ شَفَاعَتِي، لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي" 5.
4- وَالْمُخَالِفُ لَهُ يَحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِمْ: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِين يسرق وَهُوَ مُؤمن" 6.
__________
1 ورد فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير للألباني برقم 3477 عَن أبي هُرَيْرَة وَضَعِيف أبي دَاوُد 97.
2 أخرجه أَحْمد فِي مُسْنده: 4/ 226 بِلَفْظ: "أَوْصَانِي خليلي أَبُو الْقَاسِم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أدْركْت شَيْئا من هَذِه الْفِتَن فاعمد إِلَى أحد فاكسر بِهِ حد سَيْفك ثمَّ اقعد فِي بَيْتك، قَالَ: فَإِن دخل عَلَيْك أحد إِلَى الْبَيْت فَقُمْ إِلَى المخدع، فَإِن دخل عَلَيْك المخدع فاجثُ على ركبتَيك وقلْ: بُؤْ بإثمي وإثمِك فَتكون من أَصْحَاب النَّار وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمين، فقد كسرت حد سَيفي وَقَعَدت فِي بَيْتِي".
3 أخرجه البُخَارِيّ: جنائز أَو بَدْء الْخلق لِبَاس 24 واستئذان 30 ورقاق 13 وتوحيد 33، وَمُسلم: إِيمَان 153 و154 وَالتِّرْمِذِيّ: إِيمَان 18.
4 أخرجه مُسلم: إِيمَان 47، وَالْبُخَارِيّ: جِهَاد 102، وَالتِّرْمِذِيّ: إِيمَان 17 وَقَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح غَرِيب من هَذَا الْوَجْه، وَقد رُوِيَ عَن الزُّهْرِيّ أَنه سُئِلَ عَن قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا الله دخل الْجنَّة، فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي أول الْإِسْلَام قبل نزُول الْفَرَائِض وَالْأَمر وَالنَّهْي، قَالَ أَبُو عِيسَى: وَوجه هَذَا الحَدِيث عِنْد بعض أهل الْعلم: أَن أهل التَّوْحِيد سيدخلون الْجنَّة، وَإِن عذبُوا بالنَّار بِذُنُوبِهِمْ، فَإِنَّهُم لَا يخلدُونَ فِي النَّار. وَالله أعلم.
5 أخرجه التِّرْمِذِيّ: كتاب 35 بَاب 11، وَأَبُو دَاوُد: كتاب 39 بَاب 20 وَالطَّيَالِسِي رقم 998 و1669 و2026.
6 ابْن مَاجَه: فتن 3.
وَ "لَمْ يُؤْمِنْ مَنْ لَمْ يَأْمَنْ جَارُهُ بَوَائِقَهُ" 1.
وَ "لَمْ يُؤْمِنْ مَنْ لَمْ يَأْمَنِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ" 2.
وَ "يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ رَجُلٌ قَدْ ذَهَبَ حَبْرُهُ وَسَبْرُهُ" 3.
وَ "يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ قَوْمٌ قَدِ امْتَحَشُوا فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، أَوْ كَمَا تَنْبُتُ التَّغَارِيزُ" 4.
5- وَالْقَدَرِيُّ يَحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِمْ: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يَكُونَ أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ" 5.
وَبِأَنَّ الله تَعَالَى قَالَ: "خَلَقْتُ عِبَادِي جَمِيعًا حُنَفَاءَ فَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ دِينِهِمْ" 6.
6- وَالْمُفَوِّضُ يَحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِمْ: "اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خلق لَهُ. أما
__________
1 أخرجه البُخَارِيّ: أدب 29، وَمُسلم: إِيمَان 73، وَالتِّرْمِذِيّ قِيَامَة: 60 وَأحمد 1/ 387 و2/ 288 و336.
وبوائقه: شروره وغوائله.
2 أخرجه البُخَارِيّ: إِيمَان 5 ورقاق 26، وَمُسلم: إِيمَان 64 و65، وَأَبُو دَاوُد: جِهَاد 2، وَالتِّرْمِذِيّ: قِيَامَة 52 وإيمان 12 وَالنَّسَائِيّ: إِيمَان 8 و9 و11، والدرامي: رقاق 4 و8، وَأحمد 2/ 160.
3 الحبر: أثر الْجمال والهيئة الْحَسَنَة، والسبر بِنَفس الْمَعْنى.
4 أخرجه البُخَارِيّ: أَذَان 129 ورقاق 52 وتوحيد 24، وَمُسلم: إِيمَان 299 و304، والدارمي: مُقَدّمَة 8، وَأحمد 1/ 23 و2/ 276 و534 و3/ 56، و144 و326، و5/ 391 و402.
وامتحشوا: أَي احترقوا، ويروى بِالْبِنَاءِ للْمَفْعُول كَمَا نَقله النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم عَن القَاضِي عِيَاض.
5 أخرجه البُخَارِيّ: كتاب 23 بَاب 80 و93 وَكتاب 65 وَسورَة 30 وَكتاب 82 بَاب 3، وَمُسلم: كتاب 46 حَدِيث 22 و25 وَقدر 25، وَأَبُو دَاوُد كتاب 39 وَبَاب 17، وَالتِّرْمِذِيّ: كتاب 30 بَاب 5، ومسند أَحْمد: ص233 و253 و275 و282 ومسند الطَّيَالِسِيّ: حَدِيث 2359 و2433 وَمَغَازِي الْوَاقِدِيّ ص361.
6 أخرجه مُسلم: جنَّة 63 وَأحمد 4/ 162. قَوْله: فَاجْتَالَتْهُمْ: أَي استخفتهم فجالوا مَعَهم فِي الضلال، وَفِي رِوَايَة بِالْحَاء، وَالْمعْنَى: نقلتهم من حَال إِلَى حَال.
مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَهُوَ يَعْمَلُ لِلسَّعَادَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيَعْمَلُ لِلشَّقَاءِ"1.
وَ "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَسَحَ ظَهْرَ آدَمَ فَقَبَضَ قَبْضَتَيْنِ، فَأَمَّا الْقَبْضَةُ الْيُمْنَى فَقَالَ: إِلَى الْجَنَّةِ برحمتي، والقبضة الْأُخْرَى فَقَالَ: إِلَى النَّارِ وَلَا أُبَالِي" 2.
و"السعيد مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالشَّقِيُّ، مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ" 3 هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ.
7- وَالرَّافِضَةُ تَتَعَلَّقُ فِي إِكْفَارِهَا صَحَابَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِوَايَتِهِمْ " لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ الْحَوْضَ أَقْوَامٌ ثُمَّ لَيُخْتَلَجُنَّ دُونِي، فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّي أُصَيْحَابِي أُصَيْحَابِي، فَيَقُولُ إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ" 4.
وَ "لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ" 5.
وَيَحْتَجُّونَ فِي تَقْدِيمِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِرِوَايَتِهِمْ "أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي" 6.
وَ " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ، فعليٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ والِ مَن وَالَاهُ، وعادِ مَن عَادَاهُ" 7.
__________
1 أخرجه البُخَارِيّ: قدر 4 وَتَفْسِير سُورَة 92/ 4 و5 و7 وتوحيد 54، وَمُسلم: قدر 6 و7 و8، وَالتِّرْمِذِيّ: قدر 3 وَتَفْسِير سُورَة 92 وَأحمد 4/ 67.
2 أخرجه أَحْمد فِي مُسْنده قَرِيبا مِنْهُ: 4/ 176 و177 و5/ 68.
3 وَجَدْنَاهُ فِي صَحِيح مُسلم بِلَفْظ: "السعيد من وعظ بِغَيْرِهِ، وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أمه" وَفِي الْمَقَاصِد 240، والدرر برقم 553 والتمييز 87 والكشف 1/ 452 والأسرار 216.
4 انْظُر: صَحِيح مُسلم: فَضَائِل 40.
5 أخرجه مُسلم: إِيمَان 118 و120 وقسامة 29، وَالْبُخَارِيّ: علم 43 وأضاحي 5، وَأَبُو دَاوُد: سنة 15، وَالتِّرْمِذِيّ: فتن 28، والدارمي: مَنَاسِك 76، وَأحمد 2/ 85 و87 و104، و5/ 37، و39.
6 صَحِيح عِنْد الشَّيْخَيْنِ: مُسلم رقم 2404، وَلَفظ البُخَارِيّ: "أما ترْضى أَن تكون مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي" وَهُوَ أَيْضا لفظ مُسلم، وَأما حَدِيث: "أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى" فَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا.
7 انْظُر التِّرْمِذِيّ: مَنَاقِب 19، وَابْن ماجة؛ مُقَدّمَة 11، وَأحمد 1/ 84 و118 و119 و152 و4/ 281.
- و "أَنْت وصيِّي" 1.
8- وَمُخَالِفُوهُمْ يَحْتَجُّونَ فِي تَقْدِيمِ الشَّيْخَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِرِوَايَتِهِمْ: "اقْتَدُوا باللذيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ" 2،
وَ "يَأْبَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْمُسْلِمُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ" 3.
وَ "خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ" 4.
9- وَيَتَعَلَّقُ مُفَضِّلُو الْغِنَى بِرِوَايَتِهِمْ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ غِنَايَ وَغِنَى مَوْلَايَ" 5 "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فَقْرٍ مَرَبٍّ أَوْ مُلِبٍّ" 6.
10- وَيَتَعَلَّقُ مُفَضِّلُو الْفَقْرِ بِرِوَايَتِهِمْ: "اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ" 7.
وَ "الْفَقْرُ بِالرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ، أَحْسَنُ مِنَ الْعَذَارِ الْحَسَنِ، عَلَى خَدِّ الْفرس" 8.
__________
1 ذكر البُخَارِيّ فِي بَاب الْوَصِيَّة 1، وَمُسلم: الْوَصِيَّة 19 حَدِيثا يَنْفِي هَذِه الْوَصِيَّة المزعومة، وَهُوَ: "ذكرُوا عِنْد عَائِشَة: أَن عليًّا وصيًّا. فَقَالَت: مَتى أوصى إِلَيْهِ؟ فقد كنت مسندته إِلَى صَدْرِي "أَو قَالَت حجري" فَدَعَا بالطست فَلَقَد انخنث فِي حجري، وَمَا شَعرت أَنه مَاتَ. فَمَتَى أوصى لَهُ؟ ".
2 الحَدِيث صَحِيح، صَححهُ الألباني: السلسلة الصَّحِيحَة رقم 1223. مُحَمَّد بدير- وَقد كَانَ سبق فِي الطبعة السَّابِقَة أَن ضعفناه اشتباهًا بروايات أُخْرَى ضَعِيفَة.
3 أخرجه مُسلم: فَضَائِل الصَّحَابَة 11، وَأَبُو دَاوُد: سنة 11، وَأحمد: 1/ 23 و2/ 276 و534 و3/ 56 و144 و326 و5/ 391 و402.
4 أخرجه ابْن ماجة: الْمُقدمَة ب11، وَأحمد: 1/ 106 و110 و1/ 113 و114 و125 و126 و127 و128. انْظُر ضَعِيف الْجَامِع 2903، والسلسلة الضعيفة 3573 - مُحَمَّد بدير.
5 أخرجه أَحْمد: 3/ 452. ضَعِيف رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير عَن أبي صرمة -انْظُر ضَعِيف الْجَامِع رقم 1295، والضعيفة 2912.
6 أخرجه النَّسَائِيّ: استعاذة 14 و16، وَأحمد: 2/ 305 و325 و354.
7 أخرجه التِّرْمِذِيّ: زهد 37، وَابْن ماجة: زهد 7. صَحِيح انْظُر صَحِيح الْجَامِع 1261، والصحيحة 308 وَهُوَ عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير والضياء عَن عبَادَة بن الصَّامِت، وَفِي مُسْند عبد بن حميد عَن أبي سعيد -مُحَمَّد بدير.
8 ذكره الألباني فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 4033 عَن شَدَّاد بن أَوْس وَسَعِيد بن مَسْعُود بِلَفْظ: "الْفقر بِالرجلِ الْمُؤمن أزين على الْمُؤمن مِنَ الْعَذَارِ الْحَسَنِ عَلَى خَدِّ الْفرس". وسلسلة الْأَحَادِيث الضعيفة برقم 564.
11- وَيَتَعَلَّقُ الْقَائِلُونَ بِالْبَدَاءِ -بِالْبِرِّ أَنَّهُ يُنْسِئُ الْعُمُرَ وَبِالْعُقُوقِ أَنَّهُ يَخْرِمُ الْعُمُرَ- بِرِوَايَتِهِمْ: "صِلَةُ الرَّحِمِ، تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ وَالصَّدَقَةُ تَدْفَعُ الْقَضَاءَ الْمُبْرَمَ " 1.
وَبِقَوْلِ عُمَرَ: "اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي أَهْلِ الشَّقَاءِ فَامْحُنِي وَاكْتُبْنِي فِي أَهْلِ السَّعَادَةِ".
12- هَذَا مَعَ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي الْأَحْكَامِ، اخْتَلَفَ لَهَا الْفُقَهَاءُ فِي الْفُتْيَا، حَتَّى افْتَرَقَ الْحِجَازِيُّونَ وَالْعِرَاقِيُّونَ فِي أَكْثَرِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، وَكُلٌّ يَبْنِي عَلَى أَصْلٍ مِنْ رِوَايَتِهِمْ.
قَالُوا وَمَعَ افْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَحَادِيثِ التَّشْبِيهِ كَحَدِيثِ "عَرَقِ الْخَيْلِ"2 وَ"زَغَبِ الصَّدْرِ"3 وَ"نُورِ الذِّرَاعَيْنِ" وَ"عِيَادَةِ الْمَلَائِكَةِ".
وَ "قَفَصِ الذَّهَبِ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ، عَشِيَّةَ عَرَفَةَ" 4.
وَ "الشَّابِّ الْقَطِطِ، وَدُونَهُ فِرَاشُ الذَّهَبِ" 5 و"كشف السَّاق يَوْم
__________
1 أخرجه البُخَارِيّ: كتاب 78 بَاب 12، وَمُسلم: كتاب 45 حَدِيث 16 و17 و20 و22، وَالتِّرْمِذِيّ: كتاب 25 بَاب 9 و49، وَأحمد 2/ ص189 و484 و3/ ص156.
2 هَذَا الحَدِيث وَضعه بعض الزَّنَادِقَة وَهُوَ: "أَن الله تَعَالَى لما أَرَادَ أَن يخلق نَفسه خلق الْخَيل فأجراها حَتَّى عرقت ثمَّ خلق نَفسه من ذَلِك الْعرق". قَالَ ابْن عَسَاكِر: حَدِيث إِجْرَاء الْخَيل مَوْضُوع، وَضعه بعض الزَّنَادِقَة ليشنع بِهِ على أَصْحَاب الحَدِيث فِي روايتهم المستحيل، فَقبله من لَا عقل لَهُ، وَهُوَ مِمَّا يقطع بِبُطْلَانِهِ شرعا وعقلًا". ا. هـ بِنَقْل السُّيُوطِيّ عَنهُ.
3 وَهَذَا الحَدِيث وَضعه بعض الزَّنَادِقَة أَيْضا، وَهُوَ: "أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ الْمَلَائِكَة من شعر ذِرَاعَيْهِ وصدره أَو من نورهما".
4 حَدِيث مَوْضُوع لَا أصل لَهُ. انْظُر الْأَسْرَار المرفوعة فِي الْأَخْبَار الْمَوْضُوعَة لملا عَليّ الْقَارِي، تَحْقِيق د. مُحَمَّد لطفي الصّباغ برقم 209، وَانْظُر اللآلي 1/ 28-31. وَلَفظه: "رَأَيْت رَبِّي يَوْم النَّفر على جمل أَوْرَق عَلَيْهِ جُبَّة صوف أَمَام النَّاس". وَقَالَ ابْن تَيْمِية: هُوَ من أعظم الْكَذِب على الله وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
5 ورد فِي اللآلئ ص 29 و30 عَن ابْن عَبَّاس "رَأَيْت رَبِّي فِي صُورَة شَاب لَهُ وَفْرَةٌ" وَرُوِيَ: "فِي صُورَة شَاب أَمْرَد". قَالَ سُفْيَان بن زِيَاد: فَلَقِيت عِكْرِمَة بعد، فَسَأَلته الحَدِيث فَقَالَ: "نعم كَذَا حَدثنِي إِلَّا أَنه قَالَ: رَآهُ بفؤاده".
الْقِيَامَة"1 إِذَا كَادُوا يُبَاطِشُونَهُ2، وَ"خَلْقِ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ" 3 وَ" وَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفِيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ ثَنْدُوَتَيَّ" 4 وَ "قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ تَعَالَى" 5.
وَمَعَ رِوَايَتِهِمْ كُلُّ سَخَافَةٍ تَبْعَثُ عَلَى الْإِسْلَامِ الطَّاعِنِينَ، وَتُضْحِكُ مِنْهُ الْمُلْحِدِينَ، وَتُزَهِّدُ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ الْمُرْتَادِينَ6، وَتَزِيدُ فِي شُكُوكِ الْمُرْتَابِينَ.
كَرِوَايَتِهِمْ: فِي "عَجِيزَةِ7 الْحَوْرَاءِ إِنَّهَا مَيْلٌ فِي مَيْلٍ" وَفِيمَنْ قَرَأَ سُورَةَ كَذَا وَكَذَا، وَمن فعل كَذَا، أُسْكِنَ مِنَ الْجَنَّةِ سَبْعِينَ أَلْفَ قَصْرٍ، فِي كُلِّ قَصْرٍ سَبْعُونَ أَلِفَ مَقْصُورَةٍ، فِي كُلِّ مَقْصُورَة سَبْعُونَ ألف مهاد، علسى كُلِّ مِهَادٍ سَبْعُونَ أَلْفَ كَذَا.
وَكَرِوَايَتِهِمْ: فِي الْفَأْرَةِ "إِنَّهَا يَهُودِيَّةٌ، وَإِنَّهَا لَا تَشْرَبُ أَلْبَانَ الْإِبِلِ، كَمَا أَنَّ الْيَهُودَ لَا تَشْرَبُهَا"8. وَفِي الْغُرَابِ إِنَّهُ فَاسِقٌ، وَفِي السنور إِنَّهَا عطسة
__________
1 حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ فِي الصَّحِيحَيْنِ، ورقمه فِي اللُّؤْلُؤ 115، وَهُنَاكَ مَكَان فِي كل من البُخَارِيّ وَمُسلم. مُحَمَّد بدير.
2 وَفِي نُسْخَة: يواقشونه، وَلَا نجد معنى للكلمتين.
3 أخرجه البُخَارِيّ: اسْتِئْذَان 1، وَمُسلم: بر 115 وجنة 38، وَأحمد 2/ 244 و251 و315 و434 و463 و519.
4 أخرجه التِّرْمِذِيّ: تَفْسِير سُورَة 3 و4 و38 و2، والدارمي: رُؤْيا 12، وَأحمد 1/ 368 و4/ 66 و5/ 58 و243 و378 وَعَن ابْن عَبَّاس بِإِسْنَاد صَحِيح، انْظُر جَامع الصَّحِيح رقم 59 - والثندوتان: الثديان.
5 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: " قلب ابْن آدم على أصبعين من أَصَابِع الْجَبَّار" انْظُر مُسْند أَحْمد: 2/ 173.
6 وَلَعَلَّ الْأَصَح: المترددين.
7 العجيزة: من الْعَجز؛ وَهُوَ مُؤخر الشَّيْء، والعجيزة: خَاصَّة بِالْمَرْأَةِ وَلَا يُقَال للرجل إِلَّا على التَّشْبِيه.
وَقد وجدنَا الحَدِيث فِي مُسْند أَحْمد: 2/ 537: ".. وَأَن لَهُ من الْحور الْعين اثْنَيْنِ وَسبعين زَوْجَة سوى أَزوَاجه من الدُّنْيَا وَإِن الْوَاحِدَة مِنْهُنَّ ليَأْخُذ مقعدها قدر ميل من الأَرْض".
8 أخرجه أَحْمد فِي مُسْنده: 2/ 289 والْحَدِيث أَصله فِي الصَّحِيحَيْنِ؛ انْظُر اللُّؤْلُؤ والمرجان رقم 1886 عَن أبي هُرَيْرَة. -مُحَمَّد بدير.
الْأسد، وَالْخِنْزِيرِ إِنَّهُ عَطْسَةُ الْفِيلِ، وَفِي الْإِرْبِيَانَةِ1 أَنَّهَا كَانَتْ خَيَّاطَةٌ، تَسْرِقُ الْخُيُوطَ فَمُسِخَتْ، وَأَنَّ الضَّبَّ كَانَ يَهُودِيًّا عَاقًّا فَمُسِخَ، وَأَنَّ سُهَيْلًا كَانَ عَشَّارًا بِالْيَمَنِ، وَأَنَّ الزُّهْرَةَ كَانَتْ بَغِيًّا عَرَجَتْ إِلَى السَّمَاءِ بِاسْمِ اللَّهِ الْأَكْبَرِ2، فَمَسَخَهَا اللَّهُ شِهَابًا، وَأَنَّ الْوَزَغَةَ كَانَتْ تَنْفُخُ النَّارَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّ الْعَظَايَةَ3 تَمُجُّ الْمَاءَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْغُولَ كَانَتْ تَأْتِي مَشْرَبَةَ أَبِي أَيُّوبَ كُلَّ لَيْلَةٍ، وَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، صَارَعَ الْجِنِّيَّ فَصَرَعَهُ4 وَأَنَّ الْأَرْضَ عَلَى ظَهْرِ حُوتٍ، وَأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ مِنْ كَبِدِهِ5؛ أَوَّلَ مَا يَدْخُلُونَ، وَأَنَّ ذِئْبًا دَخَلَ الْجَنَّةَ لِأَنَّهُ أَكَلَ عشارًا -و"إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي الْإِنَاءِ، فَامْقِلُوهُ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ سُمًّا، وَفِي الْآخَرِ شِفَاءً وَأَنَّهُ يقدم السم، وَيُؤَخر الشِّفَاء6، و"أَن الْإِبِلَ خُلِقَتْ مِنَ الشَّيْطَانِ" مَعَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهَا7.
قَالُوا: وَمِنْ عَجِيبِ شَأْنِهِمْ أَنَّهُمْ يَنْسُبُونَ الشَّيْخَ8 إِلَى الْكَذِبِ وَلَا يَكْتُبُونَ عَنْهُ مَا يُوَافِقُهُ عَلَيْهِ الْمُحَدِّثُونَ بِقَدْحِ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ9 وَعَلِيِّ بن الْمَدِينِيّ وأشباههما.
__________
1 واحده: الإربيان وَهُوَ سمك كالدود.
2 وَفِي نُسْخَة: الْأَكْبَر.
3 العظاية: هِيَ سَام أبرص. والْحَدِيث رَوَاهُ البُخَارِيّ رقم 3359 عَن أم شريك مَرْفُوعا -مُحَمَّد بدير.
4 فصرعه: أَي غَلبه بالمصارعة.
5 هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا، وَهُوَ فِي اللُّؤْلُؤ برقم 1778. -مُحَمَّد بدير.
6 أخرجه البُخَارِيّ: بَدْء الْخلق 17، والموطأ: 58، وَأَبُو دَاوُد: أَطْعِمَة 48، وَالنَّسَائِيّ: فرع 11، وَابْن ماجة: ص311، والدارمي: أسلمة 12، وَابْن حَنْبَل: 2/ 329 و346 و362 و388 و398 و443.
7 وَفِي نُسْخَة: اقتصاصها.
8 قَوْله ينسبون الشَّيْخ إِلَى الْكَذِب: لَا يقْصد شَيخا بِعَيْنِه، بل المُرَاد أَنهم يطعنون بالثقات من الروَاة لمُجَرّد طعن من يثقون فِيهِ.
9 يحيى بن معِين أَبُو زَكَرِيَّا الْبَغْدَادِيّ الْحَافِظ الإِمَام الْعلم، قَالَ أَحْمد: كل حَدِيث لَا يعرفهُ يحيى فَلَيْسَ بِحَدِيث مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة 233هـ.
ويحتجون بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ1 -فِيمَا لَا يُوَافِقُهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ- وَقَدْ أَكْذَبَهُ عُمَرُ2، وَعُثْمَانُ3، وَعَائِشَةُ4.
وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ5 -وَقَدْ أَكْذَبَهَا عُمَرُ، وَعَائِشَةُ- وَقَالُوا: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا، وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ.
وَيُبَهْرِجُونَ6 الرَّجُلَ بِالْقَدَرِ، فَلَا يَحْمِلُونَ عَنْهُ كَـ "غيلَان"، و"عَمْرو بن عبيد"7 و"معبد الْجُهَنِيّ"8، و"عَمْرو بْنِ فَائِدٍ"، وَيَحْمِلُونَ عَنْ أَمْثَالِهِمْ من
__________
1 هُوَ عبد الرَّحْمَن بن صَخْر الدوسي، أسلم سنة 7هـ، وَلزِمَ صُحْبَة النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ من أَكثر الصَّحَابَة حفظا للْحَدِيث وَرِوَايَة لَهُ، ولي أَمر الْمَدِينَة، وَاسْتَعْملهُ عمر على الْبَحْرين، وَكَانَ كثير الْعِبَادَة، توفّي سنة 59هـ.
2 عمر بن الْخطاب أَبُو حَفْص، أحد فُقَهَاء الصَّحَابَة، وَثَانِي الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، وَأحد الْعشْرَة المبشرين بِالْجنَّةِ، وَأول من سمي أَمِير الْمُؤمنِينَ، شهد بَدْرًا والمشاهد إِلَّا تَبُوك، فتحت فِي أَيَّامه الْأَمْصَار، اسْتشْهد سنة 24هـ.
3 عُثْمَان بن عُثْمَان أَمِير الْمُؤمنِينَ ذُو النورين، وَهُوَ أَحَدُ الْعَشْرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجنَّةِ جمع النَّاس على مصحف وَاحِد، كَانَ ينْفق مَاله فِي سَبِيل الله، وَهُوَ ثَالِث الْخُلَفَاء الرَّاشِدين اسْتشْهد سنة 35هـ وعمره "82" سنة.
4 عَائِشَة بنت أبي بكر الصّديق، وَأم الْمُؤمنِينَ زوج رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم كَانَت فِي الْعلم بِمَنْزِلَة كَبِيرَة. قَالَ الزُّهْرِيّ: لَو جمع علم عَائِشَة إِلَى جَمِيع أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم وَعلم جَمِيع النِّسَاء لَكَانَ علم عَائِشَة أفضل. وَتُوفِّي عَنْهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي فِي الثَّامِنَة عشرَة. مَاتَت سنة 58هـ بِالْمَدِينَةِ ودفنت بِالبَقِيعِ.
5 فَاطِمَة بنت قيس بن خَالِد القرشية الفهرية، أُخْت الضَّحَّاك بن قيس الْأَمِير، صحابية من الْمُهَاجِرَات الْأَوَائِل. لَهَا رِوَايَة للْحَدِيث. كَانَت ذَات جمال وعقل، وَفِي بَيتهَا اجْتمع أَصْحَاب الشورى عِنْد قتل عمر رَضِي الله عَنهُ.
6 يبهرجون: يعدلُونَ بالشَّيْء عَن الجادة القاصدة إِلَى غَيرهَا كَمَا فِي الْقَامُوس.
وَالْقَصْد أَنهم يطعنون فِي عَدَالَة الرجل وَصدقه، فينفر النَّاس مِنْهُ وَلَا يقبلُونَ مِنْهُ علما -مُحَمَّد بدير.
7 عَمْرو بن عبيد بن بَاب التَّيْمِيّ بِالْوَلَاءِ، ولد عَام 80هـ، وَهُوَ شيخ الْمُعْتَزلَة فِي عصره ومفتيها وَأحد الزهاد الْمَشْهُورين. كَانَ جده من سبي فَارس، وَأَبوهُ نساجًا ثمَّ شرطيًّا للحجاج فِي الْبَصْرَة، واشتهر عَمْرو بِعِلْمِهِ وزهده وأخباره مَعَ الْمَنْصُور العباسي وَغَيره.
وَفِيه قَالَ الْمَنْصُور: كلكُمْ طَالب صيد غير عَمْرو بن عبيد. توفّي بمران "بِقرب مَكَّة" عَام 144هـ. قَالَ يحيى بن معِين: كَانَ من الدهرية.
8 معبد الْجُهَنِيّ، هُوَ معبد بن عبد الله بن عويم، من الْبَصْرَة أول من قَالَ بِالْقدرِ وانتقل من الْبَصْرَة إِلَى الْمَدِينَة فنشر فِيهَا مذْهبه، وَهُوَ فَقِيه فِي الحَدِيث، قيل قَتله الْحجَّاج صبرا سنة 80هـ.
أهل مَقَالَتِهِمْ، كَـ "قَتَادَةَ"1، وَابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ2، وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ3، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ4، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ5.
وَيَقْدَحُونَ فِي الشَّيْخِ يُسَوِّي بَيْنَ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ، أَوْ يُقَدِّمُ عَلِيًّا عَلَيْهِ.
وَيَرْوُونَ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ6، صَاحِبِ رَايَةِ الْمُخْتَارِ، وَعَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ7، وَكِلَاهُمَا يَقُولُ بِالرَّجْعَةِ8.
قَالُوا: وَهُمْ مَعَ هَذَا أَجْهَلُ النَّاسِ بِمَا يَحْمِلُونَ، وَأَبْخَسُ النَّاسِ حَظًّا فِيمَا يَطْلُبُونَ، وَقَالُوا فِي ذَلِك:
__________
1 قَتَادَة بن دعامة السدُوسِي، أَبُو الْخطاب الْبَصْرِيّ أحد الْأَئِمَّة الْأَعْلَام، روى عَن أنس بن مَالك وَابْن الْمسيب وَابْن سِيرِين، توفّي سنة 117هـ.
2 سعيد ابْن أبي عرُوبَة: الْعَدوي بِالْوَلَاءِ الْبَصْرِيّ حَافظ للْحَدِيث لم يكن فِي زَمَانه أحفظ مِنْهُ قَالَ الذَّهَبِيّ: إِمَام أهل الْبَصْرَة فِي زَمَانه، وَرمي بِالْقدرِ، اخْتَلَط فِي آخر عمره، توفّي 156هـ.
3 هُوَ عبد الله بن يسَار، أَبُو يسَار، وَعرف بِعَبْد الله ابْن أبي نجيح، ثِقَة صَالح الحَدِيث، ويذكرون أَنه يَقُول بِالْقدرِ، وَذكره النَّسَائِيّ فِيمَن كَانَ يُدَلس، وَثَّقَهُ أَحْمد وَابْن معِين وروى عَنهُ سُفْيَان بن عُيَيْنَة، مَاتَ سنة 131هـ.
4 مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر بن عبد الله بن الهدير بن عبد الْعُزَّى الْقرشِي التَّيْمِيّ، ولد عَام 54هـ، مدنِي زاهد، من رجال الحَدِيث. أدْرك بعض الصَّحَابَة وروى عَنْهُم، لَهُ نَحْو مِائَتي حَدِيث. قَالَ ابْن عُيَيْنَة: ابْن الْمُنْكَدر من معادن الصدْق توفّي عَام 130هـ.
5 ابْن أبي ذِئْب هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْمُغيرَة ولد 80هـ، من قُرَيْش من رُوَاة الحَدِيث وَمن أهل الْمَدِينَة كَانَ يُفْتِي بهَا من أورع النَّاس وأفضلهم فِي عصره توفّي سنة 158هـ.
6 هُوَ عَامر بن وائلة الْكِنَانِي اللَّيْثِيّ، ولد عَام أحد، وَأثبت مُسلم وَابْن عدي صحبته، كَانَ من شيعَة عَليّ، ثمَّ سكن مَكَّة وَمَات سنة 100هـ.
7 جَابر بن يزِيد بن الْحَارِث الْجعْفِيّ، تَابِعِيّ، من فُقَهَاء الشِّيعَة، من أهل الْكُوفَة. أثنى عَلَيْهِ بعض رجال الحَدِيث، واتهمه آخَرُونَ بالْقَوْل بالرجعة. وَكَانَ وَاسع الرِّوَايَة غزير الْعلم. مَاتَ بِالْكُوفَةِ عَام 128هـ.
8 بالرجعة: بالعودة إِلَى الدُّنْيَا بعد الْمَوْت.
زوامِلُ1 لِلْأَشْعَارِ، لَا عِلْمَ عِنْدَهُمْ ... بِجَيِّدِهَا إِلَّا كَعِلْمِ الْأَبَاعِرِ
لَعَمْرُكَ مَا يَدْرِي2 الْبَعِيرُ إِذَا غَدَا ... بِأَحْمَالِهِ3 أَوْ رَاحَ مَا فِي الْغَرَائِرِ
قَدْ قَنِعُوا مِنَ الْعِلْمِ بِرَسْمِهِ، وَمِنَ الْحَدِيثِ بِاسْمِهِ.
وَرَضُوا بِأَن يُقَال4: فُلَانٌ عَارِفٌ بِالطُّرُقِ، وَرَاوِيَةٌ لِلْحَدِيثِ. وَزَهِدُوا فِي أَنْ يُقَالَ: عَالِمٌ بِمَا كَتَبَ، أَوْ عَامِلٌ بِمَا عَلِمَ.
وَقَالَ: وَمَا ظَنُّكُمْ بِرَجُلٍ مِنْهُمْ، يُحْمَلُ عَنْهُ الْعِلْمُ وَتُضْرَبُ5 إِلَيْهِ أَعْنَاقُ الْمَطِيِّ خَمْسِينَ سَنَةً أَوْ نَحْوَهَا، سُئِلَ فِي مَلَأٍ مِنَ النَّاسِ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي بِئْرٍ فَقَالَ: "الْبِئْرُ جَبَارٌ" 6.
وَآخَرَ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} 7 فَقَالَ: هُوَ هَذَا الصَّرْصَرُ، يَعْنِي صَرَاصِرَ اللَّيْلِ.
وَآخَرَ حَدَّثَهُمْ عَنْ سَبْعَةٍ وَسَبْعِينَ، وَيُرِيد شُعْبَة وسفين8.
وَآخَرَ رَوَى لَهُمْ: يَسْتُرُ الْمُصَلِّيَ مِثْلُ آجُرّة الرَّجُلِ، يُرِيدُ: مِثْلَ آخِرَة الرّحل9.
__________
1 الزاملة: بعير يستظهر بِهِ الرجل يحمل عَلَيْهِ مَتَاعه وَطَعَامه.
والبيتان لمروان بن سُلَيْمَان بن يحيى بن أبي حَفْصَة، هجا بهما قوما من رُوَاة الشّعْر.
2 وَفِي نُسْخَة: وَمَا تَدْرِي الْمطِي.
3 وَفِي نُسْخَة: بأوساقه.
4 وَفِي نُسْخَة: بِأَن يَقُولُوا.
5 وَفِي نُسْخَة: وَتصرف.
6 انْظُر البُخَارِيّ: مُسَاقَاة 3.
والجبار بِالضَّمِّ: البريء من الشَّيْء، وَقد توهم من هَذَا الحَدِيث أَن الْفَأْرَة إِذا وَقعت فِي الْبِئْر لَا تنجسها.
7 الْآيَة 117 من سُورَة آل عمرَان. وَالْآيَة: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ... } "ريح" بِالْكَسْرِ كَمَا وَردت بِالْآيَةِ لَا بِالضَّمِّ.
8 يَعْنِي أَنه تصحف عَلَيْهِ اسْم شُعْبَة، وسفين، بسبعة وَسبعين للقرب الَّذِي بَينهمَا فِي الصُّورَة الخطية.
9 يُرِيد أَنه قد تصحف عَلَيْهِ "الرّحل" "بِالرجلِ"، وتصحف عَلَيْهِ "الْآخِرَة" "وبالآجرة"؛ وَهِي الْخَشَبَة الَّتِي يسْتَند إِلَيْهَا الرَّاكِب من كور الْبَعِير.
وَسُئِلَ آخَرُ: مَتَى يَرْتَفِعُ هَذَا الْأَجَلُ؟ فَقَالَ: إِلَى قَمَرَيْنِ، يُرِيدُ: إِلَى شَهْرَيْ هِلَالٍ.
وَقَالَ آخَرُ: يُدْخِلُ يَدَهُ فِي فِيهِ، فَيَقْضِمُهَا قَضْمَ الْفُجْلِ، يُرِيدُ: قَضْمَ الْفَحْلِ.
وَقَالَ آخَرُ: أَجِدُ فِي كِتَابِي الرَّسُولَ، وَلَا أَجِدُ اللَّهَ، يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ الْمُسْتَمْلِي: اكْتُبُوا؛ وَشَكَّ فِي الله تَعَالَى، مَعَ أَشْيَاء يكثر تَعْدَادُهَا.
قَالُوا: وَكُلَّمَا كَانَ الْمُحَدِّثُ أَمْوَقَ1 كَانَ عِنْدَهُمْ أَنْفَقَ.
وَإِذَا كَانَ كَثِيرَ اللَّحْنِ وَالتَّصْحِيفِ، كَانُوا بِهِ أَوْثَقَ.
وَإِذَا سَاءَ خُلُقُهُ، وَكثر غَضَبه، واشتدت2حِدته، وعثر3 فِي الحَدِيث، تهافتوا عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ4 كَانَ الْأَعْمَشُ يَقْلِبُ الْفَرْوَ، وَيَلْبَسُهُ، وَيَطْرَحُ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْدِيلَ الْخِوَانِ. وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ إِسْنَادِ حَدِيثٍ، فَأَخَذَ بِحَلْقِهِ وَأَسْنَدَهُ إِلَى الْحَائِطِ، وَقَالَ هَذَا إِسْنَادُهُ.
وَقَالَ: إِذَا رَأَيْتُ الشَّيْخَ لَمْ يَطْلُبِ الْفِقْهَ أَحْبَبْتُ أَنْ أَصْفَعَهُ. مَعَ حَمَاقَاتٍ كَثِيرَةٍ تُؤْثَرُ عَنْهُ لَا نَحْسَبُهُ كَانَ يُظْهِرُهَا إِلَّا لِيَنْفُقَ5 بِهَا عِنْدَهُمْ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ6: هَذَا مَا حَكَيْتَ مِنْ طَعْنِهِمْ عَلَى أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَشَكَوْتَ تَطَاوُلَ الْأَمْرِ بِهِمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَن ينضح عَنْهُم نَاضِح،
__________
1 أموق أَي أَحمَق وأغبى.
2 لَعَلَّ الصَّحِيح: اشتدت حِدته، وَفِي نُسْخَة أُخْرَى: وَاشْتَدَّ حِدة.
3 وَفِي نُسْخَة أُخْرَى: وعسرة.
4 وَفِي نُسْخَة: وَلذَلِك.
5 لينفق بهَا عِنْدهم: أَي ليَكُون لَهُ اعْتِبَار بَينهم.
6 يُشِير الْمُؤلف إِلَى الْأَسْبَاب الْمُوجبَة لتصنيفه هَذَا الْكتاب، بعد أَن تهاون بالنهوض لَهَا من يضع الْحق فِي نصابه ويزيل الغموض ويكشف وَجه الصَّوَاب.
وَيَحْتَجَّ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ مُحْتَجٌّ، أَوْ يَتَأَوَّلَهَا مُتَأَوِّلٌ، حَتَّى أَنِسُوا بِالْعَيْبِ، وَرَضُوا بِالْقَذْفِ، وَصَارُوا بِالْإِمْسَاكِ عَنِ الْجَوَابِ، كالمسلِّمين، وَبِتِلْكَ الْأُمُورِ مُعْتَرِفِينَ.
وَتَذْكُرْ أَنَّكَ وَجَدْتَ فِي كِتَابِي الْمُؤَلَّفِ فِي "غَرِيبِ الْحَدِيثِ" بَابًا ذَكَرْتُ فِيهِ شَيْئًا مِنَ الْمُتَنَاقِضِ عِنْدَهُمْ، وَتَأَوَّلْتُهُ فَأَمَّلْتَ بِذَلِكَ أَنْ تَجِدَ عِنْدِي فِي جَمِيعِهِ مِثْلَ الَّذِي وَجَدْتَهُ فِي تِلْكَ1 مِنَ الْحُجَجِ، وَسَأَلْتَ أَنْ أَتَكَلَّفَ ذَلِكَ مُحْتَسِبًا لِلثَّوَابِ.
فَتَكَلَّفْتُهُ بِمَبْلَغِ عِلْمِي وَمِقْدَارِ طَاقَتِي، وَأَعَدْتُ مَا ذَكَرْتُ فِي كُتُبِي مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ؛ لِيَكُونَ الْكِتَابُ تَامًّا جَامِعًا لِلْفَنِّ الَّذِي قَصَدُوا الطَّعْنَ بِهِ.
وَقَدَّمْتُ -قَبْلَ ذِكْرِ الْأَحَادِيثِ، وَكَشْفِ مَعَانِيهَا- وَصْفَ أَصْحَابِ الْكَلَامِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ، بِمَا أُعَرِّفُ بِهِ كُلَّ فَرِيقٍ.
وَأَرْجُو أَنْ لَا يَطَّلِعَ ذُو النُّهَى مِنِّي، عَلَى تَعَمُّدٍ لِتَمْوِيهٍ، وَلَا إِيثَارٍ لِهَوًى، وَلَا ظُلْمٍ لخصم.
وعَلى الله أتوكل فيمَ أحاول، وَبِه أستعين.
__________
1 وَفِي نُسْخَة: وجدت فِي ذَلِك.
شريف ابراهيم
شريف ابراهيم
نائب المدير العام
نائب المدير العام

عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تأويل مختلف الحديث الْمُقدمَات مُقَدّمَة الطبعة الثَّانِيَة Empty الرَّد على مطاعن المناهضين:

مُساهمة من طرف شريف ابراهيم الخميس 27 يوليو 2017 - 15:12

الرَّد على مطاعن المناهضين:
الرَّد على أَصْحَاب الْكَلَام وَأَصْحَاب الرَّأْي
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَدْ تَدَبَّرْتُ -رَحِمَكَ اللَّهُ- كَلَامَ الْعَايِبِينَ وَالزَّارِينَ1 فوجدتهم يَقُولُونَ على الله مَا لا يَعْلَمُونَ، وَيَعِيبُونَ2 النَّاسَ بِمَا يَأْتُونَ وَيُبْصِرُونَ الْقَذَى فِي عُيُونِ النَّاسِ، وَعُيُونُهُمْ تَطْرِفُ3 عَلَى الْأَجْذَاعِ4 وَيَتَّهِمُونَ غَيْرَهُمْ فِي النَّقْلِ، وَلَا يَتَّهِمُونَ آرَاءَهُمْ فِي التَّأْوِيلِ.
وَمَعَانِي الْكِتَابِ5 وَالْحَدِيثِ، وَمَا أَوْدَعَاهُ مِنْ لَطَائِفِ الْحِكْمَةِ وَغَرَائِبِ اللُّغَةِ، لَا يُدْرَكُ بِالطَّفْرَةِ6 وَالتَّوَلُّدِ وَالْعَرْضِ وَالْجَوْهَرِ، وَالْكَيْفِيَّةِ وَالْكَمِّيَّةِ وَالْأَيْنِيَّةِ.
وَلَوْ رَدُّوا الْمُشْكَلَ مِنْهُمَا، إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِمَا، وَضَحَ لَهُمُ الْمَنْهَجُ، وَاتَّسَعَ لَهُمُ الْمَخْرَجُ.
وَلَكِنْ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ طَلَبُ الرِّيَاسَةِ، وَحُبُّ الْأَتْبَاعِ، وَاعْتِقَادُ الإخوان بالمقالات.
__________
1 وَفِي نُسْخَة: مقَالَة أهل الْكَلَام.
2 وَفِي نُسْخَة: ويفتنون.
3 عيونه تطرف: تطبق أحد جفنيه على الآخر.
4 الأجذاع: جمع جذع: النّخل، وَفِي نُسْخَة: الأجذال.
5 أَي الْقُرْآن الْكَرِيم كتاب الله تَعَالَى.
6 من الْكَلِمَات الَّتِي تجْرِي على أَلْسِنَة الْمُتَكَلِّمين وتذكر فِي كتبهمْ، ومعانيها كَمَا وَردت فِي الْقَامُوس.
الطفرة: الوثب فِي ارْتِفَاع.
الْعرض من الْكَلَام: فحواه.
الْجَوْهَر: كل حجر يسْتَخْرج مِنْهُ شَيْء ينْتَفع بِهِ، ثمَّ اسْتعْمل مجَازًا لكل أَمر أَو شَيْء يسْتَخْرج مِنْهُ شَيْء ينْتَفع بِهِ.
والكيفية: مَأْخُوذَة من "كَيفَ"، والكمية: مَأْخُوذَة من "كم" والأينية: مَأْخُوذَة من "أَيْن".
وَالنَّاسُ أَسْرَابُ1 طَيْرٍ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَلَوْ ظَهَرَ لَهُمْ مَنْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ -مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ بِأَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ مَنْ يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ- لَوَجَدَ عَلَى ذَلِكَ أَتْبَاعًا وَأَشْيَاعًا.
وَقَدْ كَانَ يَجِبُ -مَعَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْقِيَاسِ وَإِعْدَادِ آلَاتِ النَّظَرِ- أَنْ لَا يَخْتَلِفُوا كَمَا لَا يَخْتَلِفُ الحُسّاب والمُسّاح، وَالْمُهَنْدِسُونَ، لِأَنَّ آلَتَهُمْ لَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى عَدَدٍ وَاحِدٍ، وَإِلَّا عَلَى شَكْلٍ وَاحِدٍ، وَكَمَا لَا يَخْتَلِفُ حُذَّاقُ الْأَطِبَّاءِ فِي الْمَاءِ وَفِي نَبْضِ الْعُرُوقِ؛ لِأَنَّ الْأَوَائِلَ قَدْ وَقَّفُوهُمْ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ فَمَا بَالُهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ اخْتِلَافًا، لَا يَجْتَمِعُ اثْنَانِ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ فِي الدِّينِ.
فَـ "أَبُو الْهُذَيْلِ الْعَلَّافُ"2 يُخَالِفُ "النَّظَّامَ"3 و"النجار"4 يخالفهما، و"هِشَام بْنُ الْحَكَمِ"5 يُخَالِفُهُمْ، وَكَذَلِكَ "ثُمَامَةُ" و"مويس" و"هَاشم الأوقص" و"عبيد الله بن الْحسن"6 و"بكر الْعَمى"
__________
1 الأسراب: جمع سرب وَهُوَ القطيع من الْحَيَوَانَات والطيور، تتبع وَاحِدًا مِنْهَا بِدُونِ فهم أَو معرفَة لحقيقة اتجاه.
2 أَبُو الْهُذيْل العلاف: مُحَمَّد بن الْهُذيْل بن عبد الله بن مَكْحُول الْعَبْدي من أَئِمَّة الْمُعْتَزلَة. ولد فِي الْبَصْرَة عَام 135هـ. واشتهر بِعلم الْكَلَام، وَكَانَ حسن الجدل قوي الْحجَّة توفّي بسامرا سنة 235هـ وَله كتب كَثِيرَة.
3 النظام: إِبْرَاهِيم بن سيار بن هَانِئ الْبَصْرِيّ من أَئِمَّة الْمُعْتَزلَة تبحر فِي عُلُوم الفلسفة واطلع على كثير مِمَّا كتبه رجالها، وَله فرقة تابعته سميت "النظامية" نِسْبَة إِلَيْهِ، وَله كتب كَثِيرَة فِي الفلسفة والاعتزال، وَتُوفِّي عَام 231هـ.
4 النجار هُوَ الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن عبد الله. رَأس الْفرْقَة "النجارية" من الْمُعْتَزلَة وَإِلَيْهِ نسبتها من أهل قُم، وَله مَعَ النظام مناظرات توفّي عَام 220هـ.
5 هِشَام بن الحكم الشَّيْبَانِيّ بِالْوَلَاءِ، الْكُوفِي، أَبُو مُحَمَّد مُتَكَلم مناظر، كَانَ شيخ الإمامية فِي وقته. ولد بِالْكُوفَةِ، وَنَشَأ بواسط، وَسكن بَغْدَاد وَانْقطع إِلَى يحيى بن خَالِد الْبَرْمَكِي. وصنف كتبا مِنْهَا: "الإمامية" و"الْقدر" و"الشَّيْخ والغلام" و"الدلالات على حُدُوث الْأَشْيَاء" و"الرَّد على الْمُعْتَزلَة فِي طَلْحَة وَالزُّبَيْر" و"الرَّد على هِشَام الجواليقي" و"الرَّد على شَيْطَان الطاق". وَلما حدثت نكبة البرامكة استتر؛ وَتُوفِّي على أَثَرهَا بِالْكُوفَةِ عَام 190هـ وَيُقَال عَاشَ إِلَى خلَافَة الْمَأْمُون.
6 عبيد الله بن الْحسن بن الْحصين الْعَنْبَري من تَمِيم، قَاض من الْفُقَهَاء الْعلمَاء بِالْحَدِيثِ، من أهل الْبَصْرَة. قَالَ ابْن حبَان: من ساداتها فقهًا وعلمًا، ولد عَام 105هـ وَولي قَضَاء الْبَصْرَة سنة 157هـ وعزل سنة 166هـ وَتُوفِّي فِيهَا عَام 168هـ.
و"حَفْص"1 و"قبَّة" وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ.
لَيْسَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ إِلَّا وَلَهُ مَذْهَبٌ فِي الدِّينِ، يُدَانُ بِرَأْيهِ2 وَلَهُ عَلَيْهِ تَبَعٌ.
الْاخْتِلَافُ عِنْدَ أَهْلِ الْكَلَامِ فِي الْأُصُولِ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَلَوْ كَانَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْفُرُوعِ وَالسُّنَنِ، لَاتَّسَعَ لَهُمُ الْعُذْرُ عِنْدَنَا، وَإِنْ كَانَ لَا عُذْرَ لَهُمْ، مَعَ مَا يَدَّعُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ كَمَا اتَّسَعَ لِأَهْلِ الْفِقْهِ، وَوَقَعَتْ لَهُمُ الْأُسْوَةُ بِهِمْ.
وَلَكِنَّ اخْتِلَافَهُمْ، فِي التَّوْحِيدِ، وَفِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي قُدْرَتِهِ3، وَفِي نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَعَذَابِ أَهْلِ النَّارِ، وَعَذَابِ الْبَرْزَخِ، وَفِي اللَّوْحِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا نَبِيٌّ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلَنْ4 يَعْدَمَ هَذَا مِنْ رَدِّ مِثْلِ هَذِهِ الْأُصُولِ إِلَى اسْتِحْسَانِهِ وَنَظَرِهِ وَمَا أَوْجَبَهُ الْقِيَاسُ عِنْدَهُ، لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي عُقُولِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ وَاخْتِيَارَاتِهِمْ.
فَإِنَّكَ لَا تَكَادُ تَرَى رَجُلَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ، حَتَّى يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، يَخْتَارُ مَا يَخْتَارُهُ الْآخَرُ، وَيَرْذُلُ مَا يَرْذُلُهُ الْآخَرُ، إِلَّا مِنْ جِهَةِ التَّقْلِيدِ.
وَالَّذِي خَالَفَ بَيْنَ مَنَاظِرِهِمْ وَهَيْئَاتِهِمْ وَأَلْوَانِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ وَخُطُوطِهِمْ وَآثَارِهِمْ -حَتَّى فَرَّقَ الْقَائِفُ5 بَيْنَ الْأَثَرِ والأثر، وَبَين الْأُنْثَى
__________
1 "حفظ" بن أبي الْمِقْدَام الأباضي: رَأس الْفرْقَة الحفصية من فرق الإباضية. انْفَرد بقوله: "من عرف الله تَعَالَى وَكفر بِمَا سواهُ من جنَّة ونار وَرَسُول وَغَيره فَهُوَ كَافِر وَلَيْسَ بمشرك".
2 وَفِي نُسْخَة: بِرَأْيهِ.
3 وَفِي نُسْخَة: وَفِي قدره.
4 وَفِي نُسْخَة: وَلَكِن.
5 الْقَائِف: من يعرف الْآثَار، وَهُوَ جمع قافة، وقاف أَثَره: تبعه. الْقَامُوس.
وَالذكر -هُوَ الَّذِي خَالَفَ بَيْنَ آرَائِهِمْ، وَالَّذِي خَالَفَ بَيْنَ الْآرَاءِ، هُوَ الَّذِي أَرَادَ الْاخْتِلَافَ لَهُمْ، وَلَنْ تَكْمُلَ الْحِكْمَةُ وَالْقُدْرَةُ إِلَّا بِخَلْقِ الشَّيْءِ وَضِدِّهِ لِيُعْرَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ.
فَالنُّورُ يُعْرَفُ بِالظُّلْمَةِ، وَالْعِلْمُ يُعْرَفُ بِالْجَهْلِ، وَالْخَيْرُ يُعْرَفُ بِالشَّرِّ، وَالنَّفْعُ يُعْرَفُ بِالضُّرِّ، وَالْحُلْوُ يُعْرَفُ بِالْمُرِّ؛ لِقَوْلِ1 اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} 2.
وَالْأَزْوَاجُ: الْأَضْدَادُ وَالْأَصْنَافُ كَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالْيَابِسِ وَالرَّطْبِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} 3.
وَلَوْ أَرَدْنَا -رَحِمَكَ اللَّهُ- أَنْ نَنْتَقِلَ عَنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَنَرْغَبَ عَنْهُمْ، إِلَى أَصْحَابِ الْكَلَامِ وَنَرْغَبَ فِيهِمْ، لَخَرَجْنَا مِنِ اجْتِمَاعٍ إِلَى تَشَتُّتٍ، وَعَنْ نِظَامٍ إِلَى تَفَرُّقٍ، وَعَنْ أُنْسٍ إِلَى وَحْشَةٍ، وَعَنِ اتِّفَاقٍ إِلَى اخْتِلَافٍ، لِأَنَّ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ كُلَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ4 لَا يَكُونُ.
وَعَلَى أَنَّهُ خَالِقُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَعَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَعَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى تَقْدِيمِ الشَّيْخَيْنِ، وَعَلَى الْإِيْمَانِ بِعَذَابِ الْقَبْرِ، لَا يَخْتَلِفُونَ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ، وَمَنْ فَارَقَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا نَابَذُوهُ وَبَاغَضُوهُ وَبَدَّعُوهُ وَهَجَرُوهُ.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي اللَّفْظِ بِالْقُرْآنِ، لِغُمُوضٍ وَقَعَ فِي ذَلِكَ، وَكُلُّهُمْ مُجْمِعُونَ: عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ بِكُلِّ حَالٍ -مَقْرُوءًا وَمَكْتُوبًا وَمَسْمُوعًا وَمَحْفُوظًا- غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهَذَا الْإِجْمَاع.
__________
1 وَفِي نُسْخَة: يَقُول.
2 الْآيَة: 36 من سُورَة يس.
3 الْآيَة: 45 من سُورَة النَّجْم.
4 وَفِي نُسْخَة: لَا يَشَاء.
الْاقْتِدَاءُ بِالْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ:
وَأَمَّا الِايتِّسَاءُ1 فَبِالْعُلَمَاءِ الْمُبَرَّزِينَ، وَالْفُقَهَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالْعُبَّادِ الْمُجْتَهِدِينَ الَّذِينَ لَا يُجَارَوْنَ، وَلَا يُبْلَغُ شَأْوُهُمْ.
مِثْلَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ2، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ3، وَالْأَوْزَاعِيِّ4، وَشُعْبَةَ5، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ6 وَعُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ وَكَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ7، وَمُسْلِمٍ الْخَوَّاصِ، وَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ8، وَدَاوُدَ الطَّائِيِّ9، وَمُحَمّد بن النَّضر
__________
1 الايتساء: أَي الِاقْتِدَاء من ائتسى بِهِ: جعله إسوة أَي قدوة. الْقَامُوس ص1626.
2 سُفْيَان بن سعيد بن مَسْرُوق الثَّوْريّ الْكُوفِي، أَبُو عبد الله، أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي الحَدِيث، كَانَ إِمَامًا من أَئِمَّة الْمُسلمين، وعلمًا من أَعْلَام الدَّين، مجمعا على إِمَامَته، وَكَانَ يحيى بن معِين لَا يقدم عَلَيْهِ فِي زَمَانه أحدا فِي الْفِقْه والْحَدِيث وكل شَيْء، وَكَانَ عابدًا ثبتًا. وَقَالَ النَّسَائِيّ: هُوَ أجل من أَن يُقَال فِيهِ: ثِقَة، وَهُوَ أحد الْأَئِمَّة الَّذين أَرْجُو أَن يكون الله مِمَّن جعله لِلْمُتقين إِمَامًا، ولد سنة 97هـ وَتُوفِّي بِالْبَصْرَةِ سنة 161هـ.
3 مَالك بن أنس: إِمَام دَار الْهِجْرَة وَأحد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة ولد عَام 93هـ فِي الْمَدِينَة وَتُوفِّي فِيهَا عَام 179هـ كَانَ صلبًا فِي دينه بَعيدا عَن الْأُمَرَاء والملوك. صنف الْمُوَطَّأ وكتبًا أُخْرَى.
4 الْأَوْزَاعِيّ: هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو ولد عَام 88هـ فِي بعلبك وَنَشَأ فِي الْبِقَاع وَسكن ببيروت وَتُوفِّي بهَا، وَعرض عَلَيْهِ الْقَضَاء فَامْتنعَ، وَكَانَ الْأَوْزَاعِيّ عَظِيم الشَّأْن بِالشَّام، وَكَانَ أمره أعز من أَمر السُّلْطَان توفّي عَام 157هـ.
5 شُعْبَة بن الْحجَّاج أحد أَئِمَّة الْإِسْلَام. قَالَ فِيهِ أَحْمد: شُعْبَة أمة وَحده، وَقَالَ ابْن معِين فِيهِ: إِمَام الْمُتَّقِينَ. ولد سنة 80هـ وَمَات سنة 160هـ.
6 اللَّيْث بن سعد بن عبد الرَّحْمَن الفهمي وَلَاء، الإِمَام الْعَلامَة، عَالم مصر وفقيهها ورئيسها كَانَ يقرن بِمَالك وَهُنَاكَ من قَالَ: إِنَّه أفقه مِنْهُ وَقَالَ مُحَمَّد بن رمح: كَانَ دخل اللَّيْث ثَمَانِينَ ألف دِينَار مَا وَجَبت عَلَيْهِ زَكَاة قطّ، ولد سنة 94هـ وَتُوفِّي سنة 175هـ.
7 إِبْرَاهِيم بن أدهم بن مَنْصُور، التَّمِيمِي الْبَلْخِي أَبُو إِسْحَاق، زاهد مَشْهُور، كَانَ أَبوهُ من أهل الْغنى فِي بَلخ، فتفقه ورحل إِلَى بَغْدَاد، وَكَانَ يعِيش من عمل يَده، توفّي عَام 161هـ فِي سوقنن على الْأَرْجَح.
8 هُوَ فُضَيْل بن عِيَاض بن مَسْعُود بن بشر التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي الْخُرَاسَانِي، شيخ الْحرم. قَالَ ابْن الْمُبَارك: أورع من رَأَيْت فُضَيْل بن عِيَاض، كَانَ ثِقَة نبيلًا فَاضلا عابدًا ورعًا كثير الحَدِيث. مَاتَ بِمَكَّة سنة 187هـ عَن ثَمَانِينَ سنة.
9 دَاوُد بن نصير الطَّائِي أَبُو سُلَيْمَان من أَئِمَّة المتصوفين، أَصله من خُرَاسَان ومولده بِالْكُوفَةِ. رَحل إِلَى بَغْدَاد فَأخذ عَن أبي حنيفَة وَغَيره، وَعَاد إِلَى الْكُوفَة فاعتزل النَّاس وَلزِمَ الْعِبَادَة إِلَى أَن مَاتَ فِيهَا عَام 165هـ.
الْحَارِثِيّ، وَأحمد بْنِ حَنْبَلٍ1، وَبِشْرٍ الْحَافِي2، وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، مِمَّنْ قَرُبَ مِنْ زَمَانِنَا.
فَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يَبْلُغَهُمُ الْإِحْصَاءُ وَيَحُوزَهُمُ الْعَدَدُ3.
ثُمَّ بِسَوَادِ النَّاسِ وَدَهْمَائِهِمْ4 وَعَوَامِّهِمْ، فِي كُلِّ مِصْرٍ وَفِي كُلِّ عَصْرٍ.
فَإِنَّ مِنْ أَمَارَاتِ الْحَقِّ، إِطْبَاقَ قُلُوبِهِمْ عَلَى الرِّضَاءِ بِهِ.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَامَ فِي مَجَامِعِهِمْ وَأَسْوَاقِهِمْ، بِمَذَاهِبِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَا إِجْمَاعَهُمْ عَلَيْهَا، مَا كَانَ فِي جَمِيعِهِمْ لِذَلِكَ مُنْكِرٌ، وَلَا عَنْهُ نَافِرٌ.
وَلَوْ قَامَ بِشَيْءٍ مِمَّا يَعْتَقِدُهُ أَصْحَابُ الْكَلَامِ، مِمَّا يُخَالِفُهُ، مَا ارْتَدَّ إِلَيْهِ طَرْفُهُ إِلَّا مَعَ خُرُوج نَفسه"5.
مزاعم النظام وأكاذيبه:
فَإِذَا نَحْنُ أَتَيْنَا أَصْحَابَ الْكَلَامِ، لِمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْقِيَاسِ، وَحُسْنِ النَّظَرِ، وَكَمَالِ الْإِرَادَةِ6، وَأَرَدْنَا أَنْ نَتَعَلَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ، وَنَعْتَقِدَ شَيْئًا مِنْ نِحَلِهِمْ، وَجَدْنَا "النَّظَّامَ" شَاطِرًا مِنَ الشُّطَّارِ، يَغْدُو عَلَى سُكْرٍ، وَيَرُوحُ عَلَى سُكْرٍ، وَيَبِيتُ عَلَى جَرَائِرِهَا7 وَيدخل فِي الأدناس
__________
1 أَحْمد بن مُحَمَّد بن حَنْبَل الشَّيْبَانِيّ، الْمُحدث الْفَقِيه، ولد فِي بَغْدَاد سنة 164هـ وَكَانَ من أَصْحَاب الإِمَام الشَّافِعِي وخواصه، ارتحل فِي طلب الْعلم، ودعي إِلَى القَوْل بِخلق الْقُرْآن فَأبى، وَتُوفِّي سنة 241هـ.
2 هُوَ بشر بن الْحَارِث بن عبد الرَّحْمَن بن عَطاء الْمروزِي، أَبُو نصر الحافي الزَّاهِد العابد الْقدْوَة، نزيل بَغْدَاد، قَالَ الْحَرْبِيّ: مَا أخرجت بَغْدَاد بَغْدَاد أتم عقلا وَلَا أحفظ لِلِسَانِهِ من بشر. قَالَ الذَّهَبِيّ: كَانَت لَهُ جَنَازَة عَظِيمَة أخرجت غدْوَة فَلم يصل فِي قَبره إِلَى اللَّيْل من الزحام توفّي سنة 237 عَن خمس وَسبعين سنة.
3 وَفِي نُسْخَة: الْعد.
4 الدهماء: الْعدَد الْكثير وَجَمَاعَة النَّاس وسوادهم.
5 كِنَايَة عَن سرعَة بطشهم بِهِ.
6 وَفِي نُسْخَة: الْأَدَاء.
7 جرائر: جمع جريرة، وَهِي الذَّنب.
ويرتكب الْفَوَاحِشَ وَالشَّائِنَاتِ وَهُوَ الْقَائِلُ:
مَا زِلْتُ آخُذُ رُوحَ الزِّقِّ1 فِي لُطْفٍ ... وَأَسْتَبِيحُ دَمًا مِنْ غَيْرِ مَجْرُوحٍ
حَتَّى انْثَنَيْتُ وَلِي رُوحَانِ فِي جَسَدِي ... وَالزِّقُّ مُطَّرَحٌ جِسْمٌ بِلَا رُوحٍ
ثُمَّ نَجِدُ أَصْحَابَهُ يَعُدُّونَ مِنْ خَطَئِهِ قَوْلَهُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحْدِثُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، فِي كُلِّ وَقْتٍ من غير إفنائها2.
قَالُوا فَاللَّهُ فِي قَوْلِهِ يُحْدِثُ الْمَوْجُودَ، وَلَوْ جَازَ إِيجَادُ الْمَوْجُودِ، لَجَازَ إِعْدَامُ الْمَعْدُومِ؛ وَهَذَا فَاحِشٌ فِي ضَعْفِ الرَّأْيِ، وَسُوءِ الْاخْتِيَارِ.
مُخَالَفَةُ النَّظَّامِ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَطَعْنُهُ بِالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ:
وَحَكَوْا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُجْمِعَ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا عَلَى الْخَطَأِ؛
قَالَ: وَمِنْ ذَلِكَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً دُونَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَكُلُّ نَبِيٍّ فِي الْأَرْضِ -بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى-
__________
1 الزق: بِالْكَسْرِ السقا، أَو جلد يحز وَلَا ينتف للشراب وَغَيره.
2 هَذَا كَلَام من بدع الْمُعْتَزلَة الْقَدَرِيَّة الَّذِي يلتقون على مَا يَلِي:
أ- ينفون عَن الله عز وَجل صِفَاته الأزلية، وَيَقُولُونَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لله عز وَجل علم وَلَا قدرية وَلَا حَيَاة وَلَا سمع وَلَا بصر وَلَا صفة أزلية.
ب- يَقُولُونَ باستحالة رُؤْيَة الله عز وَجل بالأبصار، وَزَعَمُوا أَنه جلّ جَلَاله لَا يرى نَفسه وَلَا يرَاهُ غَيره، وَاخْتلفُوا فِيهِ هَل هُوَ رَاء لغيره أم لَا؟. فَأَجَازَهُ قوم مِنْهُم وأباه قوم آخَرُونَ.
حـ- يتفقون على القَوْل بحدوث كَلَام الله عز وَجل، وحدوث أمره وَنَهْيه وَخَبره، وَكلهمْ يَزْعمُونَ أَن كَلَام الله عز وَجل حَادث.
د- يَقُولُونَ بِأَن الله تَعَالَى غير خَالق لأكساب النَّاس، وَلَا لشَيْء من أَعمال الْحَيَوَانَات، وَزَعَمُوا أَن النَّاس هم الَّذين يقدرُونَ على أكسابهم.
هـ- يتفقون على دَعوَاهُم فِي الْفَاسِق من أمة الْإِسْلَام بالمنزلة بَين المنزلتين فَهُوَ فَاسق لَا مُؤمن وَلَا كَافِر.
و يَقُولُونَ أَن كل مَا لم يَأْمر الله تَعَالَى بِهِ أَو ينْهَى عَنهُ من أَعمال الْعباد لم يَشَأْ الله شَيْئا مِنْهَا ... إِلَخ.
فَإِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ بَعْثُهُ؛ لِأَنَّ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ -لِشُهْرَتِهَا- تَبْلُغُ آفَاقَ الْأَرْضِ، وَعَلَى كُلِّ مَنْ بَلَغَهُ ذَلِكَ أَنْ يُصَدِّقَهُ وَيَتَّبِعَهُ.
فَخَالَفَ الرِّوَايَة عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ" 1 وأوَّلَ الحديثَ.
وَفِي مُخَالَفَةِ الرِّوَايَةِ وَحْشَةٌ، فَكَيْفَ بِمُخَالَفَةِ الرِّوَايَةِ وَالْإِجْمَاع لما اسْتحْسنَ.
وَكَانَ يَقُولُ فِي الْكِنَايَاتِ عَنِ الطَّلَاقِ، كَالْخَلِيَّةِ، وَالْبَرِّيَّةِ، وَحَبْلِكِ عَلَى غَارِبِكِ، وَالْبَتَّةِ2، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهَا طَلَاقٌ، نَوَى الطَّلَاقَ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ. فَخَالَفَ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ، وَخَالَفَ الرِّوَايَةَ لِمَا اسْتُحْسِنَ.
وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ: إِذَا ظَاهَرَ بالبطن أَو الْفرج، لم يكون مُظَاهِرًا، وَإِذَا آلَى بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، لَمْ يَكُنْ مُولِيًا، لِأَنَّ الْإِيلَاءَ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَكَانَ يَقُولُ: إِذَا نَامَ الرَّجُلُ أَوَّلَ اللَّيْلِ عَلَى طَهَارَةٍ، مُضْطَجِعًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ مُتَوَرِّكًا، أَوْ كَيْفَ نَامَ إِلَى الصُّبْحِ، لم ينْتَقض وضوؤه، لِأَنَّ النَّوْمَ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ.
قَالَ: وَإِنَّمَا أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى الْوُضُوءِ3 مِنْ نَوْمِ الضَّجْعَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ أَوَائِلَهُمْ إِذَا قَامُوا بِالْغَدَاةِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ تَطَهَّرُوا؛ لِأَنَّ عَادَاتِ النَّاسِ الْغَائِطُ وَالْبَوْلُ مَعَ الصُّبْحِ، وَلِأَنَّ الرَّجُلَ يَسْتَيْقِظُ وبعينه رمص4 وبفيه
__________
1 "بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَر وَالْأسود": أَي إِلَى الْعَجم وَالْعرب؛ لِأَن الْغَالِب على ألوان الْعَجم الْحمرَة وَالْبَيَاض، وعَلى ألوان الْعَرَب الأدمة والسمرة. وَقيل: أَرَادَ الْجِنّ وَالْإِنْس. ا. هـ. نِهَايَة. وَقد أخرجه البُخَارِيّ: تيَمّم: 1، صَلَاة: 56، وَالنَّسَائِيّ: غسل: 36، والدارمي: صَلَاة 111.
2 الْبَتَّةَ: من أَلْفَاظ كنايات الطَّلَاق، وَمَعْنَاهَا: مَقْطُوعَة الْوَصْل، وَأَصله من الْبَتّ بِمَعْنى الْقطع، وَاسْتعْمل بِمَعْنى الْمَفْعُول أَي: المبتوتة.
3 وَفِي نُسْخَة: التَّوَضُّؤ.
4 الرمص: وسخ أَبيض يجْتَمع فِي الموق، رمصت عينه كفرح، والنعت: أرمص ورمصاء.
خلوف، وَهُوَ مُتَهَيِّجُ الْوَجْهِ، فَيَتَطَهَّرُ لِلْحَدَثِ وَالنُّشْرَةِ1 لَا لِلنَّوْمِ وَكَمَا أَوْجَبَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِالْغَدَاةِ فِي حِيطَانِهِمْ2؛ فَإِذَا أَرَادُوا الرَّوَاحَ اغْتَسَلُوا.
فَخَالَفَ بِهَذَا الْقَوْلِ الرِّوَايَةَ وَالْإِجْمَاعَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى خَطَأٍ" 3.
خَطَّأَ النَّظَّامُ أَبَا بَكْرِ وَعُمَرَ:
وَذَكَرَ قَوْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "لَوْ كَانَ هَذَا الدِّينُ بِالْقِيَاسِ، لَكَانَ بَاطِنُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ ظَاهِرِهِ"4.
فَقَالَ النَّظَّامُ: كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى عُمَرَ، الْعَمَلُ بِمِثْلِ مَا قَالَ فِي الْأَحْكَامِ كُلِّهَا.
وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَعْجَبَ مِنْ قَوْلِهِ: أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْجَدِّ5 أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ ثُمَّ قَضَى فِي الْجَدِّ بِمِائَةِ قَضِيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ.
وَذَكَرَ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، حِينَ سُئِلَ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي، أَمْ أَيْنَ أَذْهَبُ؟ أَمْ كَيْفَ أَصْنَعُ إِذَا أَنَا قُلْتُ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، بِغَيْرِ مَا أَرَادَ اللَّهُ.
ثُمَّ سُئِلَ عَنِ الْكَلَالَةِ6، فَقَالَ: "أَقُولُ فِيهَا برأيي فَإِن كَانَ صَوَابا،
__________
1 النشرة: بِالضَّمِّ رقية يعالج بهَا الْمَجْنُون الْمَرِيض، الْقَامُوس ص621 وَلَعَلَّ الْأَصَح: النشور؛ أَي بعد النّوم، كالإحياء بعد الْمَمَات. وَالله أعلم.
2 حياطانهم: أَي بساتينهم.
3 أخرجه ابْن ماجة: فتن 8 بِلَفْظ "إِنَّ أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَة ... " وَفِي إِسْنَاده ضعف، وَقد جَاءَ الحَدِيث بطرِيق فِي كلهَا نظر، وَإِن كَانَ هَذَا الْمَعْنى حق، وَهُوَ الَّذِي اكْتسب الْإِجْمَاع قوته.
4 وَهَذَا قَول عَليّ رَضِي الله عَنهُ كَمَا ذكره ابْن حجر فِي بُلُوغ المرام، وَقد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَهُوَ فِي جَامع الْأُصُول لِابْنِ الْأَثِير بقم 5277 -مُحَمَّد بدير.
5 وَفِي نُسْخَة: الْفتيا.
6 الْكَلَالَة: من لَا ولد لَهُ وَلَا وَالِد، أَو من تكلل نسبه بنسبك كَابْن الْعم وَشبهه أَو الْأُخوة للْأُم، أَو بَنو الْعم الأباعد، أَو مَا خلا الْوَالِد وَالْولد، أَو هِيَ من الْعصبَة من ورث مَعَه الْإِخْوَة لأم.
فَمن اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي -هِيَ مَا دُونَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ". قَالَ: وَهَذَا خِلَافُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ.
وَمَنِ اسْتَعْظَمَ الْقَوْلَ بِالرَّأْيِ ذَلِكَ الْاسْتِعْظَامَ، لَمْ يُقْدِمْ عَلَى الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ هَذَا الْإِقْدَامَ حَتَّى يُنْفِذَ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ.
وَذَكَرَ قَوْلَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، حِينَ سُئِلَ عَنْ بَقَرَةٍ قَتَلَتْ حِمَارًا، فَقَالَ: "أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ وَافَقَ رَأْيِي قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَقَضَائِي رَذْلٌ فَسْلٌ".
قَالَ وَقَالَ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَقَحَّمَ جَرَاثِيمَ جَهَنَّمَ، فَلْيَقُلْ فِي الْجَدِّ" ثُمَّ قَضَى فِيهِ بِقَضَايَا مُخْتَلِفَةٍ.
وَكَذَّبَ ابْنَ مَسْعُودٍ وَاتَّهَمَهُ:
وَذَكَرَ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ1 فِي حَدِيثِ بِرْوع بِنْتِ وَاشِقٍ:
"أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي، وَإِنْ كَانَ صَوَابًا، فَمِنَ اللَّهِ تَعَالَى".
قَالَ النظام: وَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ بِالظَّنِّ، وَالْقَضَاءُ بِالشُّبْهَةِ، وَإِذَا كَانَتِ الشَّهَادَةُ بِالظَّنِّ حَرَامًا، فَالْقَضَاءُ بِالظَّنِّ أَعْظَمُ.
قَالَ: وَلَوْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ بَدَلَ نَظْرِهِ فِي الْفُتْيَا، نَظَرَ فِي الشَّقِيِّ كَيْفَ يَشْقَى، وَالسَّعِيدِ كَيْفَ يَسْعَدُ، حَتَّى لَا يفحُشَ قولُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَشْتَدَّ غلطُه، كَانَ أَوْلَى بِهِ.
قَالَ: وَزَعَمَ أَنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ، وَأَنَّهُ رَآهُ، وَهَذَا مِنَ الْكَذِبِ الَّذِي لَا خَفَاءَ بِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَشُقُّ الْقَمَرَ لَهُ وَحده، وَلَا لآخر مَعَه، وَإِنَّمَا
__________
1 عبد الله بن مَسْعُود بن غافل بن حبيب الْهُذلِيّ صَحَابِيّ من السَّابِقين إِلَى الْإِسْلَام وَكَانَ خَادِم رَسُول الله الْأمين وَصَاحب سره ورفيقه فِي حلّه وترحاله وغزواته وَهُوَ أول من جهر بِقِرَاءَة الْقُرْآن. قدم الْمَدِينَة فِي خلَافَة عُثْمَان وَتُوفِّي فِيهَا 32هـ.
يشقه لِيَكُونَ آيَةً لِلْعَالَمِينَ، وَحُجَّةً لِلْمُرْسَلِينَ، وَمَزْجَرَةً لِلْعِبَادِ، وَبُرْهَانًا فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ.
فَكَيْفَ لَمْ تَعْرِفْ بِذَلِكَ الْعَامَّةُ، وَلَمْ يُؤَرِّخِ النَّاسُ بِذَلِكَ الْعَامِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ شَاعِرٌ، وَلَمْ يُسْلِمْ عِنْدَهُ كَافِرٌ، وَلَمْ يَحْتَجُّ بِهِ مُسْلِمٌ عَلَى مُلْحِدٍ؟
قَالَ: ثُمَّ جَحَدَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى سُورَتَيْنِ: فَهَبْهُ لَمْ يشهدْ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمَا، فَهَلَّا اسْتَدَلَّ بِعَجِيبِ تَأْلِيفِهِمَا، وَأَنَّهُمَا عَلَى نَظْمِ سَائِرِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ لِلْبُلَغَاءِ أَنْ يَنْظِمُوا نَظْمَهُ، وَأَنْ يُحْسِنُوا مِثْلَ تَأْلِيفِهِ.
قَالَ النظام: وَمَا زَالَ يطبِّق فِي الرُّكُوعِ إِلَى أَنْ مَاتَ، كَأَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ مَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ كَانَ غَائِبًا.
وَشَتَمَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ:
وَشَتَمَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ1 بِأَقْبَحِ الشَّتْمِ، لَمَّا اخْتَارَ الْمُسْلِمُونَ قِرَاءَتَهُ لِأَنَّهَا آخِرُ الْعَرْضِ.
وَعَابَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ:
وَعَابَ عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حِينَ بَلَغَهُ أَنه صلى بـ "منى" أَرْبَعًا2، ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى أَرْبَعًا فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ:
__________
1 زيد بن ثَابت بن الضَّحَّاك الْأنْصَارِيّ، كَاتب الْوَحْي وَأحد نجباء الْأَنْصَار، شهد بيعَة الرضْوَان وَقَرَأَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم، وَجمع الْقُرْآن فِي عهد الصّديق توفّي سنة 45هـ.
2 انْظُر صَحِيح مُسلم رقم 695 مُحَمَّد بدير-.
فقد أخرج أَحْمد فِي مُسْنده: جـ5 ص165 الحَدِيث بِالنَّصِّ التَّالِي: "كُنَّا قد حملنَا لأبي ذَر شَيْئا نُرِيد أَن نُعْطِيه إِيَّاه فأتينا الربذَة فسألنا عَنهُ فَلم نجده. قيل: اسْتَأْذن فِي الْحَج فَأذن لَهُ، فأتيناه بالبلدة وَهِي مني، فَبينا نَحن عِنْده إِذْ قيل لَهُ: إِن عُثْمَان صلى أَرْبعا فَاشْتَدَّ ذَلِك على أبي ذَر، وَقَالَ قولا شَدِيدا، وَقَالَ: صليت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم فصلى رَكْعَتَيْنِ، وَصليت مَعَ أبي بكر وَعمر، ثمَّ قَامَ أَبُو ذَر فصلى أَرْبعا، فَقيل لَهُ عبت على أَمِير الْمُؤمنِينَ شَيْئا ثمَّ صَنعته، قَالَ: الْخلاف أَشد.. إِلَخ" فالاستدلال بِهِ من الْمُؤلف على النظام فِي غير مَوْضِعه. وَالله أعلم.
الْخِلَافُ شَرٌّ وَالْفُرْقَةُ شَرٌّ، وَقَدْ عَمِلَ بِالْفُرْقَةِ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَلم يزل يَقُولُ فِي عُثْمَانَ الْقَوْلَ الْقَبِيحَ، مُنْذُ اخْتَارَ قِرَاءَةَ زَيْدٍ.
وَرَأَى قَوْمًا مِنَ الزُّطِّ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ أَشْبَهُ مَنْ رَأَيْتُ بِالْجِنِّ، لَيْلَةَ الْجِنِّ، ذَكَرَ ذَلِكَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنِ ابْن مَسْعُود.
وَذكر دَاوُد عَنِ الشَّعْبِيِّ1 عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ مَسْعُودٍ: كُنْتَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ سلم لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ فَقَالَ: مَا شَهِدَهَا منا أحد.
وَذكر حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ2 فَقَالَ: جَعَلَ يَحْلِفُ لِعُثْمَانَ عَلَى أَشْيَاءَ بِاللَّهِ تَعَالَى مَا قَالَهَا، وَقَدْ سَمِعُوهُ قَالَهَا.
فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنِّي أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، مَخَافَةَ أَنْ يَذْهَبَ كُلَّهُ، رَوَاهُ مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ3ـ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ.
وَطَعَنَ بِأَبِي هُرَيْرَةَ:
وَذَكَرَ أَبَا هُرَيْرَةَ: فَقَالَ النَّظَّامُ: أَكْذَبَهُ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ وَعَائِشَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
وَرَوَى حَدِيثًا فِي الْمَشْيِ فِي الْخُفِّ الْوَاحِدِ، فَبَلَغَ عَائِشَةَ، فَمَشَتْ فِي خُفٍّ وَاحِدٍ وَقَالَتْ: لَأُخَالِفَنَّ أَبَا هُرَيْرَة.
__________
1 الشّعبِيّ: هُوَ عَامر بن شُرَحْبِيل الشّعبِيّ، أَبُو عَمْرو الْكُوفِي الإِمَام الْعلم، ولد لست سِنِين خلت من خلَافَة عمر، أدْرك عددًأ من الصَّحَابَة وروى عَنْهُم، توفّي سنة 103هـ.
2 حُذَيْفَة بن الْيَمَان الْعَبْسِي من كبار الصَّحَابَة، أسلم حُذَيْفَة وَأَبوهُ وشهدا أحدا، فاستشهد الْيَمَان بهَا وَشهد حُذَيْفَة الخَنْدَق وَله فِيهَا ذكر حسن، وَشهد مَا بعْدهَا، اسْتَعْملهُ عمر على الْمَدَائِن فَلم يزل بهَا حَتَّى مَاتَ سنة 36هـ.
3 مسعر بن كدام بن ظهير الْهِلَالِي العامري الرواسِي أَبُو سَلمَة من ثِقَات أهل الحَدِيث كُوفِي كَانَ يُقَال لَهُ الْمصرف لعظم الثِّقَة بِمَا يرويهِ، وَكَانَ مرجئًا، وَعِنْده نَحْو ألف حَدِيث وَخرج لَهُ السِّتَّة توفّي عَام 152هـ بِمَكَّة.
وروى أَنَّ الْكَلْبَ وَالْمَرْأَةَ وَالْحِمَارَ، تَقْطَعُ الصَّلَاةَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: رُبَّمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَسْطَ السَّرِيرِ، وَأَنَا عَلَى السَّرِيرِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ.
قَالَ النَّظَّامُ: وَبَلَغَ عَلِيًّا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَبْتَدِئُ بِمَيَامِنِهِ فِي الْوُضُوءِ، وَفِي اللِّبَاسِ.
فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، فَبَدَأَ بِمَيَاسِرِهِ، وَقَالَ: لَأُخَالِفَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ.
وَكَانَ مِنْ قَوْلِهِ حَدَّثَنِي خَلِيلِي، وَقَالَ خَلِيلِي، وَرَأَيْتُ خَلِيلِي.
فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: مَتَى كَانَ النَّبِيُّ خَلِيلَكَ، يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟
قَالَ: وَقَدْ رَوَى "مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا، فَلَا صِيَامَ لَهُ".
فَأَرْسَلَ مَرْوَانُ فِي ذَلِكَ إِلَى عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، يَسْأَلُهُمَا، فَقَالَتَا: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ، ثُمَّ يَصُومُ.
فَقَالَ لِلرَّسُولِ: اذْهَبْ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، حَتَّى تُعْلِمَهُ.
فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّمَا حَدَّثَنِي بِذَلِكَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ1.
فَاسْتَشْهَدَ مَيِّتًا، وَأَوْهَمَ النَّاسَ أَنَّهُ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَسْمَعْهُ.
تَفْنِيدُ مَزَاعِمِ النَّظَّامِ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: هَذَا قَوْله فِي جُلَّةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ:
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} 2 إِلَى آخر السُّورَة.
__________
1 الْفضل بن الْعَبَّاس، أَخُو عبد الله بن الْعَبَّاس، كَانَ أسن ولد الْعَبَّاس. ثَبت يَوْم حنين، وَخرج بعد وَفَاة النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجَاهدًا إِلَى الشَّام فاستشهد فِي وقْعَة أجنادين بفلسطين 13هـ.
2 الْآيَة: 29 من سُورَة الْفَتْح.
وَلَمْ يَسْمَعْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} 1.
وَلَوْ كَانَ مَا ذَكَرَهُمْ بِهِ حَقًّا، لَا مَخْرَجَ مِنْهُ وَلَا عُذْرَ فِيهِ، وَلَا تَأْوِيلَ لَهُ، إِلَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، لَكَانَ حَقِيقًا بِتَرْكِ ذِكْرِهِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ، إِذْ كَانَ قَلِيلًا يَسِيرًا مَغْمُورًا فِي جَنْبِ مَحَاسِنِهِمْ، وَكَثِيرِ مَنَاقِبِهِمْ، وَصُحْبَتِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَذْلِهِمْ مُهَجَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى.
تَفْنِيدُ مَا زَعَمَهُ النَّظَّامُ عَلَى عُمَرَ فِي قَضِيَّةِ الْجَدِّ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَلَا شَيْءَ أَعْجَبُ عِنْدِي مِنِ ادِّعَائِهِ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَضَى فِي الْجَدِّ بِمِائَةِ قَضِيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَأَهْلِ الْقِيَاسِ.
فَهَلَّا اعْتَبَرَ هَذَا وَنَظَرَ فِيهِ، لِيَعْلَمَ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَقْضِيَ عُمَرُ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ بِمِائَةِ قَضِيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ.
فَأَيْنَ هَذِهِ الْقَضَايَا؟ وَأَيْنَ عُشْرُهَا وَنِصْفُ عُشْرِهَا؟
أَمَا كَانَ فِي حَمَلَةِ الْحَدِيثِ مَنْ يَحْفَظُ مِنْهَا خَمْسًا أَوْ سِتًّا؟
وَلَوِ اجْتَهَدَ مُجْتَهِدٌ أَنْ يَأْتِيَ مِنَ الْقَضَاءِ فِي الْجَدِّ بِجَمِيعِ مَا يُمْكِنُ فِيهِ، مِنْ قَوْلٍ وَمِنْ حِيلَةٍ2، مَا كَانَ يَتَيَسَّرُ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ بِعِشْرِينَ قَضِيَّةً.
وَكَيْفَ لَمْ يَجْعَلْ هَذَا الْحَدِيثَ، إِذْ كَانَ مُسْتَحِيلًا، مِمَّا يُنْكَرُ مِنَ الْحَدِيثِ وَيَدْفَعُ مِمَّا قَدْ أَتَى بِهِ الثِّقَاتُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِضَغْنٍ يَحْتَمِلُهُ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَدَاوَةٍ.
مَزَاعِمُهُ فِي أَبِي بَكْرٍ بِشَأْنِ تَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَأَمَّا طَعْنُهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ الله عَنهُ بِأَنَّهُ سُئِلَ عَن
__________
1 الْآيَة: 18 من سُورَة الْفَتْح.
2 وَفِي نُسْخَة: حلية.
3 وَفِي نُسْخَة: يتحمله.
آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَاسْتَعْظَمَ أَنْ يَقُولَ فِيهَا شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ فِي الْكَلَالَةِ بِرَأْيِهِ.
فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ مُتَشَابَهِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، الَّذِي لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، فَأَحْجَمَ عَنِ الْقَوْلِ فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ يُفَسِّرَهُ بِغَيْرِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَفْتَى فِي الْكَلَالَةِ بِرَأْيِهِ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ نَابَ الْمُسْلِمِينَ وَاحْتَاجُوا إِلَيْهِ فِي مَوَارِيثِهِمْ، وَقَدْ أُبِيحَ لَهُ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ فِيمَا لَمْ يُؤْثَرْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ شَيْءٌ، وَلَمْ يَأْتِ لَهُ فِي الْكِتَابِ شَيْءٌ كَاشِفٌ، وَهُوَ إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ وَمَفْزَعُهُمْ فِيمَا يَنُوبُهُمْ، فَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ أَنْ يَقُولَ.
وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، حِينَ سُئِلُوا، وَهُمُ الْأَئِمَّةُ وَالْمَفْزَعُ إِلَيْهِمْ عِنْدَ النَّوَازِلِ.
فَمَاذَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا عِنْدَهُ، أيَدعون النَّظَرَ فِي الْكَلَالَةِ وَفِي الْجَدِّ، إِلَى أَنْ يَأْتِيَ هُوَ وَأَشْبَاهُهُ، فَيَتَكَلَّمُوا فِيهِمَا.
تفنيد مطاعته بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ:
ثُمَّ طَعْنُهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ، وَأَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ، ثُمَّ نَسَبَهُ فِيهِ إِلَى الْكَذِبِ.
وَهَذَا لَيْسَ بِإِكْذَابٍ لِابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَكِنَّهُ بخسٌ لِعَلَمِ النُّبُوَّةِ وَإِكْذَابٌ لِلْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} 1.
فَإِنْ كَانَ الْقَمَرُ لَمْ يَنْشَقَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَانَ مُرَادُهُ: سَيَنْشَقُّ الْقَمَرُ فِيمَا بَعْدُ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} 2 بعقب هَذَا الْكَلَام؟
__________
1 الْآيَة: 1 من سُورَة الْقَمَر.
2 الْآيَة: 2 من سُورَة الْقَمَر.
أَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَوْمًا رَأَوْهُ مُنْشَقًّا فَقَالُوا: "هَذَا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ مِنْ سِحْرِهِ، وَحِيلَةٌ مِنْ حِيَلِهِ كَمَا قَدْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْلَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَكَيْفَ صَارَتِ الْآيَةُ مِنْ آيَاتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعَلَمُ مِنْ أَعْلَامِهِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَرَاهَا الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ والنفر دون الْجَمِيع.
أَو لَيْسَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانُ وَالنَّفَرُ وَالْجَمِيعُ، كَمَا أَخْبَرَ مُكَلِّمُ الذِّئْبِ، بِأَنَّ ذِئْبًا كَلَّمَهُ وَأَخْبَرَ آخَرُ بِأَنَّ بَعِيرًا شَكَا إِلَيْهِ، وَأَخْبَرَ آخَرُ أَنَّ مَقْبُورًا لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ.
وَطَعْنُهُ عَلَيْهِ لِجَحْدِهِ سُورَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، يَعْنِي "الْمُعَوِّذَتَيْنِ" فَإِنَّ لِابْنِ مَسْعُودٍ فِي ذَلِكَ سَبَبًا، وَالنَّاسُ قَدْ يَظُنُّونَ وَيَزِلُّونَ، وَإِذَا كَانَ هَذَا جَائِزًا عَلَى النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، فَهُوَ عَلَى غَيْرِهِمْ أَجْوَزُ.
وَسَبَبُهُ فِي تَرْكِهِ إِثْبَاتِهِمَا فِي مُصْحَفِهِ؛ أَنَّهُ كَانَ يَرَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّذُ بِهِمَا الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، وَيُعَوِّذُ غَيْرَهُمَا، كَمَا كَانَ يُعَوِّذُهُمَا بِـ"أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ" فَظَنَّ أَنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنَ الْقُرْآنِ، فَلَمْ يُثْبِتْهُمَا فِي مُصْحَفِهِ.
وَبِنَحْوِ هَذَا السَّبَبِ أَثْبَتَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ1 فِي مُصْحَفِهِ، افْتِتَاحَ دُعَاءِ الْقُنُوتِ، وَجَعَلَهُ سُورَتَيْنِ لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَدْعُو بِهِمَا فِي الصَّلَاةِ دُعَاءً دَائِمًا فَظَنَّ أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَأَمَّا التَّطْبِيقُ2 فَلَيْسَ مِنْ فَرْضِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا الْفَرْضُ، الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجل {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} 3.
__________
1 هُوَ أبي بن كَعْب بن قيس الْأنْصَارِيّ، سيد الْقُرَّاء، شهد بَدْرًا والمشاهد كلهَا، كَانَ من كتبة النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ من أَصْحَاب الْفتيا، وَكَانَ يسْأَل عمر عَن النَّوَازِل ويتحاكم إِلَيْهِ فِي المعضلات.
2 التطبيق فِي الصَّلَاة جعل الْيَدَيْنِ بَين الفخذين فِي الرُّكُوع. الْقَامُوس ص1165.
3 الْآيَة 77 من سُورَة الْحَج وَهِي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
فَمن طَبَّقَ فَقَدْ رَكَعَ، وَمَنْ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَدْ رَكَعَ، وَإِنَّمَا وضع الْيَدَيْنِ على الركتبين، أَوِ التَّطْبِيقُ مِنْ آدَابِ الرُّكُوعِ.
وَقَدْ كَانَ الْاخْتِلَافُ فِي آدَابِ الصَّلَاةِ، فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يُقْعِي، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْتَرِشُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَرَّكُ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا1.
وَأَمَّا نِسْبَتُهُ إِيَّاهُ إِلَى الْكَذِبِ فِي حَدِيثِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ" 2.
فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكْذِبَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ الْجَلِيلِ الْمَشْهُورِ، وَيَقُولُ: حَدَّثَنِي الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ، وَلَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ؟
وَلِأَيِّ مَعْنًى يَكْذِبُ مِثْلُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرٍ لَا يَجْتَذِبُ بِهِ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا، وَلَا يَدْفَعُ عَنْهُ ضُرًّا، وَلَا يُدْنِيهِ مِنْ سُلْطَانٍ وَلَا رَعِيَّةٍ، وَلَا يَزْدَادُ بِهِ مَالًا إِلَى مَالِهِ؟
وَكَيْفَ يَكْذِبُ فِي شَيْءٍ، قَدْ وَافَقَهُ عَلَى رِوَايَتِهِ، عَدَدٌ مِنْهُمْ أَبُو أُمَامَةَ3 عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "سَبَقَ الْعِلْمُ، وَجَفَّ الْقَلَمُ، وَقُضِيَ الْقَضَاءُ، وَتَمَّ الْقَدَرُ بِتَحْقِيقِ الْكِتَابِ، وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ بِالسَّعَادَةِ لِمَنْ آمَنَ وَاتَّقَى، وَالشَّقَاءِ لِمَنْ كَذَّبَ وَكَفَرَ ".
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: "ابْنَ آدَمَ بِمَشِيئَتِي كُنْتَ، أَنْتَ الَّذِي تَشَاءُ، لِنَفْسِكَ مَا تَشَاءُ، وَبِإِرَادَتِي كُنْتَ. أَنْتَ الَّذِي تُرِيدُ لِنَفْسِكَ مَا تُرِيدُ، وَبِفَضْلِي وَرَحْمَتِي أَدَّيْتَ إِلَيَّ فَرَائِضِي، وَبِنِعْمَتِي قويت على معصيتي".
__________
1 وَفِي نُسْخَة: وَإِن اخْتلف.
2 سبق تَخْرِيجه ص51.
3 أَبُو أُمَامَة الْبَاهِلِيّ هُوَ صُدَيّ بن عجلَان صَحَابِيّ مَشْهُور بكنيته كَانَ لَا يمر بصغير وَلَا كَبِير إِلَّا سلم عَلَيْهِ، مَاتَ سنة 81هـ بحمص.
شريف ابراهيم
شريف ابراهيم
نائب المدير العام
نائب المدير العام

عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تأويل مختلف الحديث الْمُقدمَات مُقَدّمَة الطبعة الثَّانِيَة Empty وَهَذَا الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَرْوِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

مُساهمة من طرف شريف ابراهيم الخميس 27 يوليو 2017 - 15:30

وَهَذَا الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَرْوِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: "يَا غُلَامُ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، وَتَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَأَنَّ الْقَلَمَ قَدْ جَفَّ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"1.
وَكَيْفَ يَكْذِبُ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي أَمْرٍ يُوَافِقُهُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ؟!
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} 2.
أَيْ جَعَلَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيْمَانَ كَمَا قَالَ فِي الرَّحْمَةِ: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} 3 الْآيَةَ. أَيْ: سَأَجْعَلُهَا:
وَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِهِ الْإِيْمَانَ، فَقَدْ قَضَى لَهُ بِالسَّعَادَةِ.
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 4.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ: إِنَّكَ لَا تُسَمِّي مَنْ أَحْبَبْتَ هَادِيًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَمِّي من يَشَاء هاديًا.
وَقَالَ: {وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 5 كَمَا قَالَ: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} 6 وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمَّى فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ ضَالِّينَ، وَمَا سماهم مهتدين.
__________
1 أخرجه التِّرْمِذِيّ: قِيَامَة 59، وَأحمد: 1/ 293 و303 و307، والْحَدِيث مَشْهُور عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَأما مَا ورد فِي قَول ابْن قُتَيْبَة أَنه عَن الْفضل فَهُوَ وهم مِنْهُ رَحمَه الله تَعَالَى -مُحَمَّد بدير.
2 الْآيَة 22 من سُورَة المجادلة.
3 الْآيَة 156 من سُورَة الْأَعْرَاف.
4 الْآيَة 56 من سُورَة الْقَصَص.
5 الْآيَة 93 من سُورَة النَّحْل.
6 الْآيَة 79 من سُورَة طه.
وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ"1
نَدِمْتُ نَدَامَةَ الْكُسَعِيِّ2 لَمَّا ... غَدَتْ مِنِّي مَطْلَقَةً نَوَارُ
وَكَانَتْ جَنَّةً فَخَرَجْتُ مِنْهَا ... كَآدَمَ حِينَ أَخْرَجَهُ الضِّرَارُ
وَلَوْ ضَنَّتْ يَدَايَ بِهَا3 وَنَفْسِي ... لَكَانَ عَلَيَّ لِلْقَدَرِ الْخِيَارُ
"وَقَالَ النَّابِغَةُ"
وَلَيْسَ امْرُؤٌ نَائِلًا مِنْ هَوَا ... هُ شَيْئًا إِذَا هُوَ لَمْ يُكْتَبْ
وَكَيْفَ يَكْذِبُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَمْرٍ تُوَافِقُهُ عَلَيْهِ كُتُبُ اللَّهِ تَعَالَى؟!
وَهَذَا وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ5، يَقُولُ: قَرَأْتُ فِي اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ كِتَابًا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى، اثْنَانِ وَعِشْرُونَ مِنْهَا مِنَ الْبَاطِنِ، وَخَمْسُونَ مِنَ الظَّاهِرِ، أَجِدُ فِيهَا كُلَّهَا أَنَّ مَنْ أَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ الِاسْتِطَاعَة فقد كفر.
__________
1 الفرزدق: همام بن غَالب بن صعصعة التَّمِيمِي أَبُو فراس، شَاعِر من النبلاء من أهل الْبَصْرَة عَظِيم الْأَثر فِي اللُّغَة وَهُوَ صَاحب الْأَخْبَار مَعَ جرير والأخطل وَتُوفِّي فِي بادية الْبَصْرَة 110هـ.
2 الكسعي: هُوَ غامد بن الْحَارِث الكسعي، الَّذِي اتخذ قوسًا وَخَمْسَة أسْهم وَكَمن فِي قترة، فَمر قطيع فَرمى عيرًا، فأمخطه السهْم وصدم الْجَبَل، فأورى نَارا، فَظن أَنه قد أَخطَأ فَرمى ثَانِيًا وثالثًا إِلَى آخرهَا، وَهُوَ يظنّ خطأه، فَعمد إِلَى قوسه فَكَسرهَا ثمَّ بَات، فَلَمَّا أصبح نظر فَإِذا الْحمر مطرّقة مصرّعة، وأسهمه بِالدَّمِ مضرجة، فندم فَقطع إبهامه وَأنْشد:
نَدِمت ندامة لَو أَن نَفسِي ... تطاوعني إِذا لَقطعت خمسي
تبين لي سفاه الرَّأْي مني ... لعمر أَبِيك حِين كسرت قوسي
3 وَفِي نُسْخَة: بهَا كفي.
4 النَّابِغَة الذبياني زِيَاد بن مُعَاوِيَة أَبُو أُمَامَة شَاعِر جاهلي من الطَّبَقَة الأولى من أهل الْحجاز كَانَت تضرب لَهُ قبَّة من جلد أَحْمَر بسوق عكاظ فتقصده الشُّعَرَاء فتعرض عَلَيْهِ أشعارها توفّي 18 ق. هـ.
5 وهب بن مُنَبّه: أَبُو عبد الله مؤرخ يعد فِي التَّابِعين ولد بِصَنْعَاء عَام 34هـ وَمَات فِيهَا عَام 114هـ وولاه عمر بن عبد الْعَزِيز قضاءها. وَذكر أَنه صحب ابْن عَبَّاس ولازمه ثَلَاث عشرَة سنة.
وَهَذِهِ التَّوْرَاةُ فِيهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِمُوسَى: "اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ فَقُلْ لَهُ: أَخْرِجْ إِلَيَّ بَنِي بَكْرِيٍّ، بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، لِيَحْمَدُونِي وَيُمَجِّدُونِي، وَيُقَدِّسُونِي، اذْهَبْ إِلَيْهِ فَأَبْلِغْهُ وَأَنَا أُقْسِي قَلْبَهُ، حَتَّى لَا يَفْعَلَ"1.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: بَكْرِيٌّ أَيْ: هُوَ لِي: بِمَنْزِلَةِ أَوْلَادِ2 الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ، وَهُوَ بَكْرِيٌّ أَيْ: أَوَّلُ مَنِ اخْتَرْتُهُ.
وَقَالَ حَمَّادٌ3 رِوَايَةً عَنْ مُقَاتِلٍ4، قَالَ لِي عَمْرُو بْنُ فَائِدٍ: "يَأْمُرُ اللَّهُ بِالشَّيْءِ، وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ"؟
قُلْتُ: نَعَمْ أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَذْبَحَ ابْنَهُ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَ.
قَالَ: إِنَّ تِلْكَ رُؤْيَا.
قُلْتُ رُؤْيا الْأَنْبِيَاء وحيٌّ؛ ألم تسمعه يَقُول: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} ؟
وَهَذِهِ أُمَمُ الْعَجَمِ كُلُّهَا، تَقُولُ بِالْإِثْبَاتِ بِالْقَدَرِ.
فالهند تَقُولُ فِي كِتَابِ "كَلِيلَةَ وَدِمْنَةَ" وَهُوَ مِنْ جَيِّدِ كُتُبِهِمُ الْقَدِيمَةِ: "الْيَقِينُ5 بِالْقَدَرِ، لَا يَمْنَعُ الْحَازِمَ تَوَقِّي الْمَهَالِكِ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ النَّظَرُ فِي الْقَدَرِ المغيَّب، وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْعَمَل6 بالحزم".
__________
1 وَفِي نُسْخَة: لَا يعقل.
2 لَعَلَّ الصَّحِيح: بِمَنْزِلَة أول أَوْلَاد الرجل، فَسقط من النُّسْخَة "أول"، مُسْتَفَاد من تَتِمَّة كَلَامه: أول من اخترته. وَالله أعلم.
3 حَمَّاد: لَعَلَّه حَمَّاد بن يزِيد وَهُوَ أَبُو إِسْمَاعِيل الْأَزْرَق الْبَصْرِيّ الْحَافِظ أحد الْأَعْلَام من أَئِمَّة الْمُسلمين، قَالَ ابْن الْمهْدي: مَا رَأَيْت أحفظ مِنْهُ وَلَا أعلم بِالسنةِ مِنْهُ وَلَا أفقه بِالْبَصْرَةِ مِنْهُ. مَاتَ فِي أَوَاخِر الْقرن الثَّانِي الهجري قبل سنة197هـ وَقيل سنة 179هـ وَقيل سنة 189هـ.
4 هُوَ مقَاتل بن سُلَيْمَان الْبَلْخِي الْمُفَسّر. لم يوثقه عُلَمَاء الحَدِيث وَإِن كَانُوا قد أثنوا على علمه حَتَّى قَالَ ابْن الْمُبَارك: مَا أحسن تَفْسِيره لَو كَانَ ثِقَة، وَسُئِلَ وَكِيع عَن تَفْسِير مقَاتل فَقَالَ: لَا تنظروا فِيهِ، فَقَالَ السَّائِل: مَا أصنع فِيهِ؟ قَالَ وَكِيع: ادفنه. وَقَالَ أَحْمد: لَا يُعجبنِي أَن أروي عَن مقَاتل شَيْئا. مَاتَ سنة 150هـ.
5 الْيَقِين: أَي الِاعْتِقَاد، والحازم: هُوَ الضَّابِط لأموره المتثبت فِي شؤونه.
6 وَفِي نُسْخَة: النّظر.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَنَحْنُ نَجْمَعُ، تَصْدِيقًا بِالْقَدَرِ، وَأَخْذًا بِالْحَزْمِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَقَرَأْتُ فِي كُتُبِ الْعَجَمِ أَنَّ هُرْمُزَ سُئِلَ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي بَعَثَ فَيْرُوزَ عَلَى غَزْوِ الْهَيَاطِلَةِ، ثُمَّ الْغَدْرِ بِهِمْ؛ فَقَالَ: إِنَّ الْعِبَادَ يَجْرُونَ مِنْ قَدَرِ رَبِّنَا وَمَشِيئَتِهِ، فِيمَا لَيْسَ لَهُمْ صُنْعٌ مَعَهُ، وَلَا يَمْلِكُونَ تَقَدُّمًا وَلَا تَأَخُّرًا عَنْهُ.
فَمَنْ كَانَتْ مَسْأَلَتُهُ عَمَّا سَأَلَ عَنْهُ، وَهُوَ مُسْتَشْعِرٌ لِلْمَعْرِفَةِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ لَا يَقْصِدُ بِمَسْأَلَتِهِ إِلَّا عَنِ الْعِلَّةِ الَّتِي جَرَى بِهَا الْمِقْدَارُ1 عَلَى مَنْ جَرَى ذَلِكَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، وَالسَّبَبُ الظَّاهِرُ الَّذِي أَدْرَكَتْهُ الْأَعْيُنُ مِنْهُ مُتَّبِعٌ2 لِمَا جَرَى عَلَيْهِ النَّاسُ فِي قَوْلِهِمْ: "مَا صَنَعَ فُلَانٌ"؟ وَهُمْ يُرِيدُونَ "مَا صُنِعَ بِهِ" أَوْ "صُنِعَ عَلَى يَدَيْهِ".
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: مَاتَ فُلَانٌ، أَوْ عَاشَ فُلَانٌ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ: فُعِلَ بِهِ، فَذَلِكَ الْقَصْدُ مِنْ مَسْأَلَتِهِ، وَمَنْ تَعَدَّى ذَلِكَ، كَانَ الْجَهْلُ أَوْلَى بِهِ.
وَلَيْسَ حَمْلُنا مَا حَمَلْنا عَلَى الْمَقَادِيرِ فِي قِصَّتِهِ، تحرِّيًا لِمَعْذِرَتِهِ، وَلَا طَلَبًا لِتَحْسِينِ أَمْرِهِ، وَلَا إِنْكَارًا أَنْ يَكُونَ مَا قُدِّرَ عَلَى الْمَخْلُوقِ مِنْ آثَارِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَسْتَطِيعُ دَفْعَ مَكْرُوهِهَا، وَلَا اجْتِلَابَ مَحْمُودِهَا إِلَى نَفْسِهِ وَهُوَ السَّبَبُ الَّذِي يَجْرِي بِهِ مَا غُيِّبَ عَنَّا مِنْ ثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ، بِمَا3 حَتَمَ بِهِ عَدْلُ الْمُبْتَدِي لِخَلْقِهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُهُ الْآخَرُ الَّذِي نَسَبَهُ فِيهِ إِلَى الْكَذِبِ، فَقَالَ: رَأَى قَوْمًا مِنَ الزُّطِّ، فَقَالَ: هَؤُلَاءِ أَشْبَهُ مَنْ رَأَيْتُ بِالْجِنِّ لَيْلَةَ الْجِنَّ، ثُمَّ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ؛ فَقِيلَ لَهُ: كنتَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ فَقَالَ: مَا شَهِدَهَا مِنَّا أَحَدٌ.
فَادَّعَى فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ شَهِدَهَا، وَأَنْكَرَ ذَلِك فِي الحَدِيث الآخر
__________
1 لَعَلَّ الْأَصَح: الْمُقدر.
2 فِي الأَصْل: مُتبعا بِالنّصب، وَلم أجد لَهَا وَجها.
3 وَفِي نُسْخَة: مِمَّا.
وتصحيحه الْخَبَرَيْنِ عَنْهُ فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، مَعَ ثَاقِبِ فَهْمِهِ، وَبَارِعِ عِلْمِهِ، وَتَقَدُّمِهِ فِي السِّتَّةِ1 الَّذِينَ انْتَهَى إِلَيْهِمُ الْعِلْمُ بِهَا، وَاقْتَدَتْ بِهِمُ الْأُمَّةُ مَعَ خَاصَّتِهِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلُطْفِ مَحِلِّهِ.
وَكَيْفَ يَجُوزُ عَلَيْهِ أَنَّ يُقِرَّ بِالْكَذِبِ هَذَا الْإِقْرَارَ؟ فَيَقُولُ: الْيَوْمَ شَهِدْتُ، وَيَقُولُ غَدًا: لَمْ أَشْهَدْ، وَلَوْ جَهَدَ عَدُّوهُ، أَنْ يَبْلُغَ مِنْهُ مَا بَلَغَهُ مِنْ نَفْسِهِ مَا قَدَرَ، وَلَوْ كَانَ بِهِ خَبَلٌ، أَوْ عَتَهٌ، أَوْ آفَةٌ، مَا زَادَ عَلَى مَا وَسَمَ بِهِ نَفْسَهُ.
وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ لَا يُثْبِتُونَ حَدِيثَ الزُّطِّ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ حُضُورِهِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ، وَهُمُ الْقُدْوَةُ عِنْدَنَا فِي الْمَعْرِفَةِ بِصَحِيحِ الْأَخْبَارِ وَسَقِيمِهَا، لِأَنَّهُمْ أَهْلُهَا والمعتنون بِهَا2. وَكُلُّ ذِي صِنَاعَةٍ أَوْلَى بِصِنَاعَتِهِ.
غَيْرَ أَنَّا لَا نَشُكُّ فِي بُطْلَانِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ يُخْبِرُ النَّاسَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ قَدْ كَذَبَ، وَلَا تَسْقُطُ3 عِنْدَهُمْ مَرْتَبَتُهُ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ، لَقِيلَ لَهُ: فَلِمَ خَبَّرْتَنَا أَمْسِ بِأَنَّكَ شَهِدْتَ؟
فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، فَقَدْ سَقَطَ4 الْخَبَرُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثَانِ جَمِيعًا صَحِيحَيْنِ، فَلَا أَرَى النَّاقِلَ لِلْخَبَرِ الثَّانِي إِلَّا وَقَدْ أَسْقَطَ مِنْهُ حَرْفًا5، وَهُوَ "غَيْرِي"؛ يَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ لَهُ، أَكُنْتَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ فَقَالَ: "مَا شَهِدَهَا أَحَدٌ مِنَّا غَيْرِي".
فَأَغْفَلَ الرَّاوِي "غَيْرِي" إِمَّا بِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ، أَوْ بِأَنَّهُ سَمِعَهُ فَنَسِيَهُ6 أَوْ بِأَنَّ النَّاقِلَ عَنْهُ أَسْقَطَهُ.
وَهَذَا وَأَشْبَاهُهُ قَدْ يَقَعُ وَلَا يُؤمن.
__________
1 وَفِي نُسْخَة:: فِي السّنة.
2 وَفِي نُسْخَة: والمعتنون بهَا.
3 وَفِي نُسْخَة: وَلَا يسْقط.
4 وَفِي نُسْخَة: بَطل.
5 لَعَلَّ الْأَصَح: أسقط مِنْهُ كلمة وَهُوَ "غَيْرِي".
6 وَفِي نُسْخَة: فأنسيه.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، أَنَّهُ قَالَ لَهُ: هَلْ كُنْتَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ فَقَالَ: "مَا شَهِدَهَا أَحَدٌ مِنَّا".
وَلَيْسَ هَذَا جَوَابًا لِقَوْلِهِ: "هَلْ كُنْتَ؟ " وَإِنَّمَا هُوَ جَوَابٌ لقَوْل السَّائِلِ: "هَلْ كُنْتَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ وَإِذَا كَانَ قَوْلُ السَّائِلِ: هَلْ كُنْتَ1 مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ حَسَنٌ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ "مَا شَهِدَهَا أَحَدٌ مِنَّا غَيْرِي" يُؤَكِّدُ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ مُتَقَدِّمِ قَوْله.
مَا حَكَاهُ عَنْ حُذَيْفَةَ:
وَأَمَّا مَا حَكَاهُ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ حَلَفَ عَلَى أَشْيَاءَ لِعُثْمَانَ، مَا قَالَهَا، وَقَدْ سَمِعُوهُ قَالَهَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ إِنِّي أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، مَخَافَةَ أَنْ يَذْهَبَ كُلَّهُ.
فَكَيْفَ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى أَقْبَحِ وُجُوهِهِ؟ وَلَمْ يَتَطَلَّبْ لَهُ الْعُذْرَ وَالْمَخْرَجَ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِهِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: "أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ".
أَفَلَا تَفَهّم عَنْهُ مَعْنَاهُ، وتدبَّر قَوْلَهُ؟ وَلَكِنَّ عَدَاوَتَهُ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا احْتَمَلَهُ مِنَ الضِّغْنِ عَلَيْهِمْ، حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّظَرِ.
والعداوة البغض، يُعْمِيَانِ وَيُصِمَّانِ، كَمَا أَنَّ الْهَوَى يُعْمِي وَيُصِمُّ.
وَاعْلَمْ -رَحِمَكَ اللَّهُ- أَنَّ الْكَذِبَ وَالْحِنْثَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَوْلَى بِالْمَرْءِ وَأَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ مِنَ الصِّدْقِ فِي الْقَوْلِ وَالْبِرِّ فِي الْيَمِينِ.
أَلَّا تَرَى رَجُلًا لَوْ رَأَى سُلْطَانًا ظَالِمًا وَقَادِرًا قَاهِرًا، يُرِيدُ سَفْكَ دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوِ اسْتِبَاحَةَ حُرَمِهِ، أَوْ إِحْرَاقِ مَنْزِلِهِ، فَتَخَرَّصَ قَوْلًا كَاذِبًا يُنْجِيهِ بِهِ، أَوْ حَلَفَ يَمِينًا فَاجِرَةً، كَانَ مَأْجُورًا عِنْدَ اللَّهِ، مَشْكُورًا عِنْدَ عِبَادِهِ؟
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا حَلَفَ: لَا يَصِلُ رَحِمًا، وَلَا يُؤَدِّي زَكَاةً، ثُمَّ اسْتَفْتَى الْفُقَهَاءَ، لَأَفْتَوْهُ جَمِيعًا بِأَنْ لَا يَبَرَّ فِي يَمِينِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُول:
__________
1 وَفِي نُسْخَة: هَل كُنْتُم.
{وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} 1.
يُرِيدُ: لَا تَجْعَلُوا الْحَلِفَ بِاللَّهِ، مَانِعًا لَكُمْ مِنَ الْخَيْرِ، إِذَا حَلَفْتُمْ أَنْ لَا تَأْتُوهُ، وَلَكِنْ كفِّروا، وَائْتُوا الَّذِي هُوَ خَيْرٌ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ، فَرَأَى غَيْرَهُ خَيْرًا مِنْهُ فَلْيُكَفِّرْ وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ 2 ".
وَقَدْ رُخِّص فِي الْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ، لِأَنَّهَا خُدْعَةٌ، وَفِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَفِي إِرْضَاءِ الرَّجُلِ أَهْلَهُ.
وَرُخِّصَ لَهُ أَنْ يُوَرِّيَ فِي يَمِينِهِ إِلَى شَيْءٍ، إِذَا ظُلِمَ، أَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ، وَالتَّوْرِيَةُ: أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ مَا نَوَى مُسْتَحْلِفُهُ.
كَأَنْ كَانَ مُعْسِرًا، أَحْلَفَهُ رَجُلٌ عِنْدَ حَاكِمٍ عَلَى حَقٍّ لَهُ عَلَيْهِ، فَخَافَ الْحَبْسَ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِنْظَارِهِ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا لِهَذَا عَلَيَّ شَيْءٌ، وَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ: يَوْمِي هَذَا3.
أَوْ يَقُولُ وَالَّلاهِ، يُرِيدُ مِنَ اللَّهْوِ إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الْيَاءَ وَأَبْقَى الْكَسْرَةَ مِنْهَا4، دَلِيلًا عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا} 5
__________
1 الْآيَة 224 من سُورَة الْبَقَرَة.
2 أخرجه مُسلم: أَيْمَان 11 و13 و16، وَالتِّرْمِذِيّ: نذور6، وَالنَّسَائِيّ: أَيْمَان 15 و16، وَابْن ماجة: كَفَّارَات 7، والدارمي: نذور 9، والموطأ: نذور 11، وَأحمد: 4/ 256 و378 و428.
3 لَا نوافق الْمُؤلف رَحمَه الله فِيمَا ذهب إِلَيْهِ، وَهَذَا الْمِثَال لَا ينطبق على الشَّرْط الَّذِي قدمه الْمُؤلف وَهُوَ: "خشيَة الظُّلم أَو الْخَوْف على النَّفس". والإعسار لَا يُبِيح للْمَدِين إِنْكَار الدَّين وَالْحلف على ذَلِك، وَإِنَّمَا يبين حَاله وَيطْلب إمهاله. وَالْقَاضِي ينظر فِي أمره وَقد يحث الدَّائِن على مسامحته أَو إمهاله إِذا لم يكن مُتَعَدِّيا سيء النِّيَّة، وَالله أعلم.
4 هَذَا لون من ألوان المخادعة، وَالَّذِي نعرفه أَن الْيَمين فِي الْحُقُوق والذمم تكون على مَا يُريدهُ المستحلف لَا الْحَالِف، وَالله أعلم، وَقد ورد عَن أبي هُرَيْرَة فِي صَحِيح مُسلم الحَدِيث "يَمِينك على مَا يصدقك عَلَيْهِ صَاحبك" والْحَدِيث "الْيَمين على نِيَّة المستحلف" "مُسلم رقم/ 1653".
5 الْآيَة 10 من سُورَة الزمر. الْآيَة: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ ... } .
و {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} 1 و {يُنَادِ الْمُنَادِ} 2.
أَوْ يَقُولُ: كُلُّ مَا لَا أَمْلِكُهُ صَدَقَةٌ يُرِيدُ كُلُّ مَا لَنْ أَمْلِكَهُ. أَيْ: لَيْسَ أَمْلِكُهُ.
وَأَنْ يُحْلِفَهُ رَجُلٌ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ بَابِ هَذِهِ الدِّيَارِ -وَهُوَ لَهُ ظَالِمٌ- فَيَتَسَوَّرُ الْحَائِطَ وَيَخْرُجُ، مُتَأَوِّلًا بِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بَابِ الدَّارِ، وَإِنْ كَانَتْ نِيَّةُ الْمُسْتَحْلِفِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَهَذَا وَمَا أَشْبَهُهُ مِنَ التَّوْرِيَةِ.
الرُّخْصَةُ فِي الْمَعَارِيضِ:
وَجَاءَتِ الرُّخْصَةُ فِي الْمَعَارِيضِ، وَقِيلَ: إِنَّ فِيهَا عَنِ الْكَذِبِ مَنْدُوحَةً.
فَمِنَ الْمَعَارِيضِ، قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَتِهِ "إِنَّهَا أُخْتِي" يُرِيدُ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِخْوَةٌ.
وَقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} 3.
أَرَادَ: "بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ" فَجَعَلَ النُّطْقَ شَرْطًا لِلْفِعْلِ وَهُوَ لَا يَنْطِقُ وَلَا يَفْعَلُ.
وَقَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} 4 يُرِيدُ "سَأَسْقَمُ"؛ لِأَنَّ مَنْ كُتِبَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ وَالْفَنَاءُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْقَمَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 5.
وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيِّتًا فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ: إِنَّكَ سَتَمُوتُ، وَسَيَمُوتُونَ.
__________
1 الْآيَة 6 من سُورَة الْقَمَر.
2 الْآيَة 41 من سُورَة ق. الْآيَة: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ ... } .
3 الْآيَة 63 من سُورَة الْأَنْبِيَاء. الْآيَة: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ ... } .
4 الْآيَة 89 من سُورَة الصافات. الْآيَة: {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ.. .} .
5 الْآيَة 30 من سُورَة الزمر.
فَأَيْنَ كَانَ طَلَبِ الْمَخْرَجِ لَهُ مِنْ وَجْهٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَقَدْ نَبَّهَهُ عَلَى أَنَّ لَهُ مَخْرَجًا بِقَوْلِهِ: "أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ".
فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تَعْلَمَ كَيْفَ يَكُونُ طَلَبُ الْمُخْرِجِ، خَبَّرْنَاكَ بِأَمْثَالِ ذَلِكَ؛
فَمِنْهَا: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْخَوَارِجِ، لَقِيَ رَجُلًا مِنَ الرَّوَافِضِ، فَقَالَ لَهُ: "وَاللَّهِ لَا أُفَارِقُكَ، حَتَّى تَبْرَأَ مِنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ أَوْ أَقْتُلُكَ".
فَقَالَ: أَنَا وَاللَّهِ مِنْ عَلِيٍّ، وَمِنْ عُثْمَانَ بَرِيءٌ؛ فَتَخَلَّصَ مِنْهُ.
وَإِنَّمَا أَرَادَ: أَنَا "مِنْ عَلِيٍّ" يُرِيدُ أَنَّهُ يَتَوَلَّاهُ "وَمِنْ عُثْمَانَ بَرِيءٌ" فَكَانَتْ بَرَاءَتُهُ مِنْ عُثْمَانَ وَحْدَهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ السُّلْطَانِ، سَأَلَ رَجُلًا كَانَ يَتَّهِمُهُ بِبُغْضِ السُّلْطَانِ وَالْقَدْحِ فِيهِ، عَنِ السَّوَادِ الَّذِي يَلْبَسُهُ أَصْحَابُ السُّلْطَانِ؛ فَقَالَ لَهُ: "النُّورُ -وَاللَّهِ- فِي السَّوَادِ" فَرَضِيَ بِذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ "أَنَّ نُورَ الْعَيْنِ، فِي سَوَادِ الْحَدَقَةِ" فَلَمْ يَكُنْ فِي يَمِينِهِ آثِمًا وَلَا حَانِثًا.
وَمِنْهَا أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ فَقَالَ: "لَئِنْ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ قَتَلَ عُثْمَانَ، لَا أَدْخُلُهَا، وَلَئِنْ لَمْ يَدْخُلِ النَّارَ إِلَّا مَنْ قَتَلَ عُثْمَانَ، لَا أَدْخُلُهَا"1.
فَقِيلَ لَهُ: مَا صَنَعْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَرَّقْتُ النَّاسَ؛ فَخَطَبَهُمْ وَقَالَ:
"إِنَّكُمْ قَدْ أَكْثَرْتُمْ عليَّ فِي قَتْلِ عُثْمَانَ، إِلَّا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَتَلَهُ، وَأَنَا مَعَهُ"2. فَأَوْهَمَهُمْ أَنَّهُ قَتَلَهُ مَعَ قَتْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَتَلَهُ، وَسَيَقْتُلُنِي مَعَهُ.
وَمِنْهَا أَنَّ شُرَيْحًا3 دَخَلَ عَلَى زِيَادٍ فِي مَرَضِهِ، الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَلَمَّا
__________
1 لم نجد أَن مرجعًا موثوقًا يذكرهُ، وَلَا نطمئن لصِحَّته. وَالله أعلم.
2 نشك فِي صِحَة نِسْبَة هَذَا القَوْل لعَلي رَضِي الله عَنهُ، وَلم نجده فِي مرجع موثوق. وَالله أعلم.
3 شُرَيْح القَاضِي، هُوَ شُرَيْح بن الْحَارِث بن قيس بن جهم الْكِنْدِيّ، أَبُو أُميَّة من أشهر الْقُضَاة الْفُقَهَاء فِي صدر الْإِسْلَام. أَصله من الْيمن، ولي قَضَاء الْكُوفَة فِي زمن عمر وَعُثْمَان وَعلي وَمُعَاوِيَة، واستعفى فِي أَيَّام الْحجَّاج فأعفاه، وَكَانَ ثِقَة بِالْحَدِيثِ. مَاتَ بِالْكُوفَةِ 78هـ.
خرج بَعَثَ إِلَيْهِ مَسْرُوقٌ1 يَسْأَلُهُ. كَيْفَ تَرَكْتَ الْأَمِيرَ؟
قَالَ: تَرَكْتُهُ يَأْمُرُ وَيَنْهَى.
فَقَالَ: إِنَّ شُرَيْحًا صَاحِبٌ عَوِيصٌ، فَاسْأَلُوهُ.
فَقَالَ: تَرَكْتُهُ يَأْمُرُ بِالْوَصِيَّةِ وَيَنْهَى عَنِ الْبُكَاءِ.
وَسُئِلَ شُرَيْحٌ عَنِ ابْنٍ لَهُ وَقَدْ مَاتَ، فَقَالُوا: كَيْفَ أَصْبَحَ مَرِيضُكَ يَا أَبَا أُمَيَّةَ؟
فَقَالَ: "الْآنَ سَكَنَ عَلَزُه2 وَرَجَاهُ أَهْلُهُ" يَعْنِي: رَجَوْا ثَوَابَهُ.
وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحِيطَ3 بِهِ.
وَلَيْسَ يَخْلُو حُذَيْفَةُ فِي قَوْلِهِ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مَا قَالَ مِنْ تَوْرِيَةٍ إِلَى شَيْءٍ فِي يَمِينِهِ، وَقَوْلِهِ: وَلَمْ يُحْكَ لَنَا الْكَلَامُ فَنَتَأَوَّلُهُ، وَإِنَّمَا جَاءَ مُجْمَلًا.
وَسَنَضْرِبُ لَهُ مَثَلًا؛ كَأَنَّ حُذَيْفَةَ قَالَ: وَالنَّاسُ يَقُولُونَ عِنْدَ الْغَضَبِ، أَقْبَحَ مَا يَعْلَمُونَ، وَعِنْدَ الرِّضَا أَحْسَنَ مَا يَعْلَمُونَ.
إِنَّ عُثْمَانَ خَالَفَ صَاحِبَيْهِ، وَوَضَعَ الْأُمُورَ غَيْرَ مَوَاضِعِهَا، وَلَمْ يُشَاوِرْ أَصْحَابَهُ فِي أُمُورِهِ، وَدَفَعَ الْمَالَ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ. هَذَا وَأَشْبَاهُهُ.
فَوَشَى بِهِ إِلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ واشٍ، فَغَلَّظَ الْقَوْلَ وَقَالَ: ذُكِرَ أَنَّكَ تَقُولُ: إِنِّي ظَالِمٌ خَائِنٌ، هَذَا وَمَا أَشْبَهُهُ.
فَحَلَفَ حُذَيْفَةُ بِاللَّهِ تَعَالَى مَا قَالَ ذَلِكَ، وَصَدَقَ حُذَيْفَة أَنه لم يقل: إِن
__________
1 مَسْرُوق بن الأجدع بن مَالك الْهَمدَانِي الوادعي أَبُو عَائِشَة تَابِعِيّ ثِقَة من أهل الْيمن، قدم الْمَدِينَة فِي أَيَّام أبي بكر، وَسكن الْكُوفَة، وَشهد حروب عَليّ، وَكَانَ أعلم بالفتيا من شُرَيْح، وَشُرَيْح أبْصر مِنْهُ بِالْقضَاءِ.
2 العلز: قلق وهلع يُصِيب الْمَرِيض والأسير والمحتضر. الْقَامُوس الْمُحِيط ص666.
3 لَعَلَّ الْأَصَح: أَن يحاط بِهِ.
عُثْمَان خَائِنٌ ظَالِمٌ، وَأَرَادَ بِيَمِينِهِ اسْتِلَالَ سَخِيمَتِهِ1، وَإِطْفَاءَ سَوْرَةَ2 غَضَبِهِ وَكَرِهَ أَنْ يَنْطَوِيَ عَلَى سُخْطِهِ عَلَيْهِ.
وَسُخْطُ الْإِمَامِ عَلَى رَعِيَّتِهِ، كَسُخْطِ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ، وَالسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ، وَالْبَعْلِ عَلَى زَوْجِهِ.
بَلْ سُخْطُ الْإِمَامِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ حُوبًا3، فَاشْتَرَى الْأَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ بِالْأَصْغَرِ، وَقَالَ: "أَشْتَرِي بَعْضَ دِينِي بِبَعْضٍ".
الرَّدُّ عَلَى مَا قِيلَ فِي أَبِي هُرَيْرَةَ:
وَأَمَّا طَعْنُهُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ بِتَكْذِيبِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَائِشَةَ لَهُ.
فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ وَأَكْثَرَ الرِّوَايَةَ عَنْهُ وعُمِّرَ بَعْدَهُ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ، سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُوُفِّيَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَبْلَهُمَا بِسَنَةٍ.
فَلَمَّا أَتَى مِنَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ مَا لَمْ يَأْتِ بِمِثْلِهِ مَنْ صَحِبَهُ مِنْ جُلَّةِ أَصْحَابِهِ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ إِلَيْهِ اتَّهَمُوهُ، وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ، وَقَالُوا: كَيْفَ سَمِعْتَ هَذَا وَحْدَكَ؟ وَمَنْ سَمِعَهُ مَعَكَ؟
وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَشَدَّهُمْ إِنْكَارًا عَلَيْهِ، لِتَطَاوُلِ الْأَيَّامِ بِهَا وَبِهِ.
وَكَانَ عُمَرُ أَيْضًا شَدِيدًا عَلَى مَنْ أَكْثَرَ الرِّوَايَةَ، أَوْ أَتَى بِخَبَرٍ فِي الْحُكْمِ لَا شَاهِدَ لَهُ عَلَيْهِ.
وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يُقِلُّوا الرِّوَايَةَ، يُرِيدُ بِذَلِكَ: أَنْ لَا يَتَّسِع النَّاس فِيهَا،
__________
1 السخيمة والسخمة: الحقد. الْقَامُوس 1446.
2 السَّوْرة: الحدة. الْقَامُوس 527.
3 الحُوب، بِالضَّمِّ: الْهَلَاك، وَالْبَلَاء. الْقَامُوس 99.
وَيَدْخُلُهَا الشَّوْبُ؛ وَيَقَعُ التَّدْلِيسُ وَالْكَذِبُ مِنَ الْمُنَافِقِ وَالْفَاجِرِ وَالْأَعْرَابِيِّ.
وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ جُلَّةِ الصَّحَابَةِ، وَأَهْلِ الْخَاصَّةِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَبِي بَكْرٍ، وَالزُّبَيْرِ1، وَأَبِي عُبَيْدَةَ2، وَالْعَبَّاسِ3 بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يُقِلُّون الرِّوَايَةَ عَنْهُ.
بَلْ كَانَ بَعْضُهُمْ لَا يَكَادُ يَرْوِي شَيْئًا كَسَعِيدِ4 بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْعَشْرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ.
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا، نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ مِنْهُ، وَإِذَا حَدَّثَنِي عَنْهُ مُحَدِّثٌ، اسْتَحْلَفْتُهُ، فَإِنْ حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَدَّثَنِي، وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ" ثُمَّ ذَكَرَ الْحَدِيثَ.
أَفَمَا تَرَى تَشْدِيدَ الْقَوْمِ فِي الْحَدِيثِ وَتَوَقِّيَ مَنْ أَمْسَكَ، كَرَاهِيَةَ التَّحْرِيفِ، أَوِ الزِّيَادَةِ فِي الرِّوَايَةِ، أَوِ النُّقْصَانِ، لِأَنَّهُمْ سَمِعُوهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ:
"مَنْ كَذَبَ عليَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَده من النَّار" 5.
__________
1 الزبير بن الْعَوام بن خويلد الْأَسدي حوارِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم وَابْن عمته صَفِيَّة، وَأحد الْعشْرَة السَّابِقين، وَأول من سل سَيْفا فِي سَبِيل الله، هَاجر الهجرتين وَشهد بَدْرًا، والمشاهد كلهَا، توفّي سنة 36هـ.
2 هُوَ عَامر بن عبد الله بن الْجراح، أَمِين هَذِه الْأمة، وَأحد الْعشْرَة المبشرين بِالْجنَّةِ، شهد بَدْرًا، ولي الشَّام، وافتتح اليرموك والجابية والرمادة، وافتتح دمشقًا صلحا وَكتب لأَهْلهَا كتاب الصُّلْح، وَذكروا فِي مناقبه أَنه قتل أَبَاهُ يَوْم بدر، وَنزلت فِيهِ {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الْآيَة. وَهُوَ فِيمَا أخرجه الطَّبَرَانِيّ بِسَنَد جيد عَن عبد الله بن شَوْذَب قَالَ: جعل وَالِد أبي عُبَيْدَة يتَصَدَّى لأبي عُبَيْدَة يَوْم بدر فيحيد عَنهُ فَلَمَّا أَكثر قَصده فَقتله، توفّي أَبُو عُبَيْدَة فِي طاعون عمواس سنة 18هـ.
3 هُوَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب عَم رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم أَبُو الْفضل، ولد قبل رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم بِسنتَيْنِ، وَكَانَ إِلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة السِّقَايَة والعمارة، وَحضر بيعَة الْعقبَة مَعَ الْأَنْصَار قبل أَن يسلم، هَاجر قبل الْفَتْح بِقَلِيل، وَشهد الْفَتْح، وَثَبت يَوْم حنين، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ 32هـ.
4 سعيد بن زيد الْعَدوي، أَحَدُ الْعَشْرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، والمهاجرين الْأَوَّلين شهد الْمشَاهد كلهَا بعد بدر الَّتِي تخلف عَنْهَا فَضرب لَهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْم، وَذكره البُخَارِيّ فِي صَحِيحه فِيمَن شهد بَدْرًا، توفّي سنة 51هـ.
5 أخرج البُخَارِيّ عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة قَالَ: سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: "إِن كذبا عليَّ لَيْسَ ككذب على أحد، من كذب عليَّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار" البُخَارِيّ: جنائز 34، وَأحمد 4/ 245، وَأَبُو دَاوُد: علم 4، وَالتِّرْمِذِيّ: علم 8 وَأما الرِّوَايَة: "من كذب عَليّ فَهُوَ فِي النَّار" فَهِيَ رِوَايَة ضَعِيفَة، وَقد أخرجه الألباني فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير رقم 5830 وسلسلة الْأَحَادِيث الضعيفة برقم 4646.
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ رَوَاهُ وَقَالَ: أَرَاهُمْ1 يَزِيدُونَ فِيهِ "مُتَعَمِّدًا" وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُهُ قَالَ: "مُتَعَمِّدًا".
وَرَوَى مُطَرِّفُ1 بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عُمْرَانَ3 بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ: وَاللَّهِ، إِنْ كُنْتُ لَأَرَى أَنِّي لَوْ شِئْتُ لَحَدَّثْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، وَلَكِنْ بَطَّأَنِي عَنْ ذَلِكَ أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعُوا كَمَا سَمِعْتُ، وَشَهِدُوا كَمَا شَهِدْتُ، وَيُحَدِّثُونَ أَحَادِيثَ مَا هِيَ كَمَا يَقُولُونَ، وَأَخَافُ أَنْ يُشَبَّهَ لِي كَمَا شُبِّهَ لَهُمْ، فَأُعْلِمُكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَغْلَطُونَ4 لَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَمَّدُونَ.
فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ بِأَنَّهُ كَانَ أَلْزَمَهُمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِخِدْمَتِهِ وَشَبِعَ بَطْنُهُ، وَكَانَ فَقِيرًا مُعْدَمًا، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَشْغَلَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَرْسُ الْوَدِيِّ5 وَلَا الصَّفق6 بِالْأَسْوَاقِ، يُعَرِّضُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَصَرَّفُونَ فِي التِّجَارَاتِ وَيَلْزَمُونَ الضِّيَاعَ7 فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ، وَهُوَ مُلَازِمٌ لَهُ لَا يُفَارِقُهُ، فَعَرَفَ مَا لَمْ يَعْرِفُوا، وَحَفِظَ مَا لَمْ يَحْفَظُوا -أَمْسَكُوا عَنْهُ وَكَانَ مَعَ هَذَا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا، وَإِنَّمَا سَمِعَهُ مِنَ الثِّقَةِ عِنْدَهُ، فَحَكَاهُ.
وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَفْعَلُ، وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا
__________
1 وَفِي نُسْخَة: أَنهم.
2 مطرف بن عبد الله بن الشخير العامري، أَبُو عبد الله: زاهد من كبار التَّابِعين، ثِقَة فِيمَا رَوَاهُ من الحَدِيث، ولد فِي حَيَاة النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثمَّ أَقَامَ وَتُوفِّي فِي الْبَصْرَة 87.
3 عمرَان بن حُصَيْن بن عبيد، أَبُو نجيد الْخُزَاعِيّ، من عُلَمَاء الصَّحَابَة أسلم عَام خَيْبَر سنة 7هـ، بَعثه عمر إِلَى أهل الْبَصْرَة ليفقههم، وولاه زِيَاد قضاءها وَتُوفِّي بهَا عَام 52هـ وَله فِي كتب الحَدِيث 130 حَدِيثا.
4 وَفِي نُسْخَة: يخطئون.
5 الودي: صغَار الفسيل، واحدته: ودية كفينة وزنا.
6 الصفق: الذّهاب والطوف. "الْقَامُوس".
7 الضّيَاع: جمع ضَيْعَة وَهِي: الْعقار، وَالْأَرْض المغلة. "الْقَامُوس".
كذبٌ -بِحَمْدِ اللَّهِ- وَلَا عَلَى قَائِلِهِ -إِنْ لَمْ يَفْهَمْهُ السَّامِعُ- جُنَاحٌ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: قَالَ خَلِيلِي، وَسَمِعْتُ خَلِيلِي". يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ لَهُ: "مَتَى كَانَ خَلِيلَكَ"؟ ".
فَإِنَّ الْخُلَّةَ بِمَعْنَى الصَّدَاقَةِ وَالْمُصَافَاةِ، وَهِيَ دَرَجَتَانِ، إِحْدَاهُمَا أَلْطَفُ مِنَ الْأُخْرَى.
كَمَا أَنَّ الصُّحْبَةَ دَرَجَتَانِ، إِحْدَاهُمَا أَلْطَفُ مِنَ الْأُخْرَى.
أَلَّا تَرَى أَنَّ الْقَائِلَ: أَبُو بَكْرٍ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ مَعْنَى صُحْبَةِ أَصْحَابِهِ لَهُ، لِأَنَّهُمْ جَمِيعًا صَحَابَةٌ، فَأَيَّةُ فَضِيلَةٍ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ؟. وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنَّهُ أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ.
وَكَذَلِكَ الْأُخُوَّةُ الَّتِي جَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، هِيَ أَلْطَفُ مِنَ الْأُخُوَّةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 1 وَهَكَذَا الْخُلَّةُ.
فَمِنَ الْخُلَّةِ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} 2.
وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا" 3.
يُرِيدُ لَاتَّخَذْتُهُ خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا.
وَأَمَّا الْخُلَّةُ، الَّتِي تَعُمُّ، فَهِيَ الْخُلَّةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} 4.
__________
1 الْآيَة 10 من سُورَة الحجرات.
2 الْآيَة 125 من سُورَة النِّسَاء.
3 أخرجه البُخَارِيّ: صَلَاة 80 ومناقب الْأَنْصَار 45 وفضائل الصَّحَابَة 3 و5 وفرائض 9 وَمُسلم: مَسَاجِد 28 وفضائل الصَّحَابَة 2 و7 وَالتِّرْمِذِيّ: مَنَاقِب 14 و16، وَابْن ماجة: مُقَدّمَة 11، والدرامي: فَرَائض 11 وَأحمد 1/ 270 و359 و3/ 18 و478.
4 الْآيَة 67 من سُورَة الزخرف.
فَلَمَّا سَمِعَ عَلِيٌّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: "قَالَ خَلِيلِي، وَسَمِعْتُ خَلِيلِي" وَكَانَ سيء الرَّأْيِ فِيهِ، قَالَ: "مَتَى كَانَ خَلِيلَكَ"؟
يَذْهَبُ إِلَى الْخُلَّةِ الَّتِي لَمْ يُتَّخَذْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -مِنْ جِهَتِهَا- خَلِيلًا، وَأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِأَحَدٍ، لَفَعَلَهُ بِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَذَهَبَ أَبُو هُرَيْرَةَ، إِلَى الْخُلَّةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْوِلَايَةِ، فَإِنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ- خَلِيلُ كُلِّ مُؤْمِنٍ، وَوَلِيُّ كُلِّ مُسْلِمٍ.
وَإِلَى مِثْلِ هَذَا، يُذْهَب فِي قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ، فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ"1؛ يُرِيدُ أَنَّ الْوِلَايَةَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلْطَفُ مِنَ الْوِلَايَةِ الَّتِي بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، فَجَعَلَهَا لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَلَوْ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ، مَا كَانَ لِعَلِيٍّ فِي هَذَا الْقَوْلِ فَضْلٌ، وَلَا كَانَ فِي الْقَوْلِ دَلِيلٌ عَلَى شَيْءٍ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ.
وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِيُّ كُلِّ مُسْلِمٍ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ وَلِيٍّ وَمَوْلًى.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} 2 وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيَّةُ امْرَأَةٍ نُكِحَتْ، بِغَيْرِ أَمْرِ مَوْلَاهَا، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ" 3.
فَهَذِهِ أَقَاوِيلُ النَّظَّامِ، قَدْ بَيَّنَّاهَا، وَأَجَبْنَاهُ عَنْهَا.
وَلَهُ أَقَاوِيلُ فِي أَحَادِيثَ يدَّعي عَلَيْهَا، أَنَّهَا مُنَاقِضَةٌ لِلْكِتَابِ، وَأَحَادِيثَ يَسْتَبْشِعُهَا4 مِنْ جِهَة حجَّة الْعقل.
__________
1 سبق تَخْرِيجه ص51.
2 الْآيَة 11 من سُورَة مُحَمَّد.
3 أخرجه أَبُو دَاوُد: كتاب 12 بَاب 18، وَالتِّرْمِذِيّ كتاب 9 بَاب 15، وَابْن ماجة: كتاب 9 بَاب 15، والدارمي: كتاب 11 بَاب 11، وموطأ مَالك: كتاب 28 حَدِيث 5 و26 ومسند أَحْمد ص 250 جـ1.
4 وَفِي رِوَايَة: يستشنعها.
وَذكر أَن حُجَّةِ الْعَقْلِ قَدْ تَنْسَخُ الْأَخْبَارَ، وَأَحَادِيثَ يَنْقُضُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَسَنَذْكُرُهَا فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
شريف ابراهيم
شريف ابراهيم
نائب المدير العام
نائب المدير العام

عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تأويل مختلف الحديث الْمُقدمَات مُقَدّمَة الطبعة الثَّانِيَة Empty كَذِبُ أَبِي الْهُذَيْلِ الْعَلَّافِ:

مُساهمة من طرف شريف ابراهيم الخميس 27 يوليو 2017 - 15:35

كَذِبُ أَبِي الْهُذَيْلِ الْعَلَّافِ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: ثُمَّ نَصِيرُ إِلَى قَوْلِ أَبِي الْهُذَيْلِ الْعَلَّافِ، فَنَجِدُهُ كَذَّابًا، أَفَّاكًا.
وَقَدْ حَكَى عَنْهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَقَالَتِهِ أَنَّهُ حَضَرَ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَهْمِ، وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ، إِنَّ يَدَيَّ صَنَاعٌ فِي الْكَسْبِ، وَلَكِنَّهَا فِي الْإِنْفَاقِ خَرْقَاءُ1، كَمْ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ قَسَّمْتَهَا عَلَى الْإِخْوَانِ -أَبُو فُلَانٍ يَعْلَمُ ذَلِكَ، سَأَلْتُكَ بِاللَّهِ يَا أَبَا فُلَانٍ هَلْ تَعْلَمُ ذَلِكَ؟
قُلْتُ: يَا أَبَا الْهُذَيْلِ مَا أَشُكُّ فِيمَا تَقُولُ.
قَالَ: فَلَمْ يَرْضَ أَنْ حَضَرْتُ، حَتَّى اسْتَشْهَدَنِي، وَلَمْ يَرْضَ إِذِ اسْتَشْهَدَنِي2 حَتَّى اسْتَحْلَفَنِي.
قَالَ: وَكَانَ أَبُو الْهُذَيْلِ أَهْدَى دَجَاجَةً إِلَى مُوَيْسِ بْنِ عِمْرَانَ، فَجَعَلَهَا مَثَلًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وَتَارِيخًا لِكُلِّ شَيْءٍ، فَكَانَ يَقُولُ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، قَبْلَ أَنْ أَهْدِيَ إِلَيْكَ تِلْكَ الدَّجَاجَةَ وَكَانَ كَذَا، بَعْدَ أَنْ أَهْدَيْتُ إِلَيْكَ تِلْكَ الدَّجَاجَةَ، وَإِذَا رَأَى جَمَلًا سَمِينًا قَالَ: لَا وَاللَّهِ، وَلَا تِلْكَ الدَّجَاجَةُ الَّتِي أَهْدَيْتُهَا إِلَيْكَ.
وَهَذَا نَظَرُ مَنْ لَا يَقْسِمُ عَلَى الْإِخْوَانِ عَشْرَةَ أَفْلُسٍ، فَضْلًا عَنْ مِائَتَيْ أَلْفٍ.
وَحَكَى مِنْ خَطَئِهِ فِي الْاسْتِطَاعَةِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْفَاعِلَ فِي وَقْتِ الْفِعْلِ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ لِفِعْلٍ آخَرَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَلْزَمُوهُ الْاسْتِطَاعَةَ مَعَ الْفِعْلِ بِالْإِجْمَاعِ، فَقَالُوا: قَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ كُلَّ فَاعِلٍ مُسْتَطِيعٌ فِي حَالِ فِعْلِهِ فَالْاسْتِطَاعَةُ مَعَ الْفِعْلِ ثَابِتَةٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا قَبْلَهُ؛ فَنَحْنُ عَلَى مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَعَلَى مَنِ ادَّعَى أَنَّهَا قَبْلَ الْفِعْلِ الدليلُ، فَلَجَأَ إِلَى هَذَا القَوْل.
__________
1 خرقاء: لَا تحفظ المَال.
2 وَفِي نُسْخَة: شهِدت.
وَسُئِلَ عَنْ عَدَمِ صِحَّةِ الْبَصَرِ فِي حَالِ وُجُودِ الْإِدْرَاكِ، وَعَنْ عَدَمِ الْحَيَاةِ إِنْ كَانَتْ عَرَضًا، فِي حَالِ وُجُودِ الْعِلْمِ، فَلَا هُوَ فَرَّقَ وَلَا هُوَ رَجَعَ.
وَزَعَمَ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَفْعَلَ فِي حَالِ بُلُوغِهِ بِالْاسْتِطَاعَةِ الَّتِي أُعْطِيهَا فِي حَالِ الْبُلُوغِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ بِهَا فِي الْحَالِ الثَّانِيَةِ.
فَإِذَا قِيلَ لَهُ: فَمَتَى فَعَلَ بهَا؟ فِي الْحَالِ الَّتِي سُلبها، أَمْ فِي حَالِ الْبُلُوغِ، وَالْفِعْلُ فِيهَا عِنْدَكَ مُحَالٌ، وَقَدْ فُعِلَ بِهَا وَلَا حَالَ إِلَّا حَالُ الْبُلُوغِ؟
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ قَوْلًا مَرْغُوبًا عَنْهُ، مَعَ أَقَاوِيلَ كَثِيرَةٍ فِي فَنَاءِ نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَفَنَاءِ عَذَابِ أَهْلِ النَّارِ.
تَنَاقُضُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ:
أصَاب وَمَنْ سَمَّاهُ كَافِرًا فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ فَاسِقٌ -وَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ- فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ مُنَافِقٌ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ كَافِرٌ وَلَيْسَ بِمُشْرِكٍ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ كَافِرٌ مُشْرِكٌ فَقَدْ أَصَابَ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ دَلَّ عَلَى كُلِّ هَذِهِ الْمَعَانِي.
قَالَ: وَكَذَلِكَ السُّنَنُ الْمُخْتَلِفَةُ، كَالْقَوْلِ بِالْقَرْعَةِ وَخِلَافِهِ، وَالْقَوْلِ بِالسِّعَايَةِ وَخِلَافِهِ، وَقَتْلِ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ، وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَبِأَيِّ ذَلِكَ أَخَذَ الْفَقِيهُ فَهُوَ مُصِيبٌ.
قَالَ: وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الْقَاتِلَ فِي النَّارِ كَانَ مُصِيبًا.
وَلَوْ قَالَ: هُوَ فِي الْجَنَّةِ كَانَ مُصِيبًا، وَلَوْ وَقَفَ فِيهِ وَأَرْجَأَ أَمْرَهُ كَانَ مُصِيبًا؛ إِذْ كَانَ إِنَّمَا يُرِيدُ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَعَبَّدَهُ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ عِلْمُ الْمَغِيبِ.
وَكَانَ يَقُولُ فِي قِتَالِ عليٍّ لِطَلْحَةَ1 وَالزُّبَيْرِ وَقِتَالِهِمَا لَهُ: إِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَفِي هَذَا الْقَوْلِ مِنَ التَّنَاقُضِ وَالْخَلَلِ مَا تَرَى، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْقِيَاسِ وَأَهْلِ النَّظَرِ.
صَاحِبُ الْبَكْرِيَّةِ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: ثُمَّ نَصِيرُ إِلَى "بَكْرٍ" صَاحِبُ الْبَكْرِيَّةِ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِهِمْ حَالًا فِي التَّوَقِّي.
فَنَجِدُهُ يَقُولُ: مَنْ سَرَقَ حَبَّةً مِنْ خَرْدَلٍ، ثُمَّ مَاتَ غَيْرَ تَائِبٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ مُخَلَّدٌ أبدا، مَعَ الْيَهُود وَالنَّصَارَى.
__________
1 هُوَ طَلْحَة بن عبيد الله بن عُثْمَان التَّيْمِيّ، أحد الْعشْرَة المبشرين بِالْجنَّةِ والستة الشورى، وَأحد الثَّمَانِية الَّذين سبقوا إِلَى الْإِسْلَام، وَسَماهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلْحَة الْخَيْر وَطَلْحَة الْجُود وَطَلْحَة الْفَيَّاض، وَاسْتشْهدَ يَوْم الْجمل سنة 36هـ.
وَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِ صَدِيقِهِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ.
وَوُسَّعَ لِدَاخِلِ الْحَائِطِ1 أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ثَمَرِهِ، وَلَا يَحْمِلَ.
وَوُسَّعَ لِابْنِ السَّبِيلِ -إِذَا مَرَّ فِي سَفَرِهِ بِغَنَمٍ وَهُوَ عَطْشَانُ- أَنْ يُصِيبَ مِنْ رِسْلِهَا2.
فَكَيْفَ يُعَذِّبُ مَنْ أَخَذَ حَبَّةً مِنْ خَرْدَلٍ، لَا قَدْرَ لَهَا، وَيُخَلِّدُهُ فِي النَّارِ أَبَدًا؟!!
وَأَيُّ ذَنْبٍ هُوَ أَخْذُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، حَتَّى يَكُونَ مِنْهُ تَوْبَةٌ، أَوْ يَقَعُ فِيهِ إِصْرَارٌ؟
وَقَدْ يَأْخُذُ الرَّجُلُ الْخَلَّالُ مِنْ حَطَبِ أَخِيهِ، والمدَر3 مِنْ مَدَرِهِ، وَيَشْرَبُ الْمَاءَ مِنْ حَوْضِهِ، وَهَذَا أَعْظَمُ قَدْرًا مِنَ الْحَبَّةِ.
وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْأَطْفَالَ لَا تَأَلَّمُ.
فَإِذَا سُئِلَ، فَقِيلَ لَهُ: فَمَا بَالُهُ يَبْكِي إِذَا قُرِصَ أَوْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ شَرَارَةٌ.
قَالَ: إِنَّمَا ذَلِكَ عُقُوبَةٌ لِأَبَوَيْهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُؤْلِمَ طِفْلًا لَا ذَنْبَ لَهُ.
فَإِذَا سُئِلَ عَنِ الْبَهِيمَةِ وَأَلَمِهَا، وَهِيَ لَا ذَنْبَ لَهَا، قَالَ: إِنَّمَا آلَمَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْفَعَةِ ابْنِ آدَمَ لِتَنْسَاقَ4 وَلِتَقِفَ، وَلِتَجْرِيَ إِذَا احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ مِنْهَا.
وَكَانَ مِنَ الْعَدْلِ -عِنْدَهُ- أَنْ يُؤْلِمَهَا لِنَفْعِ غَيْرِهَا وَرُبَّمَا قَالَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ خَلَطُوا فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ.
وَكَانَ يَقُولُ: شُرْبُ نَبِيذِ السِّقَاءِ5 الشَّدِيدِ مِنَ السُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ أَكْلُ الجدي، وَالْمسح على الْخُفَّيْنِ.
__________
1 الْحَائِط: الْبُسْتَان.
2 رسلها: أَي لَبنهَا.
3 الْمدر: قطع الطين الْيَابِس. "الْقَامُوس".
4 وَفِي نُسْخَة: لتستاق.
5 وَفِي نُسْخَة: السِّقَايَة.
وَالسُّنَّةُ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الدِّينِ لَا فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ.
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَمْ يَأْكُلِ الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ دَهْرَهُ، وَقَدْ أَكَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ لَمْ يَأْكُلِ الْقَرْعَ وَقَدْ كَانَ يُعْجِبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم لم يقل أَنَّهُ تَرَكَ السُّنَّةَ1.
هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: ثُمَّ نَصِيرُ إِلَى "هِشَامِ بْنِ2 الْحَكَمِ" فَنَجِدُهُ رَافِضِيًّا غَالِيًا.
وَيَقُولُ فِي اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَقْطَارِ وَالْحُدُودِ وَالْأَشْبَارِ، وَأَشْيَاءَ يُتَحَرَّجُ مِنْ حِكَايَتِهَا وَذِكْرِهَا، لَا خَفَاءَ عَلَى أَهْلِ الْكَلَامِ بِهَا.
وَيَقُولُ بِالْإِجْبَارِ الشَّدِيدِ، الَّذِي لَا يَبْلُغُهُ الْقَائِلُونَ بِالسُّنَّةِ.
وَسَأَلَهُ سَائِلٌ فَقَالَ: أَتَرَى اللَّهَ تَعَالَى -مَعَ رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ- يُكَلِّفُنَا شَيْئًا، ثُمَّ يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، وَيُعَذِّبُنَا؟
فَقَالَ: قَدْ -وَاللَّهِ- فَعَلَ، وَلَكِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَتَكَلَّمَ.
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عَلِيًّا خَاصَمَ الْعَبَّاسَ فِي فَدَكَ3 إِلَى أَبِي بَكْرٍ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَأَيُّهُمَا كَانَ الظَّالِمُ؟
قَالَ: لم يكن فيهمَا ظَالِم.
__________
1 وَفِي رِوَايَة: وَقَدْ كَانَ يُعْجِبُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يقل أَنَّهُ تَرَكَ السُّنَّةَ.
2 هِشَامُ بْنُ الحكم الشَّيْبَانِيّ بِالْوَلَاءِ الْكُوفِي، أَبُو مُحَمَّد: مُتَكَلم مناظر، كَانَ شيخ الإمامية فِي وقته، ولد بِالْكُوفَةِ وَنَشَأ بواسط. وَسكن بَغْدَاد. توفّي عَام 190هـ.
3 فدك: بَلْدَة بَينهَا وَبَين مَدِينَة النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَانِ، تنازعها عليٌّ وَالْعَبَّاس فِي خلَافَة عمر فَقَالَ عَليّ: جعلهَا النَّبِي لفاطمة وَوَلدهَا، وَأنْكرهُ الْعَبَّاس، فسلمها عمر لَهما. كَذَا فِي الْمِصْبَاح.
قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا؟
قَالَ: هُمَا كَالْمَلَكَيْنِ الْمُخْتَصِمَيْنِ إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا ظَالِمٌ، إِنَّمَا أَرَادَا أَنْ يُعَرِّفَاهُ خَطَأَهُ وَظُلْمَهُ.
كَذَلِكَ أَرَادَ هَذَانِ، أَنْ يُعَرِّفَا أَبَا بَكْرٍ خَطَأَهُ وَظُلْمَهُ.
وَمِمَّا يَعُدُّهُ أَصْحَابُ الْكَلَامِ مِنْ خَطَئِهِ، قَوْلُهُ: إِنَّ حَصَاةً يَقْلِبُهَا اللَّهُ جَبَلًا فِي رَزَانَتِهِ وَطُولِهِ وَعَرْضِهِ وَعُمْقِهِ، فَتُطَبِّقُ مِنَ الْأَرْضِ فَرْسَخًا، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ تُطَبِّقُ أُصْبُعًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا عَرَضًا أَوْ جِسْمًا أَوْ يَنْتَقِصَ مِنْهَا عَرَضًا أَوْ جِسْمًا.
ثُمَامَةُ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: ثُمَّ نَصِيرُ إِلَى "ثُمَامَةَ"1 فَنَجِدُهُ مِنْ رِقَّةِ الدِّينِ، وَتَنَقُّصِ الْإِسْلَامِ، وَالْاسْتِهْزَاءِ بِهِ، وَإِرْسَالِهِ لِسَانَهُ عَلَى مَا لَا يَكُونُ عَلَى مِثْلِهِ رَجُلٌ يَعْرِفُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُؤْمِنُ بِهِ.
وَمِنَ الْمَحْفُوظِ عَنْهُ الْمَشْهُورِ أَنَّهُ رَأَى قَوْمًا يتعادَوْن يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ، لِخَوْفِهِمْ فَوْتَ الصَّلَاةِ.
فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى الْبَقَرِ، انْظُرُوا إِلَى الْحَمِيرِ.
ثُمَّ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِهِ: مَا صَنَعَ هَذَا الْعَرَبِيُّ2 بِالنَّاسِ؟
مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ الْبَرْمَكِيُّ:
ثُمَّ نَصِيرُ إِلَى "مُحَمَّدِ بْنِ الْجَهْمِ الْبَرْمَكِيِّ" فَنَجِدُ مُصْحَفَهُ كُتُب أَرُسْتَطَالِيسَ فِي الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ وَالْكِيَانِ، وَحُدُودِ الْمنطق بهَا، يقطع دهره،
__________
1 ثُمَامَة بن أَشْرَس النميري، من كبار الْمُعْتَزلَة، وَأحد الفصحاء والبلغاء المقدمين، كَانَ لَهُ اتِّصَال بالرشيد ثمَّ بالمأمون، وعدَّهُ المقريرزي فِي رُؤَسَاء الْفرق الهالكة، وَأَتْبَاعه يسمون "الثَّمَانِية" نِسْبَة إِلَيْهِ توفّي 213هـ.
2 وَفِي نُسْخَة: الْقرشِي.
يَصُومُ شَهْرَ رَمَضَانَ، لِأَنَّهُ -فِيمَا ذُكِرَ- لَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّوْمِ.
وَكَانَ يَقُولُ: لَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ مِنْ أَحَدٍ شُكْرًا عَلَى شَيْءٍ فَعَلَهُ بِهِ، أَوْ خَيْرٍ أَسْدَاهُ إِلَيْهِ.
لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ طَلَبًا لِلثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّمَا1 إِلَى نَفْسِهِ قَصَدَ.
أَوْ يَكُونَ فَعَلَهُ لِلْمُكَافَأَةِ، فَإِنَّهُ إِلَى الرِّبْحِ ذَهَبَ.
أَوْ يَكُونَ فَعَلَهُ لِلذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ، فَفِي حَظِّهِ سَعَى، وَفِي حَبْلِهِ حَطَبَ2.
أَوْ فَعَلَهُ رَحْمَةً لَهُ، ورقة وضعت فِي قلبهب، فَإِنَّمَا سكن بِتِلْكَ الْعَطِيَّة علته وَدَاوَى بِهَا مِنْ دَائِهِ.
وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ" 3.
وَذَكَرَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكَلَامِ عَنْهُ أَنَّهُ أَوْصَى عِنْدَ وَفَاتِهِ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ" 4.
وَأَنَا أَقُولُ: إِنَّ ثُلُثَ الثُّلُثِ كَثِيرٌ، وَالْمَسَاكِينَ حُقُوقُهُمْ فِي بَيْتِ الْمَالِ إِنْ طَلَبُوهُ طَلَبَ الرِّجَالِ أَخَذُوهُ، وَإِنْ قَعَدُوا عَنْهُ سقعود النِّسَاءِ حُرِمُوهُ، فَلَا رَحِمَ اللَّهُ من يرحمهم.
__________
1 وَفِي نُسْخَة: فَإلَى.
2 فِي حبله حطب: كِنَايَة عَن سَعْيه لمصلحته ومنفعته الشخصية، وَقد ورد فِي الْقَامُوس. حطب فِي حبلهم: لضرهم.
3 أخرجه أَبُو دَاوُد: أدب 11، وَالتِّرْمِذِيّ: بر 35، وَأحمد: 3/ 258 و295 و303 و461 و493 و3/ 32 و74، وَالنَّظَر صَحِيح الْجَامِع للألباني رقم7719، وسلسلة الصَّحِيحَيْنِ 416 عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا.
4 أخرجه البُخَارِيّ: جنائز 236 وَصَايَا 2 و3 ومناقب الْأَنْصَار 49، ونفقات 1 وَمرض 13 و16 ودعوات 43 وفرائض 6 وَمُسلم: وَصِيَّة 5 و7 و8 و10 وَأَبُو دَاوُد: فَرَائض 3 وأيمان 23، وَالتِّرْمِذِيّ: جنائز 6 ووصايا 1، وَالنَّسَائِيّ: وَصَايَا 3، وَابْن ماجة: وَصَايَاهُ، والموطأ: وَصِيَّة 4.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَحَدَّثَنِي رَجُلٌ سَايَرَهُ، فَنَفَرَتْ بِهِ دَابَّتُهُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اضْرِبُوهَا عَلَى الْعِثَارِ، وَلَا تَضْرِبُوهَا عَلَى النِّفَارِ.
وَأَنَا أَقُولُ: لَا تَضْرِبُوهَا عَلَى الْعِثَارِ، وَلَا عَلَى النِّفَارِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَلَسْتُ أَدْرِي، أَيَصِحُّ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمْ لَا يَصِحُّ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ حُكِيَ عَنْهُ وَقَدْ أَخْطَأَ.
وَالصَّوَابُ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ تَنْفِرُ مِنَ الْبِئْرِ1 أَوْ مِنَ الشَّيْءِ تَرَاهُ وَلَا يَرَاهُ الرَّاكِبُ فَتَتَقَحَّمُ، وُفِي تَقَحُّمِهَا الْهَلَكَةُ.
فَنَهَى عَنْ ضَرْبِهَا عَلَى النِّفَارِ، وَأَمَرَ بِضَرْبِهَا عَلَى الْعِثَارِ، لِتَجِدَّ فَلَا تَعْثَرَ، لِأَنَّ الْعَثْرَةَ لَا تَكَادُ تَكُونُ إِلَّا عَن توان
__________
1 وَفِي نُسْخَة: من النَّهر

ثُمَّ نَصِيرُ إِلَى "عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ"1 وَقَدْ كَانَ وَلِيَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ، فَنَهَجَ -مِنْ قَبِيحِ مَذَاهِبِهِ، وَشِدَّةِ تَنَاقُضِ قَوْلِهِ- عَلَى مَا هُوَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ تَنَاقُضًا مِمَّا أَنْكَرُوهُ.
وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ2 عَلَى الْاخْتِلَافِ، فَالْقَوْلُ بِالْقَدَرِ صَحِيحٌ، وَلَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ، وَالْقَوْلُ بِالْإِجْبَارِ صَحِيحٌ، وَلَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا فَهُوَ مُصِيبٌ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ الْوَاحِدَةَ رُبَّمَا دَلَّتْ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَاحْتَمَلَتْ مَعْنَيَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ.
وَسُئِلَ يَوْمًا؛ عَنْ أَهْلِ الْقَدَرِ وَأَهْلِ الْإِجْبَارِ3، فَقَالَ: كُلٌّ مُصِيبٌ، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ عَظَّمُوا اللَّهَ، وَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ نَزَّهُوا اللَّهَ.
قَالَ: وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْأَسْمَاءِ؛ فَكُلُّ مَنْ سَمَّى الزَّانِي مُؤمنا فقد
__________
1 وَفِي نُسْخَة: فتهجم.
2 وَفِي نُسْخَة: نزل.
3 الجبرية: هم الَّذين ينفون الْفِعْل حَقِيقَة عَن العَبْد ويضيفونه إِلَى الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهم الجبرية الْخَالِصَة: الَّذين لَا يثبتون للْعَبد فعلا وَلَا قدرَة على الْفِعْل أصلا، والجبربة المتوسطة؛ وَهِي الَّتِي تثبت للْعَبد قدرَة غير مُؤثرَة أصلا.
شريف ابراهيم
شريف ابراهيم
نائب المدير العام
نائب المدير العام

عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تأويل مختلف الحديث الْمُقدمَات مُقَدّمَة الطبعة الثَّانِيَة Empty الرَّد على أَصْحَاب الرَّأْي:

مُساهمة من طرف شريف ابراهيم الخميس 27 يوليو 2017 - 15:44

الرَّد على أَصْحَاب الرَّأْي:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
ثُمَّ نَصِيرُ إِلَى أَصْحَابِ الرَّأْيِ، فَنَجِدُهُمْ أَيْضًا يَخْتَلِفُونَ وَيَقِيسُونَ، ثُمَّ يَدَّعُونَ الْقِيَاسَ وَيَسْتَحْسِنُونَ، وَيَقُولُونَ بِالشَّيْءِ وَيَحْكُمُونَ بِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ.
أَبُو حَنِيفَةَ:
حَدَّثَنِي سَهْلُ1 بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ2 عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مِخْنَفٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ3 بِكِتَابٍ مِنْهُ بِمَكَّةَ، عَامًا أَوَّلَ، فَعَرَضَهُ عَلَيْهِ مِمَّا كَانَ يَسْأَلُ عَنْهُ، فَرجع عَن ذَلِك كُله.
__________
1 سهل بن مُحَمَّد بن عُثْمَان الْجُشَمِي السجتساني: من كبار الْعلمَاء باللغة وَالشعر من أهل الْبَصْرَة كَانَ الْمبرد يلازم الْقِرَاءَة عَلَيْهِ، لَهُ نَيف وَثَلَاثُونَ كتابا، وَله شعر جيد توفّي عَام 248هـ.
2 الْأَصْمَعِي: أديب وراوية زَمَانه، اسْمه عبد الْملك بن قريب بن عبد الْملك بن عَليّ بن أصمع، الْمَنْسُوب إِلَيْهِ ابْن أبي مطهر، وَعَن البدالي أَن أصمع وَأَبا مطهر أدْركَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأسلما، وَلم يذكرَا فِي الصَّحَابَة فِي مُخْتَصر الْإِصَابَة. تحفة الْأَلْبَاب جـ1 ص288.
3 أَبُو حنيفَة: شيخ الْكُوفَة وَهُوَ تَابِعِيّ، لَقِي سِتَّة من الصَّحَابَة واسْمه النُّعْمَان بن ثَابت بن زوطا، مولى بني أَسد بن خُزَيْمَة قيل بِالْعِتْقِ، وَقيل بِالْحلف، وَهُوَ قَول إِسْمَاعِيل بن حَمَّاد ابْن أبي حنيفَة فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول: لم يتَقَدَّم علينا رق، وَإِنَّمَا أسلم جدي على يَد رجل من أَسد بن خُزَيْمَة.
وَكَانَ أَبُو حنفية بالْمقَام الأوفى من الْعلم وَالصَّلَاح، وَيَقُول بِالرَّأْيِ وَكَانَ جَعْفَر بن مُحَمَّد -وَهُوَ جَعْفَر الصَّادِق- ينهاه عَن ذَلِك. وَلم يرجع أَبُو حنيفَة عَن الرآي، ورأي الْأَئِمَّة إِنَّمَا هُوَ الاستنباط من الْأَصْلَيْنِ لَا إِنَّه يَقُول مَا وَافق مَا يرَاهُ من نَفسه.
ويروى فِي ورع أبي حنيفَة كثيرا من المواقف الَّتِي تدل على زهده وعدله وخلقه وحبه للْعلم وتقواه وعَلى إِمَامَته وفضله "تحفة الْأَلْبَاب جـ1 ص 243".
وَلَعَلَّ مَا أوردهُ الْمُؤلف من هَذِه الرِّوَايَات الَّتِي فِيهَا مطاعن بِدِينِهِ أَو فقهه هِيَ من المبالغات الَّتِي قد لَا يستوعب حَقِيقَتهَا ناقل، أَو يغلو فِيهَا صَاحب مَذْهَب بِسَبَب خلاف علمي، وَالله أعلم.
فَوضع الرَّجُلُ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ النَّاسِ أَتَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ عَامًا أَوَّلًا، فَأَفْتَانِي بِهَذَا الْكِتَابِ، فَأَهْرَقْتُ بِهِ الدِّمَاءَ، وَأَنْكَحْتُ بِهِ الْفُرُوجَ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ الْعَامَ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: حَدثنِي سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ لَهُ: كَيْفَ هَذَا؟
قَالَ: كَانَ رَأْيًا رَأَيْتُهُ، فَرَأَيْتُ الْعَامَ غَيْرَهُ.
قَالَ: فَتَأْمَنُنِي أَنْ لَا تَرَى مِنْ قَابَلٍ شَيْئًا آخَرَ؟
قَالَ أَبُو حنيفَة: لَا أَدْرِي كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ.
فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: لَكِنِّي أَدْرِي أَنَّ عَلَيْكَ لَعْنَةَ اللَّهِ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ يَقُولُ: إِنَّا لَا نَنْقِمُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَأَى؛ كُلُّنَا يَرَى؛ وَلَكِنَّنَا نَنْقِمُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجِيئُهُ الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُخَالِفُهُ إِلَى غَيْرِهِ.
حَدَّثَنِي سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: شَهِدْتُ أَبَا حَنِيفَةَ سُئِلَ عَنْ مُحْرِم لَمْ يَجِدْ إِزَارًا، فَلَبِسَ سَرَاوِيلَ، فَقَالَ: عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ.
فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ1، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ2، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الْمحرم:
__________
1 عَمْرو بن دِينَار بن شُعَيْب الْبَصْرِيّ، أَبُو يحيى الْأَعْوَر قهرمان آل الزبير، لَيْسَ بِثِقَة "تَهْذِيب التَّهْذِيب" "8/ 230" "الْخُلَاصَة" 345.
2 جَابر بن زيد الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ، أَبُو الشعْثَاء تَابِعِيّ فَقِيه من الْأَئِمَّة من أهل الْبَصْرَة. أَصله من عمان صحب ابْن عَبَّاس. وَكَانَ من بحار الْعلم، وَصفه الشماخي "وَهُوَ من عُلَمَاء الإباضية" بِأَنَّهُ أصل الْمَذْهَب وأسه الَّذِي قَامَت عَلَيْهِ آطامه ولد 21هـ. نَفَاهُ الْحجَّاج إِلَى عمان، وَفِي كتاب الزّهْد للْإِمَام أَحْمد لما مَاتَ جَابر بن زيد قَالَ قَتَادَة: الْيَوْم مَاتَ أعلم أهل الْعرَاق، توفّي 93هـ.
إِذَا لَمْ يَجِدْ إِزَارًا لَبِسَ سَرَاوِيلَ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ لَبِسَ خُفَّيْنِ" 1.
فَقَالَ: دَعْنَا مِنْ هَذَا، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ: عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَرَوَى أَبُو عَاصِمٍ2 عَنْ أَبِي عَوَانَةَ3 قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَسُئِلَ عَنْ رَجُلٍ سَرَقَ ودِيًّا4 فَقَالَ: عَلَيْهِ الْقَطْعُ.
فَقُلْتُ لَهُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَر" 5.
فَقَالَ: مَا بَلَغَنِي هَذَا.
قُلْتُ لَهُ: فَالرَّجُلُ الَّذِي أَفْتَيْتَهُ، رُدَّه.
قَالَ: دَعْهُ، فَقَدْ جَرَتْ بِهِ الْبِغَالُ الشُّهُبُ.
قَالَ أَبُو عَاصِمٍ: أَخَافُ أَنْ تَكُونَ إِنَّمَا جَرَتْ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ6: حَدَّثْتُ أَبَا حَنِيفَةَ بِحَدِيث عبد الله، فِي الَّذِي
__________
1 أخرجه مُسلم: حج 4 و5، وَالْبُخَارِيّ: لِبَاس 14 و37 وصيد 15 و16، وَأَبُو دَاوُد: مَنَاسِك 31، النَّسَائِيّ: مَنَاسِك 3.
2 أَبُو عَاصِم: هُوَ الضَّحَّاك بن مخلد بن الضَّحَّاك بن مُسلم الشَّيْبَانِيّ بِالْوَلَاءِ، الْبَصْرِيّ الْمَعْرُوف بالنبيل شيخ حفاظ الحَدِيث فِي عصره، لَهُ جُزْء فِي الحَدِيث، ولد بِمَكَّة 122هـ وتحول إِلَى الْبَصْرَة وَتُوفِّي بهَا 212هـ.
3 أَبُو عوَانَة: هُوَ الوضاح بن خَالِد الْيَشْكُرِي بِالْوَلَاءِ الوَاسِطِيّ الْبَزَّاز، من حفاظ الحَدِيث الثِّقَات من سبي جرجان، كَانَ مَعَ سَعَة علمه شبه أُمِّي يقْرَأ ويستعين بِمن يكْتب لَهُ، مَاتَ بِالْبَصْرَةِ عَام 179هـ.
4 الودي، بتَشْديد الْيَاء: صغَار النّخل.
5 أخرجه أَبُو دَاوُد: حُدُود 13، وَالتِّرْمِذِيّ: حُدُود 19، وَالنَّسَائِيّ: سَارِق 13، وَابْن ماجة: حُدُود 37، والدارمي: حُدُود 7، والموطأ: حُدُود 32، وَأحمد: 3/ 63 و4/ 140 و142.
6 عَليّ بن عَاصِم بن صُهَيْب الوَاسِطِيّ مُسْند الْعرَاق فِي عصره، من حفاظ الحَدِيث، كَانَ صَادِقا ورعًا مُوسِرًا لَهُ صولة، أَصله من وَاسِط ولد عَام 105هـ وَسكن بَغْدَاد وَمَات بهَا عَام 201هـ.
قَالَ: "مَنْ يَذْبَحُ لِلْقَوْمِ شَاةً أُزَوِّجُهُ أَوَّلَ بِنْتٍ تُولَدُ لِي" فَفَعَلَ ذَلِك رجل، فَقَضَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ وَأَنَّ لَهَا مَهْرَ نِسَائِهَا.
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هَذَا قَضَاءُ الشَّيْطَانِ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَلَمْ أَرَ أَحَدًا أَلْهَجَ1 بِذِكْرِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وتنقصهم2 والبعث عَلَى قَبِيحِ أَقَاوِيلِهِمْ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا، مِنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيِّ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ رَاهَوَيْهِ3.
وَكَانَ يَقُولُ: نَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى، وَسُنَنَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَزِمُوا الْقِيَاسَ.
اسْتِدْرَاكَاتُ ابْنِ رَاهَوَيْهِ عَلَى أَصْحَابِ الرَّأْيِ:
وَكَانَ يُعَدِّدُ مِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءَ، مِنْهَا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا نَامَ جَالِسًا، وَاسْتَثْقَلَ فِي نَوْمِهِ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ.
ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، مُنْتَقَضُ الطَّهَارَةِ، قَالَ: وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ.
عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ أَصْلٌ، فَيُحْتَجُّ بِهِ فِي انْتِقَاضِ وُضُوئِهِ.
وَفِي النَّوْمِ غَيْرُ حَدِيثٍ -مِنْهَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ. فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنُ انْفَتح الوكاء" 4.
__________
1 وَفِي رِوَايَة: أبهج.
2 وَفِي رِوَايَة: ببغضهم.
3 إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيِّ الْمَعْرُوفِ بِابْن رَاهَوَيْه، عَالم خُرَاسَان فِي عصره من سكان مرو ولد عَام 161هـ، وَهُوَ أحد كبار الْحفاظ، طَاف الْبِلَاد لجمع الحَدِيث وَأخذ عَنهُ الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَغَيرهم. وَكَانَ إِسْحَاق ثِقَة فِي الحَدِيث. قَالَ الدَّارمِيّ: سَاد إِسْحَاق أهل الْمشرق وَالْمغْرب بصدقه. وَقَالَ فِيهِ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ: اجْتمع لَهُ الحَدِيث وَالْفِقْه وَالْحِفْظ والصدق والورع والزهد، ورحل إِلَى الْعرَاق والحجاز وَالشَّام واليمن وَله تصانيف، استوطن نيسابور وَتُوفِّي بهَا عَام 238هـ.
4 أخرجه الدَّارمِيّ: وضوء 48، وَقد ورد فِي جَامع الْأَحَادِيث للسيوطي حَدِيث برقم 23195 "من نَام وَهُوَ جَالس فَلَا وضوء عَلَيْهِ، فَإِذا وضع جنبه فَعَلَيهِ الْوضُوء ". وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي السّنَن الْكُبْرَى، وَإِسْنَاده حسن/ انْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 4148، وَله شَاهد صَحِيح من حَدِيث عَليّ عِنْد أَحْمد وَابْن ماجة بِلَفْظ: "الْعين وكاء السه فَمن نَام فليتوطأ ".
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "مَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ" 1.
قَالَ: فَأَوْجَبُوا فِي الضَّجْعَةِ الْوُضُوءَ إِذَا غَلَبَهُ النَّوْمُ، وَأَسْقَطُوهُ عَنِ النَّائِمِ الْمُسْتَثْقِلِ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا. قَالَ: وَهَاتَانِ الْحَالَانِ، فِي خَشْيَةِ الْحَدَثِ، أَقْرَبُ مِنَ الضَّجْعَةِ، فَلَا هُمُ اتَّبَعُوا أَثَرًا، وَلَا لَزِمُوا قِيَاسًا.
قَالَ: وَقَالُوا مَنْ تَقَهْقَهَ بَعْدَ التَّشَهُّدِ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، وَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ لِصَلَاةٍ أُخْرَى. قَالَ: فَأَيُّ غَلَطٍ أَبْيَنُ مِنْ غَلَطِ مَن يَحْتَاطُ لِصَلَاةٍ لَمْ تَحْضُرْ، وَلَا يَحْتَاطُ لِصَلَاةٍ هُوَ فِيهَا.
قَالَ: وَقَالُوا فِي رَجُلٍ تُوُفِّيَ، وَتَرَكَ جَدَّهُ أَبَا أُمِّهِ وَبِنْتَ بِنْتِهِ -الْمَالُ لِلْجَدِّ دُونَ بِنْتِ الْبِنْتِ. وَكَذَلِكَ هُوَ -عِنْدَهُمْ- مَعَ جَمِيعِ ذَوِي الْأَرْحَامِ.
قَالَ: فَأَيُّ خَطَأٍ أَفْحَشُ مِنْ هَذَا، لِأَنَّ الْجَدَّ يُدْلِي بِالْأُمِّ، فَكَيْفَ يُفَضَّلُ عَلَى بِنْتِ الْبِنْتِ، وَهِيَ تُدْلِي بِالْبِنْتِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَبَّهُوا أَبَا الْأُمِّ بِأَبِي الْأَبِ، إِذِ اتَّفَقَ أَسْمَاؤُهُمَا2.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْحَنْظَلِيُّ، وَهُوَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ3 أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: مَا بَالُهُ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ كُلِّ رَفْعٍ وَخَفْضٍ؟ أَيُرِيدُ أَنْ يَطِيرَ؟
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ4: إِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَطِيرَ إِذَا افْتَتَحَ، فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَطِيرَ إِذا خفض وَرفع.
__________
1 أخرجه أَبُو دَاوُد: طَهَارَة 79، وَابْن ماجة: طَهَارَة 62، وَأحمد 1/ 111.
2 وَفِي رِوَايَة: أَسمَاؤُهُم.
3 وَكِيع بن الْجراح بن مليح الرُّؤَاسِي حَافظ للْحَدِيث، ثَبْتٌ، كَانَ مُحدث الْعرَاق فِي عصره ولد بِالْكُوفَةِ 129 هـ وَأَبوهُ نَاظر على بَيت المَال فِيهَا، وتفقه وَحفظ الحَدِيث واشتهر، وَأَرَادَ الرشيد أَن يوليه قَضَاء الْكُوفَة فَامْتنعَ ورعًا، وَكَانَ يَصُوم الدَّهْر، لَهُ كتب مِنْهَا "تَفْسِير الْقُرْآن" توفّي بغيد رَاجعا من الْحَج 197هـ.
4 عبد الله بن الْمُبَارك، الْحَنْظَلِي وَلَاء، أَبُو عبد الرَّحْمَن الْمروزِي، أحد الْأَئِمَّة الْأَعْلَام وشيوخ الْإِسْلَام كتب عَن أَرْبَعَة آلَاف شيخ، قَالَ فِيهِ ابْن عُيَيْنَة: ابْن الْمُبَارك عَالم الْمشرق وَالْمغْرب وَمَا بَينهمَا، وَقد مَلَأت أخباره الرائعة كتب التراجم. توفّي سنة 181هـ.
قَالَ: هَذَا مَعَ تَحَكُّمِهِ فِي الدِّينِ، كَقَوْلِهِ: أَقْطَعُ فِي السَّاجِ وَالْقَنَا، وَلَا أَقْطَعُ فِي الْخَشَبِ وَالْحَطَبِ وَأَقْطَعُ فِي النَّوْرة، وَلَا أَقْطَعُ فِي الْفَخَّارِ وَالزُّجَاجِ.
فَكَأَنَّ الْفَخَّارَ وَالزُّجَاجَ لَيْسَا مَالًا وَكَأَنَّ الْآبِنُوسَ لَيْسَ خَشَبًا.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: وَسُئِلَ -يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ- عَنِ الشُّرْبِ فِي الْإِنَاءِ الْمُفَضَّضِ.
فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَاتَمِ فِي إِصْبَعِكَ، فَتُدْخِلُ يَدكَ الْمَاءَ، فَتَشْرَبُهُ1 بِهَا.
وَكَانَ يُعَدِّدُ مِنْ هَذَا، أَشْيَاءَ يَطُولُ الْكِتَابُ بِهَا.
وَأَعْظَمُ مِنْهَا، مُخَالَفَةُ كِتَابِ اللَّهِ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَقْرَءُوهُ.
وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَدِي لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ عَمْدًا إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ أَوْ يَقْتَصَّ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ، وَالله تبَارك وَتَعَالَى يَقُول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} 2.
يُرِيدُ: فَمَنْ عَفَا عَنِ الدَّمِ، فَلْيَتَّبِعْ بِالدِّيَةِ اتِّبَاعًا بِالْمَعْرُوفِ، أَيْ: يُطَالِبُ مُطَالَبَةً جَمِيلَةً، لَا يُرْهِقُ الْمَطْلُوبَ، وَلْيُؤَدِّ الْمُطَالَبُ الْمَطْلُوبَ، أَدَاءً بِإِحْسَانٍ، لَا مَطْلَ3 فِيهِ وَلَا دِفَاعَ عَنِ الْوَقْتِ.
ثُمَّ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} يَعْنِي تَخْفِيفًا عَنِ الْمُسْلِمِينَ، مِمَّا كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أُلْزِمُوه، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيٍّ إِلَّا أَنْ يَقْتَصَّ أَو يعْفُو.
__________
1 وَفِي نُسْخَة: وتشرب بهَا.
2 الْآيَة 178 من سُورَة الْبَقَرَة.
3 المطل: التسويف بالعدة وَالدّين. "الْقَامُوس".
ثُمَّ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} أَيْ: بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ فَقَتَلَ.
{فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيم} . قَالُوا: يُقْتَلُ وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الدِّيَةُ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا أُعَافِي أَحَدًا قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ"1.
وَهَذَا وَأَشْبَاهُهُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْقُرْآنِ لَا عُذْرَ فِيهِ، وَلَا عُذْرَ فِي مُخَالَفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ.
فَأَمَّا الرَّأْيُ فِي الْفُرُوعِ، فَأَخَفُّ أَمْرًا، وَإِنْ كَانَ مَخَارِجُ أُصُولِ الْأَحْكَامِ، وَمَخَارِجُ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ، عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَتَقْدِيرِ الْعُقُولِ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: حَدَّثَنِي الزِّيَادِيُّ2 قَالَ: حَدَّثَنِي عِيسَى3 بْنُ يُونُسَ عَنِ الْأَعْمَشِ4 عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ5، عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كرم الله وَجهه: "مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ أَعْلَى الْقَدَمِ أَحَقُّ بِالْمَسْحِ مِنْ بَاطِنِهَا، حَتَّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى أَعْلَى قَدَمَيْهِ"6.
وَحَدَّثَنِي أَبُو حَاتِمٍ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ زُفَرَ7 بن هُذَيْل يَقُول
__________
1 ورد فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 6186، وَفِي تَخْرِيج الْمشكاة 3479 وسلسلة الْأَحَادِيث الضعيفة للألباني برقم 4767 وَأخرجه الطَّيَالِسِيّ عَن جَابر.
2 الزيَادي: عبد الله ابْن أبي إِسْحَاق الزيَادي الْحَضْرَمِيّ، نحوي من الموَالِي من أهل الْبَصْرَة، ولد عَام 29هـ فرّع النَّحْو وقاسه وَكَانَ أعلم الْبَصرِيين بِهِ توفّي عَام 117هـ.
3 عِيسَى بن يُونُس بن عَمْرو السبيعِي الْهَمدَانِي، أَبُو عَمْرو. مُحدث ثِقَة كثير الْغَزْو للروم، من بَيت علم وَحَدِيث. ولد بِالْكُوفَةِ وَسكن الْحَدث "بِقرب بيروت" مرابطًا، وَكَانَ يَغْزُو عَاما ويحج عَاما توفّي عَام 187هـ.
4 الْأَعْمَش: هُوَ سُلَيْمَان بن مهْرَان الْكَاهِلِي وَلَاء أَبُو مُحَمَّد الْكُوفِي أحد الْأَعْلَام الْحفاظ والقراء رأى من الصَّحَابَة أنسا قَالَ عَمْرو بن عَليّ: كَانَ يُسمى الْمُصحف لصدقه، وَكَانَ فصيحًا ثِقَة ثبتًا. توفّي سنة 148هـ.
5 أَبُو إِسْحَاق: هُوَ إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد ولد فِي الْكُوفَة وَقدم دمشق ورحل إِلَى بَغْدَاد فَأكْرمه الرشيد وأجله. كَانَ من الْعلمَاء العاملين، عَاشَ مرابطًا بثغر المصيصة وَمَات بهَا سنة 188هـ.
6 أخرجه أَبُو دَاوُد: طَهَارَة 63، والدارمي: وضوء 43، وَأحمد 1/ 95 و114 و124 و148.
7 زفر بن الْهُذيْل بن قيس الْعَنْبَري، من تَمِيم، أَبُو الْهُذيْل: فَقِيه كَبِير من أَصْحَاب الإِمَام أبي حنيفَة أَصله من أَصْبَهَان. أَقَامَ بِالْبَصْرَةِ وَولي قضاءها ولد عَام 110هـ فِي أَصْبَهَان وَتُوفِّي بِالْبَصْرَةِ عَام 158هـ، وَهُوَ أحد الْعشْرَة الَّذين دوَّنوا الْكتب جمع بَين الْعلم وَالْعِبَادَة. وَكَانَ من أَصْحَاب الحَدِيث، غلب عَلَيْهِ الرَّأْي وَهُوَ قِيَاس الْحَنَفِيَّة، وَكَانَ يَقُول نَحن لَا نَأْخُذ بِالرَّأْيِ مَا وجد أثر، وَإِذا جَاءَ الْأَثر تركنَا الرَّأْي.
فِي رَجُلٍ أَوْصَى لِرَجُلٍ، بِمَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْعِشْرِينَ.
قَالَ: يُعْطِي تِسْعَةً، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ الْعَقْدُ، وَلَا هَذَا الْعَقْدُ.
كَمَا تَقُولُ: "لَهُ مَا بَيْنَ الْأُسْطُوَانَتَيْنِ" فَلَهُ مَا بَيْنَهُمَا، لَيْسَتْ لَهُ الْأُسْطُوَانَتَانِ.
فَقُلْنَا لَهُ: فَرَجُلٌ مَعَهُ ابْنٌ لَهُ مَحْظُوظٌ قِيلَ لَهُ: كَمْ لِابْنِكَ؟
قَالَ: مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ، فَهَذَا -فِي قِيَاسِكُمْ- ابْنُ سَنَةٍ.
قَالَ: اسْتُحْسِنَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَحَدَّثَنَا عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ1: كَمْ فِي إِصْبَعِ الْمَرْأَةِ؟ قَالَ: عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ.
قُلْتُ: فَكَمْ فِي إِصْبَعَيْنِ؟ قَالَ: عِشْرُونَ مِنَ الْإِبِلِ.
قُلْتُ: فَكَمْ فِي ثَلَاثِ أَصَابِعَ؟ قَالَ: ثَلَاثُونَ مِنَ الْإِبِلِ.
قُلْتُ: فَكَمْ فِي أَرْبَعِ أَصَابِعَ؟ قَالَ: عِشْرُونَ مِنَ الْإِبِلِ.
قُلْتُ: حِينَ عَظُمَ جَرْحُهَا، وَاشْتَدَّتْ مُصِيبَتُهَا، نَقَصَ عَقْلُهَا2؟ قَالَ: هِيَ السُّنَّة يَا ابْنَ أَخِي.
أَشَدُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَكَانَ أَشَدُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فِي الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، الشَّعْبِيَّ، وَأَسْهَلُهُمْ فِيهِ، مُجَاهِد3.
__________
1 سعيد بن الْمسيب بن حزن بن أبي وهب المَخْزُومِي الْقرشِي، سيد التَّابِعين وَأحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة بِالْمَدِينَةِ جمع بَين الحَدِيث وَالْفِقْه والزهد والورع، وَكَانَ يعِيش من التِّجَارَة بالزيت ولد عَام 13هـ وَكَانَ أحفظ النَّاس لأحكام عمر بن الْخطاب وَتُوفِّي عَام 94هـ.
2 عقلهَا: دِيَتهَا.
3 مُجَاهِد: بن جبر، المَخْزُومِي وَلَاء، الْمَكِّيّ القرئ الْمُفَسّر الْحَافِظ الإِمَام الثِّقَة، كَانَ أحد أوعية الْعلم توفّي سنة 103هـ، وَقيل إِنَّه كَانَ لَا يسمع بأعجوبة إِلَّا ذهب لينْظر إِلَيْهَا، عرض الْقُرْآن على ابْن عَبَّاس وَأخذ عَنهُ.
حَدَّثَنِي أَبُو الْخَطَّابِ1 قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: نَا الْأَعْمَشُ2 عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ، الرَّأْيُ الْحَسَنُ.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بن خَالِد مُحَمَّدِ بْنِ خِدَاشٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُسْلِمُ بْنُ قُتَيْبَةَ قَالَ: نَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ قَالَ: قَالَ لِي الشَّعْبِيُّ -وَنَظَرَ إِلَى أَصْحَابِ الرَّأْيِ: مَا حَدَّثَكَ هَؤُلَاءِ عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاقْبَلْهُ، وَمَا خَبَّرُوكَ بِهِ عَنْ رَأْيِهِمْ، فَارْمِ بِهِ فِي الحُش3.
وَكَانَ يَقُولُ: إِيَّاكُمْ وَالْقِيَاسَ، فَإِنَّكُمْ إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ، حَرَّمْتُمُ الْحَلَالَ، وَأَحْلَلْتُمُ الْحَرَامَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
حَدَّثَنِي الرِّيَاشِيُّ4 قَالَ: نَا الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: قِيلَ لِلشَّعْبِيِّ: إِنَّ هَذَا لَا يَجِيءُ فِي الْقِيَاسِ، فَقَالَ: أَيْرٌ5 فِي الْقِيَاسِ.
وَحَدَّثَنِي الرِّيَاشِيُّ، عَنْ أَبِي يَعْقُوبَ الْخَطَّابِيِّ، عَنْ عَمِّهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْحَدِيثُ ذَكَرٌ، يُحِبُّهُ ذُكُورُ الرِّجَالِ، وَيَكْرَهُهُ مُؤَنَّثُوهُمْ.
تَنَاقُضَاتٌ فِي الْقِيَاسِ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَكَيْفَ يَطَّرِدُ لَكَ الْقِيَاسُ فِي فُرُوعٍ، لَا يَتَّفِقُ أُصُولُهَا وَالْفَرْعُ تَابِعٌ للْأَصْل؟
__________
1 أَبُو الْخطاب: عبد الْأَعْلَى بن السَّمْح الْمعَافِرِي الْحِمْيَرِي اليمني، زعيم الإباضية فِي أفريقية، كَانَ شجاعًا بطلًا حكم إفريقية كلهَا فِي بَدْء سنة 141هـ، وَقد وَجه إِلَيْهِ الْمَنْصُور خمسين ألفا فَقتل 144هـ.
2 الْأَعْمَش: سُلَيْمَان بن مهْرَان الْأَسدي بِالْوَلَاءِ، تَابِعِيّ مَشْهُور، أَصله من بِلَاد الرّيّ، ومنشؤه ووفاته فِي الْكُوفَة، ولد عَام 61هـ وَكَانَ عَالما بِالْقُرْآنِ والْحَدِيث والفرائض روى نَحْو 1300 حَدِيث، قَالَ الذَّهَبِيّ كَانَ رَأْسا فِي الْعلم النافع وَالْعَمَل الصَّالح توفّي 148هـ.
3 الحش: المرحاض.
4 الرياشي: هُوَ الْعَبَّاس بن الْفرج بن عَليّ بن عبد الله الرياشي الْبَصْرِيّ، من الموَالِي، لغَوِيّ وراوية عَارِف بأيام الْعَرَب، من أهل الْبَصْرَة ولد عَام 177هـ وَقتل فِيهَا أَيَّام فتْنَة الزنج عَام 257هـ.
5 لَيْسَ من المستحسن نقل زلات الْعلمَاء، وَمثل هَذَا الْكَلَام لَا يعْتد بِهِ وَالله أعلم بِصِحَّتِهِ.
وَكَيْفَ يَقَعُ فِي الْقِيَاسِ أَنْ يُقْطَعَ سَارِقُ عَشْرِ دَرَاهِمَ، وَيُمْسَكَ عَنْ غَاصِبِ مِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
وَيُجْلَدَ قَاذِفُ الْحُرِّ الْفَاجِرِ، وَيُعْفَى عَنْ قَاذِفِ الْعَبْدِ الْعَفِيفِ؟
وَتُسْتَبْرَأَ أَرْحَامُ الْإِمَاءِ بِحَيْضَةٍ، وَرَحِمُ الْحُرَّةِ بِثَلَاثِ حِيَضٍ.
وَيُحَصَّنَ الرَّجُلُ بِالْعَجُوزِ الشَّوْهَاءِ السَّوْدَاءِ، وَلَا يُحَصَّنَ بِمِائَةِ أَمَةٍ حَسْنَاءَ؟
وَيُوجَبَ عَلَى الْحَائِضِ قَضَاء الصَّوْم وَلَا يجب عَلَيْهَا قَضَاءُ الصَّلَاةِ.
وَيُجْلَدَ فِي الْقَذْفِ بِالزِّنَا أَكْثَرُ مِنَ الْجَلْدِ فِي الْقَذْفِ بِالْكُفْرِ.
وَيُقْطَعَ فِي الْقَتْلِ بِشَاهِدَيْنَ، وَلَا يُقْطَعَ فِي الزِّنَا بِأَقَلِّ مِنْ أَرْبَعَةٍ؟
مُخَالَفَاتُ الْجَاحِظِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
ثُمَّ نَصِيرُ إِلَى الْجَاحِظِ1، وَهُوَ آخِرُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَالْمُعَايِرُ عَلَى الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَحْسَنُهُمْ لِلْحُجَّةِ اسْتِثَارَةً، وَأَشَدُّهُمْ تَلَطُّفًا لِتَعْظِيمِ الصَّغِيرِ، حَتَّى يَعْظُمَ، وَتَصْغِيرِ الْعَظِيمِ حَتَّى يَصْغُرَ، وَيَبْلُغَ بِهِ الْاقْتِدَارُ إِلَى أَنْ يَعْمَلَ الشَّيْءَ وَنَقِيضَهُ، وَيَحْتَجَّ لِفَضْلِ السُّودَانِ عَلَى الْبِيضَانِ.
وَتَجِدُهُ يَحْتَجُّ مَرَّةً لِلْعُثْمَانِيَّةِ عَلَى الرَّافِضَةِ، وَمَرَّةً لِلزَّيْدِيَّةِ عَلَى الْعُثْمَانِيَّةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ.
وَمَرَّةً يُفَضِّلُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَرَّةً يُؤَخِّرُهُ، وَيَقُولُ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُتْبِعُهُ قَالَ: ابْنُ الْجَمَّازِ، وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ غَزْوَانَ: كَذَا وَكَذَا مِنَ الْفَوَاحِشِ.
وَيُجِلُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ أَنْ يُذْكَرَ فِي كِتَابٍ ذكرا فِيهِ فَكَيْفَ فِي وَرَقَةٍ، أَوْ بعد سطر وسطرين؟
__________
1 الجاحظ: عَمْرو بن بَحر بن مَحْبُوب الْكِنَانِي بِالْوَلَاءِ اللَّيْثِيّ، كَبِير أَئِمَّة الْأَدَب، وَرَئِيس الْفرْقَة الجاحظية من الْمُعْتَزلَة، ولد فِي الْبَصْرَة عَام 163هـ فلج آخر عمره وَكَانَ مُشَوه الْخلقَة، لَهُ مصنفات كَثِيرَة، وَمَات وَالْكتاب على صَدره عَام 255هـ.
وَيَعْمَلُ كِتَابًا، يَذْكُرُ فِيهِ حُجَجَ النَّصَارَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
فَإِذَا صَارَ إِلَى الرَّدِّ عَلَيْهِمْ تَجَوَّزَ1 فِي الْحُجَّةِ، كَأَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ تَنْبِيهَهُمْ عَلَى مَا لَا يَعْرِفُونَ، وَتَشْكِيكَ الضَّعَفَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَتَجِدُهُ يَقْصِدُ فِي كتبه للمضاحيك2 وَالْعَبَثَ، يُرِيدُ بِذَلِكَ، اسْتِمَالَةَ الْأَحْدَاثِ، وشُرَّاب النَّبِيذِ.
وَيَسْتَهْزِئُ مِنَ الْحَدِيثِ اسْتِهْزَاءً، لَا يَخْفَى عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ.
كَذِكْرِهِ كَبِدَ الْحُوتِ، وَقَرْنَ الشَّيْطَانِ، وَذِكْرِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَأَنَّهُ كَانَ أَبْيَضَ فَسَوَّدَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَقَدْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يُبَيِّضَهُ الْمُسْلِمُونَ حِينَ أَسْلَمُوا.
وَيَذْكُرُ الصَّحِيفَةَ -الَّتِي كَانَ فِيهَا المُنْزَلُ فِي الرَّضَاعِ- تَحْتَ سَرِيرِ عَائِشَةَ فَأَكَلَتْهَا الشَّاةُ.
وَأَشْيَاءَ مِنْ أَحَادِيثِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَنَادُمِ الدِّيكِ وَالْغُرَابِ، وَدَفْنِ الْهُدْهُدِ أُمَّهُ فِي رَأْسِهِ، وَتَسْبِيحِ الضُّفْدَعِ، وَطَوْقِ الْحَمَامَةِ، وَأَشْبَاهَ هَذَا، مِمَّا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَهُوَ -مَعَ هَذَا- مِنْ أَكْذَبِ الْأُمَّةِ وَأَوْضَعِهِمْ لِحَدِيثٍ، وَأَنْصَرِهِمْ لِبَاطِلٍ.
وَمَنْ عَلِمَ -رَحِمَكَ اللَّهُ- أَنَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ، قَلَّ إِلَّا فِيمَا يَنْفَعُهُ.
وَمَنْ أَيْقَنَ أَنَّهُ مَسْئُولٌ عَمَّا أَلَّفَ، وَعَمَّا كَتَبَ، لَمْ يَعْمَلِ الشَّيْءَ وَضِدَّهُ، وَلَمْ يَسْتَفْرِغْ مَجْهُودَهُ فِي تَثْبِيتِ الْبَاطِلِ عِنْدَهُ، وَأَنْشَدَنِي الرِّيَاشَيُّ:
وَلَا تَكْتُبْ بِخَطِّكَ غَيْرَ شَيْءٍ ... يَسُرُّكَ فِي الْقِيَامَةِ3 أَنْ تَرَاهُ
مِنْ آرَاءِ أَصْحَابِ الْكَلَامِ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَبَلَغَنِي أَنَّ مِنْ أَصْحَابِ الْكَلَامِ، مَنْ يَرَى الْخَمْرَ غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا نَهَى عَنْهَا، عَلَى جِهَةِ التَّأْدِيب، كَمَا قَالَ:
__________
1 وَفِي نُسْخَة: تخوَّن.
2 وَفِي رِوَايَة: للمضاحيك.
3 وَفِي نُسْخَة فِي "العواقب".
{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} 1.
وَكَمَا قَالَ: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} 2.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى نِكَاحَ تِسْعٍ مِنَ الْحَرَائِرِ جَائِزٌ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} 3.
قَالُوا: فَهَذَا تِسْعٌ قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ عَنْ تِسْعٍ، وَلَمْ يُطْلِقِ اللَّهُ لِرَسُولِهِ فِي الْقُرْآنِ، إِلَّا مَا أَطْلَقَ لَنَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى شَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَجِلْدَهُ حَلَالًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا حَرَّمَ لَحْمَهُ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} 4 فَلَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا غَيْرَ لَحْمِهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعْلَمُ شَيْئًا حَتَّى يَكُونَ، وَلَا يَخْلُقُ شَيْئًا حَتَّى يَتَحَرَّى.
فَبِمَنْ يُتَعَلَّقُ مِنْ هَؤُلَاءِ؟ وَمَنْ يُتَّبَعُ وَهَذِهِ نِحَلُهُمْ؟ وَهَكَذَا اخْتِلَافُهُمْ؟.
وَكَيْفَ يَطْمَعُ فِي تَخَلُّصِ الْحَقِّ مِنْ بَيْنِهِمْ؟ وَهُمْ -مَعَ تَطَاوُلِ الْأَيَّامِ بِهِمْ، وَمَرِّ الدُّهُورِ- عَلَى الْمُقَايَسَاتِ وَالْمُنَاظَرَاتِ؟ لَا يَزْدَادُونَ إِلَّا اخْتِلَافًا، وَمِنَ الْحَقِّ إِلَّا بُعدًا؟
وَكَانَ أيو يُوسُفَ يَقُولُ: مَنْ طَلَبَ الدِّينَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ، وَمَنْ طَلَبَ الْمَالَ بِالْكِيمْيَاءِ أَفْلَسَ، وَمَنْ طَلَبَ غَرَائِبَ الْحَدِيثِ كُذِّبَ.
رِوَايَاتٌ لِابْنِ قُتَيْبَةَ عَنْ أَصْحَابِ الْكَلَامِ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَقَدْ كُنْتُ فِي عُنْفُوَانِ الشَّبَابِ وَتَطَلُّبِ الْآدَابِ، أُحِبُّ أَنْ أَتَعَلَّقَ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ بِسَبَبٍ، وَأَن أضْرب فِيهِ بِسَهْم.
__________
1 الْآيَة 29 من سُورَة الْإِسْرَاء.
2 الْآيَة 34 من سُورَة النِّسَاء.
3 الْآيَة 3 من سُورَة النِّسَاء.
4 الْآيَة 3 من سُورَة الْمَائِدَة.
فَرُبَّمَا حَضَرْتُ بَعْضَ مَجَالِسِهِمْ، وَأَنَا مُغْتَرٌّ بِهِمْ طَامِعٌ أَنْ أَصْدُرَ عَنْهُ بِفَائِدَةٍ، أَوْ كَلِمَةٍ تَدُلُّ عَلَى خَيْرٍ، أَوْ تَهْدِي لِرُشْدٍ.
فَأَرَى مِنْ جُرْأَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَقِلَّةِ تُوَقِّيهِمْ، وَحَمْلِهِمْ أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْعَظَائِمِ لِطَرْدِ1 الْقِيَاسِ أَوْ لِئَلَّا يَقَعَ انْقِطَاعٌ -مَا أَرْجِعُ مَعَهُ خَاسِرًا نَادِمًا.
وَقَدْ ذَكَرَهُمْ مُحَمَّدُ2 بْنُ بَشِيرٍ الشَّاعِرُ، وَقَدْ أَصَابَ فِي وَصْفِهِمْ، حِينَ يَقُولُ:
دَعْ مَنْ يَقُولُ3 الْكَلَامَ نَاحِيَةً ... فَمَا يَقُولُ الْكَلَامَ ذُو وَرَعِ
كُلُّ فَرِيقٍ بَدْوُهُمْ حَسَنٌ ... ثُمَّ يَصِيرُونَ بَعْدُ لِلشُّنَعِ
أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنْ يُقَالَ لَهُ ... لَمْ يَكْ فِي قَوْلِهِ بِمُنْقَطِعِ
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ4 بْنُ مُصْعَبٍ:
ترى الْمَرْء بعجبه أَنْ يَقُولَا ... وَأَسْلَمُ لِلْمَرْءِ أَنْ لَا يَقُولَا
فَأَمْسِكْ عَلَيْكَ فُضُولَ الْكَلَامِ ... فَإِنَّ لِكُلِّ كَلَامٍ فُضُولًا
وَلَا تَصْحَبَنَّ أَخَا بِدْعَةٍ ... وَلَا تَسْمَعَنَّ لَهُ الدَّهْرَ قِيلًا
فَإِنَّ مَقَالَتَهُمْ كَالظِّلَالِ ... يُوشِكُ أَفْيَاؤُهَا أَنْ تَزُولَا
وَقَدْ أَحْكَمَ اللَّهُ آيَاتِهِ ... وَكَانَ الرَّسُولُ عَلَيْهَا دَلِيلًا
وَأَوْضَحَ لِلْمُسْلِمِينَ السَّبِيلَ ... فَلَا تَتْبَعَنَّ5 سِوَاهَا سَبِيلا
__________
1 لَعَلَّ الْأَصَح: لاطراد الْقيَاس.
2 مُحَمَّد بن بشير "الشَّاعِر": هُوَ قَاض أندلسي من أهل باجة كَانَ كَاتبا لأحد الوزراء وَحج وَلَقي مَالك بن أنس وَلما عَاد إِلَى الأندلس أصبح قَاضِيا وَبَقِي كَذَلِك إِلَى وَفَاته عَام 198هـ.
3 وَفِي نُسْخَة "يَقُود" فِي الموضوعين.
4 عبد الله بن مُصعب بن ثَابت بن عبد الله بن الزبير ولد بِالْمَدِينَةِ عَام 111هـ، وَولي الْيَمَامَة أَيَّام الْمهْدي العباسي ثمَّ الْهَادِي وَاعْتَزل بِبَغْدَاد فألزمه الرشيد بِولَايَة الْمَدِينَة ثمَّ أضيف إِلَيْهَا الْيمن، توفّي بالرقة عَام 184هـ.
5 وَفِي نُسْخَة: "تبغينّ".
أنَاس بِهِمْ رِيبَةٌ فِي الصُّدُورِ ... وَيُخْفُونَ فِي الْجَوْفِ مِنْهَا غَلِيلًا
إِذَا أَحْدَثُوا بِدْعَةً فِي الْقُرْآنِ ... تَعَادَوْا1 عَلَيْهَا فَكَانُوا عُدُولًا
فخلِّهم وَالَّتِي يَهْضِبُونَ2 ... وَوَلِّهِمْ مِنْكَ صَمْتًا طَوِيلًا
حَيْرَتُهُمْ وَعَدَمُ اسْتِقْرَارِهِمْ عَلَى رَأْيٍ:
شريف ابراهيم
شريف ابراهيم
نائب المدير العام
نائب المدير العام

عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تأويل مختلف الحديث الْمُقدمَات مُقَدّمَة الطبعة الثَّانِيَة Empty قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:

مُساهمة من طرف شريف ابراهيم الخميس 27 يوليو 2017 - 15:50

قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَقَدْ كُنْتُ سَمِعْتُ بِقَوْلِ عُمَرَ3 بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ: "مَنْ جَعَلَ دِينَهُ غَرَضًا4 لِلْخُصُومَاتِ، أَكْثَرَ التَّنَقُّلِ".
وَكُنْتُ أَسْمَعُهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْحَقَّ يُدْرَكُ بِالْمُقَايَسَاتِ وَالنَّظَرِ، وَيَلْزَمُ مَنْ لَزِمَتْهُ الْحُجَّةُ أَنْ يَنْقَادَ لَهَا. ثُمَّ رَأَيْتُهُمْ، فِي طُولِ تَنَاظُرِهِمْ، وَإِلْزَامِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا الْحُجَّةَ، فِي كُلِّ مَجْلِسٍ مَرَّاتٍ، لَا يَزُولُونَ عَنْهَا، وَلَا يَنْتَقِلُونَ.
وَسَأَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ رَجُلًا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، فَقَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنِ الْعَالَمِ، هَلْ لَهُ نِهَايَةٌ وَحَدٌّ؟
فَقَالَ الْمُعْتَزِلِيُّ: النِّهَايَةُ -عِنْدِي- عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا نِهَايَةُ الزَّمَانِ، مِنْ وَقْتِ كَذَا إِلَى وَقْتِ كَذَا، وَالْآخَرُ نِهَايَةُ الْأَطْرَافِ وَالْجَوَانِبِ، وَهُوَ مُتَنَاهٍ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ.
ثُمَّ قَالَ لَهُ: فَأَخْبِرْنِي عَنَ الصَّانِع عز وَجل، هَل مُتَنَاهٍ؟
فَقَالَ: مُحَالٌ.
قَالَ: فَتَزْعُمُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ الْمُتَنَاهِي، مَنْ لَيْسَ بِمُتَنَاهٍ؟
فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُقَ الشَّيْءَ، مَنْ لَيْسَ بِشَيْءٍ، كَمَا جَازَ أَنْ يَخْلُقَ الْمُتَنَاهِي من لَيْسَ بمتناه؟
__________
1 وَفِي نُسْخَة: تغاذوا.
2 يهضبون: من هضب بِالْحَدِيثِ: إِذا أَفَاضَ فِيهِ. الْقَامُوس.
3 عمر بن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان أَمِير الْمُؤمنِينَ، وخامس الْخُلَفَاء الرَّاشِدين. الْعَالم الْحَافِظ الزَّاهِد الْوَرع الْعَادِل، فضائله كَثِيرَة ولي الْخلَافَة سنة 99 وَمَات سنة 101هـ.
4 أَي: هدفًا.

قَالَ: لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِشَيْءٍ هُوَ عَدَمٌ وَإِبْطَالٌ.
قَالَ لَهُ: وَمَا لَيْسَ بِمُتَنَاهٍ، عَدَمٌ وَإِبْطَالٌ.
قَالَ: "لَا شَيْءَ" هُوَ نَفْيٌ.
قَالَ لَهُ: وَمَا لَيْسَ بِمُتَنَاهٍ نَفْيٌ.
قَالَ: قَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ شَيْءٌ إِلَّا جَهْمًا وَأَصْحَابُهُ.
قَالَ: قَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ أَنَّهُ مُتَنَاهٍ.
قَالَ: وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ مُتَنَاهٍ، مُحْدَثًا مَصْنُوعًا عَاجِزًا؟
قَالَ: وَوَجَدْتُ كُلَّ شَيْءٍ مُحْدَثًا مصنوعا عَاجِزا.
لَمَّا أَنْ وَجَدْتَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَصْنُوعَةً، عَلِمْتَ أَنَّ صَانِعَهَا شَيْءٌ؟
قَالَ: وَلَمَّا أَنْ وَجَدْتُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُتَنَاهِيَةً، عَلِمْتُ أَنَّ صَانِعَهَا مُتَنَاهٍ.
قَالَ: لَوْ كَانَ مُتَنَاهِيًا، كَانَ مُحْدَثًا، إِذْ وَجَدْتُ كُلَّ مُتَنَاهٍ مُحْدَثًا.
قَالَ: وَلَوْ كَانَ شَيْئًا، كَانَ مُحْدَثًا عَاجِزًا، إِذْ وَجَدْتُ كُلَّ شَيْءٍ مُحْدَثًا عَاجِزًا وَإِلَّا فَمَا الْفَرْقُ؟ فَأَمْسَكَ.
قَالَ: وَسَأَلَ آخرُ آخرَ عَنِ الْعِلْمِ فَقَالَ لَهُ: أَتَقُولُ إِنَّ سَمِيعًا فِي مَعْنَى عَلِيمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} 1 هَلْ سَمِعَهُ2 حِينَ قَالُوهُ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَهَلْ سَمِعَهُ قَبْلَ أَنْ يَقُولُوا؟ قَالَ: لَا.
قَالَ: فَهَلْ عَلِمَهُ قَبْلَ أَنْ يَقُولُوهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ لَهُ: فَأَرَى فِي "سَمِيعٍ" مَعْنًى غَيْرَ مَعْنَى "عليم" فَلم يجب.
__________
1 الْآيَة 181 من سُورَة آل عمرَان.
2 وَفِي نُسْخَة: سمعهم.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
قُلْتُ لَهُ وَلِلْأَوَّلِ: قَدْ لَزِمَتْكُمَا الْحُجَّةُ، فَلِمَ لَا تَنْتَقِلَانِ عَمَّا تَعْتَقِدَانِ إِلَى مَا أَلْزَمَتْكُمَاهُ الْحُجَّةُ.
فَقَالَ: أَحَدُهُمَا لَوْ فَعَلْنَا ذَلِكَ، لَانْتَقَلْنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّاتٍ، وَكَفَى بِذَلِكَ حَيْرَةً.
قُلْتُ: فَإِذَا كَانَ الْحَقُّ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ وَالْحُجَّةِ، وَكُنْتَ لَا تَنْقَادُ لَهُمَا بِالِاتِّبَاعِ، كَمَا تَنْقَادُ بِالْانْقِطَاعِ، فَمَا تَصْنَعُ بِهِمَا؟ التَّقْلِيدُ أَرْبَحُ لَكَ وَالْمُقَامُ عَلَى أَثَرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْلَى بِكَ.
اخْتِلَافُهُمْ فِي ثُبُوتِ الْخَبَرِ:
قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ الْخَبَرِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَثْبُتُ الْخَبَرُ بِالْوَاحِدِ1 الصَّادِقِ.
وَقَالَ آخَرُ: يَثْبُتُ بِاثْنَيْنِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِإِشْهَادِ اثْنَيْنِ عَدْلَيْنِ.
وَقَالَ آخَرُ: يَثْبُتُ بِثَلَاثَةٍ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} 2.
قَالُوا: وَأَقَلُّ مَا تكون الطَّائِفَة، ثَلَاثَة.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد:
وَغَلِطُوا فِي هَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّ الطَّائِفَةَ تَكُونُ وَاحِدًا، وَاثْنَيْنِ، وَثَلَاثَةً، وَأَكْثَرَ، لِأَنَّ الطَّائِفَةَ، بِمَعْنَى الْقِطْعَةِ، وَالْوَاحِدُ قَدْ يَكُونُ قِطْعَةً مِنَ الْقَوْمِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 3 يُرِيدُ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ.
وَقَالَ آخَرُ: يَثْبُتُ بِأَرْبَعَةٍ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} 4.
__________
1 أَي بِرِوَايَة الْوَاحِد.
2 الْآيَة 122 من سُورَة التَّوْبَة.
3 الْآيَة 2 من سُورَة النُّور.
4 الْآيَة 13 من سُورَة النُّور.
وَقَالَ آخَرُ: يَثْبُتُ بِاثْنَيْ عَشَرَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} 1.
وَقَالَ آخَرُ: يَثْبُتُ بِعِشْرِينَ رَجُلًا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} 2.
وَقَالَ آخَرُ: يَثْبُتُ بِسَبْعِينَ رَجُلًا، لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} 3.
فَجَعَلُوا كُلَّ عَدَدٍ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ، حُجَّةً فِي صِحَّةِ الْخَبَرِ.
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الْخَبَرَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِثَمَانِيَةٍ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَهُمُ الْحُجَّةُ عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} 4 وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا ثَمَانِيَةً، حَتَّى يَكُونَ الْكَلْبُ ثَامِنَهُمْ أَوْ قَالَ: لَا يَثْبُتُ الْخَبَرُ إِلَّا بِتِسْعَةَ عَشَرَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فِي خَزَنَةِ جَهَنَّمَ -حِينَ ذَكَرَهَا- فَقَالَ: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَر} 5 لَكَانَ أَيْضًا قَوْلًا وَعَدَدًا مُسْتَخْرَجًا مِنَ الْقُرْآنِ.
وَهَذِهِ الْاخْتِيَارَاتُ، إِنَّمَا اخْتَلَفَتْ هَذَا الِاخْتِلَافَ، لِاخْتِلَافِ عُقُولِ النَّاسِ، وَكُلٌّ يَخْتَارُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِهِ.
وَلَوْ رَجَعُوا إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَرْسَلَ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً رَسُولًا وَاحِدًا وَأَمَرَهُمْ بِاتِّبَاعِهِ وَقَبُولِ قَوْلِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اثْنَيْنِ وَلَا أَرْبَعَةً، وَلَا عِشْرِينَ وَلَا سَبْعِينَ، فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، لَدَلَّهُمْ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الصَّادِقَ الْعَدْلَ، صَادِقُ الْخَبَرِ، كَمَا أَنَّ الرَّسُولَ الْوَاحِدَ الْمُبَلِّغَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى صَادِقُ الْخَبَرِ، وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُنَا لِهَذَا الْبَابِ، فَنُطِيلُ فِيهِ.
__________
1 الْآيَة 12 من سُورَة الْمَائِدَة.
2 الْآيَة 65 من سُورَة الْأَنْفَال.
3 الْآيَة 155 من سُورَة الْأَعْرَاف.
4 الْآيَة 22 من سُورَة الْكَهْف.
5 الْآيَة 29 من سُورَة المدثر.
تَفْسِيرُهُمُ الْقُرْآنَ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَفَسَّرُوا الْقُرْآنَ بِأَعْجَبِ تَفْسِيرٍ، يُرِيدُونَ أَنْ يَرُدُّوهُ إِلَى مَذَاهِبِهِمْ، وَيَحْمِلُوا التَّأْوِيلَ عَلَى نِحَلِهِمْ.
فَقَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} 1 أَيْ عِلْمُهُ، وَجَاءُوا عَلَى ذَلِكَ بِشَاهِدٍ لَا يُعْرَفُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّاعِرِ.
وَلَا يُكَرْسِئُ عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ
كَأَنَّهُ عِنْدَهُمْ، وَلَا يَعْلَمُ عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوق.
والكرسي غير مَهْمُوز، و"يكرسئ" مَهْمُوزٌ، يَسْتَوْحِشُونَ أَنْ يَجْعَلُوا لِلَّهِ تَعَالَى كُرْسِيًّا، أَوْ سَرِيرًا، وَيَجْعَلُونَ الْعَرْشَ شَيْئًا آخَرَ.
وَالْعَرَبُ لَا تَعْرِفُ الْعَرْشَ إِلَّا السَّرِيرَ، وَمَا عُرِشَ مِنَ السُّقُوفِ وَالْآبَارِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} 2 أَيْ: عَلَى السَّرِيرِ.
وَأُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ3 يَقُولُ:
مَجِّدُوا اللَّهَ وَهُوَ لِلْمَجْدِ أَهْلٌ ... رَبُّنَا فِي السَّمَاءِ أَمْسَى كَبِيرًا
بِالْبِنَاءِ الْأَعْلَى الَّذِي سَبَقَ النَّاسَ ... وَسَوَّى فَوْقَ السَّمَاءِ سَرِيرًا
شَرْجَعًا4 مَا يَنَالُهُ بَصَرُ الْعَيْنِ ... تَرَى دُونَهُ الْمَلَائِكَ صُوَرًا5
وَقَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} 6، إِنَّهَا هَمَّتْ بِالْفَاحِشَةِ، وَهَمَّ هُوَ بِالْفِرَارِ مِنْهَا أَوِ الضَّرْبِ لَهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى
__________
1 الْآيَة 255 من سُورَة الْبَقَرَة.
2 الْآيَة 100 من سُورَة يُوسُف.
3 أُميَّة بن أبي الصَّلْت شَاعِر جاهلي حَكِيم من أهل الطَّائِف، رغب بِالْإِسْلَامِ وَأثْنى على رَسُول الله وَلكنه لم يسلم لما علم بمقتل أهل بدر وَفِيهِمْ ابْنا خَال لَهُ.. وَتُوفِّي عَام 5هـ.
4 شرجعًا: أَي طَويلا.
5 صورًا: جَمْعُ أَصُورٍ، وَهُوَ الْمَائِلُ الْعُنُقِ.
6 الْآيَة 24 من سُورَة يُوسُف.
يَقُول: {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} 1 أَفَتُرَاهُ أَرَادَ الْفِرَارَ مِنْهَا أَوِ الضَّرْبَ لَهَا، فَلَمَّا رَأَى الْبُرْهَانَ أَقَامَ عِنْدَهَا!.
وَلَيْسَ يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ أَنْ تَقُولَ: "هَمَمْتُ بِفُلَانٍ، وَهَمَّ بِي" وَأَنْتَ تُرِيدُ اخْتِلَافَ الْهَمَّيْنِ حَتَّى تَكُونَ أَنْتَ تَهُمُّ بِإِهَانَتِهِ، وَيَهُمُّ هُوَ بِإِكْرَامِكَ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ هَذَا الْكَلَامُ إِذَا اتَّفَقَ الْهَمَّانِ.
وَقَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ؛ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} 2 إِنَّهُ أُتْخِمَ مِنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ.
فَذَهَبُوا إِلَى قَوْلِ الْعَرَبِ: "غَوَى الْفَصِيلُ يغوَى غَوًى" إِذَا أَكْثَرَ مِنْ شُرْبِ اللَّبَنِ، حَتَّى يَبْشَمَ، وَذَلِكَ "غَوَى يَغْوِي غَيًّا".
وَهُوَ مِنَ الْبَشَمِ "غَوِيَ يغوَى غَوًى".
وَقَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ؛ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} 3 أَيْ أَلْقَيْنَا فِيهَا. يَذْهَبُ إِلَى قَوْلِ النَّاسِ "ذَرَتْهُ الرِّيحُ".
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَرَأْنَا مِنْ "ذَرَتْهُ الرِّيحُ" لِأَنَّ "ذَرَأْنَا" مَهْمُوز، و"ذرته الرِّيحُ تَذْرُوهُ" غَيْرُ مَهْمُوزٍ.
وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ نَجْعَلَهُ مِنْ "أَذْرَتْهُ الدَّابَّةُ عَنْ ظَهْرِهَا" أَيْ "أَلْقَتْهُ" لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ "ذَرَأَتْ" تَقْدِيرُ "فَعَلَتْ" بِالْهَمْزِ، وَهَذَا مِنْ "أَذْرَيْتُ" تَقْدِيرُ "أَفْعَلْتُ" بِلَا هَمْزٍ.
وَاحْتج بقول المثقب4 الْعَبْدي:
__________
1 الْآيَة 24 من سُورَة يُوسُف.
2 الْآيَة 121 من سُورَة طه.
3 الْآيَة 179 من سُورَة الْأَعْرَاف.
4 المثقب الْعَبْدي "شَاعِر" هُوَ العائذ بن مُحصن بن ثَعْلَبَة شَاعِر جاهلي من أهل الْبَحْرين اتَّصل بِالْملكِ عَمْرو بن هِنْد وَله فِيهِ مدائح، ومدح النُّعْمَان بن الْمُنْذر، وشعره جيد فِيهِ حِكْمَة ورقة توفّي 35ق. هـ.
تَقولُ إِذا دَرَأتُ لَها وَضيني1 ... أَهَذا دِينُهُ2 أَبَداً وَديني
وَهَذَا تَصْحِيفٌ، لِأَنَّهُ قَالَ: تَقُولُ: "إِذَا دَرَأْتُ" أَيْ "دَفَعْتُ" بِالدَّالِ غَيْرَ مُعْجَمَةٍ.
وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} 3 أَنَّهُ4 ذَهَبَ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ اسْتِيحَاشًا مِنْ أَنْ يَجْعَلُوهُ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ، مَعَ عِصْمَةِ اللَّهِ لَهُ.
فَجَعَلُوهُ خَرَجَ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ، حِينَ آمَنُوا، فَفَرُّوا إِلَى مِثْلِ مَا اسْتَقْبَحُوا.
وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَغْضَبَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْمِهِ حِينَ آمَنُوا؟ وَبِذَلِكَ بُعِثَ، وَبِهِ أُمِرَ؟!
وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّ اللَّهِ، إِنْ كَانَ يَغْضَبُ مِنْ إِيْمَانِ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، وَلَمْ يَخْرُجْ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ، وَلَا لِقَوْمِهِ؟ وَهَذَا مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِي الْمُؤَلَّفِ فِي "مُشْكَلِ الْقُرْآنِ".
وَلَمْ يَكُنْ قَصْدِي فِي هَذَا الْكِتَابِ، الْإِخْبَارُ عَنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَأَشْبَاهِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ الْقَصْدُ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ جَهْلِهِمْ وَجُرْأَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، بِصَرْفِ الْكِتَابِ إِلَى مَا يَسْتَحْسِنُونَ، وَحَمْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى مَا يَنْتَحِلُونَ.
وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} 5 أَيْ فَقِيرًا إِلَى رَحْمَتِهِ.
وَجَعَلُوا مِنَ "الْخَلَّةِ" بِفَتْحِ الْخَاءِ، اسْتِيحَاشًا مِنْ أَنْ يكون الله تَعَالَى
__________
1 الْوَضِين: بطان عريض منسوج من سيور أَو شعر.
2 دينه: أَي عَادَته.
3 الْآيَة 87 من سُورَة الْأَنْبِيَاء.
4 وَفِي نُسْخَة: أَي.
5 الْآيَة 125 من سُورَة النِّسَاء.
خَلِيلًا لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ زُهَيْرٍ1.
وَإِنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْأَلَةٍ ... يَقُولُ لَا غَائِبٌ مَالِي وَلَا حَرِمَ
أَيْ إِنْ أَتَاهُ فَقِيرٌ؛ فَأَيَّةُ فَضِيلَةٍ فِي هَذَا الْقَوْلِ، لِإِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ النَّاسَ جَمِيعًا، فُقَرَاءٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟
وَهَلْ إِبْرَاهِيمُ فِي "خَلِيلِ اللَّهِ" إِلَّا كَمَا قِيلَ "مُوسَى كِلِيمُ الله".
و"عِيسَى رَوْحُ اللَّهِ "؟
وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} 2 إِن الْيَد، هَهُنَا النِّعْمَةُ؛ لِقَوْلِ الْعَرَبِ "لِي عِنْدَ فُلَانٍ يَدٌ" أَيْ نِعْمَةٌ وَمَعْرُوفٌ.
وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْيَدُ، هَهُنَا النِّعْمَةَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} 3 مُعَارَضَةً عَمَّا قَالُوهُ فِيهَا4 ثُمَّ قَالَ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 5.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ "غُلَّتْ نِعَمُهُمْ، بَلْ نِعْمَتَاهُ مَبْسُوطَتَانِ" لِأَنَّ النِّعَمَ لَا تُغَلُّ، وَلِأَنَّ الْمَعْرُوفَ لَا يُكَنَّى عَنْهُ بِالْيَدَيْنِ، كَمَا يُكَنَّى عَنْهُ بِالْيَدِ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ جِنْسَيْنِ مِنَ الْمَعْرُوفِ، فَيَقُولَ: لِي عِنْدَهُ يَدَانِ.
وَنِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحَاطَ بِهَا.
تَفْسِيرُ الرَّوَافِضِ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ تَفْسِيرُ الرَّوَافِضِ لِلْقُرْآنِ، وَمَا
__________
1 زُهَيْر: أَي زُهَيْر بن أبي سلمى الْمُزنِيّ من قصيدة لَهُ يمدح فِيهَا هرم بن سِنَان المري.
ومطلعها:
قف بالديار الَّتِي لم يعفها الْقدَم ... بلَى وَغَيرهَا الْأَرْوَاح والديم
2 الْآيَة 64 من سُورَة الْمَائِدَة.
3 الْآيَة 64 من سُورَة الْمَائِدَة.
4 أَي: فِي يَد الله، وَفِي نُسْخَة "فِيهِ" أَي "فِي الله".
5 الْآيَة 64 من سُورَة الْمَائِدَة.
يَدعُونَهُ مِنْ عِلْمِ بَاطِنِهِ بِمَا وَقَعَ إِلَيْهِمْ1 مِنَ الْجَفْرِ الَّذِي ذَكَرَهُ هَارُونُ2 بْنُ سَعْدٍ الْعِجْلِيُّ وَكَانَ رَأْسَ الزَّيْدِيَّةِ فَقَالَ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الرَّافِضِينَ تَفَرَّقُوا ... فَكُلُّهُمْ فِي جَعْفَرٍ قَالَ مُنْكَرًا
فَطَائِفَةٌ قَالُوا إِمَامٌ وَمِنْهُمْ ... طَوَائِفُ سَمَّتْهُ النَّبِيَّ الْمُطَهَّرَا
وَمِنْ عَجَبٍ لَمْ أَقْضِهِ جِلْدُ جَفْرِهِمْ ... بَرِئْتُ إِلَى الرَّحْمَنِ مِمَّنْ تَجَفَّرَا
بَرِئْتُ إِلَى الرَّحْمَنِ مِنْ كُلِّ رَافِضٍ ... بَصِيرٍ بِبَابِ الْكُفْرِ فِي الدِّينِ أَعَوَرَا
إِذَا كَفَّ أَهْلُ الْحَقِّ عَنْ بِدْعَةٍ مَضَى ... عَلَيْهَا وَإِنْ يَمْضُوا عَلَى الْحَقِّ قَصَّرَا
وَلَوْ قَالَ إِنَّ الْفِيلَ ضَبٌّ لَصَدَّقُوا ... وَلَوْ قَالَ زِنْجِيٌّ تَحَوَّلَ أَحَمَرَا
وَأَخْلَفَ مِنْ بَوْلِ الْبَعِيرِ فَإِنَّهُ ... إِذَا هُوَ لِلْإِقْبَالِ وُجِّهَ أَدْبَرَا
فَقُبِّحَ أَقْوَامٌ رَمَوْهُ بِفِرْيَةٍ ... كَمَا قَالَ فِي عِيسَى الْفِرَى مَنْ تَنَصَّرَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَهُوَ جِلْدُ جَفْرٍ، ادَّعُوا أَنَّهُ كَتَبَ فِيهِ لَهُمُ الْإِمَامُ كُلَّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَى عِلْمِهِ، وَكُلَّ مَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} 3 أَنَّهُ الْإِمَامُ، وَوَرِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمَهُ.
وَقَوْلُهُمْ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} 4 أَنَّهَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} 5 أَنه طَلْحَة وَالزُّبَيْر.
__________
1 وَفِي نُسْخَة: عَن.
2 هَارُونُ بْنُ سَعْدٍ الْعِجْلِيُّ: وَكَانَ رَأس الزيدية فِي أَيَّامه. من المتزهدين الْعلمَاء بِالْحَدِيثِ لَهُ شعر، خرج وَهُوَ شيخ كَبِير مَعَ إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن الْحسن الطَّالِبِيُّ، فولاه إِبْرَاهِيم الْقِتَال بواسط وَاسْتَعْملهُ عَلَيْهَا، وَاجْتمعَ عَلَيْهِ خلق كثير وَقَاتل جيوش الْمَنْصُور وَثَبت إِلَى أَن توفّي بِالْبَصْرَةِ عَام 145هـ.
3 الْآيَة 16 من سُورَة النَّحْل.
4 الْآيَة 67 من سُورَة الْبَقَرَة.
5 الْآيَة 73 من سُورَة الْبَقَرَة.
وَقَوْلهمْ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ: إِنَّهُمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَالْجِبْتُ وَالطَّاغُوتُ: إِنَّهُمَا مُعَاوِيَةُ1 وَعَمْرُو2 بْنُ الْعَاصِ، مَعَ عَجَائِبَ أَرْغَبُ3 عَنْ ذِكْرِهَا، وَيَرْغَبُ مَنْ بَلَغَهُ كِتَابُنَا هَذَا عَنِ اسْتِمَاعِهِ.
وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ يَقُولُ: مَا أَشْبَهُ تَفْسِيرِ الرَّافِضَةِ لِلْقُرْآنِ إِلَّا بِتَأْوِيلِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ لِلشِّعْرِ، فَإِنَّهُ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: مَا سَمِعْتُ بِأَكْذَبَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، زَعَمُوا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ:
بَيْتُ زُرَارَةَ مُحْتَبٍ بِفِنَائِهِ ... وَمُجَاشِعٌ وَأَبُو الْفَوَارِسِ نَهْشَلُ
أَنَّهُ فِي رِجَالٍ مِنْهُمْ، قِيلَ لَهُ: فَمَا تَقُولُ أَنْتَ فِيهِمْ4! قَالَ: الْبَيْتُ بَيْتُ اللَّهِ، وَزُرَارَةُ: الْحَجَرُ. قِيلَ: فَمُجَاشِعُ؟ قَالَ: زَمْزَمُ، جَشِعَتْ بِالْمَاءِ.
قِيلَ: فَأَبُو الْفَوَارِسِ؟ قَالَ: أَبُو قُبَيْسٍ.
قِيلَ لَهُ: فَنَهْشَلُ؟ قَالَ: نَهْشَلُ أَشَدُّهُ، وَفَكَّرَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: نَهْشَلُ مِصْبَاحُ الْكَعْبَةِ، لِأَنَّهُ طَوِيلٌ أَسْوَدُ، فَذَلِكَ نَهْشَلُ.
وَهُمْ أَكْثَرُ أَهْلِ الْبِدَعِ افْتِرَاقًا وَنِحَلًا.
بَعْضُ تَفَاسِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ:
فَمِنْهُمْ قَوْمٌ يُقَالُ لَهُمُ "الْبَيَانِيَّةُ" يُنْسَبُونَ إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ "بَيَانٌ" قَالَ لَهُمْ: إِلَيَّ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إِذْ قَالَ: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} 5 وَهُمْ أول من قَالَ بِخلق الْقُرْآن.
__________
1 مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان، أسلم زمن الْفَتْح، ولي الشَّام عشْرين سنة وَملك عشْرين سنة، وَكَانَ حَلِيمًا كَرِيمًا عَاقِلا حسن السياسة، وَكَانَ ذَا دهاء ورأي، توفّي فِي رَجَب سنة 60هـ.
2 عَمْرو بن الْعَاصِ: ولد عَام 50ق. هـ. فاتح مصر وَأحد عُظَمَاء الْعَرَب ودهاتهم وأولي الرَّأْي والحزم والمكيدة فيهم، كَانَ من أُمَرَاء الجيوش فِي الْجِهَاد بِالشَّام فِي زمن عمر، وَولي زمن مُعَاوِيَة على مصر. وَتُوفِّي بِالْقَاهِرَةِ 43هـ.
3 وَفِي نُسْخَة: ترغب.
4 وَلَعَلَّ الصَّوَاب "فِيهِ".
5 الْآيَة 138 من سُورَة آل عمرَان.
وَمِنْهُم الْمَنْصُورِيَّةُ 1
أَصْحَابُ أَبِي مَنْصُورٍ الْكِسَفِ وَكَانَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: فيَّ نَزَلَ قَوْلُهُ: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا} 2.
وَمِنْهُمُ الْخَنَّاقُونَ وَالشَّدَاخُونَ:
وَمِنْهُمُ الْغُرَابِيَّةُ:
وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرُوا أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ أَشْبَهَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ.
فَغَلِطَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ بُعِثَ إِلَى عَلِيٍّ لِشَبَهِهِ بِهِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَلَا نَعْلَمُ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ أَحَدًا ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ لِبِشْرٍ غَيْرَهُمْ.
فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَبَأٍ3 ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ لَعَلِيٍّ، فَأَحْرَقَ عَلِيٌّ أَصْحَابَهُ بِالنَّارِ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ:
لَمَّا رَأَيْتُ الْأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرًا
أَجَجْتُ نَارِي وَدَعَوْتُ فَنْبَرَا
وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا ادَّعَى النُّبُوَّةَ لِنَفْسِهِ غَيْرَهُمْ.
فَإِن الْمُخْتَار4 ابْن أَبِي عُبَيْدٍ، ادَّعَى النُّبُوَّةَ لِنَفْسِهِ وَقَالَ: إِن جِبْرِيل5
__________
1 أَصْحَاب أبي مَنْصُور الْعجلِيّ، وَقد زعم هَذَا أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الكسف السَّاقِط من السَّمَاء، وَرُبمَا قَالَ هُوَ الله تَعَالَى، وَزعم أَن الرُّسُل لَا تَنْقَطِع، وَزعم أَن الْجنَّة رجل أمرنَا الله تَعَالَى بموالاته، وَالنَّار رجل أمرنَا بمعاداته وَتَأَول الْفَرَائِض بِرِجَال أمرنَا بِمُوَالَاتِهِمْ ... إِلَخ.. من الضلال والمنكرات.
2 الْآيَة 44 من سُورَة الطّور.
3 عبد الله بن سبأ: رَأس الطَّائِفَة السبئية وَكَانَت تَقول بألوهية عَليّ. أَصله من الْيمن، قيل كَانَ يَهُودِيّا أظهر الْإِسْلَام، رَحل إِلَى الْحجاز فالبصرة فالكوفة فدمشق فَأخْرجهُ أَهلهَا، فَانْصَرف إِلَى مصر وجهر ببدعته. قَالَ ابْن حجر: هُوَ من غلاة الزَّنَادِقَة أَحسب أَن عليًّا حرقه بالنَّار توفّي 40هـ.
4 الْمُخْتَار ابْن أبي عبيد بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ ولد عَام 1هـ فِي الطَّائِف وَأحد الشجعان الأفذاذ وَمن زعماء الثائرين على بني أُميَّة، وَقد انتقم من قاتلي الْحُسَيْن بن عَليّ فَقتل مُعظم رؤوسهم وَقيل ادّعى النُّبُوَّة وَقتل آخر الْأَمر عَام 67هـ.
5 وَفِي نُسْخَة: جِبْرِيل يأتيني، وَمِيكَائِيل، فَصدقهُ.
وَمِيكَائِيل يَأْتِيَانِ إِلَى جِهَتِهِ، فَصَدَّقَهُ قَوْمٌ واتبعوه، وهم الكيسانية1.
__________
1 الكيسانية: أَصْحَاب كيسَان مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب، يَزْعمُونَ لَهُ الْعلم بالأسرار المقتبسة من مَوْلَاهُ، وَحَملهمْ ذَلِك على تَأْوِيل الْأَركان الشَّرْعِيَّة وَالْقَوْل بالتناسخ والحلول وَالرَّجْعَة بعد الْمَوْت.
شريف ابراهيم
شريف ابراهيم
نائب المدير العام
نائب المدير العام

عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تأويل مختلف الحديث الْمُقدمَات مُقَدّمَة الطبعة الثَّانِيَة Empty ذكر أَصْحَاب الحَدِيث:

مُساهمة من طرف شريف ابراهيم الخميس 27 يوليو 2017 - 15:58

ذكر أَصْحَاب الحَدِيث:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
فَأَمَّا أَصْحَابُ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُمُ الْتَمَسُوا الْحَقَّ مِنْ وِجْهَتِهِ، وَتَتَبَّعُوهُ مِنْ مَظَانِّهِ، وَتَقَرَّبُوا إِلَى1 اللَّهِ تَعَالَى بِاتِّبَاعِهِمْ سُنَنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَطَلَبِهِمْ لِآثَارِهِ وَأَخْبَارِهِ، بَرًّا وَبَحْرًا وَشَرْقًا وَغَرْبًا.
يَرْحَلُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ رَاجِلًا مُقَوِّيًا2 فِي طَلَبِ الْخَبَرِ الْوَاحِدِ، أَوِ السُّنَّةِ الْوَاحِدَةِ، حَتَّى يَأْخُذَهَا مِنَ النَّاقِلِ لَهَا مُشَافَهَةً.
ثُمَّ لَمْ يَزَالُوا فِي التَّنْقِيرِ عَنِ الْأَخْبَارِ وَالْبَحْثِ لَهَا، حَتَّى فَهِمُوا صَحِيحَهَا وَسَقِيمَهَا، وَنَاسِخَهَا وَمَنْسُوخَهَا، وَعَرَفُوا مَنْ خَالَفَهَا مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى الرَّأْيِ.
فَنَبَهُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى نَجَمَ3 الْحَقُّ بَعْدَ أَنْ كَانَ عَافِيًا، وَبَسَقَ4 بَعْدَ أَنْ كَانَ دَارِسًا5، وَاجْتَمَعَ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُتَفَرِّقًا، وَانْقَادَ لِلسُّنَنِ مَنْ كَانَ عَنْهَا مُعْرِضًا، وَتَنَبَّهَ عَلَيْهَا6 مَنْ كَانَ عَنْهَا غَافِلًا، وَحُكِمَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ كَانَ يُحْكَمُ بِقَوْلِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَإِنْ7 كَانَ فِيهِ خِلَافٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
1 وَفِي نُسْخَة: من الله.
2 أَي: نازلًا بالقفر من الأَرْض.
3 نجم: أَي ظهر.
4 بسق: أَي علا وارتفع.
5 دارسًا: مطموسًا لَا أثر لَهُ.
6 لَعَلَّ الْأَصَح: وتنبه لَهَا.
7 وَفِي نُسْخَة:؛ بِحَذْف "وَإِن".
تَمْيِيزُ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ لِلتَّحْذِيرِ فِيهَا:
وَقَدْ يَعِيبُهُمُ الطَّاعِنُونَ بِحَمْلِهِمُ الضَّعِيفَ، وَطَلَبِهِمُ الْغَرَائِبَ، وَفِي الْغَرِيبِ الدَّاءُ.
وَلَمْ يَحْمِلُوا الضَّعِيفَ وَالْغَرِيبَ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْهُمَا حَقًّا، بَلْ جَمَعُوا الْغَثَّ وَالسَّمِينَ وَالصَّحِيحَ وَالسَّقِيمَ، لِيُمَيِّزُوا بَيْنَهُمَا، وَيَدُلُّوا عَلَيْهِمَا، وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَالُوا فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ: "شُرْبُ الْمَاءِ عَلَى الرِّيقِ، يَعْقِدُ الشَّحْمَ"1 هُوَ مَوْضُوعٌ، وَضَعَهُ عَاصِمٌ الْكُوزِيُّ.
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّهُ كَانَ يَبْصُقُ فِي الدَّوَاةِ، وَيَكْتُبُ مِنْهَا". مَوْضُوعٌ، وَضَعَهُ عَاصِمٌ الْكُوزِيُّ.
قَالُوا: وَحَدِيثُ الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمْ يُجِزْ طَلَاقَ الْمَرِيضِ" مَوْضُوعٌ وَضَعَهُ سَهْلٌ السَّرَّاجُ.
قَالُوا: وَسَهْلٌ كَانَ2 يُرْوَى أَنَّهُ رَأَى الْحَسَنَ يُصَلِّي بَيْنَ سُطُورِ3 الْقُبُورِ.
وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْحَسَنَ رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ بَيْنَ الْقُبُورِ"4.
قَالُوا: وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَزَالُ الرَّجُلُ رَاكِبًا مَا دَامَ مُنْتَعِلًا" بَاطِلٌ، وَضَعَهُ أَيُّوبُ بْنُ خُوطٍ.
وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ "رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشَارُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمَ الْعِيدِ بِالْحِرَابِ" هُوَ بَاطِلٌ وَضَعَهُ الْمُنْذِرُ بْنُ زِيَادٍ.
__________
1 وَفِي إِسْنَاده: عَاصِم بن سُلَيْمَان، وَضاع. "الْفَوَائِد الْمَجْمُوعَة فِي الْأَحَادِيث الْمَوْضُوعَة للشوكاني ص 186 برقم 73".
2 وَفِي نُسْخَة: وَسَهل روى أَن الْحسن كَانَ يُصَلِّي.
3 سطور الْقُبُور: أَي صفوفها.
4 أخرجه التِّرْمِذِيّ: صَلَاة 141 وَابْن ماجة: مَسَاجِد 4.
وَحَدِيث بن أَبِي أَوْفَى "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمَسُّ لِحْيَتَهُ فِي الصَّلَاةِ" وَضَعَهُ الْمُنْذِرُ بْنُ زِيَادٍ.
وَحَدِيثُ يُونُسَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، "نَهَى عَنِ عَشْرِ كُنًى" مَوْضُوعٌ وَضَعَهُ أَبُو عِصْمَةَ، قَاضِي مَرْوَ.
وَقَالُوا فِي أَحَادِيثَ مَوْجُودَةٍ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ: لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ.
مِنْهَا: "مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ، خِفَّةُ عَارِضَيْهِ".
وَمِنْهَا: "سَمُّوهُمْ بِأَحَبِّ الْأَسْمَاءِ إِلَيْهِمْ" وَكَنُّوهُمْ بِأَحَبِّ الْكُنَى إِلَيْهِمْ".
وَمِنْهَا: "خَيْرُ تجاراتكم1 الْبَزُّ، وَخَيْرُ أَعْمَالِكُمُ الْخَرْزُ".
وَمِنْهَا: "لَوْ صَدَقَ السَّائِلُ، مَا أَفْلَحَ مَنْ رَدَّهُ".
وَمِنْهَا: "النَّاسُ أَكْفَاءٌ إِلَّا حَائِكًا، أَوْ حَجَّامًا" مَعَ حَدِيثٍ كَثِيرٍ، لَا يُحَاطُ بِهِ2، قَدْ رَوُوهُ، وَأَبْطَلُوهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي أَحَادِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "مَنْ قَرَأَ سُورَةَ كَذَا، فَلَهُ كَذَا، وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ كَذَا فَلَهُ كَذَا" أَظُنُّ الزَّنَادِقَةَ، وَضَعَتْهُ.
وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي يُشَنَّعُ بِهَا عَلَيْهِمْ مِنْ عَرَقِ الْخَيْلِ، وَزَغَبِ الصَّدْرِ، وَقَفَصِ الذَّهَبِ، وَعِيَادَةِ الْمَلَائِكَةِ، هِيَ كُلُّهَا بَاطِلٌ، لَا طُرُقَ لَهَا، وَلَا رُوَاةَ، وَلَا نَشُكُّ فِي وَضْعِ الزَّنَادِقَةِ لَهَا.
تَأْوِيلُ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُشْكِلَةِ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَقَدْ جَاءَتْ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ، مِثْلَ: "قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بَين أصبعين من أَصَابِع الرَّحْمَن"3.
__________
1 وَفِي نُسْخَة: تجارتكم.
2 وَفِي نُسْخَة: لَا نحيط.
3 تقدم ص54.
و"إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ"1 وَ"كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِين" "وَيحمل2 اللَّهُ الْأَرْضَ عَلَى أُصْبُعٍ وَيَجْعَلُ كَذَا عَلَى أُصْبُعٍ"3.
وَ"لَا تَسُبُّوا الرِّيحَ، فَإِنَّهَا مِنْ نفَس الرَّحْمَنِ"4،
وَ"كَثَافَةُ جِلْدِ الْكَافِرِ فِي النَّارِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، بِذِرَاعِ الْجَبَّارِ"5.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَلِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَخَارِجُ، سَنُخْبِرُ بِهَا فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَرُبَّمَا نَسِيَ الرَّجُلُ مِنْهُمُ الْحَدِيثَ قَدْ حَدَّثَ بِهِ، وَحُفِظَ عَنْهُ وَيُذَاكَرُ بِهِ، فَلَا يَعَرِفُهُ، وَيُخْبَرُ بِأَنَّهُ قَدْ حَدَّثَ بِهِ، فَيَرْوِيهِ عَمَّنْ سَمِعَهُ مِنْهُ، ضَنًا بِالْحَدِيثِ الْجَيِّدِ، وَرَغْبَةً فِي السُّنَّةِ، كَرِوَايَةِ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ"6.
قَالَ رَبِيعَةُ: ثُمَّ ذَاكَرْتُ سُهَيْلًا بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَلَمْ يَحْفَظْهُ، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، يَرْوِيهِ عَنْ نَفْسِهِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَكَرِوَايَةِ وَكِيعٍ وَأَبِي مُعَاوِيَةَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ حَدِيثَيْنِ:
أَحدهمَا: عَن بن أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: حدّثنَاهُ مُحَمَّد بن7 هَارُون
__________
1 تقدم ص54.
2 وَفِي نُسْخَة: وَيجْعَل.
3 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "إِن الله يمسك السَّمَوَات على أصْبع" فِي البُخَارِيّ: تَوْحِيد 19 و26 و36، وَمُسلم: المُنَافِقُونَ 19 و21، وَالتِّرْمِذِيّ: تَفْسِير سُورَة 39/ 2.
4 أخرجه أَحْمد: 2/ 250 و268 و409 و437، وَالتِّرْمِذِيّ: فتن 65، وَابْن ماجة: أدب 29.
5 وَجَدْنَاهُ بِلَفْظ: "وكثافة جلده اثْنَان وَأَرْبَعُونَ ذِرَاعا" من مُسْند أَحْمد 2/ 334 و537.
6 أخرجه أَبُو دَاوُد: أقضية 21، وَالتِّرْمِذِيّ: أَحْكَام 13، وَابْن ماجة: أَحْكَام 31، والموطأ: أقضية 5 و6 و7، وَأحمد 3/ 305 و5/ 285.
7 مُحَمَّد بن هَارُون: هُوَ أَبُو عِيسَى الْوراق باحث معتزلي من أهل بَغْدَاد، ووفاته فِيهَا عَام 247هـ. لَهُ تصانيف مِنْهَا: "المقالات فِي الإمامية"، وَكتاب "الْمجَالِس" نقل عَنهُ المَسْعُودِيّ.
قَالَ: نَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: نَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَة، عَن بن أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا، وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} 1 قَالَ: تَدُورُ دَوْرًا.
وَعَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مِنْ صَيَاصِيهِمْ} 2 قَالَ: الْحُصُونُ.
فَسُئِلَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْهُمَا، فَلَمْ يَعْرِفْهُمَا، وَحَدَّثَ ابْنُ عُيَيْنَةَ بِهِمَا عَنْهُمَا، عَنْ نَفْسِهِ,
وَرَوَى ابْنُ3 عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ4 دِينَارٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى طَلَاقَ الْمُكْرَهِ شَيْئًا فَسَأَلَ عَنْهُ ابْنَ عُيَيْنَةَ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ، ثُمَّ حَدَّثَ بِهِ بَعْدُ عَن بن عُلَيَّةَ عَنْ نَفْسِهِ.
التَّنْبِيهُ إِلَى الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَكَانَ مُعْتَمِرُ بْنُ5 سُلَيْمَانَ يَقُولُ: حَدَّثَنِي مُنْقِذٌ عَنِّي، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: "وَيْحُ" كَلِمَةُ رَحْمَةٍ.
وَقَدْ نَبَّهُوا عَلَى الطُّرُقِ الضِّعَافِ، كَحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ6 سَعِيدٍ، عَن
__________
1 الْآيَة 9 من سُورَة الطّور.
2 الْآيَة 26 من سُورَة الْأَحْزَاب.
3 ابْن علية: إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن مقسم الْأَسدي بِالْوَلَاءِ، أَبُو بشر من أكَابِر حفاظ الحَدِيث كُوفِي الأَصْل، ولد عَام 110 هـ تَاجر، كَانَ حجَّة فِي الحَدِيث ثِقَة مَأْمُونا وَتُوفِّي بِبَغْدَاد فِي عَام 193هـ.
4 عَمْرو بن دِينَار بن شُعَيْب الْبَصْرِيّ أَبُو يحيى الْأَعْوَر قهرمان آل الزبير، لَيْسَ بِثِقَة "تَهْذِيب التَّهْذِيب" "8/ 30" "الْخُلَاصَة 345".
5 مُعْتَمر بن سُلَيْمَان بن طرخان "من موَالِي بني مرّة" مُحدث الْبَصْرَة فِي عصره. انْتقل إِلَيْهَا من الْيمن. ولد عَام 106هـ وَكَانَ حَافِظًا ثِقَة، حدث عَنهُ كَثِيرُونَ وَتُوفِّي عَام 187هـ.
6 حصل تَصْحِيف فِي الِاسْم، وَالصَّحِيح عَمْرو بن شُعَيْب، وَهَذِه مَجْمُوعَة أَحَادِيث مَشْهُورَة تروى بِهَذَا الْإِسْنَاد، وفيهَا إِشْكَال مَعْرُوف، أما عَمْرو بن سعيد بن أُميَّة بن عبد شمس الْأمَوِي فَلَا يجوز نِسْبَة هَذَا إِلَيْهِ، لِأَن جده الْعَاصِ قتل كَافِرًا ببدر، وَأما أَبوهُ سعيد بن الْعَاصِ فقد كَانَ تسع سِنِين عِنْد وَفَاة النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -مُحَمَّد بدير.
أَبِيه، عَنْ جَدِّهِ لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ عِنْدَهُمْ مِنْ كِتَابٍ.
وَكَانَ مُغِيرَةُ، لَا يَعْبَأُ بِحَدِيثِ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، وَلَا بِحَدِيثِ خِلَاسٍ، وَلَا بِصَحِيفَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو1.
وَقَالَ مُغِيرَةُ: كَانَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو صَحِيفَةٌ، تُسَمَّى الصَّادِقَةَ مَا تَسُرُّنِي أَنَّهَا لِي بِفِلْسَيْنِ.
وَقَالَ: حَدِيثُ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَلِيٍّ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ أَصْحَابِ عَلِيٍّ عَنْهُ.
وَقَالَ شُعْبَةُ: لأنْ أَزْنِي كَذَا وَكَذَا زَنْيَةً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ أَبَانَ بْنِ أبي عَيَّاش2.
__________
1 عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ السَّهْمِي، بَينه وَبَين أَبِيه إِحْدَى عشرَة سنة كَانَ يلوم أَبَاهُ على الْقِتَال فِي الْفِتْنَة بأدب وتؤدة وَتُوفِّي سنة 65هـ روى كثيرا من الْأَحَادِيث.
2 ورد فِي الْأَسْرَار المرفوعة فِي الْأَخْبَار الْمَوْضُوعَة للعلامة نور الدَّين عَليّ بن مُحَمَّد بن سُلْطَان الْمَشْهُور بالملا عَليّ الْقَارِي، تَحْقِيق الدكتور مُحَمَّد لطفي الصّباغ ص410 ط1971م - 1391هـ "مؤسسة الرسَالَة" مَا يَلِي:
وَقد حكى السُّيُوطِيّ عَن ابْن الْجَوْزِيّ أَن من وَقع فِي حَدِيثه الْمَوْضُوع وَالْكذب وَالْقلب أَنْوَاع:
- وَمِنْهُم: من غلب عَلَيْهِم الزّهْد فَغَفَلَ عَن الْحِفْظ أَو ضَاعَت كتبه فَحدث من حفظه فغلط فِي نَقله.
- وَمِنْهُم: قمم ثِقَات، لَكِن اخْتلطت عُقُولهمْ أَوَاخِر أعمارهم.
- وَمِنْهُم: من روى الْخَطَأ سَهوا، فَلَمَّا رأى الصَّوَاب، وأيقن بِهِ لم يرجع أَنَفَة أَن ينسبوه إِلَى الْغَلَط.
- وَمِنْهُم: زنادقة وضعُوا قصدا إِلَى إِفْسَاد الشَّرِيعَة، وإيقاع الشَّك والتلاعب بِالدّينِ، وَقد كَانَ بعض الزَّنَادِقَة يتغفل الشَّيْخ فيدس فِي كِتَابه مَا لَيْسَ من حَدِيثه.
- وَمِنْهُم: من يضع لنصرة مذْهبه.
- وَمِنْهُم: من أجَاز وضع الْأَسَانِيد لكَلَام حسن.
- وَمِنْهُم: من قصد التَّقَرُّب إِلَى السُّلْطَان.
- وَمِنْهُم: الْقصاص لأَنهم يُرِيدُونَ أَحَادِيث ترقق وتنفق.
وَمن الْقَوَاعِد الْكُلية أَن نقل الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة والمسائل الْفِقْهِيَّة، والتفاسير القرآنية لَا يجوز إِلَّا من الْكتب المتداولة لعدم الِاعْتِمَاد على غَيرهَا من وضع الزَّنَادِقَة وإلحاق الْمَلَاحِدَة، بِخِلَاف الْكتب المحفوظة فَإِن نسخهَا تكون صَحِيحَة مُتعَدِّدَة.
ضعفهم بِاللُّغَةِ وَالْمَعْرِفَةِ:
وَأَمَّا طَعْنُهُمْ عَلَيْهِمْ بِقِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ لِمَا يَحْمِلُونَ، وَكَثْرَةِ اللَّحْنِ وَالتَّصْحِيفِ، فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَتَسَاوُونَ جَمِيعًا فِي الْمَعْرِفَةِ وَالْفَضْلِ، وَلَيْسَ صِنْفٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا وَلَهُ حَشْوٌ وَشَوْبٌ.
فَأَيْنَ هَذَا العائب لَهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَعْلَمِ النَّاسِ بِكُلِّ فَنٍّ، وَحَمَّادِ بْنِ1 سَلَمَةَ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَابْنِ عَوْنٍ، وَأَيُّوبَ، وَيُونُسَ بْنِ2 عُبَيْدٍ، وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ3 سَعِيدٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ4، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَشُعْبَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمُتْقِنِينَ؟
الْمُنْفَرِدُ بِفَنٍّ لَا يُعَابُ بِالزَّلَلِ فِي غَيْرِهِ:
عَلَى أَنَّ الْمُنْفَرِدَ بِفَنٍّ مِنَ الْفُنُونِ، لَا يُعَابُ بِالزَّلَلِ فِي غَيْرِهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُحَدِّثِ عَيْبٌ أَنْ يَزِلَّ فِي الْإِعْرَابِ، وَلَا عَلَى الْفَقِيهِ أَنْ يَزِلَّ فِي الشِّعْرِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ ذِي عِلْمٍ أَنْ يُتْقِنَ فَنَّهُ، إِذَا احْتَاجَ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهِ، وَانْعَقَدَتْ لَهُ الرِّئَاسَةُ بِهِ.
وَقَدْ يَجْتَمِعُ لِلْوَاحِدِ عُلُومٌ كَثِيرَةٌ، وَاللَّهُ يُؤْتِي الْفضل من يَشَاء.
__________
1 حَمَّاد بن سَلمَة بن دِينَار الْبَصْرِيّ الربعِي بِالْوَلَاءِ، أَبُو سَلمَة مفتي الْبَصْرَة، وَأحد رجال الحَدِيث، وَمن النُّحَاة، كَانَ حفاظًأ ثِقَة مَأْمُونا إِلَّا أَنه لما كبر سَاءَ حفظه فَتَركه البُخَارِيّ، أما مُسلم فاجتهد وَأخذ من حَدِيثه بعض مَا سمع مِنْهُ قبل تغيره، وَكَانَ فَقِيها فصيحًا مفوهًا شَدِيدا على المبتدع توفّي 167هـ.
2 يُونُس بن عبيد بن دِينَار الْعَبْدي بِالْوَلَاءِ، الْبَصْرِيّ. من حفاظ الحَدِيث الثِّقَات، من أَصْحَاب الْحسن الْبَصْرِيّ، كَانَ من أهل الْبَصْرَة يَبِيع بهَا الْخَزّ ونعته الذَّهَبِيّ بِأحد أَعْلَام الْهدى توفّي 139هـ.
3 يحيى بن سعيد بن قيس الْأنْصَارِيّ البُخَارِيّ قَاض من أكَابِر أهل الحَدِيث من أهل الْمَدِينَة. قَالَ الجُمَحِي: مَا رَأَيْت أقرب شبها من الزُّهْرِيّ من يحيى بن سعيد، ولولاهما لذهب كثير من السّنَن. توفّي عَام 143هـ.
4 ابْن جريج: هُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج فَقِيه الْحرم الْمَكِّيّ كَانَ إِمَام أهل الْحجاز فِي عصره، ولد عَام 80هـ وَهُوَ أول من صنف التصانيف فِي الْعلم بِمَكَّة توفّي 150هـ.
وَقَدْ قِيلَ لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَكَانَ فِي الْفُتْيَا وَلُطْفِ النَّظَرِ وَاحِدُ زَمَانِهِ1، مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ تَنَاوَلَ صَخْرَةً فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَ رَجُلٍ فَقَتَلَهُ، أَتَقِيدُهُ بِهِ؟
فَقَالَ: لَا، وَلَوْ رَمَاهُ بِأَبَا2 قُبَيْسٍ.
وَكَانَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ يَقُولُ لِجُلَسَائِهِ: قَضَى اللَّهُ لَكُمُ الْحَوَائِجَ، عَلَى أَحْسَنِ الْأُمُورِ، وَأَهْنَؤُهَا3.
فَنَظَرَ قَاسِمٌ التَّمَّارُ قَوْمًا يَضْحَكُونَ، مِنْ قَوْلِ بِشْرٍ4.
فَقَالَ: هَذَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّ سُلَيْمَى وَاللَّهِ يَكْلَؤُهَا ... ضَنَّتْ بِشَيْءٍ مَا كَانَ يَرْزَؤُهَا
وَبِشْرٌ رَأْسٌ فِي الرَّأْيِ، وَقَاسِمٌ التَّمَّارُ مُتَقَدِّمٌ فِي أَصْحَابِ الْكَلَامِ وَاحْتِجَاجُهُ لِبِشْرٍ أَعْجَبُ مِنْ لَحْنِ بِشْرٍ.
وَقَالَ بِلَالٌ لِشَبِيبِ بْنِ5 شَيْبَةَ، وَهُوَ يَسْتَعْدِي6 عَلَى عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ: أَحْضِرْنِيهِ فَقَالَ: قَدْ دَعَوْتُهُ، فكلَّ ذَلِكَ يَأْبَى عَلَي، قَالَ بِلَال: فالذنب لكل7.
__________
1 عَاد الْمُؤلف هُنَا إِلَى إنصاف أبي حنيفَة وَالشَّهَادَة لَهُ بِمَا هُوَ لَهُ أهل، وَهَذَا الْحق الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الْعلمَاء، ويدحض مَا سبق من انتقاص.
2 وَالصَّحِيح: بِأبي قيس. لِأَن الْأَسْمَاء الْخَمْسَة تجر بِالْيَاءِ.
3 وَالصَّحِيح: وأهنئها، بِكَسْر الْهمزَة المتوسطة لعطفها على مجرور.
4 بشر المريسي: ابْن غياث، فَقِيه معتزلي عَارِف بالفلسفة يرْمى بالزندقة هُوَ رَأس طَائِفَة المريسية القائلة بالإرجاء، وَقَالَ بِرَأْي الْجَهْمِية وأوذي فِي دولة هَارُون الرشيد وَهُوَ من أهل بَغْدَاد توفّي عَام 218هـ.
5 شبيب بن شيبَة بن عبد الله التَّمِيمِي، أديب الْمُلُوك وجليس الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين من أهل الْبَصْرَة توفّي 170هـ.
6 يَسْتَعْدِي: أَي يَسْتَعِين عَلَيْهِ.
7 يَعْنِي بِهِ الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ فِي التَّعْبِير بِلَفْظ: "كل" فِي قَوْله: "فَكل ذَلِك" لِأَنَّهَا لَا تدخل إِلَّا على ذِي أَفْرَاد أَو أَجزَاء، والحضور فِي مجْلِس الحكم لَيْسَ كَذَلِك "قَالَه الأسعردي".
وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ إِلَّا وَقَدْ أَسْقَطَ1 فِي عِلْمِهِ كَالْأَصْمَعِيِّ، وَأَبِي زَيْدٍ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَسِيبَوَيْهِ2، وَالْأَخْفَشِ3، وَالْكِسَائِيِّ4، وَالْفَرَّاءِ5، وَأَبِي6 عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، وَكَالْأَئِمَّةِ مِنْ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَالْأَئِمَّةِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقَدْ أَخَذَ النَّاسُ عَلَى الشُّعَرَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ الْخَطَأَ فِي الْمَعَانِي وَفِي الْإِعْرَابِ، وَهُمْ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَبِهِمْ يَقَعُ الْاحْتِجَاجُ.
فَهَلْ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ فِي سَقَطِهِمْ إِلَّا كَصِنْفٍ مِنَ النَّاسِ؟
عَلَى أَنَّا لَا نُخَلِّي أَكْثَرَهُمْ مِنَ الْعَذْلِ7 فِي كُتُبِنَا، فِي تَرْكِهِمُ الْاشْتِغَالَ بِعِلْمِ مَا قَدْ كَتَبُوا، وَالتَّفَقُّهَ بِمَا جَمَعُوا وَتَهَافُتِهِمْ عَلَى طَلَبِ الْحَدِيثِ مِنْ عَشْرَةِ أَوْجُهٍ، أوعشرين وَجْهًا.
وَقَدْ كَانَ فِي الْوَجْهِ الْوَاحِدِ الصَّحِيحِ، وَالْوَجْهَيْنِ مَقْنَعٌ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِعِلْمِهِ، حَتَّى تَنْقَضِيَ أَعْمَارُهُمْ، وَلَمْ يَحِلُّوا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِأَسْفَارٍ8 أَتْعَبَتِ الطَّالِب، وَلم تَنْفَع الْوَارِث.
__________
1 أسقط: أَي وَقع فِي السقط: أَي الْخَطَأ.
2 سِيبَوَيْهٍ: عَمْرو بن عُثْمَان بن قنبر الْحَارِث بِالْوَلَاءِ ولد فِي إِحْدَى قرى شيراز عَام 148هـ، وَهُوَ إِمَام النُّحَاة، وَأول من بسط علم النَّحْو وصنف كِتَابه الْمُسَمّى "كتاب سِيبَوَيْهٍ فِي النَّحْو" توفّي شَابًّا عَام 180هـ.
3 الْأَخْفَش: هَارُون بن مُوسَى بن شريك التغلبي، شيخ الْقُرَّاء بِدِمَشْق ولد عَام 201هـ، كَانَ عَارِفًا بالنحو وَالتَّفْسِير والمعاني والغريب وَالشعر وصنف كتبا فِي الْقرَاءَات توفّي 292هـ.
4 الْكسَائي: عَليّ بن حَمْزَة بن عبد الله الْأَسدي بِالْوَلَاءِ الْكُوفِي، إِمَام فِي النَّحْو واللغة وَالْقِرَاءَة، ولد فِي إِحْدَى قراها سكن بَغْدَاد وَتُوفِّي بِالريِّ عَام 189هـ.
5 الْفراء: يحيى بن زِيَاد بن عبد الله بن مَنْظُور الديملي، إِمَام الْكُوفِيّين وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الْأَدَب. كَانَ مَعَ تقدمه فِي اللُّغَة فَقِيها متكلمًا عَالما بأيام الْعَرَب ولد عَام 144هـ وَتُوفِّي 207هـ.
6 أَبُو عَمْرو الشَّيْبَانِيّ: إِسْحَاق بن مرار الشَّيْبَانِيّ بِالْوَلَاءِ. لغَوِيّ أديب، ولد بِالْكُوفَةِ عَام 94هـ وَسكن بَغْدَاد، جمع أشعار نَيف وَثَمَانِينَ قَبيلَة من الْعَرَب، أَخذ عَنهُ جمَاعَة من كبار الْعلمَاء توفّي 206هـ.
7 العذل: اللوم.
8 جمع سفر: وَهُوَ الْكتاب.
فَمَنْ كَانَ مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ، فَهُوَ عِنْدَنَا مُضَيِّعٌ لِحَظِّهِ، مُقْبِلٌ عَلَى مَا كَانَ غَيْرُهُ أَنْفَعَ لَهُ مِنْهُ.
وَقَدْ لَقَّبُوهُمْ بِالْحَشْوِيَّةِ، وَالنَّابِتَةِ، وَالْمُجَبِّرَةِ، وَرُبَّمَا قَالُوا: الْجَبْرِيَّةَ.
وَسَمَّوْهُمُ الْغُثَاءَ1 وَالْغُثْرَ2.
عُيُوبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ بَسِيطَةٌ لَا تُقَارَنُ بِغَيْرِهِمْ:
وَهَذِهِ كُلُّهَا أَنْبَازٌ3 لَمْ يَأْتِ بِهَا خَبَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا أَتَى عَنْهُ فِي الْقَدَرِيَّةِ: "أَنَّهُمْ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَإِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوا جَنَائِزَهُمْ" 4.
وَفِي الرَّافِضَةِ: بِرِوَايَةِ مَيْمُون بن مهْرَان عَن بن عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " يَكُونُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، يُسَمَّوْنَ الرَّافِضَةَ، يَرْفُضُونَ الْإِسْلَامَ وَيَلْفِظُونَهُ، فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّهُمْ مُشْرِكُونَ" 5.
وَفِي الْمُرْجِئَةِ: "صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي، لَا تَنَالُهُمْ شَفَاعَتِي، لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ سَبْعِينَ نَبِيًّا: الْمُرْجِئَةُ، وَالْقَدَرِيَّةُ"6.
وَفِي الْخَوَارِجِ: "يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمْيَةِ، وَهُمْ كِلَابُ أهل النَّار" 7.
__________
1 الغثاء: مَا يَجِيء فَوق السَّيْل من الزّبد والأوساخ، وينصرف هُنَا -على الْمجَاز- إِلَى الوضيع من النَّاس الَّذِي لَا قيمَة لَهُ.
2 الغثر: جمع أغثر وهم سفلَة النَّاس وَأَرَاذِلهمْ.
3 أنباز: أَي ألقاب.
4 أخرجه أَبُو دَاوُد: سنة 16، وَأحمد: 2/ 86 و5/ 407.
5 وجدنَا الحَدِيث فِي مُسْند أَحْمد 1/ 103 بِلَفْظ: "يظْهر فِي آخر الزَّمَان قوم يسمون الرافضة يرفضون الْإِسْلَام".
6 ورد فِي ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير برقم 3495 وسلسلة الْأَحَادِيث الضعيفة 662 للألباني.
7 أخرجه البُخَارِيّ: أَنْبيَاء 6 ومناقب 25 وَمَغَازِي 61 وفضائل الْقُرْآن 36 وأدب 95 وتوحيد 23 و57 واستتابة 95، وَمُسلم: زَكَاة 142 و144 و147 و148، وَسنَن أبي دَاوُد سنة 28، وَسنَن التِّرْمِذِيّ: فتن 24، وَالنَّسَائِيّ: زَكَاة 79 وَتَحْرِيم 26، وَابْن ماجة: مُقَدّمَة 12 والدارمي: مُقَدّمَة 21، والموطأ: مس الْقُرْآن 10.
فَهَذِهِ أَسْمَاءٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتِلْكَ أَسْمَاءٌ مَصْنُوعَةٌ.
وَقَدْ يَحْمِلُ بَعْضَهُمُ الْحَمِيَّةُ عَلَى أَنْ يَقُولَ: الْجَبْرِيَّةُ، هُمُ الْقَدَرِيَّةُ.
وَلَوْ كَانَ هَذَا الْاسْمُ يَلْزَمُهُمْ، لَاسْتَغْنَوْا بِهِ عَنِ الْجَبْرِيَّةِ.
وَلَوْ سَاغَ هَذَا لِأَهْلِ الْقَدَرِ، لَسَاغَ مِثْلُهُ لِلرَّافِضَةِ، وَالْخَوَارِجِ، وَالْمُرْجِئَةِ، وَقَالَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ لِأَهْلِ الْحَدِيثِ مِثْلَ الَّذِي قَالَتْهُ الْقَدَرِيَّةُ.
وَالْأَسْمَاءُ لَا تَقَعُ غَيْرَ مَوَاقِعِهَا، وَلَا تَلْزَمُ إِلَّا أَهْلَهَا.
وَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ الصَّيَاقِلَةُ هُمُ الْأَسَاكِفَةُ، وَالنَّجَّارُ هُوَ الْحَدَّادُ.
وَالْفِطْرَةُ الَّتِي فُطِرَ الناسُ عَلَيْهَا، وَالنَّظَرُ، يُبْطِلُ مَا قَذَفُوهُمْ بِهِ1.
أَمَّا الْفِطَرُ، فَإِنَّ رَجُلًا لَوْ دَخَلَ الْمِصَرَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ فِيهِ، أَوِ الْمُرْجِئَةِ، لَدَلَّهَ الصَّبِيُّ وَالْكَبِيرُ، وَالْمَرْأَةُ وَالْعَجُوزُ، وَالْعَامِّيُّ وَالْخَاصِّيُّ، وَالْحَشْوَةُ وَالرَّعَاعُ، عَلَى الْمُسَمِّينَ بِهَذَا الْاسْمِ، وَلَوِ اسْتَدَلَّ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، لَدَلُّوهُ عَلَى أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.
وَلَوْ مَرَّتْ جَمَاعَةٌ فِيهِمُ الْقَدَرِيُّ، وَالسُّنِّيُّ، وَالرَّافِضِيُّ، وَالْمُرْجِئُ، وَالْخَارِجِيُّ، فَقَذَفَ رَجُلٌ الْقَدَرِيَّةَ، أَوْ لَعَنَهُمْ، لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ بِالشَّتْمِ أَوِ اللَّعْنِ عِنْدَهُمْ، أَصْحَابَ الْحَدِيثِ. هَذَا أَمْرٌ، لَا يَدْفَعُهُ دَافِعٌ، وَلَا يُنْكِرُهُ مُنْكِرٌ.
وَأَمَّا النَّظَرُ، فَإِنَّهُمْ أَضَافُوا الْقَدَرَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَغَيْرُهُمْ يَجْعَلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى، دُونَ نَفْسِهِ. وَمُدَّعِي الشَّيْءَ لِنَفْسِهِ، أَوْلَى بِأَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ، مِمَّنْ جَعَلَهُ لِغَيْرِهِ.
وَلِأَنَّ الْحَدِيثَ جَاءَنَا: "بِأَنَّهُمْ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ"2 وهم أشبه قوم
__________
1 قذفوهم: أَي رموهم.
2 الحَدِيث: "إِن لكل أمة مجوسًا، وَإِن مجوس هَذِه الْأمة: الْقَدَرِيَّة، فَلَا تعودوهم إِن مرضوا، وَلَا تصلوا عَلَيْهِم إِن مَاتُوا" "الْفَوَائِد الْمَجْمُوعَة فِي الْأَحَادِيث الْمَوْضُوعَة ص502" وَفِي إِسْنَاده: جَعْفَر بن الْحَارِث، وَلَيْسَ بِشَيْء، وَله طرق أوردهَا صَاحب اللآلئ وَأطَال الْكَلَام، ورد على ابْن الْجَوْزِيّ حَيْثُ زعم أَنه مَوْضُوع فَليُرَاجع.
بالمجوس، لِأَنَّ الْمَجُوسَ تَقُولُ بِإِلَهَيْنِ، وَإِيَّاهُمْ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 1.
هَفَوَاتُ الْقَدَرِيَّةِ وَضَلَالُهُمْ:
وَقَالَتِ الْقَدَرِيَّةُ: نَحْنُ نَفْعَلُ مَا لَا يُرِيدُ اللَّهُ تَعَالَى، وَنَقْدِرُ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ.
وَبَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ الْكَلَامِ، قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ: "أَلَّا تُسْلِمُ يَا فُلَانُ"؟
فَقَالَ: حَتَّى يُرِيدَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَقَالَ لَهُ: قَدْ أَرَادَ اللَّهُ، وَلَكِنَّ إِبْلِيسَ لَا يَدَعُكَ.
فَقَالَ لَهُ الذِّمِّيُّ: فَأَنَا مَعَ أَقْوَاهُمَا.
وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُرَيْشُ بْنُ أَنَسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ يَقُولُ: يُؤْتَى بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأُقَامُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ فَيَقُولُ لِي: لِمَ قُلْتَ: إِنَّ الْقَاتِلَ فِي النَّارِ؟
فَأَقُولُ: أَنْتَ قُلْتَهُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} 2.
قُلْتُ لَهُ -وَمَا فِي الْبَيْتِ أَصْغَرُ مِنِّي: أَرَأَيْتَ إِنْ قَالَ لَكَ قَدْ قَلْتُ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3 مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ أَنِّي لَا أَشَاءُ أَنْ أَغْفِرَ؟
قَالَ: فَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَرُدَّ عليَّ شَيْئًا.
حَدَّثَنِي أَبُو الْخَطَّابِ قَالَ: نَا دَاوُدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمفضل4
__________
1 الْآيَة 51 من سُورَة النَّحْل.
2 الْآيَة 93 من سُورَة النِّسَاء.
3 الْآيَة 116 من سُورَة النِّسَاء.
4 مُحَمَّد بن الْمفضل بن سَلمَة الضَّبِّيّ: فَقِيه شَافِعِيّ من أهل بَغْدَاد لَهُ تصانيف توفّي عَام 390هـ.
عَن مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ جَامِعٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ أَطُوفُ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْبَيْتِ، فَأَتَى الْمُلْتَزِمُ، بَيْنَ الْبَابِ وَالْحِجْرِ، فَأَلْصَقَ بِهِ بَطْنَهُ، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَضَيْتَهُ عليَّ، وَلَا تَغْفِرُ لِي مَا لَمْ تَقِضْهِ عليَّ".
وَحَدَّثَنِي سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: نَا الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ1، قَالَ: سَمِعَ الْفَضْلُ الرَّقَاشِيُّ2 رَجُلًا يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مُسْلِمًا".
فَقَالَ: هَذَا مُحَالٌ، فَقَالَ الرَّجُلُ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} 3.
وَحَدَّثَنِي سَهْلٌ قَالَ: نَا الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ الْمَدَنِيِّ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: "الْعِبَادُ أَذَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ هُوَ كَارِهٌ أَنْ يَكُونَ".
وَحَدَّثَنِي سَهْلٌ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ قَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو: أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَلِلَّهِ عَلَيْنَا الْحُجَّةُ، وَمَنْ قَالَ: تَعَالَ أُخَاصِمَكَ، قُلْتُ لَهُ: أَعِزْ عَنَّا نَفْسَكَ.
وَحَدَّثَنِي أَبُو الْخَطَّابِ قَالَ: نَا أَبُو دَاوُدَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ: سَمِعت الْحجَّاج يخْطب، وَهُوَ بـ "وَاسِط"، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَرِنِي الْهُدَى هُدًى فَأَتْبَعُهُ، وَأَرِنِي الضَّلَالَةَ ضَلَالَةً فَأَجْتَنِبُهَا، وَلَا تُلُبِسْ عليَّ هُدَايَ فأضلَّ ضلالا بَعيدا.
__________
1 معَاذ بن معَاذ بن نصر بن حسان الْعَنْبَري التَّيْمِيّ قَاض بَصرِي من الْأَثْبَات فِي الحَدِيث قَالَ ابْن حَنْبَل: مَا رَأَيْت أَعقل من معَاذ كَأَنَّهُ صَخْرَة ولد عَام 119هـ وَتُوفِّي بِالْبَصْرَةِ عَام 196هـ.
2 الْفضل الرقاشِي: بن عبد الصَّمد بن الْفضل شَاعِر مجيد، من أهل الْبَصْرَة، فَارسي الأَصْل انْتقل إِلَى بَغْدَاد مدح الْخُلَفَاء وَكَانَت بَينه وَبَين أبي نواس مهاجاة ومباسطة توفّي 200هـ.
3 الْآيَة 128 من سُورَة الْبَقَرَة.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} 1.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ الْقَيْسِيُّ -وَكَانَ مِنَ الْبَكَّائِينَ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهُ- سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ أَبِي عَرُوبَةَ يَقُولُ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ هِيَ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ قَوْلِ مُوسَى: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} 2.
فَقُلْتُ لَهُ: فَالْقُرْآنُ يَشْتَدُّ عَلَيْكَ، وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ كَلِمَةً أَبَدًا، فَمَا كَلَّمْتُهُ3 حَتَّى مَاتَ.
طَعْنُ الْقَدَرِيَّةِ بِالثِّقَاتِ:
وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشَّهِيدِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ النَّضْرِ قَالَ: مَرَرْتُ بِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَذَكَرَ شَيْئًا، فَقُلْتُ: مَا هَكَذَا يَقُولُ أَصْحَابُنَا.
قَالَ: وَمَنْ أَصْحَابُكَ؟
قُلْتُ: أَيُّوبُ، وَابْنُ عَوْنٍ، وَيُونُسُ، وَالتَّيْمِيُّ.
فَقَالَ: أُولَئِكَ أَرْجَاسٌ أَنْجَاسٌ، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ:
وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ، غُرَّةُ أَهْلِ زَمَانِهِمْ، فِي الْعِلْمِ، وَالْفِقْهِ، وَالْاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ، وَطِيبِ الْمَطْعَمِ، وَقَدْ دَرَجُوا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنَ.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ أَيْضًا عِنْدَهُ أَرْجَاسٌ أَنْجَاسٌ.
فَإِنِ ادَّعَوْا أَنَّ الَّذِينَ دَرَجُوا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ، لَمْ يَكُونُوا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِمثل مقالتهم فِي الْقدر.
__________
1 الْآيَة 9 من سُورَة الْأَنْعَام.
2 الْآيَة 155 من سُورَة الْأَعْرَاف.
3 وَفِي نُسْخَة: فَمَا كَلمه.
قُلْنَا لَهُمْ: فَلِمَ تَعَلَّقْتُمْ بِالْحَسَنِ، وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، وَغَيْلَانَ؟
أَلَا تَعَلَّقْتُمْ بـ "عليّ" وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَمُعَاذٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَشْبَاهِ هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَعْظَمَ فِي الْقُدْوَةِ، وَأَثْبَتَ فِي الْحُجَّةِ، مِنْ قَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ، وَابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُمْ يَكْتُبُونَ الْحَدِيثَ عَنْ رجال من مخالفيهم، كـ "قَتَادَة"، وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ1 وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَيَمْتَنِعُونَ عَنِ الْكِتَابَةِ عَنْ مِثْلِهِمْ، مِثْلَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، وَعَمْرِو2 بْنِ فَائِدٍ، وَمَعْبَدٍ3 الْجُهَنِيِّ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَتَبُوا عَنْهُمْ، أَهْلُ عِلْمٍ وَأَهْلُ صِدْقٍ فِي الرِّوَايَةِ.
وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، فَلَا بَأْسَ بِالْكِتَابَةِ عَنْهُ، وَالْعَمَلِ بِرِوَايَتِهِ، إِلَّا فِيمَا اعْتَقَدَهُ مِنَ الْهَوَى، فَإِنَّهُ لَا يَكْتُبُ عَنْهُ، وَلَا يَعْمَلُ بِهِ.
كَمَا أَنَّ الثِّقَةَ الْعَدْلَ، تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ، وَلَا لِابْنِهِ، وَلَا لِأَبِيهِ، وَلَا فِيمَا جرَّ إِلَيْهِ نَفَعًا، أَوْ دَفَعَ عَنْهُ ضَرَرًا.
وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْ قَبُولِ قَوْلِ الصَّادِقِ، فِيمَا وَافَقَ نِحْلَتَهُ، وَشَاكَلَ هَوَاهُ، لِأَنَّ نَفْسَهُ تُرِيهِ أَنَّ الْحَقَّ فِيمَا اعتقده، وَأَن الْقرب إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي تَثْبِيتِهِ بِكُلِّ وَجْهٍ، وَلَا يُؤْمَنُ مَعَ ذَلِكَ، التَّحْرِيفُ، وَالزِّيَادَةُ، وَالنُّقْصَانُ.
فَإِنْ قَالُوا: فَإِنَّ أَهْلَ الْمَقَالَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، يَرَى كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَنَّ الْحَقَّ فِيمَا اعْتَقَدَهُ وَأَنَّ مُخَالِفَهُ عَلَى ضَلَالٍ وَهَوًى، وَكَذَلِكَ أَصْحَاب الحَدِيث، فِيمَا انتحلوا.
__________
1 ابْن أبي نجيح: هُوَ عبد الله بن يسَار، ثِقَة صَالح الحَدِيث، ويذكرون أَنه كَانَ يَقُول بِالْقدرِ. وَذكره النَّسَائِيّ فِيمَن كَانَ يُدَلس، وثقَّه أَحْمد وَابْن معِين، وروى عَنهُ سُفْيَان بن عُيَيْنَة، مَاتَ سنة 131هـ.
2 عَمْرو بن فائد. جَاءَ فِي الْمِيزَان: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوك. وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: ذَاك عندنَا ضَعِيف يَقُول بِالْقدرِ، وَقَالَ الْعقيلِيّ: كَانَ يذهب إِلَى الْقدر والاعتزال وَلَا يُقيم الحَدِيث.
3 معبد الْجُهَنِيّ: قدري بَصرِي. وَجَاء فِي الْمِيزَان: "صَدُوق فِي نَفسه وَلكنه سنّ سنة سَيِّئَة فَكَانَ أول من تكلم فِي الْقدر، قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ، هُوَ ضالٌّ مُضِلّ".
فَمِنْ أَيْنَ عَلِمُوا عِلْمًا يَقِينًا، أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ؟
قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ أَهْلَ الْمَقَالَاتِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا، وَرَأَى كُلُّ صِنْفٍ مِنْهُمْ أَنَّ الْحَقَّ فِيمَا دَعَا إِلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ مُجْمِعُونَ1 لَا يَخْتَلِفُونَ عَلَى أَنَّ مَنِ اعْتَصَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَمَسَّكَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدِ اسْتَضَاءَ بِالنُّورِ وَاسْتَفْتَحَ بَابَ الرُّشْدِ، وَطَلَبَ الْحَقَّ مِنْ مَظَانِّهِ.
وَلَيْسَ يَدْفَعُ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا ظَالِمٌ، لِأَنَّهُمْ لَا يَرُدُّونَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، إِلَى اسْتِحْسَانٍ، وَلَا إِلَى قِيَاسٍ وَنَظَرٍ، وَلَا إِلَى كُتُبِ الْفَلَاسِفَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَلَا إِلَى أَصْحَابِ الْكَلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ.
فَإِنِ ادَّعَوْا عَلَيْهِمُ الْخَطَأَ بِحَمْلِهِمُ الْكَذِبَ وَالْمُتَنَاقِضَ، قِيلَ لَهُمْ:
أَمَّا الْكَذِبُ وَالْغَلَطُ وَالضَّعِيفُ، فَقَدْ نُبِّهُوا عَلَيْهِ، عَلَى مَا أَعْلَمْتُكَ.
وَأَمَّا الْمُتَنَاقِضُ، فَنَحْنُ مُخْبِرُوكَ بِالْمَخَارِجِ مِنْهُ، وَمُنَبِّهُوكَ عَلَى مَا تَأَخَّرَ عَنْهُ عِلْمُكَ، وَقَصُرَ عَنْهُ نَظَرُكَ، وَبِاللَّهِ الثِّقَة، وَهُوَ الْمُسْتَعَان.
__________
1 وَفِي نُسْخَة: مجتمعون.
شريف ابراهيم
شريف ابراهيم
نائب المدير العام
نائب المدير العام

عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تأويل مختلف الحديث الْمُقدمَات مُقَدّمَة الطبعة الثَّانِيَة Empty ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ادَّعَوْا عَلَيْهَا التَّنَاقُض:

مُساهمة من طرف شريف ابراهيم الخميس 27 يوليو 2017 - 16:10

ذِكْرُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ادَّعَوْا عَلَيْهَا التَّنَاقُض:
قَالُوا: حَدِيثٌ يُخَالِفُ آيَةً
1- أَخْذُ الْعَهْدِ عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ:
فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثٌ، ذَكَرُوا أَنَّهُ يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالُوا: رَوَيْتُمْ: "أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَسَحَ عَلَى ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ 1، وَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَمْثَالَ الذَّرِّ، {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ".
وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} 2 لِأَنَّ الْحَدِيثَ يُخْبِرُ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ وَالْكِتَابُ يُخْبِرُ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ كَمَا تَوَهَّمُوا، بَلِ الْمَعْنَيَانِ مُتَّفِقَانِ، بِحَمْدِ اللَّهِ ومنِّه، صَحِيحَانِ لِأَنَّ الْكِتَابَ يَأْتِي بِجُمَلٍ، يَكْشِفُهَا الْحَدِيثُ، واختصارٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ السُّنَّةُ.
أَلَّا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ مَسَحَ ظَهَرَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى مَا جَاءَ
__________
1 أخرجه أَبُو دَاوُد: ج5 رقم 4703، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير حَدِيث 3076 تَفْسِير سُورَة الْأَعْرَاف وَقَالَ: "هَذَا حَدِيث حسن" وَنسبه الْمُنْذِرِيّ للنسائي أَيْضا، وَقد صَححهُ الألباني: انْظُر صَحِيح الْجَامِع رقم 5208.
غير أَن مَا وَجَدْنَاهُ فِي سنَن أبي دَاوُد بِلَفْظ: "أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدم ثمَّ مسح على ظَهره بِيَمِينِهِ فاستخرج مِنْهُ ذُرِّيَّة، فَقَالَ: خلقت هَؤُلَاءِ للنار وبعمل أهل النَّار يعْملُونَ ".
2 الْآيَة 172 من سُورَة الْأَعْرَاف.
فِي الْحَدِيثِ فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ أَمْثَالَ الذَّرِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَنَّ فِي تِلْكَ الذُّرِّيَّةِ الْأَبْنَاءَ، وَأَبْنَاءَ الْأَبْنَاءِ، وَأَبْنَاءَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
فَإِذَا أَخَذَ مِنْ جَمِيعِ أُولَئِكَ الْعَهْدَ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَقَدْ أَخَذَ مِنْ بَنِي آدَمَ جَمِيعًا، مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} 1 فَجَعَلَ قَوْلَهُ لِلْمَلَائِكَةِ: "اسجدوا لآدَم" بعد "خَلَقْنَاكُمْ" و"صورناكم".
وَإِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى "خَلَقْنَاكُمْ" وَ"صَوَّرْنَاكُمْ" خَلَقْنَا آدَمَ، وَصَوَّرْنَاهُ، ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ.
وَجَازَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ حِينَ خَلَقَ آدَمَ، خَلَقَنَا فِي صُلْبِهِ، وَهَيَّأَنَا كَيْفَ شَاءَ.
فَجَعَلَ خَلْقَهُ لِآدَمَ، خَلْقَهُ لَنَا، إِذْ كُنَّا مِنْهُ.
وَمِثْلُ هَذَا، مِثْلُ رَجُلٍ أَعْطَيْتَهُ مِنَ الشَّاءِ، ذَكَرًا وَأُنْثَى، وقلتَ لَهُ: قَدْ وَهَبْتُ لَكَ شَاءً كَثِيرًا -تُرِيدُ أَنِّي وَهَبْتُ لَكَ بِهِبَتِي هَذَيْنِ الِاثْنَيْنِ، مِنَ النِّتَاجِ، شَاءً كَثِيرًا.
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهَبَ لِدُكَيْنٍ الرَّاجِزِ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَاشْتَرَى بِهِ دُكَيْنٌ عِدَّةً مِنَ الْإِبِلِ، فَرَمَى اللَّهُ تَعَالَى فِي أَذْنَابِهَا بِالْبَرَكَةِ، فَنَمَتْ وَكَثُرَتْ.
فَكَانَ دُكَيْنٌ يَقُولُ: هَذِهِ مَنَائِحُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَلَمْ تَكُنْ كُلُّهَا عَطَاءَهُ، وَإِنَّمَا أَعْطَاهُ الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتِ، فَنَسَبَهَا إِلَيْهِ؛ إِذْ كَانَتْ نَتَائِجَ مَا وَهَبَ لَهُ.
وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا، قَوْلُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مِن قَبلِها طِبتَ فِي الظِلالِ وَفي ... مُستَودَعٍ حَيثُ يُخصَفُ الوَرَقُ
__________
1 الْآيَة 11 من سُورَة الْأَعْرَاف.
يُرِيد: طِبْتَ فِي ظِلَالِ الْجَنَّةِ، وَفِي مُسْتَوْدَعٍ، يَعْنِي: الْمَوْضِعَ الَّذِي اسْتُودِعَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، حَيْثُ يُخْصَفُ الْوَرَقُ، أَيْ: حَيْثُ خَصَفَ آدَمُ وَحَوَّاءُ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ.
وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ كَانَ إِذْ ذَاكَ، طَيِّبًا فِي صُلْبِ آدَمَ، ثُمَّ قَالَ:
ثُمَّ هَبَطْتَ البِلادَ لَا بَشَرٌ ... أَنتَ وَلا نُطفَةٌ وَلا عَلَقُ
يُرِيدُ أَنَّ آدَمَ هَبَطَ الْبِلَادَ، فَهَبَطْتَ فِي صُلْبِهِ، وَأَنْتَ إِذْ ذَاكَ، لَا بَشَرٌ وَلَا مُضْغَةٌ، وَلَا دَمٌ. ثُمَّ قَالَ:
بَلْ نُطْفَةٌ تَركَبُ السَفينَ وَقَد ... أَلجَمَ نَسْرًا1 وَأَهلَهُ الغَرَقُ
يُرِيدُ أَنَّكَ نُطْفَةٌ فِي صُلْبِ نُوحٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ رَكِبَ الْفُلْكَ ثُمَّ قَالَ:
تُنْقَلُ مِن صالِبٍ إِلى رَحِم ... إِذَا مَضى عَلَمٌ بَدا طَبَقُ
يُرِيدُ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ فِي الْأَصْلَابِ وَالْأَرْحَامِ:
فَجَعَلَهُ طَيِّبًا وَهَابِطًا لِلْبِلَادِ، وَرَاكِبًا لِلسُّفُنِ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُخْلَقَ.
وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ آبَاءَهُ، الَّذِينَ اشْتَمَلَتْ أَصْلَابُهُمْ عَلَيْهِ.
__________
1 النَّسْر: صنم من أصنام قوم نوح عَلَيْهِ السَّلَام.
قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ
2- اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِبَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ:
قَالُوا: رَوَيْتُمْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ" 1.
وَرَوَيْتُمْ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحِذَّاءِ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: "ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ قَوْمًا يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَلَائِهِ، فَاسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ" 2.
قَالُوا: وَهَذَا خِلَافُ ذَاكَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ، يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّسْخُ، لِأَنَّهُ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَكَيْفَ لَمْ يَذْهَبُوا إِلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا نَاسِخٌ، وَالْآخَرَ مَنْسُوخٌ؟ إِذْ كَانَ قَدْ ذَهَبَ عَلَيْهِمُ الْمَعْنَى فِيهِمَا.
وَلَيْسَا عِنْدَنَا مِنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَلَكِنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْضِعٌ يُسْتَعْمَلُ فِيهِ.
فَالْمَوْضِعُ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ تُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةُ فِيهِ بِالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ، هِيَ الصَّحَارِي والبراحات3.
__________
1 أخرجه أَبُو دَاوُد: طَهَارَة 4، وَابْن ماجة طَهَارَة 18، وَأحمد 5/ 415 و430 و438 و439، وأصل الحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي أَيُّوب، وَفِي مُسلم من حَدِيث سلمَان الْفَارِسِي.
2 أخرجه أَحْمد فِي مُسْنده: 6/ 183.
3 البراحات: الْأَرَاضِي الَّتِي لَا شجر فِيهَا وَلَا زرع.
كَانُوا إِذَا نَزَلُوا فِي أَسْفَارِهِمْ لِهَيْئَةِ الصَّلَاةِ، اسْتَقْبَلَ بَعْضُهُمُ الْقِبْلَةَ بِالصَّلَاةِ، وَاسْتَقْبَلَهَا بَعْضُهُمْ بِالْغَائِطِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ إِكْرَامًا لِلْقِبْلَةِ، وَتَنْزِيهًا لِلصَّلَاةِ.
فَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا أَيْضًا، يُكْرَهُ فِي الْبُيُوتِ وَالْكُنُفِ الْمُحْتَفَرَةِ.
فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَلَائِهِ، فَاسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ.
يُرِيدُ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي الْبُيُوتِ، وَالْآبَارِ الْمُحْتَفَرَةِ، الَّتِي تَسْتُرُ الْحَدَثَ، وَفِي الْخَلَوَاتِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا يجوز فِيهَا الصَّلَاة.
قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ
3- الْمَشْيُ بِنَعْلٍ وَاحِدَةٍ:
قَالُوا: رَوَيْتُمْ عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِ أَحَدِكُمْ، فَلَا يَمْشِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَة" 1.
ورويتم عَن منْدَل، عَن اللَّيْث، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: "رُبَّمَا انْقَطَعَ شِسْعُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَشَى فِي النَّعْلِ الْوَاحِدَةِ، حَتَّى يُصْلِحَ الْأُخْرَى" 2.
قَالُوا: وَهَذَا خِلَافُ ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد: وَنحن نقُول: لَيْسَ هَهُنَا خِلَافٌ، بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَنْقَطِعُ شِسْعُ نَعْلِهِ، فَيَنْبِذُهَا، أَوْ يُعَلِّقُهَا بِيَدِهِ، وَيَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، إِلَى أَنْ يَجِدَ شِسْعًا.
وَهَذَا يَفْحُشُ وَيَقْبُحُ فِي النَّعْلَيْنِ وَالْخُفَّيْنِ، وَكُلِّ زَوْجَيْنِ مِنَ اللِّبَاسِ يُسْتَعْمَلُ فِي اثْنَيْنِ، فَيُسْتَعْمَلُ فِي وَاحِدٍ وَيُتْرَكُ الْآخَرُ.
وَكَذَلِكَ الرِّدَاءُ، يُلْقَى عَلَى أَحَدِ الْمَنْكِبَيْنِ، وَيُتْرَكُ الْآخَرُ.
فَأَمَّا أَنْ يَنْقَطِعَ شِسْعُ الرَّجُلِ، فَيَمْشِي خُطْوَةً أَو خطوتين أَو ثَلَاثًا، إِلَى
__________
1 أخرجه أَبُو دَاوُد: لِبَاس 41، وَمُسلم: لِبَاس 69 و71، وَالنَّسَائِيّ: زِينَة 116، ومسند أَحْمد: 2/ 245 و314 و434 و443 و477 و480 و3/ 293 و327.
2 أخرجه التِّرْمِذِيّ: لِبَاس 36.
أَن يُصْلِحَ الْآخَرَ1 فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُنْكِرٍ وَلَا قَبِيحٍ.
وَحُكْمُ الْقَلِيلِ يُخَالِفُ حُكْمَ الْكَثِيرِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَمْشِيَ خُطْوَةً، وَخُطْوَتَيْنِ، وَخُطُوَاتٍ، وَهُوَ رَاكِعٌ إِلَى الصَّفِّ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ؟
وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْشِيَ -وَهُوَ رَاكِعٌ- مِائَةَ ذِرَاعٍ، وَمِائَتَيْ ذِرَاعٍ؟
وَيجوز لَهُ أَن يردئ الرِّدَاءَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، إِذَا سَقَطَ عَنْهُ.
وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطْوِيَ ثَوْبَهُ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا يَتَطَاوَلُ.
وَيَبْتَسِمُ فَلَا تَنْقَطِعُ صَلَاتُهُ، وَيُقَهْقِهُ فَتَنْقَطِعُ؟
__________
1 وَفِي نُسْخَة "ذَلِك".
قَالُوا: حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ
4- الْبَوْلُ فِي حَالَةِ الْقِيَامِ:
قَالُوا: رَوَيْتُمْ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: "مَا بَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا قَطُّ"1.
ثُمَّ رَوَيْتُمْ عَنْ حُذَيْفَةَ "أَنَّهُ بَالَ قَائِمًا" وَهَذَا خِلَافُ ذَاكَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد: وَنحن نقُول: لَيْسَ هَهُنَا -بِحَمْدِ اللَّهِ- اخْتِلَافٌ، وَلَمْ يَبْلُ قَائِمًا قَطُّ فِي مَنْزِلِهِ وَالْمَوْضِعِ3 الَّذِي كَانَتْ تَحْضُرُهُ فِيهِ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَبَالَ قَائِمًا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يَطْمَئِنَّ فِيهَا، إِمَّا لِلَثَقٍ4 فِي الْأَرْضِ وَطِينٍ، أَوْ قَذِرٍ.
وَكَذَلِكَ الْمَوْضِعُ الَّذِي رَأَى فِيهِ حُذَيْفَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبُولُ قَائِمًا، كَانَ مَزْبَلَةً لِقَوْمٍ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ الْقُعُودُ فِيهِ، وَلَا الطُّمَأْنِينَةُ.
وَحُكْمُ الضَّرُورَةِ خلاف حكم الِاخْتِيَار.
__________
1 أخرجه النَّسَائِيّ: طَهَارَة 24، وَالتِّرْمِذِيّ: طَهَارَة 8، وَابْن ماجة: طَهَارَة 14، وَأحمد: 6/ 192 و213.
2 أخرجه أَحْمد: 5/ 382 وَقد ورد بِلَفْظ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَال وَهُوَ قَائِم، ثمَّ دَعَاني فَأَتَيْته فَتَوَضَّأ وَمسح عل خفيه "، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، ورقمه فِي اللُّؤْلُؤ المرجان 5208.
3 وَفِي نُسْخَة: والمواضع الَّتِي.
4 اللثق: البلل والندى، وطائر لثق: أَي مبتل. "الْقَامُوس".
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الزِّيَادَيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي عِيسَى عَنْ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِمًا، فَذَهَبْتُ أَتَنَحَّى. فَقَالَ: "ادْنُ مِنِّي" فَدَنَوْتُ مِنْهُ، حَتَّى قُمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ، فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ.
وَالسُّبَاطَةُ: المزبلة، وَكَذَلِكَ الكساحة، وَالْقُمَامَة.
قَالُوا: حَدِيثٌ يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى
5- رَجْمُ الزَّانِي:
قَالُوا: رَوَيْتُمْ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ1 عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ2، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ3 عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ4 خَالِدٍ، وَشِبْلٍ أَنَّ رَجُلًا قَامَ إِلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ، إِلَّا قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى.
فَقَامَ خَصْمُهُ، وَكَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ، فَقَالَ: صَدَقَ، اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَائْذَنْ لِي.
فَقَالَ: قُلْ.
قَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بامرأته فَأخْبرت أَن على ابْني الرَّجْم، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَخَادِمٍ، ثمَّ سَأَلت رجَالًا من أهل
__________
1 سُفْيَان بن عُيَيْنَة: أحد أَئِمَّة الْإِسْلَام، قَالَ ابْن وهب: مَا رَأَيْت أعلم بِكِتَاب الله من ابْن عُيَيْنَة، وَقَالَ الشَّافِعِي: لَوْلَا مَالك وسُفْيَان لذهب علم الْحجاز، توفّي بِمَكَّة سنة 198هـ.
2 الزُّهْرِيّ: هُوَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن مُسلم بن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن شهَاب الزُّهْرِيّ الْمدنِي أول من دون الحَدِيث، وَأحد أكَابِر الْحفاظ وَالْفُقَهَاء، تَابِعِيّ من أهل الْمَدِينَة اسْتَقر بِالشَّام وَتُوفِّي 124هـ.
3 عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن عتبَة بن مَسْعُود الْهُذلِيّ، مفتي الْمَدِينَة من أَعْلَام التَّابِعين لَهُ شعر جيد، وَهُوَ مؤدب عمر بن عبد الْعَزِيز. قَالَ ابْن سعد: كَانَ ثِقَة عَالما فَقِيها كثير الحَدِيث مَاتَ بِالْمَدِينَةِ 98هـ.
4 زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ الْمدنِي: صَحَابِيّ شهد الْحُدَيْبِيَة، وَكَانَ مَعَه لِوَاء جُهَيْنَة يَوْم الْفَتْح لَهُ 81 حَدِيثا. توفّي فِي الْمَدِينَة عَام 78هـ.
الْعلم، فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدَ مِائَةٍ وَتَغْرِيبَ عَامٍ، وَعَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ.
فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ: الْمِائَةُ شَاةٍ، وَالْخَادِمُ رَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَعَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا" 1.
فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَرَجَمَهَا.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: هَكَذَا حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ.
قَالُوا: وَهَذَا خِلَافُ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّهُ سَأَلَهُ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَهُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ لَهُ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ ".
ثُمَّ قَضَى بِالرَّجْمِ وَالتَّغْرِيبِ، وَلَيْسَ لِلرَّجْمِ وَالتَّغْرِيبِ ذِكْرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلَيْسَ يَخْلُو هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا، أَوْ يَكُونَ حَقًّا.
وَقَدْ نَقَصَ مِنْ كِتَابِ تَعَالَى، ذِكْرُ الرَّجْمِ وَالتَّغْرِيبِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ: "لَأَقْضِيَنَّ بَيْنكُمَا بِكِتَاب الله" هَهُنَا، الْقُرْآنَ وَإِنَّمَا أَرَادَ: "لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى" وَالْكِتَابُ يُتَصَرَّفُ على وُجُوه.
مِنْهَا للْحكم، وَالْفَرْضُ، كَقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 2 أَيْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ.
وَقَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} 3 أَي: فرض عَلَيْكُم.
__________
1 أخرجه البُخَارِيّ: صلح 5 وشروط 9 وأيمان 3 وحدود 30 و34 و38 و46 وَأَحْكَام 39 وآحادًا واعتصام 2، وَمُسلم: حُدُود 25، وأو دَاوُد: أقضية 11 وحدود 24، وَالتِّرْمِذِيّ: أَحْكَام 3، وَالنَّسَائِيّ: قَضَاء 22، وَابْن ماجة: حُدُود 7، والدارمي: مُقَدّمَة 20 وحدود 12، والموطأ: حُدُود 6.
2 الْآيَة 24 من سُورَة النِّسَاء.
3 الْآيَة 178 من سُورَة الْبَقَرَة.
وَقَالَ: {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} 1 أَيْ: فَرَضْتَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} 2 أَيْ: حَكَمْنَا، وَفَرَضْنَا.
وَقَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ:
وَمَالَ الْوَلَاءُ بِالْبَلَاءُ فَمِلْتُمْ ... وَمَا ذَاكَ قَالَ الْلَّه إِذْ هُوَ يَكْتُبُ
أَرَادَ: مَالَتِ الْقَرَابَةُ بِأَحْسَابِنَا إِلَيْكُمْ، وَمَا ذَاكَ أَوْجَبَ اللَّهُ إِذْ هُوَ يحكم.
__________
1 الْآيَة 77 من سُورَة النِّسَاء.
2 الْآيَة 45 من سُورَة الْمَائِدَة.
قَالُوا: حَدِيثٌ يُبْطِلُهُ الْإِجْمَاعُ
6- لَا قطع على الْمُسْتَعِير:
الوا: رَوَيْتُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ حُلِيًّا مِنْ أَقْوَامٍ، فَتَبِيعُهُ فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِذَلِكَ فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهَا"1.
قَالُوا: وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ2 عَلَى أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ، لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ.
__________
1 أخرجه أَبُو دَاوُد: فِي كتاب الْحُدُود برقم "4395" عَن ابْن عمر ورقم "4396" بِلَفْظ: كَانَ عُرْوَة يحدث إِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَت: "استعارت امْرَأَة، تَعْنِي حُلِيًّا على السّنة أنَاس يُعْرَفُونَ وَلَا تُعْرَفُ هِيَ، فباعته، فَأخذت، فَأتي بهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأمر بِقطع يَدهَا، وَهِي الَّتِي شفع فِيهَا أُسَامَة بن زيد، وَقَالَ فِيهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم مَا قَالَ". وَأخرجه النَّسَائِيّ "منذري".
2 مَذْهَب أهل الْعلم أَن الْمُسْتَعِير إِذا جحد الْعَارِية لم يقطع؛ لِأَن الله سُبْحَانَهُ إِنَّمَا أوجب الْقطع على السَّارِق، وَهَذَا خائن لَيْسَ بسارق، وَقد قيل: إِن الْقطع إِنَّمَا سقط عَن الخائن، لِأَن صَاحب المَال قد أعَان على نَفسه فِي ذَلِك بإتمانه إِيَّاه. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم: "لَيْسَ على الخائن قطع" أخرجه أَبُو دَاوُد: كتاب الْحُدُود رقم 4392.
وَقد ذهب الإِمَام أَحْمد وَإِسْحَاق وَزفر وَأهل الظَّاهِر إِلَى إِيجَاب الْقطع عملا بِظَاهِر الحَدِيث.
أما مَا ورد فِي الحَدِيث بشأن الْمَرْأَة المخزومية الَّتِي أَمر بِقطع يَدهَا لِأَنَّهَا استمرت بِهَذَا الصَّنِيع حَتَّى ترقت إِلَى السّرقَة وتجرأت حَتَّى سرقت فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم بقطعها ... "وَإِنَّمَا خلا بعض الرِّوَايَات عَن ذكر السّرقَة، لِأَن الْقَصْد إِنَّمَا كَانَ فِي سِيَاق هَذَا الحَدِيث إِلَى إبِْطَال الشَّفَاعَة فِي الْحُدُود والتغليظ فِيهَا لمن رام تعطيلها، وَلم تقع الْعِنَايَة بِذكر السّرقَة وَبَيَان حكمهَا، وَمَا يجب على السَّارِق الْقطع -إِذْ كَانَ من الْعلم الْمَشْهُور المتسفيض فِي الْخَاص وَالْعَام- وَقد أَتَى مَا يجب على السَّارِق من الْقطع، إِذْ كَانَ قد أَتَى الْكتاب على بَيَانه فَلم يضر ترك ذكره وَالسُّكُوت عَنهُ هَهُنَا. وَالله أعلم" "خطابي".
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحٌ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ حُكْمًا، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِيهِ: إِنَّهُ قَطَعَهَا، وَإِنَّمَا قِيلَ أَمَرَ بِقَطْعِهَا.
وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ وَلَا يَفْعَلَ، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَلَى وَجْهِ التَّحْذِيرِ وَالتَّرْهِيبِ، وَلَا يُرَادُ بِهِ إِيقَاعُ الْفِعْلِ.
وَمِثْلُهُ: الْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِيهِ الْحَسَنُ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ1 أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ، وَمن تجدع عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ"2.
وَالنَّاسُ جَمِيعًا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ رَجُلٌ بِعَبْدِهِ، وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُ لِعَبْدِهِ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي عَبْدِ غَيْرِهِ.
وَأَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَرْهِيبَ السَّيِّدِ وَتَحْذِيرَهُ، أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَهُ، أَوْ يُمَثِّلَ بِهِ، وَلَمْ يُرِدْ إِيقَاعَ الْفِعْلِ.
وَكَانَ الْحُكْمُ، يَجِبُ بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ رَجُلًا بِعَبْدِهِ، أَوِ اقْتَصَّ مِنْهُ لِعَبْدِهِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: مَنْ فَعَلَ فَعَلْنَا بِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ تَحْذِيرٌ وَتَرْهِيبٌ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فَاقْتُلُوهُ" 3 إِنَّمَا هُوَ تَرْهِيبٌ، لِئَلَّا يُعَاوِدَهُ.
وَيَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ، أَنَّهُ أُتِيَ بِهِ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ، فَجَلَدَهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ.
وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الْوَعِيدِ كُلِّهِ: أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَقَعَ وَأَنْ لَا يَقَعَ، عَلَى حَدِيثِ4 أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ وَعَدَهُ اللَّهُ عَلَى عَمَلٍ ثَوَابًا، فَهُوَ مُنْجِزُهُ لَهُ، وَمَنْ أَوْعَدَهُ عِقَابًا فَهُوَ فِيهِ بِالْخِيَارِ"5.
__________
1 سَمُرَة بن جُنْدُب الْفَزارِيّ، صَحَابِيّ من صغَار الصَّحَابَة، وَنزل الْبَصْرَة وَكَانَ شَدِيدا على الْخَوَارِج قَالَ ابْن عبد الْبر سقط فِي قدر مَمْلُوء مَاء حارًّا فَمَاتَ سنة 58هـ.
2 ضَعِيف الْجَامِع الصَّغِير رقم 5761-948 عَن سَمُرَة، وتحرير الْمشكاة 3473.
3 سنَن أبي دَاوُد: حُدُود 36، وَالتِّرْمِذِيّ: حُدُود 15، وَالنَّسَائِيّ: أشربة 43، وَابْن ماجة: حُدُود 17 و18، والدارمي: أشربة 10، وَأحمد 2/ 136، 166، 191، 211، 214، 280.
4 أبي بِنَاء على مَا جَاءَ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة.
5 ورد فِي جَامع الْأَحَادِيث للسيوطي برقم 23245 وَقَالَ: أخرجه أَبُو يعلى فِي مُسْنده والخرائطي فِي مَكَارِم الْأَخْلَاق، وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْبَعْث، وَابْن عَسَاكِر عَن أنس وَضعف.
قَالُوا: الطعْن بالأنبياء
7- حَدِيثٌ يَدْفَعُهُ النَّظَرُ وَحُجَّةُ الْعَقْلِ:
قَالُوا: رَوَيْتُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَنَا أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَرَحِمَ اللَّهُ لُوطًا، إِنْ كَانَ لَيَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ دُعِيتُ إِلَى مَا دُعِيَ إِلَيْهِ يُوسُفُ لَأَجَبْتُ" 1.
قَالُوا: وَهَذَا طَعْنٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَطَعْنٌ عَلَى لُوطٍ، وَطَعْنٌ عَلَى نَفْسِهِ2 عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرُوا، بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَنِعْمَتِهِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: "أَنَا أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} 3 قَالَ قَوْمٌ سَمِعُوا الْآيَةَ: شَكَّ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَشُكُّ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم ".
__________
1 البُخَارِيّ: أَنْبيَاء 11 تَفْسِير سُورَة 3/ 46 وَمُسلم: إِيمَان 238، فَضَائِل 153، وَابْن ماجة: فتن 23، وَأحمد 3/ 326.
وَقد ورد الحَدِيث فِي البُخَارِيّ بِلَفْظ: "نَحن أَحَق من إِبْرَاهِيم إِذْ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ، وَيرْحَم الله لوطًا لقد كَانَ يأوي إِلَى ركن شَدِيد، وَلَو لبثتُ فِي السجْن طول مَا لبث يُوسُف لَأَجَبْت الدَّاعِي" ج4 ص119.
2 وَالأَصَح: وَطعن على يُوسُف.
3 سُورَة الْبَقَرَة: الْآيَة 260.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَا أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ " تَوَاضُعًا مِنْهُ، وَتَقْدِيمًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَى نَفْسِهِ.
يُرِيدُ: أَنَّا لَمْ نَشُكُّ، وَنَحْنُ دُونَهُ، فَكَيْفَ يَشُكُّ هُوَ؟
وَتَأْوِيلُ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} .
أَيْ: يَطْمَئِنَّ بِيَقِينِ النَّظَرِ -وَالْيَقِينُ جِنْسَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَقِينُ السَّمْعِ، وَالْآخَرُ يَقِينُ الْبَصَرِ.
وَيَقِينُ الْبَصَرِ أَعْلَى الْيَقِينَيْنِ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ المخبَر كَالْمُعَايِنِ" 1 حِينَ ذَكَرَ قَوْمَ مُوسَى وَعُكُوفَهُمْ عَلَى الْعِجْلِ.
قَالَ: أَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ قَوْمَهُ عَبَدُوا الْعِجْلَ، فَلَمْ يُلْقِ الْأَلْوَاحَ، فَلَمَّا عَايَنَهُمْ عَاكِفِينَ، غَضِبَ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ، حَتَّى انْكَسَرَتْ.
وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ بِالْقِيَامَةِ، وَالْبَعْثِ، وَالْجَنَّةِ، وَالنَّارِ، مُسْتَيْقِنُونَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ حَقٌّ، وَهُمْ فِي الْقِيَامَةِ -عِنْدَ النَّظَرِ وَالْعَيَانِ- أَعْلَى يَقِينًا.
فَأَرَادَ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنْ يَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ بِالنَّظَرِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْيَقِينَيْنِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: "رَحِمَ اللَّهُ لُوطًا إِنْ كَانَ لَيَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ" فَإِنَّهُ أَرَادَ قَوْلَهُ لِقَوْمِهِ {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} 2 يُرِيدُ: سَهْوَهُ3 فِي هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي ضَاقَ فِيهِ صَدْرُهُ، وَاشْتَدَّ جَزَعُهُ، بِمَا دَهَمَهُ مِنْ قَوْمِهِ، حَتَّى قَالَ: {أَوْ آوِِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} وَهُوَ يَأْوِي إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، أَشَدِّ الْأَركان.
__________
1 الْمَقَاصِد 351، والتمييز: 135، والكشف 2/ 168، وصحيح الْجَامِع: 5/ 87 والدرر برقم 352، والتدريب 370 والْحَدِيث بِلَفْظ: "لَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة ".
2 سُورَة هود: الْآيَة 80.
3 أَي: هُوَ لوط عَلَيْهِ السَّلَام.
قَالُوا1: فَمَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا بَعْدَ لُوطٍ، إِلَّا فِي ثَرْوَةٍ2 مِنْ قَوْمِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: "لَوْ دُعِيتُ إِلَى مَا دُعِيَ إِلَيْهِ يُوسُفُ لَأَجَبْتُ"، يَعْنِي حِينَ دُعِيَ لِلْإِطْلَاقِ مِنَ الْحَبْسِ، بَعْدَ الْغَمِّ الطَّوِيلِ، فَقَالَ لِلرَّسُولِ: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} 3 وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْحَبْسِ فِي وَقْتِهِ يَصِفُهُ بِالْأَنَاةِ وَالصَّبْرِ.
وَقَالَ: "لَوْ كُنْتُ مَكَانَهُ، ثُمَّ دُعِيتُ إِلَى مَا دُعِيَ إِلَيْهِ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْحَبْسِ، لَأَجَبْتُ، وَلَمْ أَتَلَبَّثُ ".
وَهَذَا أَيْضًا جِنْسٌ مِنْ تَوَاضُعِهِ، لَا أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ، لَوْ كَانَ مَكَانَ يُوسُفَ فَبَادَرَ وَخَرَجَ، أَوْ عَلَى يُوسُفَ لَوْ خَرَجَ مِنَ الْحَبْسِ مَعَ الرَّسُولِ، نَقْصٌ وَلَا إِثْمٌ.
وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَسْتَثْقِلُ مِحْنَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ فَيُبَادِرُ وَيَتَعَجَّلُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ صَابِرًا محتسبًا.
__________
1 أَي: أَئِمَّة فقه الحَدِيث.
2 كَثْرَة عدد وَقُوَّة شكيمة.
3 سُورَة يُوسُف: الْآيَة 50.
قَالُوا: حَدِيثٌ يُكَذِّبُهُ الْعَيَانُ
شريف ابراهيم
شريف ابراهيم
نائب المدير العام
نائب المدير العام

عدد المساهمات : 1930
السٌّمعَة : 10
تاريخ التسجيل : 28/08/2011

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى